المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما فهمته من بول فالري - مجلة «الثقافة» السورية - جـ ٩

[خليل مردم بك]

الفصل: ‌ما فهمته من بول فالري

‌ما فهمته من بول فالري

إلى أستاذنا الفاضل المسيو غوستاف كوهين

بقلم الدكتور أنور حاتم

غموض فالري وبعض أسبابه

قرأت تقريباً جميع الكتب التي وضعها فالري (وعددها نسبة لما وضعه غيره من الكتاب محدود جداً) فظننت أني فهمت القليل منها وقرأت الدراسات والتحليلات والانتقادات والتفاسير والترجمات (الترجمات باللغة الفرنسية وبغيرها من اللغات) التي وضعت عن تآليف بول فالري فلم أفهم منها شيئاً أبداً والظاهر أن غموض شاعر المقبرة البحرية داء سار وقع فيه كل من عاشره مدة من الزمن والحقيقة أن شخصية فالري الأدبية غريبة في تطورها، شبيهة بالزئبق، يستحيل القبض عليها والوصول إليها وهو القائل عن المسيو تست ذلك الشخص النادر الذي خلقه في نشوة من نشوات شبابه: لا يمكن أن يقال عنه مالا يكون في البرهة نفسها مخالفاً للحقيقة. ولا شك أن أجهل الناس بفالري هو فالري نفسه وقد كثر شراحه في أيامنا هذه واعتقد أن فالري لم يفهم شرح أشعاره أكثر من أشعاره نفسها التي تحتمل كثيراً من المعاني ولا يدري هو أيها الأصح، وأن كان له فلسفة فتمتاز بتحركها وتحولها فهي لا تنفك تتركب بقالب جديد كل يوم والألفاظ برأيه ليس لها قوة ثابتة ولا تحتوي على أفكار جامدة فالألفاظ تقلب حسب النفوس وتأخذ القالب أو الصورة التي يريد الكاتب أو القارئ أن يمنحها إياها وإذا استطاعت الكلمات أن تسجن الفكرة وترفع أمامها كأسوار تمنعها من السير قتلتها وقد وجدنا تصريحات المسيو تست موافقة لنظرية فالري. قال المسيو تست: يعيبون غموض أقوالي ولكنني أن نظرت إلى الكون لا أرى إلا غموضاً. . . يفهم الأمور من يفحصها فحصاً سطحياً. . . أثمن ما في شخصيتي غامض علي ولو تمكنت من إدراك كل ما في نفسي لحرمت من الوجود. . . أشبه الألفاظ التي بواسطتها تجتاز مسافة فكرة بألواح خشبية سريعة الانكسار طرحت فوق هاوية يستطيع الإنسان المرور عليها لا الوقوف فوقها. فالرجل المستعجل يمر عليها ويسلم وأن أراد أن يتأخر تنكسر ويقع في أعماق الهاوية. هكذا من استعجل في فحص الألفاظ يدركها (أو يظن أنه أدركها) ومن أراد أن يطيل البحث فيها يتدهور في أعماق نفسه ويتيه. . .

ص: 15

إذاً فلا عجب إن صعب على كل قارئ إدراك بول فالري ومن المستحيل تعريف كل ظاهرة من ظواهر نفسيته باللغة العربية ولذلك لأسباب عديدة أهمها:

أن فالري اكتشف ميداناً جديداً للأدب ما اعتاد عليه النطق البشري فقد درس تطورات النفس في حالة الإبداع ونزاع الوجود والعدم وتوغل في الأنحاء المظلمة من روحه يستنبط منها كنوزاً ظهرت لنا وله غريبة وقد عجز النقاد وعجز الشاعر عن وصفها فأعطى فالري للألفاظ حياة جديدة وإبداع لأفكاره لغة جديدة لا يمكن تعريبها حتى ولا تحويلها إلى اللغة الفرنسية العادية وأرى أن كل ترجمة للمقبرة البحرية أو ملكة آجال البشر الشابة أو نرسيس أو سواها من أشعار فالري نصيبها الفشل. ومن الأسباب التي تجعل البحث عن فالري متعذراً في اللغة العربية هو أن سحر أشعاره ليس فقط في المعاني ولكنه كائن أيضاً في انتخاب العبارات والألفاظ حتى والحروف فقد استطاع أن يرتب الألفاظ في الشعر بصورة موسيقية وموسيقى الأشعار تضيع إن نقلت إلى لغة أخرى وفالري يعتقد بقوة العدد وينظم قصائده كمهندس يبني القصور والهياكل. وهو في فرنسة أول من حدد العلاقات القوية الموجودة بين الشعر والرياضيات فغاية الشعر الجمال والجمال في تناسب الخطوط وتناسب الخطوط يقتضي دقة الرياضيات وروح الشاعر المبدعة. وأن أردنا أن نعرف أهمية هذه النظرية عند فالري فما علينا إلا أن نفتح أحدث كتبه النثرية المشهورة وبالينوس. أو بالينوس المهندس بنى هيكلاً جميلاً للإله هوميس ولما سئل عن غايته من بناء هذا الهيكل أجاب: أردت عندما رفعت هذا الأثر أن أحفظ ذكر يوم مضيء من حياتي. يا لها من استحالة عذبة! لا أحد يعلم أن هذا الهيكل الجميل هو صورة رياضية لفتاة أحببتها وكنت بحبها سعيداً فالهيكل يمثلها لي فالعامي لا يدرك كيف يمثل صورة الفتاة أما الشاعر فله حاسة يستطيع بواسطتها العثور على العلاقات الخفية التي تربط كل صورة تمثل الجمال ببقية صور الجمال.

لا نريد أن نطيل البحث في هذا الموضوع خوفاً من الوقوع في الغموض أو الإبهام وغايتنا من هذه الملاحظات بيان الصعوبات التي تمنع الكاتب العربي من التكلم عن فالري باللغة العربية وسنأتي فيما بعد ببعض ما نستطيع التعبير عنه لشاعر من أشهر شعراء الغرب.

حياة فالري وتطور أفكاره

ص: 16

من يرى فالري لأول مرة يصعب عليه أن يرفع النظر عنه فهيئته الخارجية تستدعي النظر: قصير القامة ضعيف البنية يمشي ببطء وهو منحني الظهر قليلاً، شعره على وشك البياض، متدل على وجهه من جبهته اليمنى، يغطي حاجبه، فمه عريض يكلله شاربان كثيفان قصيران، خداه أجوفان تقطعهما تجعدات عميقة، عيناه صغيرتان لا أذكر لونهما ولكنك تشعر أن أطلت النظر فيهما بأنهما موجهتان إلى داخل فكره لا إلى العالم الخارجي فكأن أنظار فالري تنفى وجود كون خارج عن الكون الذي في نفسه.

ولد فالري في مدينة على البحر المتوسط تدعى سيت في 30 أكتوبر من سنة1871 وكان والده من أصل كورسيكي وأمه ايطالية تنتسب إلى إحدى عائلات مدينة جنوى وفي السنة السابعة من عمره رحل إلى انكلترا ثم عاد إلى بلدته وبدأ تحصيله في مدرسة مرتفعة فوق المرفأ على مصعد جبل بالقرب من حقل الأموات ذلك السطح الهادئ بين أشجار الصنوبر والقبور الذي سيخلد ذكره في المقبرة البحرية.

وكان فالري الصغير تلميذاً متوسطاً في اجتهاده ومطالعته، بعيداً عن رفاقه ميالاً إلى الانفراد ولم يتخذ رفيقاً غير البحر المتلألئ المتغير الألوان حسب أشعة الشمس المتقلب فوق درره الثمينة المستترة، البحر الذي سيشبهه في المستقبل بنفسية الإنسان ولما بلغ السنة الثالثة عشرة من عمره أرسل فالري إلى مونبلييه ليكمل تحصيله وهناك أهمل دروسه، فشعر بوحشة البحر وقضى الليالي العديدة يحلم بدخوله في سلك البحارة نظير أجداده الكورسيكيين ولكن ضعفه في ذلك الزمان في الرياضيات حال دون مساعيه وقد انكب على مطالعة فيكتور هوكو وتيوفيل غوتييه ثم أحب فن البناء وبدأ يختصر معجم البناء الضخم الذي وضعه أحد المهندسين الإفرنسيين المشهورين في القرن التاسع عشر المدعو فيوله ليدوك - ولما شعر بأنه لا يستطيع اتخاذ مهنة معينة باشر مثل أكثر شبابنا اليوم بدرس الحقوق في معهد مونبلييه الذي سيكون عميده بعد بضع سنين شقيق فالري الأكبر جول فالري.

وبالطبع فإن شاعرنا نام في أغلب محاضرات أساتذة الحقوق ومما لاشك فيه أنه لم يجد أقل لذة من تلك الدروس الثقيلة الهضم ولم تلهه المدرسة عن الرياض والجبال والغابات. وقد بدأ بقراءة كاتب من أغرب كتاب فرنسا اسمه هو يزمنس واضع كتاب في الطريقو

ص: 17

بالعكس ودخل فالري في الخدمة العسكرية قبل أن يبلغ السنة التاسعة عشرة من عمره وتعارف في هذا الوقت مع الشاعر بيير الويس مؤلف افرودتيه وأناشيد بيلتيس.

وأسس بيير لويس بمساعدة بعض شباب ذلك الوقت 0واسمهم اليوم اندره جيد وليون بلوم وهنري بيرانجه) مجلة أدبية عنوانها الصدفة نشر فالري أول أشعاره فيها ومن اشتراكه في تحرير الصدفة بدأت شهرته وقد تعرف بالشاعر الذي سيحدث تغييراً عميقاً في روحه ويساعده على اكتشاف شخصيته وقوته وهذا الشاعر هو ستيفان مالرمه مبدع الغموض الشعري. قرأ فالري أشعار مالرمه في ديوان استعاره من اندره جيد وشرع في زيارته كل أسبوع يوم الثلاثاء حيث كان يستقبل ضيوفه من الساعة مساءً إلى نصف الليل في داره الكائنة بشارع روما رقم89

وكان يجتمع في دار مالرمه بشارع روما أشهر أدباء فرنسا ومن أحاديثهم ومحاوراتهم انتشر مذهب الشعر المحض

كان تأثير مالرمه في فالري عظيماً جداً وقد اعترف به في مقالات عديدة ومالرمه أول من قاوم تلك العقيدة الابتدائية التي اشتهرت في عهد فيكتور هوكو والتي تختصر بجمل كهذه: الشاعر نبي والشاعر رسول وللشاعر رسالة إلهية على الأرض والشعر الهام إلهي والشاعر يكتب شعره في نشوة وهيجان حينما تحل به الآلهة أو الشياطين ابتعد فالري عن هذه الآراء المبتذلة وأحس بأن الشعر يولد من تضييق الفكر وقهره بتفكير عميق متواصل والشاعر يستخلص الشعر من الحياة كالمعطر يستخلص من الورد روحه. الشاعر كيماوي يركب من تلك الأجسام التي نسميها الألفاظ مادة أن دخلت على النفس من حاستي السمع والنظر تسحرها. والشاعر صائغ يصوغ الجمال بصبر ودقة وطول بال حسب قواعد دقيقة هي شرط كيان الشعر. الشعر المحض هو الشعر الخالي من الفصاحة والبلاغة والحب والبغض والأمل واليأس ومن جميع الأهواء الإنسانية والتعاليم الأخلاقية فالشعر المحض موسيقى قوية تتولد من كلمات منتخبة أن سمع العقل رنتها يضطرب ويتلذذ حتى ولو لم يفهم معنى الكلمات ولستيفان مالرمه قصائد يستحيل على أي كان إدراك معانيها تلك هي الآراء التي استولت على فالري بالقرب من سنة 1892 وقد كتب قصائده في ذلك الوقت تحت إشراف مالرمه واستوطن باريس في غرفة حقيرة كائنة في (الحي اللاتيني) واستطاع

ص: 18

بمساعدة صديقه هويزمنس أن يتوظف في الوزارة الحربية وقد كان يقضي ساعات الفراغ كسولا (الكسل آفة من آفات الشباب) يتنزه في حديقة (الحي اللاتيني) الكبرى برفقة أحد أصدقائه إلى أن تزوج بفتاة اسمها جان كوبيلار في 31 أيار سنة 1893.

ولما أتى عام 1893 ترك فالري وظيفته في وزارة الحربية وعين أمين السر لرئيس شركة هافاس ثم انتقل إلى لوندرا حيث ترفع إلى مديرية مكتب الأخبار الإفرنسي وفي فرصة الصيف عاد إلى مونبلييه وكتب في الدار التي ولد فيها الفيلسوف أوغست كونت السهرة مع المسيو تست.

كتب فالري السهرة مع المسيو تست بعد أن دخل في حياته الأدبية شاعر آخر هو الأميركي ادكاربو ومن هذا الوقت تعشق فالري العلوم الطبيعية ودرس الأحلام وتأثيرها في تطور الأفكار قبل أن تلبس ثوب الألفاظ وقد درس فالري تحت تأثير ادكاربو حالة الحالم اليقظان وتلك النغمات الشجية المسكرة التي يصدرها بعض الرجال من أعماق نفوسهم دون أن يستطيعوا التعبير عنها.

المسيو تست صورة من صور فالري العديدة وهو مخلوق غريب أبعدته تأملاته ويأسه وعجرفته عن قوانين الوجود البشري فأضحى آلة مفكرة هدامة لجميع مظاهر الحياة فلا شيء خارجاً عن فكره وحياة فكره ذاتها ضعف لأن الكمال بالعدم (يوجد شيء قليل من مذهب الفيلسوف الألماني شوبنهور عند فالري) ومذهب فالري الأدبي هو لاشك مذهب العدم وقال مالرمه يوماً إن أجمل صفحة قرأها هي الصفحة البيضاء العذراء المنزهة عن كل دنس أي التي لم يكتب فيها شيء،. . . . . ولم يتوصل المسيو تست إلى التهرب من بشريته لأنه متزوج وامرأته أميلي تست رمز حي للقلب البشري في أسمى عواطفه وقد دعاها الواحة يلتجئ المسيو تست إلى واحته ليستريح من العناء الذي يقاسيه في الصحراء التي تمتد في أعماق نفسه. . . .

وامتنع فالري عن الكتابة وأخذ يدرس الرياضيات والهندسة وعلوم الطبيعة وما وراء الطبيعة وتوفي مالرمه سنة 1898 وأحدث موته صدمة قوية في عقل وقلب فالري وأعلنت الحرب الكبرى ولم يشترك فيها إلا بضعة أسابيع ثم أتى عام 1917 وفي يوم من عام 1917 رجع فالري إلى ميدان الأدب بعد أن احتجب أكثر من عشرين سنة ونشر في

ص: 19

المجلة الفرنسية الجديدة قطعة شعرية أهداها إلى اندره جيد وعنوانها: ملكة آجال البشر الشابة فكان لهذه الأشعار صدى عظيم في فرنسا وفي الخارج ومن ذلك الحين انتشر اسم فالري وحاز الدرجة الأولى بين شعراء فرنسا المعاصرين ثم نشر السحر وفيه المقبرة البحرية (1921) وكان قد جمع أشعار صباه ونشرها تحت عنوان مجموعة أشعار قديمة (1920) ثم نشر (النفس والرقص)(1921)(واوبالينوس)(1923) وزار انكلترا وبلجيكا واسبانيا وقابل موسوليني ودانونزيو في ايطاليا وألقى محاضرات عديدة في أوروبا الشمالية وفي هولندا وفي سويسرا وفتحت أمامه أبواب المجمع العلمي الفرنسي بعد موت أناتول فرانس في سنة 1927 وآخر كتبه نشرها هي (الفكرة المستقرة)(وأشياء مكتومة)(وحكم)(ونظرات في العالم الحديث) وقد أسس مجلة اسمها (تجارة) نشر فيها مقالات مهمة وتوقف عن نشرها من مدة وجيزة.

وفي اليوم الذي نكتب فيه هذا المقال (27 آذار سنة 1934) بلغ فالري من العمر اثنتين وستين وأربعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً ولم يزل حياً يرزق ضعيف الصدر والصوت قليل النوم صاحب عائلة وأولاد يعاشر السياسيين والنبلاء والأمراء وقد أصبح كاتباً سياسياً أوروبياً رسمياً يمثل الجمهورية الفرنسية في لجنة التعاون الفكري الدولي في جنيف ويعاضد بأدبه المشتغلين في بث روح السلم والإخاء بين دول أوروبا ومرشحاً لجائزة نوبل التي يبلغ قدرها مليون فرنك تقريباً.

هكذا هبط من السماء التي كان محلقاً فيها المسيو تست ورجع بين البشر. فهل أراد كسواه من مخلوقات الله الحية أن يتعلق بالحياة بكل ما فيه من قوى حينما شعر باقتراب الموت؟

أنور حاتم

ص: 20