الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الثالثة عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى جعلنا أمة التوحيد، وجعل ديننا دين التوحيد، وسياستنا سياسة
التوحيد، وأعز من استقاموا منا على التوحيد، وأدْل من انحرف عن محجة التوحيد،
ليعيدنا كما بدأنا إلى التوحيد {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ * ذُو
العَرْشِ المَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (البروج: 13-16) .
والصلاة والسلام على محمد خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته من خلقه، الذى
بعثه بتوحيد الألوهية، ليحرر الخلق من رِقِّ العبودية، للعوالم السماوية أو الأرضية
وبتوحيد الربوبية، ليعتقهم من رق التقاليد الدينية، التي ألحقها رؤساء الأديان
بالشرائع الإلهية، وبتوحيد السياسة ليكون الشعوب والقبائل أمة واحدة، تضمها
شريعة عادلة واحدة، وتتعارف بلغة واحدة، ليطلقهم من قيود الحكومة الشخصية
الجائرة، ويفكهم من أغلال العصبة الجنسية الخاسرة فاهتدى بكتابه العقلاء
المستقلون، وضل به السفهاء المقلدون، فعز باتباعه المؤمنون وذل بإعراضهم
المعرضون، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 41-44) .
وبعد فقد تم للمنار اثني عشر عامًا، كان له منها اثني عشر سفرًا كبيرًا فهي في
هذه الأمة كنقباء بني إسرائيل، تجوب الأقطار داعيةً إلى ذلك التوحيد، مذكرةً آخرها
بما صلح به أولها، وإنها كالمطر ربما كان الخير الكثير في آخرها، وقد وعدها الله
تعالى بالاستخلاف في الأرض، وإظهار دينها على الدين كله، فلا يعذر في الإسلام
اليائسون، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) ، {وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} (الشورى: 28) .
(بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ)[1] ومن تمام التشبيه أن يكون على
غربته شديد القوى، فيوحد بهداية القرآن المتعددين، ويجمع بإرشاده المتفرقين،
فيعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم باتباع السنة، ويعيد إليهم ما فقدوا من استقلال
العقل والإرادة، فيخرجون من جحر الابتداع والتقليد، ويظهرون في حُلَّتَيِ المجد
الطارف والتليد، {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: 15) .
صادفت الدعوة مقاومةً من قوم وارتياحًا من آخرين، كما بينا ذلك في فواتح
ما سبق من السنين، ومن أكبر الآيات المبشرات، بأننا في إقبال حياة لا في إدبار
ممات، إن الورقات الخضراء، في شجرة الأمة الجرداء [2] تزداد خضرةً في كثرة،
لا سقوطًا ولا صفرةً، فيا لها من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء،
حفظت حياتها على طول العهد بانقطاع الماء، فكأنك بها وقد أصابها الوابل فآتت
أكلها ضعفين، وأُتي أهلها أجرهم مرتين، {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى
الحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: 52) ، وهل نتربص بأنفسنا إلا ما وُعِدْنا من سعادة الدارين،
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَاّمُ الغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ} (سبأ: 48-49) قد تمهد طريق الإصلاح، ونادى مؤذن حيَّ على الفلاح،
فسمعه العربي والتركي والفارسي والهندي، والتتري والصيني، والملاوي
والزنجي، الحضري منهم والبدوي، فأقبل كثير من المعرضين، وعرف كثير من
المنكرين، ونطق كثير من الساكتين، ودعا كثير من المثبطين، وادعى كثير من
الكاذبين، فإن كان قد آن لمن تمهد لهم الطريق أن يقولوا؛ فقد آن للممهٍّدين أن
يسيروا، ولمن قالوا من قبل أن يفعلوا، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى
صِرَاطِ الحَمِيدِ} (الحج: 24) .
هذا ما أعد الله له الأمة، بعد أن طال عليها أمد الغمة، رأى أهل البصيرة من
عقلائها ما أصابها من الأدواء، وشعروا بشدة الحاجة إلى الدواء، كان مرضها
واحدًا، فكان شعورهم كذلك واحدًا، ذلك بأن الإسلام قد جعلها أمةً واحدةً في صحتها،
وواحدةً في مرضها، لم يقو على توحيده إياها اختلاف المذاهب واللغات ولا تباعد
الجهات وتعدد الحكومات، فكما كانت صحتها بالاهتداء بكتابه وسننه، كان مرضها
بالإعراض عن هدايته، التي جمعت بين حقوق الروح وحقوق الجسد، واستقلال
العقل والإرادة في العلم والعمل، ورابطتي الأخوة والفضل والبر والعدل بين جميع
الملل والنحل [3] وإنما العلاج أن يرجعوا من دينهم إلى خير ما فقدوا، ويأخذوا
لمصلحة دنياهم أحسن ما وجدوا، وكذلك فعل المنعم عليهم، الذين كلفوهم التأسي
والاهتداء بهم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} (الممتحنة: 6) .
لقد رحضت النوازل هذه الأمة رحضًا، ثم مخضتها النوائب مخضًا، وقد آن
أن تخرج زبدها محضًا، فقد ظهرت نقطة من زمن بعيد، وكثرت ذراته من عهد
قريب، ولم يبق إلا أن ينجذب بعضها إلى بعض، وتتكون في جانب من الزق،
هنالك يظهر خير الإسلام، ويعرف فضله في جميع الأنام، وإن ذلك لواقع ماله
من دافع، إنهم يرونه بعيدًا، ونراه قريبًا، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ
وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
فالمنار يذكر مريدي الإصلاح في هذا العام، بوجوب التعاون على الاستمداد
من هذا الاستعداد العام، فبادروا إلى اغتنام فرص الزمان، وتعانوا على البر
والتقوى، ولا تعانوا على الإثم والعدوان، وما ذاك إلا أن تجتمعوا على حقكم،
وتتعارفوا أنتم ومن يشعر شعوركم ويرى رأيكم، وتوحدوا طريق التربية والتعليم،
في الجمع بين علوم الدنيا والدين، قبل أن يغلبكم على الأمة أهل التربية المادية
المضطربة، والتعاليم التقليدية المذبذبة، الذين تحولوا عن التقاليد الإسلامية، إلى
التقاليد الإفرنجية الصورية، فهم يدحرجون الأمة من تقليد إلى تقليد، {وَيَقْذِفُونَ
بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ: 53) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} (الحج: 3) .
لقد وقف سلفنا العقار والأراضي الواسعة، وبذلوا الدثور والأموال الكثيرة،
على معاهد العلم كالمدارس والمكاتب، ومعاهد التربية والإرشاد كالرباطات والتكايا
والزوايا، وها نحن أولاء نرى الخلف، قد أنشأوا يحيون سنة السلف، فهم يبذلون
الأموال الكثيرة للأعمال العلمية والخيرية، والأحزاب والجمعيات السياسية،
أفحسبتم أن الأمة تسخو في نهضتها على الحظوظ والمنافع العاجلة، وتبخل على
الإصلاح الإسلامي الجامع بين سعادة الدنيا والآخرة، تلك إذا كرّة خاسرة، وإنا
لمردودون في الحافرة، كلا إننا أمة قد كمنت فيها وما فارقتها الحياة، وإن الإسلام
نائم في قلوب العامة فيحتاج إلى إيقاظ، وقد كثرت صيحات الموقظين، إلا
أنهم لا يزالون متفرقين ومختلفين، وقد أذّن اليوم بينهم مؤذن التوحيد، {وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ
فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 21-22) .
إن المجتمعين أجدر بالفلاح من المتفرقين، وإن المتفقين أحق بالنجاح من
المختلفين، وإن المستقلين أولى بالثبات من المقلدين، وإن الثابتين أقوى في الجلاد
من المتزلزلين، على أننا لا نجالد أعداء الإصلاح بسيف ولا سنان وإنما نجادلهم
بالحجة والبرهان، ونحاكمهم إلى السنة والقرآن، ونصبر على ما آذونا، ونحسن
إليهم وإن أساءوا إلينا، ولكن لا نترك أمر الأمة في التربية والتعليم، يتنازعه
التفرنج الحديث والجمود القديم، فلهم دون ذلك ما يشاؤون، وليعملوا على مكانتهم إنا
عاملون، ولينتظروا إنا منتظرون، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا
رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .
يا أهل القرآن: إن القرآن كان حجةً لكم فصار اليوم حجةً عليكم، أخبركم الله
فيه أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن حقًّا
عليه نصر المؤمنين، وأنه وعد الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في
الأرض، وقال {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) ،
وبين ذلك بقوله ( {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) ، {إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْض} (الشورى: 42) ، فما
بال الناس يرثون أرضكم، ويخلفونكم في ملككم، وأنتم لا ترثون أرضًا، بل لا
تحفظون إرثًا، وما بالهم يسلكون كل سبيل للافتيات عليكم، وما بالكم تخربون
بيوتكم بأيديهم وأيديكم، كيف ذهبت عزتكم، وكيف خَضّدت شوكتكم، وكيف كنتم
تأخذون فتحمدون، فصرتم تعطون فتذمون، هل رضيتم بأن تكونوا من الظالمين
الباغين بَعْد أنْ كنتم خير العادلين المحسنين؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أترضون
أن تكونوا ممن نزل فيهم {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} (الحشر: 14) ألا تتدبرون قوله
تعالى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) .
يا أهل القرآن: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) ، وجعلكم الله أمةً وسطًا لتكونوا شهداء على
الناس من أفرط منهم ومن فرَّط، ولكنكم غيرتم ما بأنفسكم، فغير الله ما بكم، فتنبه
الوثنيون وأنتم غافلون، واجتمع اليهود وأنتم متفرقون، وسبق النصارى وأنتم
متخلفون، وها أنتم أولاء تستيقظون، فإن سرتم الهوينا فالناس مجدون، وإن كنتم
لا تزالون تختلفون فهم يتفقون، فلا يفرقن بينكم جنس ونسب، ولا لغة ولا مذهب،
ولا سياسة ولا مشرب، فإن تفرقتم فهى القاضية، فإنما يأكل الذئب من الغنم
القاصية، واعتبروا بتأريخ من قبلكم، وبأحوال الأمم في عصركم، وتدبروا القرآن،
وما بينه من سنن الله في نوع الإنسان، فقد آن الأوان واستدار الزمان، واتصل
القريب بالبعيد، وامتاز الغوي من الرشيد، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ
أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
_________
(1)
إشارة إلى حديث مسلم الذى يحتج به اليائسون وهو حجة عليهم.
(2)
إشارة إلى قول الأستاذ الإمام إني أرى في هذه الشجرة الجرداء.
(3)
كتبنا في المنار من قبل مقالةً في جنسية الإسلام بينا فيها أن الإسلام برابطتين اجتماعيتين أحدهما دنيوية اجتماعية وهى تربط جميع من يعيشون في داره ويخضعون لسلطانه بشريعة العدل والمساواة والبر والإحسان مهما اختلفت أديانهم، والثانية روحانية تربط الآخذين بعقائده وآدابه بأخوة أخرى.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الانتقاد على المنار
نعيد الاقتراح على العلماء المخلصين بأن يكتبوا إلينا بانتقاد ما يرونه مُنتَقَدًا في
المنار من مسائل الدين وغيرها عملاً بما أوجب الله تعالى من التواصي بالحق
والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكننا نشترط أن تكون الكتابة مختصرة بقدر الإمكان وأن تذكر المسألة
المنتقدة، ويبين المكان الذي نشرت فيه بأن يقال هي في جزء كذا من مجلد كذا وإذا
ذكر عدد الصفحة يمكن أن يُستغنى عن عدد الجزء، وأن لا يحتج علينا في المسائل
الدينية بأقوال بعض العلماء؛ بل بالكتاب والسنة، وكذا الإجماع والقياس فيما
هما حجة فيه، وأنْ لا يكون في الكلام استطراد إلى مسائل أخرى لا تفيد في
بيان المراد من الانتقاد، فمن خالف شيئًا من هذه الشروط فلنا الخيار في نشر ما
يكتبه وتركه أو نشر ملخصه، ولو بالمعنى؛ لأنه لا يمكن أن نَشْغِلَ كثيرًا مِن
صفحات المنار بالجدل والقيل والقال.
انتقاد أحمد بدوي أفندي
وليعتبر القراء ذلك بانتقاد أحمد بدوي أفندي النقاش عليه وعلى جميع المسلمين
في مسألة القضاء والقدر انتقادًا مبهمًا على غير شرطنا فقد نشرنا كلامه على عِلَاّتِهِ
وأجبنا عنه فانتقل إلى الانتقاد علينا وعلى سائر المسلمين في عقيدة القسمة {فَرِيقٌ
فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وفي علم الله تعالى بأعمال الناس
قبل وقوعها فنشرنا كلامه على علاته أيضًا وأجبنا عنه، فأرسل إلينا ردًّا آخر يزيد
على ثلاثين ورقة، أرسلها إلى إدارة المنار، وأرسلتها الإدارة إلينا في القسطنطينية
فقرأنا جُملاً مِن مواضع منها فإذا هي مملوءة بالتناقض والعسلطة والأغلاط اللغوية
حتى في بديهيات النحو، وقد لامنا كثير من القراء على ما نشرنا له مِن قبل، فماذا
يقولون إذا نشرنا له هذه الرسالة الطويلة العريضة؟ وما وعد بإرساله بعدها لتوضيح
مسائلها؟
يقول أحمد بدوي أفندي إننا ظلمناه فيما كتبناه عن إنكاره لعلم الله بجزئيات
أعمال الناس كلها قبل وقوعها وجاء بفقرات من رسالته يحتج بها علينا في ذلك ثم
إنه أهاننا بفقرات كثيرة وعيَّرنا بتقليد الغزالي كما عيَّرنا مِن قبل بتقليد ابن تيمية
فليقل في ذلك ما شاء سامحه الله تعالى نحن نتمنى لو يكون مصيبًا ونكون مخطئين
فيما فهمناه مِن كلامه، وللقراء حكمهم في ذلك.
قد انطبع في ذهن أحمد بدوي أفندي مسائل في فلسفة الدين مخالفة لما فهمه
المسلمون ولما جروا عليه من الصدر الأول إلى اليوم وهو يريد بثها في المنار
والمناضلة عنها فيه على كونه عاجزًا عن بيانها، وعن فهم ما يرد عليها لضعفه في
اللغة العربية وعلى إعجابه بها، بحيث لا يطيق قبول شيء يخالفها فنحن لا ننشر
له بعد الذي نشرناه شيئا منها لأسباب:
(منها) أن المنار لم ينشأ لنشر فلسفة الأفراد الشاذة التي تهوش بعض
الأذهان، ولا تنفع أحدًا لما فيها من البطلان في بعض المسائل والعسلطة والخطأ في
العبارة.
(ومنها) عدم الرجاء في إرجاع صاحبها عن خطئه لإعجابه برأيه وكونه لا
يفهم ما يوجه إليه من الكلام العربي الصحيح فهمًا تامًا، وأوضح الآيات على ذلك
أنه فهم من قراءة المنار في الزمن الطويل أن منشئ المنار مقلد لبعض العلماء
كالغزالي.
(وهذا ما جزم به في رسالته الأخيرة التي لم ننشرها) وأنه مع ذلك يدعو
الناس إلى تقليد نفسه!
(ومنها) إضاعة كثير من صفحات المنار فيما نعتقد أنه يضر ولا ينفع،
فلأحمد بدوي أفندي أن ينشر فلسفته في مجلة ينشئها أو كتب ورسائل ينشرها أو
يبحث عن مجلة غير المنار.
هذا وإننا بعد هذا كله نحترم استقلال الرجل بفهمه ونعذره من بعض الوجوه
على ما نراه مخطئا به، ونقول: إنه يجوز أن تكون تخطئتنا له في بعض المسائل
لضعف عبارته وكونها لا تؤدي مقصده، ولكننا نجزم بأنه على استعداده للفلسفة
الدينية قد أخطأ ويخطئ كثيرًا في فهم القرآن وفي النظر والاستدلال، ولعلَّه لو أتقن
اللغة العربية واطلع على كتب التفسير والحديث، وترك الإعجاب برأيه يجيء منه
خير كثير والله الموفق.
_________
الكاتب: محمد البشير النيفر
آدم أبو البشر
جاءنا من السيد محمد البشير النيفر المدرس بجامع الزيتونة في (تونس) ما
يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزاهر،
أقامنا الله وإياه على الطريقة المثلى.
إنا نقرأ في فاتحة كل مجلد من مناركم وخاتمته الدعوة إلى انتقاد ما يهم انتقاده
من مسائل الدين أو السياسة وذلك - والحمد لله - من أمتن البينات على طهارة نيتكم،
وكنا نود لو يرزقنا الله سعة في الوقت حتى نكتب إليكم في شأن ما أشكل علينا من
مسائل قليلة جاءت في التفسير وغيره إحياء لشعيرة من شعائر الدين أماتها الجهل
بأصوله، وقد رأينا في باب التفسير من العدد السابع من مجلد هذه السنة (سنة
1327) رأيًا في أبوة آدم للبشر لا يرتضيه القرآن فيما نرى فبادرنا إلى الكتابة
إليكم في ذلك، ونحن في يقين من نزاهة ضميركم عن التعصب والله الموفق.
قلتم: إن للأستاذ الإمام رأيين في تفسير آية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) .
أحدهما: أن ليس المراد بالنفس الواحدة آدم لا بالنص ولا بالظاهر.
ثانيهما: أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع ينطق بأبوة آدم للبشر أجمعين
ويظهر لي من جانبكم الرضا عما ذهب إليه - تغمده الله برحمته - ولكن العبد
أشكل عليه الرأيان لِمَا سأُبَيِّن.
أما الأول: فلأن حمل النفس الواحدة على أصل من أصول العرب لا يرضى
به التعبير بالناس، والروايات المستفيضة في مَدَنيَّة السورة تقعد في طريق من يحمل
الناس على أهل مكة، فالظاهر الحمل على العموم، وليست الآية الكريمة كآية
الأعراف {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) الآية لوجهين:
الأول: أن سورة النساء مدنيّة، وسورة الأعراف مكيّة.
ثانيهما: أن في حمل آية الأعراف على العموم مسًّا لمقام النبوة فما أبعد ما
بين الآيتين!
وأما الثاني: فلأن القرآن الشريف، والسنة السنية ناطقان بأبوة آدم للبشر
أجمعين وإخراج ما جاء في ذلك عن ظاهره رعيًا لمذهب دارون يشبه أن يكون من
تفسير القرآن بالرأي الذي كان يشنؤه الإمام رحمه الله وجريتم حفظكم الله على
طريقته في ذلك.
نداء القرآن للناس ببني آدم في مقام الوصية بأخذ الحذر من وسوسة إبليس
وفتنته ومقام التشريع العام ظاهر في أن المكلفين عن بكرة أبيهم أبناء آدم عليه
السلام، وما نقلتموه عن الأستاذ الإمام في تأويل ذلك بعيد كما يتجلى لفضيلتكم بقليل
من التدبر وأية نكتة في توجيه الخطاب إلى بني آدم إذا كان التكليف يشملهم وغيرهم.
أما السنة السنية فمن أظهر ما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم
من آدم وآدم من تراب) وما جاء في حديث الإسراء من الأسودة عن يمين آدم
وشماله، وأنها نسم بنيه أفكانت أرواح غير الآدميين في مقر آخر أم كانت في ذلك
المقر ولكن لم يهتم بها آدم عليه السلام ولا النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم
يسأل عنها لأنها ليس لها في الآخرة مقام معلوم، وأصرح من ذلك وهذا حديث
الشفاعة (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم
فيقولون أنت أبو الناس) الحديث، وفي سعة علمكم بالسنة ما يغني العبد عن حشر
أكثر من هذا إن لم تكن الآيات والأحاديث نصوصًا قاطعة في الموضوع، فهي
ظاهرة فيه، (والظواهر إذا اجتمعت أفادت القطع) - كما يقول الأصوليون - ولو
ذهب ذاهب إلى أنها لا تفيد أكثر من الظن كان القائل بأبوة آدم للناس أجمعين أن
يسأله عن الوجه في إيثار ذلك الظني على هذا الظني، فإن كان الوجه عنده درء ما
عساه أن يرد على القرآن من شبهات العلماء القائلين بذلك فالذين لا يؤمنون بالغيب
أكثر من أولئك عددًا وأقوى شبهًا فهل نُؤِّول الآيات الواردة في عالم الغيب بما لا
يكدر مشربهم وينقض مذهبهم؟
أما قولكم حفظكم الله تعالى: (إن المسألة علمية لا دينية وقولكم إن المتبادر
من النفس بقطع النظر عن الروايات والتقاليد المُسلَّمات هي تلك الحقيقة الجامعة
التي يُعبَّر عنها بالإنسانية أو قريب من هذه العبارات) فللعبد فيهما نظر.
أما الأول فلأن ما بين دفتي المصحف دين لا شيء منه بجائز مخالفته وهل
يأذن الدين لأحد أن يذهب إلى ما لا يصادق عليه القرآن في تكون الجنين باسم
علمية هذا البحث، أم هل يأذن لأحد أن يقول بما ينقضه القرآن في تأريخ فرعون
باسم أن المسألة تاريخية؟
وأما الثاني فلأن تلك الحقيقة الجامعة التي يعبر عنها بالإنسانية أو البشرية أمر
اعتباري لا يصح أن يكون منشأ الخلق والإيجاد هذا ما يتسع له الوقت من البحث
وفيما آتى الله فضيلتكم من البسطة في العلم والاستقامة في الرأي ما يغني عن
التذكير بأقل من هذا والسلام عليكم أولاً وآخرًا.
…
...
…
...
…
... كُتِبَ في 27 رمضان عام 1327 هـ
(المنار)
نشكر لأخينا في الله انتقاده وتذكيره وغَيْرَته على الدين والعلم ونجلي ما أَلَمَّ به
من المسائل بما يأتي:
(1)
إن الأستاذ الإمام لم ينف كون آدم أبا البشر كلهم ولا قال: إن القرآن
ينبغى أن يؤول ليوافق دارون أو غيره ولا قال إنه قد ثبت رأي الذين ينفون كون
آدم أبًا لجميع البشر ثبوتًا قطعيًا، حتى نؤول لأجله كما صرحنا بذلك في تفسير
الآية ولم يتكلم أيضًا في تحقيق المسألة في نفسها (مسألة أبوة آدم) وإنما قصارى
رأيه أنه إذا ثبت ما يقولون لم يكن ذلك مخالفًا للقرآن فيكون شبهة على الإسلام،
ونحتاج إلى التأويل، فعلى هذا يكن فهمه رحمه الله للآية ليس من تفسير القرآن
بالرأي سواء كان فهمه صوابًا أم خطأً، لأنه لم يحاول أن يرجع القرآن إلى رأي رآه
أو وافق عليه غيره وإنما فهم الآية وأمثالها فهمًا لا يرد عليه اعتراض ولا مجال معه
للطعن في القرآن في هذه المسألة.
(2)
قلتم إنه ظهر لكم أنني راضٍ عما ذهب إليه قلتم هذا بعد نقل المسألتين
فعلم منه أنكم فهمتم أنني راضٍ عنهما كلتيهما، وقد رأيتم في كلامي الجواب عما
استدل به من تنكير ما بثه في النفس الواحدة من رجال ونساء وتفسير النفس الواحدة
بغير ما فسرها به رحمه الله تعالى وغير ذلك، وفيه الوعد بتحقيق مسألة ما يفيده
مجموع آيات القرآن المنزلة في خلق الإنسان عند تفسيرما ورد من ذلك في سورة
الحجر أو سورة (المؤمنين) ، فعلم من هذا الوعد أننا لما نبين رأيًا فيما يدل
عليه مجموع القرآن في خلق الإنسان وإنما كلامنا محصور في تفسير تلك الآية بحسب
ما فهمه الأستاذ الإمام وفهمه هذا العاجز من تلاميذه المستقلين الذي لا يقلدونه تقليدًا
في شيء ما وما كان يرضى أن يقلده أحد في شيء، وإنما كان يحث على الاستقلال،
وبعد هذا كله أقول: إن ما استظهرتموه صحيح في الجملة وتسرون وجهه فيما يلي
هذا من الوجوه والمسائل.
(3)
ذكرتم أن للأشكال عندكم مثارين: فأما المثار الأول وهو كون السورة
مدنية لا يجوز أن يراد بالناس فيها أن يراد بالناس فيها أهل مكة فالخطب فيه سهل
فإنكم قد رأيتم أننا اعتمدنا كون السورة مدنية وكون الخطاب فيها ليس لأهل مكة
خاصة ولكن هذا لا يقضي كون القول بهذا شاذًا فإنه معزو إلى إمام المفسرين
ومعولهم وهو ابن عباس رضي الله عنه وعبر الرازي عن مقابله بالأصح
ومقابل الأصح هو الصحيح، فإن لم يكن الخطاب لأهل مكة جاز أن يكون للعرب
عامة ولا يقعد في طريق هذا كون السورة مدنية، ولا كون الإسلام دينًا عامًا كما أنه
لا يقعد في طريق غيره من الخطاب الذي وجه إلى العرب أو إلى بعض الأقوام أو
الأشخاص، فإن عموم الأحكام الشرعية معتبر فيما كان مورده خاصًا ولو شخصيًا مالم
يقم دليل على الخصوصية، مثال ذلك في العرب قوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ} (التوبة: 128) فإن تفسير أنفسكم بالعرب لا ينفي كون الرسالة عامة
لجميع البشر، ومثاله في الأمور الشخصية ما ورد في الإفتاء عقب استفتاء بعض
المؤمنين وأسئلتهم المعبر عنها بمثل يسألونك ويستفتونك كما هو مكرر في سورة
البقرة وسورة النساء، وكأن يكون المخاطب بالجواب هو السائل والحكم عام
بالإجماع، على أننا لم نجعل كون الخطاب لأهل مكة هو العمدة في الاستدلال على
ما فسرنا به النفس الواحدة ولا كونه للعرب وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة:
(4)
وأما المثار الثاني للأشكال وهو ما ورد من الكتاب والسنة في أبوة آدم
لجميع البشر فهو على تقدير تسليمه فيهما معًا لا يقتضي كون النفس الواحدة في الآية
الأولى من سورة النساء هي آدم، إذ يجوز أن يثبت ذلك في آيات غيرها وأحاديث
ولا يكون هو المراد منها، ولم يقل الأستاذ الإمام - ولا قلنا- إن هذا الآية تنفي
كونه أبا البشر، ولكم أن تحتجوا بذلك على قوله رحمه الله: إنه ليس في القرآن نص
أصولي قاطع على أبوة آدم لجميع البشر وستعلمون ما فيه.
(5)
أنكم قد ذكرتم أن حمل آية الأعراف على العموم لا يصح لأنه يمس
مقام النبوة، فإذا امتنع هناك أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم فلم لا يجوز أن
يمتنع هنا وهو ليس متبادرًا من اللفظ العربي بحد ذاته، حتى نقول: إننا أَوَّلْنا آية
الأعراف لتطابق القول بعصمة الأنبياء ولا حاجة إلى تأويل آية النساء، فالصواب
أنَّ عدم حمل النفس الواحدة على آدم في الآيتين ليس تأويلاً لهما؛ لأن لفظ النفس
ليس مرادفًا لكلمة آدم؛ يوضح ذلك الوجه الآتي:
(6)
إن ما يراد في تفسير مبهمات القرآن لا يجعل اللفظ المبهم نصًّا ولا
ظاهرًا في المعنى الذي فسر به في الحديث ولا في القرآن نفسه إنْ وُجِدَ، ولكننا نقبل
ذلك التفسير إذا صح عندنا، مثال ذلك أن يصح في حديث أن المراد بقوله تعالى
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى} (القصص: 20) هو فلان بن فلان، فإننا
نقبل هذا التفسير على الرأس والعين ولكننا لا نقول: إن لفظ رجل في الآية هو نص
أو ظاهر في ذلك الرجل المعين؛ لأن العربي الذي لا علم له بذلك الحديث لا يفهم
هذا المعنى من اللفظ، ولم يَرِدْ في الكتاب ولا في الحديث تفسير للنفس في آية
النساء بآدم ألبتة، فكيف نقول: إن ما ورد في ذلك يجعلها نصًّا أو ظاهرًا، وهو لم
يرد تفسير لها؟ وهذا هو مرادنا مما قلناه في (ص486م12) إن الذين فسروا
النفس الواحدة بآدم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة
المسلمة عندهم، وهي أن آدم أبو البشر.
(7)
استدل صديقنا المنتقد على كون جميع الناس من بني آدم بنداء الله
تعالى في القرآن لبني آدم في مقام الوصية بالحذر من فتنة الشيطان ووجه الاستدلال
عنده أنه إذا لم يكن المراد ببني آدم جميع المكلفين لا يكون في توجيه الخطاب إليهم
نكتة.
ويمكن أن يجاب بأن نكتة ذلك في الآية التي أشار إليها هي إقامة الحجة عليهم
بما كان من عاقبة وسوسته لأبيهم والعبرة في ذلك لسائر المكلفين الذين لا يعتقدون
أنهم من ذرية آدم كأهل الصين؛ هي أن الشيطان يردي من أطاعه فيجب أن يجتنبوا
طاعته كما يجب أن يجتنبها أبناء آدم، ونظير ذلك اعتبار المسلم بمثل قوله تعالى
{يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: 68)
فيعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من الإسلام حتى يقيم القرآن، وقد أشارت
عائشة إلى هذا المعنى في حديث لعن أهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
فقالت (يحذر ما صنعوا) وقد بينا آنفًا أن توجيه الخطاب في القرآن إلى قوم أو
أناس معينين لا ينافي عموم التكليف فإذا فرضنا أن بني آدم هم العرب ومن كان
يساكنهم من أهل الكتاب وأن الخطاب في مثل تلك الآية خاص بهم لوجود النبي
بينهم فلا يمنع ذلك أن يَعْتَبِرَ بالموعظة التي في الخطاب مَنْ يدخل في الإسلام من
غيرهم ومن ذلك خطاب الأنصار بقوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا
تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) وهي هداية لجميع المسلمين أيضا كما قبلها وبعدها.
(8)
بعد هذا يمكن أن يقال إذا كان في البشر ألوف الألوف لا يعتقدون أنهم
أبناء آدم، ولم يسمعوا باسم آدم فما هي نكتة خطابهم ودعوتهم إلى الإسلام بنسبتهم
إلى آدم والمأثور المعقول أن يخاطب الناس بما يعرفون وأن يحمل حديث العاقل للقوم
على ما يعهدون في مثل النداء فإن أراد إعلامهم بشيء مخالف لما يعتقدون جاء به
بصيغة الخبر المؤكد كما هي سنة القرآن المطابقة لقوانين البلاغة العليا ويشيرون إلى
هذا في أول كتب المعاني وفي صحيح البخاري من حديث علي موقوفًا (حدثوا الناس
بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟) وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن
مسعود (ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) .
وورد في الضعاف المتعددة الطرق عن ابن عباس مرفوعًا (أُمرنا أن نكلم
الناس على قدر عقولهم) ، وهذا الوجه أي كون كثير من البشر لا يعرفون آدم ولا
يعتقدون أبوته لهم هو العمدة في جزم الأستاذ الإمام بعدم حمل آية أول النساء على
هذه المسألة المشهورة عند العبرانيين والعرب مع كون لفظها ليس نصًا ولا ظاهرًا
فيها من حيث لفظها، وقد أجاز أن يطبق كل قوم اعتقادهم عليها.
(9)
إن ما أوردتموه من الأحاديث ليس نصًا أُوصوليًا في المسألة فإن
المخاطبين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (كلكم من آدم) لم يكن فيهم أحد من
الصينيين ولا من هنود أميركا ولا من (أهل ملقا) ولكن الحديث يكون هداية لهؤلاء
بعد دخولهم في الإسلام على الطريقة التي أشرنا إليها في بعض المسائل السابقة،
وكذلك حديث الأسودة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم عن يمين آدم وشماله لا
تدل على كونه أبا لجميع البشر، ولا يعارض هذا كونه صلى الله عليه وسلم لم يذكر
أنه رأى هنالك أو في مكان آخر نَسَم قوم آخرين من البشر كما أن ذكره لبعض
الأنبياء في ذلك الحديث لا يمنع أن يكون هنالك أو في مكان آخر أنبياء آخرون
فالحديث لم يرد في بيان مقر جميع أرواح البشر والأنبياء، ولا دليل فيه على كون
ما رآه يكون دائمًا حيث رأى، فقد ورد في مقر الأرواح أحاديث أخرى والظاهر أن
ما رآه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة قد مثل له حيث رآه لأجل أن يراه
والله أعلم حيث يكون في سائر الأوقات، وقد مُثِّلَتْ له صلى الله عليه وسلم الجنة
في عرض الحائط وهي هي التي عرضها كعرض السماء والأرض، وكذلك يقال
في حديث الشفاعة، فإنَّ تَحدُّثَ ولد آدم بالذهاب إليه هو كتحدث اتباع كل نبي ذكر
في الحديث بالذهاب إليه، ولا ينافي ذلك أن يكون في البشر أقوام آخرون لا يتحدثون
بالذهاب إلى أحد أو يتحدثون بالذهاب إلى أنبيائهم لرجائهم فيهم {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ
خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) .
(10)
إذا فرضنا أن هذه الأحاديث تدل وحدها أو مع غيرها على كون آدم
عليه السلام أبًا لجميع من وجد في الأرض من البشر بالنص أو بالظاهر فلا يقتضي
أن يكون ذلك تفيسر للقرآن إذا لم يكن لفظه نصًا ولا ظاهرًا في ذلك، والأستاذ
الإمام لم يتعرض لما ورد من الأحاديث في المسألة وإنما اكتفى ببيان كون ما يعتقده
كثير من البشر في أصلهم ومنشئهم لا حجة فيه على القرآن إن صح ولا وجه لأن
يكون حائلاً دون إيمانهم به ولم يتعرض لمثل هذا في الأحاديث.
(11)
نحن نعتقد أن أسلوب القرآن في الإجمال والإبهام والإطلاق والعموم
هو من أقوى وجوه الإعجاز فيه وأسباب تعاليه عن تطرق الريب إليه وتحويم
الشبهات حوله، وليس هذا الأسلوب بالصناعة التي يقدر عليها البشر فإننا نرى أعلم
العلماء منهم في علم أو فن يؤلف فيه كتابًا فلا يمر عليه إلا زمن قليل حتى يظهر له
ولغيره الاختلاف والخطأ فيه وقد مر ثلاثة عشرة قرنًا ونيف ولم يظهر في هذا
القرآن الذي جاء به النبي الأمي الناشئ في الأميين خطأ ولا اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ
عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) والأحاديث ليس لها هذه
المزية في الإعجاز وكثير منها منقول بالمعنى ومنها ما كان يقوله النبي صلى الله
عليه وسلم عن اجتهاد لا عن وحي ولا سيما المتعلق منها بأمور العالم دون أمور
الدين، أفيصعب على بعض المسلمين إظهار هذه المزية لكتاب الله في بعض
المسائل على غير الوجه المشهور عندهم وإن لم ينقض ذلك المشهور في نفسه،
وكان ينبغي للمنتقد أن يذكر ما عنده من الجواب لمن يوقنون بأن البشر من عدة
أصول كما تمنينا في (ص 488م12) .
(12)
يقول المنتقد: إن شبهات الذين لا يؤمنون بالغيب على الآيات
الواردة في عالم الغيب أقوى من شبهات الذين ينكرون كون آدم أبًا لجميع البشر أو
يعتقدون أن لهم عدة آباء فهل تؤول آيات عالم الغيب ما لا يكدر مشربهم ولا ينقض
مذهبهم، ونقول إن هذه الدعوى ممنوعة فالذين لا يؤمنون بالغيب لا يوردون
شبهات على عالم الغيب وإنما هم قوم تابعون لحسهم يقولون إننا لا نؤمن إلا بما نراه
أو نحس به وهو يعلمون أن عدم الإحساس بالشيء أو عدم العلم به لا يقتضي عدمه
في نفسه ومن تقوم عنده الحجة منهم على الوحي والنبوة لا يرى أخبار عالم الغيب
مانعة من إيمانه وما كنت أظن أن هذا يخفى على المنتقد الفاضل ولعله سرى إليه من
بعض المارقين الذين كفروا بالله ورسله تقليدًا لبعض الإفرنج إذ يسمعهم أو يسمع عنهم
إنكار الملائكة والجن، فليسألهم عن دليل هذا الإنكار هل يجد عندهم دليلاً أو
شبه؛ لالا! وإنما يقولون إنه لم يثبت عندنا بالحس ولا بالدليل العلمي، ونحن
المؤمنين نقول مثل ذلك ونزيد أنه ثبت عندنا بخبر الصادق الذي هو أصدق ممن
تثقون بخبرهم إذا قالوا لكم إن في الكون كذا كذا من الغرائب الطبيعية.
(13)
أُذَكِّر المُنْتقد بمسألة لا ينبغي أن ينساها المستقل في العلم الذي يعنيه أن
يفهم القرآن فهمًا صحيحًا وقد صرحنا بها في المنار من قبل، وهي أن الاصطلاحات
الشرعية والفنية الحادثة بعد نزول القرآن والروايات والتقاليد المشهورة في تفسيره
هذان الأمران هما اللذان يحولان كثيرًا دون فهم القرآن بما تعطيه عبارته الفصحى
ويتبادر من أسلوبه الأعلى، فيجب أن يكون القرآن فوق الاصطلاحات والمسلمات
كلها، وأن يستعان على فهمه بالروايات الصحيحة التي لا تخل بما يتبادر من عبارته
وأسلوبه البليغ وحكمة كونه هداية لجميع البشر في كل زمان ومكان، وإننا نرى كثيرًا
من المفسرين يخطئون عند غفلتهم عن هذه القاعدة ويخالفون الروايات المأثورة عن
السلف عند تنبههم لها إذا رأوا الرواية مخالفة لمنا يقتضيه الأسلوب العربي بحسب
فهمهم، ومن ذلك ما سنراه في تفسير الجزء الثاني عن ابن جرير شيخ المفسرين
الأولين.
(14)
أما انتقاده - نفعنا الله بغيرته على العلم والدين - قولنا إن المسألة علمية
لا دينية فإنني أجيب عنه بالإيجاز وإن لم أتذكر أنني قلت هذا في تفسير الآية ولا أجد
وقتًا للمراجعة، فأقول: إن ما يذكر في القرآن من أمور الخلق وعجائبه وأسراره
لا يراد به شرح أحوال المخلوقات، وبيان ما هي عليه في الواقع تفصيلاً لأن هذا
ليس من مقاصد الدين وإنما يذكر على أنه من الآيات على قدرة الله وعلمه وحكمته
في خلقه ورحمته بعباده، ومن المنبهات للانتفاع بما في هذه المخلوقات والشكر عليها،
ولذلك يستعمل فيها المجاز والظواهر المتعارفة بين الناس وتحديد المسائل العلمية لا
يكون بمثل هذا كقوله تعالى {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) فلا
يراد به أن ذا القرنين وجد الشمس تنزل من السماء فتغرب في عين حمئة من عيون
الأرض، ومع هذا كله لا يكون خبر القرآن إلا صادقًا، ولكننا لا نعرف أن أحدًا من
علماء المسلمين عنى كعنايتنا وعناية شيخنا الأستاذ الإمام بالدعوة إلى الاهتداء
بالقرآن كله وصرف معظم عنايتهم إلى ما كثر الإرشاد إليه في آياته كالبحث في
خلق السماوات والأرض وما فيهما من البحار والأنهار والجبال والنبات والدواب
وغير ذلك، وكالسير في الأرض والاعتبار بسنن الله في أحوال الأمم بعد معرفة
تأريخها، فإننا نرى علماء المذاهب الدينية فينا قد أهملوا أكثر ما أرشد إليه
القرآن، وجعلوا الدين كله أو جله محصورًا في الأحكام العملية التي لم يعن القرآن
بها وهي أقل ما ورد فيه ولا سيما الأحكام الدنيوية كالبيوع والشركات والمخاصمات
فلا يقال لمثلنا: إن كل ما في القرآن دين، وإن الدين لا يأذن لأحد أن يقول قولا لا
يصادق عليه القرآن فنحن الذين ندعو دائمًا إلى جعل حكم القرآن فوق كل حكم وهديه
فوق كل هدي وخبره فوق كل خبر، وإنما يقال ذلك لغيرنا من علماء المسلمين الذين
قالوا حتى في الأحكام التي هي عندهم جل الدين ما لم يصادق عليه القرآن كقولهم إن
مدة الحمل تكون في الواقع المعتبر شرعًا أكثر مما حدده القرآن من مدة الحمل
والفصال جميعًا وقد رأى صديقنا المنتقِد ما كتبناه في ذاك بالجزء الأخير من المجلد
الماضي، فإذا جاز أن يعتمد أئمة الفقه منا على قول بعض النساء اللواتي هن
مظنة الخطأ والكذب فيما لا يصادق عليه القرآن وقد نطق بغيره بناء على أن ما
نطق به يحمل على الغالب المعروف عند جمهور الناس فلم لا يجوز عند أتباعهم أن
يعتمد على قول جمهور العلماء الباحثين المدققين في مسألة علمية لم يرد في القرآن
نص فيها وإنما ذكرت مبهمة في سياق مقصد من مقاصده كحث الناس على أن
يتقوا الله في ذوي أرحامهم والضعفاء منهم لأنهم من أصل واحد أو جنس واحد
وعبر عن ذلك بالنفس الواحدة، ولكنه لم يبين حقيقة تلك النفس على أننا لم نحمل
الآية ولا غيرها من الآيات على ما قاله أولئك العلماء الباحثون في أصول البشر
وخلقهم، ولكننا اخترنا أن ندع ما أبهمه القرآن على إبهامه (ص486م12) وهو
تنكير تلك النفس وعدم تعيينها أو فهمها مما يتبادر من اللفظ العربي بصرف النظر
عما وراءه من الروايات والتقاليد المسلمات التي ليست بنص عن المعصوم
في تفسيرها (ص488م 12) .
(15)
وأما انتقاده الأخير على قولنا في تفسير النفس المتبادر من اللفظ فقد
بناه على ذكر لفظ الإنسانية في عرض كلامنا وتفسيره إياه بالمعنى المشهور بين
العامة ناسيًا ما فسَّرْناه به وما عبَّرْنا به في أول العبارة عنه من قولنا هو الماهية أو
الحقيقة التي بها كان إنسانًا، ونعني بذلك الروح الإنسانية التي اتحدت بالجسد فصار
مجموعهما حيوانًا ناطقًا لولاها لم تكن هذه المواد الترابية التي تكون منها جسد
الإنسان خلقًا آخر حيًّا ناميًا متحركًا، فهل يقول: إن هذه الحقيقة الإنسانية أمر
اعتباري؟ كلا إنها خلق وجودي مستقل.
(16)
بعد أن طبع تفسير تلك الآية في المنار نقحناه وزدنا فيه فوائد أثبتناها
في نسخة التفسير التي تطبع على حِدِّتِها منها أن لبعض الباحثين من المسلمين
العصريين رأيين آخرين في النفس الواحدة، أحدهما أنها الأنثى ولذلك وردت مؤنثة
في كل آية وصرح بتذكير زوجها الذي خلق منها في بعض الآيات وثانيهما أنها
كانت جامعة لأعضاء الذكورة والأنوثة وذكروا لذلك نظائر أثبتها العلم الحديث ،
فيراجع هذا في (ص331 ج4) من التفسير وسيصدر بعد زمن قليل.
هذا ما سمح لنا به الوقت من إيضاح المسائل المتعلقة بهذا الانتقاد.
وصفوة القول: إن ما أوردناه في التفسير لا ينفي القول بأبوة آدم لجميع
البشر وقد وعدنا هنالك بتحرير هذه المسألة في موضع آخر من التفسير.
_________
الكاتب: رفيق بك العظم
قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام [
1]
أيها السادة:
كلمتي اليوم في قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام، وحيثما قلت قضاء
الجماعة فإنما أريد مدلوله العام أي القضاء والإفتاء والتشريع أو التفريع.
تعلمون أن كفالة العدل الذي هو مناط الراحة والسعادة في كل مجتمع إنما هو
القانون أو الشريعة التي تُصَان بها الحقوق، وتُرَد المظالم، ويعاقب المجرمون
المجترءون على انتهاك حرمة الراحة والأمن في الهيئة الاجتماعية، وهذه القوانين
إما أن تكون وضعية أو شرعية، وقد عرَّفها ابن خلدون بقوله:
(اذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت
سياسية عقلية؛ وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسية
دينية) ، وتعلمون أن الفقه الإسلامي، وأريد به قسم المعاملات لا العبادات هو قانون
المسلمين الشرعي مناط الأحكام التي يفصل بها في المنازعات والخصومات التي
تقع بين الناس.
أقول القانون الشرعي تجوزًا؛ إذ أن أحكام الشريعة الإسلامية وقانونها
الجامع إنما هو الكتاب والسنة وهما الأصل، أما الفقه فإنما يسمونه شرعًا باعتبار أن
مأخذه من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والإجماع والقياس فإذا انطبق عليه تعريف
ابن خلدون فإنما ينطبق عليه من هذه الجهة؛ أي أن تلك القوانين لها أصل في
الشرع؛ لأ انها هي بعينها المفروضة من الله.
وبما أن أساس التفريع أو التشريع عند الفقهاء هذه الأصول الخمسة فقد سموا
الأحكام الفقهية شرعًا، وخالفهم في ذلك كثير من أئمة العلم والمحدثين، فقالوا: كل
حكم لا يستند إلى دليل أو لا يعرف دليله من الكتاب أو السنة فليس بشرع.
وليس من غرضي في هذا البحث الحكم بين الفريقين، وإنما الغرض منه
تقديم مقدمة تساعدنا على الانتقال إلى النظر نظرًا صحيحًا في سير القضاء وتأريخه
وكيف كان القضاء والإفتاء في الإسلام؟ وما هو ضمان العدالة فيهما؟ وما منزلة
قضاء الفرد وقضاء الجماعة من الصواب والخطأ؟ ونستطرد من ثَمَّ إلى ما تخلل
التشريع والقضاء من الشؤون التي لا يخلو بيانها من فائدة وإن كنت لا أستطيع من
البيان غير جهد المقل.
علمنا أن أساس الشرع وأصله في الإسلام هما الكتاب والسنة؛ بمعنى أن
الأحكام الدينية أي العبادات والقوانين الدنيوية أو السياسية كما يسميها ابن خلدون
وهي أحكام المعاملات والعقوبات التي وردت في الأصلين المذكورين قد قرّرها
الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم فصارت شرعًا، وهذا الشرع لا يدخل تحت
مدلول قضاء الجماعة المراد به جعل قوة التشريع لا في يد واحد، بل جماعة إلا
من حيث لزوم فهمه على وجوهه التى أرادها الشارع اى إنّ تفهم الحكم من هذا
الأصل، وتقريره هو الذي يلزم أن يناط بالجماعة دون الفرد تفاديًا من الخطا
والإثم0
وتعلمون بالضرورة أن الأحكام التي شرعها لنا الشارع كانت تشرع تدريجًا
فكلما عرضت له حادثة، أو سئل عن حكم شرع له شرعًا حتى كان من ذلك في
الكتاب والسنة نحو ست مائة وخمسين حكمًا أو تزيد اعتبرها أئمة الفقه بعد ذلك
أساسًا للتشريع فوضعوا لنا كتب الفقه التي كانت في الممالك الإسلامية، ولم تزل
في بعضها مدار الأحكام الشرعية في المعاملات والعقوبات، وما يتبعها من قضاء المظالم والحسبة وسياسة الرعية وغير ذلك إلى اليوم.
ويبدأ تدوين الأحكام الفقهية من أواخر العصر الأول وأوائل الثاني فالتشريع إذًا
له في الإسلام تأريخان: تأريخ تقرير أصول الشريعة والعمل بهذه الأصول،
وتأريخ التفريع أو الفقه والعمل به. يتخلل ذلك أيضًا تأريخان: تأريخ حفظ
الشريعة في الصدور، وتأريخ قيدها في الدفاتر والسطور.
ولبيان ذلك وبيان كيف كان يقضي الصحابة والتابعون أقول: علمنا أن أساس
الأحكام ومدارها ومعوَّل القضاء في الصدر الأول كان على الكتاب والسنة، أما الكتاب
الكريم فقد كتب متفرقًا في عهد النبوة في خلافة أبي بكر كما هو معروف مشهور،
وأما السنة السنية فقد بقيت محفوظة في الصدور إلى أواخر عهد التابعين أو كتب
منها في غضون هذه المدة شيء يسير.
فكان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين ملازمًا للإفتاء بالضرورة؛ لأن القضاء
كان إلى الخليفة وهو لا يحفظ الأحكام التي وردت عن الشارع كلها؛ بل كان كثير
من الصحابة يحفظ كل واحد منهم شيئًا منها فاستفتاؤهم في معرفة الحكم ضروري
وإليكم ما روي عن قضاء أبي بكر وعمر.
أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم
نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب
وعَلِمَ من رسول الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب
وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين،
وقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع
عليه النفر كلهم يذكر من رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فيقول أبو بكر:
الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ من نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن
رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإن أجمع رأيهم على أمر قضى
به وكان عمر يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي
بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس المسلمين
فإذا اجتمعوا على أمر قضى به) .
هذه رواية البغوي عن قضاء أبي بكر وعمر، ومنها يتضح أن القضاء في
عهدهما قضاء الجماعة، وعليه يقاس قضاء من بعدهما من الخلفاء الراشدين في
الدور الأول لتأريخ القضاء في الإسلام أي إلى العهد الذي بدأ فيه التدوين والعمل
بالفروع؛ بدليل أنه كان في كل مِصْرٍ من الأمصار الإسلامية نفر من الصحابة ثم
التابعين يسمون الفقهاء لحفظهم الأحكام، وتفقههم في الدين، وكان يُسْتشارون في
النوازل عند القضاء فيها؛ لأنهم حُفَّاظ الشريعة والراوون للأخبار الصحيحة، فلا
مندوحة عن الرجوع إليهم في القضاء.
ومن الفقهاء الكبار في الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس
وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن
ثابت وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل ومن في طبقتهم ممن
يحفظ عن رسول الله قليلاً أو كثيرًا.
وقال ابن القيم: إن عدد من حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مئة ونيف
وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة، وكان أكثر هؤلاء موزعين في الأمصار
بالضرورة، وهم شورى القضاء حيثما وجد منهم جماعة يستشارون كما أثبت ذلك
التأريخ، وتلى هؤلاء طبقة أخرى من أصحابهم وهم التابعون صارت إليهم الفتوى
في الأمصار فكان في المدينة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد
وخارجة بن زيد إلى غير هؤلاء ، وتليهم طبقة أخرى منهم محمد بن شهاب
الزهري المشهور وأضرابه وطبقة أخرى فيهم الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب
في المدينة، وكان من المفتين في مكة عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان
ومجاهد بن جبر وغيرهم وتليهم طبقة ثم طبقة إلى قيام الإمام محمد بن إدريس
الشافعي صاحب المذهب في مكة.
وكان من المفتين في البصرة عمرو بن سلمة الجرمي وأبو مريم الحنفي
والحسن البصري وغيرهم وتليهم طبقة فطبقة، وعلى هذا تقاس بقية الأمصار
كالكوفة ومصر والشام وغيرها، وكلها كان فيها العدد الجم من التابعين يستشارون
في الأحكام ويتناقلون الشريعة حفظًا في الصدور إلى أن دونت في السطور.
إذا أضفنا إلى هذا أن رسول الله شرع لهم الاجتهاد عند عدم وجود النص،
وأن أبا بكر وعمر كانا لا يجتهدان في مسألة إلا إذا جمعا رؤوس الناس وخيارهم
لاستشارتهم، وحكمنا أن بقية الخلفاء الراشدين كانوا كذلك وقسنا على ورعهم ورع
من بعدهم من التابعين وتابعيهم واتباعهم سنن من قبلهم خوفًا من تبعة التفرد بالرأي
واعتصامهم بالشورى مع أهل العلم والحديث بدليل ما رواه عن قضاة الجماعة في
عصرهم ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن المسيب بن أبي رافع الأسدي المتوفى
سنة 105هـ قال: كان إذا جاء شيء من القضاء ليس في الكتاب ولا السنة سمي
(صوا) في الأمراء فيرفع إليهم فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق
إذا أضفنا هذا كله إلى ما سبق بيانه نتج لنا منه أن القضاء في العصر الأول كان
قائمًا بالشورى أو هو قضاء الجماعة الذي فيه كفالة الحقوق وتحري العدل والحق
وهو خير من قضاء الفرد وأبقى لسعادة الأمة وأضمن لبقاء الدول بلا ريب.
ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما
قد يتبادر إلى الذهن؛ بل هي بالمعنى المشترك أيضًا جعل قوة التشريع القضائي
مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتًا من الحكم
واطمئنانًا للدليل واعتمادًا على ما هو الأصلح عند الجماعة؛ إذا تعذر وجود النص.
إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد الشرع الإسلامي التي يُدفع بها الحرج
وتُدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند
الضرورة مع وجود النص كما يأتي بيانه بعد، ويتنازعون على المسألة الواحدة
يجيء بها النص من عدة روايات، أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتًا من الحكم
ورغبة بمحض الخير للأمة، والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة
للمستفتين، وقد قال ابن القيم: (تنازع الصحابة في كثير من الأحكام، ولكن لم
يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، أي المسائل التي
تتعلق بالإيمان) .
قلنا: إن المراد بقضاء الجماعة قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد؛
لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ، وأضمن للعدل، وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها
إلى الرأي والاجتهاد والقياس عند تعذُّر وجود النصر أو عند لزوم ترجيح رواية من
الروايات تحتاج إلى شروط قلَّما تتوفر في الفرد الواحد، وإن توافرت له فربما لا
يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من وجهه بحيث لا يخالفه فيه غيره
ممن هو في طبقته من أهل العلم.
اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في
تقرير فروع المذهب وأصوله متنهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار،
وتتبع أصول الشريعة، فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف أتباعهم بعد
ذلك اختلافهم أيضًا فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي على نفسه حتى وجد في
بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مِصْرٍ واحد من الأمصار الإسلامية
هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضًا في المسألة الواحدة، حتى أصيب
الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطراب أمر العدالة أيما
اضطراب، مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين.
لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم
أن يحيل بعضهم إلى بعض في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف
الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم، ولا سيما فيما يحتاج إلى الاجتهاد ما
يستشير خاصة المسلمين.
قلت - فيما سبق -: إن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم شرع لنا مراعاة
المصلحة، ولو مع وجود النص واقتدى به الصحابة الكرام في العمل بهذه القاعدة
وبيانًا لهذا أقول:
لما كانت الشرائع مبنية على درء المفاسد وجلب المصالح، والشريعة
الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقط سن الشارع إيقاف العمل
بالنص مراعاة للمصلحة، ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت المصلحة ولزومها
على وجه لا يقبل الشك في أن المصلحة التي تترتب على العدول عن النص أكثر
من المصلحة التي تترتب على العمل به واستن بسنته صحابته والخلفاء الراشدون
من بعده فكان ذلك شرعًا أيضًا فيه تيسير عظيم على المسلمين، وإليكم
الدليل:
في حديث لأبي داود أن رسول الله نهى أن تقطع الأيدي في الغزو، وأنتم
تعلمون أن القطع حد من حدود الله لم يستثن النص القرآني منه الغزاة لكن النبي
نهى عن إقامته في حالٍ مخصوصة خشية أن ينشأ عنه مضرة؛ وهي لحوق صاحبه
بالعدو وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم عدة أخبار أخرى من هذا القبيل لا محل
لذكرها هنا وهي مبسوطة في كتب الحديث.
وقد استن الصحابة بسنته وأوقفوا الحدود في أحوال مخصوصة تدعو إليها
الضرورة.
جاء في كثير من كتب الأخبار أن عمر كتب إلى الناس: ألا لا يجلدن أمير
جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًّا ووهو غاز حتى يقطع الدرب لئلا تلحقه
حمية الكفار.
وروى ابن القيم في (إعلام الموقعين) : عن ابن حاطب بن أبي بلتعة أن
غِِلمة لأبيه سرقوا ناقة لرجل من مُزينة فأتى بهم عمر فأَقَرُّوا فأرسل إلى عبد
الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: إن غِلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مُزينة
وأقروا على أنفسهم فقال عمر: (يا كُثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى
بهم ردهم عمر؛ ثم قال: أما والله لولا أنى أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى
إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم، وأيم الله إن لم أفعل
لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال يا مُزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال بأربعة مئة قال
عمر أي (لعبد الرحمن) اذهب فأعطه ثمان مئة) .
وغير هذا فقد أسقط عمر الحد في عام المجاعة للضرورة وتجاوز أبو بكر عن
خالد بن الوليد في حادثة مالك بن نويرة إذ قتله دون تثبت من إسلامه كما تجاوز عنه
رسول الله قبل ذلك بما صنعه ببني جذيمة لما أرسله داعيًا لا محاربًا، فذهب
إليهم وحاربهم وقتل وسبى منهم فبرئ رسول الله من عمله إلى الله، ولم يؤاخذه به،
وما ذلك إلا لحسن بلاء خالد في الحروب وخدمته العظيمة في الإسلام.
وكذلك أسقط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن في حرب القادسية في
خبر مشهور طويل لا محل لذكره هنا، وقال: (والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى
للمسلمين ما أبلاهم) .
والشواهد على هذا من أعمال النبي وأصحابه كثيرة لا يتسع لها مقام الخطابة
ولعل هذه القاعدة سوغت بعد لبعض الحكومات الإسلامية التجاوز عن الحدود
والعقوبات البدنية كالسن بالسن والعين بالعين واستبدلت بها العقوبات الأدبية
كالحبس والتغريم مثلاً لضرورة تغير الزمان، أو لفشو المنكرات فشوًا لم ينجع في
تأديب مرتكبها إلا حبس حريتهم في السجون أو غير ذلك من الدواعي والأسباب
الزمانية.
ليس فيما ذكر غض من مقام الشريعة، أو مس لأصولها المقدسة ما دام من
أصولها وقواعدها أيضًا العدول عن النص عند ثبوت المصلحة أو درء المفسدة بأقل
ضررًا منها، والشريعة كما تعلمون مبنية على المصلحة، وقد سبق الله تعالى رسوله
والأئمة من بعده إلى تقرير قاعدة مراعاة الأصلح وهو ما يسمونه النسخ وما هو بنسخ
وإنما هو تقرير حكم اقتضته مصلحة زمان، وحال غير حكم آخر في زمان تقدمه
وأحوال اقتضته كحكم جهاد المشركين من العرب في مبدأ أمر الدعوة لحمايتها
وحماية المسلمين من أعدائهم وأعدائها وفيه الإذن بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم
تقرير حكم آخر بعده أي بعد أن انتشرت الدعوة، وقوي جماعة المسلمين،
وصاروا في مأمن من غائلة الضعف، وهو حكم الدعوة بالتي هي أحسن كما في قوله
تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) ؛
وقوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256)، وقوله:
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) ؛ إلى غير ذلك من الآيات
الكثيرة.
وكحكم النهي عن الصلاة في حال السكر في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43) .
وكان هذا في أحوال اقتضته ثم جاء حكم التحريم بتاتًا في أحوال اقتضته
أيضًا.
وبالجملة فإن ملخص ما تلوته عليكم ينحصر كله في المقدمات الآتية:
(الأولى) إن القضاء في العصر الأول كان مرجعه نصوص الشريعة أي
أصولها التي قررها الشارع واجتهاد الصحابة والتابعين فيما لم يرد به نص.
(الثانية) إن الأحكام التي جاءت عن الشارع لم يكن في استطاعة فرد واحد
حفظها أو يتعذر على الواحد الإحاطة بها فاحتيج في القضاء إلى استشارة
حفاظها.
(الثالثة) إن الصحابة كانوا قد يختلفون في المسألة الواحدة، إما في تطبيق
النصر أو مسوغ الحكم إذا كان اجتهاد تثبتًا من وضع الشيء في محله جهد
الإمكان.
(الرابعة) أنهم كانوا يعدلون عن النص عند الضرورة الداعية، وفي أحوال
مخصوصة تدعوا إليها المصلحة التي بني عليها الشرع اقتداء بالشارع.
(الخامسة) إن ورعهم وتقواهم وخوفهم من الوقوع في الإثم كل هذا كان
يدعوهم إلى عدم الانفراد بالحكم ومشاركة خيار المسلمين وعلمائهم في تطبيق
الأحكام إذا كانت اجتهادية على القياس الصحيح أو الرأي السالم من خطأ الفرد.
هذه المقدمات تنتج نتيجتين مهمتين: احداهما أن القضاء في الإسلام كان
قضاء الجماعة لا قضاء الفرد على نحو ما سبقت الإشارة إليه كثيرًا.
والثانية: أن الشريعة الإسلامية بما تَقرَّر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية
الأصلح كانت من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان، وتجيز لكل ضرورة حكمًا
يوافق مقتضى المصلحة والحال، وإن خالف النص مع اعتبار هذه القاعدة شرعًا
أيضًا خلافًا لما يتقوله عليها المتقولون من أنها شريعة ضعيفة توافق زمانًا غير
زماننا هذا، ومكانًا غير مكان الأمم الراقية لهذا العهد فهي إذا صلحت لأهل ذلك
العصر لا تصلح لعصر تسير شرائعه مع مقتضيات المدنية الحديثة، وحاجتها سيرًا
تدريجيًا في كل ما يقتضيه ترقي المجتمعات.ومنشأ تقولهم هذا الجهل بحقيقة
الشريعة الإسلامية، وعدم الوقوف على أصولها وقواعدها وكلياتها يساعدهم على
ذلك ما يرونه من تعصب بعض علماء الشريعة المقلدين لما جاء في كتب
الفروع دون الأصول، وردهم لكل ما لم يَرِدْ فيها مِن أسباب التيسير، وإن ورد
في أصول الشريعة وكلياتها مع أن في كتب الفروع من الأحكام التي لا تستند إلى
دليل قطعي ما لا يعد، ومبناها الاجتهاد أو الرأي والقياس، ومع هذا فإنهم يفضلون
العمل بهذه الأحكام على الرجوع إلى أصل الشريعة مهما كان فيها من التقليد
والتضييق على أنفسهم والأمة، ومهما ترتب على ذلك من التهم الباطلة التي يرمينا
بها الباحثون في طبائع الاجتماع.
وحجة هؤلاء العلماء في هذا سد الذريعة أو خوف انتشار دعوى الاجتهاد، إذا
فُتِحَ بابُه وتطرق الفساد إلى الشريعة، وهي حجة معقولة ومسلمة لا يخالفهم فيها
عاقل، لكن فيما لو صارت قوة التشريع أو الاجتهاد إلى الأفراد وأطلق العنان لكل
قائل أن يقول هذا حكم الله ورسوله ولكل حاكم أن يحكم بما يرى ويقول.
ومعاذ الله أن يريد هذه الفوضى للشريعة الإسلامية عاقل قط، وإنما المراد أن
ينظر في المسائل التي يقتضيها تغير الزمان وتجدد المصالح والحاجات على شرط
عدم الوقوع في ذلك المحذور الذي يخشاه العلماء، وذلك بأن تناط قوة التشريع أو
الاجتهاد على المسائل الطارئة في كل عصر بجماعة من أهل العلم الواقفين على
دقائق الكتاب والسنة، والعارفين بحاجات الأمة ليقرروا لها الأحكام الموافقة
لمقتضى الحال، ثم تنال هذه الأحكام تصديق أهل الحل والعقد فتصبح قانونًا
رسميًا يتحتم العمل به في الحكومة الإسلامية التي هي في حاجة إليه لا يعدل عنه
إلى غيره من أقوال الفقهاء والعلماء، وإن مجتهدين؛ فتُضْبَطُ بهذا قوانين الشريعة
ويُؤْمَنُ عليها من تطرق الفساد ثم يكون من ذلك أن تحدد هذه القوانين تحديدًا يغني
عن الرجوع إلى كتب الفقه التي تختلف في المسألة الواحدة اختلافًا كثيرًا يؤدي في
كثير من الأحيان إلى التهويش على القضاء ويكفي أن تكون تلك الكتب شروحًا
لقوانين الشريعة المعمول بها يومئذ يرجع اليها عند الضرورة والحاجة
إلى تفسير نصوص ذلك القانون كما هو الشأن في مجلة الأحكام العدلية
المعول عليها في محاكم الدولة العثمانية دون غيرها ولهذا البحث تتمة سآتي عليها في
الكلام على القضاء في دوره الثاني وها أنا ذا متكلم فيه:
قلت - فيما سبق -: إن القضاء في الإسلام له دوران دور العمل بالأصول
ودور العمل بالفروع، وإنما اخترت هذا التقسيم لاختصار الطريق أو اختصار
البحث خوفًا من تعب القارئ والسامع من أن أدواره بعد دور التشريع الأول كثيرة
جدًّا؛ إذا اعتبرنا تقسيمه إلى طبقات المفتين والمحدثين من الصحابة والتابعين ثم
الأئمة المجتهدين ومَن بعدهم مِن طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر
ذلك بما قسموا إليه طبقات الحنفية مثلاً، فقد قالوا: إنهم ينقسمون إلى ست طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة المجتهدين في المذهب كأبي يوسف ومحمد وغيرهما
من أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام من القواعد التي قررها
الإمام.
والثانية: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب
كالخصاف والطحاوي والسرخسي والحلواني والبزدوي وغيرهم وهم لا يقدرون
على مخالفة إمامهم في الفروع والأصول؛ لكنهم يستنبطون الأحكام التى لا رواية فيها
على حسب الأصول.
والثالثة: طبقة أصحاب التخريج القادرين على تفصيل قول مجمل وتكميل
قول محتمل من دون قدرة على الاجتهاد.
والرابعة: طبقة أصحاب الترجيح كالقدوري وصاحب الهداية القادرين على
تفضيل بعض الروايات على بعض بحسن الدراية.
والخامسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين القوي والضعيف
والمرجح والسخيف كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة.
والسادسة: من دونهم الذين لا يفرقون بين الغَثِّ والسمين والشمال واليمين ،
فلو تتبعنا الكلام على هذه الطبقات والأدوار التي مرت على الشريعة بالتفصيل
لاحتاج ذلك إلى كتاب مطوّل ورجل أعظم رسوخًا مني في العلم ووقوفًا على تأريخ
القضاء، لذا حصرت الكلام على القضاء من الوجهة الإجمالية في دورين؛ وإذ قد
مضى الكلام على الدور الأول فها أنا ذا أتكلم على الدور الثاني على قدر ما يمكنني
مِن الاختصار.
لما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حُفّاظ
الشريعة ورواتُها في الأنحاء مع اتساع دائرة القضاء بازدياد وسائل الحضارة
واستبحار العمران، وتجدد الحوادث التي يقتضيها تشعب المعاملات وحال الأمم
الداخلة في الإسلام من غير العرب؛ وخيف لهذا من تشتت أحكام الشريعة ودخول
الفوضى في القضاء والإفتاء؛ احتيج بالضرورة إلى أمرين مهمين: الأول تدوين
الشريعة في الكتب، والثاني وضع قواعد للتفريع عن أصول الشريعة لتطبيق
الحوادث التي تحدث في أحكام المعاملات على قوانين الشرع، وأول من تنبه
للحاجة إلى هذين الأمرين على ما أظن عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الأموي
وسدًّا للحاجة الأولى أَمَرَ الزهري من جِلة التابعين وحُفّاظِهم بتدوين الحديث في
دفاتر وتوزيعها على الأمصار في أواخر القرن الأول ففعل كما هو مشهور
معروف.
أما الحاجة الثانية: فقد شعر بها ولكن سَدَّها بعده الأئمة المجتهدون بدليل ما
رُوي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس من
الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.
أدرك هذا عمر بن عبد العزيز وأدركه الأئمة المجتهدون من بعده مالك
والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المذاهب التي لم يبق لها
أتباع لهذا العهد كداود الظاهري وغيره كأئمة الشيعة الذين يعمل بمذاهبهم إلى اليوم
زيد بن على وجعفر الصادق وغيرهم فلم يكتفوا بتدوين السنة في الدفاتر والكتب؛ بل
رأوا
الحاجة تدعوا إلى البيان والتفصيل والتفريع والترتيب فعمدوا إلى النظر في أصول
الشريعة من الكتاب والسنة فاستخرجوا منها الأحكام ووسعوها ورتبوها ودونوها كل
على أصول مذهبه وقواعده وأصول الاجتهاد المعروفة في كتب الأصول مما لا
يسعني بسطه الآن وكلكم أعرف مني به، فضبطوا بذلك قوانين الشرع بما بلغه
اجتهادهم وأدى إليها جهدهم فكانت كتب كل مذهب شرعًا يَعْمَلُ به أتباعه إلى اليوم.
ولسنا بصدد إطراء هذا العمل الجليل الذي قام به أولئك الأئمة الكبار،
وحسب هذا العمل أو هذه الخدمة التي خدموا بها الأمة والشرع أنها تصون منزلة
الإفتاء والقضاء عن متناول كل مَن ادَّعى أن عنده مُسْكة من العلم بالدين والوقوف
على السنة هذا لو أحسن العلماء بعد العمل بقوانين الفقه.
نعم، قد انتقد كثير من أئمة السلف ما صار إليه الحال بعد وضع كتب
المذاهب من ترك أصول الشريعة والذهاب مع التقليد البحت لكن لم يكن هذا الانتقاد
موجهًا إلى الأئمة المجتهدين إلا فيما أخطأ فيه اجتهادهم، وإنما كان جُلُّ الانتقاد
موجهًا إلى من جاء بعدهم من الفقهاء والمقلدين لتنزيلهم كلام الأئمة منزلة أصول
الشريعة والعمل بأقوالهم ما أصاب منها وما أخطأ بلا بحث في الدليل مع أن الأئمة
أنفسهم نهوا عن العمل بقولٍ مِن أقوالهم دون معرفة دليله من أصول الشريعة كما
تعلمون.
أراد الأئمة المجتهدون أن تكون طريقتهم في التفريع مهيعًا يسير فيه العلماء
في قياس الحوادث بعضها على بعض وردها إلى أصولها عند تجدد الحوادث
بعضها على بعض، وردها إلى أصولها عند تجدد الحوادث سدًا لحاجة
المتقاضين، وأطالوا في الاستقصاء والبيان والتفريع كي لا يَدَعوا وجهًا لتهجم كل
امرئ على أصول الشريعة من الكتاب والسنة ليفتي بعلم وبغير علم فيصير
القضاء إلى الفوضى والتشتت بعد انقراض طبقة حفاظ الشريعة من التابعين
وتابعي التابعين، واتساع دائرة الإسلام اتساعًا يفتقر معه المسلمون إلى قوانين
قريبة التناول من الفهم، لكن أساء من جاء بعدهم من أتباعهم مِن العلماء فَهْمَ
الغاية، فألقوا بأنفسهم في نفس الخطر الذي أراد اتقاءه الأئمة المجتهدون إذ
ساروا في سبيلين متباينين سبيل التضييق على أنفسهم إلى ما لا يبلغ بهم أدنى حد،
وسبيل التوسع إلى ما يتجاوز كل حد.
حرموا في الأول على أنفسهم الاجتهاد، ولو في المسائل التي تدعو إليها
الضرورة والمصلحة العامة التي هي من قواعد ومقاصد الشرع الإسلامي فكان من
ذلك أن أحرجوا الأمة وألجأوا بعض الحكومات الإسلامية لهذا العهد إلى العمل
ببعض القوانين المقررة عند الأمم الأوربية خصوصًا الجنائية والتجارية.
وتوسعوا في الثاني حتى ملأوا بطون الكتب بالحواشي والشروح يؤتى فيها
بعدة أقوال في المسألة الواحدة ولو تافهة أو من قبيل تقدير المستحيل، وكل هذه
الأقوال تعتبر شرعًا أو شريعة وتركوا العمل بالصحيح منها أو الأصح أو المُفتى به
أو المعول عليه إلى رأي القضاة فكان من ذلك أن أطلقوا لقضاء الفرد العنان بلا شرط
ولا قيد فوقعوا وأوقعونا فيما أراد دَفْعُه الأئمة المجتهدون، وحُرِمَ المسلمون من
قضاء الجماعة الذي هو كفيل بالعدل وذلك منذ انقضاء العصر الأول إلى
اليوم.
نعم، إن اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة وكثرة الحواشي والشروح على
القوانين والشرائع موجودة عند كل أمة فالقانون الفرنسي مثلآ له شراح من
المتشرعين وأشهرهم دالوز وكاربانتيه وسيريه وغيرهم كثيرون؛ إلا أن القضاء
عند تلك الأمم لما كان بيد الجماعة وقوة التشريع ليست من حق فرد من الأفراد؛ بل
من حق الأمة ونوابها فدستور العمل عندهم ما أجمعت على وضعه قوة التشريع
وصادقت على قبوله الحكومة فصار قانونًا للقضاء لا يُعدّل عنه إلى تلك الحواشي
والشروح وآراء المتشرعين ويصار إليها إلا لتفسير مبهم أو تطبيق الحوادث بعضها
على بعض.
لشريعة المسلمين أصول وكليات - كما قلنا في صدر الكلام - تعتبر أساسًا
للتشريع، ومع أن أحكامها مسلمة فقد كان العمل بها في عهد الصحابة
بالشورى بين المتفقهين منهم، هذا فيما نُصَّ منها على ما يرد عليهم من النوازل،
فما بالكم فيما احتاج إلى الاجتهاد والتشريع بالقياس على تلك الأصول أو
الاستنباط منها وقد سمعتم فيما مَرَّ أنهم كانوا لا يحكمون حكمًا إلا بعد استشارة خيار
الأمة وعلمائهم وإقرارهم جميعًا على ذلك الحكم حتى اعتبر بعض الأئمة المجتهدين
بعض أحكام الصحابة لقوتها شرعًا أو أصلاً من الأصول التي يبنى عليها التفريع
سموه عمل الصحابة أو إجماعهم كما سبقت الإشارة إليه وكما ترون ذلك في كتب
الأصول.
إذا كان إجماع الصحابة على مسألة شرط في صحتها واعتبارها شرعًا يلزمنا
العمل به فقد لزم من هذا أمران:
الأول: إن إجماع الجماعة على تقرير حكم في مسألة شرط في صحة ذلك
الحكم واعتباره شرعًا لزمنا العمل به وهو ما تفعله الأمم الأوربية في تقنين قوانينها
لهذا العهد، وقد وجد له أصل في الشرع الإسلامي فتركناه وأصبحنا نغبط الأمم
الأوربية وقوانينها أو قضاء الجماعة عندها لهذا اليوم.
والأمر الثاني: أن كل أقوال الفقهاء واختلافاتهم الواردة في كتب الفروع ليست
بشرع إلا من حيث اشتمالها على أحكام يرد بعضها إلى أصول الشريعة إلا أنه غير
متوفر فيها شرط التشريع الذي مر، وإناطة ترجيح قول دون آخر من حيث قربه
من الأصل بشخص واحد لا يُكْسِبُ هذا القول أو الحكم قوة التشريع ليسمى شرعًا
أو قانونًا وجب العمل به إلا إذا اتفِقَ عليه وقرره جمهورٌ من المتشرعين أو
المرجحين وهذا ما أردته من وجوب بقاء الاجتهاد لكن لا ليتناوله من شاء فيما
شاء، كلا بل ليناط بجماعة من علماء المسلمين تقرير الأحكام التي تدعو إليها
المصلحة وتجدد بتجدد الزمان.
ولذا فإن اجتهاد الجماعة كما أنه لازم في الأصول فهو لازم في الفروع أيضًا
وذلك لجمع أقوال الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ما أصاب من تلك الأقوال محجة
الصواب والمصلحة ووافق أصول الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس
الصحيح في كتاب بعينه يعتبر قانونًا في المعاملات مجمعًا عليه من العلماء ليعرف
منه كل مسلم ما له مِن الحقوق وما عليه لا تتقاذفه أقوال الفقهاء من خلاف لآخر
ومن قول لنقيضه فتصير به إلى أهواء القضاة والمفتين يحكمون بما ترجح لديهم
وبما يشتهون.
وليس اختلاف المذاهب بمانع من أن يحكم للشافعي أو عليه بقول
للحنفية أو للمالكي بقول للشافعية مثلاً إذ كل أتباع المذاهب أبناء دين واحد وكل
أقوال كتب الفقهاء مأخذها واحد وهو الشرع، والواقع يثبت أن أحكام المعاملات
كانت في أكثر الممالك الإسلامية ولم تزل إلى اليوم جارية في القضاء على
مذهب الدولة الحاكمة وربما كان أكثر الرعية من أتباع مذهب غير مذهبها.
ومع هذا فليس ثمة نكير من العلماء على أهل الدولة فلا سبيل لهم إلى النكير
على القائلين بلزوم جمع الأقوال الموافقة لمقتضى المصلحة والعصر من كتب
المذاهب وجعلها قانونًا جامعًا في المعاملات للمسلمين؛ بل هذا خير وسيلة لإصلاح
القضاء ربما اغتفرت للفقهاء ماضي تفريقهم وحدة الأمة باسم التعصب للمذهب
وكانت خاتمة اضطراب نظام القضاء في الإسلام.
ليس اضطرب حبل القضاء في الإسلام بجديد، وليس الظلم والعسف الذي
لاقاه المسلمون من حكامهم الظالمين وحكوماتهم الجائرة إلا نتيجة توكئهم على
ضعف القضاء؛ خصوصًا ما يتعلق منه بولاية المظالم لا لنقص في الدين أو
الشريعة؛ بل لنقص في طرق التقنين والتنفيذ.
إن الدين الذي يُنزِل على الظالمين صواعقَ الإنذار ويقرن الظلم بالشرك بالله
تعالى ويأمر بإقامة ميزان العدل، ويريد سعادة المجتمع الذي يدين به ما كان ظالمًا
ولن يكون؛ وإنما المسلمون أنفسهم يظلمون.
ربما يطالبني كلكم أيها السادة بدليل على قولي إن اضطراب نظام القضاء وما
نشأ عنه من الجور ليس بجديد في الإسلام، وهذا الطلب من حقكم بعد هذا الكلام
وإليكم دليلاً واحدًا أكتفي به عن أدلةٍ لو أحصيت لكانت كتابًا ليس كالكتب مما
تقرؤون.
تعلمون أن أَحْفَل العصور الإسلامية بالعلماء والمفتين والفقهاء والمتشرعين
وأرقاها في سلم المدنية الإسلامية عصر هارون الرشيد العباسي؛ إذ الشريعة في إبان
زهوها والتفريع في مبدأ مجده والأئمة المجتهدون هم القائمون بالتشريع وإلى كتبهم
ترجع الفتوى.
في ذلك العصر الزاهر بمجد الإسلام وأمجاده العظام يرى أبو يوسف صاحب
أبي حنيفة من ضعف القضاء وتسلط عمال الجور واضطراب نظام ولاية المظالم ما
يلجئه إلى وضع كتاب الخراج لأمير المؤمنين هارون الرشيد وليس فيه إلا آية أو
حديث أو مثال من قضاء الصحابة p أحصيتأي كله من أصول تلك الشريعة الطاهرة يذكره
فيه بالرجوع إلى قضاء الله ورسوله وأصحابه أو قضاء الجماعة المتين قائلاً:
(ارجع يا أمير المؤمين إلى هذه الأصول في سياسة الرعية وجباية الخراج وتوزيع
الفيء، اقعد يا أمير المؤمنين بنفسك للمظالم وإنصاف المحكوم من الحاكم، أدرك
الزراع فقد كاد يهلكهم الظلم، فقد بلغني عن عمالك أنهم يقيمون أهل الخراج في
الشمس ويضربونهم الضرب الشديد وإنهم يفعلون بهم ويفعلون مما لا يحل لهم بوجه
من الوجوه) .
هكذا كان الحال في عصر الرشيد وأئمة الشريعة أحياء يرزقون فما بالكم بما
جاء بعده من العصور التي صار فيها التشريع إلى عدد لا يحصى من المخرجين
والمرجحين والفقهاء والمفتين، وكلهم يقول قولي أو قول فلان هو شريعة الله المفتى
بها والمعول عليه، وما هو إلا تفكك نظام القضاء وتشتت قوة الجماعة فلا حول ولا
قوة إلا بالله.
والنتيجة أيها السادة أن ضمان العدالة الوحيد إنما هو قضاء الجماعة لا قضاء
الفرد وأعني أن التشريع وحده غير كفيل بالعدل في القضاء إلا إذا أنيط كلاهما
بالجماعة بالوضع والتنفيذ، ولا تظنوا أن هذا (المطربش) الواقف أمامكم يريد
شيئًا جديدًا في الدين أو قلبًا لكيان الأحكام مع أنه ليس من علماء الدين ولا أئمته
المجتهدين.
كلا، فليس قضاء الجماعة بجديد في الإسلام؛ بل هو من عصر الصحابة
وهم واضعو أساسه المتين في الدور الأول للقضاء في الإسلام.
أما الدور الثاني فالذي أذكره أن دولتين من دول الإسلام تنبهتا إليه وعولنا
عليه؛ أولاهما: دولة الأمويين في الأندلس التي جعلت في القرن الثالث دارًا في
قرطبة لشورى القضاء؛ أعضاؤها من جلة العلماء يُرجَع إليهم في تقرير الأحكام.
والحق أقول إني لم أظفر بكثير بيان عن هذه الشورى لكن ما رأيته عنها في
ثنايا الكتب التأريخية يكفي للدلالة عليها، فقد ورد ذكرها في (نفح الطيب) في
ترجمة بعض العلماء كقوله كان فلان مشاورًا وطلب فلان إلى الشورى فأبى ونَقل إليَّ
ثقة عن كتاب من الأسف أنه غير موجود بين يدي؛ بل هو في مكتبة دمشق وهو
كتاب الأحكام للقرطبي ورد فيه ذكر هذه الشورى بقوله: (إن الشورى خالفت الإمام
مالكًا في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي القاسم) .
وفي هذا دليل كاف على أنه كان لديهم سلطة في التشريع، وأن الدولة الأموية
ثمة كانت مسددة الأعمال حتى قبيل وهنها وسقوطها حريصة على إجراء قوانين
العدل بين رعيتها.
أما الدولة الثانية التي تنبهت إلى مثل ما تنبه إليه الأمويون فهي الدولة
العثمانية لهذا العهد فإنها جمعت من علماء الأمة وفقهائها الموثوق بفضلهم وعلمهم
جماعة سمتهم جمعية المجلة، وذلك من بضعٍ وثلاثين سنة انتخبوا من كتب
المذهب الحنفي قانونًا جامعًا للأحكام المدنية وهو المعروف (بمجلة الأحكام العدلية)
وأقر على العمل به أهل الحل والعقد، فصار مرجع القضاء في المحاكم إلى
اليوم وستجتمع هذه الجمعية أيضًا لإدخال بعض الزيادة والتحرير عليه مما مست
إليه الحاجة ولو بأخذه من غير المذهب الحنفي.
هذا مجمل تأريخ القضاء في الإسلام وما تخلله من الشؤون بسطته لديكم مع
رجائي أن تَصْفَحوا عن كل خطأٍ بَدَر مني أو تردوه، ولو سمح الوقت لأتيت على
شيء كثير من كيفية تقسيم ولاية القضاء وترتيبها ومحاسن الفقه الإسلامي وما انتقد
عليه، وإنه لو أحسن العلماء العمل به لكان لنا منه قانون جامع لأحسن قوانين الأمم
المدنية، وربما أعود إلى هذا البحث في فرصة أخرى إن شاء الله.
_________
(1)
خطبة لرفيق بك العظم المؤرخ المشهور ألقاها على طلاب القضاء الشرعي بمصر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
…
... تصنيف كتب في الكلام ملائمة لحاجة العصر
توحيد المذاهب الإسلامية
إصلاح نظام التعليم في المدارس الدينية
ألقى أستاذنا الفاضل موسى كاظم أفندي العضو في مجلس الأعيان، والأستاذ
في مدرستي الحقوق والقضاة محاضرة في هذه الموضوعات الثلاثة، فضبطها عنه
حضرة الأديب حسين أشرف بك أديب صاحب مجلة (صراط مستقيم) التركية،
فرأيت أن أترجمها لقراء مجلة المنار النافعة بما يأتي:
كان الراسخون في العلم من أهل الصدر الأول للإسلام يكتفون بظاهر المعنى
الذي دل عليه الكتاب والسنة ويرجعون إلى صاحب الرسالة في كل ما يشتبهون به
من المسائل على عهده، ولهذا لم تضطرهم الحاجة إلى وضع المصنفات ومراجعة
الأسفار.
ثم ظهر الاختلاف على عهد التابعين، فرأوا أن يُدوِّنوا الكتب احتفاظًا بوحدة
الدين من وقوع التفرقة، وبُعدًا بها عن مزالق الانشقاق وفقدان القوة إذا تَشَتَّتْ آراء
ذوي الرأي، واختلفت أنظار أهل النظر، وهنالك الطامة الكبرى، والخسران
العظيم.
فأخذوا يدونون العلم، وأكثر ما دونوا كان في علم الكلام، لأنه هو منشأ
الخلاف، فكان لذلك فائدة عظيمة.
على أن الفلسفة لم تكن قد دخلت بادئ بدء في المصنفات الأولى؛ لأن الأمة
لم تكن قد عانتها بعد، بل كانوا يبرهنون على مذاهبهم بنص من الكتاب والسنة،
وهي طريقة علماء السلف، ولم يكن ذلك العصر في حاجة أكثر من ذلك.
ثم انتقلت علوم الفلسفة إلى العربية، فتشعبت الآراء طرائق ومذاهب،
وعرف أبناء هذه اللغة لأول مرة ماهية مذهب (الفلاسفة المشائين) وآراء (الفلاسفة
الطبيعيين) ، وأخذوا يدخلون فيها، ويقولون بقول أصحابها على قلة عددهم، لولا أن
المشائين تغلبوا على الطبيعيين من حيث إقبال الطالبين على كتبهم حتى اضطر
علماء الدين إلى مناهضتهم جميعًا وإنقاص ما لهم من السلطة والنفوذ في قلوب
الدارسين والمفكرين، ومن الردود على المشائين والإشراقيين تألف علم الكلام ممتزجًا
بالفلسفة كما قضت الحاجة؛ لأن علماء الكلام كانوا يدرسون كتب الفلاسفة أولاً، ثم
يردون عليها، إلى أن كسدت سوق (الفلسفة الإشراقية) وكثر انتقاد أقوال المشائين
فدالت دولتها وانقرضت سلطتها، ولم يبق لها ولي ولا نصير.
لم تكد تُلقي هذه الحرب أوزارها حتى كان لعلماء الكلام من ظهور (الماديين)
في هذا العصر ميدان آخر للنضال والكفاح، فبهؤلاء يجب أن نشتغل اليوم كما كان
أسلافنا يشتغلون بالطبيعيين والمشائين والإشراقيين بالأمس.
ورب قائل يقول: كيف يجوز لنا أن تزيد من عندنا في علم الكلام ما لم ينص
عليه من قبلنا أو ليس من الواجب علينا أن نتبع الأولين في ما قالوه ونسلك السبيل
الذي انتهجوه.
فنجيبه بأن الفلاسفة الذين عني السابقون من المتكلمين بتزييف أقوالهم لم يبق
في زماننا من يذهب إلى صحة نحلهم وإذا كانت براهين أسلافنا سلاحًا قاطعًا لتلك
المزاعم فأين من يحاربنا لنصده بها وهذا الميدان خال منهم على حين نرى جهة
أخرى غاصة بأعداء آخرين لا يعمل فيهم ذلك السلاح، أو هو لا يقابل الأسلحة التي
يستعملوها، والحاجة ماسة إلى اختراع سلاح آخر يصلح أن نقابلهم به.
لا يوجد اليوم علماء معروفون يقولون إن العالم ثلاث عشرة طبقة كرية: الأولى
تراب، والثانية ماء، والثالثة هواء، والرابعة نار، والأفلاك بعد ذلك تسعة
متواليات بعضها فوق بعض، وإنها أزلية أبدية في نوعها وفي جنسها، وهي بهذا
الاعتبار قديمة.
فإذا قلنا للفلاسفة اليوم: إنكم كنتم تزعمون قبل عصور أن الأرض وما عليها
قديم ولدينا حجج تدحض مُدّعاكم وتبرهن على حدوث الأرض وما عليها؛ أجابونا
قائلين: كلا نحن لا نقول بقدم الأرض بل نذهب إلى ما تذهبون إليه من أنها
حادثة.
ومَن منهم يُصغي إلينا إذا قلنا له: إنك تقول برأي بطليموس مِن أن الأفلاك
تسعة متداخلة أزلية أبدية وهو يرى: (أن هذا الفضاء لا نهائي، ولا نهاية لما فيه
من الأجرام، وهي حادثة من حيث صورها، ولا قديم فيها إلا أجزاؤها الفردة) ،
وربما سخر منا عندما نبرهن له على فساد مالا يعتقد صحته.
فمن الواجب علينا إذًا إصلاحُ الدروس الكلامية وفقًا لحاجة هذا العصر وأهله،
ووضع مصنفات جديدة في دحض مذاهب هذه الأزمان، وأن نعلم أن الدين لا
يُناضَل عنه اليوم بسلاح الأمس لِمَا بين العدوين من البَوْنِ الشاسع والفرق العظيم.
كان المشاؤون يعترفون بوجود الله تعالى، وأنه العلة الأولى، وواجب الوجود،
ولكنهم كانوا يقولون: هو فاعل مضطر لا فاعل مختار.
أما الماديون في هذه الأيام فلا تنفعهم براهيننا على ذلك لأنهم لا يُسَلِّمون
بوجود الله سبحانه، وكان الحكماء يقولون: إن الله واحد حقيقي وباطل وصفه بتلك
الصفات المتعددة لأنها تنافي الوحدة فهو قائم بذاته، عالم بذاته، قادر بذاته، مريد
بذاته، والعلم عين الذات، والقدرة عن الذات إلى غير ذلك من الصفات الأخرى،
وبهذا قالت المعتزلة.
أما الماديون فهم يضحكون منا إذا برهنا لهم على أن الله عالم بعلمه قدير
بقدرته مريد بإرادته: لأننا متخالفون معهم من حيث المبدأ الذي يجب علينا أن
نقربهم إلينا فيه بوضع كتب حديثة تصلح لإقناعهم، ولا يتسنى لنا ذلك إلا بدرس
فنونهم، وإلزامهم بأقوالهم وآرائهم.
وبعد؛ فإن الإسلام قد مني باختلافات ذهبت بأهله مذاهب كثيرة باد أكثرها وبقي
بعضها، فالشافعية والحنبلية والمالكية يخالفوننا نحن معشر الحنفية بالفروع وإن
كانوا كلهم أهل السنة، فمن الواجب علينا أن لا ننزل هذا الاختلاف بمنزلة
الخصومة فنعد الشافعي خَصمًا لنا، بل الصواب أن نرى لنا ما لنا، ويرون لهم ما
لهم، وربما كان الحق في جانب أحد الطرفين مرة، وفي الجانب الآخر تارةً أخرى،
لأن المسألة مسألة اجتهاد، والاجتهاد يبنى على الأدلة الظنية التي يَستدل بها كلا
الطرفين ولا فرق في ذلك بينهما ولذلك نصوا على أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
كانت هذه الحال مدعاة للتفرقة وانشقاق القوة، ومباينة لما أمر الله به من
الاعتصام بحبل الاتحاد والاجتماع، وما أشد ضرر التخاصم في المذاهب والفروع؟
وفي الإسلام اليوم غير هذه المذاهب مذهب آخر وهو مذهب الشيعة، والعداوة
بينهم وبين السنيين شديدة، وفي نظري أن هذا العداء أمر منكر يجب إزالته ليتسنى
للمسلمين أن يتحدوا وإلا التهمهم الغرب قبل مرور نصف عصر، وكانت القاضية
على المسلمين أجمعين.
أجل يجب علينا أن نعتصم جميعًا بحبل الله ونتحد مع كل قائل بوحدة الله
ونبوة رسول الله ونحاول بعد ذلك تقويم الأود، وإرجاع المنحرفة إلى أصلها
ومجادلة أهل المذاهب الأخرى لا كما يُجادِل العدوُّ العدوَّ، بل بالتي هي أحسن، وذلك
بأن يجتمع العلماء من كل فريق ويقول بعضهم لبعض تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم نتجنب ما تقوم الحجة على بطلانه ونعمل بما تبرهن الأدلة على صحته وفي
يد كلا الفريقين كتاب الله يؤمنان به وبمن أنزله وبمن نزل عليه وبهذا ينجو
المسلمون مما مُنوا به من التفرقة والانشقاق، وأنا الكفيل بأن المسلم لا يلبث أن
يذعن للحق مهما بعد عنه.
وإني أقص عليكم هنا تفاصيل مناظرة دارت بيني وبين أحد علماء
الشيعة وكان متعصبًا، وعلى مكانة من الجَّد في وقت واحد، فبادرته أنا سائلاً:
أين هو موضع النزاع بيننا وبينكم، وفيما ترتابون من عقيدتنا فأجابني: الخلافة
هي موضع النزاع
…
قلت له:
إن هذه المسألة في رأيي ليست مما يستحق النزاع، قال:
كلا، بل هي ذات شأن عظيم لا ينكر فهي التي قضت على الإسلام وشتت
شمل المسلمين وقلبت بالدين رأسًا على عقب.. . إن الخليفة بعد النبي كان يجب أن
يكون عليًا، فأجبته:
تلك دعوى لا نسلم بها مالم يقم على صحتها برهان ساطع، فما هو برهانكم
على ذلك.
وهاهنا عدة أشياء كثيرة كانت كلها واهية في نظري وبعد أن أصغيت إليه
كثيرًا قلت له:
ليس كل هذا مما يتألف من دليل واحد؛ لأن ما قلته لا يفيد إلا الظن، وإن الظن
لا يغني من الحق شيئا، أنت سردت على مسامعي قضية هي من المطالب اليقينية
وأنى لمثلها من مسائل الاعتقاد أن يُبرهَن عليه بشيء من الظن الذي ربما كان مقنعًا
في مسائل الفروع.
فترك صاحبنا هذه السبيل وانتهج منهًجا آخر تكلم فيه أكثر مما تكلم من قبل،
ولكن هذا أيضًا كان واهيًا، فقلت له حينئذ:
إني أدعي أنه لم يؤثر عن النبي قول يستدل به على تعيين خليفة باسمه،
وبرهاني على ذلك أنه لو كان ثمة قول صريح في هذا الباب لما اختلف الصحابة في
ذلك الأمر، وهو على ما هم عليه من التمسك بسنته، والخنوع لطاعته.
أجل، لم يصرح النبي بذلك؛ لأن المهاجرين والأنصار وقع بينهما على الخلافة
اختلاف كان من نتيجة أن قال الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) فدحض الصديق
ما طلبوا بحديث (الأئمة من قريش) فأجابوه: إذًا لم يبق بيننا مدعاة للخلاف بعد
هذا، ومن ذلك تعلم أنه ليس ثمة صراحة قوله يستدل بها على تعيين خليفة بشخصه،
وإنما هم رجحوا الصديق لتوليه الصلاة بالناس في مرض النبي ولم يرجحوا عليًّا،
وهذا ما أداهم إليه اجتهادهم.
وكان أبو بكر قد سَمَّى عمر لولاية العهد قبل وفاته، فلم يبق مجال للنزاع
وجعلها عمر شورى من بعده، فوقع الاختيار على عثمان، ثم تولى منصب الخلافة
من بعدهم عليّ، هذا كل ما في الأمر، فأين ما تذكره من أن هذا المسألة هي التي
قضت على الإسلام، وقلبت الدين رأسًا على عقب.. . هل سلك أبو بكر غير منهج
الرسول؟ كلا، إنه لم يفعل ذلك باعترافكم، وهكذا فعل عمر وهو الذي افتتح
الأقطار وعلى يده دخلتم في الإسلام، وأصبح المسلمون يحكمون بلادًا فيها مائة
مليون من النفوس، ومع كل ما كان له من النصر، وللإسلام من المجد، بقي في
آخرته كما كان في أولاه يضن على قدميه بحذائين يخرج ثمنهما من بيت المال
فما هو معنى (القضاء على الإسلام) حينئذ؟
وهنا سكت صاحبنا ولم يفه ببنت شفة، فواصلت كلامي قائلاً: نحن نقدس
هؤلاء؛ لأنهم لم يحيدوا عن خطة النبي قيد أُنملة، ومن الواجب على كلِّ مَن في قلبه
ذرة من إيمان أن ينظر إليهم بالنظر الذي ننظر به إليهما، فأجابني: إن عليَّا
كان على سعة من العلم والفضل، وواقفًا على سر الكتاب، قلت له: ذلك مما
لا ريب فيه. قال:
فلماذا إذًا لم يجعلوه خليفة؟
أجبته:
أنت الآن تخرج عن الصدد، فقد عدلت عن زعمك الأول أن الإسلام قد قضى
عليه، ورحت تقول الآن: كان الأولى تولية عليّ لأنه كان أعلم وأفضل، فقال لي:
إنك يا أخي لا تدع لي مجالًا للإفصاح عن رأيي، إنني أقول: إن عليًّا واقف على سر
الكتاب ولو كان أول خليفة في الإسلام لخدمه خدمات جلى، ولتعالى الدين أكثر
مما شهدنا. قلت له:
أنت غيرت دعواك، ومع ذلك فإني أقول لك: كان من الواجب عليه إذا كان
الأمر كذلك أن يبين تصوراته في إعلاء شأن الإسلام أنَّ تَوَلِّي أمر الخلافة من قِبَلِهِ،
وفي كل حال إنه صار خليفة بعد ذلك، وكان في وسعه أن يقوم بالخدمات التي
تذكرها.
وبعد أن أَفَضْتُ البحث في هذا الباب أذعن مناظري للحق ورجع إلى إنصافه
ثم قال:
الحق أقول: إن هذه المسألة مسألة سياسية، لا مسألة دين، وما هي إلا وسيلة
جعلت في القديم لإحداث التفرقة بين فريق وفريق.
فترى من هذا أنه مهما كان بين المسلم والمسلم من الاختلاف، يرجع أحدهما
إلى الحق بعد ظهوره له؛ لأن المسلم منصف على كل حال.
ويا ليت شعري كيف يجوز لنا أن نجعل الاختلاف في المذهب سببًا للعداوة
ونحن كلنا مسلمون، في حين أن من المحظور على المسلم أن يجعل العداوة في قلبه
حتى لغير المسلمين، حقًّا إن هذه حال قد سئمتها النفوس، ونتجت منها مضار،
أزف الوقت الذى يجدر بنا فيه أن نقلع عن هذه البغضاء الشائنة، ونؤسس فيما بيننا
وبين جميع الفرق المسلمة وغير المسلمة وحدة صحيحة، فيكون الاتحاد شعارنا في
كل أين وآن، لأن بالاتحاد نجاتنا، وبالإعراض عنه اضمحلالاً.
فمن الواجب علينا أن نضع كتبًا في علم الكلام مؤسسة على مبادئ عدة؛ كأن
ندرس مذاهب الفلاسفة المعاصرين، ونجادل أصحابها ولكن (بالتي هي أحسن)
فبهذا يزول الخلاف، وتلك كانت خطة النبي صلى الله عليه وسلم في جدله.
نحن نفكر اليوم في أمر إصلاح المدارس الدينية وحسبنا أنكم تقدرون هذا
الإصلاح حق قدره - الطلبة: تلك حقيقة ناصعة فنرجوكم أن تثابروا على
الإصلاح - إنكم إذا كنتم على غير رأينا في لزوم هذا الإصلاح، فليس في
وسعنا أن نأتي بعمل، أما إذا عرفتم وجوبه، فهو أهم الإصلاحات في نظرنا.
يجب أن نُدخل على نظام المدارس القديم خمسة من الفنون الحديثة أو أكثر،
وأن نُعدِّل ذلك النظام تعديلاً هامًّا، فنبطل تدريس الحواشي والتقريرات بتة، ونُعَلِّمَ
الطالبين المتون فقط، ولكن تعليمًا حقيقيًّا، ونتوسع كثيرًا في درس اللغة والأدبيات.
ترى ماهي الحواشي والتقريرات؟ هي انتقادات قواعد لغة لا نعرفها بعد،
وأحر بنا أن ندرس تلك اللغة نفسها قبل أن نقرأ انتقاد قواعدها.
ولعل قائلاً منكم يقول: نحن لاندرس لغة العرب، بل ندرس كتبًا أنشئت بلغة
العرب، وكان خيرًا لنا لو تُرْجِمَ القرآن إلى التركية، فدرسناه بلغتنا، كما يدرس
العرب القرآن واليهود التوارة بلغتيهم.
فأجيب هذا القائل: إن ترجمة القرآن متوقفة على معرفة اللغة العربية معرفة
تامة، وهذا ما ندعو إليه الطلبة والعلماء، ونريد منهم أن يكونوا ذوي وقوف تام
على هذه اللغة، ولا يكون هذا إلا بدرس المتون أولاً، والتوسع بالأدبيات بعد ذلك
جهد المستطاع، ولا بأس إذا رجع التلميذ بنفسه إلى بعض الشروح عند مسيس
الحاجة.
ولست أدري كيف أعرض الطلبة قبلنا عن المتون وتعلقوا بهذا الشروح حتى
إذا أتموها شرعوا بقراءة الحاشية فحاشية غيرها ثم بالتقريرات فتقريرات أخرى
وبعد أن يصرف الطالب أكثر من خمس سنين على هذا المنوال في كتاب واحد
تمتحنه فيه فلا تجده على شيء! ! ولا يقدر أن يفهم معنى سطر واحد من الشعر
العربي؛ ذلك لأنه بدَّد وقته بمناقشة ما قاله العصام وما نبه إليه عبد الغفور، وبوجه
التفهم من قوله (فافهم) عند ما تعرض مسألة من المسائل.
فَكِّروا يا هؤلاء قليلاً: يجتهد عالم بتلخيص القواعد في متن يُسّهل به على
الطلبة سبيل الوقوف على أصول أحد العلوم، فيجيء غيره ينتقد ما كتبه وهو حُر فيما
يعمل ثم يجيء آخر فينتقد الانتقاد.
نحن لا نعترض عليهم لانتقادهم، فليبدوا رأيهم في مسائل العلم، والانتقاد في
الحقيقة فلسفة العلوم، ولكن الذي أستغربه هو تسابق الشيوخ إلى هذه الحواشي
والتقريرات مما تجادل به العصام وعبد الغفور، يجعلونها كتبًا مدرسية يقرأونها على
الطلبة قبل أن يدرسوا أصول العلم نفسه.
اعترِضوا على ما أقول إذا كان لكم اعتراض.
نعم إن هذه الحواشي ليست مما يقرأ قبل درس قواعد اللغة، وإنها مع ذلك لم
تؤلف عبثًا، فإن أصحابها لاحظوا من تأليفها تربية قوة المناقشة والانتقاد في نفوس
الطلبة فصنفوها، وما علينا إلا أن نستعملها في الموضع الذي وضعوها له، ولقد
كان من تحريفنا الأشياء عن موضعها أننا ظللنا جاهلين اللغة العربية، وإذا عرض
لنا بيت من الشعر، وقفنا أمامه باهتين، ننتظر من عبد الغفور، ومن العصام إمدادًا
فلا نرى مِن معين، ثم نسعى لفهم البيت من كتب اللغة فيخفق سعينا لأننا لم ندرس
الأدبيات العربية، وغاية الأمر أن إصلاح المدارس يتوقف على درس متون العربية
وكتب اللغة والأدب، ثم يلتفت الطالب إلى الفقه والتفسير والحديث، تلك العلوم
التي أهملناها، لأن الحواشي والتقريرات استغرقت منا كل وقت.
أتمنى من الطلبة كلهم أن يجتمعوا في مكان واحد، ويفكروا فيما يحوجهم
لإصلاح مدارسهم، ويستجلبوا برنامجات المدارس الدينية في مصر، فإن المدارس
الدينية في ذلك القطر قد أصلح نظامها، فأثمر التعليم فيها ثمرات شهية، وبعد
الاطلاع على تلك البرنامجات يضعون لأنفسهم برنامجًا يوافق حالهم وحال
العصر معًا ويكفل لهم التقدم في اللغة العربية، ثم يبحثون في أي الفنون الحديثة
أكثر لزومًا لهم.
أما أمر معاشكم فنحن نكفله لكم، لأن لكم أوقافًا كثيرة جدًا استولت عليها
الأيدي، وهي تغل لكل واحد منكم ثلاثة جنيهات مشاهرة، لو كان عددكم خمسة
آلاف طالب، وعدا ذلك فإن الأمة لا تنساكم، وما عليكم إلا أن تبرهنوا على
كفاءتكم، ثم إنكم في حاجة إلى تعلم لغة أجنبية، وليس في هذا ما يخالف الدين،
لأنه ليس للدين لغة خاصة به.
هذه اللغة العربية بِنْتُ ستة آلاف سنة، والدين الإسلامي لم يكن إلا منذ ألف
عام وزيادة، وهؤلاء مسلمو كريد لا يعرفون العربية ولا التركية ولغتهم لغة يونان،
فهل كان ذلك مانعًا لإسلامهم، ونحن أنفسنا لغتنا التركية، فهل نتركها لأنها ليست لغة
القرآن التي أنزل بها، وهل اليهود من العرب مسلمون لأن لغتهم عربية؟ كلا،
وإذا كانت العربية لسان الدين ولا يجوز للمسلم أن يتكلم بغيرها، فنحن آثمون لأننا لم
نترك التركية، وهذا ما لا يُسَلِّمُ به عقل ولم يَرِدْ به نص.
فالتركية من هذا القبيل لا فرق بينها وبين الفرنسية والإنكليزية؛ لأن هذه
اللغات الثلاث كلها غير العربية، وعدا ذلك فنحن ندرس في جوامعنا باللغة التركية،
فلماذا لا ندرس بالفرنسية أيضًا، ولماذا لا نتعلم في مدارسنا لغة أجنبية؟ فإذا قلتم:
إن التركية لغة أمة إسلامية، أجيبكم: إن في الصين تُرْكًا أكثر منا عددًا وهم كلهم
مشركون.
فتبيّن من هذا أن اللغة شيء والدين شيء آخر، وما التعصب في هذا الباب
إلى الجهل الذي يسخر من صاحبه الناس أجمعون.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محب الدين الخطيب
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
بالقاهرة
(المنار)
بَعثتْ إلىّ إدارة المجلة بهذه المقالة المترجمة وأنا في الآستانة لأرى رأيي في
نشرها فلما قرأتها رجحت المقتضي على المانع، وأذنت بنشرها، أما المانع فهو أنه
قد سبق لنا في المنار بيان هذه المسائل الثلاث الأساسية التي بنيت عليها محاضرة
الكاظم (تصنيف كتب في العقائد ملائمة لحال هذا العصر، وتوحيد المذاهب
الإسلامية وإصلاح التعليم في المدارس الدينية) بل هي من مقاصد المنار التي أبدينا
وأعدنا القول فيها كثيرًا، وكررناه تكريرًا، فقراء المنار لا يستفيدون بنشر ترجمة
هذه المحاضرة شيئًا جديدًا في هذه المسائل التي طرقت مسامعهم وجالت في مباحثها
أبصارهم، وعلم أكثرهم ما لقى شيخنا الأستاذ الإمام من العناء في محاولة إصلاح
التعليم في الأزهر والمدارس التابعة له، وأما المقتضي فهو ما يستفيده قارئ هذه
المقالة من تشابه علل المسلمين وأمراضهم، بل وحدتها ومن اتفاق آراء العقلاء
وطلاب الإصلاح لها على اختلاف اللغات وتباعد الأفكار، فموسى كاظم أفندي من
علماء الآستانة قام يطالب في عهد الحرية ما سبقه إليه إخوانه من عقلاء العلماء في
مصر والهند من غير تواطؤ بينه وبينهم ولا اطلاع منه على أقوالهم وأعمالهم،
فالمسلمون أمة واحدة مرضهم واحد وعلاجهم واحد وأطباؤهم هم العلماء والعقلاء
العارفون بحال العصر الذين يصدق عليهم تعريف الفقيه في أقوال أحد أئمتهم (هو
المقبل على شانه العارف بأهل زمانه) .
قد أحسن الكاظم في حَثَّهِ طلاب الترك على تعلم أدبيات اللغة العربية؛ لأن اللغة
نفسها إنما تعرف بأدبياتها لا بفلسفة فنونها الصناعية، وفي حثه إياهم على تعلم
بعض لغات العلوم الدنيوية، وحجته في هذه المسألة أقرب إلى القبول مِن حجة مَن
يدعو أمثال طلاب الأزهر إلى تعلم الفرنسية والإنكليزية لأنه لا فرق بين التركية
والفرنسية في نظر الدين وأما العربيةُ فهي لغة الإسلام لا يمكن أن يفهم الإسلام حَقَّ
فهمه ويكون من علمائه إلا من يكون متقنًا لها، وترجمة القرآن ترجمةً تقوم مقام
الأصل العربي وتغني عنه في الفهم والاستنباط والهداية، هي متعذرة كما بينا ذلك من
قبل ويحتاج في فهم الإسلام إلى فهم السنة ومعرفة طرق روايتها
…
إلخ إلخ، ولم
يعط الكاظم هذه المسألة حقها من البيان والتحقيق، وهي لم تكن موضوع محاضرته
وإنما جاءت بالعرض، وقد عرفت الرجل هنا وأرجو أن يكون من خير أنصاري على
ما أسعى إليه من الخير للمسلمين الذي يدخل فيه موضوع محاضرته.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
رسالة جمع النفائس لتحسين المدارس
يقول الذين أرسلوا إلينا هذه الرسالة إن السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل
كتبها ليقاوم بها نهضة المسلمين الحديثة لإنشاء المدارس وطلبوا منا أن نبين لهم
رأينا فيها كما ذكرنا ذلك في الجزء الحادي عشر، وقد تصفحنا معظم الرسالة فظهر
لنا أن كاتبها قد كتب ما يعتقد أن النافع كما هو ظننا في سائر مكتوباته وأنه لم يقصد
تثبيط المسلمين عما هو نافع لهم إرضاء للحكام أو لغير الحكام، ولكن الذين فهموا
منها تثبيط المسلمين عما ينفعهم معذورون ولا يسوغ لنا أن نقول إنهم متحاملون.
الرسالة مؤلفة من ثلاثة فصول أولها في العلم والتعليم والمدرسة وبذل المال
لهذا الأمر ونتيجة العلم، وقد جاء في ذلك بفوائد ونصائح لا بأس بها، وإن كان
فيما استدل به أحاديث ضعاف لا يحتج بمثلها، ولا نطيل في ذلك لما جرى عليه
المؤلفون من التساهل في إيراد مثل هذه الأحاديث في فضائل الأعمال ولا سيما
الغزالي - رحمه الله تعالى - ورأيته يذكر في هذا الفصل كغيره السلف الصالح
ويحث على اتباعه ويعد من ذلك قراءة رسائل وكتب أحمد بن زين وسالم بن سمير
وعبد الله بن عاوي الحداد وغيرهم ممن ليسوا من سلف الأمة، وهم أهل القرون
الثلاثة على المشهور فكأنه يعد المتأخرين من أهل حضرموت وغيرهم من السلف
ولا أدري ما هي مزيتهم على علماء هذا العصر في الهند ومصر وتونس، وعندي
أنه لا يعتد برأيه في الكتب النافعة ولا في طريقة التدريس، والفصل الثاني عشرة
أسطر في الاتفاق على العمل وبذل المال له، ولا بأس به، وأما الفصل الثالث فهو
الذي يثبط همّة مَن تَلقَّاه بالقبول على علَاّته لأنه ينفّر المسلمين من كل ما عليه
الأجانب في علومهم وأعمالهم الدنيوية التي بها صاروا أقوى وأعز من المسلمين،
حتى إن دولة صغيرة في شمال أوربا تستولي على أكثر من ثلاثين ألف ألف مسلم
في جنوب آسيا وتتصرف فيهم تصرف السيد في عبيده الضعفاء، ولو عملت الدولة
العثمانية بمثل هذه الآراء لاستولى عليها الأجانب من زمن بعيد ولم تبق للمسلمين
حكومة مستقلة.
ومن بلايا تناقض هؤلاء المقلدين أنهم يحرمون الاستدلال بالكتاب والسنة على
مَن هم أهل له ويبيحونه لأنفسهم مع اعترافهم بأنهم ليسوا من أهله ومن ذلك استدلالهم
بحديث ابن عمر (من تشبه بقوم فهو منهم) على تحريم كل شيء نافع سبقتنا إليه
أوربا، والحديث لا يدل على ذلك على أن سنده ضعيف عند رواته وهم: أحمد
وأبو داود والطبراني في الكبير، وتصحيح ابن حبان له لا يعتد به لتساهله في
التصحيح، ومعناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم فإن التكليف يصير خلقًا بعد
تكرار العمل فيصير بذلك من القوم فيما تشبه بهم فيه فإن تشبّه بهم في الكتب من
أمور الصناعة صار صانعًا مثلهم وإن تشبه بهم في الأعمال الحربية
صار كواحد منهم في ذلك وإن تشبه بهم في كل شيء صار مثلهم في كل
شيء، ولكنه إذا تشبه بهم في بعض الأزياء أو العادات لا يصير منهم في أمور
الصناعة أو الحرب أو الدين، وإذا تشبه بهم في أعمال الدين فقط لا يصير منهم
في السياسة أو الإدارة ولا في الصناعة والزراعة. فالمسلمون في العراق
موافقون لمسلمي مصر في الدين لا متشبهون وهم ليسوا مثلهم في إتقان الزراعة فمن
الجهل الفاضح أن يقال إن من تشبه بآخر في شيء يصير مثله في غيره،
ويتفرع على هذا أننا نحن المسلمون إذا تشبهنا بالإفرنج في الأمور الحربية
والسياسية والصحية وطرق الكسب فإننا لا نكون معدودين منهم في دينهم، وإنّ
في بلادنا مَن هم موافقون لهم في دينهم، وكثير من عاداتهم، وهم مع ذلك ليسوا
مثلهم ولا يعدون منهم في الأمور السياسية والحربية مثلاً.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية
والطيالسة الكسروية (من لباس المجوس) ، ولما أخبره سلمان الفارسي - رضي الله
عنه- إن المجوس يحفرون الخنادق حوْل بلادهم إذا هاجمها العدو أعجبه ذلك،
وأمر بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وعمل فيه بنفسه (بأبي هو
وأمي) صلى الله عله وآله وسلم، فبهذا البيان يظهر خطأ السيد عثمان بن عقيل في
منعه أن يكون في مدارس المسلمين شيء ما يشبه ما في مدارس الأجانب، وخطأ ما
أطالت به مجلة (دين ومعيشت) الروسية في بعض المسائل التي جعلت تكأتها فيها
حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) وهذه المدارس النظامية في مصر والآستانة
والشام على طراز المدارس الأجنبية ولم ينكر ذلك أحد من العلماء في هذه البلاد وما
أظن أن السيد عثمان يعد نفسه في طبقة علماء الأزهر.
وقد أورد السيد عثمان في هذا المقام حديثًا آخر وهو (من أحب قومًا حشر
معهم) ، وهذا الحديث أورده الحاكم في المستدرك بلا سند فلا يحتج به ولو كان
الرجل عالمًا بالحديث لأورد ما صح بمعناه وهو حديث أنس عند الشيخين (المرء
مع من أحب) وفي المعنى حديث (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)
رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة وهو ضعيف ولكن حسنه الترمذي
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، والمراد بالحب هنا ما يحمل المحب أن
يتقرب إلى من يحبه ويطيعه ويقتدي به، وما كل نوع من أنواع الحب يحمل على
ذلك، وقد أباح تعالى للمسلم أن يتزوج باليهودية والنصرانية والزوج يجب زوجه
فلو كان معنى الحديث أن كل محب يكون مع مَن أحبه في الدنيا والآخرة لاستلزمت
إباحة نكاح الكتابية كفر المسلم الذي يتمتع بهذا المباح، ولاستلزم ذلك الترجيح بلا
مرجح فيما إذا أحب كلّ مِن هذين الزوجين الآخر كما هو الغالب وهو محال، وأبلغ
من ذلك أن الله تعالى قال في خطاب المؤمنين مع اليهود الذين كانوا أشد الناس
عداوة لهم {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) فراجع
تفسير الآية في ص88ج4 تفسير القرآن الحكيم.
ومع هذا كله نقول: إن الذين ينظمون مدارسهم على طريقة الأوربيين
ويتعلمون علومهم لا يقتضي ذلك أن يحبوهم، بل نرى من المتعلمين في أوربا مَنْ
هم أشد تعصبًا من غيرهم؟ وقد ذَكَرْتُ هذا لبعض العثمانيين هنا (في الآستانة)
فقال والمتعلمون منا على الطريقة الأوربية كذلك، فالسيد عثمان ليس مختبرًا ولا
عارفًا بهذه المسائل، وقد علمت أن الحديثين اللذين أوردهما لا يدلان على مراده إن
قلنا بأنه يحتج بهما، وما كتبه ضار جدًا وإن أراد به النفع بحسب اجتهاده، وما هو
بأهل الاجتهاد سامحه الله تعالى.
ومِن تهافته أنه بعد أن استدل بالحديثين على مالا يدلان عليه لقلة بضاعته في
العربية على كونها بضاعة مزجاة شَرَعَ يحذر تَرْكَ قراءة كتب السلف الصالحين
والاستعاضة عنها بقراءة كتب التأريخ والجرائد، وذكر من مضارها أنها تورث
العقائد الفاسدة ودعوى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة، وإذا جاز لمثله أن يأخذ
من الكتاب والسنة فعلى من يمتنع ذلك؟ وإنني أنقل شيئًا من كلامه بنصه لئلا يتوهم
بعض قراء المنار أننا نرد على عالم مؤلف أخطأ فكبرنا خطأه أو بالغنا في استهجانه
أنه حصر عيوب المكاتب والمدارس في ثلاثة أشياء وذكر الأولين منها وهما في
المعنى أمر واحد هو التشبه بالأجانب، ثم قال ما نصه وصورة رسمه:
(والثالث من تلك الفواقر والخساير ترك قراءة الكتب التي يقرؤونها السلف
الصالحون التي يكتسبون منها العلوم النافعة وخشية الله والأعمال الصالحة وتبديل
تلك الكتب بكتب التواريخ المختلفة والجرائد المعتنقة التي يُورِثُ في اللسان اللقلقة
وفي القلب العقايد الفاسدة وفي الدين التساهل وتتبع الرخص بل تورث دعوى
الاجتهاد المشبه بخرط القتاد وذم التقليد بلا تقييد ودعوى استقلال الأخذ من السنة
والقرآن مخالفة لما عليه المفسرون الأعيان فما هي إلا كراكبة التان تظن أنها تسابق
الفرسان ومضادًّا لسيرة السلف الصالحين بل استخفافًا بهم بأنواع التنقيص وعنادًا
بالمكابرة والمغالطة والأدلة الساقطة) اهـ.
ولا يحسبن القارئ أننا اخترنا هذه العبارة اختيارًا لركاكتها وكثرة غلطها
ووضوح دلالتها على تجرد صاحبها من الفنون العربية كلها بل جميع عباراته كذلك
وهو مع هذا يستنبط الأحكام من الآيات والأحاديث فيحرم على الناس ما أحل الله لهم،
ويحل لهم ما حرم الله عليه، ولاسيما القول في الدين بغير علم ثم ينكر على
العلماء الراسخين مثل هذا الاستدلال.
هذا وإننا ننصح لأولئك الأبرار الأخيار الذين ينشئون المدارس أن لا يلتفتوا
إلى هذه الرسالة ولا إلى شيء من رسائل هذا الرجل ولْيختاروا لمدارسهم المعلمين
الأكفاء الذين يجمعون لهم بين علم الدين وما يلزم لهم من علوم الدنيا وأنْ
يكون لسان حالهم ومقالهم هو لسان القائلين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 201- 202) .
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
خديجة أم المؤمنين
(7)
الفصل الخامس عشر [*]
(بيت خديجة بعد الزواج)
وبدأت السيدة (خديجة) بعد هذا القران السعيد تزداد معرفة بهذا الجوهر
الكريم الذي أتاحه الله إليها، فألقت إلى يد هذا الأمين بكل ما تملك ولم يرعها أن
الكرم المستحكم في سجاياه سيحمله على إخراج نصيب كبير من هذا المال إلى
الضعيف والعائل، فإن سيدتنا لم تكن مع تدبيرها بالشحيحة الكاظة على المال الفاني،
بل كانت قد خلقت لتكون مساعدة على الجود، وهل بعد معرفتها بهذا الكُفُؤ
الشريف ترى لنفسها معه أمرًا ينافي أمره، أو رأيًا يغاير رأيه، وهي تلك العاقلة
الحكيمة المستعدة أن تزداد كمالاً كلما أشرق لها من سماء الفيض الإلهي نور منه.
وأصبح هذا البيت مثابة للمضطرين وأمنا فقصدته الأيامى، وشبعت فيه
اليتامى، وخففت فيه أحمال كثيرين ممن حُنَيت ظهورهم بكثرة الآل، وقلة المال.
كانت تلك البلاد أحيانًا تُصاب بعسر بل كل بلاد العالم لا تسلم من العسر على
الدوام فمساعدة الموسرين في زمن العسر للمعسرين أمر تقضي به الإنسانية، ولكنْ
قليل من الناس من يكون لهم حظ بالتغلب على شياطين الشكوك والأوهام التي تنهى
عن الإنفاق خشية الإملاق، أما سيدتنا فكانت ترى إنفاق زوجها ومساعدته للمعسرين
وأخذه بيد العائلين من جملة المزايا العالية التي تقرُّ بها عينها.
وفي إحدى الأزمات كانت ملائكة الرحمة تحوم في ذلك البيت حول أحد
الصبيان، وتطوف في آفاق نفسه لتطهرها من كل شر حتى لا يخرج من هذا البيت
إلا وهو إمام للناس في الخير والصلاح.
وكان هو لاهيًا عما أُعِدَّ له، وعابثًا بمثل ما يعبث به أترابه، ولم يكن هذا
الصبي يتيمًا بل كان أبوه حيًّا ولكن أبناء السعادة أبناء المجد الأبدي، أبناء المجد
السرمدي، تستأثر العناية الأزلية بكفالتهم وتربيتهم بصورة خاصةً وظاهرة يراها من
استعدت بصائرهم للاطلاع الجيد.
لم يكن أبو هذا الصبي ليسمح وهو حي أن يتربى كالأيتام في غير بيته؛ لأنه
هو ذلك الشهم الشهير والشريف الخطير (أبو طالب) ولكن اشتداد الأزمة في إحدى
السنين اضطره أن يقبل رجاء أخيه العباس وابن أخيه (محمد الأمين) بأن يأخذ كل
واحد منهما ولدًا من أولاده تخفيفًا عنه فكان هذا الأسعد الذي أخذه الأمين هو عليًّا
الذي صار الإمام أبا الأئمة، وبدر سماء السيادة في الأمة.
كانت تربية عليّ في البيت من جملة المكتوب للسيدة خديجة من حسن الحظ
فإن الغيب كان يعده لأمر جليل له علاقة بهذا البيت.
لعله لم يخطر على بال أهل هذا البيت إذ ذاك أن هذا الصبي الذي يدرج
أمامهم فيسرون به سيكون الواسطة الوحيدة لحفظ نسلهم، ومن أين كانت تعرف
السيدة خديجة، أنه لا يعيش لها من الذكور ولد، وأن هذا الصبي الصغير قد أعده
الغيب ختنًا كريمًا وبعلاً صالحًا لبنتها الصغيرة، وكيف تعلم أنه لا يتسلسل لها عقب
إلا من تلك الكريمة (فاطمة الزهراء) وأنّى يخطر في بالها أنها إنما كانت تربي هي
وزوجها جدًّا لعترة تتصل بهذا البيت سَيَعُدُّهَا العالم من أشرف العِتَر وستبقى مباركة
في الأرض دهورًا طويلة عالية المنار، عظيمة الشأن.
نعم، كل ذلك لم يخطر في البال إذ ذاك، ولم يكن الذي في القلب إلا القيام
بالواجب الذي يقضي به التضامن.
نعم! نعم كل ذلك لم يخطر في البال ولا نوى سيد هذا البيت مكافأة عمه على
تربيته التي سبقت له، فإن بين ذوي القربى لا توجد المكافأة بل يوجد التضامن
ولكن كان هذا البيت المملوء نعمًا يتقاضى وجود نفوس كثيرة تشاركه في تلك النعم
لأن لأهله نفوسًا لا تعرف الاستئثار، بل تراه من العار والشنار، لا سيما إذا بئِس
الجار.
وقد استفاد من مادة هذا البيت كثيرون كما أشرنا إليه، أما عليّ فإنما خصصناه
بالذكر ليَعرف مَن عرفه أو سمع بمناقبه العالية وفضائله الزاكية كيف كان هذا البيت
السعيد مسعِدًا للأرواح، كما كان مسعِدًا للأشباح، وليعرف القارئ بسهولة أن
البيت الذي أخذ ابن أبي طالب آدابه فيه منذ كان صبيًّا قد كان مهدًا لأكرم الآداب
وأعلاها فإن عليًّا المرتضى هو من عرفه العالم كله، هو ذلك الإمام الأكبر الخليق
أن يكون مثال القدس وزكاء النفس، هو مجمع المعالي وملتقى الأسرار العظمى
ومظهر الولاية الكبرى.
فما أكرم هذا البيت السعيد وما أعظم بركاته وقد رأينا الأمين يجد فيه مجالاً
للتخفيف عن المثقلين، والتنفيس عن المكروبين، وفيه وجد القصاد صدورًا رحبة،
وأيدي مبسوطة، ولديه خيمَّ الوجود والسخاء، كما خيم العدل والوفاء، ومنه
أشرقت الآداب العالية، والتربية الكاملة، وماذا ترى من بركات هذا البيت بعد ذلك
يا ترى؟
***
(العمل الروحي)
أشرفنا الآن على بحر كثيرة لججه، صعبة مسالكه، وصلنا إلى ساحل هذا
البحر ولا بد من جوزه، وأكثر السفن لا يوثق بها في غمراته. ولابسو ثوب
الهداية رأس مالهم الدعوى، وما حيلة الحائرين غير الرجوع إلى الله في الجهر
والنجوى.
ههنا نبأ جليل تحار العقول المستقلة بفهمه، وتشتاق أن تقف على روحه وحدّه
ورسمه، هنا قد بلغْنا من سيرة هذه السيدة الجليلة أن بعلها كان من دأبه أن يتعبد
بعض الأوقات في غار من جبل قرب مكة اسمه (حِراء) فما هو هذا التعبد وكيف
هو، وما الذي ساق نفسه إليه، وأيُّ دين فرضه عليه؟
هذا هو النبأ العظيم الذي تتمسك بنا العقول المستقلة إذ نسمعه ولا تدعنا نجوزه
إلى غيره من غير أن نوضحه، وإذا أخذنا بإيضاحه نخشى أن نبعد بالقارئ عن
سياق السيرة، ولكن يقوي عزمنا على هذا الإيضاح ظنُّنا بأن الراوي الذي يشرح
كل دقيقة فيما يمر به من حكايته قد يفيد القراء أكثر ممن يسرد الأخبار سردًا.
إن الأديان كلها رسمت أعمالاً اسمها عبادات، ولكن بعل السيد خديجة لم يكن
تابعًا إذ ذاك لدين؛ لأن دين قومه كانت عبادته عبارة عن تمجيد بعض الأحجار التي
هي عندهم تماثيل أشخاص مقدسين ولم يكن هو قد تعود هذه العبادة التي لهم.
العبادة التي عرفت في الأديان كلها هي بحسب الظاهر أعمال وحركات
يرسمها رؤساء الدين من أنبياء وغيرهم، أما لبُّها فأشواق روحية تقوم في نفس
العابد أمام معبوده ويصح أن نسميها عملاً روحيًا حينئذ.
كان بعل هذه السيدة يأتي في غار حِراء بعمل روحي تتوجه فيه روحه تلقاء
بارئ السماوات والأرض، ومشرف مكة وسائق نفوس العرب إذ ذاك إليها، ولم
يكن مقيمًا أعمالاً رسميةً.
إن البحث عن سبب تسمية تلك الأعمال الرسمية عبادة في لغتنا يكلف به
مشرح اللغة، والبحث عن أسباب اختيار الأقوام السالفين هذه الصور والأعمال
المخصوصة تحت اسم العابدة يكلف به مشرح التأريخ، أما البحث عن الأشواق
الروحية أو التعبد المحمدي في (حِراء) فمكلف به كاتب سيرة السيدة خديجة.
العبارة لا تشفي الصدر في تجلية هذه المعاني ولكن شدة ارتباط هذا الموضوع
بهذه السيرة داعية إلى السير في هذا البحر العظيم.
قد سمعنا في سيرة زوج هذه السيدة أن روحه كانت من أعلى الأرواح، ونحن
نؤمن بهذا، ولكن إذا نحن لم نتعرف بالروح ولو قليلاً فماذا يكون معنى إيماننا بهذا؟
لا جرم أن تعرفنا بالروح ضروري في هذه المقامات وهو أمر يشتهيه كل امرئ
لأن كل واحد منا تخطر في باله هذه المسألة:
ما نحن؟
هذا سؤال قد علم الذين بعُدَ نظرهم في ماضي البشر أنه من جملة فضل الله
عليهم وهو أساس ما يسمى في لغتنا دينًا وديانة وملة وأحد الأصول والأسباب في
ترقي هذا النوع الإنساني وتكمله.
هذا سؤال تحيط به محارة طال وقوف العقل فيها، ههنا مرسى سفينة العقل
الذي يحاول معرفة نفسه ومنها يبتدئ مجراه لأجل إدراك هذا الجوهر.
مواقف الباحثين كادت تتساوى أمام صعوبة هذا السؤال، إذ لا براهين عقلية
قطعية في نفي شيء أو إثبات شيء في جوابه، ولكن إذ عزَّت هذه البراهين لا
يعدم عشاق هذا المطلوب آيات كثيرة في الوجودات، ومن فضل على أهل هذه
الصورة البشرية جعل قلوبهم مستعدة لقبول ما تأتي به هذه الآيات من ضياء ولا
يُحْرَمه إلا قليل تُزمن فيهم الحيرة لأسباب محسوسة وغير محسوسة.
هذه الوجودات قد ملئت آيات، فإذا حال دونها الحجب لجَّ العقل في محارات
أو عمايات، وإذا بدت لا يحجبها حاجب نهج في هدايات أنها لمن تأمَّل مراتب
وصفوف، ولكل وجود قوة، ولكل قوة أثر، واختلاف القوى وآثارها، هو على
مقدار أشكال الوجودات وصورها وحيِّزها، ولما رزق الإنسان هذا النطق الواسع
وضع أسماء لكل ما لاح له من وجودٍ، وظن المسكين أنه بوضع الأسماء أحاط
بالحقائق وهي لم تزده عنها إلا بعدًا.
الإنسان بعض هذه الوجودات وفيه قوى تحتاج حسب عادته إلى أسماء،
فالروح للإنسان اسم للقوة العظمى التي فيه، اسم لما يكون به الإنسان مستقلاًّ متميزًا
يقول أنا ويقال عنه هو وإن عفا أثره.
آمن الناس بهذا الاسم متفقين، ولكن فيما يدل عليه قد اشتد تباينهم، وحار
نظرهم في إدراك حقائق هذه القوى التي في الإنسان وفي كيفية علاقتها بهذا الجسم
البشري الذي متى برحته أصبح لا فرق بينه وبين كثير من صفوف الجمادات، والذي
يزيد حيرتهم شدة تسامي بعض الأرواح كروح من سعدت بقربه سيدتنا صاحبة هذه
السيرة.
بحثت كالباحثين، وحرت كالحائرين، ثم وجدت كالواجدين، فما ألذها على
القلب من حيرة عقباها بلوغ الغاية، والحمد الله رب العالمين.
إليك حديث نفسي بشأنها: (أفقت اليوم من النوم ونصل حسي وشعوري من
غلافه، كما نصل هذا الفجر من غمده، فوجدتني كأنني وليد هذه الساعة، لأنني
قبل هذه اللحظة لم أكن أرى هذه الأكوان، ولم أحس بما فيها من الأصوات والألوان،
ولم أكن اشعر بملائماتي ومؤلماتي، فكأنني كنت غير هذا الموجود الجديد.
أين كانت لذتي برؤية هذه القبة، وأُنْسي بما على هذا البساط، وأنَّى كان
ابتهاجي بزواهر هذه الزرقاء، وزواخر هذه الغبراء
…
ومِن حولي الآن أغاني
طيور، ورقص غصون، وأريج زهور، وبدائع نقوش، وترتيب صنوف،
وحركات نور وتجليات سكون، وفيّ أنا آثار انفعال من كل هذا قد تحرك بها ما اسمه
فكري ثم تحرك بها ما اسمه لساني فسمعتني أقول: (سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلاً) .
سبحانك يا فاطر يا بارئ يا مصور ولك الحمد، أنا متذكر الآن أنني أبصرت
هذه المرائي، وسمعت هذه الآمالي أمس لما بزغ الفجر بزوغه هذا، فأين ذهب
إبصاري وسمعي بين ذينك الأبصار والسمع اللذين كانا أمس وبين هذين الأبصار
والسمع اللذين أتياني الآن وأنا متذكر أن هذا الأمر وقع لي مرارًا كثيرة ألوفًا من
المرات فما هذا الاحتجاب ثم الظهور، وأين كان الإحساس محتجبًا قبل أن عرفته
أول مرة.
رباه، من أسائل عن هذا
…
؟ إن هذه الصوامت التي من حولي لا تجيب،
لعلها لا تسمعني، أو لعلي لا أسمعها، أو لعلها لا ذكر لها في هذه المسائل، وكيف
أصب على جهلي بشيء يتعلق بي، كيف لا أبحث عن أصل إحساسي وعن
احتجابه، ألا يهمني أن أعرف هل أمره كأمر هذه الشجيرات يتحاتُّ ورقها ثم يعود
ثم تيبس مرة واحدة فتصير حطبًا ثم رمادًا؟ أم أمره كأمر هذه الشمس يظهر نورها
على جهة ثم يغيب عنها ثم يعود إليها وهو لا يزول أبدًا، كيف أقنع للنفس الإنسانية
بحالة هذه الشجيرات، وهي لها من الخواص والآثار ما ليس لشيء غيرها في هذه
الأرض. كلا سأسائل، ثم كلا سأسائل.
رفعت رأسي إلى السماء فألقيت بواهر ولا مجيب، وأهويت به إلى الأرض
فألقيت بواهر ولا مجيب.
فضاء أمامي، لا أعرف له ساحلاً وحدًّا، تارة يفيض نورًا، وأخرى يحتجب
بالظلمات، أراني وأرضي محمولَين فيه ولا أعرف من هذا المتن العظيم إلا أسماء
وضعوها له لا تشرح كُنْهًا ولا تؤذن بدلالة كافية.
تتلاعب فيه النسمات لعلها ناسية أن الأمر جد، وما هو بالهزل واللعب،
وتتناغى فيه الأصوات كأنها تحسب أن في كل موجود دماغًا يأخذ بحظ منها ولعل
حسابها خائب.
بيني وبين كل ما هو محمول في الفضاء مثلي علاقة قد عرفتها بهذا النور
البازغ، فهل بزغ هذا النور لأعرفها أم لتعرفني، وهل كانت لي أم كنت لها أم كنا
جميعًا لهذا النور أم كان هو لنا، ولكني أعرف يا نور أنه لولاك ما عرفت شيئًا.
سلام عليك أيها النور يا حاملاً نعمة المعرفة إلينا، وشكرًا لمن تسبح أيها
النور بجلاله، وتهدينا إلى آيات جماله.
بالنور عرفت ما عرفت ولكن لست أدري كيف عرفت، قد نقشت السموات
والأرض على عظمتها في لوح لا يكاد يحس في دماغي، فهذا اليمُّ الذي يعجُّ الآن
أمام غرفتي أصبح لا شيء عندي على اتساعه لأنه محدود، وهذه الشمس العظيمة
التي بدأت تبزغ هذه الساعة قد غدت صغيرة في عيني لأنني أحطت بها، وهذه
الأرض التي أراها كسرير لي قد تلاشت في نظري؛ إذ وجدتها هي وكل بحورها
ذرةً طافيةً في ذلك اليم الذي لا ساحل له، أدركت في هذه الساعة أن هذه الأشياء
كلها مهما عظم حجمها في كالصفر بالنسبة إلى ما لا يتناهى، فعلمت أن ليس فيما
أحاط به حسي ما يدفع عن فكري عطشته.
راقني جمال هذه الكائنات ثم حيرني منها أنها كلها مسخرة لنا، وما نحن لها
بمسخرين فهل نحن على صغر حجمنا أكرم معنى منها؟ .
تركت حيرتي ههنا والتفتُّ إلى هذه الشجيرات التي أراها تتزين كعرائس
الأنس وسألتها فلم تجب أو لم أفهم حفيفها، وانثنيت إلى هذه اليمامات الراقصة
بأعناقها فسألتها فلم تجب أو لم أفهم هديلها، لكنني استأنست بهذه وتلك أكثر من
استئناسي بالمتحجرات لا شوق يخالط منها الجنان، ولا حركة لها إلا على يد
الإنسان، وطال أنسي بهذه الخضر المترنحات، والورق المتغنيات، حتى كدت أفقه
حديثها، وأفسر تبيانها، هذه ذكرتني بمعنى الحياة وأعادتني إلى نفسي وهي ضالتي
المنشودة وبها الهدى إلى ما أنشده.
لم أجد غير نفسي تجيبني عن نفسي بعد أن ساح حسي وفكري في هذه العوالم
المحدودة
…
إياها ناجيت، وكلامها وعيت، فهي التي حدثتني أني لست إلا ذرةً
صغيرةً جدًّا سابحةً في هذا الفلك، وفي هذه الذرة الصغير ذرات كثيرة كل واحدة
منها بالنسبة إلى الذرة الجامعة هي كواحد من ألوف ألوف ألوف الألوف، وفي كل
واحدة توجد الحياة ولكن ليست كلها مركزًا للحياة لأننا نجد أن ألوفَ ألوفِ ألوفٍ من
هذه إذا أفسد وضعها لا تزول الحياة، ولكن هناك بعض ذرات إذا أفسد وضعها تزول
الحياة كلها من جميع هذه الذرات التي يتكون من مجموعها الجسم فهذه الذرات القليلة
التي هذا شأنها هي مركز الحياة.
أعظم مجالي الحياة في نظري هو الإدراك الفكري وهو قارٌّ في ذرات قليلة لا
يحاط بها.
أدهشني هذا الموقف الذي وصلت إليه، وهذا المرأى الذي وقفت عليه،
حيرني من هذه الذرات أن تسع صور السموات والأرض، وصور أعمال البشر منذ
كانوا إلى اليوم، وحيرني منها أن هذه النتائج العظيمة التي تصدر عنها إنما تصدر
إذا كانت بوضعها المخصوص، وما أسرع زوال هذه النتائج إذا اختل وضع الذرات.
رأيت هذا الأمر العجيب ولكن لا مستقر للفكر عند هذا المرأى، إذ قصاراه
أني عرفت شيئًا صغيرًا جدًّا يسع أشياء لا تحصى مع أنني إنما أبغي أن أعرف ما
هو ذلك الشيء الصغير مبناه جدًّا جدًّا العظيم معناه جدًّا جدًّا؟ ما هو ذلك الشيء
الذي بوجوده على حالة مخصوصة يكون هذا الجسم متحركًا حساسًا يحيط بالسماوات
والأرض، وبتغيره يغدو هذا الجسم ترابًا صامتًا صابرًا تحت الأقدام، ما هي تلك
الحالة المخصوصة؟ وما هو تغيرها وكيف نظامها؟ هل هو في إحاطته تلك تابع
لهذا النظام أم النظام تابع له؟ هل هو يحتاج إلى هذا النظام بعينه أم يستطيع أن
يؤلف نظامًا آخر متى تغير نظامه هذا؟ وإن كان تابعًا لهذا النظام بعينه فهل وجدت
هذه الصبغة لتزول بأسرع من لمح البصر بالنسبة إلى عمر غيرها على ما يتخلل
وجودها من الاحتجابات؟ .
محارات بعد محارات، ولكن تلوح خلالها آيات، إذ قد ملأنا رب الوجود
أمثالاً، وأتاحت لنا معرفتنا بالأمثال أن حقائق الأشياء محتجبة والظاهر إنما هو
آثارها: فهذا النور الذي يملأ الفضاء لا نعلم كنهه، وهذه الشمس وما حولها لا
ندري كيف قامت، قصارانا أنَّا عرفنا سبحها في هذا الفضاء لا يسندها عمد، ولا
يعتريها سكون، وهي مع ذلك سائرة بنظام، ودائرة بإحكام، لا تخرج عن
مستقراتها، ولا تحيد عن مجاريها، ولكن ما هو ذلك السر الذي قامت به هذا المقام
سموا شيئًا من ذلك بالجاذبية فهل هذه التسمية دالة على الكنه والحقيقة؟
إن قصارى ما نعرفه من هذه المركبات أنها قابلة للتحلل فإذا حللناها انتهينا
إلى عناصر قليل عدها لا تتحول ولا تتحلل هي الأمهات ثم هي تنتهي إلى أم واحدة
لا نعرف من أمرها شيئا.
المشاهدة هي أكبر وسائط معارفنا، ولكن آلة هذه المشاهدة عاجزة عن أن ترينا
الأشياء كما هي، ولو اقتصر الأمر عليها لكانت علومنا بهذه الكوائن خطأ من أولها
إلى آخرها.
هذه الشمس التي نحن وأرضنا في نظامها الكبير أقل من حبة رمل في جبل
عظيم ليست أمام المشاهدة الخصوصية لكل واحد منا إلا كمصباح بسيط يشتعل
ساعات وينطفئ ساعات، وما هي إلا بحجم كرة مما يلعب بها اللاعبون.
على هذه النسبة من الخطأ نرى كل شيء أقل من حجمه وعلى خلاف وضعه،
فقد نرى واحدًا وهو متعدد، وبسيطًا وهو متركب، وساكنًا وهو متحرك، وصغيرًا
وهو كبير، حتى نصل إلى ما هو صغير جدًا فلا نراه ألبتة كما دلتنا التجارب بعد
أن اهتدينا للآلات الصناعية التي تساعد بواصرنا الطبيعية أيما مساعدة.. بهذه
الآلات استطعنا أن نرى أنواعًا من الحيوانات كانت خافية على الأبصار دهورًا
دهارير، ولعلنا سنهتدي إلى ما يرينا أصغر من تلك الصغائر، ونحن في مثل هذه
الهدايات العظيمة التي جاءتنا هدية من الفاطر على يد التجارب لا نجد ما يمنعنا من
الظن بأننا مهما استعنا بالآلات نبقى في مشاهداتنا بعيدين عن كشف الأشياء كما هي
وتبقى أشياء كثيرة خافية على أبصارنا وآلاتنا مهما بلغنا بها.
فما أكرمك يا عيني عليَّ، أنتِ أنتِ كنت سبب إرشادي إلى حقيقتي إذ لم
تريها لأنني عرفت بالتجربة أنك مسكينة عاجزة لا ترين كل شيء ولا ترين شيئًا
مما ترينه على وضعه وحقيقته فاضطرت أن أقيس وجودي على وجود غيري.. لا
جرم أن لي حقيقة مستترة عنك وراء وجودي الجسمي الذي تشاهدينه كما أن وراء
النور حقائق مستترة ولا جرم أن حقيقتي هي سبب وجودي كما أن الحقائق المستترة
وراء النور هي سبب وجوده.
إن الحقيقة العظمى التي هي باطنة من وراء الأشياء كلها، وظاهرة عليها كلها
هي حقيقة واجب الوجود، حقيقة مَن لا بد لوجودنا مِن وُجُودِه، ولا بد لتشكلنا
وتنوعنا من فيض تخصيصه وجوده.. هي حقيقة من له الحياة الأزلية الأبدية لأن
الحياة التي نعرفها منه صدرت، وله العلم الأزلي الأبدي لأن العلوم التي نعدها من
فضلة أتت، وله الإرادة الأزلية الأبدية لأن الإدارة التي نجدها من لدنه أهديت، وله
القدرة التامة الشاملة لأن القدرة من عنده نشأت.. هي حقيقة مَن لا مِثال له في
كمال وجوده، وعنه صدرت أمثلة الكمال في الوجودات الظاهرة.. هي حقيقة البارئ
المصور الذي برأ حقيقة مثال كامل حيّ سميع بصير مريد، وجعل حجابه هذا
الهيكل البشري.
أصبحتُ لا أرتاب في أن الحقيقة العظمى هي التي تهدينا بآثارها وبإمداداتها
إلى كل شيء مما نعرفه، ولكن لشدة ظهورها الذي قد يعادل البطون ربما تخفى،
فإذ نطلب معرفة النفس تظهر آياتها العظمى فسبحان الله.
من عرف ربه فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.
عرفت الآن من أمر نفسي أو روحي أنها لا يعرف كنهها ولم يزدني جهلي
بكنهها إلا إيمانًا بحقيقتها الجليلة المستقلة عن الجسد لأنني لم أعرف من أمر كل
جزء من أجزاء الجسد إلا مشابهته لهذه الجمادات التي أمامي وليس فيما أمامي شيء
يجمع فيه ما تجمعه هذه الروح. وقد حاولت كما يفعله بعضهم أن أنسب هذه
الخواص إلى المجموع المركب من هذه المواد على نظام خاص فلم يسلس له فكري
بل جمع عنه كثيرا لتذكره النظام الشمسي وذهابه إلى أنه إنما قام بما يسمونه الجاذبية،
ولم تقم هي به فما نفسنا أو روحنا إلا جاذبية النوع وكهربائية الخصائص والمزايا،
وهي هي مؤلفة الهياكل وناظمتها، لا بِدْع في ذلك، فالكوائن كلها من أصل لا
يرى ولم تنفصل عنه، ولا يكون الأصل تابعًا للفرع ولا ضرورة لتغير الأصل إذا
تغير الفرع، ولا يصعب فهم هذا على من عرف كيف يتجسد ما لا يرى فيصير مما
يرى، وكيف يتلطف ما يرى فيصير ممالا يرى، الصناعة بهذا ضمينة، والتجربة
فيه هادية أمينة، ولا يصعب أيضًا على مَن عرف آيات النفس التي تظهر في
بعض الأشخاص لنتعلم بها أن لها شؤونا غريبة جدًّا فوق المعهود منها والمألوف مِن
دخولها في قيد الحس، سبحان الله كم لها من انطلاق منه يظهر معه أن لا حاجة لها
بهذه الآلات العضلية والعظمية والعصبية.
نحن شاهدنا من هذا كثيرًا، وشاهد مثلنا خلق لا يحصون، والباحثون
المحققون شاهدوا أيضًا أو نقل إليهم ثقات كثيرون مجموعهم يدفع عن نفوسهم الريب
وما علمنا أنهم وجدوا لهذا الامتياز الفائق أسبابًا جلية، غاية ما صنعوا أنهم وضعوا
لبعض هذه الأمور أسماء وظن القاصرون أن هذه الأسماء تحل الأشكال، وتحكي
حقيقة الحال.
وسمعنا سماعًا لا يستطيع الريب معه البقاء أن أشخاصًا يشفون أمراضًا
معضلة بغير علاج ولم يقل لنا علماء الأبدان في تعليل هذا الأمر إلا إنه شفاء بالوهم
فيا عجبًا ما هو هذا الوهم الشافي ولماذا لا يشفى بالوهم كلُّ شخص؟ !
حالة المنوَّم تنويمًا مغنطيسيًّا هي من الأدلة الصريحة في هذا الباب على شدة
غرابة أمر هذا الموجود الصغير الكبير واستعداده لخرق الحجب الكثيفة، وقدَّ القيود
الحسية، وعمله الأعمال العظيمة من غير حركة بيديها أو واسطة يأتيها.
هذا حديث نفسي وخلاصة ما ظهر لي أن الروح خلق مستقل ذو ظهورات
فائقة، واحتجابات محيرة، هو أقسام كثيرة، نصيبنا منه عظيم، وارتقاء نوعنا
لولاه عديم، هو الحي السميع البصير المريد المستعد للظهور والاجتنان، المصنوع
آية كبرى دالة على جامع الأكوان.
وظهر لي أن خصائص الروح الشوق، ولو قلت إنَّ الروح هو الخلق ذو
الشوق لما وجدت هذا غريبًا في تعريفها. ولكل روح شوق يناسبها وعلى نسبة
شوقها تكون رتبتها وصفها في عالمها الذي هي منه، وفي عالم المثال والعيان الذي
دفعها إليه شوقها إلى الظهور.
كانت روح هذا السيد بعل سيدتنا خديجة من أعلى الأرواح، وكان شوقها
أزكى شوق وأقدسه، كانت عظيمة الشوق إلى رؤية فاطرها ولكن هل الفاطر عز
وجل يُرى؟ لعلها حارت زمنًا في هذا الأمر، ولعلها قالت لو كان يُرى لكان محدودًا
وكيف يدخل في حد من برأ الحدود، ولعلها عادت إلى زيادة التبصر فقالت هل
الرؤية مخصوصة بهذه الباصرة، وهل يشترط أن يكون المرئي متشخصًا، أليس
القصد من الرؤية العلم، ألا يمكن العلم بالفاطر مع أنه غير متشخص.
هذا ما كانت تحوم حوله هذه الروح العلوية التي كان مظهرها وبيتها الصوري
في بيت خديجة، ومطافها ومطارها ملكوت الحق، ملكوت الوجود الأعلى.
ولعلها يئست من أن تجد فيما حولها ما يَرْوى أوارها من معرفة فاطرها الذي
أشتد شوقها إليه بل لعلها غلب عليها ذلك الشوق حتى أصبحت زاهدة في كل رؤية
وكل سمع لأنها تريد أن ترى وتسمع الذي إليه طارت شوقًا ولذلك رأينا (محمدًا)
صلى الله عليه وسلم، قد حُبِّبت إليه الخلوة والانفراد؛ ولا سيما إذ شارف
الأربعين من سنيه، وكان لغار حراء الحظ من هذه الروح الحائمة على حبيبها
وطبيب شوقها.
مَن ذا الذي يعلم غير الله ما كان يقول هذا المنقطع في ذلك الغار؛ ولكن يصح
لنا أن نظن بأنه كان يساقط الدموع ويناجي المقصود المطلوب بقوله: رباه، رباه،
كيف الوصول إلى حضراتك؟ كيف السبيل إلى مشاهدات تجلياتك؟ إليك أيها
المولى من مزيد حبي قيامي وقعودي، وركوعي وسجودي، ومن مزيد شوقي ذرف
دموعي، وفرط ولعي، رحماك رحماك ياربي، كبد تذوب وعين تسيل، وفكر
يتدله، وأنت أنت مطلوبي، وأنت أنت ذو الكرم والجود.
على هذا المثال كانت حاله وهذا هو العمل الروحي الذي شغل به باله، وقد فهم
القريبون من فهم الروح مقدار فوائد هذه النجوى القدسية، وأما البعيدون عن هذا
الشوق فيعجبون وينكرون، وليتهم يتذكرون محن الناس وتدلهاتهم بهذه المتغيرات
من صور وأشكال لا تتوقف الحياة عليها، ولا يجدون الطمأنينة لديها، هذه المحن
والتدلهات أقضى بالعجب لَعَمْرُ الحَقِّ لو كانوا يعقلون، وأما ابتعاد روح عن
المحسوسات في سبيل الاقتراب من حضرة مَن لا تدركه الأبصار فسعي وراء مبتغى
جليل.
العمل الذي فيه لذة لا مضرة على الغير فيها لا ينكره عقل، ولأرباب الأعمال
الروحية لذات لا يستبدلون بها كل لذات المفتونين بالمحسوسات فعسى أن يتذكر
العقل المستقل هذا المعنى فلا يكبر عليه أن يفهم أقل الحكم في الأعمال الروحية
وهي لذة أربابها وانتعاشهم وتفتح بصائرهم لرؤية المعالي كما هي فلا يحزنهم شيء
بَعْدُ في نَيْلها ولا تقف هممهم أمام حَزْن في طريقها.
كانت السيدة خديجة شديدة الفهم وعظيمة الثقة ببركات هذه العمل الروحي
فساعدت عليه ولم تُلُمْ صاحبه ولا عتبته، كانت عظيمة الإيمان بالقوة العظمى،
والحقيقة الكبرى، فلم تر بأسًا بل لم تر إلا الخير بتوجه وجه زوجها الكريم تلقاء
سوانح الإمدادات الفائضة مِن لدن ذلك الملكوت الذي لا حد له.. كانت قد عرفت أن
هذا الغار في (حِراء) الفارغ من كل مشتهى حسي كان حريًا أن يكون مثابة لهذا
الشبح الشريف الحامل قلبًا قد فرغ من كل شيء غير الوَلَه بالمعالي القدسية،
والشوق إلى الحضرات الربانية، فكانت تُبارِك على هذا الغار الفارغ وتسأل الله أن
يملأه معالي وبركات، وقد أجاب الله - تعالى كرمه - سؤلها وكتب (حِراء) في
الصف الأول بين الأماكن التي تُتَوج بتمجيد الناس وتحياتهم ومحامدهم، وكم قد
ترجمت قرائح الشعراء عن احتراماتهم وتكريماتهم لهذا الغار أو لهذا المطلع الذي فاق
بدره البدور، قال قائل منهم:
سلامٌ عليك حِراءَ الشهيرْ
…
أمطلع ذاك الضياء العظيم
سلامُ فؤادٍ ذكورٍ شكورْ
…
بقدر الذي قد صحبت عليم
***
لأنت يتيمة عقد الوطن
…
ففيك أضاء السراج المنير
بذكراك يلقى الفؤاد السكن
…
فذكراك ذكرى عطاء كبير
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) تابع لما في (ص549م11) من سيرة السيدة خديجة، وقد كان كاتب هذا السيرة السيد عبد
الحميد الزهراوي اضطر إلى إرجاء الكتابة لأعماله السياسية الكثيرة في مجلس الأمة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكشف الطبي على الموتى وتأخير الدفن
س1 من صاحب الإمضاء الرمزي بالجبل الأسود؟
إلى حضرة الأستاذ الفاضل والفيلسوف الكامل السيد محمد رشيد رضا.
في هذه الأيام صدر الأمر من نظارتنا (الجبل الأسود) : إذا مات إنسان أنْ لا
يدفن قبل أربعة وعشرين ساعة مُسْلِمًا كان أو غيره ومن أراد دفنه ينبغي أن يأتي
بحكيم (دوقتور) يجري المعاينة للجنازة ذكرًا كان أو أنثى (وهذا لا يجوز لنسائنا)
وإلا فالسجن من يوم إلى عشرة أيام أو الجزاء في حق النقدي من خمسة إلى مائة
كورون في أول مرة.
فنحن المسلمين مضطرون من هذا الأمر لأن نعتقد أنَّ تأخير الجنازة 24ساعة
لا يجوز شرعًا فإنا على قدم الخروج والهجرة مِن بلادنا وترك أوطاننا بسبب ذلك.
فأرجو من حضرتكم أن تبينوا رأيكم العلي في أسرع وقت يمكنكم الجواب
لا زلتم هادين مهديين خادمين للشريعة المطهرة المحمدية.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ح. ح
ج - فقد سبق لنا الإفتاء في هذه المسألة (ص 358م10) فليراجعه السائل
على أن الظاهر من السؤال أنه يعلم أن السنة تقتضي بتعجيل الدفن بعد تحقق الموت
فإذا كان هناك ارتياب في الموت وجب تأخير الدفن إلى أن يتحقق الموت، والشرع
لا يمنع الاستعانة بالطبيب على ذلك، وإذا جاز كشف الطبيب على المرأة المريضة
إذا لم يوجد طبيبة تُغْني عنه فإنه يجوز أيضًا أن يكشف على المرأة الميتة لأجل
العلم بتحقق الموت إذا كان هنالك أدنى ارتياب فيه لئلا تكون مُغْمًى عليها فتدفن ثم
يزول الإغماء بعد الدفن فتموت أشنع ميتة، وقد وقع مثل هذا كثيرًا ولولاه لما عنيت
الحكومات التي ارتقى فيها علم الطب وكثرت فيها التجارب بالكشف على الموتى
وتأخير دفنهم، وهبْ أن بعض المسلمين علم أنَّ مَيِّتَه قد توفاه الله حتمًا بحيث صار
تأخير دفنه عدة ساعات مخالفًا للسنة فهل إكراه الحكومة إياه على هذا التأخير لأجل
المصلحة التي تعتقدها لا لأجل مصادرته في دينه يوجب عليه الهجرة مطلقًا وإن كان
يترتب عليها إضاعة ماله وذهاب شيء من عقاره وترك ذلك لغير المسلمين كما هو
الغالب فيمن يهاجرون الآن من مثل الجبل الأسود؟ المسألة فيها نظر. فإن لم يكن
في الهجرة ضرر على المهاجرين الآن من مثل تلك البلاد فليهاجروا إلى البلاد
العثمانية فإن فيها أرضًا واسعة تحتاج إلى مثلهم تتعزز بهم ويسهل عليهم إقامة دينهم
في بلادها الآن ولم يكن يسهل في زمن الاستبداد إذ كان المسلم مضطهدًا أكثر من غير
المسلم، وإنما أريد بهذا القيد أن لا يستفزهم الغيظ من الكشف الطبي فيحملهم على
ترك أرضهم وعقارهم أو بيعها بثمن بخس لأجل التعجيل بالهجرة.
قد يدرك المتأني بعض حاجته
…
وقد يكون مع المستعجل الزلل
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
غروب الشمس والإفطار
س2- مِن صاحب الإمضاء في سنغافوره
إلى مطلع النور المنير حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا متّع الله
المسلمين بحياته.
سيدي: اختلف أهل طرفنا فيما إذا غربت الشمس رأي العين في البحر فأفطر من
بالساحل وصلى المغرب ثم صعد في منطاد (بالون) إلى علو بعيد ورأى الشمس
من ثَمَّ بيضاء نقية لم تغرب، هل يبطل صومه؟ وبغروبها في نظره تجب عليه
الصلاة ثانيًا للمغرب، ولو كان لم يصلّ العصر فصلَاّها حينئذ في منطاده هل تقع
أداءً أم قضاءً؟ وفيما إذا كان على الساحل بناء شامخ (كبرج إيفل) بفرنسا أو
بنايات نيويورك فإن الشمس ترى من أعلاها بعد تحقق الغروب عند من هو
بالحضيض فهل لكلٍّ حكم أو حكمها واحد؟ أم يختلف الحال فقبل وجود تلك العلالي
نحكم بالغروب بمجرد اختفاء قرص الشمس تحت الأفق في نظر من بالساحل وبعد
وجودها لا نحكم بالغروب إلا بعد اختفاء قرص الشمس عن نظر من يكون بأعلى تلك
القنن، وإذا كان بقطر واحد ساحل غربي يجاوره جبل عال كجبال هملايا فهل يتحد
وقت الغروب عند مَن بالساحل ومَن بالقنن أم يختلف ويكون اختلاف العلو كاختلاف
المطالع وهل لذلك من ضابط؟
أفيدونا بما ترونه الصواب.
…
...
…
...
…
...
…
... محمد بن سالم الكلالي
ج - المعتبر في غروب الشمس شرعًا هو أن يغيب قرصها تحت الأفق
ويذهب شعاعها عن جدران المباني والجبال، ولكل أحد حكمه بحسب ما يشاهده
في ذلك، ومن أفطر وصلى المغرب بعد غروبها ثم ارتفع في المنطاد فرآها لا يفسد
صوم يومه ذاك ولا تجب عليه إعادة المغرب فيما يظهر لنا، لأنه لا يكلف في يوم
واحد تكرار فريضة واحدة، وقد مضت الأولى على الصحة فلا يؤثر في صحتها ما
يطرأ بعدها، وقريب من ذلك الشك في الصلاة قبل السلام يؤثر ويترتب عليه حكمه
وبعده لا حكم له؛ لأن الصلاة انتهت على الصحة وإذا فاتته صلاة العصر بغير عذر
يكون عاصيًا ولا يرفع عنه المعصية رؤية الشمس في المنطاد بل تجب عليه التوبة
وإن حسبت له صلاتها في المنطاد أداء كما أن الذي يفطر يومًا من أثناء رمضان
ثم يسافر إلى بلد تختلف مطالعه عن مطالع بلده، فيجد أهله قد صاموا بعد أهل
بلده بيوم وأكملوا عدة رمضان ثلاثين يومًا فوافقهم وصام الحادي والثلاثين فكان
هو الثلاثين له.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عدة الوفاة
س3- من صاحب الإمضاء في (حماه - سورية) .
الأستاذ الشيخ رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي المنير أمتع الله بعلومه
المسلمين، نظرًا لعلمنا أنكم وقفتم حياتكم على خدمة الدين وتمحيص الحقائق وحل
المعضلات، جئت بالسؤال الآتي أرجو منكم جوابه على صفحات المنار الأغرّ ولكم
الفضل.
امرأة كانت تحيض ثم انقطع حيضها وبعد شهرين من انقطاعه توفي زوجها
ومضى عليه بعد وفاته سبع سنين، ولم تحض وهي الآن لا تزال فَتِيّة وتريد أن
تتزوج، والمشايخ يمنعونها من الزواج بحجة الاستبراء قائلين لها لا يصح أن
تتزوجي إلا بعد أن تبلغي سن اليأس فهل يجوز في الدين الحنيف أن تبقى هذه الفتاة
المسكينة بحسرة النكاح مدة عمرها وهي لم تأت ذنبًا، وإذا كان ما أفتاها المشايخ به
صحيحًا فما هي الحكمة التي يترجح بها جانب الظلم على كفة العدالة في هذه المسألة،
أفتونا مأجورين ولكم الفضل.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أحمد جمال
ج - عدة من يموت عنها زوجها أربعة أشهر وعشر ليال بنص القرآن، فإن
كانت حاملاً فعِدّتها أن تضع حملها بالنص أيضًا، وتقدم بيان ذلك في تفسير سورة
البقرة وقد مضى على المرأة المسؤول عنها الزمن الذي علم فيه أنها لم تكن حاملاً
منه على جميع أقوال الفقهاء في أكثر مدة الحمل، فلا مانع يمنع من زواجها على
ذلك والحكم لله العلي الكبير.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأئمة الأربعة ومقلدوهم واجتهاد العامي
س 6- مِن صاحب الإمضاء الرمزي في سورا كاراتا (جاوه) .
حضرة سيدي الأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا المحترم حفظه الله تعالى
آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أقدم إلى سعادتكم سؤالاً خطر
ببالي وليس يجيبني غيركم عنه وهو هذا:
ما قولكم - رضي الله عنكم - في الأئمة الأربعة ومقلديهم من عصرهم إلى
هذا الزمان هل ما دوَّنوا في كتبهم وتبعهم عليه أتباعهم؛ هل أخذوه عن الكتاب والسنة
أم من تلقاء أنفسهم؟ وهل مقلدوهم في الأحكام الشرعية على هدي أو في ضلال؟
وهل الأئمة المتأخرون مثل ابن حجر المكي ومَن هم في طبقته دوَّنوا كتب الفقه
على ما جاء به الكتاب والسنة أو مخالف لهما؟ فإن كانوا وضعوها على خلاف
السنة والكتاب فالمطلوب من فضلكم بيان ما يخالف الكتاب والسنة؟ لأجل أن نجتنبه
ونعمل بما يوافق الكتاب والسنة ونعلم بخطئهم لأن كتبهم معتبرة في الأحكام الشرعية
ويحكمون بما قرروه فيها في المحاكم الإسلامية.
أفيدوني بالجواب الشافي لأني رجل عامّيّ أخذتني الحَيْرة لما وقفت على
السؤال الذي ورد إليكم من بتاوى، وجوابكم عنه في الجزء الثامن من المجلد 12 سنة
1327 صفحة 614 من المنار فلهذا رفعت إليكم هذا السؤال أرجو من فضلكم
الجواب الشافي، ولكم من الله الأجر والثواب ولا تقدموا عذرًا في ذلك، وهذا سؤال
آخر ملحق بما تقدم.
ما قولكم في العامي المقلد، هل يجوز له الاجتهاد المطلق ويترك مذهب إمامه
أم لا؟ وكيف يبلغ رتبة الاجتهاد مَن لا يعرف قواعد مذهب إمامه أفيدوني مأجورين؟
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... ب. ر س
ج - كان الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى على هدًى من ربهم يتبعون ما فهموه
من كتاب الله عز وجل وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف
الأمة الصالحون من علماء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وما لم
يجدوا فيه نقلا يُتَّبَع قاسوه على نظيره مما ورد من آية أو حديث فهم مجتهدون
مأجورون على ما أصابوا فيه مرتين وعلى ما أخطأوا فيه مرة واحدة كما ورد في
الحديث، ومن حذا مِن أتباعهم حَذْوَهم هذا وجرى على طريقتهم في اتباع الكتاب
والسنة وإجماع سلف الأمة، كمحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة والمزني
من أصحاب الشافعي (مثلاً) فهم مثلهم على هدًى من ربهم.
وأما المتأخرون كابن حجر المكي فهم ليسوا من الأئمة الذين ينظرون في
الكتاب والسنة ابتداءً ويقدمون ما يفهمون منهما على قول كل أحد ورأيه وإنما هم
ينظرون في كتب السابقين من أهل المذهب الذي انتموا إليه ويأخذون مؤلفاتهم منها
إما بتلخيص واختصار، وإما ببسط وإيضاح كل بحسب فهمه وقدرته على الكتابة
وما يذكرونه فيها من الأدلة منقول من تلك الكتب أيضًا فالواحد منهم لا يتحرى في
المسألة كل ما ورد في الكتاب والسنة وهدي السلف فيأخذ بالراجح، بل منهم من
يظهر له الدليل على خلاف مذهبه فلا يكتبه في كتابه، بل ربما تمَحَّل في الرد على
من أخذ بذلك الدليل الراجح من أهل المذاهب الآخر انتصارًا لمذهبه، بل يفعل هذا
مَن هم في طبقة أعلى مَن طبقة ابن حجر كالنووي فإنه في كتبه الفقهية يستدل على
صحة المسائل التي يعلم أنها مرجوحة من مسائل المذهب؛ إذ وزنت بميزان الكتاب
والسنة، وقد يصرَّح هو نفسه بذلك في غير كتب الفقه كما يقول النووي - رحمه
الله تعالى - في شرحه لصحيح مسلم أحيانًا، الأصح من حيث الدليل كذا ومن حيث
المذهب كذا، وقد يقول في بعض مسائل المذهب: إنه لا يقوم عليها دليل، ومن
ذلك - إن لم أكن واهمًا فيما أتذكره وأنا بعيد عن الكتب - مسألة الغسل من
نجاسة الخنزير سبع مرات إحداهن بالتراب، وقد نقل الغزالي عن بعض الفقهاء
الذين وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد المطلق أنهم كانوا يفتون على مذهب الأئمة
الذين اشتهروا بالانتماء إليهم ويعملون بخلاف ما أفتوا به، ويعتذرون عن ذلك بأن
السائل إنما سألهم عن الحكم في مذهب الإمام فأجابوه عما سأله من باب الأمانة في
النقل، وأنه لو سألهم عن مذهبهم لأفتوه به.
تلك الكتب التقليدية لا يقال إنها وضعت على أصل الكتاب والسنة كما يقال في
مثل (كتاب الأم) للإمام الشافعي رضي الله عنه لأنها وإن كان الغرض منها
بيان أحكام مذهبه لم تؤخذ من الكتاب والسنة مباشرة، ولم يلتزم مؤلفوها ذلك لأنهم
يعتقدون في أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً للأخذ من الكتاب والسنة، ولا يقال إنها وضعت
على خلاف الكتاب والسنة لأنه لم يقصد بها ذلك الخلاف، ومطالبتنا ببيان ما فيها من
مخالفة الكتاب والسنة لأجل أن يجتنب من الإعنات فإن مَن يريد ترك تقليد تلك
الكتب واتباع الكتاب والسنة مباشرة لا يحتاج إلى قراءتها على طولها وصعوبتها
وبيان ما يوافق الكتاب والسنة منها وما لا يوافقه، بل الأَوْلى والأسهل له أن يقرأ
الكتاب والسنة ابتداءً ويعمل بهما، فإن كان لا يفهمهما بنفسه ويقول أريد أن أستعين
على فهمهما بكلام العلماء، يقال له: اقرأ التفسير وشرح الحديث ولا سيما تفاسير
السلف كابن جرير ومثل شرح الشوكاني لأحاديث الأحكام، وكتاب (الهدي النبوي)
لابن القيم واستعن بها على ذلك فإن اختلف المفسرون والشارحون فاعمل بما يظهر
لك أنه الحق من كلام المختلفين، ومَن لا يريد ترك تقليدها فلا يسمع لك فيها قولا
وإن أقمت له عليه ألف دليل.
وأما العامي المقلد فلا يجوز له أن يتصدى للاجتهاد المطلق ما دام عاميًا ليس له
من العلم ما يؤهله لذلك، بل عليه أن يستفتي في المسائل التي يجهل حكمها أهل
العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فمتى رووا له في المسألة
نصًّا صحيحًا وجب عليه العمل به، فإن لم يفهم النص استعان بهم على فهمه، وإن
العوام الذين يسألون في الوقائع التي تعرض لهم عن قول مثل ابن حجر فيها لا
يفهمون أقوالهم بل يعتمدون على المفتي في إفهامهم إياها، فإذا كانوا محتاجين
للمفتي في كل حال فلماذا يستعينون به على فهم قول مقلد قد تبع في كتبه أمثاله ولا
يستعينون به على فهم كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحديثه؟
الجواب عن هذا السؤال سهل على المقلدين مشهور بينهم يقولون: إنه لا يوجد في
هذه العصور من يقْدِرُ على فهم الكتاب والسنة بنفسه وإنما قدر على ذلك في القرون
الأولى أفراد معدودون وفهم كلام هؤلاء أفراد دونهم وهكذا كان أهل كل عصر
يفهمون كلام من قبلهم مباشرة فيجب على المتأخر أن يأخذ بكلام مثل الباجوري الذي
أخذ من مثل الرملي وابن حجر اللذين أخذا من مثل الشيخ زكريا الذي أخذ عن مثل
النووي الذي أخذ عن مثل الغزالي إلى أن يصلوا إلى الشافعي، ويجيبهم أهل السنة
بأن كلام الله ورسوله أفصح الكلام فهو أسهله فهمًا، وأن الأئمة المجتهدين حرموا
الأخذ بكلامهم من غير معرفة مأخذه من الكتاب والسنة، وبغير ذلك مما بيناه في
محاورات المصلح والمقلد وفي مواضع أخرى من المنار وهي تبلغ مئات من
الصفحات فلا يمكن تلخيصها في هذا الجواب، والله الهادي والموفق للصواب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
طريقة الشاذلية
س4- من أحد علماء سرنديب (سيلان Ceylan) .
ما قولكم يا علماءنا الأعلام شيّد الله بكم مباني الإسلام.
إن بعض أقوام يذكرون الله بالرقص والتواجد ويسمون هذه طريقة شاذلية؛ فهل
هذا القول صحيح أم لا؟ أفتونا مأجورين.
ج - إننا رأينا كما رأيتم أقوامًا يأتون ما ذكرتم وأكثر مما ذكرتم من البدع
وينسبون أنفسهم إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي ولو رآهم أبو الحسن لتبرأ منهم.
وقد سبق لنا في المنار إنكار هذه البدع مرارًا كثيرة، ونشرنا في مجلد
السنة الماضية (ص 237م12) فتوى لطائفة من علماء الأزهر في الإنكار
الشديد على ذلك فلتراجع.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عذاب القبر
س5- مِن الشيخ حسن أبو أحمد مأذون الشرع بنقيطه (المنصورة) .
في مطرية المنزلة خلاف بين طائفتين في عذاب القبر هل هو ثابت
بصريح القرآن والسنة الصحيحة أم لا؟ أرجو التكرم بإيفاء هذا الموضوع حقَّه
من غير إحالة على أعداد مضت لأني وعدتهم بذلك وعرفتهم بقولك الفصل ولكم
الفضل.
ج - قد سبق لنا بيان هذه المسألة في المنار، ونقول الآن: إنها لم يصرح
بها في القرآن، ولكن ورد فيها أحاديث صحيحة مشهورة وليراجع ما كتبناه من
قبل (ص 946 م 5) و (ص 256 م 8) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة من سنغافوره
س 7، 8، 9 من س. س. ي. في سنغافوره.
سيدنا الرشيد المرشد صاحب المنار الأغر أفدنا أدامك الله نفعًا للأنام.
1-
ما حكم مجلة طوالع الملوك، وما حكم الإعلان عنها، وإلفات الناس
إلى تُرّهاتها، وهل ذلك من خدمة الدين والوطن، ولماذا سَكَتَ عنها وعن ما يقال فيها
علماء مصر؟ ألقولهم بنفعها أم لعدم اكتراثهم بما يتعلق بالدين والمصالح العامة
أم لجهلهم بحالها؟
2-
بينوا لنا حال الشيخ ابن حجر الهيتمي ومنزلته في العلوم ومنزلة كتبه
فإني رأيتها كثيرة التعقيد وعباراتها سيئة التركيب وكثير منها يسهل على طالب
العلم المتوسط الحال أن يجمع ما حوته من المعاني في أقصر منها وأسلس
وأوضح، ويظهر لي أنه شديد التعصب للصوفية يتعسف في تأويل طامّات بعضهم
ثم هو يذم ويسب شيخ الإسلام ابن تيمية وينبزه بتكفير المسلمين ولعل مَن كفّره ابن
حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) أضعاف مَن كفّره ابن تيمية ويظهر لي
أيضًا أنه سامحه الله يتعصب ضد أهل البيت مع تظاهره بحبهم ويتأول لأعدائهم بما
هو بديهي البطلان أو قريب منه حتى خِلْت أنه مقلد محض وآل حضرموت يقدسونه.
3-
إن سيدي له إلمام ومعرفة بأحوال الصوفية فما هي حقيقة التجزي
الذي يزعمونه، وهل له شاهد أو دليل عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم،
وهل عرفه الصدر الأول أم لا؟ .
حكم مجلة طوالع الملوك
والترغيب فيها بالإعلان
(المنار)
جاءتنا هذه الأسئلة في العام الماضي فلم ننشرها بل قدمنا عليها بعض ما
عندنا من الأسئلة الكثيرة عملاً بتقديم الأهم على المهم، وقد أعاد السائل علينا أسئلته
من عهد قريب وألح في طلب الجواب فنقول: أما مجلة طوالع الملوك فإننا لم نقرأها
لنرى ما فيها فلا ترسل المنار إلى صاحبها ولا هو يرسلها إلينا، ومن البديهي أننا لا
نشتريها، ولكننا سمعنا بعض من اطلع عليها من أهل الفضل يقولون: إنها مجلة
عرافة وكهانة وتنجيم وروحانيات وطلسمات، ورأينا في بعض الجرائد وصفًا لها
بنحو من ذلك في باب الإعلان ولا عجب فإن الجرائد لا تتنزه عن التكسب بإعلان
المنكرات وترويجها، كترغيب الناس في الخمور ورقص النساء المتهتكات وبعض
ضروب القمار؛ فإذا صح ما سمعناه من وصف هذه المجلة فحكم قراءتها كحكم
قراءة الكتب المشتملة على مثل ما تشتمل عليه وهو يختلف باختلاف قصد القارئ
فإنْ كان يقرأها ليأخذ بأقوالها ويعمل بما فيها مما يحظره الشرع فقراءته إياها
محظورة حظرًا شديد، وقد بينا من قبل بعض ما قاله العلماء في هذا الباب، وممن
شدد فيه ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية، ويقرب أن يكون تصديق ما فيها
من الأخبار عما وقع أو سيقع كتصديق العرافين والكهان في حديث مسلم (مَن أتى
عرافًا فسأله وهو يصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم،
وإن كان يقرأها ليعرف ما فيها ويُحذّر الناس مما فيه من مخالفة الشرع فهو مثاب
على قراءتها، ولا يخفى حكم سائر المقاصد.
وسكوت علماء مصر عنها يحتمل أن يكون سببه عدم الاطلاع عليها؛ لأنه
قلما يوجد فيهم مَن له عناية بالوقوف على أمثال هذه المطبوعات، ولكن هذا
الاحتمال بعيد، والغالب أن يكون قد اطلع عليها بعضهم دون بعض، فيوشك أن
يكون منهم من اطلع على جزء أو أجزاء لم يستنكر منها شيئًا، وأن يكون المستنكر
لبعض ما فيها قد نهى عن قراءتها أو عن نشرها بالقول دون الكتابة في الجرائد، وأن
يكون منهم من لم ينه صاحبها عن نشرها ولا الناس عن قراءتها مع اعتقاده بطلان
ما فيها وتحريم نشره وتصديقه؛ لأن المنكرات قد كثرت وأَلِفَ العلماء وغيرهم ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا قليلاً منهم، ولاسيما الإنكار بالكتابة أو النشر
في الجرائد، ولكن هذا الذنب لا يصح إسناده إلى علماء مصر كافة لما ذكرناه من
الاحتمال والغالب في المسألة.
ابن حجر الهيتمي وكتبه
وأما ابن حجر الهيتمي فحاله في العلم قد بيناها في الفتوى السادسة من هذا
الجزء، فهو مقلد لفقهاء الشافعية في مرتبة الذين يرجحون بعض أقوالهم على بعض،
وكتبه من أحسن كتب متأخريهم ولكنها لا تبلغ كتب النووي في انسجامها وسلامة
عبارتها، ولا كتب الماوردي في أسلوبها وبلاغتها، ولا كتب الغزالي في بسطها
وفصاحتها، ومع هذا نرى السائل قد بالغ في هضمها إذِ ادعى أنه يسهل على طالب
العلم المتوسط الحال جمع ما حوته من المعاني في كتب أخصر منها وأسلس وأوضح،
وقد بينا رأينا فيما شُنّع به على شيخ الإسلام ابن تيمية في (ص622م12)
فليراجعه السائل، نعم إنه يتعصب للصوفية لأنه تربى من صغره على الخضوع
والتسليم للمنتسبين إلى التصوف المعروفين بالصلاح والتأويل لهم فيما يخالفون فيه
الفقه الذي هو عنده فوق كل علم لقوله في فتاويه: (إن أقوال الفقهاء إذا تعارضت
مع أقوال المفسرين أو المحدثين فالمرجح الذي يجب العمل به هو ما يقوله الفقهاء) ،
ولكن لا يظهر لي ما ظهر للسائل من تعصبه على آل البيت وإن تأوَّل لأعدائهم
كما قال، ولكنه مقلد كما خال، ومن شأن الذين يضعون الكتب في المسائل الجزئية
أن يتمحلوا ويتعسفوا ويأتوا بالضعيف واللغو الذي لا يفيد المراد ولا يؤيد المقصود،
فهذا أحد سببين في تهافت ابن حجر في كتابه (تطهير اللسان والجنان) الذي يشير
إليه السائل، والسبب الثاني هو الانتصار لقوم على قوم، ومن كان كذلك لا يظهر له
الحق في المسائل كما هو لأنه لا ينظر إليها من كل جانب، بل يوجه كل قواه
المدركة إلى البحث عما يوافق غرضه من تأييد رأي وتفيند آخر فيُكبّر الأول
ويصغر الثاني إنْ هو أدركه، وتقديس أهل حضرموت له سببه أنهم مقلدون لعلماء
الشافعية وقد جعلوا كتبه عمدتهم في المذهب كما اشتهرت كتب الشمس الرملي من
أهل طبقته في مصر.
التجزي عند الصوفية واصطلاحاتهم
لا نكتب في المنار شيئًا من حقيقة التجزي إلا إذا علمنا أنّ في الناس من
يفهمونه فهمًا ضارًّا في الدين وترجى هدايتهم بالمنار، ولكننا نقول: إنه ليس من
الأمور الدينية، وإنما هو من قبيل الاصطلاحات الفنية، وهكذا نقول في أكثر
اصطلاحات الصوفية كالفرق والجمع والسكر والصحو. فالقوم قد استعاروا لأنفسهم
ألفاظًا من اللغة أخرجوها عما وضعت لأجله وعبَّروا بها عن أذواقهم ومعارفهم كما
فعل غيرهم من أهل الفنون اللغوية والشرعية والعقلية والطبيعية فلا يشترط في
إباحة ذلك لهم أن يكون كل ما يقولون به قد نطق به الشرع من قبل، وغاية ما ينكر
عليهم في ذلك أمران: أحدهما: أن يجعلوا بعض عُرْفهم واصطلاحهم من الدين
والشرع بغير دليل شرعي، وثانيهما: أن يكون في ذلك ما ثبت بالدليل أنه مخالف
للكتاب والسنة الثابتة بلا نزاع وذلك أنه فلاسفة يدينون بالإسلام، مع الاجتهاد
والاستقلال، إذ الصوفي الحقيقي لا يكون مقلدًا إلا في بداية سلوكه فإنه حينئذ يقلد
أستاذه ومربيه دون غيره.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تزيين شعر الرأس والزي الأوربي
س 10، 11 من صاحب الإمضاء في تلمسان - الجزائر
حضرة الأستاذ الحكيم الشيخ العظيم سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب
مجلة المنار الغراء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تَعُمكُّم وتَعَمُّ جميع دائرتكم.
ثم أطلب من فضلكم فتواكم في العدد الآتي في مجلتكم عن تزيين شعر الرأس
واللحية مثل الأوربيين أيجوز شرعًا أم لا؟ وكذلك اللباس الأوربي أيجوز أم لا؟
أرجوكم الإيضاح عن هذين السؤالين ولكم جزيل الفضل والمعروف والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
حرره تلميذكم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
مصطفى أباجي
ج - ورد في السنة طلب تزيين شعر الرأس واللحية بالمشط والدهن والطيب
وفي الشمائل النبوية الشريفة أحاديث في فَرْق النبي - صلى الله تعالى وآله وسلم -
لشعره وسدله له، فمن زيّن شعره من المسلمين فليقصد بذلك اتباع السنة السنية سواء
وافق ما عليه الأوربيين أم خالفهم ولا يبالي بأقوال الجاهلين الذين يخوضون في
عرض كل مَن يفعل شيئا يوافق ما عليه الإفرنج وإن كان من المحاسن التي سبق
الإسلام إلى طلبها وعلم النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح - رضي الله
عنهم - بها فإننا لا نترك محاسن دين الفطرة إذا أخذ بها غيرنا، بل نُسَرّ باتباع
الناس لآداب ديننا وفضائله، وإن لم يدينوا به وفي ذلك فوائد كثيرة ليس هذا المقام
بمحلٍ لشرحها، وأما من يقصد بتزيين شعره تقليد الإفرنج فهو وضيع ضعيف العقل
والنفس؛ لأنه مقلد لمن يراهم لخسته أشرف منه وأكمل، وهكذا شأن كل تقليد؛ فإن
من يثق بمعرفته للحق أو الفضيلة أو الأدب الصحيح لا يقلَّد في شيء مِن ذلك غيره
تقليدًا، فالتقليد هو شأن الأطفال مع الكبار والاستقلال هو شأن العقلاء المستقلين
والعاقل إنما يعمل ما يعتقد أنه الأَوْلى بالدليل العقلي في الأمور العقلية والدليل
الشرعي في الأمور الشرعية وهكذا، والجاهلون يتمسكون بالعادات ويجعلونها دينًا
ينكرون على مخالفهم فيها.
وأما المسألة الثانية فيعلم حكمها مما تقدم فمن المعلوم أن الإسلام لم يحرم على
أهله زيًّا، ويفرض عليهم زيًّا آخر بل ترك الأزياء لاختيارهم وفي السنة السنية ما
يدل على ذلك فقد ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس
الجبة الرومية من أزياء الروم والطيالسة الكسروية من أزياء المجوس ولم يقصد
تقليد القوم، وإنما جيء بذلك فلبسه، وإنما نهى عمر رضي الله عنه جيشه في
بلاد الفرس عن زي الأعاجم لئلا يغرهم ما غنموه من اللباس النفيس فيمتعوا بنعمته
ويغلب عليهم الترف فيضعفوا عن الجهاد وحفظ البلاد، ولذلك أمرهم في كتابه ذاك
إلى القائد عتبة بن غرقد بأن يخشوشنوا ويتمعددوا ويداوموا على التمرن على رمي
السهام ويبرزوا للشمس فقال: (عليكم بالشمس فإنها حمام العرب) ولهذا اختلفت
أزياء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وخليفة المسلمين وأكبر أمرائهم يلبسون
زي الإفرنج في هذا العصر لاستحسانه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الرضاعة من كتابية
لبس البرنيطة
حديث (من تشبه بقوم) الزنار وأربطة الرقبة.
س12، 13، 14، 15 من صاحب الإمضاء الرمزي في (سمبس برنيو
الغربية جاوه) .
1-
هل يثبت الحرمة رضاع بين الكافر والمسلم مع مراعاة الشروط المدونة
في كتب الفقه؟ كما لو رضع مسلم لكافرة أو كافر لمسلمة.
2-
هل يجوز لمسلم لبس البرنيطة - القبعة- لحاجة كالاتقاء من الشمس أو
لغيرها؟
3-
ما حكم التشبه بالإفرنج في الملبس وغيره بحيث لا يمكن التمييز بعلامة
ما، فهل يجوز أم لا؟ لأن ذلك مما عمَّت وطمَّت به البلوى خصوصًا عند الطبقة
العليا فإنهم يلبسون البرنيطة فوق الكوفية المعتادة لهم.
فمن الناس من قال: إنه حرام وحجته قوله عليه السلام: (من تشبه بقوم فهو
منهم) ، وبعضهم قال إنه جائز لا بأس به وحجته أنه لم يرد في كتاب الله ولا في
سنن رسله وأنبيائه أمر لأمتهم باتباع ملابسهم أو تغييرها بزي معلوم أو نهي عن
ذلك بل ربما ورد أنَّ بعض الصحابة لبس شيئًا من ملابس الكفار في الصدر الأول
للإسلام ولم ينكره أحد من الصحابة.
4-
الزنار - أربطة الرقبة - فالمشهور من بعض الأفاضل المتقدمين أن
لبسه حرام باتفاق؛ ولكن المشاهد في عصرنا هذا شيوع استعماله في مسلمي الدنيا.
هل هو حرام أم لا؟ بينوا لنا رأيكم ورأي علماء مصر العصري ليسكت الهرج
والمرج فلكم منا جزيل الشكر والامتنان.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
م. ب. ج. م. ع
ج - أما الجواب عن الأول فنَعَم، فمن رضع من كتابية حرم عليه أن يتزوج
أحد من أصولها أو فروعها وقد رأيتم التفصيل في أحكام الرضاعة في تفسير هذا
الجزء، وأما الأسئلة الثلاثة الأخرى فمعناها واحد وتعرفون حكمها في الفتوتين
العاشرة والحادية عشرة في هذا الجزء ومما كتبناه عن حديث (من تشبّه بقوم
فهو منهم) في الجزء الماضي؛ ولكن الزنار غير (أربطة الرقبة) التي فسرتموه بها
وما ذكر منه في كتب الفقه يراد به زنار الرهبان والقسيسين الذي هو من تقاليدهم
الدينية ولا يجوز للمسلم أن يتبع تقاليد دين من الأديان، بل يتبع في الدين كتاب الله
وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، وأما الأزياء والعادات التي ليست من أديانهم فهي
التي يتبع الناس فيها مصالحهم إن لم تخالف نصًّا شرعيًّا، ولا نص في تحريم
أزياء المخالفين لنا في الدين التي هي من العادات لما علمت من لبس النبي صلى الله
عليه وسلم لبعض أزياء الروم والمجوس.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكلام وقت خطبة الجمعة
س16: مِن صاحب الإمضاء الرمزي في (سمبس برنيو)
حضرة العالم العلامة سعد الملة وفخر الأمة سيدي الأستاذ السيد محمد رشيد
رضا صاحب المنار الأغر متّعني الله بشريف وجوده آمين.
بعد؛ أهديكم أطيب التحية والاحترام، أرجو أن تفيدوني بالإجابة عن هذه
الأسئلة وأشكركم سلفًا.
إنه قد جرت عادة في بعض بلاد جاوه يقرأ المؤذن أو المرقي عند صعود
الخطيب على المنبر لقراءة الخطبة آية: {ِإنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} (الأحزاب: 56)
الآية أو شيئًا من الأحاديث كقوله صلي الله عليه وسلم (إذا قلت لصاحبك والإمام
يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت) اهـ الجامع الصغير، فهل يسن ذلك أم لا؟
ومما قاله (المؤذن أو المرقي) روي عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن يوم
الجمعة سيد الأيام وحج الفقراء وعيد المساكين والخطبة فيها مكان الركعتين، فإذا
صعد الخطيب على المنبر فلا يتكلمن أحدكم ومن يتكلم فقد لغا ومن لغا
فلا جمعة له) اهـ.
فهل صح أن هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه أو غيره، أو هو من
أقوال العلماء؟ وفي أي كتاب يذكر؟ هذا والمرجو لسيدي من فضيلتكم أن تجيبوني
وأكون ذاكرًا لكم جميل الذكر وحسن الثناء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
م. ب
ج - هذه العادة معروفة في مصر وسورية أيضًا وما هي بسنة مأثورة
تتبع، وإنما هي عادة كما ذكرتم والحديث الأول متفق عليه في الصحيحين ولا بأس
بذكره قبل الخطبة بقصد النصيحة والتذكير، ولكن لا ينبغي أن يداوم عليه بكيفية
مخصوصة تُوهِمُ أنَّ تلاوته سُنّة مأثورة وأما الحديث الثاني (يوم الجمعة سيد
الأيام)
…
إلخ فلا يصح، وأوله ذكر في بعض كتب الموضوعات.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إباحة الغناء
س- 17، 18 مِن صاحب الإمضاء في روسيا.
سيدي متّع الله الأنام بطول بقائكم وأنفعهم بأفيد كلامكم، إن لي مسألتين نشتاق
إلى بيانهما ونحتاج إلى إيضاحهما، أرجو توضيحهما في أحد أجزاء مجلة المنار
ولكم الأجر إن شاء الله.
1-
قال في التفسيرات الأحمدية في تفسير الآيات المتعلقة للأحكام في سورة
لقمان: ومن الحجج الدالة على إباحته - أي التغني - ما ذكر في العوارف فمن
الآيات ما ذكر في العوارف قوله تعالي {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ
تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ} (المائدة: 83) وقوله {فَبِشِّرْ عِبَادِ *
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17-18) وقوله تعالي {تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزمر: 23) الآية.
ومن الأحاديث ما قال: أخبرنا الشيخ الطاهر بن أبي الفضل عن أبيه الحافظ
المقدسي قال: أخبرنا أبو بكر القاسم الحسن بن محمد الخوافي قال: حدثنا أبو محمد
عبد الله بن يوسف قال: حدثنا أبو بكر بن وثاب قال: حدثنا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، قال: حدثنا الأوزعي عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا بكر دخل
عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بدفين ورسول الله متسجٍ بثوبه فانتهرهما
أبو بكر فكشف رسول الله عن وجهه وقال (دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) ، وسقط
هنا في البين حديثان أسقطتهما قصدًا وفيه أيضًا قال: أخبرنا أبو زرعة طاهر عن
والده أبي الفضل الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك
المظفري السرخسي قال: أخبرنا أبو علي فضل بن منصور بن نصر الكاغذي
السمرقندي إجازة قال: حدثنا الهشيم بن كليب قال: حدثنا أبو بكر عمار بن إسحاق
قال: حدثنا سعد بن عامر عن شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله
عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنزل جبرائيل عليه
السلام فقال: يا رسول الله إن فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم
وهو خمس مائة ففرح رسول الله عليه السلام فقال: أفيكم من ينشدنا؟ قال بدوي:
نعم أنا يا رسول الله، قال: هات، فأنشد البدوي:
قد لسعت حية الهوى كبدي
…
فلا طبيب لها ولا راق
…
إن الحبيب الذي شغفت به
…
فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد رسول الله صلى الله وسلم وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن
منكبيه فلما فرغوا أوى كل واحد منهم مكانه قال معاوية بن أبي سفيان: ما أحسن
لعبكم يا رسول الله، فقال: يا معاوية ليس بكريم من لم يهتز عند سماع ذكر الحبيب
ثم قسم رداءه صلى الله عليه وسلم على من حَاضَرَهُمْ بأربعمائة قطعة، وهذا الحديث
أوردناه مسندًا كما سمعنا ووجدناه) اهـ.
أرجوكم أن تفيدوني عن هذه الآيات التي ذكرت هل هي دالة على ما ادعاه
وما وجه الدلالة ونحن لا نصلح ولا نفهم وجه دلالته عليه، وما الأحاديث التي
أوردها وسردها، هل هي معتبرة ومأخوذة عند المحدثين؟ أم من الخرافات التي
أنشدها وأحدثها المخترعون؟ أفيدوني يا سيدي ولكم الأجر إن شاء الله.
2-
ولو دفع الفقير من مال حرام شيئًا يرجو الثواب يكفر ولو علم الفقير بذلك
الحرام فدعا للمعطي كفر (خادمي شرح الطريقة في المجلد الأول في النوع الثالث
من الكفر الحكم منه 445 في نسختنا) .
أقول: من المقرر في كتب الفقهاء والفتاوى كالمحيط وابن عابدين وغيرهما أن
مَن كان عنده مال خبيث حرام كالمظالم وكربح المغصوب والأمانة والمبيع بيعًا فاسدًا
يجب التصدق به، فيكون مأمورًا بالتصدق، فمن أتى بالمأمور به كيف يكون كافرًا؟
وأيضًا الداعي إنما يدعو لمن أتى بالمأمور به فكيف يكون كافرًا بالدعاء له؟ بينوا
ياسيدي تؤجروا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الإمام الديني
…
...
…
...
…
...
…
أحسن بن شاه أحمد الكاتبي
ج- ليس في القرآن شيء يدل على التغني وصاحب (العوارف) إنما يستدل
بما ذكر من الآيات على السماع المعروف عندهم وهو يكون سماع قرآن وسماع شعر
أو غناء لأجل تحريك شعور النفس من خشوع أو حزن أو وجد لا على مطلق التغني
والاستدلال بالآيات على سماع الشعر أو الغناء تكلف مردود.
وأما الحديثان فأولهما وهو حديث عائشة صحيح لا نزاع فيه، وثانيهما وهو
حديث سماع النبي صلى الله عليه وسلم وتواجده موضوع لا نزاع في كذبه ترونه
في كثير من كتب الموضوعات والمشهورات على ألسنة العامة.
وقد بينا أحاديث إباحة السماع وحظره بالتفصيل في أول المجلد العاشر ،
وأما ما ذكره الخادمي مِن كفر مَن يتصدق بالمال الحرام وكفر من يدعو له تشديد
ظاهر البطلان لا حاجة إلى الإطالة في بيانه وسنكتب في المكفرات شيئًا نافعًا إن
شاء الله.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
علم الهيئة والسنة النبوية
س 19- مِن أحد المشتركين في دمشق الشام.
إلى حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد أفندي رشيد رضا متّعنا الله بطول
بقاه.
لدينا كتاب مخطوط عنوانه (هيئة الإسلام وحكمة أهل الإيمان) لمؤلفه إبراهيم
القرماني الآمدي؛ افتتحه بمقدمة قال فيها بعد البسملة والحمدلة ما ملخصه:
(لما طالعت كتاب الهيئة على اعتقاد أهل السنة والجماعة للمولى العلامة أبي
الفضل جلال الدين السيوطي، وجدت مباني مباحثها مطابقًا لمضمون الأحاديث
والآثار موافقًا، لمفهوم كلام التابعين الأخيار، انتخبت منه ومن الكتب المعتبرة نحو
تفسير الإمام أبي الليث السمرقندي وتفسير الإمام القرطبي وتفسير الإمام البغدادي
وتفسير الإمام الثعلبي والقشيري وعثمان الداري وابن الجوزي وابن أبي طالب
المكي وابن كثير والكرماني و (الوسيط) والسمرقندي والصنهاجي والسمرقندي
والفتاوي الكبرى والشفا وشرح العقائد للتفتازاني ما هو لازم اعتقاده مرتبًا على
أبواب وفصول) .
ثم يلي ذلك كلام في تقديم الكتاب إلى السلطان محمد خان ابن السلطان إبراهيم
العثماني ثم أبواب الكتاب وفصوله وهي بوجه الاختصار: في عدد السماوات
والأراضين. في المسافة بين كل اثنتين منها، في الثخن والكثافة في مادة السماء. في
العرش والكرسي واللوح والقلم، بعض عجائب السماء، مكان الجنة والنار، مستقر
الأرواح، مستقر الشمس بعد الغروب، جبل قاف كون الأرض بسيطة، بيان بعض
عجائب الأرض، بيان الصخرة المذكورة في القرآن. أحوال الشمس والقمر،
الخسوف والهلال والليل والنهار والكواكب، الرياح والأمطار والقوس والرعد
والبرق والصاعقة
…
إلخ إلخ، ويلي ذلك أحاديث يستشهد بها المؤلف على ما
تضمنه الباب أو الفصل أو أكثر هذه الأحاديث إذا لم نقل كلها لا ينطبق على الحقيقة،
ونحن لعدم تضلعنا من علم الحديث لا نعلم مكانها من الصحة ولذلك ننقل هنا شيئًا
منها لتقفوا عليه، قال تحت عنوان أحوال الشمس ما نصه: قال العلامة السيوطي
أخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشمس
والقمر وجوههما إلى العرش وقفاهما إلى الناس) وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن
مردويه عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وُكِّلَ
بالشمس سبعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم ولولا ذلك ما أصابت شيئًا إلا أحرقته)
وقال في الكلام على الرعد: أخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس: أن اليهود
قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال (ملك من الملائكة موّكل
بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله (قالوا: فما الصوت
الذي نسمعه؟ قال: زجره حتى ينتهي إلى حيث أمره) قالوا: صدقت.
والكتاب كله على هذا النمط وقد بلغني أن هذا الكتاب ترجم إلى اللغة التركية
وطبع في الآستانة منذ عشرين سنة تحت اسم (هيئت إسلاميان) فضل به كثيرون
من تلامذة المكاتب وغيرهم؛ لأنه مخالف لما تلقوه من المبادئ المقررة في علم الهيئة
والأحداث الجوية التي لا يشكون فيها لقيام الأدلة عندهم عليها فما قولكم - رحمكم
الله - في هذا الكتاب وأمثاله؟ تكرموا بالجواب ولكم الأجر والثواب.
(ج) أكثر ما ورد في هذا الباب من الأحاديث يدخل في باب الموضوعات
المكذوبة قطعًا، أو الواهيات التي تقرب منها، وسنبين ذلك في مقال خاص بعد
إلقاء عصا التسيار والاستقرار في مقام العمل إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حركة الأرض ودورانها
والاستدلال على ذلك من القرآن
س20- مِن الشيخ عبد القادر نور الله معلم مدرسة (بانياس) الابتدائية.
سألنا عن دليل حركة الأرض ودورانها، وعن استدلال بعض الناس على ذلك
بقوله تعالى {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) .
وقد سبق لنا بحث طويل فى هذه المسألة فليراجعه السائل في (ص260م7)
إذ لا سبيل إلى إعادته والأدلة العلمية في ذلك مبسوطة في كتب الجغرافية ومَن يرى
الآية التي أشار إليها دالة على دوران الأرض يرد على مَن يقول: إن المراد بها
حركتها عند خراب العالم بقيام الساعة بقوله تعالى بعد ما تقدم آنفًا {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) وإتقان الصنع يناسب الإنشاء والتكوين لا ضدهما،
وهناك آيات أخرى ذكرناها في الموضع المشار إليه.
وسألنا أيضًا عن مسألة مشكلة في كتاب (تنبيه الأفهام) لرفيق بك العظم
وسنجيب عنها عندما يتيسر لنا مراجعة ذلك الكتاب بعد انتهاء سفرنا.
_________
الكاتب: محمد الخضر بن الحسين
المشورة [
1]
قضت سنة الله في خلقه أن سلطة شرع الأحكام وتصريف الأوامر والزواجر
لا تستقل وحدها بردع الخليقة وقيادتهم إلى سابلة العدالة، فكثير من الناس من
يجري مع أهوائه بغير عنان، ولا يدخل بأعماله الاختيارية تحت مراقبة العقل على
الدوام، ألا ترى إلى جملة من أحكام الشريعة كيف بنيت على رعاية الوازع
الطبيعي وتغلبه على الوازع الشرعي كرد شهادة العدو على عدوه وعدم قبول شهادة
الرجل لابنه أو لأبيه وإقراره في حال مرضه لصديق ملاطف أو وارث قريب، فلا
بد إذًا من سلطة أخرى لتنفيذ تلك الأحكام المشروعة بالوسائل المؤثرة (وإن كره
المبطلون) كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالة القضاء لأبي موسي
الأشعري: (وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وتسمى هذه
السلطة بالسلطة القضائية، وكان زمامها في عهد نزول الوحي بيد النبي صلى الله
عليه وسلم يتولى الحكومة على الجاني ويباشر فصل النوازل بنفسه من غير أن
يدور في حسبان مسلم مطالبته بإعادة النظر في القضية أو استئنافها لدى غيره وما
كانوا يرون قضاءه إلا حكمًا مسمطًا يتلقونه بأذن واعية وصَدْر رحيب لعلمهم يقينًا
كعمود الصبح أنه حُكْم الله الذي لا يقابل بغير التسليم قال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) وإن
تعجب فلا عجب لهذا، فإن الوازع الشرعي قد يتمكن من النفوس الفاضلة إلى أن
يصير بمنزلة الطبعي أو أقوى داعيًا، وسهل انقياد العرب على ما كانوا عليه من
الأنفة وصعوبة المراس وانصاعوا إلى قانون الشريعة مجملاً ومفصلاً من جهة أن
الدين معدود من وجدانات القلوب فالانقياد لأحكامه من قبل الانقياد إلى ما يدعو إليه
الوجدان وليست الشرائع الوضعية بهذه الدرجة فإن الناس إنما يساقون إليها بسوطِ
القهر والغلبة، ويحترمونها اتقاءً للأدب والعقوبة، ولا يتلقونها بداعية مِن أنفسهم إلا
إذا أدركوا منها وجه المصلحة على التفصيل.
وإنما ورد من فصل قضائه صلى الله عليه وسلم قدر يسير بالنسبة إلى مدة
حياته لما كانت عليه حالة المسلمين يومئذ من الاستقامة والتئام العواطف القاضية بأن
تكون معاملاتهم خالية من الدسائس خالصة من المشاكل، وهكذا ما ساد الأدب
وانتشرت الفضيلة بين أمة إلا اتبعوا شِرْعة الإنصاف من عند أنفسهم والتحفوا برداء
الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة والموعظة الحسنة فيخفت ضجيج الضارعين
وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهم في أجواف المحاكم حسيسًا.
وضم صلى الله عليه وسلم إلى السلطة القضائية فيما يخص الحق المدني سلطة
التنفيذ فيما يختص بحقوق الأمم كإشهار الحرب وإبرام الصلح وتلافي أمر الهجوم
ولم يكن مع يقينه باستماتة أصحابه في طاعته وتفاني مهجهم في محبته لينفرد عنهم
بتدابير هذه السلطة بل يطرحها على بساط المحاورة ويجاذبهم أطرافها على وجه
الاستشارة عملاً بقول تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) وقد
يترجح بعض الآراء بوحي سماوي كما نزل قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: 67) مؤيدًا لرأي عمر بن الخطاب
رضي الله عنه في أسارى بدر.
أذن له صلى الله عليه وسلم بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي
السماء تطييبًا لنفوس أصحابه وتقريرًا لسنة المشاورة للأمة من بعده.
أخرج البيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه
وسلم (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها (أي المشورة) ولكن جعلها الله رحمة لأمتي
فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا، ومن تركها لم يعدم غَيًّا) .
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من العلم بقوانين الشريعة والخبرة
بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكمًا في حادثة إلا بعد
أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة، وإذا نقل له أحدهم نصًا صريحًا ينطبق على
الحادثة قال: (الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا) .
وعهد بأمر الخلافة إلى عمر بن الخطاب بعد استشارة جماعة من المهاجرين
والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأسيد بن حضير وسعيد
بن زيد وغيرهم، وإنما لم يبق الأمر شوري بينهم كما صنع الخليفة الثاني أو يتركه
لآراء المسلمين عامة كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم اعتمادًا على ما تفرسه في
عمر من الكفاءة والمقدرة وحذرًا مِن أنْ يتنازعها ذوو الأهلية فتثور ثائرة الفتنة
ويرتخي حبل الأخوة في أيدي المسلمين.
ونحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الجادة شبرًا بشبر وذراعًا
بذراع، قال مِن خطبة أرسلها في هذا الغرض: كذلك يحق على المسلمين أن
يكونوا وأمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، ثم قال ومن قام بهذا الأمر فإنه
تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم، وهذا إيماء إلى الحكم النيابي ويدل له
من كتاب الله قوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وضع الإسلام
أساسه وبنى عليه الخلفاء سياستهم ثم انتقض بناؤه في دولة بني مروان، ومذ
شعرت الأمم الآخذة بمذاهب الحرية بأنه الضربة القاضية على السلطة الشخصية
طفقوا يهرعون إلى إقامة حكوماتهم على قاعدته المتينة.
وأخذ عمر بقاعدة الشورى في أمر الخلافة من بعده، ففوض أمرها إلى ستة
من كبراء الصحابة ليختاروا رجلاً منهم، وقال لهم: ويحضركم عبد الله بن عمر
مشيرًا وليس له من الأمر شيء، وضمه عبد الله بن عمر إلى الستة وتشريكه لهم
في الرأي وارد على ما ينبغي في مجالس الشورى مِن جعْل نظامها مُؤلفًا من العدد
الفرد ليمكنهم ترجيح جانب الأكثر عند الاختلاف ويُلَوِّح إلى هذا بطرْف خفي قوله
تعالى {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى
مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ} (المجادلة: 7) فذكر العدد الفرد صراحة
والاقتصار عليه دون الزوج في ضمنه إشارة إلى ما ينبغي مراعاته في المجالس
المؤلفة للمناجاة.
هذا هو الأصل في الشورى، وقد تؤلف من عدد زوج ويعتبر أحد أفراد اللجنة
بمنزلة رجلين اثنين ويسمى رئيسًا لها فيرجح به الجانب الذي ينحاز إليه عند
التساوي والدليل على صحته شرعًا قول عمر بن الخطاب لأبي طلحة الأنصاري:
(إن الله أعز بكم الأنصار فاختر خمسين رجلاً من الأنصار وكنْ مع هؤلاء حتى
يختاروا رجلاً منهم، ثم قال له وإن رضي ثلاثةٌ رجلاً ثلاثةٌ رجلاً فحكِّموا عبد الله بن
عمر فإن لم يرضوا بعبد الله فَكُونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف) .
والمشورة سنة متبعة عند بعض الأمم من قديم الزمان، وردت في قصة بلقيس
حين دعاها وقومها رسول الله سليمان عليه السلام أن لا يعلوا عليه ويأتوه مسلمين
قال الله تعالى {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى
تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ *
قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 32-34) .
ووردت الشورى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملائه قال الله تعالى
{قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (الأعراف:
109-
111) وكأن قاعدة الشورى بين فرعون وملائه لم تطرد على أساس صحيح
بدليل ماسام به بني إسرائيل من العذاب المبين.
وقطع مجلس الشورى عند فرعون رأيه وأبرم في النازلة حكمة لأنه فوَّض
إليهم ذلك بقوله {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (الأعراف: 110) وليس له من الأمر شيء
سوى تنفيذ أعمالهم، والعمل بما يشيرون بخلاف مجلس الشورى عند ملكة سبأ فلم
يزيدوا على أن عرضوا عليها رأيهم بطريق التلويح حين {قَالُوا نَحْنُ أُوُلُو قُوَةٍ
وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} (النمل: 33) يشيرون إلى اختيار الحرب ثم أوكلوا الأمر إليها
بقولهم {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} (النمل: 33) لأنها لم تفوض إليهم
الحكم في القضية وإنما طلبت منهم أن يصرَّحوا بآرائهم ويبوحوا بأفكارهم فقط بدليل
قولها {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل: 32) أي إلا بمحضركم وقولها
{أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} (النمل: 32) أي اذكروا ما تستصوبون فيه، ولأنها زيفت
رأيهم وأشعرتهم بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان عليه السلام حدودهم
فيسرع إلى إفساد ما يصادمه من أموالهم وعماراتهم فقالت {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (النمل: 34) .
لا تكون قاعدة الشوري من نواصر الحرية وأعوانها إلا إذا وُضِعَ حجرُها
الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية، وأما المشاركة في الرأي وحدها ولا سيما
رأي من لا يطاع فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد.
وأهم فوائد المشورة تخليص الحق من احتمالات الآراء وذهب الحكماء من
الأدباء في تصوير هذا المغزى وتمثيله في النفوس إلى مذاهب شتّى قال بعضهم:
إذا عنَّ أمر فاستشر فيه صاحبا
…
وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب
فإني رأيت العين تجهل نفسها
…
وتدرك ما قد حلَّ في موضع الشهب
وقال غيره:
أقرن برأيك رأي غيرك واستشر
…
فالحق لا يخفى على الاثنين
والمرء مرآة تريه وجهه
…
ويرى قفاه بجمع مرآتين
وقال آخر:
الرأي كالليل مُسْوَدٌّ جوانبه
…
والليل لا ينجلي إلا بمصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى
…
مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
ولا يدخل في وهم امرئ سمع قولهم (إنما العاجز مَن لا يستبد) إنَّ اقتداءه
بسنة الشورى يشعر الناس بعجزه وحاجته إليهم فتسقط جلالته من أعينهم ويفوته
الفخر بالاستغناء عنهم؛ فإن الناصح الأمين لا تجده يجعل الفخار محورًا يدير عليه
سياسته فيلقي له بالاً وإنما يبني أعماله على مصالح يجلبها أو مفاسد يدرؤها ومَن
كان يريد التمجيد والثناء فنعته بعدم الانفراد بالرأي أفخر لذكره وأشرف لسياسته من
وصفه بصفة الاستبداد، قال تعالى في الثناء على الأنصار {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) أي لا ينفردون برأي
حتى يجتمعوا عليه، وروى أن هذا دأبهم من قبل الإسلام ولعله هذا هو الوجه في
مخالفة أسلوب الوصف به لما قبله وما بعده حيث أورد في جملة اسمية للدلالة على
الثبوت والاستمرار.
ومن فوائدها استطلاع أفكار الرجال ومعرفة مقاديرها فإن الرأي يمثل لك عقل
صاحبه كما تمثل لك المرآة صورة شخصه إذا استقبلها.
_________
(1)
بقلم الشيخ محمد الخضر بن الحسين من العلماء المدرسين بجامعة الزيتونة بتونس في مسامرته (الحرية في الإسلام) .
الكاتب: صنعة الله أفندى ييكبولاط
الإسلام في البلاد المسيحية [*]
كان المسلمون في الأزمنة الغابرة لا يقصدون البلاد المسيحية إلا للفتح
والاستيلاء عليها. وكان يندر جدًّا من يقصدها لغير هذا الغرض. والسبب في ذلك
أن حوائج المسلمين الدينية والاجتماعية والاقتصادية كانت تُقْضَى على ما يرام في
غير بلادهم. ولذلك كان القاطنون في الديار المسيحية من المسلمين أندر من
الكبريت الأحمر مع وجود ملايين من المسيحيين في البلاد الإسلامية.
إن كثيرًا من المسلمين أجلوا في العصور الماضية عن أوطانهم إلى البلاد
المسيحية جزاء لمطالبتهم بالاستقلال: من ذلك أن حكومة هولاندا أجلت في القرن
السادس عشر من آسيا الشرقية (من جزائر جاوه وبورنيو وصوماتره) عدة آلاف
من المسلمين المنتمين لجنس (ملايو) إلى كابلانده في جنوب إفريقية، وفي ذلك
العصر نفسه أرغمت الحكومة البولونية كثيرًا من التتر على المهاجرة إلى بولونيا،
فبقايا هؤلاء وإن أضاعوا قوميتهم بمعناها الأوربي أي وإن نسوا لغتهم الأصلية
واستبدلوا بها لغة البلاد التي استوطنوها فإنهم لا يزالون يحتفظون بدينهم ويتمسكون
به شديد التمسك.
وأما اختلاط المسلمين بالمسيحيين بحسن اختيارهم وإرادتهم فقد بدأ منذ زمن
غير بعيد، ففي بادئ الأمر أخذ الطلاب المسلمون يقصدون أمريكا وإنكلترة وفرنسا
بقصد التعلم بمدارسها العالية، ثم اضطرت بعض الأحوال السياسية
والاقتصادية المسلمين أن يغادروا بلادهم ويهاجروا إلى أوربا أفواجًا، فكان هذا
الاختلاط هو السبب الرئيسي لانتشار الإسلام في الممالك الغربية.
ويوجد الآن في ألمانيا رجل يسعى سعيًا متواصلاً إلى نشر الإسلام فيها ألا
وهو محمد عادل بك (اشميتس - دورمولين) ، وكان مِن أمره أنه قضى عشرين
عامًا مهندسًا في الشرق ثم انتحل الإسلام، وتزوج فتاة مسلمة من أسرة كبيرة، فلما
عاد إلى وطنه (ألمانيا) طفق يدأب على نشر الإسلام بين أهل وطنه والدفاع عنه
وعن المسلمين، فألَّف في ذلك مؤلفات عديدة من أشهرها (الإسلام) ، (في الحرم)
(الآستانة - بلدة الإسلام) وقد أثبت عادل بك في مؤلفاته هذه أن الإسلام قريب جدًّا
من النصرانية الحقيقة، وأن ما عليه العالم المسيحي الآن من التقاليد والعادات مفسدة
كبيرة ومدعاة إلى الشهوات البهيمية والفقر المدقع وغير ذلك من المصائب
والأمراض الاجتماعية.
ومن مشهوري الذين يجِدُّون في نشر الإسلام في أوربا غير عادل بك عمر
رشيد بك وقرينته مادام (يلينافولاو) في مدينة مونخين.
وقد أسست في فرنسا في هذه الأيام الأخيرة جمعية (الأخوة الإسلامية) ومن
أعضائها الآنسة الفرنسية (عزيزة روشة لرون) التي انتحلت الإسلام منذ أربعة
أشهر، وهي تخدم في هذه الجمعية من غير مللٍ ولا ضجر، وقد أنشأت هذه الآنسة
مجلة سمتها (النظر إلى الشرق) مبدؤها تفهيم الإسلام للفرنسيين ومعاونة المسلمين
علي ارتقائهم وحضارتهم.
وأما البلاد الإنكليزية فإن انتشار الإسلام فيها أظهر وكلمته أعلى، وتوجد فيها
الآن جمعيات عديدة أشهرها (الأُخوَّة الإسلامية) و (الهلال) و (اتحاد الإسلام)
أسسها المهاجرون إليها من مستملكات إنكلترة والذين انتحلوا الإسلام من الإنكليز
أنفسهم، وقد شيد باجتهاد هؤلاء جوامع فخمة في لندره وليفربول وغيرهما من
المدن الإنكليزية وأسست دواوين وملاجئ للأيتام وكتاتيب لتعليم الصبيان وأنشئت
عدة من الجرائد والمجلات.
وأعظم الجمعيات المتقدمة الذكر جمعية (اتحاد الإسلام) وهي تعد مركزًا
لجميع مسلمي إنكلترة، ومن أهم مقاصدها معاونة المسلمين في ترقية شؤونهم
الاقتصادية وتهذيب أخلاقهم وترقية العلوم والمعارف في العالم الإسلامي، وهي تتخذ
التدابير اللازمة لمنع المعلومات الكاذبة عن المسلمين والإسلام في بلاد الغرب.
ومن أشهر أعضائها العاملين، محمد بن عبد الله المأمون السهروردي المحامي
الشهير وهو هندي الأصل، وقد ألَّف هذا الرجل مع حداثة سِنِّه مؤلفات عديدة في
الإسلام باللغة الإنكليزية منها (أحاديث محمد) ، (أساس الحقوق الإسلامية) ،
(شكسبير وأدبيات الشرق) ، (لا إكراه في الإسلام) وغيرها، وهو يصدر
الآن مجلة تبحث في شؤون الإسلام والمسلمين.
ويمكنني أن أعد من الذين انتحلوا الإسلام وهم ينتسبون إلى الدوائر الكبيرة
هؤلاء: لورد استينلي عبد الهادي باركنيوسون من أعضاء مجلس أعيان إنكلترة،
مازوريا المحامي الشهير براونينغ، كاليت شالدراك، وغيرهم، ومن النساء: ما دام
ولباست من مشهورات عالمات الموسيقى، ومادام شاورنيت الرسامة، وميسس
بيبس، وغيرهن.
ومن أشهر هُؤليا النساء مدام " كويليام " التي انتحلت الإسلام هي وأبناؤها
وبناتها جميعًا، وقد عين أحد أبنائها وهو أحمد كويليام معتمدًا سياسيًا للدولة العَلِيّة
في ليفربول والآخر وهو عبد الله كويليام شيخ الإسلام في إنكلترة وهو ينشئ الآن
جريدة ومجلة أسبوعية، وله مؤلفات عديدة أشهرها (الدين الإسلامي) (التعصب
والمتعصبون) وغيرهما.
وهل كان يدور في خَلَد أحد أن الإسلام تخفق أعلامه في ربوع أمريكا؟ مع
أنه ليس فيها بأقل انتشار منه في أوربا وأن شيخ الإسلام في تلك البلاد محمد إسكندر
روفيل ووب، يدأب دائمًا في توسيع نطاق الإسلام هناك ويبذل نفسه ونفيسه في هذا
الشأن، وهو يرمي في خطبه ومحاضراته ومؤلفاته إلى غرض واحد وهو تفهيم
الإسلام للأمريكيين وتعريفهم سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وجريدته المسماة
(ته مسلم وورلد) في غاية الرواج والانتشار.
وقد أخذ مسلمو نيويورك في تشييد جامع فخم جدًّا في الأيام الأخيرة وليس
أمر الإسلام في أوستراليا مما يستهان به فقد أخذ في تشييد جامع ثان في
مدينة (آديلانيد) .
وخلاصة القول: إن الأمر الذي كنا نعده من قبيل المستحيل من قبل صار من
أقرب الممكنات، والذين كانوا يزعمون أن الإسلام لا يصلح أن يوضع في ميدان
الحياة أخذوا يتمسكون به ويقدمون النفس والنفيس في الذَّوْد عنه ونشره بين الأنام
فهذه الأمور هي أكبر برهان وأعظم دليل على أن الإسلام أكبر مساعد للحياة وأن له
قابلية عظيمة للانتشار.
_________
(*) ترجمها بالعربية من جريدة (وقت) النافعة صنعة الله أفندي بيكبولاط من نوابغ الطلاب القازانيين بالأزهر وهي منقولة من جريدة (وبرلاندأوندماير) النمسية.
الكاتب: معروف الرصافي
المطلقة [*]
معروف الرصافي
بدت كالشمس يحضنها الغروب
…
فتاة راع نضرتها الشحوب
منزهة عن الفحشاء خود
…
من الخفرات آنسة عروب
نوار تستجد بها المعالي
…
وتبلى دون عفتها العيوب
صفا ماء الشباب بوجنتيها
…
فحامت حول رونقه القلوب
ولكن الشوائب أدركته
…
فعاد وصفوه كدر مشوب
ذوى منها الجمال الغض وجدًا
…
وكاد يجف ناعمه الرطيب
أصابت من شبيبتها الليالي
…
ولم يدرك ذؤابتها المشيب
وقد خلب العقول لها جبين
…
تلوح على أسِرّته النكوب
ألا إن الجمال إذا علاه
…
نقاب الحزن منظره عجيب
حليلة طيب الأعراق زالت
…
به عنها وعنه بها الكروب
رعى ورعت فلم تَرَ قَطَّ منه
…
ولم يَرَ قط منها ما يريب
توثق حبل ودهما حضورًا
…
ولم ينكث توثقه المغيب
فغاضب زوجها الخطاء يومًا
…
بأمر للخلافة به نشوب
فأقسم بالطلاق لهم يمينًا
…
وتلك أليّة خطأ وحوب
وطلقها على جهل ثلاثًا
…
كذلك يجهل الرجل الغضوب
وأفتى بالطلاق طلاق بتٍّ
…
ذوو فتيا تعصبهم عصيب
فبانت عنه لم تأت الدنايا
…
ولم يعلق بها الذام المعيب
فظلت وهي باكية تنادي
…
بصوت منه ترتجف القلوب
لماذا يا نجيب صرمت حبلي
…
وهل أذنبت عندك يا نجيب
ومالك قد جفوت جفاء قالٍ
…
وصرت إذا دعوتك لا تجيب
أبِنْ ذنبي إليّ فدتك نفسي
…
فإني عنه بعدئذ أتوب
أما عاهدتني بالله أن لا
…
يفرق بيننا إلا شَعوب
لئن فارقتني وصددت عني
…
فقلبي لا يفارقه الوجيب
وما إدماء ترتع حول روض
…
ويرتع خلفها رشأ ربيب
فما لفتت إليه الجيد حتى
…
تخطفه بآزمتيه ذيب
فراحت من تحرقها عليه
…
بداء مالها فيه طبيب
تشم الأرض تطلب منه ريحًا
…
وتنحب والبغام هو النحيب
وتمزع في الفلاة لغير وجه
…
وآونة لمصرعه تؤوب
بأجزع من فؤادي يوم قالوا
…
برغم منك فارقك الحبيب
فأطرق رأسه خجلاً وأغضى
…
وقال ودمع عينيه سكوب
نجيبة أقصري عني فإني
…
كفاني من لظى الندم اللهيب
وما والله هجرك باختياري
…
ولكن هكذا جرت الخطوب
فليس يزول حبك من فؤادي
…
وليس العيش دونك لي يطيب
ولا أسلو هواك وكيف أسلو
…
هوى كالروح فيّ له دبيب
سلي عني الكواكب وهْي تسري
…
بجنح الليل تطلع أو تغيب
فكم غالبتها بهواك سهدا
…
ونجم القطب مطَّلع رقيب
خذي من نور (رنتجن) شعاعًا
…
به للعين تنكشف الغيوب
وألقيه بصدري وأنظريني
…
تري قلبي عليك به ندوب
وما المكبول القي في خضمٍّ
…
به الأمواج تصعد أو تصوب
فراح يغسطه التيار غطا
…
إلى أن تم فيه له الرسوب
بأهلك يا ابنة الأمجاد مني
…
إذا أنا لم يعد بك لي نصيب
ألا قل في الطلاق لموقعيه
…
بما في الشرع ليس له وجوب
غلوتم في ديانتكم غلوًا
…
يضيق ببعضه الشرع الرحيب
أراد الله تيسيرًا وأنتم
…
من التعسير عندكم ضروب
وقد حلت بأمتكم كروب
…
لكم فيهن لا لهم الذنوب
وهي حبل الزواج ورق حتى
…
يكاد إذا نفخت له يذوب
كخيط من لعاب الشمس أدلت
…
به في الجو هاجرة حلوب
يمزقه من الأفواه نفث
…
ويقطعه من النسم الهبوب
فدى (ابن القيم) الفقهاء كم قد
…
دعاهم للصواب فلم يجيبوا
ففي (إعلامه) للناس رشد
…
ومزدجر لمن هو مستريب
نحا فيما أتاه طريق علم
…
نحاها شيخه الحَبْر الأريب
وبيّن حكم دين الله لكن
…
من الغالين لم تَعِهِ القلوب
لعلَّ الله يحدث بعدُ أمرًا
…
لنا فيخيب منهم مَن يخيب
_________
(*) قصيدة للشيخ معروف الرصافي الشاعر العراقي الشهير ينتصر فيها لمذهب الإمام ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) .
الكاتب: حسين وصفي رضا
تقريظ المطبوعات الجديدة
(غرائب الاغتراب، ونزهة الألباب)
تأليف السيد محمود أفندي الآلوسي الحسيني، صفحاته 451 طبع بمطبعة
الشابندر ببغداد سنة 1327.
لا نرى حاجة لتعريف قراء المنار بالمؤلِّف الجليل، وهو صاحب تفسير
(روح المعاني) الشهير، الذي يندر من لم يستفد منه من ممارسي العلوم الإسلامية،
وللمؤلف كثير من المصنفات كانت ظلمات الاستبداد الحالكة مانعة من انبلاج نورها،
حتى إذا أشرقت شمس الدستور عقد العزم آل الآلوسي الفضلاء على نشر تلك
الآثار ومنها كتاب (غرائب الاغتراب) .
الكتاب هو مجموع محاضرات أدبية، وفقرات وصفية، ومقالات في التراجم
ومناظرات في علم الكلام والفقه والتصوف، كتبها المؤلف فيما رأى ومن رأى في
رحلته من بغداد إلى القسطنطينية.
تصفحنا صفحات من الكتاب فتمثلت لنا روح المؤلف نقية طيبة كأرواح
أسلافنا الأولين: نزَّاعةً إلى الحق، وثَّابةً على الباطل، لا تطبي أنصار ذاك
بزخرف القول، ولا تداهن أرباب هذا بقول الزور، أما أسلوب الكتاب أو الكاتب
فقد طبع على غرار أهل القرون الوسطى، سجع تحتف به الصنعة البديعية، ولكن
يخال قارئه أنه لا تعمّل فيه ولا تكلف، وقد يغلو من يستنكر هذا النمط في الإنشاء
فإن لكل عصر أسلوبًا، وإنما الكلم الطيب البليغ هو ما أدَّى المراد بدون تعسف ولا
تكلف، ولا ضير على قائله بعد هذا سواء أكان مترسّلاً أم جانجًا للسجع.
قلت هذا لأنني أرى أكثر أدباء عصرنا يستنكرون السجع كثيرًا، حتى لا يبعد
أن تكون أذواقهم صارت تمجه في مثل كلام إمام البلاغة جدنا المرتضى عليه السلام
وهذا من غرائب انتكاس الطباع ومرض الأذواق.
***
(الفَرْق بين الفِرَق)
تأليف الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي من أهل
القرن الخامس، وقد وقف على طبعه وضبطه وتعليق حواشيه محمد بك بدر
المتخرج في جامعة (بُن. ألمانيا) صفحاته 354 طبع بمطبعة المعارف بمصر
ويباع بها وبمكتبة المنار بعشرين قرشًا صحيحًا.
لقد سررنا سرورًا عظيمًا بنشر هذا الكتاب، لا لأن الأمة محتاجة إلى الاطلاع
على آثار أسلافنا العاملين بل لأن واحدًا من سراة أبنائها أهل الثراء اختار أن تكون
حياته حافلة بالعلم والعمل، هازئًا بسير أترابه المنقطعين إلى اللهو والترف، فبعد أن
ابتعد عن أسرته وخلطائه أعوامًا قضاها ينتاب فيه دور العلوم بأوربا عاد وهو
صحيح العزيمة على أن يعمل بما علم و (ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم
يعلم) .
وغرض المؤلف من كتابه بيان مذاهب الفرق الثلاث والسبعين التي ورد
ذكرها في الحديث، وقد أفاض في ذلك كثيرًا فذكر فِرَقًا مزقتها عوادي الأيام، ولولا
ذكر مثل المؤلف لها لَمَا عرف أهل هذا العصر أنها وجدت في هذه الدنيا، لأنها لم
تترك أثارة من علم ولا نبأة من حالها.
والكتاب مفيد في بابه، بليغ في أسلوبه، قوي الحجة، وطبعه في غاية
الجودة، ومن محسناته فهرسان للأعلام والكنى وضعهما له ناشر الكتاب، ورتبهما
على حروف المعجم، وقد كتب له مقدمة متينة التركيب بَلِيغَةِ الأسلوب فنثني عليه
أطيب الثناء.
***
(إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان)
تأليف الإمام شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم
الجوزية، وقد عني بتصحيحه وتخريج أحاديثه وتعليق حواشيه الشيخ محمد جمال
الدين القاسمي الدمشقي.
صفحاته 48طبع بمطبعة المنار بمصر ويباع بمكتبة المنار بثلاثة قروش
صحيحة.
الطلاق من ضرورات الاجتماع التي لا بدًّ منها، ولا مندوحة عنها، وقد
اعترف كثيرون من عقلاء الفرنجة والأمريكان بذلك، بل إن بلاد أمريكا أصبح
الطلاق فيها أكثر شيوعًا منه في سائر البلاد الإسلامية، والسبب في ذلك تفريطهم
وإفراطهم، فقد أحكموا في الأول عقد النكاح إحكامًا، صيَّروا به حلها جناية وأثامًا
وقد بالغوا في الثاني في حلها حتى صارت أَوْهَى مِن بيت العنكبوت.
أما المسلمون فيرون الطلاق رخصة من الرخص التي يصار إليها عند
الاضطرار كما أرشدهم إلى ذلك دينهم، وهكذا يكون شأن الأمة الوسط: (لا تفريط
ولا إفراط) وهذه هي الخطة التي تحوم حولها القلوب، وتهفو إليها النفوس، لأن
تحريم الطلاق تحريمًا قطعيًا من الحرج الذي لا يطاق ولا تستقيم معه حال الاجتماع
وإباحته إباحة عامة من دون شرط أو قيد من العبث المخل المفسد لنظام الأسر
والبيوتات.
ولقد يظن كثيرون من الفرنجة والمتفرنجين الذين ينظرون إلى الإسلام بعيون
حَول أن الطلاق يقع بالكلمة تقذفها بادرة غضب فتصبح عقد النكاح المحكمة مفككة
محلولة، وتمسي الزوج التي لم تجن ذنبًا أجنبية غير حليلة، ويرون أن ذلك ليس
مما يلتئم مع الحكمة، أو يتفق مع المصلحة، وقد يكونون معذورين في هذا القول
الذي يتفق مع أقوال كثير من الفقهاء، ولم أنهم أطلعوا على الكتاب الذي نقرظه
اليوم لآبوا معترفين للإسلام بأنه دين المدنية والفضيلة والعمران.
استهل الإمام المؤلف كتابه بالحديث الشريف (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)
ثم بيَّن معني الإغلاق أو الغلاق من كلام الأئمة، وأنَّ معناه الغضب أو من معانية ثم
طفق المؤلف يدلي بالحجة تلو الحجة ويأتي بالدليل بعد الدليل من الكتاب والسنة
والمأثور عن أئمة السلف الناطقة كلها بعدم وقوع طلاق الغضبان، وأفاض المؤلف
في ذلك أيما إفاضة شأنه في كل الموضوعات التي كتب فيها، ونصب ميزان
التعارض والترجيح، فأظهر أثابه الله الرغوة من اللبن الصريح، قال في استدلا له
من السنة على أن طلاق الغضبان لا يقع: (فأما دلالة السنة فمن وجوه [1] أحدها
حديث عائشة المتقدم وهو قوله:
(لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) وقد اخْتُلِفَ في الإغلاق؛ فقال أهل الحجاز
هو الإكراه، وقال أهل العراق هو الغضب، وقالت طائفة هو جمع الثلاث بكلمة
واحدة، حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب (مطالع الأنوار) ، وكأن الذي فسره
بجمع الثلاث أخذه من التغليق وهو أن المطلق غلَّق طلاقه كما يغلق صاحب
الدين ما عليه، وهو من غلَّق الباب فكأنه أغلق على نفسه باب الرحمة بجمعه
الثلاث فلم يجعل له الشارع ذلك ولم يملكه إياه رحمةً به، إنما ملكه طلاقًا يملك فيه
الرجعة بعد الدخول، وحجر عليه في وقته ووضعه وقدّره فلم يملكه إياه في وقت
الحيض ولا في وقت طهر جامعها فيه، ولم يملكه أن يبينها بغير عوض بعد
الدخول فيكون قد غير صفة الكلام وهذا عند الجمهور، فلو قال لها: أنتِ طالق
طلقة لا رجعة لي فيها أو طلقة بائنة لغا ذلك وثبتت له الرجعة، وكذلك لم يملكه
جمع الثلاث في مرة واحدة بل حجر عليه في هذا وهذا وكان ذلك من حجة من لم
يوقع الطلاق المحرم ولا الثلاث بكلمة واحدة [2] لأنه طلاق محجور على صاحبه
شرعًا وحجر الشارع يمنع نفوذ التصرف وصحته كما يمنع نفوذ التصرف في العقود
المالية فهذه حجة من أكثر من ثلاثين حجة ذكروها على كلام وقوع الطلاق المحجور
على المطلِّق فيه.
والمقصود هاهنا أن هؤلاء فسروا الإغلاق بجمع الثلاث لكونه أغلق على نفسه
باب الرحمة الذي لم يغلقه الله عليه إلا في المرة الثالثة (وأما الآخرون) فقالوا:
الإغلاق مأخوذ من إغلاق الباب وهو إرتاجه وإطباقه فالأمر المغلق ضد الأمر
المنفرج والذي أغلق عليه الأمر ضد الذي فرج له وفتح عليه فالمكره [3] الذي أكره
على أمر إنْ لم يفعله وإلا حصل له من الضر ما أكره عليه - قد أغلق عليه باب
القصد والإرادة لما أكره عيه فالإغلاق في حقه بمعنى إغلاق أبواب القصد والإرادة له
فلم يكن قبله منفتحًا لإرادة القول والفعل الذي أكره عليه ولا لاختيارهما فليس مطلق [4]
الإرادة والاختيار بحيث إن شاء طلّق وإن شاء لم يطلق وإن شاء تكلم وإن شاء لم
يتكلم بل أغلق عليه باب الإرادة إلا للذي قد أكره عليه ولهذا قال النبي صلى الله
عليه وسلم (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم
المسألة فإن الله لا مُكْره له) [5] فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يفعل إلا
إذا شاء بخلاف المكره الذي يفعل ما لا يشاؤه فإنه لا يقال يفعل ما يشاء إلا إذا كان
مطلق الدواعي وهو المختار، وأما من ألزم بفعل معين فلا، ولهذا يقال: المكره
غير مختار، ويجعل قسيم المختار لا قسمًا منه، ومَن سمَّاه مختارًا فإنه يعني أن له
إرادة واختيارًا بالقصد الثاني فإنه يريد الخلاص من الشر ولا خلاص له إلا بفعل ما
أكره عليه فصار مريدًا له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول.
والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهذا من أعظم
الإغلاق وهو في هذا الحال بمنزلة المُبَرْسَم والمجنون والسكران بل أسوء حالاً من
السكران لأن السكران لا يقتل نفسه ولا يلقي ولده من علوٍّ والغضبان يفعل ذلك،
وهذا لا يتوجه فيه نزاع أنه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعًا.
وحينئذ فنقول: الغضب ثلاثة أقسام [6] :
أحدها: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه
ويعلم ما يقول ويقصده، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده ولا
سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردد فكره.
القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة
فلا يعلم ما يقول ولا يريده فهذا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه كما تقدم.
والغضب غول العقل؛ فإذا اغتال الغضب عقله حتى لم يعلم ما يقول فلا ريب
أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة، فإن أقوال المكلف إنما تنفذ مع علم القائل
بصدورها منه ومعناها وإرادته للتكلم بها.
(فالأول) يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران وهذا الغضبان.
(والثاني) يخرج من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه ألبتة فإنه لا يلزم مقتضاه.
(والثالث) يخرج من تكلم به مكرهًا وإنْ كان عالمًا بمعناه.
(القسم الثالث) من يتوسط في الغضبان بين المرتبتين فتعدى مبادئه ولم ينته
إلى آخره بحيث صار كالمجنون فهذا موضع الخلاف ومحل النظر والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو
فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة، وقد ذكرنا دلالة الكتاب على ذلك من وجوه.
وأما دلالة السنة فمن وجوه، أحدها: حديث عائشة وقد تقدم ذكر وجه دلالته.
الثاني: ما رواه أحمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين)[7] ، وهو
حديث صحيح وله طرق، وجه الاستدلال به أنه صلى الله عيه وسلم ألغى وجوب
الوفاء بالنذر إذا كان في حال الغضب من أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين
بالنذور وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناذر لطاعة الله بالوفاء بنذره،
وقال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصِه)[8] ، فإذا كان
النذر الذي أثنى الله على مَن أوفى به وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة قد
أثرَّ الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده، وإنما حمله على بيانه الغضب
فالطلاق بطريق الأَوْلى والأحرى (فإن قيل) فكيف رتَّب عليه كفارة اليمين.
(قيل) تَرَتُّبُ الكفارة عليه لا يدل على ترتب موجبه ومقتضاه عليه والكفارة
لا تستلزم التكليف ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون إذا قتلا صيدًا أوغيره وتجب
على قاتل الصيد ناسيًا أو مخطئًا، وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيًا
عند الأكثرين فلا يلزم من ترتب الكفارة اعتبار كلام الغضبان، وهذا هو الذي
يسميه الشافعي نذر الغلق، ومنصوصه على عدم وجوب الوفاء به إذا حلف به بل
يخير بينه وبين الكفارة وحكي له قول آخر بتعين الكفارة عينًا، وقول آخر بتعين
الوفاء به إذا حنث، كما يلزمه الطلاق والعتاق؛ وهذا قول مالك وأشهر الروايتين عن
أبي حنيفة.
الثالث: ما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يقضي
القاضي بين اثنين وهو غضبان [9] ) ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه
عن الحكم حال الغضب، وقد اختلف الفقهاء في صحة حكم الحاكم في حال غضبه
في ثلاثة أقوال سنذكرها بعدُ إن شاء الله.
والكتاب كله على هذا النمط من الإيضاح والتبيان، وقوة الدليل والبرهان،
وفي آخره قصيدة عنوانها (المطلقة) للشيخ معروف الرصافي الشاعر العراقي
المشهور قالها انتصار لمذهب الإمام، وقد نشرناها في غير هذا المكان من هذا
الجزء.
***
(فهرس مقتنيات دار الآثار العربية)
ولمعة في تاريخ فن المعمار وسائر الفنون الصناعية بمصر
تأليف مكس هرتس بك ناظر دار الآثار العربية، وترجمه بالعربية علي بك
بهجت وكيل دار الآثار العربية، صفحاته 331 بالقَطْع الصغير ورسومه 63، طبع
بالمطبعة الأميرية بمصر.
دار الآثار العربية هي القسم الأدنى من البناء المشمخر في باب الخلق والقسم
الأعلى خاص بدار الكتب، وهاتان الداران أنشئتا حديثًا في مصر أي منذ ثلاثين سنة
ونيّف، ولا نريد بهذا البناء الجديد الذي نقلت إليه الآثار من عهد غير بعيد؛ بل
نريد المحتويات والآثار، ويسوءنا أن دار الآثار العربية لم تنشأ إلا بعد أن عبثت
أيدي الأجانب بأكثر تلك الآثار، ونقلوها إلى بلادهم من هذه الديار، ولولا أن
المهندس سليمان المشهور رغب إلى الخديو إسماعيل باشا بجمعها وإنشاء دار لها
وتحقيق هذا لرغبته لضاعت البقية الباقية من الآثار العربية التي نراها اليوم فالفضل
في ذلك للطالب وللمجيب.
وقد أهدي إلينا (فهرس مقتنيات دار الآثار العربية) فألفيناه مرتبًا جميلاً،
مزينًا بالرسوم الكثيرة وافتتحه المؤلف بكلام عن إنشاء دار الآثار حقيرة وارتقائها في
زمن قصير، ثم تفاءل بما سيكون لها من الشأن العظيم، ثم أتى بخلاصة تاريخية
للدولة الإسلامية في مصر وما كانت عليه الصناعات في أيامها وذكر أن فن المعمار
كان له المقام الأول في تلك الأزمان، قال (لأن البنايات الفخيمة التي تروقنا اليوم
فضلاً عن أنها تحدثنا بأزمان انقضت هي من آثارها تشهد أن العمارة كانت الفن
الأجل عند العرب وأنها بلغت لديهم ما لم تبلغه عند الأمم الغربية) ويلي ذلك الكلام
عن الآثار الموجودة وبيان أنواعها وتأريخها وغير ذلك من الفوائد فنثني على
المؤلف والمترجم ثناء كثيرًا.
***
(لُجَّة النور)
خَفَتَ صوت الموسوس المغرور أحمد ميرزا غلام الذي سمى نفسه بالمسيح
حينًا من الزمان قلنا فيه لعله ثاب إلى رشده، أو رجع إلى عقله فعلم أن السخافات
ليست مما يدوم الخداع فيها، ثم حملت إلينا الأنباء أنه قضى نحبه، ولقي ربه، فقلنا
لقد استراح وأراح، وما كنا نخال أنه استخلف مِن بعده واحدًا من ضعفاء العقول
الذين استهواهم حتي حمل إلينا بريد الهند كتابًا هذه طُرّته (لجة النور - إلى
علماء العرب والشام والبغداد (؟) والعراق والخراسان (؟) لتجري أنهار
الإيقان والعرفان في زروع الإيمان! !) وهذا الكتاب الذي ينشره خليفة ذلك
الموسوس المغرور من وحي مستخلفه يعرف القارئ ما فيه من الخلط والخطأ
والعسطلة من طرته التي في أوله وقد نقلناها بنصها، وفي الكتاب كثير من
النفاق والدهان للإنكليز شأن ذلك المسيح الكذوب في كل كتبه، وقد كان يفعل هذا
حتى لا يصدّه الإنكليز عن دعوته، ولا يحملوه عن نبذ الاحتفاظ بسخافته، فما هذه
النَّبْوَة التي يحتف بها النفاق والدهان، وتعلو بالخلط والهذيان! .
***
(إمام غزالي)
رسالة باللغة التترية ذات 96 صفحة كتبها رضاء الدين أفندي بن فخر الدين
من جلة علماء روسيا النافعين، وهي ترجمة حافلة للإمام الغزالي رحمه الله تعالى،
وقد أثبت على صفحتها الأولى هذه الفقرة الحكيمة للإمام الغزالي (أستحقر مَن لا
يُحسد ولا يُقذف، وأستصغر مَن بالكفر أو الضلال لا يُعرف، فأي داع أكمل وأعقل
من سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا إنه مجنون من المجانين، وأي
كلام أجلّ وأصدق من كلام رب العالمين وقد قالوا إنه أساطير الأولين، وإياك أن
تشتغل بخصامهم، وتطمع في إفحامهم، فتطمع في غير مطمع، وتصوت في غير
مسمع) .
والرسالة تباع بمكتبة الشرق بأورنبورغ
***
(الإسلام ومستر سكوت)
رسالة صفحتها 77 بالقطع الصغير، تأليف الشيخ علي أحمد الجرجاوي
طبعها مؤلفها بمصر وجعل ثمنها ثلاثة قروش، وقد كتبها ردًا على مزاعم افتحارية
للمستر سكوت في الدين الإسلامي في كتاب له كان يقرأ دروسًا في مدارس الحكومة
المصرية، ثم قررت نظارة المعارف منع تدريسه إذ نبهتها الصحف إلى ذلك، وليس
بعجيب أن يلزم المسلمون بدراسة كتاب معظمه مطاعن في دينهم مادام المستر
دانلوب راسخ القدم في نظارة المعارف، بل العجيب كيف تمكن سعد باشا زغلول
رجل المقدرة والعمل من القيام بالإصلاحات العظيمة في المعارف ومستر دانلوب
مسيطر على كل ما يراد عمله فيها.
***
(حياة اللغة العربية)
مسامرة للشيخ محمد الخضر بن الحسين من علماء جامع الزيتونة العاملين
النافعين الذي يرى له القراء في (ص120) من هذا الجزء قطعة من مسامرته
(الحرية في الإسلام) وقد قسمّ مسامرته هذه إلى أقسام: منها (تأثير اللغة في الهيئة
الاجتماعية، أطوار اللغة العربية، تعدد أساليبها، طريق اختصارها، اتساع
وضعها) إلى غير ذلك، وهي في ست وخمسين صفحة مطبوعة على ورق جيد،
ويسرنا كثيرًا أن نرى من إخواننا علماء تونس هذه النهضة العالية فهي خير ما
يبعث النفوس على التفكير، ويستفزها على العمل، ويسؤنا أن لا يضارعهم في ذلك
الأزهريون، وسنشر في المنار فصلاً أو فصولاً منها.
***
(مفاسد شهادة الزور)
كراسة صغيرة الحجم، كبيرة الفائدة والنفع، جمع فيها كاتبها صديقنا الشيخ
أحمد عمر المحمصاني الآيات والأحاديث الناطقة بقبح شهادة الزور وكونها من أكبر
الكبائر ونقل أقوال أئمة الصحابة وجمهرة من الفقهاء فيها، ثم عقد فصلاً لبيان
(أضرار شهادة الزور في الشاهد نفسه وفي الهيئة الاجتماعية) وكل ذلك
صريح في استنكارها واستكبارها، ولو نقلتها الجرائد العربية لأفادت أحسن فائدة،
وأثرت في كثير من القلوب القاسية.
***
(مفردات إنكليزية وعربية)
أهدانا عبده أفندي عيد ناظر مدرسة الاتحاد الوطني ببولاق نسخة من هذه
الرسالة ورسالة أخرى في التعريفات الإنكليزية وكلتاهما تأليف وهبه أفندي عبد الله
المدرس بمدرة الاتحاد الوطني وأهدانا مصورًا (خريطة) للقطر المصري من رسم
وهبه أفندي، والرسالتان جيدتا الطبع، سهلتا المنال والوضع، والمصور دقيق
الرسم حسن التلوين فنثني على المهدي والمؤلف.
***
(مملكة جهنم)
الكونت لاون تولستوي من مشهوري فلاسفة هذا العصر الذين كتبوا وأفادوا،
ويمتاز تولستوي على كثير من الفلاسفة بكونه عمليًّا لا نظريًّا فقط، وروح فلسفة
تولستوي هي الرجوع بالناس إلى سذاجة الفطرة، وترغيبهم بالهدوء والأنى بل
أسرف في ذلك حتي حثّ على احتمال الإهانة والاستخذاء للشر! ومبادئ الرجل
قريبة من بمبادئ بعض متصوفة الإسلام، وقد ترجم له في هذه الآونة سليم أفندي
قبعين الضليع في اللغة الروسية والشهير بنقل آثاره إلى العربية قصة اسمها (مملكة
جهنم) وجعل ثمنه أربعة قروش صحيحة ويا حبذا لو أتيحت لنا مطالعتها لنكتب
رأينا فيها.
***
(الجامعة)
عاد فرح أفندي أنطون من أمريكا إلى هذه الديار وأصدر مجلته منذ ثلاثة
أشهر، وقد جاءنا الجزء الأول والثاني من سنتها السابعة فألفيناهما حافلين بالمقالات
النافعة، والبحث المقيد، مطبوعين طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وعدد صفحات كل
جزء منها 65 وقيمة اشتراكها 60 قرشًا صحيحًا في مصر، فنرحب بالجامعة في
حياتها الجديدة.
***
(الهداية)
أصدر الشيخ عبد العزيز جاويش مجلة بهذا الاسم وجعل شعارها هذه الفقرة
(مجلة دينية علمية أدبية اجتماعية) ، وقد قال بعد أن ذكر الموضوعات التي تبحث
فيها المجلة) هذه هي أبواب الهداية وقد يستغرق ما نعده لعدة أبواب ما كان معدا من
الفراغ لباب أو أكثر، على أننا سَنَجِدُّ في ألا نخلي جزءًا من باب منها وسنصدرها
شهرية في هذه السنة (وقد تصفحنا الجزاءين اللذين صدرًا منها فإذا هما حاويان
لأكثر الموضوعات الموعود بها فنرجو للهداية انتشارًا وشيوعًا، وصفحات الجزء
من أجزائها 72 وقيمة اشتراكها ستون قرشًا صحيحًا في مصر.
***
(النبراس، المنتقد، العرفان)
حمل إلينا سورية هذه المجلات الثلاث فإذ بهن قد خطون خطوات واسعة
في الارتفاء بعد دخولهن في العام الثاني من حياتهن.
فموضوعات نافعة، وأدبيات رائعة، وطبع جميل، وورق صقيل، فنرحب
بهنَّ ونرجو لهنَّ فلاحًا ونجاحًا.
***
(الكائنات)
مجلة ذات 16 صفحة بالقطع الكبير لمنشها (الارشمندريت باسيليوس)
وموضوع المجلة ديني تأريخي وتحتوي على رسوم لكثير من القسيسين وقيمة
اشتراكها 80 قرشًا صحيحًا في مصر.
***
(الفرائد)
(مجلة عملية أدبية اجتماعية روائية) يصدرها في سان باولو (البرازيل)
إبراهيم أفندي شحاده فرح، تصفحنا الجزء الأول منها فإذا فيه مقالات مختصر مفيدة
فنرحب بهذه المجلة ونرجو لها حياة طيبة.
***
(الأستاذ)
مجلة تصدرها في بونس إيرس (الأرجنتين) يوسف أفندي خوري، جاءنا
الجزء الأول منها يحتوي على فصول عمرانية ونبذ سياسية فسررنا سرورًا عظيمًا
بهذه المجلة كما سردنا بمجلة الفرائد، وصدور المجلات في الأمة سواء في بلادنا أو
في دار هجرتها من أكبر دلائل حياتها العلمية، فنثني أطيب الثناء على إخواننا
المهاجرين الذين يتوفرون على إحياء لغتهم الشريفة في تلك الأصقاع النائية.
***
(العلم)
جريدة يومية سياسية مديرها إسماعيل بك حافظ وقد جعلها رئيس الحزب
الوطني لسان حال حزبه بعد أن تنصل من جريدة اللواء ونفض يده منها. صدر منها
إلى وقت كتابة هذه السطور بضعة أعداد قرأناها فإذا هي على نمط الجرائد الأخرى
إلا أن لهجتها أشد، وعسى أنْ تكون أكثر توفيقًا للخدمة العامة من اللواء فيما مضى،
وقيمة اشتراكها 180 قرشًا صحيحًا في القطر المصري.
***
(المناظر)
عاد صاحب هذه الجريدة العاقلة صديقنا نعوم أفندي لبكي من البرازيل إلى
بلاده سورية وأصدر في بيروت جريدته التي كان يصدرها هنالك، أصدرها بثماني
صفحات مملوءة بالفوائد ممتازة بالبحث النافع، والمناظر في نظرنا من أمثل
الجرائد إن لم يكن أمثلها، يشارك غيره في كل ما تقوم به الجرائد، ويمتاز
بصراحته ورويته وإنصافه، وبدل اشتراكه في الخارج عشرون فرنكًا، فنحث كل
شغوف بقراءة الجرائد على الاشتراك فيه.
***
(العرب)
جريدة عربية أسبوعية أصدرها في القسطنطينية محمد عبيد الله أفندي مبعوث
أزمير، قرأنا مقدمتها فألفيناها محكمة الإنشاء، غالية الإطراء، وقد قال صاحبها إنه
أنشأها لخدمة العرب! ورأيناه يقول فيها: (فنحن إذا أردنا أن نعين حقوق العرب
بالنظر إلى هذه الحقائق الراهنة قلنا إن حق العرب هو إيقاظ المسلمين وإرشادهم) ،
ويقول معرضًا فيمن يطالبون بحقوقهم السياسية من العرب في بلاد الدولة هذا وإني
لأشك في عربية بعض المدعين الذين يظنون حقوق العرب عبارة عن وجود عضو
منهم أو عضوين في الوزارة العثمانية وتوجيه بعض المناصب إلى رجال منهم) ،
فكأن عبد الله أفندي يرى أنه ليس للعرب حقوق سياسية بتة! بل إن حقوقهم لا
تتعدى أن يكون منهم واعظون ومرشدون! فلتحمد العرب هذا الخادم الناصح فقد
أشرع لهم طريق النجاح والفلاح! وليترنموا بقوله (إن العرب هم الحاكمون وإن
الترك هم الخادمون) فإنه من لحن القول ولذيذ الأحلام.
_________
(1)
ذكر من وجوه دلالة السنة ثلاثة وبقي رابع وهو (الأعمال بالنية) الذي استدل به البخاري على عدم وقوع طلاق الغضبان كما تقدم نقل عبارته وكلام ابن حجر في شرحها وقد أشار إليه في الوجه التاسع الآتي (ووجه خامس) وهو حديث ابن عباس مرفوعًا (لا يمين في غضب) أخرجه ابن جرير والدارقطني كما حكيناه قبل (ووجه سادس) وهو حديث (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله) رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا وقال غريب ضعيف، والمغلوب على عقله وإن فسر بالسكران إلا أنه يتناول الغضبان أيضًا بل هو أولى كما ستراه للمصنف موضحًا في الوجه الثاني من ترجمة (فصل وأما آثار الصحابة) .
(2)
يرى الواقف على كتاب زاد المعاد، وإغاثة اللهفان الكبرى، وأعلام الموقعين أدلة ذلك وحججها سابغة الذيل واسعة الأطراف فمن أراد التوسع فعليه بمراجعتها وكلها للإمام المؤلف مطبوعة بحمده تعالى متداولة.
(3)
مبتدأ خبره قد أغلق عليه إلخ.
(4)
خبر ليس.
(5)
رواه البخاري عن أبي هريرة.
(6)
بهذا التقسيم يرد على ابن المرابط حيث قال: الإغلاق حرج النفس وليس كل من وقع له فارق عقله ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه كنت غضبانًا، نقله الحافظ في فتح الباري ووجه الرد أن الغضب ليس على إطلاقه كما فهمه والمرء يدين في ذلك كما حققه المؤلف في الوجه الحادي عشر والرابع عشر ومواضع أخر.
(7)
رواه النَّسائي عن عمران رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة بلفظ: (لا نذر في معصية) إلخ.
(8)
رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن عن عائشة.
(9)
قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير متفق عليه من حديث أبي بكرة.
الكاتب: حسين وصفي رضا
رحلة صاحب المنار إلى القسطنطينية
حسين وصفي رضا
(2)
ذكرت في النبذة الأولى التي كتبتها لتنشر في (ج 11 م 12) فنشرت في
(ج 12 ص 956) أنني رحلت إلى عاصمة الدولة للسعي في أمرين عظيمين:
إنشاء معهد علمي إسلامي، وحسن التفاهم بين عنصرَي الدولة الأكبرين العرب
والترك، وأشرت إلى ما صادفته من الارتياح للعملين كليهما عند وزارة
حسين حلمي باشا ولكن استقالت تلك الوزارة قبل أن يتم على يدها ما وعدتني
به من المساعدة على إنشاء المعهد العلمي الإسلامي والعناية باللغة العربية وأهلها.
وكنت أظن أن وزارة إبراهيم حقي باشا تنجز ما كانت عزمت عليه وزارة حسين
حلمي باشا لوجود بعض أعضاء الوزارة الأولى في الثانية فكنت أراجع بعض
هؤلاء الأعضاء فأسمع كلامًا حسنًا ووعودًا جميلة وعناية شخصية بالدعوة إلى
الطعام والسمر كما لقيت من الصدر الأول، ولكن طال الأمر على ذلك فرأيت
أن أرفع المساعدة على إنشاء المعهد الإسلامي لتخريج المرشدين إلى الصدر
الأعظم رئيس هذه الوزارة ففعلت ووجدت أن عنايته بالمشروع ليست دون عناية
سلفه بل أعظم، نعم، قال لي: إن ما كان من السعي على عهد الوزارة السابقة قد
ذهب بذهابها وإنه ينظر في ذلك من جديد ولكنه ما أرجأ ولا سوّف بعد ذلك بل
أحالني على شيخ الإسلام وناظر المعارف ووعدني وعدًا جازمًا بتنفيذ ما يتفقان معي
عليه وكنت قد مهدت السبيل إلى ذلك أمام هذين الركنين العظيمين لعلوم الدين
والدنيا في الدولة فلما لقيتهما بعد أن عهد إليّ وإليهما الصدر الأعظم بالمذاكرة
شرحت المشروع لكل منهما فصادفت منهما منتهى الإصغاء والارتياح.
كنت ذكرت المشروع لمولانا شيخ الإسلام بالإجمال فاهتم به وقال لا بد لنا من
تخصيص ليلة للبحث التفصيلي فيه ثم إنه دعاني إلى الطعام والسمر عنده قبل أن
يعهد إليه الصدر الأعظم بالبحث معي في المشروع، ثم تكلمنا في ذلك واتفق أن
قابلت الصدر يوم موعد دعوة الشيخ فأخبرني بما عهد إليه وذكر ذلك بلفظ الرجاء
وكان الشيخ قد دعا في تلك الليلة خالص أفندي وكيل الدرس في المشيخة ليشاركنا
في البحث، والمراد بوكيل الدرس مدير المدارس الدينية الذي ينظر في شئونها
بالوكالة عن شيخ الإسلام الذي هو الرئيس العام لهذا القسم ولغيره من أقسام باب
المشيخة، وقد كان سبق لي الاجتماع بوكيل الدرس أكثر من مرة فرأيته في مقدمة
علماء الترك علمًا وفضلا وهمة ومروءة وسعة اطلاع في الآداب العربية، بل لم أر
في علماء العاصمة مثله في هذا ولما لقيته للمرة الأولى قال لي بعد التحية والثناء في
حضرته الغاصة بالعلماء: لا نقول في مناركم كما قال أبو الطيب المتنبي:
على لَاحِب لا يهتدي بمناره
…
بل نقول إن مناركم يهتدي به العالَم الإسلامي كله، وقد ذكرت الآن ما تفضل
به مولانا شيخ الإسلام عندما لقيته أول مرة في المنار، قال: رفع الله منار العلم
والدين على يده ولسانه، إنني أتمنى لو كان كل أحد يعرف العربية ليقرأ المنار،
ولسان الشيخ حفظه الله قد صقل اللغة العربية بإقامته زمنًا طويلاً في بلاد اليمن،
وقد استنسخ منها كتبًا نفيسة في العلوم الشرعية واللغة والتأريخ والأدب لا يوجد لها
نظير في الآستانة ولا في مصر فضلاً عما دونهما من الأمصار، وله عناية عظيمة
بنفائس الكتب فهو قد انفرد باطلاع لم يشاركه فيه أحد ممن نعرف من علماء هذه
البلاد ولا علماء مصر والشام.
كان بدء سمرنا بالفكاهات الأدبية ثم انتقلنا إلى البحث في المشروع فشرحت
لهما ولمن حضر السامر وسائله ومقاصده، ومقدماته ونتائجه، فرأيت الوجوه تندى
تهلُّلاً، والأسارير تبرق بشرًا وسرورًا، ووافقني الشيخان حياهما الله تعالى،
وزادهما إنصافًا وكمالا، على كل رأي رأيته، وكل اقتراح اقترحته، حتى خروج
مدرسة (دار العلم والإرشاد) من دائرة المدارس التي تحت رياستهما، بحيث لا
تكون تحت إدارتهما ولا مراقبتهما، على أننا لا نستغني في ذلك عن الاستضاءة
برأيهما المنير، والاستفادة من علمهما الغزير، ولكن بصفاتهما الشخصية، لا
مكانتهما الرسمية، ومن ثَم وعدتهما بإطلاع خالص أفندي على نظام المدرسة
الإداري وترتيب الدروس التي تقرأ فيها وعلى قانون الجمعية أيضًا.
وقد حدثني خالص أفندي أنه كان منذ سنين سمع من بعض فضلاء مسلمي
روسية أنني عازم على إنشاء هذه المدرسة الإسلامية العليا في مصر فسُرّ بذلك
سرورًا عظيمًا ولما سافر إلى الحجاز في آخر زمن الاستبداد عرَّج على مصر وأراد
أن يزورني متنكرًا ليتحدث معي في ذلك ولكنه بصر عن جنب بعين من عيون عبد
الحميد (السلطان المخلوع) يتبعه أينما سار فكان هذا هو المانع له من الزيارة فهذه
آية من آيات اغتباط هذا الأستاذ بهذا المشروع الذي هو خدمة عامة للإسلام
والمسلمين تقوي وجاءنا في دوام مساعدته الثمينة له، وأذكر له على سبيل
الاستطراد خلقين آخرين من أعلا الأخلاق ولا سيما العلماء وهما الإنصاف والشكر
وآيتهما أنني زرته فرأيته ساخطًا على ناظر الأوقاف خليل حماده باشا لتأخير
إصلاح بعض المدارس التي يريد تنفيذ النظام الجديد للمدارس الدينية فيها، فقلت له
إن هذا الناظر محب للإصلاح ولا يرضيه هذا التأخير، وأنا ذاهب الآن لمراجعته
في ذلك وأضمن على همته أن يأمر في الحال بإنجاز العمل، وقمت مِن حضْرته
فركبة مركبة أوصلتني إلى نظارة الأوقاف وذاكرت ذلك الناظر الحازم في ذلك فأمر
من ساعته بإنجاز إصلاح تلك المدارس وبلغ المشيخة ذلك، وإنني لم أر خالص
أفندي بعد ذلك في مكان إلا وكان يشكر لي ذلك ويحدث به الناس قائلاً: إن فلانا قد
ساعدني في مسألة المدراس مساعدة عظيمة
…
وذكر هذا لمولانا شيخ الإسلام
وغيره، فما أثمن وأجل مساعدة من كان متخلقًا بهذه الأخلاق مُتصفًا بهذه الآداب.
وممن اطلع على حقيقة المشروع من أركان المشيخة الإسلامية الشيخان
الجليلان ومن أصحاب الدرجة العليا في علماء العاصمة ولا سيما علوم المعقول محمد
أسعد أفندي ناظر الدفتر الخاقاني وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي وموسى كاظم
أفندي كلاهما من الأعيان والمدرسين في المكاتب العالية؛ كل واحد من هؤلاء
الأساطين قد أقرّ المشروع بل أعجب به كل الإعجاب فهو يعد من خير الأعوان
والمساعدين عليه فإن مشروعًا دينيًا كهذا المشروع لا يمكن تنفيذه في عاصمة السلطنة
والخلافة إذا كان رؤساء العلماء وأساطينهم معارضين له أو غير راضين
عنه.
هؤلاء هم العلماء الأعلام الذين أسعدني التوفيق بلقائهم ومذاكرتهم في المشروع
وصادفت عندهم من العناية والقبول فوق ما كنت أظن وأكثرهم قد كلم ولاة الأمور
ورغبهم في إنفاده في الوزارة السابقة والوزارة الحاضرة.
وممن ساعدني في هذا العمل بجد وإخلاص الصديقان الفاضلان أحمد نعيم بك
بابان مدير المكاتب الرشدية بنظارة المعارف ويوسف ضياء بك في قلم الترجمة
بنظارة الخارجية فهذا كان الترجمان بيني وبين الصدر الأعظم وغيره من الوزراء،
وله سعي آخر يشكر وإن لم يذكر، وأما أحمد نعيم بك فمساعدته لا تقدر قيمتها، ولا
يستغنى عنها بسواها، وإن ما يرجى منه في المستقبل من المساعدة على التأسيس
لأجلّ وأكبر مما كان في الماضي من المساعدة على التمهيد، فأسأل الله عز وجل أن
يكافئ بكرمه وجوده جميع المساعدين، ويوفقنا جميعًا لخدمة الملة والدولة والدين.
ما له حيلة سوى حيلة العا
…
جز إما توسل أو دعاء
وإنني أبشر قراء المنار في جميع أرجاء العالم الإسلامي بأنه سيشرع في شهر
ربيع الأول، الذي ولد فيه المصلح الأعظم صلى الله عليه وسلم، بتأسيس مدرسة
(دار العلم والإرشاد) العالية التي يتربى فيها المرشدون الذين يقفون نفوسهم على
خدمة الدين من الطريق الذي يجمع بينه وبين العلم والمدينة الصحيحة ويدفع عنه
الشبهات بحيث يجمع المسلمون بين حقوق الروح والجسد وحسنتي الدنيا والآخرة
وربما ننشر في الجزء الآتي نظام هذه المدرسة العليا، وأسرع الآن بذكر شيء منه.
يتربى ويتعلم في هذه المدرسة طائفة من الطلاب على نفقة المدرسة فهي تنفق
عليهم لا يكلفون طعامًا ولا شرابًا ولا لباسًا ولا كتابًا، ومما يشترط فيهم أن يكون
لهم إلمام باللغة العربية والنحو والفقه، وأن تكون سيرتهم حسنة في أخلاقهم وآدابهم
وعبادتهم، وسيكون من الشدة في المحافظة على الأخلاق بالفضائل في المدرسة أن
الكذب يكون موجبًا للطرد منها، ويشترط فيها أيضًا حفظ القرآن ولكن يتسامح في
هذا الشرط الآن ويكون للمدرسة سنة تمهيدية لحفظ القرآن ولبعض العلوم والفنون
التي تقرأ في المدارس الابتدائية، وإدارة المدرسة هي التي تختار هذا القسم الداخلي
من طلاب المدرسة وتفضل بعضهم على بعض بالامتحان.
***
اللغة العربية في البلاد العثمانية
وأما مسألة العناية باللغة العربية وتقوية الرابطة بين الترك والعرب التي
سعيت لها سعيها منذ قدمت دار السلطنة فقد بلغني من الثقات أن رئيس الوزارة
الحاضرة إبراهيم حقي باشا يقدرها قدرها، ووعد بأن يهتم بها وإنني لم أوافق إلى
مذاكرته في ذلك بنفسي ولكنَّني ذاكرت غيره من أولي الشأن.
وقد ذكرت جريدة العرب التي نشرت حديثًا في العاصمة أنه تقرر أن تكون
اللغة العربية رسمية في الدولة كاللغة العثمانية بحيث يكون للدولة لغتان رسميتان
وسمعت أكثر من واحد من الناس هنا يقولون: إن هذا صحيح واستدل عليه بعضهم
بوضع مبلغ من المال في ميزانية المعارف للسنة المالية القادمة لمعلمين للعربية وهو
لا يدل عليه وإنني متتبع لهذه المسألة وواقف على أطوارها فقد كانت النظارة
تذاكرت في توظيف عشرة معلمين ثم في خمسة عشر معلمًا للغة العربية ثم استقر
الرأي على خمسة فقط سيعهد إليهم تعليم اللغة نفسه على أسهل الطرق الحديثة
لصنفين من الناس أحدهما بعض المرشحين للتعليم في المدارس، وثانيهما بعض
عمال الحكومة الذين يراد إرسالهم إلى البلاد العربية لأن الحكومة اقتنعت بأن من لا
يعرف لغة قوم لا يستطيع أن يقيم العدل أو النظام فيهم وأكثر المرشحين لأعمالها من
الترك الذين لا يعرفون العربية فهي تريد أن تعلم هذه اللغة لمن تريد أن ترسلهم إلى
البلاد العربية، نعم إن في تعليم هذه اللغة لطائفة من المرشحين للتعليم في نظارة
المعارف تمهيدًا لتعليمها على وجهها وقد كانت تعليمها مقررًا رسميًا من زمن
الاستبداد ولكنه لم يكن ينفذ بل كان ولا يزال يعهد إلى من لا علم لهم بهذه اللغة أن
يكونوا مدرسين لها في مكاتب الدولة حتي في البلاد العربية فترى المعلم التركي أو
الأرمني يعلم النحو العربي لأبناء العرب باللغة التركية.
***
المدارس الدينية في الآستانة
تألفت في العام الماضي لجنة من العلماء للنظر والبحث في إصلاح التعليم في
المدارس الدينية الإسلامية وقد رغب إليَّ الصدر الأعظم للوزراة الماضية أن أكون
عضوًا فيها، وقال: إنه يكلم شيخ الإسلام في ذلك فاعتذرت لأسباب منها أنني لم
أكن أريد المكث في الآستانة أكثر من شهر، وقد أتمت هذه اللجنة عملها بهمة
خالص أفندي وكيل الدرس وكان من الإصلاح الجديد التوسع في اللغة العربية
وفنونها وزيادة الفنون الرياضية والحكمة الطبيعية، والتأريخ وتقويم البلدان، وقد
سر أهل الآستانة سرورًا عظيمًا بهذا الإصلاح، وقد احتفل بالشروع في هذا
الإصلاح احتفالاً حضره الصدر الأعظم وشيخ الإسلام وكثير من العلماء والوزراء
والأعيان والمبعوثين، فنسأل الله تعالى أن يوفق لإنفاذه على وجهه المؤدي إلى إحياء
علوم الدين والدنيا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: حافظ إبراهيم
الأسطول العثماني [*]
بالذي أجراك يا ريح الخزامى
…
بَلِّغي (البوسفور) عن (مصر) السلاما
واجمعي من كل روض زهرة
…
واجعليها لتحايانا كماما
وانشري رياك في ذاك الحمى
…
والثمي الأرض إذا جئت (الإماما)
ملك للشرق في أيامه
…
همة الغرب نهوضًا واعتزاما
أيها القائم بالأمر لقد
…
قمت في الناس فأحسنت القياما
جرد الرأي فكم رأي إذا
…
سلّ في غمد النهي فلَّ الحساما
وابعث (الأسطول) ترمي دونه
…
قوة الله وراء وأماما
يكلأ الشرق ويرعى بقعة
…
رفع الله بها (البيت الحراما)
وثغورًا هن أبهى منظرًا
…
من ثغور الغيد يبدين ابتساما
خصها الله بأفق مشرق
…
ضم في اللآلاء (مصرا) و (الشآما)
حي يا مشرق أسطول الأولى
…
ضربوا الدهر بسوط فاستقاما
ملكوا البر فلما لم يسع
…
مجدهم نالوا من البحر المراما
بجوار منشآت كالدمى
…
أينما سارت صبا البحر وهاما
كلما أوفت على أمواجه
…
سجد الموج خشوعًا واحتشامًا
كان بالبحر إليها ظمأ
…
وعجيب يشتكي البحر الأواما
فهي في السلم جوار تجتلي
…
تبهر العين رواء ونظاما
وهي في الحرب قضاء سابح
…
يدع الحصن تلالأ ورجاما
ما نجوم الرجم من أبراجها
…
أثر عفريت من الجن ترامى
من مراميها بأنكى موقعا
…
لا ولا أقوى مراسًا وغراما
وهي بركان إذا ما هاجها
…
هائج الشر عداء وخصاما
جبل النار لقد رعت الورى
…
أنت في حاليك لا ترعى ذماما
أنت في البر بلاء فإذا
…
ركب البحر غدا موتا زؤاما
فاتقوا الطود مكينًا راسيا
…
واتقوا الطود إذا ما الطود عاما
حملت حربًا فكانت حقبة
…
نذرًا للموت يجتاح الأناما
خافها العالم حتى أصبحت
…
رسلاً تحمل أمنًا وسلاما
بُعِثَ المشرق من مرقده
…
بعد حين، جل من يحي العظاما
أيها الشرقي شمر لا تنم
…
وانفض العجز فإن الجد قاما
وامتط العزم جوادًا للعلى
…
واجعل الحكمة للعزم زماما
وإذا حاولت في الأفق منى
…
فاركب البرق ولا ترض الغماما
لا تضق ذرعًا بما قال العدى
…
رُبَّ ذي لُبٍّ عن الحق تعامى
سابق الغربي واسبق واعتصم
…
بالمروءات وبالبأس اعتصاما
جانب الأطماع وانهج نهجه
…
واجعل الرحمة والتقوى لزاما
طلبوا من علمهم أن يعجزوا
…
قادر الموت وأن يثنوا الحماما
وأرادرا منه أن يرفعهم
…
فوق هام الشهب في الغيب مقاما
(قتل الإنسان ما أكفره)
…
طاول الخالق في الكون وسامى
أحرج الغيب إلى أن بزّه
…
سرّه بزا ولم يخش انتقاما
قوة الرحمن زيدينا قوى
…
وأفيضي في بني الشرق الوئاما
أفرغي من كل صدر حقده
…
أملأ التأريخ والدنيا كلاما
أسأل الله الذي ألهمنا
…
خدمة الأوطان شيخًا غلاما
أن أرى في البحر والبر لنا
…
في الوغى أنداد (توجو) و (أوياما)
_________
(*) أنشدنا محمد حافظ أفندي إبراهيم لنفسه هذه القصيدة في اللية الموسيقية التي أحييت برعاية رؤوف باشا المعتمد العثماني هنا ورياسة الأمير محمد علي حليم ليخصص ريعها للأسطول العثماني.
الكاتب: حسين وصفي رضا
كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية
يلح علينا المتناظرون والمتعادون في هذا الكتاب من أهل سنغافوره وجاوه
بأن نبدي رأينا فيه ويقولون في كتبهم إلينا إنهم ينتظرون ذلك عاجلاً، وظن بعضهم
أن ما كتب عنه على غلاف المجلة لنا وأنه رأي غير صريح فطلبوا ما هو أصرح
منه.
وجوابنا للجميع أننا لم نجد فراغًا نقرأ فيه الكتاب لنبدي رأينا فيه، وإننا قد
سافرنا إلى دار السلطنة في أواخر رمضان لأجل خدمة الإسلام بما هو أجل وأنفع
من قراءة ذلك الكتاب وشغلنا بذلك عن كل شيء إلا كتابة ما لا بد منه للمنار وأن
ذلك التقريظ أو الإعلان ليس لنا وإنما هو كسائر الإعلانات التي تنشر على غلاف
المجلة يكتبها مدير مكتبة المنار، وإننا ننصح المختلفين أن يتقوا العداء واتباع
الأهواء لأجل اختلاف الآراء، فتعادي المسلمين ذنب أكبر وأضر من جرح معاوية
وتعديله، وكنا تنسمنا أن سيكون لهذا التأليف فتنة عندما أعلن المؤلف عزمه عليه
بعد أن وقع الخلاف هنالك بينه وبين آخرين في لعن معاوية واستفتينا في المسألة
فأفتينا بعدم اللعن، فإن المؤلف يومئذ كتب إلينا يقول: إنه مخالف لنا فيما أفتينا به
وأنه سيبين رأيه في كتاب حافل يؤلفه ويطبعه، وأتذكر أنني كتبت إليه أن من رأيي
أن لا يفعل ولكنني ما عاديته ولا أعاديه لأنه خالفني في هذه المسألة وهو لا يعاديني
كذلك، وهذا هو الواجب على كل مسلم، فقد نهينا عن التحاسد والتباغض والتدابر؛
وأمرنا أن نكون إخوانا، ولم يشترط المرشد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه
الأوامر والنواهي أن نكون متفقين في كل مسألة لأن هذا من المحال، فاتقوا الله أيها
المسلمون في أنفسكم وليعذر بعضكم من يخالفه وإن جادله فليجادله بالتي هي أحسن ولا
يجعله أقل من أهل الكتاب الذين نهينا أن نجادلهم إلا بالتي هي أحسن إلا إذا ظلموا
بالحرب والقتال، ولا كلام لنا مع أهل السفه والطيش والضلال.
_________
الكاتب: حسين وصفي رضا
إلى مشتركي المنار
كلمة شكوى
لقد رأينا من مطل كثير من المشتركين في السنين الأخيرة عجبًا! ولئن كان
قولنا يشمل كل بلد فيه مشتركون للمنار فإنه موجه بنوع خاص إلى مشتركي القطر
التونسي إلا قليل منهم، وإلى معظم مشتركي الجزائر، هؤلاء وأولئك نكتب لهم في
المجلة التذكير تلو التذكير فلا يبالون ولا يتذكرون! حتى إننا في الآونة الأخيرة
وضعنا لهم فقرة دائمة على غلاف المجلة وكتبنا لهم كتابات خاصة فيها بيان لما
عليهم فلم يحقق أحد منهم لنا أملا، وما كنا نحس أن قارئًا يقرأ المنار وكله عظات
ونذر وحث على التأسي بأسلافنا الكرام بأعمالهم - يسهل عليه أن يكون من أهل الليّ
والمَطْل، والإعراض عن التذكير بأداء الحقوق.
إننا نعيذ أهل هذين القطرين أن يكونوا متعمدين لهذا السكوت الطويل الذي لم
نستطع له تأويلا، وحاشاهم أن يكونوا ممن يأكلون أموال الناس بالباطل وفيهم
العلماء والقضاة والمحامون وكبار موظفي الحكومة، وهؤلاء هم عنوان ارتقاء الأمة
وأنموذج المجد فيها، وإنه ليسهل علينا أن نتلمس لهم في كل يوم عذرًا دون أن
نرميهم بمرجمات الظنون، فعسى أن يكونوا عند حسن ظننا بهم وأن تكون هذه
الفقرة أخرى كلمات الشكوى منهم، وأن يكون ما بعدها أولى كلمات الشكر لهم.
وإننا لنأسف أن يصبح مشتركو روسيا ممن يُشتكى منهم وهم الذين لم يُذكَروا
في الماضي إلا بالشكر والثناء، فلقد مرت سنين ثلاث وكثيرون منهم لم يبعثوا إلى
إدارة المجلة بما عليهم، هؤلاء هم الذين كنا نباهي بهم ونعد مسارعتهم إلى أداء
الحقوق عنوانًا على احتفاظهم بكثير من الفضائل الإسلامية ولقد يعز علينا أن يتزلزل
اعتقادنا فيهم فإننا بتنا في حيرة من أمرهم ولا سيما بعد أن كتبنا لهم تذكيرًا في جريدة
(وقت) التي تصدر في أورنبورغ مرتين فلم يزد ذلك أكثرهم إلا إعراضًا وتصاممًا.
وكذلك كانت الحال مع مشتركي جنوبي إفريقية والبرازيل والصين وبلاد
فارس وفريق من مشتركي جاوة والهند وسنغافورة فلقد كتبنا إليهم مُذكِّرين مبينين
لهم ما عليهم فلم تنفع الذكرى إلا الأقلين منهم.
ثم ما بال مشتركي السودان ارتضوا لأنفسهم في العهد الأخير ما كنا نجلهم
عنه؟ فقد كانوا من أفضل المشتركين وفاء، وأحسنهم أداء، حتى إننا في
السنين الماضية ما كنا نبعث لأحد منهم بتذكير خاص، بل كان من عادهم
المبادرة إلى الإرسال في أول شهر من شهور السنة، وكنا نعد من جملة الشواغل
الكثيرة في المحرم التوقيع علي حوالات مشتركي السودان، ولكنهم في هذا العام
وفي العام الماضي خالفوا سنتهم المحمودة، فبعثنا إليهم بمكتوبات خاصة مطالبين لهم
بما عليهم فلم يستجب لنا إلا القليلون.
أما مشتركو مصر فما زلنا نحمدهم على اعتدالهم فقد كانوا ولا يزالون على
وتيرة واحدة، يتذكرون إذا ذكروا ويعطون إذا طولبوا، ولكننا نشكو من بعضهم
ومن أهل الأقاليم ولا سيما مشتركي الوجه القبلي ومديريتي البحيرة والشرقية
ومحافظات دمياط والسويس وبورسعيد، فلقد مرت سنوات وهو لم يؤدوا إلى
المجلة حقًّا، فعسى أن يكون لهم أسوة حسنة بأهل العاصمتين مصر والإسكندرية.
وأما مشتركو سورية وفلسطين فهم من أحسن الناس وفاء، وإننا نشكر
لوكلاء مدنهما الكَمَلَة، فإنهم قد خدموا المنار أجلَّ خدمة، وعسى أن يكون مشتركو
بيروت وطرابلس الشام وحصن الأكراد وبغداد وجبل عامل أدوا ما عليهم
للوكلاء، ومن ليس لديهم وكلاء فليبعثوا إلينا بما عليهم مباشرة فنكون لهم من
الشاكرين.
هذا وإن في كل ما ذكرناه من البلاد ناسًا سبّاقين إلى الخيرات يبعثون بقيمة
اشتراك كل سنة قبل دخولها، فإلى هؤلاء نوجه عاطر الثناء ونخصهم بالتقريظ
والإطراء.
حسين وصفي رضا
***
(التأريخ الهجري الشمسي)
طبعت الكراسة الأولى من هذا الجزء وبقي فيها هذا التأريخ على ما كان عليه
خطأ لأن سنة 1285 تصرمت ودخلت سنة 1286.
_________
الكاتب: عبد الحميد الزهراوي
خديجة أم المؤمنين
(8)
الفصل السابع عشر [1]
(بين روح وروح أو بدء الوحي)
(1)
في (حِراء) حدثت الحادثة الأولى من التأريخ الجديد الذي سنرى فيه بعل
السيدة (خديجة) فائقًا فواقًا عظيمًا مدهشًا، وهذه الحادثة العظمى التي هي مبدأ هذا
التأريخ هي أن روح محمد صلى الله عليه وسلم، اجتمع هناك في (حِراء) بروح
غير بشري وأبلغه هذا الروح الغريب رسالة شأنها عظيم.
نحن في الفصل السابق ذكرنا من أمر الروح ما فيه كفاية، ذكرنا فيه ما لعل
القارئ ينشرح به صدره إلى القول بوجود موجودات ذات حياة على أنواع شتى
ولا يشترط في بعضها أن تكون لها أشباح كالأشباح البشرية، وهذا قد سبقنا البشر
كلهم إلى القول به ولم يشذّ عنه إلا قليل وهو كلهم قائلون أن بين الروح الذي هو
إنسان وبين الأرواح الأخرى اتصالات، فأنا كاتب هذه السطور لست بمبتدع خبرًا
ليس له مثال بذكر هذه الحادثة التي قد يراها غريبة من يحبون التباعد عن
الروحيات، ومن يؤمنون بها أحيانًا ويكفرون بها أحيانًا من حيث يشعرون ومن
حيث لا يشعرون.
هذه حادثة عظيمة في السيرة التي نحن آخذون بتحريرها، ونحن مقتنعون
بوقوعها، ولا يدعونا إلى استماع هواجس المنكِر إلا الحرص على القيام بحسن
المرافقة، فإن كان المنكِر ينكر عالم الروح من حيث هو فالحق أنَّ حيلتنا البيانية
معه قليلة، ولكني أظن أنَّ محادثتنا إياه بهذه المسألة في الفصل السابق قد تجديه،
وإن كان ينكر العلاقة بين الروح الذي هو الإنسان والأرواح الأخرى فليس لنا ما
نتوسط به إلى إبلاغه هذا المشهد غير نفسه، فليرجع إليها كثير وليدقق في حديثها
جيدًا، وإن كان ينكر صدق محمد صلى الله عليه وسلم، في تحديثه بهذه الحادثة
مع أنه لا ينكر وقوع مثلها لغيره فالخطب في مذاكرته سهل.
كان محمد صادقًا شديد الحرص على الصدق واشتهر منذ حداثته بلقب الأمين،
قد عرفنا صدقه كما عرف الناس شجاعة أناس من الشجعان، وكرم أفراد من
الكرماء، وعِلم جماعة من العلماء، وكما عرف بنو إسرائيل صدق الإنسان موسى
الذي كان قد سمع الكلام الإلهي، وظهرت له الأرواح العلوية، وكما عرف النصارى
صدق الإنسان عيسى الذي كان روحًا من الله، وكما عرفوا صدق تلاميذه وأنصاره
الذين حكوا حكايته وبثوا بشارته.
هذا الصادق الأمين رجع ذات يوم من حراء منتقع اللون، مرتجف الصدر،
يعلوه اضطراب الوجل الحائر، وخشوع المخبت الصابر، فما وقع نظر السيدة
خديجة عليه حتى عرفت أنَّ أمرًا عظيما قد ألمَّ به، فخفق لأول وهلة قلبها، وساءلت
بسرعةِ البرق نفسها: ماذا أصاب حبيبي؟ ما خطب ذلك القلب الذي لا تفزعه
الرجال، ولا تجزعه الأهوال؟ ما بال ذلك الصدر المبسوط تثنيه الرجفات، وما
بال ذلك الطرف القرير تكاد تبادره العبرات؟ رباه رباه ماذا أصاب حبيبي؟ قل
لي أيها الحبيب ماذا اصابك؟ حنانيك قل لي قل لي.
دثروني، دثروني.
لا صبر لي عن معرفة الأمر الآن فقُصَّه عليَّ.
بينا أنا في حِراء إذ جاءني روح فقال لي اقرأ، قلت له: ما أنا بقارئ،
فأخذني وغطني غطة [2] وقال لي (اقرأ) قلت: ما أنا بقارئ، ثم غطني الثانية
وقال لي: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، قال لي: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ
الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) .
ألم تسأله من أنت، من جاء بك، وماذا تريد مني.
سمعته يقول أنا جبريل جئت أبلغك رسالة ربك.
هذه هي الأولى من الكلمات التي سمعها محمد صلى الله عليه وسلم من
ذلك
الروح الذي ظهر له باسم جبريل وهو من النوع المسمى ملائكة، والآن قد فُتِح
لصاحب حِراء بابان: باب حَيْرة جديدة وباب هدى، فأما الحيرة فظاهرة يكاد يراها
كل من سمع هذه الحادثة فإن ظهور الأرواح غير البشرية لأفراد النوع الإنساني ليس
من المألوف، فإذا صادف أحد الأفراد شيئًا من هذا القبيل لا يقوى طبعه البشري لأول
وهلة على تحمل مواجهته والأنس به، كل واحد منا يعرف هذا من مفاجأة الأمور
التي لم تكن تخطر في باله مع أنها من الأمور التي تقع كثيرًا فكيف الحال بالأمور
التي وقوعها نادر إلى حد أنَّ بعض الناس لا يصدق بوقوعها.
إنه ليخيل إلينا أن صاحب (حِراء) قد دهش لمَّا سمع صوت ذلك الروح يناديه
(اقرأ) يخيل إلينا أنه قال في نفسه: رباه ما هذا الذي أسمع؟ رباه ليس ههنا من
بشر فهل يتكلم غير البشر؟ رباه ماذا يراد بي؟ إنني أعلم أني في يقظة لا في منام،
وأنني أسمع كلامًا لا ريب فيه، وإنني أحس بضاغط يضغطني ولا عهد لي بمثل
هذا من قبل، رباه إن هذا أمر يدهش فكُنِ اللهم عوني، وخذ بيدي، وثبت فؤادي
وقوّني على مواجهته إذا عاودني.
نعم إنه ليخيل إلينا أن المفاجَأ بذلك الروح هكذا كان يتناجى في نفسه ويناجي
ربه بمثل هذه الكلمات وهو ذاهب إلى خديجة فلما لقيها قال (دثروني دثروني)
واختصر لها الحديث اختصارًا.
دثرته خديجة وجعل العرق يتصبب منه، وقد عاوده الروح بعد ذلك، وقال
له {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ *
وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 1-7) .
إن من يفاجأ بمثل هذا جدير بالحيرة وهذا ما أشرنا إليه هنا، ولكن مع هذه
المفاجأة قد أونس باسم ربه فكان هذا الاسم الجليل حريًّا أن يكون دواءً شافيًا من تلك
الحيرة، وكافيًا أن يفتح باب الهدى والطمأنينة.
الروح جبريل يقول له أنا من عند ربك، جئت أبلغك رسالته، جئت ألقي
عليك وحيًا من عنده، وفي هذا الوحي الذي جاءه به مفتاح لتلك المغالق التي أشرنا
إليها آنفًا التي كانت تقف أمامه دائمًا.. في هذا الوحي مبدأ إرشاد وتعريف له بربه
خالق الإنسان. في هذا الوحي إهابة بفكره لتناول معارف عليا، وتعاليم عظمى، في
حقائق الوجود.
كانت الحيرة تردفها الحيرة، وأما هذه الحيرة فإن الهدى يردفها لأن العناية
الإلهية ظهرت أتم ظهور، والعطاء الرباني سُلِّم جليًّا لتك اليد التي كانت مرفوعة
في حِراء تلقاء السماء.
وكان أول معراج عرض بصاحب هذه اليد عليه إلى تلك الحضرات القدسية
هو إعلامه علم اليقين بأرواح عالية تتكلم هي غير الأرواح الإنسانية الحالّة في هذه
الصور البشرية وذلك بجعل واحد من هذه الأرواح وساطة بينه وبين مفيض الحياة
والعلم والإرادة.
هذه عناية كبيرة جدًّا لم يَرْوِ التأريخُ وقوعَ مثلها إلا لقليلين: منهم النبي
إبراهيم، والنبي موسى والنبي عيسى عليهم السلام.
يقول له الروح جبريل {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 1-2) فهذا القول العربي الجليل يصور له من النشأة المادية في خلق
الإنسان صورة يتجلى فيه عظيم قدرة البارئ المصور، وعظيم ضعف هذه الصورة
البشرية لولا روح الله الممد له.
يقول له الروح جبريل: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ
مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) وهذا القول المجيد يصور له من النشأة الروحية في
كون الإنسان صورة يدهش الألباب فيها عظيم صنع الله في ترقية الإنسان بواسطة
قصبة لا يؤبه لها لدى النظر، نعم بواسطة قصبة نعني بها القلم كان الرُّقي العظيم
العقلي لهذا الكائن الذي خصت العناية الأزلية نوعه بمزيد خصائص.
وغريب في الأمر أن المواجَه بهذا الخطاب لم يكن من أرباب اليراعة بل كان
أميَّا لا يعرف القراءة ولا الخط بالقلم فما معنى أن يكون أول وحي يوحى إليه هو
الأمر بالقراءة والتنويه بالقلم.
لا بدع، لا بدع، إن معنى ذلك هو تكرم الله عز وجل على البشر بإعطائه
آية أخرى يفقهون بها أنه قادر أن يعلم من لدنه بغير ما عرفوا من الوسائط من شاء
ما شاء إذا شاء، وأن يجعل غير القارئ قارئًا ولكن يقرئه بالروح صحفًا ربانية قد
أنزلها الله على البشر بأساليب شتى أجلها وأعلاها هذا الأسلوب.
ما أجلّ هذه العناية وما أجدر خديجة بالسرور الذي ليس فوقه بها ولكن هل
عرفت هذا السر الرباني تمامًا؟ نعم كان قلبها القوي خليقًا أن لا يفزع أمام هذه
الحادثة التي هي غريبة في ظاهرها بيد أنها كانت محتاجة أن تطرق تفسير هذا
السر وهذا المظهر الجديد من أبوابه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تابع لما نشر في (ص 64م13) من سيرة السيدة خديجة.
(2)
ضمني بشدة وضغط.