الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنا زنجي
بقلم الكاتب الجاماييكي الأسود روى كوفرلي
لا أعلم كيف أدركت فجأة أن
كون الرجل أسود وتحمله عذاب ذلك يتطلب
نفساً كبيرة وفضيلة أعظم من فضيلة الملائكة
من أبيات للشاعر الأميركي الأسود كونته ولن
لا أدري كيف أبدأ هذا المقال، أما أتمامه فهو مشكلة أخرى. أنني رجل أسود وأني لا أسأل نفسي كم من الرجال البيض يعرف ما معنى كون الإنسان أبيض؟ وأنا كما أنا، على أني موقن أنه ليس لجلدي اللون الذي لجلد أكثر الناس وإنه ينظر إلي من وجهة عامة كمخلوق غريب يميل الناس لمعرفة كيف يفكر، وكيف يعمل، وماذا باستطاعته أن يعمل. لقد اعتقدت بكل هذا قبل مجيئي إلى كوبنهاغ لأنني عشت في أمريكا حيث اعتاد الناس أن يعتبروا أبناء قومي السود كمخلوقات على حدة لها شأنها الخاص. وفي أمريكا، وأن شئت فقل في نيويورك يوجد حي من الأحياء يسمى هارلم وفي هارلم يختلط الرجل الأسود بالألوف من أبناء جنسه فيرى بوضوح وجلاء تام أن الحياة فيه تشذ عن القواعد العامة.
والشعب الأمريكي الذي اعتاد كثيراً رؤية الزنوج يعد وجودهم طبيعياً رغم أنه يكرههم ولعل في حوادث طفولتي مواد كثيرة للموضوع الذي أعالجه في هذا المقال.
لم أكن في أيام طفولتي في الجاماييك أشعر بأني، كما أذكر ذلك جيداً، أحد أفراد قوم خاص، إنما كنت أعرف أن البعض من الناس أسود والبعض الآخر أبيض. هذا كل ما في الأمر وفي بعض الأحيان كان سماع جملة أو قراءة سطر يجعلني أشعر أنه ينظر إلي كزنجي ولكن هذا الشعور لم يكن ليدوم أكثر من بضع دقائق لأن الزنوج في الجزيرة كانوا يبلغون أكثر من أربعة أخماس السكان ولأن مسألة عدم اختلاط الزنوج بالبيض كانت مسألة جنسيات. فمعظم البيض كانوا يشغلون وظائف كبرى ومراكز أخرى ذات شأن كبير وإذا كانت طريقة معيشتي تختلف عن طرق معيشتهم فذلك يعود إلى أنهم أغنياء ولأن مراكزهم الاجتماعية كانت تتطلب ذلك ولعل هذا كل ما كان يخيل لي بهذا الصدد.
وقضيت أعوام حياتي الأولى كإنسان مستقل بذاته فخور بعائلته. ولم يكن ليدور في خلدي
أنه سيأتي يوم أرى فيه نفسي مخلوقاً غريباً عن بقية الناس.
وجاءت الحرب الكبرى. وكنت في التاسعة من عمري عند ابتدائها وأني لأذكر حزني إذ ذاك لأن عمري لم يكن يسمح لي بالذهاب إلى الجبهة الحربية والقتال في سبيل انكلترا. لقد تعلمت في المدرسة أنه يجب على المرء أن يفخر بأنه تابع للإمبراطورية البريطانية وأن بريطانيا أعظم دول الأرض وتعاليم أخرى كهذه لا اعتقدها الآن بعد أن أصبحت رجلاً وسافرت إلى بلدان كثيرة.
وأطلقت العنان لنفسي يجرفها تيار الحماس الحزبي فاشتركت في فرقة الكشافة وفعلت كل ما استطيع في سبيل انكلترا ولقد وصلت الأخبار عن الذين سافروا إلى ساحة الحرب وأذكر أني قرأت في الجرائد إذ ذاك جملاً من هذا النوع. لقد عادت إلى الجنود الجامابيكين السود طبائعهم الوحشية الأصلية أثناء المعركة فانقضوا على الأعداء. .
لم أكن لأفهم معنى هذا ولم أكن أعرف لماذا يطلقون على أبناء قومي اسم زنوج الجاماييك، ولا لماذا يقولون عنهم أن طبائعهم الوحشية الأصلية قد عادت إليهم. . . ومن أين لي أن أدرك؟؟ كنت عائشاً في عالم يقضي سكانه، من البيض كانوا أم من السود، أوقاتهم في لعب (الكريكت) وشرب الشاي والتحدث عن حكم النفس بالنفس محتقرين الفقر، متعلمين اللهجة الانكليزية الصحيحة في أحاديثهم. فأية علاقة للطباع الوحشية بكل هذا؟؟ لقد كانت كلمة زنجي تؤذي نفسي لأنها كانت تطلق في نظري على أقوام تعيش في أفريقيا حياة همجية وليس في وسع أحد الاتصال بها أو التعامل معها. وكم كنت غبياً مجنوناً!!.
لقد عينت الحكومة الانكليزية في أحد الأيام مديراً جديداً لسكة حديد الجاماييك، ولقد كان يشغل وظيفة مماثلة في جنوب أفريقيا من قبل، فأخذ يتكلم بعد وصولي لبلادنا عن وجوب تسيير خاصة بالزنوج.
فتألف في الحال وفد ذهب إلى المدير في مكتبه وأفهمه أن سكان الجاماييك وأن كانوا زنوجاً فهم راقون لدرجة لا يحلم هو نفسه بالوصول إليها، وأنهم لا يقبلون بأي وجه معاملتهم كمتوحشين، إنه من الأصح أن لا يعود إلى التكلم عن العربات الخاصة ونصحه البعض بالاستقالة.
وبعد ذلك بمدة قصيرة رأى هذا المدير أن يلفت نظر أبي الذي كان إذ ذاك رئيس
المهندسين في سكة الحديد، إلى وجوب احترامه أكثر مما يفعل. فاستقال والدي في الحال وأعلن ذلك في الجرائد. وهذه حملت بدورها على المدير حملة شعواء جعلت من المدير هدفاً لسخط الرأي العام مما دعا حكومة لندن لدعوة المدير لبلاده. ولقد كانت نشأتي في محيط يشعر لهذه الدرجة بقوة قوميته الدافع الحقيقي لعدم إدراكي معنى كوني زنجياً تجاه نفسي وتجاه البيض من البشر.
لماركوس غارفي الرجل الأسود المعروف شخصية قوية، وذكاء حاد ولقد أثار حوله قبل ذهابه إلى أميركا قليلاً من الضجة بتأليفه جمعية غرضها الدفاع عن حقوق الزنوج وتحسين أحوالهم الاجتماعية. ولكنه لم يلق النجاح الكبير لن زنوج الجاماييك إذ ذاك لم يروا أن حالتهم تدعو للإصلاح ولأن أكثر السكان كما قلت قبلاً، لم يكونوا يشعرون بأنهم زنوج يختلفون عن بقية الناس ولكن غارفي لم ييأس فسافر إلى أميركا، واستطاع بقوة شخصيته وبراعته في فن الخطابة أن يجعل (الجمعية العامة التي ألفها لإصلاح الزنوج) تزدهر ازدهاراً لم تر له أميركا مثيلاً من قبل! ولقد كان لهذه الجمعية في جميع المدن الأمريكية، وكانت ذات أثر كبير في نفوس الملايين من الزنوج الذين سحرتهم خطب غارفي النارية فقدموا عن طيبة خاطر كل ما اقتصدوه في سبيل الدفاع عن غاياتها التي كانت كثيرة الغلو بعيدة المرمى، ترتكز على نظرية مهاجرة جميع زنوج العالم إلى أفريقيا لإنشاء دولة قوية من الأمة السوداء.
وفي سبيل هذه الغاية، بدأت الجمعية بشراء عدد من البواخر الكبيرة استعداداً لمنافسة باقي ملاحي العلم.
وحينما أعلن خبر قدوم باخرة (حظ النجمة السوداء) إلى كنجستون سمعت لأول مرة سكان الجاماييك يتكلمون عن أنفسهم كزنوج. وصرح والدي إذ ذاك أنه سعيد أن برى أبناء جنسه وقد بدؤا يشعرون بوجودهم ويخرجون من الحمأة التي هم فيها.
لقد بدا لي كل هذا كثير الغموض، ولكنه مع ذلك أثر بي تأثيراً عميقاً. وفي كتاب إلى رفيق مدرسة سافر إلى أميركا كتبت: إن وصول الباخرة فريدريك دوغلاي يدل على أن أبناء جنسنا قد بدؤا العمل وشرعوا بمجابهة العالم.
كانت هذه الباخرة تحمل غارفي. فذهبت إلى لنجستون لأسمع خطبه. لقد كان في الواقع
خطيباً ساحراً، فأنه صور ببراعة كبيرة مدن أفريقيا في المستقبل وتكلم بحماس شديد عن الجيوش القوية التي ستدافع عن أفريقيا السوداء. . . .
ولكنه لم يذكر شيئاً عن كيفية استيلاء الزنوج على هذه القارة، ولا عن كيفية طردهم الأمم القوية البيضاء المحتلة لأكثر أقسامها. مما جعلني أدرك أن هذا الرجل يتلاعب بسلسلة من الألفاظ النارية ليستولي على عقل شعب ساذج.
ومع ذلك، فقد سرى السم في عروقي. لأني منذ سمعت غافي يتكلم، لم يعد في وسعي أن أنسى أنني زنجي وأن البيض ينظرون إلي كرجل منحط وأني مدين بهذا وبهذا فقط لغارفي.
كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما سافرت إلى أميركا حيث ذقت مرارة العيش وعرفت سريعاً أن كون الإنسان أسود يكلفه شقاءً كثيراً. وأردت أن أمتهن صناعة رسم الخرائط التي تعلمتها في وطني، ولكنني كنت كلما طلبت العمل تلقوني بابتسامات الهزء والسخرية. وبعد أن هزؤوا بي كثيراً، وتحملت إهانات كثيرة بدأت أفهم حقيقة الأشياء ولقد تقدمت إلى رجل على غاية من اللطف فقال لي: يا بني. أنا لا أشك في مقدرتك على الرسم وأرى أنك شاب متعلم ومهذب. ولكنك لن تستطيع العمل هنا، لأننا لا نقبل رجلاً ذا لون في عمل كهذا.
وانتهى بي الأمر إلى أن أصبحت خادم رافع (اسانسور) في أحد الفنادق. ولكنني كنت اجتهد دائماً للتفرغ إلى العمل الذي صممت عليه فقد رأيت أمريكا بلاداً قوية فعزمت أخيراً على أن أكون زنجياً من نيويورك. ولقد كان لي في هذا بعض التعزية. لأني اكتشفت أنني أجيد الرقص، وأنه يمكنني ترك نفسي تسير في تيار من الألحان القاسية الوحشية الجميلة التي يهتز لها جسمي ويضطرم بتأثيرها. أنني أفضل مئة مرة أن آتي إلى أميركا وألقى كل أنواع الألم والعذاب من أن أحرم هذه الموسيقى السوداء المتأججة! وأني لأرضى أن آتي إلى أميركا وأرى شيئاً يستحق الأهمية. ولكن هذه المهنة كانت عسيرة عليّ، وسببت لي كثيراً من اليأس. فكنت أقوم بمهن حقيرة لأكسب قوتي ثم أسعى لأن أكون كاتباً.
وأحياناً كثيرة كنت ألعن هذا الجلد، هذا الغشاء الأسود الذي يكسو جسدي ويضع أمامي العراقيل والعقبات، ويسبب لي أنواع المصائب والألم. ولا أستطيع أن أقول أنني أحرزت
شهرة كبيرة في الكتابة، فإذا عدت إلى أميركا، فعلي أن أقارع وأطاحن.
إن شهرة كبيرة يحرزها فنان، تمهد أمامه كل سبيل، ولكن أمامه وحده، دون أن يكون منها أي أثر يعود على أبناء جلدته. ولهذا السبب فقد اعتقدت كأكثر الشبان المفكرين من الزنوج، بالمساواة في التفكير وذلك لأننا ندل على أنفسنا بنوع إنتاجنا. وإذا نشرت غداً رواية كبيرة أنال الشهرة وأدعى للسهرات والحفلات والمجتمعات الخاصة بالبيض فأصبح وكأني اوروزماك كلومندن أو كاني هايز، فيتحدثون بنبوغي الشخصي ويثنون على عبقريتي ولقد أسمع أحدهم يقول: إنه من دواعي الأسف أن لا يكون جميع الزنوج مثلك وموضع السخرية في هذا القول أن الزنوج ليسوا جميعهم مثلي وهل يتأتى لقوم من الأقوام أن تكون جميع أفراده شعراء وفنانين.
إن ذلك كله سخافة تامة والحل الوحيد الذي يلجأ إليه الفرد للخلاص من ذلك هو مغادرة أمريكا والعيش في بلاد أقل همجية منها وهذا هو ما فعلته. ولكن الحال ظلت على ما هي عليه بشأن أبناء قومي السود وكما كتبت مؤخراً في إحدى قصصي: لقد تركت أنا الزنجي أمريكا فراراً من شيء هو أعظم قوة مني لم استطع احتماله تاركاً أخواني هنالك هدفاً للألم والعذاب ولعل هذا هو عاطفة قومية أكثر منه حقيقة واقعة لأني كالكثيرين من الزنوج رأيت الغاية في أن أكون أنا كما أنات وأني أؤمل أن لا يحمل كلامي هذا على محمل الشكوى لأن في الزنوج أناساً أدنى مني ينجحون بينما أجد جميع كل أبواب الأعمال التي أجيدها مغلقة في وجهي وأتحمل عذاب ذلك بدلاً من أن أحرم من هذه الأنغام التي تشعر كأنها قطعة من روحي. إن في أميركا عزاءً كبيراً. فقد تعلمت فيها أشياء كثيرة. ولقد علمت عندما كنت أعمل كخادم رافع، وحزام بضائع (ايرا الدردج) الزنجي وهو يعد من بين أبين الروائيين الكبار في أوروبا وأن (بوتشكين) كان نصف زنجي وأن أم (دوماس الروائي) كانت سوداء، وإن صناعة النحت الأفريقية تعد فناً راقياً، وإن الأناشيد الروحية الزنجية هي موسيقى أمريكا الوطنية الوحيدة. وعرفت أيضاً أن لون جلدي الأسود، هو خطيئتي الوحيدة التي لا تغتفر. على أن مدير المكتب كنت أعمل فيه كحزام بضائع، كان يعهد إلي دائماً أن أتكلم بالتلفون لأنه كان للهجتي الانكليزية ورنة صوتي تأثير حسن في الزبائن ولأنه لم يكن في لهجتي وفي صوتي ما يدل على لوني. وذقت المرارة أيضاً، تلك
المرارة التي يعاني مضضها كل من يشعر بعلائم الكره وإشارات الاحتقار موجهة إليه. وعرفت أيضاً الألم الذي يصاب به كل من يقرأ في الجرائد وفي كل يوم أن واحداً أو اثنين أو ثلاثة من أبناء قومه أحرقوا أحياء بسبب هذا الكره نفسه وذقت مرارة الاعتقاد أيضاً أنه لولا هذا الجلد، لولا هذا الغشاء من اللون الأسود، لاستطاع المرء النجاح أو على الأقل لاستطاع أن يفعل شيئاً.
ليس في وسعي أن أنسى أبداً ذلك اليوم الذي وقفت فيه أمام أحد المطاعم وقد عرضت في مقدمته أنواع كثيرة من الأسماك اللذيذة وكنت جائعاً وجيوبي مفعمة بالدنانير فدخلت وفي الحال شعرت بيد قوية تنقض عليّ وتدفعني خارجاً فترمي بي على رصيف الشارع. . لا أدري نوع العاطفة التي خامرتني إذ ذاك ولا أدري كيف عدت إلى مسكني لأني لم أعد أرى شيئاً وكنت عاجزاً حتى عن التفكير. إنما أحسست بظلمة حالكة تغمر كياني ولذلك فقد بقيت أسبوعاً كاملاً في غرفتي دون أن أرى إنساناً أو أتكلم مع إنسان منطرحاً على سريري ذاهلاً عن نفسي شقياً معذباً.
ولقد عدت بعد هذا إلى رافعي، وجعلت، وأنا أرفع الناس وأنزلهم ادرس طباعهم والسبب الذي يدعوهم لاحتقار الآخرين وكنت أدرس حركاتهم وأتفحص وجوههم، فتحول رافعي الكهربائي إلى قاعة درس أحلل فيها كل نماذج الشعوب الأمريكية. وكانت نتيجة هذه الأسابيع من الدرس، أن ارتسمت على وجهي ابتسامة صفراء، فيها مرارة، وفيها استهزاء. . .
لست شاكياً من هذا ولا متضجراً، فالزنجي الذكي لا يشكو، بل يستعد للعمل هادئاً ساكناً، منتظراً الفرصة السانحة يوماً ما. إن جامعات نيويورك وباقي الولايات الأمريكية تعج بالشبيبة السوداء التي تتعلم وتستعد للوقوف في وجه التيارات والعواصف. .
ومعظم هؤلاء الشبان من الزنوج، يقومون بشتى الأعمال القاسية لكسب القوت الضروري، في نفس الوقت الذي يملأ ون فيه أدمغتهم. لأن القوي في أميركا والذي يعرف ما يريد يجد المكافأة من أميركا نفسها: فكونته كالن يعد من أكبر شعرائها مع أن الوحي الذي رفعه إلى ذروة الشهرة، هو نفسه الذي دفعه يوماً من الأيام إلى كتابة وعندما تمثل روز ماك كلوندن في أحد المراسح، تراه يعج بالناس. ومن المستحيل أن تجد محلاً فارغاً في المسرح
الذي يغني فيه (رونالد هايز) وعندما بدأت الكتابة، وكان ذلك منذ عدة سنوات، رأيت أن أميركا كانت تظهر لي وجهاً أقل تهجماً وكما كتبت مؤخراً في إحدى قصصي: لقد تركت أنا الزنجي أمريكا فراراً من شيء هو أعظم مني لم استطع احتماله تاركاً أخواني هنالك هدفاً للألم والعذاب ولعل قولي هذا هو عاطفة قومية أكثر منه حقيقة واقعية لأني كالكثيرين من الزنوج رأيت الغاية في أن أقول أنا كما أنا وأني أؤمل أن لا يحمل كلامي هذا على محمل الشكوى لأن الزنوج لا يشكون ولا يتذمرون بل يضحكون ويرقصون ويغنون حتى في أعظم ساعات المصاب وفي أوقات الشقاء والألم. أنهم يخلقون لهم عالماً خاصاً بهم ويتمتعون بكل ما فيه من نشاط وقوة. فهارلم هو حي من أحياء نيويورك كثير النشاط عظيم الضجيج تعصف في أجوائه دائماً أنغام الموسيقى والأناشيد والقهقهة تلك القهقهة القاتمة العميقة، تلك القهقهة الخاصة بالشعب الأسود القاتم.
إن قضاء بعد ظهر يوم من أيام الصيف في هارلم، ذلك الحي المزدحمة شوارعه بالوجوه المستبشرة الضاحكة، ذلك الحي الذي تشع في طرقاته وممراته الألوان السوداء اللامعة هو مما ينطبع في النفس ويترك فيها ذكرى خالدة.
أن الكثيرين من سكان نيويورك البيض يأتون إلى هارلم، يأتون هذا الحي لاكتساب شيء من قوة الحياة المرحة الضاحكة ويتركون لأنفسهم حرية الاستسلام إلى هذه الموسيقى المتأججة القوية التي تكتسح كل شيء.
نعم نحن من عنصر غير عنصركم ولا أظن أنه في وسع أحد من البيض أدراك أي إكسير حار مضطرم يغلي في عروقنا ولا أي استعداد للشعور والحياة قد منحتنا الطبيعة.
أننا نستطيع أن نتمثل حضارة العنصر الأبيض ونندمج فيها وأن نحتفظ في الوقت ذاته بتلك الثورة النفسية المتأججة التي ورثناها. ومن هذا تنشأ الصفة التي نمتاز بها. وأننا مابرحنا نردد في أنفسنا خلال كل ما أصابنا من الشدائد والمحن معاني الأبيات التي أوردتها في أول هذا المقال فنعرف أن أداء ما وجب علينا من العمل في هذه الحياة يحتاج حقيقة لنفوس فاضلة كبيرة.
تعريب: ع. ج