المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (13)

- ‌المحرم - 1328ه

- ‌الانتقاد على المنار

- ‌آدم أبو البشر

- ‌قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام [

- ‌رسالة جمع النفائس لتحسين المدارس

- ‌خديجة أم المؤمنين(7)

- ‌صفر - 1328ه

- ‌الكشف الطبي على الموتى وتأخير الدفن

- ‌غروب الشمس والإفطار

- ‌عدة الوفاة

- ‌الأئمة الأربعة ومقلدوهم واجتهاد العامي

- ‌طريقة الشاذلية

- ‌عذاب القبر

- ‌أسئلة من سنغافوره

- ‌تزيين شعر الرأس والزي الأوربي

- ‌الرضاعة من كتابيةلبس البرنيطة

- ‌الكلام وقت خطبة الجمعة

- ‌إباحة الغناء

- ‌علم الهيئة والسنة النبوية

- ‌حركة الأرض ودورانهاوالاستدلال على ذلك من القرآن

- ‌المشورة [

- ‌الإسلام في البلاد المسيحية [*]

- ‌المطلقة [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأسطول العثماني [*]

- ‌كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية

- ‌إلى مشتركي المنار

- ‌خديجة أم المؤمنين(8)

- ‌ربيع أول - 1328ه

- ‌العمل بخبر التلفون والتلغراف في الصوم والفطر

- ‌رسالة النبي إلى الناس كافة

- ‌طريقة الشاذلية الدرقاوية

- ‌الوصية المنامية المكذوبة

- ‌الكبريت المسوكر

- ‌إصلاح الخط العربي

- ‌أطوار اللغة العربية [*]

- ‌إلى الأمة العربية

- ‌رعاية الأطفال

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خديجة أم المؤمنين(9)

- ‌ربيع الآخر - 1328ه

- ‌الاتحاد الشامل والتعليم الشاملأيهما يتوقف على الآخر

- ‌المرأة المصرية والمرأة الغربية [*]

- ‌العمران العربي [*]وصف دار الخلافة أو القصر الحسني

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌البدع والخرافات

- ‌رحلة القسطنطينية(3)

- ‌انتشار الإسلام في إفريقية

- ‌الإسلام في الهند

- ‌صدى العلم من الحجاز

- ‌جمادى الأولى - 1328ه

- ‌الإكراه على الإسلام بالسيف

- ‌حديث منع الدين بنصارى من ربيعة

- ‌قوة الاجتماع والتعاون

- ‌كيف تنال الأمة حقوقها

- ‌النهضة المصرية والدستور

- ‌تأريخ التجنيد العثماني [*]

- ‌العمران العربي [*]وصف الجامع الأموي

- ‌تربية البنات [*]

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌جمادى الآخرة - 1328ه

- ‌رسالة التوحيد للأستاذ الإمام وصالح التونسي

- ‌إنفاق ريع الوقف على العلم

- ‌سبب فرض الصلاة

- ‌ذكرىللسوريين عامة وأهل بيروت خاصة [*]

- ‌الفطرة وأسباب الترقي في الكون

- ‌أسماء عربية لمسميات إفرنجية

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌رجب - 1328ه

- ‌أبو حامد الغزالي [*](8)

- ‌التعاون والتخاذل [*]

- ‌نابتة المدارس والمكاتب [*]

- ‌البهتان العظيم

- ‌شعبان - 1328ه

- ‌محاربة المنار للتقليد ومذهبه

- ‌هل يعتد بإيمان أهل الكتاب بعد الإسلام

- ‌الصلاة مواقيتها وجمعها وغايتها

- ‌جمع القرآن وعدم ضياع شيء منه

- ‌هدايا الجرائد إلى مشتركيها

- ‌بحث الكلام في الاختلاف [*]

- ‌التربية القويمة والسياسة الحكيمة [*]

- ‌الحق للقوة والقوة بالحق

- ‌الإسلام في نيازالاند [*]قول لحاكمها

- ‌الدعوة إلى التعليم في حضرموت

- ‌قانون حق التأليف [*]

- ‌تعارض العقل والنقل في الإسلام [*]

- ‌التقاريظ

- ‌مقدمة خديجة [*]

- ‌رمضان - 1328ه

- ‌بحث في الخلاف [*]

- ‌الفسق العلني والدستور [*]

- ‌مضار البغاء ومفاسده

- ‌كتاب الخمسة والمئةوكتاب الهمسة في الأصول الخمسة

- ‌تنبيه

- ‌الأخبار والآراء

- ‌الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده [*]

- ‌الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*](1)

- ‌شوال - 1328ه

- ‌أسئلة من باريس

- ‌الجمعية العلمية في الآستانة

- ‌حول خطبة رشيد رضا أفندي

- ‌إلى علماء الإسلام الأعلام [*]

- ‌رمضان في عاصمة السلطنة [*]

- ‌حجاب المرأة في الإسلام [*](2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ذو القعدة - 1328ه

- ‌فتاوى المنار

- ‌حديث إن شريعتي جاءت على 360 طريقة

- ‌مسافة القصر

- ‌صلاة الظهر بعد الجمعة احتياطًا

- ‌الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية(1)

- ‌جميل صدقي أفندي الزهاويمهاجمته بشعرياته للشرعية الإسلامية في حقوق النساء

- ‌النظام الجديد للجامعة الأزهرية

- ‌جمعية المبشرين في روسية

- ‌الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*](2)

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌ الانتقاد على المنار

- ‌ذو الحجة - 1328ه

- ‌افتراق الأمة الإسلامية والفرقة الناجية

- ‌القرآن في الفونغراف

- ‌مشروع إحياء الآداب العربيةتقاومه جريدة قبطية [*]

- ‌الدين والإلحاد والاشتراكية

- ‌الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [*](2)

- ‌الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*](3)

- ‌إحياء اللغة العربيةوطبع نوادر مصنفاتها

- ‌تقريظ المطبوعات الجديدة

- ‌حل مشكلة اليمن وسائر جزيرة العرب

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌خاتمة السنة الثالثة عشرة

الفصل: ‌صفر - 1328ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

فاتحة السنة الثالثة عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذى جعلنا أمة التوحيد، وجعل ديننا دين التوحيد، وسياستنا سياسة

التوحيد، وأعز من استقاموا منا على التوحيد، وأدْل من انحرف عن محجة التوحيد،

ليعيدنا كما بدأنا إلى التوحيد {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ * ذُو

العَرْشِ المَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (البروج: 13-16) .

والصلاة والسلام على محمد خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته من خلقه، الذى

بعثه بتوحيد الألوهية، ليحرر الخلق من رِقِّ العبودية، للعوالم السماوية أو الأرضية

وبتوحيد الربوبية، ليعتقهم من رق التقاليد الدينية، التي ألحقها رؤساء الأديان

بالشرائع الإلهية، وبتوحيد السياسة ليكون الشعوب والقبائل أمة واحدة، تضمها

شريعة عادلة واحدة، وتتعارف بلغة واحدة، ليطلقهم من قيود الحكومة الشخصية

الجائرة، ويفكهم من أغلال العصبة الجنسية الخاسرة فاهتدى بكتابه العقلاء

المستقلون، وضل به السفهاء المقلدون، فعز باتباعه المؤمنون وذل بإعراضهم

المعرضون، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ

تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ

وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ

قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى

أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 41-44) .

وبعد فقد تم للمنار اثني عشر عامًا، كان له منها اثني عشر سفرًا كبيرًا فهي في

هذه الأمة كنقباء بني إسرائيل، تجوب الأقطار داعيةً إلى ذلك التوحيد، مذكرةً آخرها

بما صلح به أولها، وإنها كالمطر ربما كان الخير الكثير في آخرها، وقد وعدها الله

تعالى بالاستخلاف في الأرض، وإظهار دينها على الدين كله، فلا يعذر في الإسلام

اليائسون، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) ، {وَهُوَ الَّذِي

يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} (الشورى: 28) .

(بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ)[1] ومن تمام التشبيه أن يكون على

غربته شديد القوى، فيوحد بهداية القرآن المتعددين، ويجمع بإرشاده المتفرقين،

فيعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم باتباع السنة، ويعيد إليهم ما فقدوا من استقلال

العقل والإرادة، فيخرجون من جحر الابتداع والتقليد، ويظهرون في حُلَّتَيِ المجد

الطارف والتليد، {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: 15) .

صادفت الدعوة مقاومةً من قوم وارتياحًا من آخرين، كما بينا ذلك في فواتح

ما سبق من السنين، ومن أكبر الآيات المبشرات، بأننا في إقبال حياة لا في إدبار

ممات، إن الورقات الخضراء، في شجرة الأمة الجرداء [2] تزداد خضرةً في كثرة،

لا سقوطًا ولا صفرةً، فيا لها من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء،

حفظت حياتها على طول العهد بانقطاع الماء، فكأنك بها وقد أصابها الوابل فآتت

أكلها ضعفين، وأُتي أهلها أجرهم مرتين، {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى

الحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: 52) ، وهل نتربص بأنفسنا إلا ما وُعِدْنا من سعادة الدارين،

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَاّمُ الغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا

يُعِيدُ} (سبأ: 48-49) قد تمهد طريق الإصلاح، ونادى مؤذن حيَّ على الفلاح،

فسمعه العربي والتركي والفارسي والهندي، والتتري والصيني، والملاوي

والزنجي، الحضري منهم والبدوي، فأقبل كثير من المعرضين، وعرف كثير من

المنكرين، ونطق كثير من الساكتين، ودعا كثير من المثبطين، وادعى كثير من

الكاذبين، فإن كان قد آن لمن تمهد لهم الطريق أن يقولوا؛ فقد آن للممهٍّدين أن

يسيروا، ولمن قالوا من قبل أن يفعلوا، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى

صِرَاطِ الحَمِيدِ} (الحج: 24) .

هذا ما أعد الله له الأمة، بعد أن طال عليها أمد الغمة، رأى أهل البصيرة من

عقلائها ما أصابها من الأدواء، وشعروا بشدة الحاجة إلى الدواء، كان مرضها

واحدًا، فكان شعورهم كذلك واحدًا، ذلك بأن الإسلام قد جعلها أمةً واحدةً في صحتها،

وواحدةً في مرضها، لم يقو على توحيده إياها اختلاف المذاهب واللغات ولا تباعد

الجهات وتعدد الحكومات، فكما كانت صحتها بالاهتداء بكتابه وسننه، كان مرضها

بالإعراض عن هدايته، التي جمعت بين حقوق الروح وحقوق الجسد، واستقلال

العقل والإرادة في العلم والعمل، ورابطتي الأخوة والفضل والبر والعدل بين جميع

الملل والنحل [3] وإنما العلاج أن يرجعوا من دينهم إلى خير ما فقدوا، ويأخذوا

لمصلحة دنياهم أحسن ما وجدوا، وكذلك فعل المنعم عليهم، الذين كلفوهم التأسي

والاهتداء بهم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ

وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} (الممتحنة: 6) .

لقد رحضت النوازل هذه الأمة رحضًا، ثم مخضتها النوائب مخضًا، وقد آن

أن تخرج زبدها محضًا، فقد ظهرت نقطة من زمن بعيد، وكثرت ذراته من عهد

قريب، ولم يبق إلا أن ينجذب بعضها إلى بعض، وتتكون في جانب من الزق،

هنالك يظهر خير الإسلام، ويعرف فضله في جميع الأنام، وإن ذلك لواقع ماله

من دافع، إنهم يرونه بعيدًا، ونراه قريبًا، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ

وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .

فالمنار يذكر مريدي الإصلاح في هذا العام، بوجوب التعاون على الاستمداد

من هذا الاستعداد العام، فبادروا إلى اغتنام فرص الزمان، وتعانوا على البر

والتقوى، ولا تعانوا على الإثم والعدوان، وما ذاك إلا أن تجتمعوا على حقكم،

وتتعارفوا أنتم ومن يشعر شعوركم ويرى رأيكم، وتوحدوا طريق التربية والتعليم،

في الجمع بين علوم الدنيا والدين، قبل أن يغلبكم على الأمة أهل التربية المادية

المضطربة، والتعاليم التقليدية المذبذبة، الذين تحولوا عن التقاليد الإسلامية، إلى

التقاليد الإفرنجية الصورية، فهم يدحرجون الأمة من تقليد إلى تقليد، {وَيَقْذِفُونَ

بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ: 53) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} (الحج: 3) .

لقد وقف سلفنا العقار والأراضي الواسعة، وبذلوا الدثور والأموال الكثيرة،

على معاهد العلم كالمدارس والمكاتب، ومعاهد التربية والإرشاد كالرباطات والتكايا

والزوايا، وها نحن أولاء نرى الخلف، قد أنشأوا يحيون سنة السلف، فهم يبذلون

الأموال الكثيرة للأعمال العلمية والخيرية، والأحزاب والجمعيات السياسية،

أفحسبتم أن الأمة تسخو في نهضتها على الحظوظ والمنافع العاجلة، وتبخل على

الإصلاح الإسلامي الجامع بين سعادة الدنيا والآخرة، تلك إذا كرّة خاسرة، وإنا

لمردودون في الحافرة، كلا إننا أمة قد كمنت فيها وما فارقتها الحياة، وإن الإسلام

نائم في قلوب العامة فيحتاج إلى إيقاظ، وقد كثرت صيحات الموقظين، إلا

أنهم لا يزالون متفرقين ومختلفين، وقد أذّن اليوم بينهم مؤذن التوحيد، {وَجَاءَتْ

كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ

فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 21-22) .

إن المجتمعين أجدر بالفلاح من المتفرقين، وإن المتفقين أحق بالنجاح من

المختلفين، وإن المستقلين أولى بالثبات من المقلدين، وإن الثابتين أقوى في الجلاد

من المتزلزلين، على أننا لا نجالد أعداء الإصلاح بسيف ولا سنان وإنما نجادلهم

بالحجة والبرهان، ونحاكمهم إلى السنة والقرآن، ونصبر على ما آذونا، ونحسن

إليهم وإن أساءوا إلينا، ولكن لا نترك أمر الأمة في التربية والتعليم، يتنازعه

التفرنج الحديث والجمود القديم، فلهم دون ذلك ما يشاؤون، وليعملوا على مكانتهم إنا

عاملون، ولينتظروا إنا منتظرون، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا

رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .

يا أهل القرآن: إن القرآن كان حجةً لكم فصار اليوم حجةً عليكم، أخبركم الله

فيه أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن حقًّا

عليه نصر المؤمنين، وأنه وعد الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في

الأرض، وقال {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) ،

وبين ذلك بقوله ( {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) ، {إِنَّمَا

السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْض} (الشورى: 42) ، فما

بال الناس يرثون أرضكم، ويخلفونكم في ملككم، وأنتم لا ترثون أرضًا، بل لا

تحفظون إرثًا، وما بالهم يسلكون كل سبيل للافتيات عليكم، وما بالكم تخربون

بيوتكم بأيديهم وأيديكم، كيف ذهبت عزتكم، وكيف خَضّدت شوكتكم، وكيف كنتم

تأخذون فتحمدون، فصرتم تعطون فتذمون، هل رضيتم بأن تكونوا من الظالمين

الباغين بَعْد أنْ كنتم خير العادلين المحسنين؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أترضون

أن تكونوا ممن نزل فيهم {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} (الحشر: 14) ألا تتدبرون قوله

تعالى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) .

يا أهل القرآن: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ

عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) ، وجعلكم الله أمةً وسطًا لتكونوا شهداء على

الناس من أفرط منهم ومن فرَّط، ولكنكم غيرتم ما بأنفسكم، فغير الله ما بكم، فتنبه

الوثنيون وأنتم غافلون، واجتمع اليهود وأنتم متفرقون، وسبق النصارى وأنتم

متخلفون، وها أنتم أولاء تستيقظون، فإن سرتم الهوينا فالناس مجدون، وإن كنتم

لا تزالون تختلفون فهم يتفقون، فلا يفرقن بينكم جنس ونسب، ولا لغة ولا مذهب،

ولا سياسة ولا مشرب، فإن تفرقتم فهى القاضية، فإنما يأكل الذئب من الغنم

القاصية، واعتبروا بتأريخ من قبلكم، وبأحوال الأمم في عصركم، وتدبروا القرآن،

وما بينه من سنن الله في نوع الإنسان، فقد آن الأوان واستدار الزمان، واتصل

القريب بالبعيد، وامتاز الغوي من الرشيد، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ

أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .

_________

(1)

إشارة إلى حديث مسلم الذى يحتج به اليائسون وهو حجة عليهم.

(2)

إشارة إلى قول الأستاذ الإمام إني أرى في هذه الشجرة الجرداء.

(3)

كتبنا في المنار من قبل مقالةً في جنسية الإسلام بينا فيها أن الإسلام برابطتين اجتماعيتين أحدهما دنيوية اجتماعية وهى تربط جميع من يعيشون في داره ويخضعون لسلطانه بشريعة العدل والمساواة والبر والإحسان مهما اختلفت أديانهم، والثانية روحانية تربط الآخذين بعقائده وآدابه بأخوة أخرى.

ص: 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الانتقاد على المنار

نعيد الاقتراح على العلماء المخلصين بأن يكتبوا إلينا بانتقاد ما يرونه مُنتَقَدًا في

المنار من مسائل الدين وغيرها عملاً بما أوجب الله تعالى من التواصي بالحق

والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكننا نشترط أن تكون الكتابة مختصرة بقدر الإمكان وأن تذكر المسألة

المنتقدة، ويبين المكان الذي نشرت فيه بأن يقال هي في جزء كذا من مجلد كذا وإذا

ذكر عدد الصفحة يمكن أن يُستغنى عن عدد الجزء، وأن لا يحتج علينا في المسائل

الدينية بأقوال بعض العلماء؛ بل بالكتاب والسنة، وكذا الإجماع والقياس فيما

هما حجة فيه، وأنْ لا يكون في الكلام استطراد إلى مسائل أخرى لا تفيد في

بيان المراد من الانتقاد، فمن خالف شيئًا من هذه الشروط فلنا الخيار في نشر ما

يكتبه وتركه أو نشر ملخصه، ولو بالمعنى؛ لأنه لا يمكن أن نَشْغِلَ كثيرًا مِن

صفحات المنار بالجدل والقيل والقال.

انتقاد أحمد بدوي أفندي

وليعتبر القراء ذلك بانتقاد أحمد بدوي أفندي النقاش عليه وعلى جميع المسلمين

في مسألة القضاء والقدر انتقادًا مبهمًا على غير شرطنا فقد نشرنا كلامه على عِلَاّتِهِ

وأجبنا عنه فانتقل إلى الانتقاد علينا وعلى سائر المسلمين في عقيدة القسمة {فَرِيقٌ

فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وفي علم الله تعالى بأعمال الناس

قبل وقوعها فنشرنا كلامه على علاته أيضًا وأجبنا عنه، فأرسل إلينا ردًّا آخر يزيد

على ثلاثين ورقة، أرسلها إلى إدارة المنار، وأرسلتها الإدارة إلينا في القسطنطينية

فقرأنا جُملاً مِن مواضع منها فإذا هي مملوءة بالتناقض والعسلطة والأغلاط اللغوية

حتى في بديهيات النحو، وقد لامنا كثير من القراء على ما نشرنا له مِن قبل، فماذا

يقولون إذا نشرنا له هذه الرسالة الطويلة العريضة؟ وما وعد بإرساله بعدها لتوضيح

مسائلها؟

يقول أحمد بدوي أفندي إننا ظلمناه فيما كتبناه عن إنكاره لعلم الله بجزئيات

أعمال الناس كلها قبل وقوعها وجاء بفقرات من رسالته يحتج بها علينا في ذلك ثم

إنه أهاننا بفقرات كثيرة وعيَّرنا بتقليد الغزالي كما عيَّرنا مِن قبل بتقليد ابن تيمية

فليقل في ذلك ما شاء سامحه الله تعالى نحن نتمنى لو يكون مصيبًا ونكون مخطئين

فيما فهمناه مِن كلامه، وللقراء حكمهم في ذلك.

قد انطبع في ذهن أحمد بدوي أفندي مسائل في فلسفة الدين مخالفة لما فهمه

المسلمون ولما جروا عليه من الصدر الأول إلى اليوم وهو يريد بثها في المنار

والمناضلة عنها فيه على كونه عاجزًا عن بيانها، وعن فهم ما يرد عليها لضعفه في

اللغة العربية وعلى إعجابه بها، بحيث لا يطيق قبول شيء يخالفها فنحن لا ننشر

له بعد الذي نشرناه شيئا منها لأسباب:

(منها) أن المنار لم ينشأ لنشر فلسفة الأفراد الشاذة التي تهوش بعض

الأذهان، ولا تنفع أحدًا لما فيها من البطلان في بعض المسائل والعسلطة والخطأ في

العبارة.

(ومنها) عدم الرجاء في إرجاع صاحبها عن خطئه لإعجابه برأيه وكونه لا

يفهم ما يوجه إليه من الكلام العربي الصحيح فهمًا تامًا، وأوضح الآيات على ذلك

أنه فهم من قراءة المنار في الزمن الطويل أن منشئ المنار مقلد لبعض العلماء

كالغزالي.

(وهذا ما جزم به في رسالته الأخيرة التي لم ننشرها) وأنه مع ذلك يدعو

الناس إلى تقليد نفسه!

(ومنها) إضاعة كثير من صفحات المنار فيما نعتقد أنه يضر ولا ينفع،

فلأحمد بدوي أفندي أن ينشر فلسفته في مجلة ينشئها أو كتب ورسائل ينشرها أو

يبحث عن مجلة غير المنار.

هذا وإننا بعد هذا كله نحترم استقلال الرجل بفهمه ونعذره من بعض الوجوه

على ما نراه مخطئا به، ونقول: إنه يجوز أن تكون تخطئتنا له في بعض المسائل

لضعف عبارته وكونها لا تؤدي مقصده، ولكننا نجزم بأنه على استعداده للفلسفة

الدينية قد أخطأ ويخطئ كثيرًا في فهم القرآن وفي النظر والاستدلال، ولعلَّه لو أتقن

اللغة العربية واطلع على كتب التفسير والحديث، وترك الإعجاب برأيه يجيء منه

خير كثير والله الموفق.

_________

ص: 20

الكاتب: محمد البشير النيفر

‌آدم أبو البشر

جاءنا من السيد محمد البشير النيفر المدرس بجامع الزيتونة في (تونس) ما

يأتي:

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزاهر،

أقامنا الله وإياه على الطريقة المثلى.

إنا نقرأ في فاتحة كل مجلد من مناركم وخاتمته الدعوة إلى انتقاد ما يهم انتقاده

من مسائل الدين أو السياسة وذلك - والحمد لله - من أمتن البينات على طهارة نيتكم،

وكنا نود لو يرزقنا الله سعة في الوقت حتى نكتب إليكم في شأن ما أشكل علينا من

مسائل قليلة جاءت في التفسير وغيره إحياء لشعيرة من شعائر الدين أماتها الجهل

بأصوله، وقد رأينا في باب التفسير من العدد السابع من مجلد هذه السنة (سنة

1327) رأيًا في أبوة آدم للبشر لا يرتضيه القرآن فيما نرى فبادرنا إلى الكتابة

إليكم في ذلك، ونحن في يقين من نزاهة ضميركم عن التعصب والله الموفق.

قلتم: إن للأستاذ الإمام رأيين في تفسير آية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي

خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) .

أحدهما: أن ليس المراد بالنفس الواحدة آدم لا بالنص ولا بالظاهر.

ثانيهما: أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع ينطق بأبوة آدم للبشر أجمعين

ويظهر لي من جانبكم الرضا عما ذهب إليه - تغمده الله برحمته - ولكن العبد

أشكل عليه الرأيان لِمَا سأُبَيِّن.

أما الأول: فلأن حمل النفس الواحدة على أصل من أصول العرب لا يرضى

به التعبير بالناس، والروايات المستفيضة في مَدَنيَّة السورة تقعد في طريق من يحمل

الناس على أهل مكة، فالظاهر الحمل على العموم، وليست الآية الكريمة كآية

الأعراف {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) الآية لوجهين:

الأول: أن سورة النساء مدنيّة، وسورة الأعراف مكيّة.

ثانيهما: أن في حمل آية الأعراف على العموم مسًّا لمقام النبوة فما أبعد ما

بين الآيتين!

وأما الثاني: فلأن القرآن الشريف، والسنة السنية ناطقان بأبوة آدم للبشر

أجمعين وإخراج ما جاء في ذلك عن ظاهره رعيًا لمذهب دارون يشبه أن يكون من

تفسير القرآن بالرأي الذي كان يشنؤه الإمام رحمه الله وجريتم حفظكم الله على

طريقته في ذلك.

نداء القرآن للناس ببني آدم في مقام الوصية بأخذ الحذر من وسوسة إبليس

وفتنته ومقام التشريع العام ظاهر في أن المكلفين عن بكرة أبيهم أبناء آدم عليه

السلام، وما نقلتموه عن الأستاذ الإمام في تأويل ذلك بعيد كما يتجلى لفضيلتكم بقليل

من التدبر وأية نكتة في توجيه الخطاب إلى بني آدم إذا كان التكليف يشملهم وغيرهم.

أما السنة السنية فمن أظهر ما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم

من آدم وآدم من تراب) وما جاء في حديث الإسراء من الأسودة عن يمين آدم

وشماله، وأنها نسم بنيه أفكانت أرواح غير الآدميين في مقر آخر أم كانت في ذلك

المقر ولكن لم يهتم بها آدم عليه السلام ولا النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم

يسأل عنها لأنها ليس لها في الآخرة مقام معلوم، وأصرح من ذلك وهذا حديث

الشفاعة (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم

فيقولون أنت أبو الناس) الحديث، وفي سعة علمكم بالسنة ما يغني العبد عن حشر

أكثر من هذا إن لم تكن الآيات والأحاديث نصوصًا قاطعة في الموضوع، فهي

ظاهرة فيه، (والظواهر إذا اجتمعت أفادت القطع) - كما يقول الأصوليون - ولو

ذهب ذاهب إلى أنها لا تفيد أكثر من الظن كان القائل بأبوة آدم للناس أجمعين أن

يسأله عن الوجه في إيثار ذلك الظني على هذا الظني، فإن كان الوجه عنده درء ما

عساه أن يرد على القرآن من شبهات العلماء القائلين بذلك فالذين لا يؤمنون بالغيب

أكثر من أولئك عددًا وأقوى شبهًا فهل نُؤِّول الآيات الواردة في عالم الغيب بما لا

يكدر مشربهم وينقض مذهبهم؟

أما قولكم حفظكم الله تعالى: (إن المسألة علمية لا دينية وقولكم إن المتبادر

من النفس بقطع النظر عن الروايات والتقاليد المُسلَّمات هي تلك الحقيقة الجامعة

التي يُعبَّر عنها بالإنسانية أو قريب من هذه العبارات) فللعبد فيهما نظر.

أما الأول فلأن ما بين دفتي المصحف دين لا شيء منه بجائز مخالفته وهل

يأذن الدين لأحد أن يذهب إلى ما لا يصادق عليه القرآن في تكون الجنين باسم

علمية هذا البحث، أم هل يأذن لأحد أن يقول بما ينقضه القرآن في تأريخ فرعون

باسم أن المسألة تاريخية؟

وأما الثاني فلأن تلك الحقيقة الجامعة التي يعبر عنها بالإنسانية أو البشرية أمر

اعتباري لا يصح أن يكون منشأ الخلق والإيجاد هذا ما يتسع له الوقت من البحث

وفيما آتى الله فضيلتكم من البسطة في العلم والاستقامة في الرأي ما يغني عن

التذكير بأقل من هذا والسلام عليكم أولاً وآخرًا.

...

...

... كُتِبَ في 27 رمضان عام 1327 هـ

(المنار)

نشكر لأخينا في الله انتقاده وتذكيره وغَيْرَته على الدين والعلم ونجلي ما أَلَمَّ به

من المسائل بما يأتي:

(1)

إن الأستاذ الإمام لم ينف كون آدم أبا البشر كلهم ولا قال: إن القرآن

ينبغى أن يؤول ليوافق دارون أو غيره ولا قال إنه قد ثبت رأي الذين ينفون كون

آدم أبًا لجميع البشر ثبوتًا قطعيًا، حتى نؤول لأجله كما صرحنا بذلك في تفسير

الآية ولم يتكلم أيضًا في تحقيق المسألة في نفسها (مسألة أبوة آدم) وإنما قصارى

رأيه أنه إذا ثبت ما يقولون لم يكن ذلك مخالفًا للقرآن فيكون شبهة على الإسلام،

ونحتاج إلى التأويل، فعلى هذا يكن فهمه رحمه الله للآية ليس من تفسير القرآن

بالرأي سواء كان فهمه صوابًا أم خطأً، لأنه لم يحاول أن يرجع القرآن إلى رأي رآه

أو وافق عليه غيره وإنما فهم الآية وأمثالها فهمًا لا يرد عليه اعتراض ولا مجال معه

للطعن في القرآن في هذه المسألة.

(2)

قلتم إنه ظهر لكم أنني راضٍ عما ذهب إليه قلتم هذا بعد نقل المسألتين

فعلم منه أنكم فهمتم أنني راضٍ عنهما كلتيهما، وقد رأيتم في كلامي الجواب عما

استدل به من تنكير ما بثه في النفس الواحدة من رجال ونساء وتفسير النفس الواحدة

بغير ما فسرها به رحمه الله تعالى وغير ذلك، وفيه الوعد بتحقيق مسألة ما يفيده

مجموع آيات القرآن المنزلة في خلق الإنسان عند تفسيرما ورد من ذلك في سورة

الحجر أو سورة (المؤمنين) ، فعلم من هذا الوعد أننا لما نبين رأيًا فيما يدل

عليه مجموع القرآن في خلق الإنسان وإنما كلامنا محصور في تفسير تلك الآية بحسب

ما فهمه الأستاذ الإمام وفهمه هذا العاجز من تلاميذه المستقلين الذي لا يقلدونه تقليدًا

في شيء ما وما كان يرضى أن يقلده أحد في شيء، وإنما كان يحث على الاستقلال،

وبعد هذا كله أقول: إن ما استظهرتموه صحيح في الجملة وتسرون وجهه فيما يلي

هذا من الوجوه والمسائل.

(3)

ذكرتم أن للأشكال عندكم مثارين: فأما المثار الأول وهو كون السورة

مدنية لا يجوز أن يراد بالناس فيها أن يراد بالناس فيها أهل مكة فالخطب فيه سهل

فإنكم قد رأيتم أننا اعتمدنا كون السورة مدنية وكون الخطاب فيها ليس لأهل مكة

خاصة ولكن هذا لا يقضي كون القول بهذا شاذًا فإنه معزو إلى إمام المفسرين

ومعولهم وهو ابن عباس رضي الله عنه وعبر الرازي عن مقابله بالأصح

ومقابل الأصح هو الصحيح، فإن لم يكن الخطاب لأهل مكة جاز أن يكون للعرب

عامة ولا يقعد في طريق هذا كون السورة مدنية، ولا كون الإسلام دينًا عامًا كما أنه

لا يقعد في طريق غيره من الخطاب الذي وجه إلى العرب أو إلى بعض الأقوام أو

الأشخاص، فإن عموم الأحكام الشرعية معتبر فيما كان مورده خاصًا ولو شخصيًا مالم

يقم دليل على الخصوصية، مثال ذلك في العرب قوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ

أَنفُسِكُمْ} (التوبة: 128) فإن تفسير أنفسكم بالعرب لا ينفي كون الرسالة عامة

لجميع البشر، ومثاله في الأمور الشخصية ما ورد في الإفتاء عقب استفتاء بعض

المؤمنين وأسئلتهم المعبر عنها بمثل يسألونك ويستفتونك كما هو مكرر في سورة

البقرة وسورة النساء، وكأن يكون المخاطب بالجواب هو السائل والحكم عام

بالإجماع، على أننا لم نجعل كون الخطاب لأهل مكة هو العمدة في الاستدلال على

ما فسرنا به النفس الواحدة ولا كونه للعرب وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة:

(4)

وأما المثار الثاني للأشكال وهو ما ورد من الكتاب والسنة في أبوة آدم

لجميع البشر فهو على تقدير تسليمه فيهما معًا لا يقتضي كون النفس الواحدة في الآية

الأولى من سورة النساء هي آدم، إذ يجوز أن يثبت ذلك في آيات غيرها وأحاديث

ولا يكون هو المراد منها، ولم يقل الأستاذ الإمام - ولا قلنا- إن هذا الآية تنفي

كونه أبا البشر، ولكم أن تحتجوا بذلك على قوله رحمه الله: إنه ليس في القرآن نص

أصولي قاطع على أبوة آدم لجميع البشر وستعلمون ما فيه.

(5)

أنكم قد ذكرتم أن حمل آية الأعراف على العموم لا يصح لأنه يمس

مقام النبوة، فإذا امتنع هناك أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم فلم لا يجوز أن

يمتنع هنا وهو ليس متبادرًا من اللفظ العربي بحد ذاته، حتى نقول: إننا أَوَّلْنا آية

الأعراف لتطابق القول بعصمة الأنبياء ولا حاجة إلى تأويل آية النساء، فالصواب

أنَّ عدم حمل النفس الواحدة على آدم في الآيتين ليس تأويلاً لهما؛ لأن لفظ النفس

ليس مرادفًا لكلمة آدم؛ يوضح ذلك الوجه الآتي:

(6)

إن ما يراد في تفسير مبهمات القرآن لا يجعل اللفظ المبهم نصًّا ولا

ظاهرًا في المعنى الذي فسر به في الحديث ولا في القرآن نفسه إنْ وُجِدَ، ولكننا نقبل

ذلك التفسير إذا صح عندنا، مثال ذلك أن يصح في حديث أن المراد بقوله تعالى

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى} (القصص: 20) هو فلان بن فلان، فإننا

نقبل هذا التفسير على الرأس والعين ولكننا لا نقول: إن لفظ رجل في الآية هو نص

أو ظاهر في ذلك الرجل المعين؛ لأن العربي الذي لا علم له بذلك الحديث لا يفهم

هذا المعنى من اللفظ، ولم يَرِدْ في الكتاب ولا في الحديث تفسير للنفس في آية

النساء بآدم ألبتة، فكيف نقول: إن ما ورد في ذلك يجعلها نصًّا أو ظاهرًا، وهو لم

يرد تفسير لها؟ وهذا هو مرادنا مما قلناه في (ص486م12) إن الذين فسروا

النفس الواحدة بآدم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة

المسلمة عندهم، وهي أن آدم أبو البشر.

(7)

استدل صديقنا المنتقد على كون جميع الناس من بني آدم بنداء الله

تعالى في القرآن لبني آدم في مقام الوصية بالحذر من فتنة الشيطان ووجه الاستدلال

عنده أنه إذا لم يكن المراد ببني آدم جميع المكلفين لا يكون في توجيه الخطاب إليهم

نكتة.

ويمكن أن يجاب بأن نكتة ذلك في الآية التي أشار إليها هي إقامة الحجة عليهم

بما كان من عاقبة وسوسته لأبيهم والعبرة في ذلك لسائر المكلفين الذين لا يعتقدون

أنهم من ذرية آدم كأهل الصين؛ هي أن الشيطان يردي من أطاعه فيجب أن يجتنبوا

طاعته كما يجب أن يجتنبها أبناء آدم، ونظير ذلك اعتبار المسلم بمثل قوله تعالى

{يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: 68)

فيعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من الإسلام حتى يقيم القرآن، وقد أشارت

عائشة إلى هذا المعنى في حديث لعن أهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

فقالت (يحذر ما صنعوا) وقد بينا آنفًا أن توجيه الخطاب في القرآن إلى قوم أو

أناس معينين لا ينافي عموم التكليف فإذا فرضنا أن بني آدم هم العرب ومن كان

يساكنهم من أهل الكتاب وأن الخطاب في مثل تلك الآية خاص بهم لوجود النبي

بينهم فلا يمنع ذلك أن يَعْتَبِرَ بالموعظة التي في الخطاب مَنْ يدخل في الإسلام من

غيرهم ومن ذلك خطاب الأنصار بقوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا

تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) وهي هداية لجميع المسلمين أيضا كما قبلها وبعدها.

(8)

بعد هذا يمكن أن يقال إذا كان في البشر ألوف الألوف لا يعتقدون أنهم

أبناء آدم، ولم يسمعوا باسم آدم فما هي نكتة خطابهم ودعوتهم إلى الإسلام بنسبتهم

إلى آدم والمأثور المعقول أن يخاطب الناس بما يعرفون وأن يحمل حديث العاقل للقوم

على ما يعهدون في مثل النداء فإن أراد إعلامهم بشيء مخالف لما يعتقدون جاء به

بصيغة الخبر المؤكد كما هي سنة القرآن المطابقة لقوانين البلاغة العليا ويشيرون إلى

هذا في أول كتب المعاني وفي صحيح البخاري من حديث علي موقوفًا (حدثوا الناس

بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟) وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن

مسعود (ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) .

وورد في الضعاف المتعددة الطرق عن ابن عباس مرفوعًا (أُمرنا أن نكلم

الناس على قدر عقولهم) ، وهذا الوجه أي كون كثير من البشر لا يعرفون آدم ولا

يعتقدون أبوته لهم هو العمدة في جزم الأستاذ الإمام بعدم حمل آية أول النساء على

هذه المسألة المشهورة عند العبرانيين والعرب مع كون لفظها ليس نصًا ولا ظاهرًا

فيها من حيث لفظها، وقد أجاز أن يطبق كل قوم اعتقادهم عليها.

(9)

إن ما أوردتموه من الأحاديث ليس نصًا أُوصوليًا في المسألة فإن

المخاطبين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (كلكم من آدم) لم يكن فيهم أحد من

الصينيين ولا من هنود أميركا ولا من (أهل ملقا) ولكن الحديث يكون هداية لهؤلاء

بعد دخولهم في الإسلام على الطريقة التي أشرنا إليها في بعض المسائل السابقة،

وكذلك حديث الأسودة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم عن يمين آدم وشماله لا

تدل على كونه أبا لجميع البشر، ولا يعارض هذا كونه صلى الله عليه وسلم لم يذكر

أنه رأى هنالك أو في مكان آخر نَسَم قوم آخرين من البشر كما أن ذكره لبعض

الأنبياء في ذلك الحديث لا يمنع أن يكون هنالك أو في مكان آخر أنبياء آخرون

فالحديث لم يرد في بيان مقر جميع أرواح البشر والأنبياء، ولا دليل فيه على كون

ما رآه يكون دائمًا حيث رأى، فقد ورد في مقر الأرواح أحاديث أخرى والظاهر أن

ما رآه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة قد مثل له حيث رآه لأجل أن يراه

والله أعلم حيث يكون في سائر الأوقات، وقد مُثِّلَتْ له صلى الله عليه وسلم الجنة

في عرض الحائط وهي هي التي عرضها كعرض السماء والأرض، وكذلك يقال

في حديث الشفاعة، فإنَّ تَحدُّثَ ولد آدم بالذهاب إليه هو كتحدث اتباع كل نبي ذكر

في الحديث بالذهاب إليه، ولا ينافي ذلك أن يكون في البشر أقوام آخرون لا يتحدثون

بالذهاب إلى أحد أو يتحدثون بالذهاب إلى أنبيائهم لرجائهم فيهم {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ

خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) .

(10)

إذا فرضنا أن هذه الأحاديث تدل وحدها أو مع غيرها على كون آدم

عليه السلام أبًا لجميع من وجد في الأرض من البشر بالنص أو بالظاهر فلا يقتضي

أن يكون ذلك تفيسر للقرآن إذا لم يكن لفظه نصًا ولا ظاهرًا في ذلك، والأستاذ

الإمام لم يتعرض لما ورد من الأحاديث في المسألة وإنما اكتفى ببيان كون ما يعتقده

كثير من البشر في أصلهم ومنشئهم لا حجة فيه على القرآن إن صح ولا وجه لأن

يكون حائلاً دون إيمانهم به ولم يتعرض لمثل هذا في الأحاديث.

(11)

نحن نعتقد أن أسلوب القرآن في الإجمال والإبهام والإطلاق والعموم

هو من أقوى وجوه الإعجاز فيه وأسباب تعاليه عن تطرق الريب إليه وتحويم

الشبهات حوله، وليس هذا الأسلوب بالصناعة التي يقدر عليها البشر فإننا نرى أعلم

العلماء منهم في علم أو فن يؤلف فيه كتابًا فلا يمر عليه إلا زمن قليل حتى يظهر له

ولغيره الاختلاف والخطأ فيه وقد مر ثلاثة عشرة قرنًا ونيف ولم يظهر في هذا

القرآن الذي جاء به النبي الأمي الناشئ في الأميين خطأ ولا اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ

عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) والأحاديث ليس لها هذه

المزية في الإعجاز وكثير منها منقول بالمعنى ومنها ما كان يقوله النبي صلى الله

عليه وسلم عن اجتهاد لا عن وحي ولا سيما المتعلق منها بأمور العالم دون أمور

الدين، أفيصعب على بعض المسلمين إظهار هذه المزية لكتاب الله في بعض

المسائل على غير الوجه المشهور عندهم وإن لم ينقض ذلك المشهور في نفسه،

وكان ينبغي للمنتقد أن يذكر ما عنده من الجواب لمن يوقنون بأن البشر من عدة

أصول كما تمنينا في (ص 488م12) .

(12)

يقول المنتقد: إن شبهات الذين لا يؤمنون بالغيب على الآيات

الواردة في عالم الغيب أقوى من شبهات الذين ينكرون كون آدم أبًا لجميع البشر أو

يعتقدون أن لهم عدة آباء فهل تؤول آيات عالم الغيب ما لا يكدر مشربهم ولا ينقض

مذهبهم، ونقول إن هذه الدعوى ممنوعة فالذين لا يؤمنون بالغيب لا يوردون

شبهات على عالم الغيب وإنما هم قوم تابعون لحسهم يقولون إننا لا نؤمن إلا بما نراه

أو نحس به وهو يعلمون أن عدم الإحساس بالشيء أو عدم العلم به لا يقتضي عدمه

في نفسه ومن تقوم عنده الحجة منهم على الوحي والنبوة لا يرى أخبار عالم الغيب

مانعة من إيمانه وما كنت أظن أن هذا يخفى على المنتقد الفاضل ولعله سرى إليه من

بعض المارقين الذين كفروا بالله ورسله تقليدًا لبعض الإفرنج إذ يسمعهم أو يسمع عنهم

إنكار الملائكة والجن، فليسألهم عن دليل هذا الإنكار هل يجد عندهم دليلاً أو

شبه؛ لالا! وإنما يقولون إنه لم يثبت عندنا بالحس ولا بالدليل العلمي، ونحن

المؤمنين نقول مثل ذلك ونزيد أنه ثبت عندنا بخبر الصادق الذي هو أصدق ممن

تثقون بخبرهم إذا قالوا لكم إن في الكون كذا كذا من الغرائب الطبيعية.

(13)

أُذَكِّر المُنْتقد بمسألة لا ينبغي أن ينساها المستقل في العلم الذي يعنيه أن

يفهم القرآن فهمًا صحيحًا وقد صرحنا بها في المنار من قبل، وهي أن الاصطلاحات

الشرعية والفنية الحادثة بعد نزول القرآن والروايات والتقاليد المشهورة في تفسيره

هذان الأمران هما اللذان يحولان كثيرًا دون فهم القرآن بما تعطيه عبارته الفصحى

ويتبادر من أسلوبه الأعلى، فيجب أن يكون القرآن فوق الاصطلاحات والمسلمات

كلها، وأن يستعان على فهمه بالروايات الصحيحة التي لا تخل بما يتبادر من عبارته

وأسلوبه البليغ وحكمة كونه هداية لجميع البشر في كل زمان ومكان، وإننا نرى كثيرًا

من المفسرين يخطئون عند غفلتهم عن هذه القاعدة ويخالفون الروايات المأثورة عن

السلف عند تنبههم لها إذا رأوا الرواية مخالفة لمنا يقتضيه الأسلوب العربي بحسب

فهمهم، ومن ذلك ما سنراه في تفسير الجزء الثاني عن ابن جرير شيخ المفسرين

الأولين.

(14)

أما انتقاده - نفعنا الله بغيرته على العلم والدين - قولنا إن المسألة علمية

لا دينية فإنني أجيب عنه بالإيجاز وإن لم أتذكر أنني قلت هذا في تفسير الآية ولا أجد

وقتًا للمراجعة، فأقول: إن ما يذكر في القرآن من أمور الخلق وعجائبه وأسراره

لا يراد به شرح أحوال المخلوقات، وبيان ما هي عليه في الواقع تفصيلاً لأن هذا

ليس من مقاصد الدين وإنما يذكر على أنه من الآيات على قدرة الله وعلمه وحكمته

في خلقه ورحمته بعباده، ومن المنبهات للانتفاع بما في هذه المخلوقات والشكر عليها،

ولذلك يستعمل فيها المجاز والظواهر المتعارفة بين الناس وتحديد المسائل العلمية لا

يكون بمثل هذا كقوله تعالى {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) فلا

يراد به أن ذا القرنين وجد الشمس تنزل من السماء فتغرب في عين حمئة من عيون

الأرض، ومع هذا كله لا يكون خبر القرآن إلا صادقًا، ولكننا لا نعرف أن أحدًا من

علماء المسلمين عنى كعنايتنا وعناية شيخنا الأستاذ الإمام بالدعوة إلى الاهتداء

بالقرآن كله وصرف معظم عنايتهم إلى ما كثر الإرشاد إليه في آياته كالبحث في

خلق السماوات والأرض وما فيهما من البحار والأنهار والجبال والنبات والدواب

وغير ذلك، وكالسير في الأرض والاعتبار بسنن الله في أحوال الأمم بعد معرفة

تأريخها، فإننا نرى علماء المذاهب الدينية فينا قد أهملوا أكثر ما أرشد إليه

القرآن، وجعلوا الدين كله أو جله محصورًا في الأحكام العملية التي لم يعن القرآن

بها وهي أقل ما ورد فيه ولا سيما الأحكام الدنيوية كالبيوع والشركات والمخاصمات

فلا يقال لمثلنا: إن كل ما في القرآن دين، وإن الدين لا يأذن لأحد أن يقول قولا لا

يصادق عليه القرآن فنحن الذين ندعو دائمًا إلى جعل حكم القرآن فوق كل حكم وهديه

فوق كل هدي وخبره فوق كل خبر، وإنما يقال ذلك لغيرنا من علماء المسلمين الذين

قالوا حتى في الأحكام التي هي عندهم جل الدين ما لم يصادق عليه القرآن كقولهم إن

مدة الحمل تكون في الواقع المعتبر شرعًا أكثر مما حدده القرآن من مدة الحمل

والفصال جميعًا وقد رأى صديقنا المنتقِد ما كتبناه في ذاك بالجزء الأخير من المجلد

الماضي، فإذا جاز أن يعتمد أئمة الفقه منا على قول بعض النساء اللواتي هن

مظنة الخطأ والكذب فيما لا يصادق عليه القرآن وقد نطق بغيره بناء على أن ما

نطق به يحمل على الغالب المعروف عند جمهور الناس فلم لا يجوز عند أتباعهم أن

يعتمد على قول جمهور العلماء الباحثين المدققين في مسألة علمية لم يرد في القرآن

نص فيها وإنما ذكرت مبهمة في سياق مقصد من مقاصده كحث الناس على أن

يتقوا الله في ذوي أرحامهم والضعفاء منهم لأنهم من أصل واحد أو جنس واحد

وعبر عن ذلك بالنفس الواحدة، ولكنه لم يبين حقيقة تلك النفس على أننا لم نحمل

الآية ولا غيرها من الآيات على ما قاله أولئك العلماء الباحثون في أصول البشر

وخلقهم، ولكننا اخترنا أن ندع ما أبهمه القرآن على إبهامه (ص486م12) وهو

تنكير تلك النفس وعدم تعيينها أو فهمها مما يتبادر من اللفظ العربي بصرف النظر

عما وراءه من الروايات والتقاليد المسلمات التي ليست بنص عن المعصوم

في تفسيرها (ص488م 12) .

(15)

وأما انتقاده الأخير على قولنا في تفسير النفس المتبادر من اللفظ فقد

بناه على ذكر لفظ الإنسانية في عرض كلامنا وتفسيره إياه بالمعنى المشهور بين

العامة ناسيًا ما فسَّرْناه به وما عبَّرْنا به في أول العبارة عنه من قولنا هو الماهية أو

الحقيقة التي بها كان إنسانًا، ونعني بذلك الروح الإنسانية التي اتحدت بالجسد فصار

مجموعهما حيوانًا ناطقًا لولاها لم تكن هذه المواد الترابية التي تكون منها جسد

الإنسان خلقًا آخر حيًّا ناميًا متحركًا، فهل يقول: إن هذه الحقيقة الإنسانية أمر

اعتباري؟ كلا إنها خلق وجودي مستقل.

(16)

بعد أن طبع تفسير تلك الآية في المنار نقحناه وزدنا فيه فوائد أثبتناها

في نسخة التفسير التي تطبع على حِدِّتِها منها أن لبعض الباحثين من المسلمين

العصريين رأيين آخرين في النفس الواحدة، أحدهما أنها الأنثى ولذلك وردت مؤنثة

في كل آية وصرح بتذكير زوجها الذي خلق منها في بعض الآيات وثانيهما أنها

كانت جامعة لأعضاء الذكورة والأنوثة وذكروا لذلك نظائر أثبتها العلم الحديث ،

فيراجع هذا في (ص331 ج4) من التفسير وسيصدر بعد زمن قليل.

هذا ما سمح لنا به الوقت من إيضاح المسائل المتعلقة بهذا الانتقاد.

وصفوة القول: إن ما أوردناه في التفسير لا ينفي القول بأبوة آدم لجميع

البشر وقد وعدنا هنالك بتحرير هذه المسألة في موضع آخر من التفسير.

_________

ص: 22

الكاتب: رفيق بك العظم

‌قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام [

1]

أيها السادة:

كلمتي اليوم في قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام، وحيثما قلت قضاء

الجماعة فإنما أريد مدلوله العام أي القضاء والإفتاء والتشريع أو التفريع.

تعلمون أن كفالة العدل الذي هو مناط الراحة والسعادة في كل مجتمع إنما هو

القانون أو الشريعة التي تُصَان بها الحقوق، وتُرَد المظالم، ويعاقب المجرمون

المجترءون على انتهاك حرمة الراحة والأمن في الهيئة الاجتماعية، وهذه القوانين

إما أن تكون وضعية أو شرعية، وقد عرَّفها ابن خلدون بقوله:

(اذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت

سياسية عقلية؛ وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسية

دينية) ، وتعلمون أن الفقه الإسلامي، وأريد به قسم المعاملات لا العبادات هو قانون

المسلمين الشرعي مناط الأحكام التي يفصل بها في المنازعات والخصومات التي

تقع بين الناس.

أقول القانون الشرعي تجوزًا؛ إذ أن أحكام الشريعة الإسلامية وقانونها

الجامع إنما هو الكتاب والسنة وهما الأصل، أما الفقه فإنما يسمونه شرعًا باعتبار أن

مأخذه من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والإجماع والقياس فإذا انطبق عليه تعريف

ابن خلدون فإنما ينطبق عليه من هذه الجهة؛ أي أن تلك القوانين لها أصل في

الشرع؛ لأ انها هي بعينها المفروضة من الله.

وبما أن أساس التفريع أو التشريع عند الفقهاء هذه الأصول الخمسة فقد سموا

الأحكام الفقهية شرعًا، وخالفهم في ذلك كثير من أئمة العلم والمحدثين، فقالوا: كل

حكم لا يستند إلى دليل أو لا يعرف دليله من الكتاب أو السنة فليس بشرع.

وليس من غرضي في هذا البحث الحكم بين الفريقين، وإنما الغرض منه

تقديم مقدمة تساعدنا على الانتقال إلى النظر نظرًا صحيحًا في سير القضاء وتأريخه

وكيف كان القضاء والإفتاء في الإسلام؟ وما هو ضمان العدالة فيهما؟ وما منزلة

قضاء الفرد وقضاء الجماعة من الصواب والخطأ؟ ونستطرد من ثَمَّ إلى ما تخلل

التشريع والقضاء من الشؤون التي لا يخلو بيانها من فائدة وإن كنت لا أستطيع من

البيان غير جهد المقل.

علمنا أن أساس الشرع وأصله في الإسلام هما الكتاب والسنة؛ بمعنى أن

الأحكام الدينية أي العبادات والقوانين الدنيوية أو السياسية كما يسميها ابن خلدون

وهي أحكام المعاملات والعقوبات التي وردت في الأصلين المذكورين قد قرّرها

الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم فصارت شرعًا، وهذا الشرع لا يدخل تحت

مدلول قضاء الجماعة المراد به جعل قوة التشريع لا في يد واحد، بل جماعة إلا

من حيث لزوم فهمه على وجوهه التى أرادها الشارع اى إنّ تفهم الحكم من هذا

الأصل، وتقريره هو الذي يلزم أن يناط بالجماعة دون الفرد تفاديًا من الخطا

والإثم0

وتعلمون بالضرورة أن الأحكام التي شرعها لنا الشارع كانت تشرع تدريجًا

فكلما عرضت له حادثة، أو سئل عن حكم شرع له شرعًا حتى كان من ذلك في

الكتاب والسنة نحو ست مائة وخمسين حكمًا أو تزيد اعتبرها أئمة الفقه بعد ذلك

أساسًا للتشريع فوضعوا لنا كتب الفقه التي كانت في الممالك الإسلامية، ولم تزل

في بعضها مدار الأحكام الشرعية في المعاملات والعقوبات، وما يتبعها من قضاء المظالم والحسبة وسياسة الرعية وغير ذلك إلى اليوم.

ويبدأ تدوين الأحكام الفقهية من أواخر العصر الأول وأوائل الثاني فالتشريع إذًا

له في الإسلام تأريخان: تأريخ تقرير أصول الشريعة والعمل بهذه الأصول،

وتأريخ التفريع أو الفقه والعمل به. يتخلل ذلك أيضًا تأريخان: تأريخ حفظ

الشريعة في الصدور، وتأريخ قيدها في الدفاتر والسطور.

ولبيان ذلك وبيان كيف كان يقضي الصحابة والتابعون أقول: علمنا أن أساس

الأحكام ومدارها ومعوَّل القضاء في الصدر الأول كان على الكتاب والسنة، أما الكتاب

الكريم فقد كتب متفرقًا في عهد النبوة في خلافة أبي بكر كما هو معروف مشهور،

وأما السنة السنية فقد بقيت محفوظة في الصدور إلى أواخر عهد التابعين أو كتب

منها في غضون هذه المدة شيء يسير.

فكان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين ملازمًا للإفتاء بالضرورة؛ لأن القضاء

كان إلى الخليفة وهو لا يحفظ الأحكام التي وردت عن الشارع كلها؛ بل كان كثير

من الصحابة يحفظ كل واحد منهم شيئًا منها فاستفتاؤهم في معرفة الحكم ضروري

وإليكم ما روي عن قضاء أبي بكر وعمر.

أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم

نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب

وعَلِمَ من رسول الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب

وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين،

وقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع

عليه النفر كلهم يذكر من رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فيقول أبو بكر:

الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ من نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن

رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإن أجمع رأيهم على أمر قضى

به وكان عمر يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي

بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس المسلمين

فإذا اجتمعوا على أمر قضى به) .

هذه رواية البغوي عن قضاء أبي بكر وعمر، ومنها يتضح أن القضاء في

عهدهما قضاء الجماعة، وعليه يقاس قضاء من بعدهما من الخلفاء الراشدين في

الدور الأول لتأريخ القضاء في الإسلام أي إلى العهد الذي بدأ فيه التدوين والعمل

بالفروع؛ بدليل أنه كان في كل مِصْرٍ من الأمصار الإسلامية نفر من الصحابة ثم

التابعين يسمون الفقهاء لحفظهم الأحكام، وتفقههم في الدين، وكان يُسْتشارون في

النوازل عند القضاء فيها؛ لأنهم حُفَّاظ الشريعة والراوون للأخبار الصحيحة، فلا

مندوحة عن الرجوع إليهم في القضاء.

ومن الفقهاء الكبار في الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس

وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن

ثابت وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل ومن في طبقتهم ممن

يحفظ عن رسول الله قليلاً أو كثيرًا.

وقال ابن القيم: إن عدد من حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مئة ونيف

وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة، وكان أكثر هؤلاء موزعين في الأمصار

بالضرورة، وهم شورى القضاء حيثما وجد منهم جماعة يستشارون كما أثبت ذلك

التأريخ، وتلى هؤلاء طبقة أخرى من أصحابهم وهم التابعون صارت إليهم الفتوى

في الأمصار فكان في المدينة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد

وخارجة بن زيد إلى غير هؤلاء ، وتليهم طبقة أخرى منهم محمد بن شهاب

الزهري المشهور وأضرابه وطبقة أخرى فيهم الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب

في المدينة، وكان من المفتين في مكة عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان

ومجاهد بن جبر وغيرهم وتليهم طبقة ثم طبقة إلى قيام الإمام محمد بن إدريس

الشافعي صاحب المذهب في مكة.

وكان من المفتين في البصرة عمرو بن سلمة الجرمي وأبو مريم الحنفي

والحسن البصري وغيرهم وتليهم طبقة فطبقة، وعلى هذا تقاس بقية الأمصار

كالكوفة ومصر والشام وغيرها، وكلها كان فيها العدد الجم من التابعين يستشارون

في الأحكام ويتناقلون الشريعة حفظًا في الصدور إلى أن دونت في السطور.

إذا أضفنا إلى هذا أن رسول الله شرع لهم الاجتهاد عند عدم وجود النص،

وأن أبا بكر وعمر كانا لا يجتهدان في مسألة إلا إذا جمعا رؤوس الناس وخيارهم

لاستشارتهم، وحكمنا أن بقية الخلفاء الراشدين كانوا كذلك وقسنا على ورعهم ورع

من بعدهم من التابعين وتابعيهم واتباعهم سنن من قبلهم خوفًا من تبعة التفرد بالرأي

واعتصامهم بالشورى مع أهل العلم والحديث بدليل ما رواه عن قضاة الجماعة في

عصرهم ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن المسيب بن أبي رافع الأسدي المتوفى

سنة 105هـ قال: كان إذا جاء شيء من القضاء ليس في الكتاب ولا السنة سمي

(صوا) في الأمراء فيرفع إليهم فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق

إذا أضفنا هذا كله إلى ما سبق بيانه نتج لنا منه أن القضاء في العصر الأول كان

قائمًا بالشورى أو هو قضاء الجماعة الذي فيه كفالة الحقوق وتحري العدل والحق

وهو خير من قضاء الفرد وأبقى لسعادة الأمة وأضمن لبقاء الدول بلا ريب.

ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما

قد يتبادر إلى الذهن؛ بل هي بالمعنى المشترك أيضًا جعل قوة التشريع القضائي

مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتًا من الحكم

واطمئنانًا للدليل واعتمادًا على ما هو الأصلح عند الجماعة؛ إذا تعذر وجود النص.

إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد الشرع الإسلامي التي يُدفع بها الحرج

وتُدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند

الضرورة مع وجود النص كما يأتي بيانه بعد، ويتنازعون على المسألة الواحدة

يجيء بها النص من عدة روايات، أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتًا من الحكم

ورغبة بمحض الخير للأمة، والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة

للمستفتين، وقد قال ابن القيم: (تنازع الصحابة في كثير من الأحكام، ولكن لم

يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، أي المسائل التي

تتعلق بالإيمان) .

قلنا: إن المراد بقضاء الجماعة قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد؛

لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ، وأضمن للعدل، وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها

إلى الرأي والاجتهاد والقياس عند تعذُّر وجود النصر أو عند لزوم ترجيح رواية من

الروايات تحتاج إلى شروط قلَّما تتوفر في الفرد الواحد، وإن توافرت له فربما لا

يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من وجهه بحيث لا يخالفه فيه غيره

ممن هو في طبقته من أهل العلم.

اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في

تقرير فروع المذهب وأصوله متنهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار،

وتتبع أصول الشريعة، فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف أتباعهم بعد

ذلك اختلافهم أيضًا فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي على نفسه حتى وجد في

بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مِصْرٍ واحد من الأمصار الإسلامية

هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضًا في المسألة الواحدة، حتى أصيب

الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطراب أمر العدالة أيما

اضطراب، مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين.

لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم

أن يحيل بعضهم إلى بعض في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف

الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم، ولا سيما فيما يحتاج إلى الاجتهاد ما

يستشير خاصة المسلمين.

قلت - فيما سبق -: إن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم شرع لنا مراعاة

المصلحة، ولو مع وجود النص واقتدى به الصحابة الكرام في العمل بهذه القاعدة

وبيانًا لهذا أقول:

لما كانت الشرائع مبنية على درء المفاسد وجلب المصالح، والشريعة

الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقط سن الشارع إيقاف العمل

بالنص مراعاة للمصلحة، ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت المصلحة ولزومها

على وجه لا يقبل الشك في أن المصلحة التي تترتب على العدول عن النص أكثر

من المصلحة التي تترتب على العمل به واستن بسنته صحابته والخلفاء الراشدون

من بعده فكان ذلك شرعًا أيضًا فيه تيسير عظيم على المسلمين، وإليكم

الدليل:

في حديث لأبي داود أن رسول الله نهى أن تقطع الأيدي في الغزو، وأنتم

تعلمون أن القطع حد من حدود الله لم يستثن النص القرآني منه الغزاة لكن النبي

نهى عن إقامته في حالٍ مخصوصة خشية أن ينشأ عنه مضرة؛ وهي لحوق صاحبه

بالعدو وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم عدة أخبار أخرى من هذا القبيل لا محل

لذكرها هنا وهي مبسوطة في كتب الحديث.

وقد استن الصحابة بسنته وأوقفوا الحدود في أحوال مخصوصة تدعو إليها

الضرورة.

جاء في كثير من كتب الأخبار أن عمر كتب إلى الناس: ألا لا يجلدن أمير

جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدًّا ووهو غاز حتى يقطع الدرب لئلا تلحقه

حمية الكفار.

وروى ابن القيم في (إعلام الموقعين) : عن ابن حاطب بن أبي بلتعة أن

غِِلمة لأبيه سرقوا ناقة لرجل من مُزينة فأتى بهم عمر فأَقَرُّوا فأرسل إلى عبد

الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: إن غِلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مُزينة

وأقروا على أنفسهم فقال عمر: (يا كُثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى

بهم ردهم عمر؛ ثم قال: أما والله لولا أنى أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى

إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم، وأيم الله إن لم أفعل

لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال يا مُزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال بأربعة مئة قال

عمر أي (لعبد الرحمن) اذهب فأعطه ثمان مئة) .

وغير هذا فقد أسقط عمر الحد في عام المجاعة للضرورة وتجاوز أبو بكر عن

خالد بن الوليد في حادثة مالك بن نويرة إذ قتله دون تثبت من إسلامه كما تجاوز عنه

رسول الله قبل ذلك بما صنعه ببني جذيمة لما أرسله داعيًا لا محاربًا، فذهب

إليهم وحاربهم وقتل وسبى منهم فبرئ رسول الله من عمله إلى الله، ولم يؤاخذه به،

وما ذلك إلا لحسن بلاء خالد في الحروب وخدمته العظيمة في الإسلام.

وكذلك أسقط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن في حرب القادسية في

خبر مشهور طويل لا محل لذكره هنا، وقال: (والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى

للمسلمين ما أبلاهم) .

والشواهد على هذا من أعمال النبي وأصحابه كثيرة لا يتسع لها مقام الخطابة

ولعل هذه القاعدة سوغت بعد لبعض الحكومات الإسلامية التجاوز عن الحدود

والعقوبات البدنية كالسن بالسن والعين بالعين واستبدلت بها العقوبات الأدبية

كالحبس والتغريم مثلاً لضرورة تغير الزمان، أو لفشو المنكرات فشوًا لم ينجع في

تأديب مرتكبها إلا حبس حريتهم في السجون أو غير ذلك من الدواعي والأسباب

الزمانية.

ليس فيما ذكر غض من مقام الشريعة، أو مس لأصولها المقدسة ما دام من

أصولها وقواعدها أيضًا العدول عن النص عند ثبوت المصلحة أو درء المفسدة بأقل

ضررًا منها، والشريعة كما تعلمون مبنية على المصلحة، وقد سبق الله تعالى رسوله

والأئمة من بعده إلى تقرير قاعدة مراعاة الأصلح وهو ما يسمونه النسخ وما هو بنسخ

وإنما هو تقرير حكم اقتضته مصلحة زمان، وحال غير حكم آخر في زمان تقدمه

وأحوال اقتضته كحكم جهاد المشركين من العرب في مبدأ أمر الدعوة لحمايتها

وحماية المسلمين من أعدائهم وأعدائها وفيه الإذن بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم

تقرير حكم آخر بعده أي بعد أن انتشرت الدعوة، وقوي جماعة المسلمين،

وصاروا في مأمن من غائلة الضعف، وهو حكم الدعوة بالتي هي أحسن كما في قوله

تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) ؛

وقوله: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256)، وقوله:

{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) ؛ إلى غير ذلك من الآيات

الكثيرة.

وكحكم النهي عن الصلاة في حال السكر في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ

وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43) .

وكان هذا في أحوال اقتضته ثم جاء حكم التحريم بتاتًا في أحوال اقتضته

أيضًا.

وبالجملة فإن ملخص ما تلوته عليكم ينحصر كله في المقدمات الآتية:

(الأولى) إن القضاء في العصر الأول كان مرجعه نصوص الشريعة أي

أصولها التي قررها الشارع واجتهاد الصحابة والتابعين فيما لم يرد به نص.

(الثانية) إن الأحكام التي جاءت عن الشارع لم يكن في استطاعة فرد واحد

حفظها أو يتعذر على الواحد الإحاطة بها فاحتيج في القضاء إلى استشارة

حفاظها.

(الثالثة) إن الصحابة كانوا قد يختلفون في المسألة الواحدة، إما في تطبيق

النصر أو مسوغ الحكم إذا كان اجتهاد تثبتًا من وضع الشيء في محله جهد

الإمكان.

(الرابعة) أنهم كانوا يعدلون عن النص عند الضرورة الداعية، وفي أحوال

مخصوصة تدعوا إليها المصلحة التي بني عليها الشرع اقتداء بالشارع.

(الخامسة) إن ورعهم وتقواهم وخوفهم من الوقوع في الإثم كل هذا كان

يدعوهم إلى عدم الانفراد بالحكم ومشاركة خيار المسلمين وعلمائهم في تطبيق

الأحكام إذا كانت اجتهادية على القياس الصحيح أو الرأي السالم من خطأ الفرد.

هذه المقدمات تنتج نتيجتين مهمتين: احداهما أن القضاء في الإسلام كان

قضاء الجماعة لا قضاء الفرد على نحو ما سبقت الإشارة إليه كثيرًا.

والثانية: أن الشريعة الإسلامية بما تَقرَّر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية

الأصلح كانت من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان، وتجيز لكل ضرورة حكمًا

يوافق مقتضى المصلحة والحال، وإن خالف النص مع اعتبار هذه القاعدة شرعًا

أيضًا خلافًا لما يتقوله عليها المتقولون من أنها شريعة ضعيفة توافق زمانًا غير

زماننا هذا، ومكانًا غير مكان الأمم الراقية لهذا العهد فهي إذا صلحت لأهل ذلك

العصر لا تصلح لعصر تسير شرائعه مع مقتضيات المدنية الحديثة، وحاجتها سيرًا

تدريجيًا في كل ما يقتضيه ترقي المجتمعات.ومنشأ تقولهم هذا الجهل بحقيقة

الشريعة الإسلامية، وعدم الوقوف على أصولها وقواعدها وكلياتها يساعدهم على

ذلك ما يرونه من تعصب بعض علماء الشريعة المقلدين لما جاء في كتب

الفروع دون الأصول، وردهم لكل ما لم يَرِدْ فيها مِن أسباب التيسير، وإن ورد

في أصول الشريعة وكلياتها مع أن في كتب الفروع من الأحكام التي لا تستند إلى

دليل قطعي ما لا يعد، ومبناها الاجتهاد أو الرأي والقياس، ومع هذا فإنهم يفضلون

العمل بهذه الأحكام على الرجوع إلى أصل الشريعة مهما كان فيها من التقليد

والتضييق على أنفسهم والأمة، ومهما ترتب على ذلك من التهم الباطلة التي يرمينا

بها الباحثون في طبائع الاجتماع.

وحجة هؤلاء العلماء في هذا سد الذريعة أو خوف انتشار دعوى الاجتهاد، إذا

فُتِحَ بابُه وتطرق الفساد إلى الشريعة، وهي حجة معقولة ومسلمة لا يخالفهم فيها

عاقل، لكن فيما لو صارت قوة التشريع أو الاجتهاد إلى الأفراد وأطلق العنان لكل

قائل أن يقول هذا حكم الله ورسوله ولكل حاكم أن يحكم بما يرى ويقول.

ومعاذ الله أن يريد هذه الفوضى للشريعة الإسلامية عاقل قط، وإنما المراد أن

ينظر في المسائل التي يقتضيها تغير الزمان وتجدد المصالح والحاجات على شرط

عدم الوقوع في ذلك المحذور الذي يخشاه العلماء، وذلك بأن تناط قوة التشريع أو

الاجتهاد على المسائل الطارئة في كل عصر بجماعة من أهل العلم الواقفين على

دقائق الكتاب والسنة، والعارفين بحاجات الأمة ليقرروا لها الأحكام الموافقة

لمقتضى الحال، ثم تنال هذه الأحكام تصديق أهل الحل والعقد فتصبح قانونًا

رسميًا يتحتم العمل به في الحكومة الإسلامية التي هي في حاجة إليه لا يعدل عنه

إلى غيره من أقوال الفقهاء والعلماء، وإن مجتهدين؛ فتُضْبَطُ بهذا قوانين الشريعة

ويُؤْمَنُ عليها من تطرق الفساد ثم يكون من ذلك أن تحدد هذه القوانين تحديدًا يغني

عن الرجوع إلى كتب الفقه التي تختلف في المسألة الواحدة اختلافًا كثيرًا يؤدي في

كثير من الأحيان إلى التهويش على القضاء ويكفي أن تكون تلك الكتب شروحًا

لقوانين الشريعة المعمول بها يومئذ يرجع اليها عند الضرورة والحاجة

إلى تفسير نصوص ذلك القانون كما هو الشأن في مجلة الأحكام العدلية

المعول عليها في محاكم الدولة العثمانية دون غيرها ولهذا البحث تتمة سآتي عليها في

الكلام على القضاء في دوره الثاني وها أنا ذا متكلم فيه:

قلت - فيما سبق -: إن القضاء في الإسلام له دوران دور العمل بالأصول

ودور العمل بالفروع، وإنما اخترت هذا التقسيم لاختصار الطريق أو اختصار

البحث خوفًا من تعب القارئ والسامع من أن أدواره بعد دور التشريع الأول كثيرة

جدًّا؛ إذا اعتبرنا تقسيمه إلى طبقات المفتين والمحدثين من الصحابة والتابعين ثم

الأئمة المجتهدين ومَن بعدهم مِن طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر

ذلك بما قسموا إليه طبقات الحنفية مثلاً، فقد قالوا: إنهم ينقسمون إلى ست طبقات:

الطبقة الأولى: طبقة المجتهدين في المذهب كأبي يوسف ومحمد وغيرهما

من أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام من القواعد التي قررها

الإمام.

والثانية: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب

كالخصاف والطحاوي والسرخسي والحلواني والبزدوي وغيرهم وهم لا يقدرون

على مخالفة إمامهم في الفروع والأصول؛ لكنهم يستنبطون الأحكام التى لا رواية فيها

على حسب الأصول.

والثالثة: طبقة أصحاب التخريج القادرين على تفصيل قول مجمل وتكميل

قول محتمل من دون قدرة على الاجتهاد.

والرابعة: طبقة أصحاب الترجيح كالقدوري وصاحب الهداية القادرين على

تفضيل بعض الروايات على بعض بحسن الدراية.

والخامسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين القوي والضعيف

والمرجح والسخيف كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة.

والسادسة: من دونهم الذين لا يفرقون بين الغَثِّ والسمين والشمال واليمين ،

فلو تتبعنا الكلام على هذه الطبقات والأدوار التي مرت على الشريعة بالتفصيل

لاحتاج ذلك إلى كتاب مطوّل ورجل أعظم رسوخًا مني في العلم ووقوفًا على تأريخ

القضاء، لذا حصرت الكلام على القضاء من الوجهة الإجمالية في دورين؛ وإذ قد

مضى الكلام على الدور الأول فها أنا ذا أتكلم على الدور الثاني على قدر ما يمكنني

مِن الاختصار.

لما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حُفّاظ

الشريعة ورواتُها في الأنحاء مع اتساع دائرة القضاء بازدياد وسائل الحضارة

واستبحار العمران، وتجدد الحوادث التي يقتضيها تشعب المعاملات وحال الأمم

الداخلة في الإسلام من غير العرب؛ وخيف لهذا من تشتت أحكام الشريعة ودخول

الفوضى في القضاء والإفتاء؛ احتيج بالضرورة إلى أمرين مهمين: الأول تدوين

الشريعة في الكتب، والثاني وضع قواعد للتفريع عن أصول الشريعة لتطبيق

الحوادث التي تحدث في أحكام المعاملات على قوانين الشرع، وأول من تنبه

للحاجة إلى هذين الأمرين على ما أظن عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الأموي

وسدًّا للحاجة الأولى أَمَرَ الزهري من جِلة التابعين وحُفّاظِهم بتدوين الحديث في

دفاتر وتوزيعها على الأمصار في أواخر القرن الأول ففعل كما هو مشهور

معروف.

أما الحاجة الثانية: فقد شعر بها ولكن سَدَّها بعده الأئمة المجتهدون بدليل ما

رُوي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس من

الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.

أدرك هذا عمر بن عبد العزيز وأدركه الأئمة المجتهدون من بعده مالك

والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المذاهب التي لم يبق لها

أتباع لهذا العهد كداود الظاهري وغيره كأئمة الشيعة الذين يعمل بمذاهبهم إلى اليوم

زيد بن على وجعفر الصادق وغيرهم فلم يكتفوا بتدوين السنة في الدفاتر والكتب؛ بل

رأوا

الحاجة تدعوا إلى البيان والتفصيل والتفريع والترتيب فعمدوا إلى النظر في أصول

الشريعة من الكتاب والسنة فاستخرجوا منها الأحكام ووسعوها ورتبوها ودونوها كل

على أصول مذهبه وقواعده وأصول الاجتهاد المعروفة في كتب الأصول مما لا

يسعني بسطه الآن وكلكم أعرف مني به، فضبطوا بذلك قوانين الشرع بما بلغه

اجتهادهم وأدى إليها جهدهم فكانت كتب كل مذهب شرعًا يَعْمَلُ به أتباعه إلى اليوم.

ولسنا بصدد إطراء هذا العمل الجليل الذي قام به أولئك الأئمة الكبار،

وحسب هذا العمل أو هذه الخدمة التي خدموا بها الأمة والشرع أنها تصون منزلة

الإفتاء والقضاء عن متناول كل مَن ادَّعى أن عنده مُسْكة من العلم بالدين والوقوف

على السنة هذا لو أحسن العلماء بعد العمل بقوانين الفقه.

نعم، قد انتقد كثير من أئمة السلف ما صار إليه الحال بعد وضع كتب

المذاهب من ترك أصول الشريعة والذهاب مع التقليد البحت لكن لم يكن هذا الانتقاد

موجهًا إلى الأئمة المجتهدين إلا فيما أخطأ فيه اجتهادهم، وإنما كان جُلُّ الانتقاد

موجهًا إلى من جاء بعدهم من الفقهاء والمقلدين لتنزيلهم كلام الأئمة منزلة أصول

الشريعة والعمل بأقوالهم ما أصاب منها وما أخطأ بلا بحث في الدليل مع أن الأئمة

أنفسهم نهوا عن العمل بقولٍ مِن أقوالهم دون معرفة دليله من أصول الشريعة كما

تعلمون.

أراد الأئمة المجتهدون أن تكون طريقتهم في التفريع مهيعًا يسير فيه العلماء

في قياس الحوادث بعضها على بعض وردها إلى أصولها عند تجدد الحوادث

بعضها على بعض، وردها إلى أصولها عند تجدد الحوادث سدًا لحاجة

المتقاضين، وأطالوا في الاستقصاء والبيان والتفريع كي لا يَدَعوا وجهًا لتهجم كل

امرئ على أصول الشريعة من الكتاب والسنة ليفتي بعلم وبغير علم فيصير

القضاء إلى الفوضى والتشتت بعد انقراض طبقة حفاظ الشريعة من التابعين

وتابعي التابعين، واتساع دائرة الإسلام اتساعًا يفتقر معه المسلمون إلى قوانين

قريبة التناول من الفهم، لكن أساء من جاء بعدهم من أتباعهم مِن العلماء فَهْمَ

الغاية، فألقوا بأنفسهم في نفس الخطر الذي أراد اتقاءه الأئمة المجتهدون إذ

ساروا في سبيلين متباينين سبيل التضييق على أنفسهم إلى ما لا يبلغ بهم أدنى حد،

وسبيل التوسع إلى ما يتجاوز كل حد.

حرموا في الأول على أنفسهم الاجتهاد، ولو في المسائل التي تدعو إليها

الضرورة والمصلحة العامة التي هي من قواعد ومقاصد الشرع الإسلامي فكان من

ذلك أن أحرجوا الأمة وألجأوا بعض الحكومات الإسلامية لهذا العهد إلى العمل

ببعض القوانين المقررة عند الأمم الأوربية خصوصًا الجنائية والتجارية.

وتوسعوا في الثاني حتى ملأوا بطون الكتب بالحواشي والشروح يؤتى فيها

بعدة أقوال في المسألة الواحدة ولو تافهة أو من قبيل تقدير المستحيل، وكل هذه

الأقوال تعتبر شرعًا أو شريعة وتركوا العمل بالصحيح منها أو الأصح أو المُفتى به

أو المعول عليه إلى رأي القضاة فكان من ذلك أن أطلقوا لقضاء الفرد العنان بلا شرط

ولا قيد فوقعوا وأوقعونا فيما أراد دَفْعُه الأئمة المجتهدون، وحُرِمَ المسلمون من

قضاء الجماعة الذي هو كفيل بالعدل وذلك منذ انقضاء العصر الأول إلى

اليوم.

نعم، إن اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة وكثرة الحواشي والشروح على

القوانين والشرائع موجودة عند كل أمة فالقانون الفرنسي مثلآ له شراح من

المتشرعين وأشهرهم دالوز وكاربانتيه وسيريه وغيرهم كثيرون؛ إلا أن القضاء

عند تلك الأمم لما كان بيد الجماعة وقوة التشريع ليست من حق فرد من الأفراد؛ بل

من حق الأمة ونوابها فدستور العمل عندهم ما أجمعت على وضعه قوة التشريع

وصادقت على قبوله الحكومة فصار قانونًا للقضاء لا يُعدّل عنه إلى تلك الحواشي

والشروح وآراء المتشرعين ويصار إليها إلا لتفسير مبهم أو تطبيق الحوادث بعضها

على بعض.

لشريعة المسلمين أصول وكليات - كما قلنا في صدر الكلام - تعتبر أساسًا

للتشريع، ومع أن أحكامها مسلمة فقد كان العمل بها في عهد الصحابة

بالشورى بين المتفقهين منهم، هذا فيما نُصَّ منها على ما يرد عليهم من النوازل،

فما بالكم فيما احتاج إلى الاجتهاد والتشريع بالقياس على تلك الأصول أو

الاستنباط منها وقد سمعتم فيما مَرَّ أنهم كانوا لا يحكمون حكمًا إلا بعد استشارة خيار

الأمة وعلمائهم وإقرارهم جميعًا على ذلك الحكم حتى اعتبر بعض الأئمة المجتهدين

بعض أحكام الصحابة لقوتها شرعًا أو أصلاً من الأصول التي يبنى عليها التفريع

سموه عمل الصحابة أو إجماعهم كما سبقت الإشارة إليه وكما ترون ذلك في كتب

الأصول.

إذا كان إجماع الصحابة على مسألة شرط في صحتها واعتبارها شرعًا يلزمنا

العمل به فقد لزم من هذا أمران:

الأول: إن إجماع الجماعة على تقرير حكم في مسألة شرط في صحة ذلك

الحكم واعتباره شرعًا لزمنا العمل به وهو ما تفعله الأمم الأوربية في تقنين قوانينها

لهذا العهد، وقد وجد له أصل في الشرع الإسلامي فتركناه وأصبحنا نغبط الأمم

الأوربية وقوانينها أو قضاء الجماعة عندها لهذا اليوم.

والأمر الثاني: أن كل أقوال الفقهاء واختلافاتهم الواردة في كتب الفروع ليست

بشرع إلا من حيث اشتمالها على أحكام يرد بعضها إلى أصول الشريعة إلا أنه غير

متوفر فيها شرط التشريع الذي مر، وإناطة ترجيح قول دون آخر من حيث قربه

من الأصل بشخص واحد لا يُكْسِبُ هذا القول أو الحكم قوة التشريع ليسمى شرعًا

أو قانونًا وجب العمل به إلا إذا اتفِقَ عليه وقرره جمهورٌ من المتشرعين أو

المرجحين وهذا ما أردته من وجوب بقاء الاجتهاد لكن لا ليتناوله من شاء فيما

شاء، كلا بل ليناط بجماعة من علماء المسلمين تقرير الأحكام التي تدعو إليها

المصلحة وتجدد بتجدد الزمان.

ولذا فإن اجتهاد الجماعة كما أنه لازم في الأصول فهو لازم في الفروع أيضًا

وذلك لجمع أقوال الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ما أصاب من تلك الأقوال محجة

الصواب والمصلحة ووافق أصول الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس

الصحيح في كتاب بعينه يعتبر قانونًا في المعاملات مجمعًا عليه من العلماء ليعرف

منه كل مسلم ما له مِن الحقوق وما عليه لا تتقاذفه أقوال الفقهاء من خلاف لآخر

ومن قول لنقيضه فتصير به إلى أهواء القضاة والمفتين يحكمون بما ترجح لديهم

وبما يشتهون.

وليس اختلاف المذاهب بمانع من أن يحكم للشافعي أو عليه بقول

للحنفية أو للمالكي بقول للشافعية مثلاً إذ كل أتباع المذاهب أبناء دين واحد وكل

أقوال كتب الفقهاء مأخذها واحد وهو الشرع، والواقع يثبت أن أحكام المعاملات

كانت في أكثر الممالك الإسلامية ولم تزل إلى اليوم جارية في القضاء على

مذهب الدولة الحاكمة وربما كان أكثر الرعية من أتباع مذهب غير مذهبها.

ومع هذا فليس ثمة نكير من العلماء على أهل الدولة فلا سبيل لهم إلى النكير

على القائلين بلزوم جمع الأقوال الموافقة لمقتضى المصلحة والعصر من كتب

المذاهب وجعلها قانونًا جامعًا في المعاملات للمسلمين؛ بل هذا خير وسيلة لإصلاح

القضاء ربما اغتفرت للفقهاء ماضي تفريقهم وحدة الأمة باسم التعصب للمذهب

وكانت خاتمة اضطراب نظام القضاء في الإسلام.

ليس اضطرب حبل القضاء في الإسلام بجديد، وليس الظلم والعسف الذي

لاقاه المسلمون من حكامهم الظالمين وحكوماتهم الجائرة إلا نتيجة توكئهم على

ضعف القضاء؛ خصوصًا ما يتعلق منه بولاية المظالم لا لنقص في الدين أو

الشريعة؛ بل لنقص في طرق التقنين والتنفيذ.

إن الدين الذي يُنزِل على الظالمين صواعقَ الإنذار ويقرن الظلم بالشرك بالله

تعالى ويأمر بإقامة ميزان العدل، ويريد سعادة المجتمع الذي يدين به ما كان ظالمًا

ولن يكون؛ وإنما المسلمون أنفسهم يظلمون.

ربما يطالبني كلكم أيها السادة بدليل على قولي إن اضطراب نظام القضاء وما

نشأ عنه من الجور ليس بجديد في الإسلام، وهذا الطلب من حقكم بعد هذا الكلام

وإليكم دليلاً واحدًا أكتفي به عن أدلةٍ لو أحصيت لكانت كتابًا ليس كالكتب مما

تقرؤون.

تعلمون أن أَحْفَل العصور الإسلامية بالعلماء والمفتين والفقهاء والمتشرعين

وأرقاها في سلم المدنية الإسلامية عصر هارون الرشيد العباسي؛ إذ الشريعة في إبان

زهوها والتفريع في مبدأ مجده والأئمة المجتهدون هم القائمون بالتشريع وإلى كتبهم

ترجع الفتوى.

في ذلك العصر الزاهر بمجد الإسلام وأمجاده العظام يرى أبو يوسف صاحب

أبي حنيفة من ضعف القضاء وتسلط عمال الجور واضطراب نظام ولاية المظالم ما

يلجئه إلى وضع كتاب الخراج لأمير المؤمنين هارون الرشيد وليس فيه إلا آية أو

حديث أو مثال من قضاء الصحابة p أحصيتأي كله من أصول تلك الشريعة الطاهرة يذكره

فيه بالرجوع إلى قضاء الله ورسوله وأصحابه أو قضاء الجماعة المتين قائلاً:

(ارجع يا أمير المؤمين إلى هذه الأصول في سياسة الرعية وجباية الخراج وتوزيع

الفيء، اقعد يا أمير المؤمنين بنفسك للمظالم وإنصاف المحكوم من الحاكم، أدرك

الزراع فقد كاد يهلكهم الظلم، فقد بلغني عن عمالك أنهم يقيمون أهل الخراج في

الشمس ويضربونهم الضرب الشديد وإنهم يفعلون بهم ويفعلون مما لا يحل لهم بوجه

من الوجوه) .

هكذا كان الحال في عصر الرشيد وأئمة الشريعة أحياء يرزقون فما بالكم بما

جاء بعده من العصور التي صار فيها التشريع إلى عدد لا يحصى من المخرجين

والمرجحين والفقهاء والمفتين، وكلهم يقول قولي أو قول فلان هو شريعة الله المفتى

بها والمعول عليه، وما هو إلا تفكك نظام القضاء وتشتت قوة الجماعة فلا حول ولا

قوة إلا بالله.

والنتيجة أيها السادة أن ضمان العدالة الوحيد إنما هو قضاء الجماعة لا قضاء

الفرد وأعني أن التشريع وحده غير كفيل بالعدل في القضاء إلا إذا أنيط كلاهما

بالجماعة بالوضع والتنفيذ، ولا تظنوا أن هذا (المطربش) الواقف أمامكم يريد

شيئًا جديدًا في الدين أو قلبًا لكيان الأحكام مع أنه ليس من علماء الدين ولا أئمته

المجتهدين.

كلا، فليس قضاء الجماعة بجديد في الإسلام؛ بل هو من عصر الصحابة

وهم واضعو أساسه المتين في الدور الأول للقضاء في الإسلام.

أما الدور الثاني فالذي أذكره أن دولتين من دول الإسلام تنبهتا إليه وعولنا

عليه؛ أولاهما: دولة الأمويين في الأندلس التي جعلت في القرن الثالث دارًا في

قرطبة لشورى القضاء؛ أعضاؤها من جلة العلماء يُرجَع إليهم في تقرير الأحكام.

والحق أقول إني لم أظفر بكثير بيان عن هذه الشورى لكن ما رأيته عنها في

ثنايا الكتب التأريخية يكفي للدلالة عليها، فقد ورد ذكرها في (نفح الطيب) في

ترجمة بعض العلماء كقوله كان فلان مشاورًا وطلب فلان إلى الشورى فأبى ونَقل إليَّ

ثقة عن كتاب من الأسف أنه غير موجود بين يدي؛ بل هو في مكتبة دمشق وهو

كتاب الأحكام للقرطبي ورد فيه ذكر هذه الشورى بقوله: (إن الشورى خالفت الإمام

مالكًا في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي القاسم) .

وفي هذا دليل كاف على أنه كان لديهم سلطة في التشريع، وأن الدولة الأموية

ثمة كانت مسددة الأعمال حتى قبيل وهنها وسقوطها حريصة على إجراء قوانين

العدل بين رعيتها.

أما الدولة الثانية التي تنبهت إلى مثل ما تنبه إليه الأمويون فهي الدولة

العثمانية لهذا العهد فإنها جمعت من علماء الأمة وفقهائها الموثوق بفضلهم وعلمهم

جماعة سمتهم جمعية المجلة، وذلك من بضعٍ وثلاثين سنة انتخبوا من كتب

المذهب الحنفي قانونًا جامعًا للأحكام المدنية وهو المعروف (بمجلة الأحكام العدلية)

وأقر على العمل به أهل الحل والعقد، فصار مرجع القضاء في المحاكم إلى

اليوم وستجتمع هذه الجمعية أيضًا لإدخال بعض الزيادة والتحرير عليه مما مست

إليه الحاجة ولو بأخذه من غير المذهب الحنفي.

هذا مجمل تأريخ القضاء في الإسلام وما تخلله من الشؤون بسطته لديكم مع

رجائي أن تَصْفَحوا عن كل خطأٍ بَدَر مني أو تردوه، ولو سمح الوقت لأتيت على

شيء كثير من كيفية تقسيم ولاية القضاء وترتيبها ومحاسن الفقه الإسلامي وما انتقد

عليه، وإنه لو أحسن العلماء العمل به لكان لنا منه قانون جامع لأحسن قوانين الأمم

المدنية، وربما أعود إلى هذا البحث في فرصة أخرى إن شاء الله.

_________

(1)

خطبة لرفيق بك العظم المؤرخ المشهور ألقاها على طلاب القضاء الشرعي بمصر.

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

... تصنيف كتب في الكلام ملائمة لحاجة العصر

توحيد المذاهب الإسلامية

إصلاح نظام التعليم في المدارس الدينية

ألقى أستاذنا الفاضل موسى كاظم أفندي العضو في مجلس الأعيان، والأستاذ

في مدرستي الحقوق والقضاة محاضرة في هذه الموضوعات الثلاثة، فضبطها عنه

حضرة الأديب حسين أشرف بك أديب صاحب مجلة (صراط مستقيم) التركية،

فرأيت أن أترجمها لقراء مجلة المنار النافعة بما يأتي:

كان الراسخون في العلم من أهل الصدر الأول للإسلام يكتفون بظاهر المعنى

الذي دل عليه الكتاب والسنة ويرجعون إلى صاحب الرسالة في كل ما يشتبهون به

من المسائل على عهده، ولهذا لم تضطرهم الحاجة إلى وضع المصنفات ومراجعة

الأسفار.

ثم ظهر الاختلاف على عهد التابعين، فرأوا أن يُدوِّنوا الكتب احتفاظًا بوحدة

الدين من وقوع التفرقة، وبُعدًا بها عن مزالق الانشقاق وفقدان القوة إذا تَشَتَّتْ آراء

ذوي الرأي، واختلفت أنظار أهل النظر، وهنالك الطامة الكبرى، والخسران

العظيم.

فأخذوا يدونون العلم، وأكثر ما دونوا كان في علم الكلام، لأنه هو منشأ

الخلاف، فكان لذلك فائدة عظيمة.

على أن الفلسفة لم تكن قد دخلت بادئ بدء في المصنفات الأولى؛ لأن الأمة

لم تكن قد عانتها بعد، بل كانوا يبرهنون على مذاهبهم بنص من الكتاب والسنة،

وهي طريقة علماء السلف، ولم يكن ذلك العصر في حاجة أكثر من ذلك.

ثم انتقلت علوم الفلسفة إلى العربية، فتشعبت الآراء طرائق ومذاهب،

وعرف أبناء هذه اللغة لأول مرة ماهية مذهب (الفلاسفة المشائين) وآراء (الفلاسفة

الطبيعيين) ، وأخذوا يدخلون فيها، ويقولون بقول أصحابها على قلة عددهم، لولا أن

المشائين تغلبوا على الطبيعيين من حيث إقبال الطالبين على كتبهم حتى اضطر

علماء الدين إلى مناهضتهم جميعًا وإنقاص ما لهم من السلطة والنفوذ في قلوب

الدارسين والمفكرين، ومن الردود على المشائين والإشراقيين تألف علم الكلام ممتزجًا

بالفلسفة كما قضت الحاجة؛ لأن علماء الكلام كانوا يدرسون كتب الفلاسفة أولاً، ثم

يردون عليها، إلى أن كسدت سوق (الفلسفة الإشراقية) وكثر انتقاد أقوال المشائين

فدالت دولتها وانقرضت سلطتها، ولم يبق لها ولي ولا نصير.

لم تكد تُلقي هذه الحرب أوزارها حتى كان لعلماء الكلام من ظهور (الماديين)

في هذا العصر ميدان آخر للنضال والكفاح، فبهؤلاء يجب أن نشتغل اليوم كما كان

أسلافنا يشتغلون بالطبيعيين والمشائين والإشراقيين بالأمس.

ورب قائل يقول: كيف يجوز لنا أن تزيد من عندنا في علم الكلام ما لم ينص

عليه من قبلنا أو ليس من الواجب علينا أن نتبع الأولين في ما قالوه ونسلك السبيل

الذي انتهجوه.

فنجيبه بأن الفلاسفة الذين عني السابقون من المتكلمين بتزييف أقوالهم لم يبق

في زماننا من يذهب إلى صحة نحلهم وإذا كانت براهين أسلافنا سلاحًا قاطعًا لتلك

المزاعم فأين من يحاربنا لنصده بها وهذا الميدان خال منهم على حين نرى جهة

أخرى غاصة بأعداء آخرين لا يعمل فيهم ذلك السلاح، أو هو لا يقابل الأسلحة التي

يستعملوها، والحاجة ماسة إلى اختراع سلاح آخر يصلح أن نقابلهم به.

لا يوجد اليوم علماء معروفون يقولون إن العالم ثلاث عشرة طبقة كرية: الأولى

تراب، والثانية ماء، والثالثة هواء، والرابعة نار، والأفلاك بعد ذلك تسعة

متواليات بعضها فوق بعض، وإنها أزلية أبدية في نوعها وفي جنسها، وهي بهذا

الاعتبار قديمة.

فإذا قلنا للفلاسفة اليوم: إنكم كنتم تزعمون قبل عصور أن الأرض وما عليها

قديم ولدينا حجج تدحض مُدّعاكم وتبرهن على حدوث الأرض وما عليها؛ أجابونا

قائلين: كلا نحن لا نقول بقدم الأرض بل نذهب إلى ما تذهبون إليه من أنها

حادثة.

ومَن منهم يُصغي إلينا إذا قلنا له: إنك تقول برأي بطليموس مِن أن الأفلاك

تسعة متداخلة أزلية أبدية وهو يرى: (أن هذا الفضاء لا نهائي، ولا نهاية لما فيه

من الأجرام، وهي حادثة من حيث صورها، ولا قديم فيها إلا أجزاؤها الفردة) ،

وربما سخر منا عندما نبرهن له على فساد مالا يعتقد صحته.

فمن الواجب علينا إذًا إصلاحُ الدروس الكلامية وفقًا لحاجة هذا العصر وأهله،

ووضع مصنفات جديدة في دحض مذاهب هذه الأزمان، وأن نعلم أن الدين لا

يُناضَل عنه اليوم بسلاح الأمس لِمَا بين العدوين من البَوْنِ الشاسع والفرق العظيم.

كان المشاؤون يعترفون بوجود الله تعالى، وأنه العلة الأولى، وواجب الوجود،

ولكنهم كانوا يقولون: هو فاعل مضطر لا فاعل مختار.

أما الماديون في هذه الأيام فلا تنفعهم براهيننا على ذلك لأنهم لا يُسَلِّمون

بوجود الله سبحانه، وكان الحكماء يقولون: إن الله واحد حقيقي وباطل وصفه بتلك

الصفات المتعددة لأنها تنافي الوحدة فهو قائم بذاته، عالم بذاته، قادر بذاته، مريد

بذاته، والعلم عين الذات، والقدرة عن الذات إلى غير ذلك من الصفات الأخرى،

وبهذا قالت المعتزلة.

أما الماديون فهم يضحكون منا إذا برهنا لهم على أن الله عالم بعلمه قدير

بقدرته مريد بإرادته: لأننا متخالفون معهم من حيث المبدأ الذي يجب علينا أن

نقربهم إلينا فيه بوضع كتب حديثة تصلح لإقناعهم، ولا يتسنى لنا ذلك إلا بدرس

فنونهم، وإلزامهم بأقوالهم وآرائهم.

وبعد؛ فإن الإسلام قد مني باختلافات ذهبت بأهله مذاهب كثيرة باد أكثرها وبقي

بعضها، فالشافعية والحنبلية والمالكية يخالفوننا نحن معشر الحنفية بالفروع وإن

كانوا كلهم أهل السنة، فمن الواجب علينا أن لا ننزل هذا الاختلاف بمنزلة

الخصومة فنعد الشافعي خَصمًا لنا، بل الصواب أن نرى لنا ما لنا، ويرون لهم ما

لهم، وربما كان الحق في جانب أحد الطرفين مرة، وفي الجانب الآخر تارةً أخرى،

لأن المسألة مسألة اجتهاد، والاجتهاد يبنى على الأدلة الظنية التي يَستدل بها كلا

الطرفين ولا فرق في ذلك بينهما ولذلك نصوا على أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.

كانت هذه الحال مدعاة للتفرقة وانشقاق القوة، ومباينة لما أمر الله به من

الاعتصام بحبل الاتحاد والاجتماع، وما أشد ضرر التخاصم في المذاهب والفروع؟

وفي الإسلام اليوم غير هذه المذاهب مذهب آخر وهو مذهب الشيعة، والعداوة

بينهم وبين السنيين شديدة، وفي نظري أن هذا العداء أمر منكر يجب إزالته ليتسنى

للمسلمين أن يتحدوا وإلا التهمهم الغرب قبل مرور نصف عصر، وكانت القاضية

على المسلمين أجمعين.

أجل يجب علينا أن نعتصم جميعًا بحبل الله ونتحد مع كل قائل بوحدة الله

ونبوة رسول الله ونحاول بعد ذلك تقويم الأود، وإرجاع المنحرفة إلى أصلها

ومجادلة أهل المذاهب الأخرى لا كما يُجادِل العدوُّ العدوَّ، بل بالتي هي أحسن، وذلك

بأن يجتمع العلماء من كل فريق ويقول بعضهم لبعض تعالوا إلى كلمة سواء بيننا

وبينكم نتجنب ما تقوم الحجة على بطلانه ونعمل بما تبرهن الأدلة على صحته وفي

يد كلا الفريقين كتاب الله يؤمنان به وبمن أنزله وبمن نزل عليه وبهذا ينجو

المسلمون مما مُنوا به من التفرقة والانشقاق، وأنا الكفيل بأن المسلم لا يلبث أن

يذعن للحق مهما بعد عنه.

وإني أقص عليكم هنا تفاصيل مناظرة دارت بيني وبين أحد علماء

الشيعة وكان متعصبًا، وعلى مكانة من الجَّد في وقت واحد، فبادرته أنا سائلاً:

أين هو موضع النزاع بيننا وبينكم، وفيما ترتابون من عقيدتنا فأجابني: الخلافة

هي موضع النزاع

قلت له:

إن هذه المسألة في رأيي ليست مما يستحق النزاع، قال:

كلا، بل هي ذات شأن عظيم لا ينكر فهي التي قضت على الإسلام وشتت

شمل المسلمين وقلبت بالدين رأسًا على عقب.. . إن الخليفة بعد النبي كان يجب أن

يكون عليًا، فأجبته:

تلك دعوى لا نسلم بها مالم يقم على صحتها برهان ساطع، فما هو برهانكم

على ذلك.

وهاهنا عدة أشياء كثيرة كانت كلها واهية في نظري وبعد أن أصغيت إليه

كثيرًا قلت له:

ليس كل هذا مما يتألف من دليل واحد؛ لأن ما قلته لا يفيد إلا الظن، وإن الظن

لا يغني من الحق شيئا، أنت سردت على مسامعي قضية هي من المطالب اليقينية

وأنى لمثلها من مسائل الاعتقاد أن يُبرهَن عليه بشيء من الظن الذي ربما كان مقنعًا

في مسائل الفروع.

فترك صاحبنا هذه السبيل وانتهج منهًجا آخر تكلم فيه أكثر مما تكلم من قبل،

ولكن هذا أيضًا كان واهيًا، فقلت له حينئذ:

إني أدعي أنه لم يؤثر عن النبي قول يستدل به على تعيين خليفة باسمه،

وبرهاني على ذلك أنه لو كان ثمة قول صريح في هذا الباب لما اختلف الصحابة في

ذلك الأمر، وهو على ما هم عليه من التمسك بسنته، والخنوع لطاعته.

أجل، لم يصرح النبي بذلك؛ لأن المهاجرين والأنصار وقع بينهما على الخلافة

اختلاف كان من نتيجة أن قال الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) فدحض الصديق

ما طلبوا بحديث (الأئمة من قريش) فأجابوه: إذًا لم يبق بيننا مدعاة للخلاف بعد

هذا، ومن ذلك تعلم أنه ليس ثمة صراحة قوله يستدل بها على تعيين خليفة بشخصه،

وإنما هم رجحوا الصديق لتوليه الصلاة بالناس في مرض النبي ولم يرجحوا عليًّا،

وهذا ما أداهم إليه اجتهادهم.

وكان أبو بكر قد سَمَّى عمر لولاية العهد قبل وفاته، فلم يبق مجال للنزاع

وجعلها عمر شورى من بعده، فوقع الاختيار على عثمان، ثم تولى منصب الخلافة

من بعدهم عليّ، هذا كل ما في الأمر، فأين ما تذكره من أن هذا المسألة هي التي

قضت على الإسلام، وقلبت الدين رأسًا على عقب.. . هل سلك أبو بكر غير منهج

الرسول؟ كلا، إنه لم يفعل ذلك باعترافكم، وهكذا فعل عمر وهو الذي افتتح

الأقطار وعلى يده دخلتم في الإسلام، وأصبح المسلمون يحكمون بلادًا فيها مائة

مليون من النفوس، ومع كل ما كان له من النصر، وللإسلام من المجد، بقي في

آخرته كما كان في أولاه يضن على قدميه بحذائين يخرج ثمنهما من بيت المال

فما هو معنى (القضاء على الإسلام) حينئذ؟

وهنا سكت صاحبنا ولم يفه ببنت شفة، فواصلت كلامي قائلاً: نحن نقدس

هؤلاء؛ لأنهم لم يحيدوا عن خطة النبي قيد أُنملة، ومن الواجب على كلِّ مَن في قلبه

ذرة من إيمان أن ينظر إليهم بالنظر الذي ننظر به إليهما، فأجابني: إن عليَّا

كان على سعة من العلم والفضل، وواقفًا على سر الكتاب، قلت له: ذلك مما

لا ريب فيه. قال:

فلماذا إذًا لم يجعلوه خليفة؟

أجبته:

أنت الآن تخرج عن الصدد، فقد عدلت عن زعمك الأول أن الإسلام قد قضى

عليه، ورحت تقول الآن: كان الأولى تولية عليّ لأنه كان أعلم وأفضل، فقال لي:

إنك يا أخي لا تدع لي مجالًا للإفصاح عن رأيي، إنني أقول: إن عليًّا واقف على سر

الكتاب ولو كان أول خليفة في الإسلام لخدمه خدمات جلى، ولتعالى الدين أكثر

مما شهدنا. قلت له:

أنت غيرت دعواك، ومع ذلك فإني أقول لك: كان من الواجب عليه إذا كان

الأمر كذلك أن يبين تصوراته في إعلاء شأن الإسلام أنَّ تَوَلِّي أمر الخلافة من قِبَلِهِ،

وفي كل حال إنه صار خليفة بعد ذلك، وكان في وسعه أن يقوم بالخدمات التي

تذكرها.

وبعد أن أَفَضْتُ البحث في هذا الباب أذعن مناظري للحق ورجع إلى إنصافه

ثم قال:

الحق أقول: إن هذه المسألة مسألة سياسية، لا مسألة دين، وما هي إلا وسيلة

جعلت في القديم لإحداث التفرقة بين فريق وفريق.

فترى من هذا أنه مهما كان بين المسلم والمسلم من الاختلاف، يرجع أحدهما

إلى الحق بعد ظهوره له؛ لأن المسلم منصف على كل حال.

ويا ليت شعري كيف يجوز لنا أن نجعل الاختلاف في المذهب سببًا للعداوة

ونحن كلنا مسلمون، في حين أن من المحظور على المسلم أن يجعل العداوة في قلبه

حتى لغير المسلمين، حقًّا إن هذه حال قد سئمتها النفوس، ونتجت منها مضار،

أزف الوقت الذى يجدر بنا فيه أن نقلع عن هذه البغضاء الشائنة، ونؤسس فيما بيننا

وبين جميع الفرق المسلمة وغير المسلمة وحدة صحيحة، فيكون الاتحاد شعارنا في

كل أين وآن، لأن بالاتحاد نجاتنا، وبالإعراض عنه اضمحلالاً.

فمن الواجب علينا أن نضع كتبًا في علم الكلام مؤسسة على مبادئ عدة؛ كأن

ندرس مذاهب الفلاسفة المعاصرين، ونجادل أصحابها ولكن (بالتي هي أحسن)

فبهذا يزول الخلاف، وتلك كانت خطة النبي صلى الله عليه وسلم في جدله.

نحن نفكر اليوم في أمر إصلاح المدارس الدينية وحسبنا أنكم تقدرون هذا

الإصلاح حق قدره - الطلبة: تلك حقيقة ناصعة فنرجوكم أن تثابروا على

الإصلاح - إنكم إذا كنتم على غير رأينا في لزوم هذا الإصلاح، فليس في

وسعنا أن نأتي بعمل، أما إذا عرفتم وجوبه، فهو أهم الإصلاحات في نظرنا.

يجب أن نُدخل على نظام المدارس القديم خمسة من الفنون الحديثة أو أكثر،

وأن نُعدِّل ذلك النظام تعديلاً هامًّا، فنبطل تدريس الحواشي والتقريرات بتة، ونُعَلِّمَ

الطالبين المتون فقط، ولكن تعليمًا حقيقيًّا، ونتوسع كثيرًا في درس اللغة والأدبيات.

ترى ماهي الحواشي والتقريرات؟ هي انتقادات قواعد لغة لا نعرفها بعد،

وأحر بنا أن ندرس تلك اللغة نفسها قبل أن نقرأ انتقاد قواعدها.

ولعل قائلاً منكم يقول: نحن لاندرس لغة العرب، بل ندرس كتبًا أنشئت بلغة

العرب، وكان خيرًا لنا لو تُرْجِمَ القرآن إلى التركية، فدرسناه بلغتنا، كما يدرس

العرب القرآن واليهود التوارة بلغتيهم.

فأجيب هذا القائل: إن ترجمة القرآن متوقفة على معرفة اللغة العربية معرفة

تامة، وهذا ما ندعو إليه الطلبة والعلماء، ونريد منهم أن يكونوا ذوي وقوف تام

على هذه اللغة، ولا يكون هذا إلا بدرس المتون أولاً، والتوسع بالأدبيات بعد ذلك

جهد المستطاع، ولا بأس إذا رجع التلميذ بنفسه إلى بعض الشروح عند مسيس

الحاجة.

ولست أدري كيف أعرض الطلبة قبلنا عن المتون وتعلقوا بهذا الشروح حتى

إذا أتموها شرعوا بقراءة الحاشية فحاشية غيرها ثم بالتقريرات فتقريرات أخرى

وبعد أن يصرف الطالب أكثر من خمس سنين على هذا المنوال في كتاب واحد

تمتحنه فيه فلا تجده على شيء! ! ولا يقدر أن يفهم معنى سطر واحد من الشعر

العربي؛ ذلك لأنه بدَّد وقته بمناقشة ما قاله العصام وما نبه إليه عبد الغفور، وبوجه

التفهم من قوله (فافهم) عند ما تعرض مسألة من المسائل.

فَكِّروا يا هؤلاء قليلاً: يجتهد عالم بتلخيص القواعد في متن يُسّهل به على

الطلبة سبيل الوقوف على أصول أحد العلوم، فيجيء غيره ينتقد ما كتبه وهو حُر فيما

يعمل ثم يجيء آخر فينتقد الانتقاد.

نحن لا نعترض عليهم لانتقادهم، فليبدوا رأيهم في مسائل العلم، والانتقاد في

الحقيقة فلسفة العلوم، ولكن الذي أستغربه هو تسابق الشيوخ إلى هذه الحواشي

والتقريرات مما تجادل به العصام وعبد الغفور، يجعلونها كتبًا مدرسية يقرأونها على

الطلبة قبل أن يدرسوا أصول العلم نفسه.

اعترِضوا على ما أقول إذا كان لكم اعتراض.

نعم إن هذه الحواشي ليست مما يقرأ قبل درس قواعد اللغة، وإنها مع ذلك لم

تؤلف عبثًا، فإن أصحابها لاحظوا من تأليفها تربية قوة المناقشة والانتقاد في نفوس

الطلبة فصنفوها، وما علينا إلا أن نستعملها في الموضع الذي وضعوها له، ولقد

كان من تحريفنا الأشياء عن موضعها أننا ظللنا جاهلين اللغة العربية، وإذا عرض

لنا بيت من الشعر، وقفنا أمامه باهتين، ننتظر من عبد الغفور، ومن العصام إمدادًا

فلا نرى مِن معين، ثم نسعى لفهم البيت من كتب اللغة فيخفق سعينا لأننا لم ندرس

الأدبيات العربية، وغاية الأمر أن إصلاح المدارس يتوقف على درس متون العربية

وكتب اللغة والأدب، ثم يلتفت الطالب إلى الفقه والتفسير والحديث، تلك العلوم

التي أهملناها، لأن الحواشي والتقريرات استغرقت منا كل وقت.

أتمنى من الطلبة كلهم أن يجتمعوا في مكان واحد، ويفكروا فيما يحوجهم

لإصلاح مدارسهم، ويستجلبوا برنامجات المدارس الدينية في مصر، فإن المدارس

الدينية في ذلك القطر قد أصلح نظامها، فأثمر التعليم فيها ثمرات شهية، وبعد

الاطلاع على تلك البرنامجات يضعون لأنفسهم برنامجًا يوافق حالهم وحال

العصر معًا ويكفل لهم التقدم في اللغة العربية، ثم يبحثون في أي الفنون الحديثة

أكثر لزومًا لهم.

أما أمر معاشكم فنحن نكفله لكم، لأن لكم أوقافًا كثيرة جدًا استولت عليها

الأيدي، وهي تغل لكل واحد منكم ثلاثة جنيهات مشاهرة، لو كان عددكم خمسة

آلاف طالب، وعدا ذلك فإن الأمة لا تنساكم، وما عليكم إلا أن تبرهنوا على

كفاءتكم، ثم إنكم في حاجة إلى تعلم لغة أجنبية، وليس في هذا ما يخالف الدين،

لأنه ليس للدين لغة خاصة به.

هذه اللغة العربية بِنْتُ ستة آلاف سنة، والدين الإسلامي لم يكن إلا منذ ألف

عام وزيادة، وهؤلاء مسلمو كريد لا يعرفون العربية ولا التركية ولغتهم لغة يونان،

فهل كان ذلك مانعًا لإسلامهم، ونحن أنفسنا لغتنا التركية، فهل نتركها لأنها ليست لغة

القرآن التي أنزل بها، وهل اليهود من العرب مسلمون لأن لغتهم عربية؟ كلا،

وإذا كانت العربية لسان الدين ولا يجوز للمسلم أن يتكلم بغيرها، فنحن آثمون لأننا لم

نترك التركية، وهذا ما لا يُسَلِّمُ به عقل ولم يَرِدْ به نص.

فالتركية من هذا القبيل لا فرق بينها وبين الفرنسية والإنكليزية؛ لأن هذه

اللغات الثلاث كلها غير العربية، وعدا ذلك فنحن ندرس في جوامعنا باللغة التركية،

فلماذا لا ندرس بالفرنسية أيضًا، ولماذا لا نتعلم في مدارسنا لغة أجنبية؟ فإذا قلتم:

إن التركية لغة أمة إسلامية، أجيبكم: إن في الصين تُرْكًا أكثر منا عددًا وهم كلهم

مشركون.

فتبيّن من هذا أن اللغة شيء والدين شيء آخر، وما التعصب في هذا الباب

إلى الجهل الذي يسخر من صاحبه الناس أجمعون.

...

...

...

...

محب الدين الخطيب

...

...

...

...

...

بالقاهرة

(المنار)

بَعثتْ إلىّ إدارة المجلة بهذه المقالة المترجمة وأنا في الآستانة لأرى رأيي في

نشرها فلما قرأتها رجحت المقتضي على المانع، وأذنت بنشرها، أما المانع فهو أنه

قد سبق لنا في المنار بيان هذه المسائل الثلاث الأساسية التي بنيت عليها محاضرة

الكاظم (تصنيف كتب في العقائد ملائمة لحال هذا العصر، وتوحيد المذاهب

الإسلامية وإصلاح التعليم في المدارس الدينية) بل هي من مقاصد المنار التي أبدينا

وأعدنا القول فيها كثيرًا، وكررناه تكريرًا، فقراء المنار لا يستفيدون بنشر ترجمة

هذه المحاضرة شيئًا جديدًا في هذه المسائل التي طرقت مسامعهم وجالت في مباحثها

أبصارهم، وعلم أكثرهم ما لقى شيخنا الأستاذ الإمام من العناء في محاولة إصلاح

التعليم في الأزهر والمدارس التابعة له، وأما المقتضي فهو ما يستفيده قارئ هذه

المقالة من تشابه علل المسلمين وأمراضهم، بل وحدتها ومن اتفاق آراء العقلاء

وطلاب الإصلاح لها على اختلاف اللغات وتباعد الأفكار، فموسى كاظم أفندي من

علماء الآستانة قام يطالب في عهد الحرية ما سبقه إليه إخوانه من عقلاء العلماء في

مصر والهند من غير تواطؤ بينه وبينهم ولا اطلاع منه على أقوالهم وأعمالهم،

فالمسلمون أمة واحدة مرضهم واحد وعلاجهم واحد وأطباؤهم هم العلماء والعقلاء

العارفون بحال العصر الذين يصدق عليهم تعريف الفقيه في أقوال أحد أئمتهم (هو

المقبل على شانه العارف بأهل زمانه) .

قد أحسن الكاظم في حَثَّهِ طلاب الترك على تعلم أدبيات اللغة العربية؛ لأن اللغة

نفسها إنما تعرف بأدبياتها لا بفلسفة فنونها الصناعية، وفي حثه إياهم على تعلم

بعض لغات العلوم الدنيوية، وحجته في هذه المسألة أقرب إلى القبول مِن حجة مَن

يدعو أمثال طلاب الأزهر إلى تعلم الفرنسية والإنكليزية لأنه لا فرق بين التركية

والفرنسية في نظر الدين وأما العربيةُ فهي لغة الإسلام لا يمكن أن يفهم الإسلام حَقَّ

فهمه ويكون من علمائه إلا من يكون متقنًا لها، وترجمة القرآن ترجمةً تقوم مقام

الأصل العربي وتغني عنه في الفهم والاستنباط والهداية، هي متعذرة كما بينا ذلك من

قبل ويحتاج في فهم الإسلام إلى فهم السنة ومعرفة طرق روايتها

إلخ إلخ، ولم

يعط الكاظم هذه المسألة حقها من البيان والتحقيق، وهي لم تكن موضوع محاضرته

وإنما جاءت بالعرض، وقد عرفت الرجل هنا وأرجو أن يكون من خير أنصاري على

ما أسعى إليه من الخير للمسلمين الذي يدخل فيه موضوع محاضرته.

_________

ص: 50

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رسالة جمع النفائس لتحسين المدارس

يقول الذين أرسلوا إلينا هذه الرسالة إن السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل

كتبها ليقاوم بها نهضة المسلمين الحديثة لإنشاء المدارس وطلبوا منا أن نبين لهم

رأينا فيها كما ذكرنا ذلك في الجزء الحادي عشر، وقد تصفحنا معظم الرسالة فظهر

لنا أن كاتبها قد كتب ما يعتقد أن النافع كما هو ظننا في سائر مكتوباته وأنه لم يقصد

تثبيط المسلمين عما هو نافع لهم إرضاء للحكام أو لغير الحكام، ولكن الذين فهموا

منها تثبيط المسلمين عما ينفعهم معذورون ولا يسوغ لنا أن نقول إنهم متحاملون.

الرسالة مؤلفة من ثلاثة فصول أولها في العلم والتعليم والمدرسة وبذل المال

لهذا الأمر ونتيجة العلم، وقد جاء في ذلك بفوائد ونصائح لا بأس بها، وإن كان

فيما استدل به أحاديث ضعاف لا يحتج بمثلها، ولا نطيل في ذلك لما جرى عليه

المؤلفون من التساهل في إيراد مثل هذه الأحاديث في فضائل الأعمال ولا سيما

الغزالي - رحمه الله تعالى - ورأيته يذكر في هذا الفصل كغيره السلف الصالح

ويحث على اتباعه ويعد من ذلك قراءة رسائل وكتب أحمد بن زين وسالم بن سمير

وعبد الله بن عاوي الحداد وغيرهم ممن ليسوا من سلف الأمة، وهم أهل القرون

الثلاثة على المشهور فكأنه يعد المتأخرين من أهل حضرموت وغيرهم من السلف

ولا أدري ما هي مزيتهم على علماء هذا العصر في الهند ومصر وتونس، وعندي

أنه لا يعتد برأيه في الكتب النافعة ولا في طريقة التدريس، والفصل الثاني عشرة

أسطر في الاتفاق على العمل وبذل المال له، ولا بأس به، وأما الفصل الثالث فهو

الذي يثبط همّة مَن تَلقَّاه بالقبول على علَاّته لأنه ينفّر المسلمين من كل ما عليه

الأجانب في علومهم وأعمالهم الدنيوية التي بها صاروا أقوى وأعز من المسلمين،

حتى إن دولة صغيرة في شمال أوربا تستولي على أكثر من ثلاثين ألف ألف مسلم

في جنوب آسيا وتتصرف فيهم تصرف السيد في عبيده الضعفاء، ولو عملت الدولة

العثمانية بمثل هذه الآراء لاستولى عليها الأجانب من زمن بعيد ولم تبق للمسلمين

حكومة مستقلة.

ومن بلايا تناقض هؤلاء المقلدين أنهم يحرمون الاستدلال بالكتاب والسنة على

مَن هم أهل له ويبيحونه لأنفسهم مع اعترافهم بأنهم ليسوا من أهله ومن ذلك استدلالهم

بحديث ابن عمر (من تشبه بقوم فهو منهم) على تحريم كل شيء نافع سبقتنا إليه

أوربا، والحديث لا يدل على ذلك على أن سنده ضعيف عند رواته وهم: أحمد

وأبو داود والطبراني في الكبير، وتصحيح ابن حبان له لا يعتد به لتساهله في

التصحيح، ومعناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم فإن التكليف يصير خلقًا بعد

تكرار العمل فيصير بذلك من القوم فيما تشبه بهم فيه فإن تشبّه بهم في الكتب من

أمور الصناعة صار صانعًا مثلهم وإن تشبه بهم في الأعمال الحربية

صار كواحد منهم في ذلك وإن تشبه بهم في كل شيء صار مثلهم في كل

شيء، ولكنه إذا تشبه بهم في بعض الأزياء أو العادات لا يصير منهم في أمور

الصناعة أو الحرب أو الدين، وإذا تشبه بهم في أعمال الدين فقط لا يصير منهم

في السياسة أو الإدارة ولا في الصناعة والزراعة. فالمسلمون في العراق

موافقون لمسلمي مصر في الدين لا متشبهون وهم ليسوا مثلهم في إتقان الزراعة فمن

الجهل الفاضح أن يقال إن من تشبه بآخر في شيء يصير مثله في غيره،

ويتفرع على هذا أننا نحن المسلمون إذا تشبهنا بالإفرنج في الأمور الحربية

والسياسية والصحية وطرق الكسب فإننا لا نكون معدودين منهم في دينهم، وإنّ

في بلادنا مَن هم موافقون لهم في دينهم، وكثير من عاداتهم، وهم مع ذلك ليسوا

مثلهم ولا يعدون منهم في الأمور السياسية والحربية مثلاً.

وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية

والطيالسة الكسروية (من لباس المجوس) ، ولما أخبره سلمان الفارسي - رضي الله

عنه- إن المجوس يحفرون الخنادق حوْل بلادهم إذا هاجمها العدو أعجبه ذلك،

وأمر بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وعمل فيه بنفسه (بأبي هو

وأمي) صلى الله عله وآله وسلم، فبهذا البيان يظهر خطأ السيد عثمان بن عقيل في

منعه أن يكون في مدارس المسلمين شيء ما يشبه ما في مدارس الأجانب، وخطأ ما

أطالت به مجلة (دين ومعيشت) الروسية في بعض المسائل التي جعلت تكأتها فيها

حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) وهذه المدارس النظامية في مصر والآستانة

والشام على طراز المدارس الأجنبية ولم ينكر ذلك أحد من العلماء في هذه البلاد وما

أظن أن السيد عثمان يعد نفسه في طبقة علماء الأزهر.

وقد أورد السيد عثمان في هذا المقام حديثًا آخر وهو (من أحب قومًا حشر

معهم) ، وهذا الحديث أورده الحاكم في المستدرك بلا سند فلا يحتج به ولو كان

الرجل عالمًا بالحديث لأورد ما صح بمعناه وهو حديث أنس عند الشيخين (المرء

مع من أحب) وفي المعنى حديث (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)

رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة وهو ضعيف ولكن حسنه الترمذي

وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، والمراد بالحب هنا ما يحمل المحب أن

يتقرب إلى من يحبه ويطيعه ويقتدي به، وما كل نوع من أنواع الحب يحمل على

ذلك، وقد أباح تعالى للمسلم أن يتزوج باليهودية والنصرانية والزوج يجب زوجه

فلو كان معنى الحديث أن كل محب يكون مع مَن أحبه في الدنيا والآخرة لاستلزمت

إباحة نكاح الكتابية كفر المسلم الذي يتمتع بهذا المباح، ولاستلزم ذلك الترجيح بلا

مرجح فيما إذا أحب كلّ مِن هذين الزوجين الآخر كما هو الغالب وهو محال، وأبلغ

من ذلك أن الله تعالى قال في خطاب المؤمنين مع اليهود الذين كانوا أشد الناس

عداوة لهم {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) فراجع

تفسير الآية في ص88ج4 تفسير القرآن الحكيم.

ومع هذا كله نقول: إن الذين ينظمون مدارسهم على طريقة الأوربيين

ويتعلمون علومهم لا يقتضي ذلك أن يحبوهم، بل نرى من المتعلمين في أوربا مَنْ

هم أشد تعصبًا من غيرهم؟ وقد ذَكَرْتُ هذا لبعض العثمانيين هنا (في الآستانة)

فقال والمتعلمون منا على الطريقة الأوربية كذلك، فالسيد عثمان ليس مختبرًا ولا

عارفًا بهذه المسائل، وقد علمت أن الحديثين اللذين أوردهما لا يدلان على مراده إن

قلنا بأنه يحتج بهما، وما كتبه ضار جدًا وإن أراد به النفع بحسب اجتهاده، وما هو

بأهل الاجتهاد سامحه الله تعالى.

ومِن تهافته أنه بعد أن استدل بالحديثين على مالا يدلان عليه لقلة بضاعته في

العربية على كونها بضاعة مزجاة شَرَعَ يحذر تَرْكَ قراءة كتب السلف الصالحين

والاستعاضة عنها بقراءة كتب التأريخ والجرائد، وذكر من مضارها أنها تورث

العقائد الفاسدة ودعوى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة، وإذا جاز لمثله أن يأخذ

من الكتاب والسنة فعلى من يمتنع ذلك؟ وإنني أنقل شيئًا من كلامه بنصه لئلا يتوهم

بعض قراء المنار أننا نرد على عالم مؤلف أخطأ فكبرنا خطأه أو بالغنا في استهجانه

أنه حصر عيوب المكاتب والمدارس في ثلاثة أشياء وذكر الأولين منها وهما في

المعنى أمر واحد هو التشبه بالأجانب، ثم قال ما نصه وصورة رسمه:

(والثالث من تلك الفواقر والخساير ترك قراءة الكتب التي يقرؤونها السلف

الصالحون التي يكتسبون منها العلوم النافعة وخشية الله والأعمال الصالحة وتبديل

تلك الكتب بكتب التواريخ المختلفة والجرائد المعتنقة التي يُورِثُ في اللسان اللقلقة

وفي القلب العقايد الفاسدة وفي الدين التساهل وتتبع الرخص بل تورث دعوى

الاجتهاد المشبه بخرط القتاد وذم التقليد بلا تقييد ودعوى استقلال الأخذ من السنة

والقرآن مخالفة لما عليه المفسرون الأعيان فما هي إلا كراكبة التان تظن أنها تسابق

الفرسان ومضادًّا لسيرة السلف الصالحين بل استخفافًا بهم بأنواع التنقيص وعنادًا

بالمكابرة والمغالطة والأدلة الساقطة) اهـ.

ولا يحسبن القارئ أننا اخترنا هذه العبارة اختيارًا لركاكتها وكثرة غلطها

ووضوح دلالتها على تجرد صاحبها من الفنون العربية كلها بل جميع عباراته كذلك

وهو مع هذا يستنبط الأحكام من الآيات والأحاديث فيحرم على الناس ما أحل الله لهم،

ويحل لهم ما حرم الله عليه، ولاسيما القول في الدين بغير علم ثم ينكر على

العلماء الراسخين مثل هذا الاستدلال.

هذا وإننا ننصح لأولئك الأبرار الأخيار الذين ينشئون المدارس أن لا يلتفتوا

إلى هذه الرسالة ولا إلى شيء من رسائل هذا الرجل ولْيختاروا لمدارسهم المعلمين

الأكفاء الذين يجمعون لهم بين علم الدين وما يلزم لهم من علوم الدنيا وأنْ

يكون لسان حالهم ومقالهم هو لسان القائلين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ

حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 201- 202) .

_________

ص: 60

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

‌خديجة أم المؤمنين

(7)

الفصل الخامس عشر [*]

(بيت خديجة بعد الزواج)

وبدأت السيدة (خديجة) بعد هذا القران السعيد تزداد معرفة بهذا الجوهر

الكريم الذي أتاحه الله إليها، فألقت إلى يد هذا الأمين بكل ما تملك ولم يرعها أن

الكرم المستحكم في سجاياه سيحمله على إخراج نصيب كبير من هذا المال إلى

الضعيف والعائل، فإن سيدتنا لم تكن مع تدبيرها بالشحيحة الكاظة على المال الفاني،

بل كانت قد خلقت لتكون مساعدة على الجود، وهل بعد معرفتها بهذا الكُفُؤ

الشريف ترى لنفسها معه أمرًا ينافي أمره، أو رأيًا يغاير رأيه، وهي تلك العاقلة

الحكيمة المستعدة أن تزداد كمالاً كلما أشرق لها من سماء الفيض الإلهي نور منه.

وأصبح هذا البيت مثابة للمضطرين وأمنا فقصدته الأيامى، وشبعت فيه

اليتامى، وخففت فيه أحمال كثيرين ممن حُنَيت ظهورهم بكثرة الآل، وقلة المال.

كانت تلك البلاد أحيانًا تُصاب بعسر بل كل بلاد العالم لا تسلم من العسر على

الدوام فمساعدة الموسرين في زمن العسر للمعسرين أمر تقضي به الإنسانية، ولكنْ

قليل من الناس من يكون لهم حظ بالتغلب على شياطين الشكوك والأوهام التي تنهى

عن الإنفاق خشية الإملاق، أما سيدتنا فكانت ترى إنفاق زوجها ومساعدته للمعسرين

وأخذه بيد العائلين من جملة المزايا العالية التي تقرُّ بها عينها.

وفي إحدى الأزمات كانت ملائكة الرحمة تحوم في ذلك البيت حول أحد

الصبيان، وتطوف في آفاق نفسه لتطهرها من كل شر حتى لا يخرج من هذا البيت

إلا وهو إمام للناس في الخير والصلاح.

وكان هو لاهيًا عما أُعِدَّ له، وعابثًا بمثل ما يعبث به أترابه، ولم يكن هذا

الصبي يتيمًا بل كان أبوه حيًّا ولكن أبناء السعادة أبناء المجد الأبدي، أبناء المجد

السرمدي، تستأثر العناية الأزلية بكفالتهم وتربيتهم بصورة خاصةً وظاهرة يراها من

استعدت بصائرهم للاطلاع الجيد.

لم يكن أبو هذا الصبي ليسمح وهو حي أن يتربى كالأيتام في غير بيته؛ لأنه

هو ذلك الشهم الشهير والشريف الخطير (أبو طالب) ولكن اشتداد الأزمة في إحدى

السنين اضطره أن يقبل رجاء أخيه العباس وابن أخيه (محمد الأمين) بأن يأخذ كل

واحد منهما ولدًا من أولاده تخفيفًا عنه فكان هذا الأسعد الذي أخذه الأمين هو عليًّا

الذي صار الإمام أبا الأئمة، وبدر سماء السيادة في الأمة.

كانت تربية عليّ في البيت من جملة المكتوب للسيدة خديجة من حسن الحظ

فإن الغيب كان يعده لأمر جليل له علاقة بهذا البيت.

لعله لم يخطر على بال أهل هذا البيت إذ ذاك أن هذا الصبي الذي يدرج

أمامهم فيسرون به سيكون الواسطة الوحيدة لحفظ نسلهم، ومن أين كانت تعرف

السيدة خديجة، أنه لا يعيش لها من الذكور ولد، وأن هذا الصبي الصغير قد أعده

الغيب ختنًا كريمًا وبعلاً صالحًا لبنتها الصغيرة، وكيف تعلم أنه لا يتسلسل لها عقب

إلا من تلك الكريمة (فاطمة الزهراء) وأنّى يخطر في بالها أنها إنما كانت تربي هي

وزوجها جدًّا لعترة تتصل بهذا البيت سَيَعُدُّهَا العالم من أشرف العِتَر وستبقى مباركة

في الأرض دهورًا طويلة عالية المنار، عظيمة الشأن.

نعم، كل ذلك لم يخطر في البال إذ ذاك، ولم يكن الذي في القلب إلا القيام

بالواجب الذي يقضي به التضامن.

نعم! نعم كل ذلك لم يخطر في البال ولا نوى سيد هذا البيت مكافأة عمه على

تربيته التي سبقت له، فإن بين ذوي القربى لا توجد المكافأة بل يوجد التضامن

ولكن كان هذا البيت المملوء نعمًا يتقاضى وجود نفوس كثيرة تشاركه في تلك النعم

لأن لأهله نفوسًا لا تعرف الاستئثار، بل تراه من العار والشنار، لا سيما إذا بئِس

الجار.

وقد استفاد من مادة هذا البيت كثيرون كما أشرنا إليه، أما عليّ فإنما خصصناه

بالذكر ليَعرف مَن عرفه أو سمع بمناقبه العالية وفضائله الزاكية كيف كان هذا البيت

السعيد مسعِدًا للأرواح، كما كان مسعِدًا للأشباح، وليعرف القارئ بسهولة أن

البيت الذي أخذ ابن أبي طالب آدابه فيه منذ كان صبيًّا قد كان مهدًا لأكرم الآداب

وأعلاها فإن عليًّا المرتضى هو من عرفه العالم كله، هو ذلك الإمام الأكبر الخليق

أن يكون مثال القدس وزكاء النفس، هو مجمع المعالي وملتقى الأسرار العظمى

ومظهر الولاية الكبرى.

فما أكرم هذا البيت السعيد وما أعظم بركاته وقد رأينا الأمين يجد فيه مجالاً

للتخفيف عن المثقلين، والتنفيس عن المكروبين، وفيه وجد القصاد صدورًا رحبة،

وأيدي مبسوطة، ولديه خيمَّ الوجود والسخاء، كما خيم العدل والوفاء، ومنه

أشرقت الآداب العالية، والتربية الكاملة، وماذا ترى من بركات هذا البيت بعد ذلك

يا ترى؟

***

(العمل الروحي)

أشرفنا الآن على بحر كثيرة لججه، صعبة مسالكه، وصلنا إلى ساحل هذا

البحر ولا بد من جوزه، وأكثر السفن لا يوثق بها في غمراته. ولابسو ثوب

الهداية رأس مالهم الدعوى، وما حيلة الحائرين غير الرجوع إلى الله في الجهر

والنجوى.

ههنا نبأ جليل تحار العقول المستقلة بفهمه، وتشتاق أن تقف على روحه وحدّه

ورسمه، هنا قد بلغْنا من سيرة هذه السيدة الجليلة أن بعلها كان من دأبه أن يتعبد

بعض الأوقات في غار من جبل قرب مكة اسمه (حِراء) فما هو هذا التعبد وكيف

هو، وما الذي ساق نفسه إليه، وأيُّ دين فرضه عليه؟

هذا هو النبأ العظيم الذي تتمسك بنا العقول المستقلة إذ نسمعه ولا تدعنا نجوزه

إلى غيره من غير أن نوضحه، وإذا أخذنا بإيضاحه نخشى أن نبعد بالقارئ عن

سياق السيرة، ولكن يقوي عزمنا على هذا الإيضاح ظنُّنا بأن الراوي الذي يشرح

كل دقيقة فيما يمر به من حكايته قد يفيد القراء أكثر ممن يسرد الأخبار سردًا.

إن الأديان كلها رسمت أعمالاً اسمها عبادات، ولكن بعل السيد خديجة لم يكن

تابعًا إذ ذاك لدين؛ لأن دين قومه كانت عبادته عبارة عن تمجيد بعض الأحجار التي

هي عندهم تماثيل أشخاص مقدسين ولم يكن هو قد تعود هذه العبادة التي لهم.

العبادة التي عرفت في الأديان كلها هي بحسب الظاهر أعمال وحركات

يرسمها رؤساء الدين من أنبياء وغيرهم، أما لبُّها فأشواق روحية تقوم في نفس

العابد أمام معبوده ويصح أن نسميها عملاً روحيًا حينئذ.

كان بعل هذه السيدة يأتي في غار حِراء بعمل روحي تتوجه فيه روحه تلقاء

بارئ السماوات والأرض، ومشرف مكة وسائق نفوس العرب إذ ذاك إليها، ولم

يكن مقيمًا أعمالاً رسميةً.

إن البحث عن سبب تسمية تلك الأعمال الرسمية عبادة في لغتنا يكلف به

مشرح اللغة، والبحث عن أسباب اختيار الأقوام السالفين هذه الصور والأعمال

المخصوصة تحت اسم العابدة يكلف به مشرح التأريخ، أما البحث عن الأشواق

الروحية أو التعبد المحمدي في (حِراء) فمكلف به كاتب سيرة السيدة خديجة.

العبارة لا تشفي الصدر في تجلية هذه المعاني ولكن شدة ارتباط هذا الموضوع

بهذه السيرة داعية إلى السير في هذا البحر العظيم.

قد سمعنا في سيرة زوج هذه السيدة أن روحه كانت من أعلى الأرواح، ونحن

نؤمن بهذا، ولكن إذا نحن لم نتعرف بالروح ولو قليلاً فماذا يكون معنى إيماننا بهذا؟

لا جرم أن تعرفنا بالروح ضروري في هذه المقامات وهو أمر يشتهيه كل امرئ

لأن كل واحد منا تخطر في باله هذه المسألة:

ما نحن؟

هذا سؤال قد علم الذين بعُدَ نظرهم في ماضي البشر أنه من جملة فضل الله

عليهم وهو أساس ما يسمى في لغتنا دينًا وديانة وملة وأحد الأصول والأسباب في

ترقي هذا النوع الإنساني وتكمله.

هذا سؤال تحيط به محارة طال وقوف العقل فيها، ههنا مرسى سفينة العقل

الذي يحاول معرفة نفسه ومنها يبتدئ مجراه لأجل إدراك هذا الجوهر.

مواقف الباحثين كادت تتساوى أمام صعوبة هذا السؤال، إذ لا براهين عقلية

قطعية في نفي شيء أو إثبات شيء في جوابه، ولكن إذ عزَّت هذه البراهين لا

يعدم عشاق هذا المطلوب آيات كثيرة في الوجودات، ومن فضل على أهل هذه

الصورة البشرية جعل قلوبهم مستعدة لقبول ما تأتي به هذه الآيات من ضياء ولا

يُحْرَمه إلا قليل تُزمن فيهم الحيرة لأسباب محسوسة وغير محسوسة.

هذه الوجودات قد ملئت آيات، فإذا حال دونها الحجب لجَّ العقل في محارات

أو عمايات، وإذا بدت لا يحجبها حاجب نهج في هدايات أنها لمن تأمَّل مراتب

وصفوف، ولكل وجود قوة، ولكل قوة أثر، واختلاف القوى وآثارها، هو على

مقدار أشكال الوجودات وصورها وحيِّزها، ولما رزق الإنسان هذا النطق الواسع

وضع أسماء لكل ما لاح له من وجودٍ، وظن المسكين أنه بوضع الأسماء أحاط

بالحقائق وهي لم تزده عنها إلا بعدًا.

الإنسان بعض هذه الوجودات وفيه قوى تحتاج حسب عادته إلى أسماء،

فالروح للإنسان اسم للقوة العظمى التي فيه، اسم لما يكون به الإنسان مستقلاًّ متميزًا

يقول أنا ويقال عنه هو وإن عفا أثره.

آمن الناس بهذا الاسم متفقين، ولكن فيما يدل عليه قد اشتد تباينهم، وحار

نظرهم في إدراك حقائق هذه القوى التي في الإنسان وفي كيفية علاقتها بهذا الجسم

البشري الذي متى برحته أصبح لا فرق بينه وبين كثير من صفوف الجمادات، والذي

يزيد حيرتهم شدة تسامي بعض الأرواح كروح من سعدت بقربه سيدتنا صاحبة هذه

السيرة.

بحثت كالباحثين، وحرت كالحائرين، ثم وجدت كالواجدين، فما ألذها على

القلب من حيرة عقباها بلوغ الغاية، والحمد الله رب العالمين.

إليك حديث نفسي بشأنها: (أفقت اليوم من النوم ونصل حسي وشعوري من

غلافه، كما نصل هذا الفجر من غمده، فوجدتني كأنني وليد هذه الساعة، لأنني

قبل هذه اللحظة لم أكن أرى هذه الأكوان، ولم أحس بما فيها من الأصوات والألوان،

ولم أكن اشعر بملائماتي ومؤلماتي، فكأنني كنت غير هذا الموجود الجديد.

أين كانت لذتي برؤية هذه القبة، وأُنْسي بما على هذا البساط، وأنَّى كان

ابتهاجي بزواهر هذه الزرقاء، وزواخر هذه الغبراء

ومِن حولي الآن أغاني

طيور، ورقص غصون، وأريج زهور، وبدائع نقوش، وترتيب صنوف،

وحركات نور وتجليات سكون، وفيّ أنا آثار انفعال من كل هذا قد تحرك بها ما اسمه

فكري ثم تحرك بها ما اسمه لساني فسمعتني أقول: (سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلاً) .

سبحانك يا فاطر يا بارئ يا مصور ولك الحمد، أنا متذكر الآن أنني أبصرت

هذه المرائي، وسمعت هذه الآمالي أمس لما بزغ الفجر بزوغه هذا، فأين ذهب

إبصاري وسمعي بين ذينك الأبصار والسمع اللذين كانا أمس وبين هذين الأبصار

والسمع اللذين أتياني الآن وأنا متذكر أن هذا الأمر وقع لي مرارًا كثيرة ألوفًا من

المرات فما هذا الاحتجاب ثم الظهور، وأين كان الإحساس محتجبًا قبل أن عرفته

أول مرة.

رباه، من أسائل عن هذا

؟ إن هذه الصوامت التي من حولي لا تجيب،

لعلها لا تسمعني، أو لعلي لا أسمعها، أو لعلها لا ذكر لها في هذه المسائل، وكيف

أصب على جهلي بشيء يتعلق بي، كيف لا أبحث عن أصل إحساسي وعن

احتجابه، ألا يهمني أن أعرف هل أمره كأمر هذه الشجيرات يتحاتُّ ورقها ثم يعود

ثم تيبس مرة واحدة فتصير حطبًا ثم رمادًا؟ أم أمره كأمر هذه الشمس يظهر نورها

على جهة ثم يغيب عنها ثم يعود إليها وهو لا يزول أبدًا، كيف أقنع للنفس الإنسانية

بحالة هذه الشجيرات، وهي لها من الخواص والآثار ما ليس لشيء غيرها في هذه

الأرض. كلا سأسائل، ثم كلا سأسائل.

رفعت رأسي إلى السماء فألقيت بواهر ولا مجيب، وأهويت به إلى الأرض

فألقيت بواهر ولا مجيب.

فضاء أمامي، لا أعرف له ساحلاً وحدًّا، تارة يفيض نورًا، وأخرى يحتجب

بالظلمات، أراني وأرضي محمولَين فيه ولا أعرف من هذا المتن العظيم إلا أسماء

وضعوها له لا تشرح كُنْهًا ولا تؤذن بدلالة كافية.

تتلاعب فيه النسمات لعلها ناسية أن الأمر جد، وما هو بالهزل واللعب،

وتتناغى فيه الأصوات كأنها تحسب أن في كل موجود دماغًا يأخذ بحظ منها ولعل

حسابها خائب.

بيني وبين كل ما هو محمول في الفضاء مثلي علاقة قد عرفتها بهذا النور

البازغ، فهل بزغ هذا النور لأعرفها أم لتعرفني، وهل كانت لي أم كنت لها أم كنا

جميعًا لهذا النور أم كان هو لنا، ولكني أعرف يا نور أنه لولاك ما عرفت شيئًا.

سلام عليك أيها النور يا حاملاً نعمة المعرفة إلينا، وشكرًا لمن تسبح أيها

النور بجلاله، وتهدينا إلى آيات جماله.

بالنور عرفت ما عرفت ولكن لست أدري كيف عرفت، قد نقشت السموات

والأرض على عظمتها في لوح لا يكاد يحس في دماغي، فهذا اليمُّ الذي يعجُّ الآن

أمام غرفتي أصبح لا شيء عندي على اتساعه لأنه محدود، وهذه الشمس العظيمة

التي بدأت تبزغ هذه الساعة قد غدت صغيرة في عيني لأنني أحطت بها، وهذه

الأرض التي أراها كسرير لي قد تلاشت في نظري؛ إذ وجدتها هي وكل بحورها

ذرةً طافيةً في ذلك اليم الذي لا ساحل له، أدركت في هذه الساعة أن هذه الأشياء

كلها مهما عظم حجمها في كالصفر بالنسبة إلى ما لا يتناهى، فعلمت أن ليس فيما

أحاط به حسي ما يدفع عن فكري عطشته.

راقني جمال هذه الكائنات ثم حيرني منها أنها كلها مسخرة لنا، وما نحن لها

بمسخرين فهل نحن على صغر حجمنا أكرم معنى منها؟ .

تركت حيرتي ههنا والتفتُّ إلى هذه الشجيرات التي أراها تتزين كعرائس

الأنس وسألتها فلم تجب أو لم أفهم حفيفها، وانثنيت إلى هذه اليمامات الراقصة

بأعناقها فسألتها فلم تجب أو لم أفهم هديلها، لكنني استأنست بهذه وتلك أكثر من

استئناسي بالمتحجرات لا شوق يخالط منها الجنان، ولا حركة لها إلا على يد

الإنسان، وطال أنسي بهذه الخضر المترنحات، والورق المتغنيات، حتى كدت أفقه

حديثها، وأفسر تبيانها، هذه ذكرتني بمعنى الحياة وأعادتني إلى نفسي وهي ضالتي

المنشودة وبها الهدى إلى ما أنشده.

لم أجد غير نفسي تجيبني عن نفسي بعد أن ساح حسي وفكري في هذه العوالم

المحدودة

إياها ناجيت، وكلامها وعيت، فهي التي حدثتني أني لست إلا ذرةً

صغيرةً جدًّا سابحةً في هذا الفلك، وفي هذه الذرة الصغير ذرات كثيرة كل واحدة

منها بالنسبة إلى الذرة الجامعة هي كواحد من ألوف ألوف ألوف الألوف، وفي كل

واحدة توجد الحياة ولكن ليست كلها مركزًا للحياة لأننا نجد أن ألوفَ ألوفِ ألوفٍ من

هذه إذا أفسد وضعها لا تزول الحياة، ولكن هناك بعض ذرات إذا أفسد وضعها تزول

الحياة كلها من جميع هذه الذرات التي يتكون من مجموعها الجسم فهذه الذرات القليلة

التي هذا شأنها هي مركز الحياة.

أعظم مجالي الحياة في نظري هو الإدراك الفكري وهو قارٌّ في ذرات قليلة لا

يحاط بها.

أدهشني هذا الموقف الذي وصلت إليه، وهذا المرأى الذي وقفت عليه،

حيرني من هذه الذرات أن تسع صور السموات والأرض، وصور أعمال البشر منذ

كانوا إلى اليوم، وحيرني منها أن هذه النتائج العظيمة التي تصدر عنها إنما تصدر

إذا كانت بوضعها المخصوص، وما أسرع زوال هذه النتائج إذا اختل وضع الذرات.

رأيت هذا الأمر العجيب ولكن لا مستقر للفكر عند هذا المرأى، إذ قصاراه

أني عرفت شيئًا صغيرًا جدًّا يسع أشياء لا تحصى مع أنني إنما أبغي أن أعرف ما

هو ذلك الشيء الصغير مبناه جدًّا جدًّا العظيم معناه جدًّا جدًّا؟ ما هو ذلك الشيء

الذي بوجوده على حالة مخصوصة يكون هذا الجسم متحركًا حساسًا يحيط بالسماوات

والأرض، وبتغيره يغدو هذا الجسم ترابًا صامتًا صابرًا تحت الأقدام، ما هي تلك

الحالة المخصوصة؟ وما هو تغيرها وكيف نظامها؟ هل هو في إحاطته تلك تابع

لهذا النظام أم النظام تابع له؟ هل هو يحتاج إلى هذا النظام بعينه أم يستطيع أن

يؤلف نظامًا آخر متى تغير نظامه هذا؟ وإن كان تابعًا لهذا النظام بعينه فهل وجدت

هذه الصبغة لتزول بأسرع من لمح البصر بالنسبة إلى عمر غيرها على ما يتخلل

وجودها من الاحتجابات؟ .

محارات بعد محارات، ولكن تلوح خلالها آيات، إذ قد ملأنا رب الوجود

أمثالاً، وأتاحت لنا معرفتنا بالأمثال أن حقائق الأشياء محتجبة والظاهر إنما هو

آثارها: فهذا النور الذي يملأ الفضاء لا نعلم كنهه، وهذه الشمس وما حولها لا

ندري كيف قامت، قصارانا أنَّا عرفنا سبحها في هذا الفضاء لا يسندها عمد، ولا

يعتريها سكون، وهي مع ذلك سائرة بنظام، ودائرة بإحكام، لا تخرج عن

مستقراتها، ولا تحيد عن مجاريها، ولكن ما هو ذلك السر الذي قامت به هذا المقام

سموا شيئًا من ذلك بالجاذبية فهل هذه التسمية دالة على الكنه والحقيقة؟

إن قصارى ما نعرفه من هذه المركبات أنها قابلة للتحلل فإذا حللناها انتهينا

إلى عناصر قليل عدها لا تتحول ولا تتحلل هي الأمهات ثم هي تنتهي إلى أم واحدة

لا نعرف من أمرها شيئا.

المشاهدة هي أكبر وسائط معارفنا، ولكن آلة هذه المشاهدة عاجزة عن أن ترينا

الأشياء كما هي، ولو اقتصر الأمر عليها لكانت علومنا بهذه الكوائن خطأ من أولها

إلى آخرها.

هذه الشمس التي نحن وأرضنا في نظامها الكبير أقل من حبة رمل في جبل

عظيم ليست أمام المشاهدة الخصوصية لكل واحد منا إلا كمصباح بسيط يشتعل

ساعات وينطفئ ساعات، وما هي إلا بحجم كرة مما يلعب بها اللاعبون.

على هذه النسبة من الخطأ نرى كل شيء أقل من حجمه وعلى خلاف وضعه،

فقد نرى واحدًا وهو متعدد، وبسيطًا وهو متركب، وساكنًا وهو متحرك، وصغيرًا

وهو كبير، حتى نصل إلى ما هو صغير جدًا فلا نراه ألبتة كما دلتنا التجارب بعد

أن اهتدينا للآلات الصناعية التي تساعد بواصرنا الطبيعية أيما مساعدة.. بهذه

الآلات استطعنا أن نرى أنواعًا من الحيوانات كانت خافية على الأبصار دهورًا

دهارير، ولعلنا سنهتدي إلى ما يرينا أصغر من تلك الصغائر، ونحن في مثل هذه

الهدايات العظيمة التي جاءتنا هدية من الفاطر على يد التجارب لا نجد ما يمنعنا من

الظن بأننا مهما استعنا بالآلات نبقى في مشاهداتنا بعيدين عن كشف الأشياء كما هي

وتبقى أشياء كثيرة خافية على أبصارنا وآلاتنا مهما بلغنا بها.

فما أكرمك يا عيني عليَّ، أنتِ أنتِ كنت سبب إرشادي إلى حقيقتي إذ لم

تريها لأنني عرفت بالتجربة أنك مسكينة عاجزة لا ترين كل شيء ولا ترين شيئًا

مما ترينه على وضعه وحقيقته فاضطرت أن أقيس وجودي على وجود غيري.. لا

جرم أن لي حقيقة مستترة عنك وراء وجودي الجسمي الذي تشاهدينه كما أن وراء

النور حقائق مستترة ولا جرم أن حقيقتي هي سبب وجودي كما أن الحقائق المستترة

وراء النور هي سبب وجوده.

إن الحقيقة العظمى التي هي باطنة من وراء الأشياء كلها، وظاهرة عليها كلها

هي حقيقة واجب الوجود، حقيقة مَن لا بد لوجودنا مِن وُجُودِه، ولا بد لتشكلنا

وتنوعنا من فيض تخصيصه وجوده.. هي حقيقة من له الحياة الأزلية الأبدية لأن

الحياة التي نعرفها منه صدرت، وله العلم الأزلي الأبدي لأن العلوم التي نعدها من

فضلة أتت، وله الإرادة الأزلية الأبدية لأن الإدارة التي نجدها من لدنه أهديت، وله

القدرة التامة الشاملة لأن القدرة من عنده نشأت.. هي حقيقة مَن لا مِثال له في

كمال وجوده، وعنه صدرت أمثلة الكمال في الوجودات الظاهرة.. هي حقيقة البارئ

المصور الذي برأ حقيقة مثال كامل حيّ سميع بصير مريد، وجعل حجابه هذا

الهيكل البشري.

أصبحتُ لا أرتاب في أن الحقيقة العظمى هي التي تهدينا بآثارها وبإمداداتها

إلى كل شيء مما نعرفه، ولكن لشدة ظهورها الذي قد يعادل البطون ربما تخفى،

فإذ نطلب معرفة النفس تظهر آياتها العظمى فسبحان الله.

من عرف ربه فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.

عرفت الآن من أمر نفسي أو روحي أنها لا يعرف كنهها ولم يزدني جهلي

بكنهها إلا إيمانًا بحقيقتها الجليلة المستقلة عن الجسد لأنني لم أعرف من أمر كل

جزء من أجزاء الجسد إلا مشابهته لهذه الجمادات التي أمامي وليس فيما أمامي شيء

يجمع فيه ما تجمعه هذه الروح. وقد حاولت كما يفعله بعضهم أن أنسب هذه

الخواص إلى المجموع المركب من هذه المواد على نظام خاص فلم يسلس له فكري

بل جمع عنه كثيرا لتذكره النظام الشمسي وذهابه إلى أنه إنما قام بما يسمونه الجاذبية،

ولم تقم هي به فما نفسنا أو روحنا إلا جاذبية النوع وكهربائية الخصائص والمزايا،

وهي هي مؤلفة الهياكل وناظمتها، لا بِدْع في ذلك، فالكوائن كلها من أصل لا

يرى ولم تنفصل عنه، ولا يكون الأصل تابعًا للفرع ولا ضرورة لتغير الأصل إذا

تغير الفرع، ولا يصعب فهم هذا على من عرف كيف يتجسد ما لا يرى فيصير مما

يرى، وكيف يتلطف ما يرى فيصير ممالا يرى، الصناعة بهذا ضمينة، والتجربة

فيه هادية أمينة، ولا يصعب أيضًا على مَن عرف آيات النفس التي تظهر في

بعض الأشخاص لنتعلم بها أن لها شؤونا غريبة جدًّا فوق المعهود منها والمألوف مِن

دخولها في قيد الحس، سبحان الله كم لها من انطلاق منه يظهر معه أن لا حاجة لها

بهذه الآلات العضلية والعظمية والعصبية.

نحن شاهدنا من هذا كثيرًا، وشاهد مثلنا خلق لا يحصون، والباحثون

المحققون شاهدوا أيضًا أو نقل إليهم ثقات كثيرون مجموعهم يدفع عن نفوسهم الريب

وما علمنا أنهم وجدوا لهذا الامتياز الفائق أسبابًا جلية، غاية ما صنعوا أنهم وضعوا

لبعض هذه الأمور أسماء وظن القاصرون أن هذه الأسماء تحل الأشكال، وتحكي

حقيقة الحال.

وسمعنا سماعًا لا يستطيع الريب معه البقاء أن أشخاصًا يشفون أمراضًا

معضلة بغير علاج ولم يقل لنا علماء الأبدان في تعليل هذا الأمر إلا إنه شفاء بالوهم

فيا عجبًا ما هو هذا الوهم الشافي ولماذا لا يشفى بالوهم كلُّ شخص؟ !

حالة المنوَّم تنويمًا مغنطيسيًّا هي من الأدلة الصريحة في هذا الباب على شدة

غرابة أمر هذا الموجود الصغير الكبير واستعداده لخرق الحجب الكثيفة، وقدَّ القيود

الحسية، وعمله الأعمال العظيمة من غير حركة بيديها أو واسطة يأتيها.

هذا حديث نفسي وخلاصة ما ظهر لي أن الروح خلق مستقل ذو ظهورات

فائقة، واحتجابات محيرة، هو أقسام كثيرة، نصيبنا منه عظيم، وارتقاء نوعنا

لولاه عديم، هو الحي السميع البصير المريد المستعد للظهور والاجتنان، المصنوع

آية كبرى دالة على جامع الأكوان.

وظهر لي أن خصائص الروح الشوق، ولو قلت إنَّ الروح هو الخلق ذو

الشوق لما وجدت هذا غريبًا في تعريفها. ولكل روح شوق يناسبها وعلى نسبة

شوقها تكون رتبتها وصفها في عالمها الذي هي منه، وفي عالم المثال والعيان الذي

دفعها إليه شوقها إلى الظهور.

كانت روح هذا السيد بعل سيدتنا خديجة من أعلى الأرواح، وكان شوقها

أزكى شوق وأقدسه، كانت عظيمة الشوق إلى رؤية فاطرها ولكن هل الفاطر عز

وجل يُرى؟ لعلها حارت زمنًا في هذا الأمر، ولعلها قالت لو كان يُرى لكان محدودًا

وكيف يدخل في حد من برأ الحدود، ولعلها عادت إلى زيادة التبصر فقالت هل

الرؤية مخصوصة بهذه الباصرة، وهل يشترط أن يكون المرئي متشخصًا، أليس

القصد من الرؤية العلم، ألا يمكن العلم بالفاطر مع أنه غير متشخص.

هذا ما كانت تحوم حوله هذه الروح العلوية التي كان مظهرها وبيتها الصوري

في بيت خديجة، ومطافها ومطارها ملكوت الحق، ملكوت الوجود الأعلى.

ولعلها يئست من أن تجد فيما حولها ما يَرْوى أوارها من معرفة فاطرها الذي

أشتد شوقها إليه بل لعلها غلب عليها ذلك الشوق حتى أصبحت زاهدة في كل رؤية

وكل سمع لأنها تريد أن ترى وتسمع الذي إليه طارت شوقًا ولذلك رأينا (محمدًا)

صلى الله عليه وسلم، قد حُبِّبت إليه الخلوة والانفراد؛ ولا سيما إذ شارف

الأربعين من سنيه، وكان لغار حراء الحظ من هذه الروح الحائمة على حبيبها

وطبيب شوقها.

مَن ذا الذي يعلم غير الله ما كان يقول هذا المنقطع في ذلك الغار؛ ولكن يصح

لنا أن نظن بأنه كان يساقط الدموع ويناجي المقصود المطلوب بقوله: رباه، رباه،

كيف الوصول إلى حضراتك؟ كيف السبيل إلى مشاهدات تجلياتك؟ إليك أيها

المولى من مزيد حبي قيامي وقعودي، وركوعي وسجودي، ومن مزيد شوقي ذرف

دموعي، وفرط ولعي، رحماك رحماك ياربي، كبد تذوب وعين تسيل، وفكر

يتدله، وأنت أنت مطلوبي، وأنت أنت ذو الكرم والجود.

على هذا المثال كانت حاله وهذا هو العمل الروحي الذي شغل به باله، وقد فهم

القريبون من فهم الروح مقدار فوائد هذه النجوى القدسية، وأما البعيدون عن هذا

الشوق فيعجبون وينكرون، وليتهم يتذكرون محن الناس وتدلهاتهم بهذه المتغيرات

من صور وأشكال لا تتوقف الحياة عليها، ولا يجدون الطمأنينة لديها، هذه المحن

والتدلهات أقضى بالعجب لَعَمْرُ الحَقِّ لو كانوا يعقلون، وأما ابتعاد روح عن

المحسوسات في سبيل الاقتراب من حضرة مَن لا تدركه الأبصار فسعي وراء مبتغى

جليل.

العمل الذي فيه لذة لا مضرة على الغير فيها لا ينكره عقل، ولأرباب الأعمال

الروحية لذات لا يستبدلون بها كل لذات المفتونين بالمحسوسات فعسى أن يتذكر

العقل المستقل هذا المعنى فلا يكبر عليه أن يفهم أقل الحكم في الأعمال الروحية

وهي لذة أربابها وانتعاشهم وتفتح بصائرهم لرؤية المعالي كما هي فلا يحزنهم شيء

بَعْدُ في نَيْلها ولا تقف هممهم أمام حَزْن في طريقها.

كانت السيدة خديجة شديدة الفهم وعظيمة الثقة ببركات هذه العمل الروحي

فساعدت عليه ولم تُلُمْ صاحبه ولا عتبته، كانت عظيمة الإيمان بالقوة العظمى،

والحقيقة الكبرى، فلم تر بأسًا بل لم تر إلا الخير بتوجه وجه زوجها الكريم تلقاء

سوانح الإمدادات الفائضة مِن لدن ذلك الملكوت الذي لا حد له.. كانت قد عرفت أن

هذا الغار في (حِراء) الفارغ من كل مشتهى حسي كان حريًا أن يكون مثابة لهذا

الشبح الشريف الحامل قلبًا قد فرغ من كل شيء غير الوَلَه بالمعالي القدسية،

والشوق إلى الحضرات الربانية، فكانت تُبارِك على هذا الغار الفارغ وتسأل الله أن

يملأه معالي وبركات، وقد أجاب الله - تعالى كرمه - سؤلها وكتب (حِراء) في

الصف الأول بين الأماكن التي تُتَوج بتمجيد الناس وتحياتهم ومحامدهم، وكم قد

ترجمت قرائح الشعراء عن احتراماتهم وتكريماتهم لهذا الغار أو لهذا المطلع الذي فاق

بدره البدور، قال قائل منهم:

سلامٌ عليك حِراءَ الشهيرْ

أمطلع ذاك الضياء العظيم

سلامُ فؤادٍ ذكورٍ شكورْ

بقدر الذي قد صحبت عليم

***

لأنت يتيمة عقد الوطن

ففيك أضاء السراج المنير

بذكراك يلقى الفؤاد السكن

فذكراك ذكرى عطاء كبير

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) تابع لما في (ص549م11) من سيرة السيدة خديجة، وقد كان كاتب هذا السيرة السيد عبد

الحميد الزهراوي اضطر إلى إرجاء الكتابة لأعماله السياسية الكثيرة في مجلس الأمة.

ص: 64