الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من باريس
أرسلها منها محمد مختار أفندي إلى أخيه محمد سليم أفندي المسلمي أحد قُرّاء
المنار بمصر.
(س 37-48)
(س1) ما هو الرِّقّ، (2) كلمة عمومية على الحقوق التي يَفْضُل الحُرُّ
فيها العبد (مقارنة) ، وتكفي الإشارة للفروق ولو البعض.
(3)
كيف أن الشريعة الإسلامية أباحت الرِّقَّ، مع أنها شريعة العدل
والمساواة.
(4-6) كيف يَحلّ استمتاع السيد بمملوكته، وكيف يتزوج المسلم أربع
حرائر، ويتمتع بالإماء بلا حصر (لأن ذلك تَوحّش) .
(7)
ما سبب زيادة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أربع،
اللاتي أباحتهم (كذا) الشريعة.
(8)
لِمَ لا يحكم القاضي بمذهب المتخاصمين بمصر، ولو فعل ماذا يكون
الحكم.
(9)
كيف كان الزواج في الجاهلية عند العرب، وهل تعدّد الزوجات كان
الغالب أم الغالب واحدة.
(10 - 11) ما هي الكفاءة المشروطة للزوجة في الجاهلية، وما هي
حقوق المرأة في الجاهلية.
سيدي الأستاذ الجليل: السيد رشيد رضا
أرجو أن تقتطع من وقتك الثمين بُرْهة تردّ فيها على هاته الأسئلة بطريق
الاختصار، أو مشيرًا إلى الكتب التي ينبغي الاطلاع عليها للاستعانة بها على دَرْء
العنوان الموضَّح أدناه، وفي الختام تَفضّلوا بقبول احترام وتسليمات.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المخلص
…
...
…
...
…
...
…
... محمد سليم المسلمي
(أجوبة المنار)
1-
ما هو الرِّقّ:
الرق والاسترقاق هو مِلْك الإنسان، ويسمَّى المملوك رقيقًا، وكان ذلك
مشروعًا عند الأمم قبل الإسلام، فأقرَّ الإسلام الناس عليه مع الإصلاح الذي يذكر
في جواب السؤال الثالث.
2-
ما يفْضُل الحُرُّ به العبْدَ:
يفضل الحر العبد في الولاية والقضاء، فالرقيق لا يكون إمامًا ولا سلطانًا
للمسلمين ولا قاضيًا عليهم والعِلّة ظاهرة، ويفضله بأنه يملك ويتصرف بملكه،
والعبد لا يملك؛ ولذلك لا يرث أهله، وخفَّفت الشريعة عن العبيد بعض الأحكام،
فلا تجب عليهم صلاة الجمعة، وعليهم نصف ما على الأحرار من عقوبات الحدود
فالحر يجلد على قذْف المحصنات ثمانين جلدة والعبد يُجْلد أربعين، ويجلد الحر على
الزنا مائة جلدة والعبد خمسين جلدة. وهناك أحكام أُخَر في عدد الأزواج وعدد
الطلاق، والقَوَد من السيد وغيره من الأحرار، وليست كلها متَّفقًا عليها في حديث
سَمُرَة عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(مَنْ قتل عبده قتلناه، ومن جَدَع عبده جَدَعْناه) حسَّنه الترمذي، وفي رواية
لأبي داود والنسائي (ومن خصى عبده خصيناه) .
3-
إباحة الرق:
إنما أقرت الشريعة الإسلامية الناس من المشركين وأهل الكتاب على الرِّقّ؛
لأنه كان من الأمور الاجتماعية الراسخة التي لا يمكن تركها بمجرد تحريمها، ولا
يكون تركها فجأة خيرًا للسادة ولا للأرقاء أيضًا؛ لأن الأولين قد ناطوا بالآخرين
كثيرًا من أعمالهم الزراعية والتجارية والصناعية والمنزلية، حتى صاروا عاجزين
عن القيام بها بأنفسهم، وجرى العمل على ذلك قرونًا كثيرة، حتى ضعُف استعداد
السادة لهذه الأعمال، وصار من المحقق أن العتق العامّ دفعة واحدة يُفْضي إلى فساد
اجتماعي كبير. وأما كونه لا خير فيه للعبيد أنفسهم، إذا هو حصل دفعة واحدة
بتكليف شرعي، فهو أن هولاء صاروا بطبيعة الاجتماع عَالَة على سادتهم، حتى
إنهم إذا تركوهم لا يعرفون كيف يعيشون، ولا كيف يعملون، فكان من حكمة هذه
الشريعة الفِطْرية الاجتماعية أن تُقرّ الناس على ما جروا عليه في أصل الرق،
وتضع لهم أحكامًا تكون تمهيدًا لإلغاء الرق بالتدريج، فأمرت السادة أن يُساوُوا العبيد
في الطعام واللباس، وأن لا يكلفوهم ما لا يطيقون، وأن يعينوهم على أعمالهم
ويساعدوهم فيها، وأوجَبتْ عليهم العتق بأسباب متعددة؛ فجعلته كفارة لبعض
الخطايا؛ كالظِّهار وملامسة النساء في نهار رمضان للصائمين والحِنْث باليمين.
وجعلت للعتق أسبابًا كثيرة؛ منها أنه إذا مثَّل بعبده عَتَقَ عليه وصار حرًّا، وورد
هذا في الأحاديث المرفوعة، وكذلك التعذيب الخفي كالذي أَقْعَدَ أَمَتَه في مقلي حارّ
فأحرق عَجُزها، فأعتقها عمر بذلك وعاقبه، بل قال صلى الله عليه وسلم (من لطم
مملوكه أو ضربه فكفارته أن يُعْتقه) رواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه من
حديث ابن عمر، وعن سويد بن مقرن قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: (أَعْتِقوها) رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وفي
رواية أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه لا خادم لبني مقرن غيرها، قال
(فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها) وروى مسلم وغيره عن أبي
مسعود البدري من حديث قال فيه: كنت أضرب غلامًا بالسوط فسمعتُ صوتًا من
خلفي إلى أن قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أَقْدَر
عليك منك على هذا الغلام) ، وفيه قلت يا رسول الله: هو حرّ لوجه الله فقال:
(لو لم تفعل لفحتك النار أو لمستك النار) ولو اتبع المسلمون هذا الإرشاد وحده أو لو
كان حُكامهم بعد الخلفاء الراشدين نفذوا أحكام الشريعة كما كان ينفذها الراشدون؛
لبطل الرق في القرن الأول في بلاد الإسلام على أن الفقهاء الذين اختلفوا فيما تدل
عليه هذه الأحاديث من وجوب عتق العبد الذي يُضْرب ويهان، قد صرحوا بأن
العتق ينفذ، ولو كان المُعْتِق هازلاً أو سكران، وأن حكم القاضي به ينفذ مطلقًا،
ولو كان ظالمًا في حكمه، وأن الإقرار بالرق لا يمنع دعوى الحرية بعده، وأن
الرقيق إذا ادَّعَى أنه حرّ يُصَدَّق ويحكم بحريته، إلا إذا أثبت سيده ملكه له، وإن
من أعتق جزءًا من عبد عَتَقَ كله، ثم إن الشريعة قد جعلت جزءًا من مال الزكاة
المفروضة؛ لأجل فك الرقاب من الرق ومع هذا كله رغَّبت المسلمين في العتق
ترغيبًا عظيمًا، والآيات والأحاديث في هذه كثيرة جدًّا، فهذه عدة طرق عملية
لإبطال الرق بالتدريج بحيث لا يشقّ ذلك على المالكين، ولا يبطل مصالحهم
ومنافعهم، ولا يجعل أمر المعتوقين فوضى، ويوقعهم في مَهْمَه الحيرة في أمر
معاشهم، ومن قرأ أخبار تحرير العبيد في أمريكة، ظهرت له حكمة الإسلام فيما
شرعه للناس في هذه المسألة. ولكن المسلمين لم يقيموا دينهم كما أُمِرُوا، ولا سيما
في المسائل التي هي من شأن الحكام؛ ولذلك قال بعض حكماء الإفرنج: إن لمعاوية
الفضل الأكبر على أوربا؛ إذ هو الذي حفظ لها استقلالها بجعل الحكومة الإسلامية
حكومة شخصية موروثة، ولو سار هو ومن بعده سيرة الراشدين لَمَلَك المسلمون
أوربا كلها وسائر العالم القديم.
وقد سبق لنا بحث في هذه المسألة من قبل فلا نطيل فيها الآن.
4-
6 - التسَرِّي وتعدُّد الزوجات وعدم حَصْر السَّرَارِي.
بينا غير مرة أن إباحة التسرِّي قد كان رحمة من الله بالإماء المملوكات، فقد
كانوا في الجاهلية يرون أن الإماء يباح لهن الزنا ولا يباح للحرائر، وكانوا
يتخذونهن للبغاء؛ لأجل الكسب بأعراضهن، فحرَّم الإسلام الزنا تحريمًا باتًّا وأباح
للناس أن يستمتعوا بما ملكت أيمانهم؛ ليصونوا عِرْضهن؛ وليكون ذلك وسيلة
لتحريرهن، فإن الأَمَة إذا صارت أُمَّ ولد بَطَلَ رقّها، وصارت حرّةً كالزوجة،
فما أَعْدَل هذا الحكم وما أحكمه.
ولو لم يبح التسرِّي بالمملوكة في أُمَّة حربية كالأمة الإسلامية يكثر فيها النساء
ويقل الرجال؛ لثقل على النساء المملوكات الرِّق بمنعه إياهن من أعظم وظائف
الفطرة؛ ولأغراهن ذلك بالفسق الذي لا يبيحه الإسلام بحال من الأحوال.
وأما حكمة تعدد الزوجات وما يشترط فيها، فقد بيناها بيانًا كافيًا في نحو من
30 صفحة من تفسير الجزء الرابع، فتراجع فيه من ص 344-374 أو في
المنار.
وأما كون التمتُّع بالإماء لا يشترط فيه العدد، فقد علَّلُوه بكون الأَمَة ليس لها
حقوق على السيد كالقَسْم والمساواة، فلا يضر الاستكثار منهن لذلك، والأصل
الصحيح فيه أن الحرب يُقتل أو يُفنى فيها الرجال ويبقى النساء لا كافل لهن، فيكون
من المصلحة العامة وكذا من مصلحتهن الخاصة في بعض الأحوال، ولا سيما في
القرون الأولى للإسلام أن يوزَّعْن على الرجال الغالبين لكفالتهن وكفايتهن أمر
معيشتهن، والخير لهن حينئذ أن تكون معاملتهن كمعاملة الأزواج لِمَا تقدَّم آنفًا، ولا
ضرر في الصحة لا في الهيئة الاجتماعية أن يكون للرجل الواحد نسل من نساء
كثيرات يعوض على الأمة ما خَسِرَتْه في الحرب ، وإنما الضرر ما عليه أوربا الآن
من إباحة الزنا، واختلاف الرجال الكثيرين على المرأة الواحدة، فإن ذلك يقلل النسل
كما هي الحال في فرنسة، ويُحدث أمراضًا كثيرة، ولولا ارتقاء فن الطب في
أروبه لأفنتها الأمراض الزُّهْرية وغيرها، ولم يكن في التسرِّي وتعدُّد الزوجات
مفاسد منزلية كثيرة في أول الإسلام؛ لِمَا كانوا عليه من العدل ومكارم الأخلاق
وسلامة الفطرة وقلة الحاجات، وأما مسلمو هذا الزمان فإن لتعدد الزوجات فيهم
مفاسد كثيرة كما بينا ذلك في تفسير آية التعدد، وجملة القول أن منع الزنا ووجوب
كفالة النساء وإحصائهن والحاجة إلى كثرة النسل، والتوسل إلى عتق المملوكات
بصيرورتهن أمهات أولاد؛ هو الذي كان سبَبَ إباحة الاستمتاع بهن وعدم التقيد بعدد
فيهن، ولا سيما في حال كثرتهن، وذهب الأستاذ الإمام إلى أنه لا يجوز للرجل أن
يستمتع بأكثر من أربع منهن؛ قياسًا على زواج الحرائر، بل قال: إن آية إباحة
تعدد الزوجات بشرطه تدل على ذلك، والاسترقاق غير واجب في الإسلام، وإنما
أبيح للضرورة ولأولي الأمر من المسلمين منعه، إذا رأوا المصلحة في ذلك.
7 -
حكمة تعدَّد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم :
إن النبي صلى الله عليه لم يتزوج في سن الشباب والفراغ إلا بخديجة،
وكانت رضي الله عنها ثيبًا، وبعد الكهولة والقيام بأعباء النبوة ومكافحة المشركين
وغيرهم من أعداء النبوة تزوج عدة زوجات ثيبات، ومنهن أمهات الأولاد وكبيرات
السن، ولم يتزوج فتاة بكرًا إلا عائشة بنت الصديق رضي الله عنه ، وأسباب
ذلك بعضه سياسي كتوثيق الروابط بينه وبين القبائل كتزوجه بجُوَيْرِيَّة وهي بَرَّة بنت
الحارث سيد بني المُصْطَلَق، فقد كان المسلمون أسروا من قومها مئتي بيت بالنساء
والذراريّ، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعتقوهم وكره أن يكرههم على ذلك
إكراهًا فتزوج سيدتهم، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا ينبغي أسرهم فأعتقوهم، ومنها ما كان لأجل كفالة بعض المؤمنات السابقات إلى
الإيمان المهاجرات بعد قتل أزواجهن أو وفاتهم؛ كتزوجه أم سلمة (هند) على كبر
سنها وما عندها من الأولاد، ومنها ما كان لأجل الإصلاح وحمل الناس على
الشريعة بالقدوة؛ كزواجه بزينب بنت جحش؛ لإبطال التبني وأحكامه الضارة
الفاسدة، ومنه مكافأة صاحبَيْه ووزيرَيْه أبي بكر وعمر، وتشريفهما بمصاهرته
إياهما، وهناك مصلحة عامة هو أن يوجد في بيت النبوة عدة من النسوة يتعلمْنَ
الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء ويعلمْنَها للمسلمات، وقد كان (صلى الله عليه
وسلم) لشدة حيائه يستحي أن يخاطب النساء بكل الأحكام المتعلقة بهن إذا لم يسألْنَ
عنها، فكان أزواجه الطاهرات خير واسطة لذلك، وهذه حكمة ما كانت تحصل لو
اكتفى بزوج واحدة، لا يدري أتعيش بعد فقهها كثيرًا أم لا، وإن شئت مزيد بيان
وتفصيل فارجع إلى ما كتبناه في ذلك في المجلد الخامس من مجلة المنار وجزء
التفسير الرابع، لا تنس مراجعة ما كتبه الأستاذ الإمام وما كتبناه في مسألة (زيد
وزينب) فإن شُبْهة الأوربيين فيها أكبر ومنشورة في المجلد الرابع من مجلد المنار
وفي ملحق تفسير الفاتحة.
8-
حكم القاضي بمذهب الخصم:
السؤال في هذه المسألة مُبْهَم، والظاهر أن السائل يريد القاضي الشرعي الذي
يحكم في المسائل الشخصية على الحنفي والشافعي والمالكي وغيرهم، ولا يعقل أن
يُشْتَرط في القاضي معرفة مذاهب الناس والحكم لكل خصم أو عليه بمذهبه؛ لأن
ذلك على تعسره أو تعذره مفسدة، ويتعارض في الخصمين المختلفَيْ المذهب، على
أن المذاهب الفقهية متفقة على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف ويجب الإذعان له.
9 -
الزواج في الجاهلية:
كان الزواج عندهن أربعة أنواع؛ كما روي عن عائشة في صحيح البخاري:
(الأول الاستبضاع) وهو أن الرجل كان يُرْسِل امرأته إلى الآخر، ولا
يَقْرَبها حتى يظهر حَمْلها من الآخر؛ يفعلون هذا ابتغاء نَجابة الولد.
(الثاني) أن ما دون عشرة رجال يصيبون المرأة، فإذا حملت ووضعت
اجتمعوا عندها حسب طلبها، وقالت لمن أحبت: إن هذا ابنك يا فلان، فلا يستطيع
أن يمتنع الرجل.
(الثالث) أن من الزواني (وهن البغايا من الإماء) من إذا حملت ووضعت
اجتمع الناس، ودعوا القافَةَ فألحقوا ولدها بالذي يَرَوْن، فينسب إليه الولد لا يمتنع
الرجل منه.
(الرابع) النكاح الذى بين المسلمين اليوم، فلمَّا بعث النبي (صلى الله
عليه وسلم) هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح المسلمين اليوم، ومنها نكاح البدل وهو
أن يستبدل كلٌّ امرأته بامرأة الآخر، ونكاح الشِّغار وهو أن يزوج أحدهم مَنْ له
الولاية عليها الآخر على أن يزوجه الآخر مَنْ له الولاية عليها، وتكون كل منهما مهرًا
للأخرى لا تأخذ شيئًا، ولهم في الزواج مفاسد أخرى بيَّنَّا بعضها في تفسير الآيات
التي تشير إليها.
ومنها أنهم يرثون المرأة كما يرثون الرقيق والحيوان.
وأما تعدُّد الزوجات فكان فاشيًا فيهم غير مقيد بعدد، وقد أسلم بعضهم وعنده
خمس أو ثمان أو عشر نسوة، كما بينا ذلك في تفسير آية التعدد.
10-
11 - الكفاءة وحقوق المرأة في الجاهلية
كانت الكفاءة عندهم تُعتبر بالجنس والنسب والحسب أي الشرف، فكانوا لا
يرون العجم أكفاء لهم ولا الموالي من العرب، وهم لا يزالون على ذلك في عقر
جزيرتهم لا يزوجون عجميًا عربية صريحة النسب، فإذا ارتضوه زوجوه من
الموالي، وكان الشرفاء يترفَّعون أن يزوجوا بناتهم للأخسَّاء.
وأما حقوق النساء في الجاهلية فلم تكن شيئًا مذكورًا، وكانوا يستحلُّون أكل
أموالهن ويَعْضُلونهن أي يمنعونهن الزواج لذلك، حتى جاء الإسلام فجعل النساء
مساويات للرجال في كل شيء إلا الولاية العامة والخاصة، وذلك قوله تعالى:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رِحْلة القسطنطينية
أو إقامة عام في عاصمة الإسلام
علم قرَّاء المنار كافَّةً سبب رحلتنا في أواخر رمضان من العام الماضي إلى
هذه العاصمة، وشيئًا من خبر عملنا وسعينا فيها، أَمَا وقد عدنا منها إلى مصر في
أوائل هذا الشهر، فإننا نذكر لهم ملخص ما بلغ إليه السعي.
مسألة العرب والترك:
أشرنا في أول مقالة كتبناها عن الانقلاب العثماني عند حدوثه إلى العقبات التي
يُخْشَى أن تعوق سير الدستور، ومنها تعصُّب العناصر العثمانية لجنسياتها، وقد
وقع ما توقعنا، فقد قام كل عنصر يسعى لتقوية عنصره. فأما اليونان والبلغار
والأرمن فلا تسأل عما قالوا أو فعلوا، ولا تعجب مما اقترحوا وطلبوا، على أن
الأرمن أُعْطُوا حتى رضوا، ولا سبيل إلى مرضاة قوم لهم دولة تنازع الدولة العلية
في أملاكها، وتطمع حتى في عاصمة ملكها، وأما الأَرْنَؤُود والكرد والجركس فقد
قاموا يسعون لتدوين لغاتهم، وترقية أجناسهم، ولكل منهم في العاصمة أندية
وجمعيات، وأما العرب فأسسوا عقب الانقلاب جمعية سمَّوْها جمعية الإخاء العربي،
فكنت أنا وكل من أعرف من العرب والعثمانيين في مصر وسورية كارهين
لتأسيسها، ولما زرت سورية كنت أنفر الناس منها ، ثم ألغيت؛ لأن الرأي العام
العربي لم يأخذ بيدها؛ لأنه لم يكن يحب أن يعمل عملاً ما في الدولة باسم العرب،
ذلك بأن رأينا أن بقاء الدولة يتوقف على اتحاد الترك بالعرب فيها. ولكن قام بعض
أصحاب الجرائد التركية في الآستانة بالدعوة إلى الجنسية التركية وحفظ السيادة
للعنصر التركي، والتنفير من العرب ودعوة الترك إلى الاستغناء عن اللغة العربية،
حتى عن القرآن العربي بترجمته إلى اللغة التركية، وبتطهير التركية من الألفاظ
العربية، فتألم العرب من هذه الأقوال، وزادهم تألمًا أفعال أخطأت فيها الحكومة،
بيناها في مقالات (العرب والترك) التي نشرناها في جرائد الآستانة التركية
والعربية، فلا نحب إعادتها.
رأينا الحديث قد كثر في هذه المسألة، وتناولتها أقلام الكتاب والشعراء،
فخِفْنا أن تعم وتصير مقررة عند العامة؛ فيصعب نزع سوء التفاهم، ويتعسر ما
نحب من الاتحاد والاعتصام، فكان أول سعينا في الآستانة موجهًا إلى إزالة سوء
التفاهم بين العنصرين، فكتبنا تلك المقالات الست، واخترنا لنشر ترجمتها بالتركية
جريدة إقدام؛ لأنها كانت من الجرائد التي آذت العرب بعصبيتها الجنسية،
عسى أن يزول ذلك بما ننشر فيها، ثم كان أول من كلمناه في ذلك هو الصَّدْر
الأعظم، فاعترف لنا بأن الحكومة والجمعية أخطأتا في بعض تلك الأمور، قال: ولكن ليس هنالك سوء نية وأنه سيتدارك ذلك بالفعل، وكلمت في ذلك أيضًا محمود
شوكت باشا وناظر الداخلية وغيرهما من الكبراء، وقد اتهمني بعض النابتة
العربية في أول الأمر بمصانعة الترك أو الحكومة، ثم بَلَوْني وخَبَرُوني وعلموا أني
مخلص فيما أوافقهم وفيما أخالفهم فيه؛ وبذلك تيسر لي أن أقنعهم بما اقتنعت به
بعد طول اختبار الآستانة ورجالها، وهو أن العرب والترك عنصران يكوِّنان
حقيقة واحدة؛ كالعنصرين المكوِّنين لحقيقة الماء أو الهواء، وأن الإسلام قد ألف
بينهما هذا التأليف، وزادته مصلحة بقاء هذه الدولة بهما، والخطر عليها من
تفرقهما، وأن الذين تحاملوا على العرب واللغة العربية من المتفرنجين مختلفو
الأصول؛ فنمنهم مَنْ أصله تركي ومنهم من أصله عربي، ولعلنا لو بحثنا عن
أنسابهم لوجدنا أكثر آبائهم من الروم والأرمن واليهود والنور، وأنه لا يجوز لأحد
من العرب أن يجعل ذنبهم ذنبًا للعنصر التركي، ولا أن يحمل سعي الترك لترقية
شعبهم منافيًا لأخوة العرب، ما دام خاليًا من العصبية الجنسية، كما لا يجوز لطلاب
ترقية العرب أن يقصدوا بذلك إلا التمهيد للاتحاد بالترك، والقيام معهم بتأييد الدولة
وإعزازها، هذا هو رأيي الذي وافقني عليه العقلاء من الترك والعرب في العاصمة
وإن كان يوجد فيها من المتعصبين المبغضين للعرب الذين يسترون بغضهم
بأماديح النفاق من يحرِّف كلامنا في التوفيق والتأليف عن مواضعه؛ لينفروا إخواننا
الترك منا، والله من ورائهم محيط وقد تداركت الحكومة بعض خطئها بإلغاء ما
كانت أمرت به من وجوب جعل المرافعات في محاكم البلاد العربية باللغة التركية،
وعدم قبول ما يقدم إلى الحكومة من شكوى وغيرها باللغة العربية، كانت شرعت
في هذا وذاك، ثم علمت بتعذره وبسوء أثره فمنعته، ثم إنها عينت في مدارسها
الإعدادية عشرة معلمين للغة العربية وذلك فاتحة خير إن شاء الله تعالى.
مشروع العلم والإرشاد:
هذا هو المشروع الأعظم الذي هو المقصد الأول لي من الرحلة، بل من
الحياة كلها، وهو إذا نفذ يقوي الرابطة والأخوة بين العرب والترك وبين غيرهم من
المسلمين كالأرنؤود والكرد، بل يؤلف بين المسلمين وغيرهم من الملل كما يقتضي
الإسلام؛ لأن كل ما أتصوره وأدركه من إصلاح حال المسلمين محصور فيه؛
ولذلك كان جل السعي أو كله في هذه السنة لهذا المشروع، وبعد العناء الطويل
والمراجعات الكثيرة واللجان المتعددة التي عقدت للمناقشات فيه وُفِّقنا لتأسيس جمعية
العلم والإرشاد كما عرف القراء، وقد وافقت الحكومة على تأسيسها رسميًا، وعرف
القراء مما نشرنا في الجزء السادس أن من أعضائها المؤسسين موسى كاظم أفندي
الذي صار بعد التأسيس شيخ الإسلام للمملكة ورئيس الشرف للجمعية، ومنهم
مستشار المشيخة والرئيس الثاني لمجلس المبعوثين، ورئيس كتاب مجلس الشورى
وغيرهم من خيار رجال العاصمة، فليراجِعْ مَنْ شاء أسماء وقانون الجمعية في ذلك
الجزء من منار هذه السنة.
بعد التصديق الرسمي على نظام الجمعية توسلنا بمولانا شيخ الإسلام إلى
الحكومة؛ لتقرر لنا ما وعدتنا به من المساعدة المالية لتأسيس مدرسة (دار العلم
والإرشاد) . فكتب أحسن الله جزاءه مذكرة للصدر الأعظم بعد مذاكرته في ذلك
والاتفاق معه، طلب فيها: أن تُعْطَى جمعية العلم والإرشاد ثلاثة آلاف ليرة؛ لأجل
تأسيس المدرسة المذكورة في نظامها الأساسي، وأن يقرر مجلس الوكلاء جعل
نفقات هذه المدرسة بالغة ما بلغت في ميزانية نظارة الأوقاف من ابتداء السنة المالية
القابلة، فوضعت مذكرة الشيخ موضع المذاكرة في مجلس الوكلاء الخاص، فقرر
المجلس قبول المذكرة والموافقة على المبلغ المطلوب، واستحسان نظام الجمعية،
إلا أنه ذكر في صورة القرار الذي بلغ مقام الصدارة إلى المشيخة ونظارتَيْ الأوقاف
والمعارف؛ أن المجلس استحسن أن يعبر عنها (بانجمن علم وإرشاد) بدل
(جمعية العلم والإرشاد) ، وأن تكون المدرسة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام.
بلغنا شيخ الإسلام قرار مجلس الوكلاء، فاجتمع مجلس إدارة الجمعية يوم
الجمعة (19رمضان -23سبتمبر) للمذاكرة فيه، فقرر الاعتراض على جعل
المدرسة تحت مسئولية شيخ الإسلام؛ لأنها تكون بذلك رسمية، وقد بلغ الكاتب العام
للجمعية شيخ الإسلام ذلك كتابة، وتكلم معه في وجوب جعل المدرسة خاصة بالجمعية
خالية من الصفة الرسمية، فوافق الشيخ على ذلك ووعد وعدًا مؤكدًا بالكتابة إلى
الباب العالي بوجوب تعديل قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة مما يطلقون عليه
اسم (المكاتب الخصوصية) ، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد بعض أعضاء الجمعية
بالكتابة إلى الباب العالي بذلك، وصرح بأن جَعْل المكتب ذا علاقة بالحكومة ضار،
وأنه خلاف ما كان اتفق عليه، ولماذا يكون ضارًّا؟
صرحنا في المادة الثالثة من نظام الجمعية الأساسي؛ بأن هذه الجمعية لا
تشتغل بسياسة الدولة العلية الداخلية ولا الخارجية ولا سياسة غيرها من الدول،
ولكنها تراعي القانون الأساسي وتؤيده، ونص المادة الثانية المبينة مقصدها هو:
(المادة الثانية: مقصد هذه الجمعية الجمع بين التربية الإسلامية وتعليم العلوم
الدينية والدنيوية والتصنيف فيها، وتتوسل إلى ذلك بإنشاء مدرسة كلية في دار
السعادة باسم (دار العلم والإرشاد) لتخريج العلماء والمرشدين) .
فالمراد من الجمعية ومدرستها الكلية هو الإصلاح الديني الاجتماعي؛ أي إنارة
عقول المسلمين النافعة بالعلوم النافعة، وتربية نفوسهم تربية صالحة؛ ليعلموا كيف
يعمروا دنياهم، مع حفظ دينهم ذي الآداب العالية أن ينال منه الخراب، ويدخل في
ذلك اقتباسهم لِمَا لا بد لهم منه من المدنية العصرية وفنونها وأعمالها، فإذا دخلت
السياسة في مثل هذا العمل أفسدته، ولا شك أن الدول الأوربية تعدُّ جعله تحت إدارة
شيخ الإسلام عين السياسية، وتتهم الدولة بأنها تريد به تهييج التعصب الإسلامي؛
لأن شيخ الإسلام هو العضو الأول في مجلس وزراء الدولة، وإذا قاومت أوربا هذا
المشروع لا يثمر الثمرة المطلوبة، ولا تُتَّقى مقاومة أوربا إلا بجعله في معزل عن
السياسية والحكومة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الذين اكتشفوا الأشعة التي تخترق الكثائف
حتى يُرى ما وراءها، ووضعوا المناظير المكبرة التي يرى بها ما لم تكن تَرى مثله
زرقاء اليمامة، لا يسهل على أمثالنا في ضعفنا وجهلنا أن نخدعهم، وإذا كان هذا
العمل في أيدي جمعية مخلصة ليس لها صفة رسمية؛ لا يمكنهم أن يعترضوا عليها
اعتراضًا رسميًّا، وإذا كان هذا العمل في أيدي جمعية مخلصة ليس لها صفة رسمية
لا يمكنهم أن يعترضوا عليها اعتراضًا رسميًا، وإذا اتهموها بالسياسة باطلاً سهل
عليها مع الصدق والإخلاص إقناعهم ببراءتها، كما وقع للجمعية الخيرية الإسلامية
بمصر، اتهمت بالسياسة ومساعدة مَهْدِيّ السودان على الحرب ولكن لم تلبث أن
ظهرت براءتها بإخلاص رجالها.
هذا هو رأيي ورأي محمود شوكت باشا، ذكره لي قبل أن أذكره له، ووافق
عليه شيخ الإسلام وناظر المعارف، وهو رأي أعضاء الجمعية المؤسسين أيضًا؛
ولأجل هذا يسعون في تعديل قرار مجلس الوكلاء، ولولا هذا لوافقت ناظر الداخلية
أولاً وشيخ الإسلام أخيرًا على جعل نفقات المدرسة من المالية دون الأوقاف،
ولكنني ما زلت أراجع في ذلك من أول السعي إلى آخره؛ إذ قال لي شيخ الإسلام
في يوم الإثنين 16أو 17شعبان (22أغسطس غ) : إن الوكلاء الفخام يرون من
المناسب أن تكون نفقات المكتب السنوية في ميزانية العلمية (التابعة للمشيخة
الإسلامية) وأنا أرى ذلك؛ لأن هذه خدمة دينية من جنس خدمة المشيخة، فيحسن
أن تكون نفقتها تابعة لها، فما تقول أنت يا عزيزي؟ (قلت) : ما ترونه حسنًا فهو
حسن، ولكني لا أزال أرى أن تجعل نفقات مكتبنا في ميزانية الأوقاف؛ حتى لا
يكون للمشيخة وجه للتداخل في أمره؛ إذ الأَولى أن يكون مستقلاً تمام الاستقلال دونها
إلخ ما قلته ووافقني عليه، بل قلت لغيره من العظماء: لولا أنني خشيت أن تسيء
الدول الظن بالمشروع لاقترحت أن يكون في الحجاز أو في مصر، وأقول: الآن
إذا لم يعدل مجلس الوكلاء القرار كما وعد شيخ الإسلام وناظر المعارف،
فالمسلمون لا يستغنون عن جمعية أخرى كهذه الجمعية، يكون مركزها
مصر؛ لأن جمعية الآستانة لا تأتي بالفائدة المطلوبة إذا كانت رسمية أو شبه
رسمية.
_________