الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
مضار البغاء ومفاسده
للزنا مضار ومفاسد كثيرة في الصحة والأخلاق والروابط الزوجية والحياة
الاجتماعية والاقتصادية والإنتاج؛ لأجلها كان محرمًا في الأديان فإن الله تعالى لم
يحرم على الناس شيئًا إعناتًا للناس ولا منعًا لهم من التمتع باللذات التي لا ضرر فيها
وإنما حرم عليهم كل ما هو ضارّ وأباح لهم كل ما هو نافع وما كان فيه نفع وضَرّ
فالترجيح في الشريعة لما فيه دفع المفسدة وحفظ المصلحة والمنفعة جارٍ على الطرق
الموافقة لنظام الفطرة وقوانين المنطق المعقولة، وأشدُّ الزنا ضررًا وأكثر مفاسد
البغاء المستباحُ الذي يتخذه العواهر حرفة تكون معروفة في البلد فكل مَنْ شاء ذلك
تيسر له متى شاء ما دام يملك أجرة البغي.
هذا الضرب من الفسق هو الذي يسرع إفساد الصحة والآداب وتقليل النسل
وإيقاع الشقاق في البيوت حتى تصل إلى درجة يستباح فيها أكثر الأعراض وتفشو
القيادة والدياثة حتى لا يوثق بنسل أحد إلا النادر من الناس وأكثر الشبان الجاهلين لا
يعرفون من أمر هذه المفاسد شيئًا فيقضي الفسق على حياتهم الجسدية والأدبية
والمنزلية من أول النشأة ولا يعرفون من أين جاءهم البلاء بل لا يدرون به إلا بعد
وصوله إلى حد اليأس ولا سيما في البلاد الصغيرة - كطرابلس الشام التي سرى
إليها البغاء الآن - التي ليس فيها مستشفيات تداوى فيها الأمراض والأدواء التي
تتولد من الزنا كالزُّهْرِي والسَّيَلان، ويَعتبر بما يرى فيها من العبر من كان لا
يعرف ذلك من الشبان.
أول رزايا البغاء وأسرعها حصولاً انتشار المرض الزُّهْرِيّ القتال ويا لَيْتَ
هؤلاء الشبان المساكين يعرفون شيئا من عواقب الزهري وما ينتهي إليه لَيْتَهم
يدخلون المستشفي في مثل الآستانة ومصر فيشاهدون بأعينهم بعض المصابين بهذا
الداء ومنه الذي فقد بصره وسمعه ومنهم من سقطت أسنانه وتآكل لسانه، ومنهم من
استؤصلت منه أعضاء التناسل، وأهونهم حالا من كان قريب عهد بالمرض وقد
انتشرت البثور على جسده ولم تصل سمومها إلى أعضائه الرئيسة، ويا لها من
مناظر تَشْخَص لها الأبصار وتَرْجُف لهولها القلوب.
يا ليت هذا الداء الخبيث لم يكن مُعْدِيًا إذًا كان يكون وباله على أولئك الفساق
وحدهم، وهم له مستحقون، ولكنه من الأدواء التي تسْري بضروب من العدوى لا
يعرف طرق التوقِّي منها إلا من لهم إلمام بعلم الصحة وهم في بلادنا قليلون، فيا
حسرة على أهل بيت يُغْوي الشيطان أحدهم فيقوده إلى تلك المواخير النجسة فيعود
حاملاً إلى أهله الأبرياء المساكين ذلك السم القتال فيلقح به امرأته وأولاده وإخوته
وأخواته وربما أصاب به والديه فإنه قد ينتقل بفضل الطعام وسؤر الشراب وبالتقبيل
واللمس إذا كان هناك جرح أصابه ذلك السم ولو جرح الخِلال في اللثة.
ومن رزايا هذه الفاحشة ومصائبها أن من افْتُتِنَ بها يصير يؤثر الحرام على
الحلال فإن كان أعزب تضعف داعية الزواج الشرعي في نفسه ولذلك يقل الزواج في
جميع البلاد التي يفشو فيها الزنا ومضار ذلك كثيرة منها قلة النسل ومنها الأيامَى
من النساء وذلك مدعاة لخروجهن من حظيرة العفة والصيانة حتى إن العوانس
والعذارى الأبكار يلجأن أحيان يلتمسن الأخدان في البيوت السرية، فكيف يكون حال
الأرامل؟ وإن كان متزوجًا يهجر امرأته ولو جميلة ويأوي إلى بَغِيّ دونها جمالاً
وفَتاءً وإن شاركه فيها من لا يحصى من أسافل الناس وبذلك يضعف غيرته على
العرض ويضيق ذرع امرأته ويخونها الاصطبار فتنتقم منه والجزاء من جنس
العمل.
يتوهم بعض المغرورين بأنفسهم أنه يسهل عليهم الجمع بين التهتُّك في الفسق
وبين صيانة نسائهم عنه وإن قل نصيبيهن منهم، وإنما ذلك هو الجهل والغباوة
وعدم الخبرة والتجربة فما ذكرناه من إفضاء تهتك الرجال في الفسق إلى فساد نسائهم
هو من القضايا المعقولة الثابتة بالتجربة المؤيدة بحديث (عِفّوا تَعِفّ نساؤكم) فإن
استبْعَدَتْه عقولهم الضعيفة فليعلموا أن المشاهدة والتجربة أقوى حجة من نظريات
الفلاسفة الحكماء، أفلا تكون أقوى من نظريات الجهلة الأغبياء؟ ، ولو كانت
النظريات المتبادرة إلى الرأي أقوى من علم المختبر للشيء والعالم به من المشاهدة
أو خبر التواتر عن المشاهدين والمجربين لكان من المردود بادئ الرأي ادعاء رغبة
الفاسق عن زوجته الجميلة الطاهرة المقصورة عليه إلى عاهرة دونها في كل شيء
ولكنه واقع، ومن أغرب وقائعه أن امرأة في مصر بحثت عن سبب هجر زوجها
لمضجعها زمنًا طويلاً فعلمت أنه يأوي إلى بعض مواخير الفسق الخفية فذهبت إلى
قوَّادة الماخور وأعطتها صورتها ورغبت إليها أن تعرضها في الصور اللواتي عندها
على فلان (الذي هو زوجها) فلما عَرَضت الصورة عليه جذب بصره حسن صورة
امرأته ولم يفطن لها لأنه لم يخطر في باله أن تعرف ذلك المكان أو تميل إلى
الفاحشة مثله وكانت أجمل من جميع النساء اللواتي يختلفن إليه فلما طلبها من القوادة
طلبت منه مالاً كثيرًا فوق ما كانت تطلبه عادة فبذله وبعد أن اجتمع بامرأته وهو لا
يعرفها وأظهر لها أنه كان أسعد الناس بلقائها وأنه ما سُرَّ في حياته بامرأة كسروره
بها تعرفت إليه ووبخته وقالت له: كيف تكون أسعد الناس بقربي في الحرام مع
الخسارة وبذل المال لهذه القوَّادة الملعونة ولا تكون أسعد الناس في الحلال مع حفظ
المال.
ألا فليعلم أهل طرابلس الشام ومن على شاكلتهم من المتعرضين لإنشاء البغاء
في بلادهم أنهم إذا لم يتداركوا هذا الأمر قبل ثباته واستقراره فإن أعراضهم على
خطر وأن ما عندهم من الغيرة والحماسة الآن سيكون في أول العهد بهذا البلاء سببًا
لسفك الدماء ثم تضعف الغيرة رويدًا رويدًا حتى تكثر القيادة والدياثة كما في جميع
البلاد التي فشا فيها البغاء والبشر متشابهون في الاستعداد لذلك والعلل مربوطة
بمعللاتها والأسباب موصولة بمسبباتها.
إن الغيرة على الأعراض في مثل طرابلس الشام شديدة عند جميع طبقات
الناس حتى إن أجهل الجاهلين وأفسقهم ليندفع إلى قتل من يعلم أنه اعتدى على
عِرْض أيَّة امرأة من عشيرته بلا مبالاة ولا حذر من العاقبة فإذا استقر أمر هؤلاء
المومسات اللواتي فتحْنَ باب البغاء في هذه البلدة وترتب على ذلك أثره الطبيعي من
فساد البيوت وابتذال الأعراض فلابد أن يكثر سفك الدماء فيها، فهل تفكر العلماء
والفضلاء وأهل الغيرة والنجدة في هذه العواقب ولم يبالوا بها أم هم عنها غافلون؟
يغلب على ظني أنه لو جمع بعض العقلاء فتيان البلد الشجعان (الأبضايات)
وبين لهم أن هذه الفتنة ستكون سببًا لتهتك الأعراض وسفك الدماء وفساد الصحة
وإضاعة الأموال لسبقوا العلماء إلى السعي في منعها وتلافي شرها قبل تمكنها
ورسوخه.
إنما أخرت الإشارة إلى ذهاب المال لأنه في نظر أهل وطننا دون العرض
والنفس ولكنهم إذا اعتادوا هتك العرض يرجحون المال فإن البلاد التي فشا فيها الزنا
كلها قد كثرت فيها القيادة والدياثة لأجل المال حتى إن الرجل لَيَتّجر بعرض امرأته
وبناته، وهذا مما يعده أكثر بلادنا من المحال الذي لا يتصور وقوعه منهم لظنهم أن
شدة الغيرة صفة من صفاتهم الطبيعية التي لا تتغير وكان غيرهم يظنون هذا الظن
الباطل ولم يشعروا ببطلانه إلا بعد موت الغيرة بفشو الفسق على أن المال عزيز
عند كل الناس في كل مكان وزمان والمحافظة على الثروة هي أساس قوة الأمم
وعِزَّتها في هذا العصر، ولست أعني بإضاعة الفسق للثروة وذهابه بالأموال ما
يتبادر إلى أذهان الأكثرين الذين أوجه إليهم هذا الخطاب من الشفقة على الشاب
الفقير الذي يضيع معظم كسبه بجعله من نصيب هؤلاء المومسات وإنما أعني ما هو
أعظم من الشفقة على هؤلاء الظالمين لأنفسهم أعني أن هذا البغاء يذهب بحظ عظيم
من مال الأمة إلى جيوب الأجانب الذين أذلوها وبَزّوا دولتها باستعلائهم عليها بالثروة
فإن معظم المومسات في الشرق من اليونان والرومانيات والنمساويات والفرنسيات
…
إلخ، وهن يرسلن معظم ما يسلبنه من فساقنا إلى بلادهن فيكون نقصًا من ثروتنا
ومزيدًا في ثروة أممهن ودولهم ولولا ما يأخذه اليونانيون واليونانيات من مصر
وغيرها من البلاد الخارجية لاضمحلت دولتهم وضعفت أمتهم بالفقر المدقع.
إن مفاسد البغاء في بلاد إسلامية صغيرة مثل طرابلس الشام ستكون أعظم
وأكثر من هذه في البلاد التي آدابها غير إسلامية وفي البلاد الإسلامية الكبيرة التي
يسهل فيها إخفاء الفسق قبل أن يخِفّ وَقْعه على الجمهور بالاعتياد الذي يضعف
الدين ويفسد الفطرة، فلا يمكن بيان تلك المفاسد بالتفصيل في مقالة أو مقالات قليلة
وإني لأعجب من سكون حَمَلَة الأقلام في طرابلس عن ذلك وعن حفز الهمم لمقاومته
وحثها على تلافيه كما أعجب من ضعف العلماء والفضلاء في المطالبة بمنع هذا
المنكر.
هذا وإنني قد بلغت خبر ما حل بطرابلس مولانا شيخ الإسلام وهو الذي
عرفت منه النجدة والغيرة فإذا شكا أهل هذه البلدة إلى الحكومة الإدارية ولم تُشْكِهم
فليرفعوا الأمر إليه وأنا الضمين لهم بأنه يأخذ بيدهم ولعله عهد إلى نِظارة الداخلية
بوجوب الاهتمام بسماع شكوى الأهالي في مثل منع هذه المنكرات فيجب على أهل
طرابلس أن يكونوا قدوة صالحة لغيرهم في الخير ولا يكونوا قدوة سيئة لهم
بالسكوت على مثل هذا المنكر الذي سيحل بهم مثلهم والله الموفِّق والمعين.
_________
الكاتب: محمد توفيق صدقي
حجاب المرأة في الإسلام
محمد أفندي توفيق صدقي
(1)
تباينت آراء الناس في مسألة الحجاب في هذه الأيام، وكثرت فيها مناقشات
الكتاب، فمنهم من ضلّ الطريق، ومنهم من هدي إلى سواء السبيل، ولما كانت
هذه المسألة من أكبر مسائلنا الاجتماعية الحاضرة، رأيت أن أفيض القول فيها
وأمحِّصها تمحيصًا ينبلج به الحق، وينقشع به الباطل، مؤيدًا قولي بالحجة العقلية
والبرهان ومعززًا له بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وآي القرآن الكريم
فأقول:
الحجاب عادة قديمة موجودة قبل الإسلام وبعده وعند أمم لم تعرف من هذا
الدين الكريم شيئًا فلم يكن الإسلام موجده ولا مؤيده، وهو الآن عند المسلمين يكاد
يكون قاصرًا على نساء الطبقة الوسطى والعالية، وقد خرج في هذه الأيام الأخيرة
عن معناه الحقيقي، وأصبح ضربًا من ضروب الزينة والتبرج، تظهر به النساء
كاسيات عاريات، مظهرات لمحاسنهن مخفيات لعيوبهن، فهن يخدعن به الرجال،
ويغررن الناظرين بتلك المظاهر المرونقة الكاذبة التي لولاها ما بالى أحد بالنظر إلى
تسعة أعشارهن ولا وجه مفتون عينه إليهن. ولا أعلم أن أحدا من العقلاء يستحسن
هذا الحجاب الكاذب أو ينتصر له، ولا أظن أن غيرة الرجال تلتئم معه، أو تقنع به
فليس الخلاف بين العقلاء في أمر هذا الحجاب الحالي، وإنما خلافهم في الحجاب
الحقيقي، وهو ستر المرأة وجهها وكفَّيْها عن الأجانب عنها، فيقول قوم: إنه نافع
ومفيد وإن الدين يأمر به، ويقول آخرون: إنه ضارّ لا فائدة فيه وإن الدين بريء
منه، وكلا الفريقين يؤيد رأيه بالأدلة، والحق يقال: إن دلائل الفريق الأول
سفسطة باطلة، ودلائل الفريق الثاني يقينية قاطعة، ولولا خوف التطويل لسردنا
دلائل الأولين، وأدحضناها بالبرهان المبين، ولكنا نكتفي بذكر دلائل الآخرين،
فإنها هي الحق اليقين، وليس بعد الحق إلا الضلال المبين. أما مضار الحجاب فهي
كثيرة متنوعة تأتي هنا على بعضها:
أولاً: إن الحجاب يحول دون انتخاب الرجال لأزواجهم، فيجعل الزواج تابعًا
للصدفة والاتفاق بدلاً من الاختيار والانتخاب، فمن أسعده حظه صادفته امرأة حسناء
توافق مشربه وهواه، ومن أشقاه وقع في قبيحة شوهاء، لا يمكنه أن يقيم معها إلا
على البغضاء والشحناء؛ فيكثر بينهما الشقاق، المؤدي إلى الطلاق، أو تعدد
الزوجات، ولا يخفى ما يجرّه علينا ذلك من المصائب الاجتماعية والأخلاقية
والدينية؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لأحد الأنصار وكان قد خطب امرأة:
(أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤْدَم بينكما) والنظر
إلى النساء لأجل الزواج لا يتفق بحال من الأحوال مع الحجاب؛ فإننا إذا كشفناه
عنهن لمن يريد الزواج لعرَّضناهن للخجل والاستحياء والسخرية والازدراء،
ولأصبحن كالسلع في الأسواق تتناوبهن أعين المشترين، وهو أمر تنفر منه الطباع
السليمة وتأباه المروءة، ولا يتفق مع كرامة المرأة في شيء فتقع في حضيض الذل
والإهانة وتتعرض لهزء الهازئين. وسخرية الساخرين العابثين بالأعراض، وللعب
الشبان الفاسقين ولا دواء لهذه الأمراض سوى سفور النساء للرجال في جميع
الأحوال، واتخاذ ذلك عادة لهم حتى تتقي أمثال تلك المعائب والمضارّ التي تنشأ
للمتزوجين والمتزوجات من الحجاب، ولا يخفى أن إصلاح مسألة الزواج عليها
إصلاح البيوت وإصلاح الأمة بأسرها.
ثانيًا: إن الحجاب يكثر من حوادث التزوير في سائر العقود كما لا يخفى،
وهو عقبة كَؤُود في سبيل صحتها وفي الشهادة والمحاكمة، فكم من امرأة سُلِبَتْ
أموالها بسبب الحجاب؟ وكم من فتاة عقد عليها بدون إذنها وكان المتكلم غيرها من
وراء ستار؟ وكم من نساء رُمِِينَ بالإفك والبهتان من غير علمهن وهن مُحْصَنات
غافلات؟ وكم من شاهدة زورًا تخفي خجلها أمام أعين القضاة بالبرقع والنقاب،
وتفتري الكذب ولا يُعْلم من أمرها شيء، إلى غير ذلك من الرزايا والمصائب التي
جرها علينا الحجاب، وإني والله لأعْجَب غاية العجب؛ كيف يصح العقد على فتاة
لم ترها ولم ترك، وربما إذا نظر أحدكما للآخر اشمأز منه ونفر، فكيف بعد ذلك
يمكننا أن نقول: إن الرضى حصل بين الطرفين مع أنه رضى باللسان فقط، وكل
منهما يوجس خيفة من منظر الآخر، على أن الرضى اللساني أيضًا في كثير من
الأحوال لا يحصل من جانب الفتيات، ويكون صادرًا من إحدى قريباتهن كما هو
معروف.
ثالثًا: إن الحجاب يفسد صحة النساء ويمنعهن من الرياضة البدنية، ومن
استنشاق الأَهْوية النقية في الأماكن الصحية، فتسوء بِنْيتهن، وتكثر أمراضهن
وتعتلّ صحتهن، ويلدن المعلولين والمعلولات.
رابعًا: إن الحجاب لا شك أنه أكبر مانع لإتمام التربية والتعليم والتهذيب،
وعائق لتثقيف عقل المرأة وتوسيعه وتكبيره بالتجربة وممارسة الأعمال ومخالطة
الرجال في بعض الأحيان في اجتماعاتهم الصالحة؛ كالتي تحصل في المساجد
للصلاة ولتعليم الدين، ومانع لها من مشاهدة المناظر الطبيعية، وبدائع الاختراعات
الصناعية، فيبقى عقلها ضيقًا، وذهنها فارغًا، ومخّها خرقًا خاويًا، فلا تبثّ في
أذهان بنيها وبناتها سوى الأضاليل والتُّرَّهات، والخرافات والخزعبلات، فتفسد
عقولهم وآدابهم وأخلاقهم. ولا يخفى أن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر؛
ولذلك يصرف الواحد منا وقتًا طويلاً وتعبًا كبيرًا؛ لتطهير عقله مما زرعته فيه أمه
الغبية الجاهلة منذ طفوليته ونشأته، ومن كان في شك مما أقول فما عليه إلا أن
يقارن بين عقول نسائنا وأبنائنا ليتضح له صِحّة ما أقول. وقد علمتُ بالاختبار أن
جمهور البنات اللاتي يأخذن الشهادات من مدارسنا لا تمتاز عقولهن بعد الحجاب عن
البنات الجاهلات إلا شيئًا يسيرًا، فإن مَدارك أكثرهن تجدها قاصرةً ضيقةً مفعمةً
بالأباطيل والتُّرَّهات والأوهام والخرافات، معجبةً بما تعلمنه من القشور الفارغات.
خامسًا: إن الحجاب يمنع الفقيرات أو غير المتزوجات من الحصول على
أقواتهن إلا بشق الأنفس، ويضيق عليهن أنفسهن ويعسر عليهن الأعمال أو
الاشتغال بأي عمل يكتسبن منه رزقهن؛ من نحو خدمة أو صناعة أو زراعة أو
تجارة، لا يخفى ما يجلبه البرقع على التاجرات مثلاً (والتجارة أخف شيء يمكن
عملهن به) من الضيق والحرّ والعَرَق والإضرار بالصحة وعسر الحركة، والله
تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) .
سادسًا: إن الحجاب كثيرًا ما يحرم الرجل لذة الخروج مع زوجه وأولاده
واصطحابهم في رياضاته وأوقات فراغه، ويمنعهم من مشاركته في أنسه ولذاته،
وهي أمور ضج منها المجربون؛ فنشأ عن ذلك كثرة هجران الرجل لزوجته وأولاده
وعدم اجتماعه بهم إلا وقت نومهم، وهو يقضي معظم وقته في الأماكن العمومية
(كالقَهْوات) بين الميسر والخمر والفسق والسعي في اصطياد الغواني، مع أنه لو
خرج مع زوجته لتمتع كل منهما بالآخر، ونال كل منهما حظه من لذة الحياة
والائتناس برفيقه ومشاهدة المناظر الطبيعية والصناعية، واكتفى كل منهما بالآخر
واستفاد من حديثه، وامتنع الرجل من النظر لغير امرأته، وامتنعت هي من النظر
إلى غير زوجها؛ لحياء الواحد منهما من الآخر وخشيته ومراقبته لوجوده معه، ولا
يخفى على أحد فوائد ذلك من الوجهة الأدبية والاجتماعية، وقد كان صلى الله عليه
وسلم يخرج مع بعض نسائه إلى الأماكن الخلوية؛ لاستنشاق الهواء النقي
ولمسابقتهن جريًا والمزاح معهن بالقول الحسن.
سابعًا: إن البرقع أو النقاب المستعملين الآن مما يشوق النفوس لرؤية ما تحته
فإن ألذ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَ عنه، فهو يحمل أهل الفسق والفجور على
التعرَّض للنساء في الطريق ومغازلتهن، والسعي في كشف سترهن كما هو حاصل
الآن بكثرة، فإن أنواع البراقع تظهر عادة الأعين والحواجب، وهي في أغلب
النساء جميلة؛ فيغترّ الناظر ويظن أن باقي الوجه جميل مع أنه قد يكون منفرًا إذا
كشف جميعه؛ لذلك قيل في أمثلة العامة: (إن البرقع غشاش) وقد سمعت من
بعض الشبان الفاسقين أن أحدهم يسعى وراء المرأة المتبرقعة زمنًا طويلاً،
ويصرف مالاً كثيرًا في الحصول عليها وتعبًا كبيرًا، حتى إذا نجح معها وقادها إلى
إحدى دور الفسق وكشفت عن وجهها نفر منها وندم على ما فعل، وحاول أن
يخلص منها بكل وسيلة، ولولا الحجاب ما اغتر هذا الغرور بكل واحدة؛ ولذلك
تكثر مداعبة النساء المتبرقعات في الطرق من الرجال وتقل مداعبة السافرات؛ لأن
الجمال الحقيقي قليل جدًّا، والنقاب يزين جميع النساء للرجال، ويوهمهم أنهن كلهن
جميلات، فهو كالشيطان يغري الإنسان ويحمله على الفسوق والفجور. هذا، وإن
تعود الرجال لرؤية جمال النساء يقلل من التأثر بهن والافتتان بحسنهن، والإنسان
المتعود على ذلك يملك نفسه أكثر ممن لم يتعود، والخلاصة أن الحجاب منبع
الرذائل، والسفور أصل الفضائل، ولا شك أن الحجاب هو السبب الوحيد في أكثر
ما وقعنا فيه من المصائب والرزايا والبلايا. ولا أعلم له من فائدة واحدة سوى غيرة
الرجال الكاذبة من رؤية غيرهم لوجوه نسائهم، مع أن الرؤية لا ضرر فيها ولا
ضرار، والقول بأن الحجاب الحقيقي يقلل من الزنا إذا سلم، فهو مدفوع بأن الزنا
يمكن تقليله بوسائل أخرى؛ كالتي أتى بها الدين الإسلامي الحنيف (وسيأتي بيانها)
من غير أن يكون لها من المضار ما للحجاب مما سبق بيانه، وهي إذا اتبعت تمامًا
فإن الزنا يكاد يمحى من الوجود، وهذه الوسائل تنحصر في ثلاث مسائل، وهي:
1-
التربية الدينية.
2-
وإقامة الحدود مع الترغيب في الزواج وتيسيره.
3-
والإتيان بآداب للرجال والنساء.
وسيأتي ذكرها تفصيلاً، وليس من بينها الحجاب؛ لأن ضرره أكثر من نفعه
ويمكن الاستغناء عنه بأشياء أخرى غيره، وإليك الدليل:
أجمع علماء المسلمين وأئمتهم على أن الوجه والكفَّين ليسا بعورة في الصلاة
وأن كشفهما غير مبطل لها، وعلى ذلك جرى عملهم من عهد الرسول صلى الله
عليه وسلم إلى اليوم، وقال ابن جرير في تفسيره (إن للمرأة أن تبدي من بدنها ما
لم يكن عورةً كما أن ذلك للرجال؛ لأن ما لم يكن عورةً فغير حرام إظهاره) ،
وحكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها وكفَّيْها في
طريقها وعلى الرجال غض البصر عنها، وقال: إن ذلك إجماع المسلمين، وروي
عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه
وسلم وعليها ثياب رِقاق فأعرض عنه، وقال: (يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت
المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا) وأشار إلى وجهه وكفيه، ولذلك أبيح
لنساء المسلمين أن يحضرْنَ صلاة الجماعة في المساجد وهن مكشوفات الوجوه في
زمن رسول الله وزمن أصحابه وأتباعهم. وأوجب الدين الإسلامي على المرأة أن
تكشف وجهها في الحج مدة الإحرام كلها، بحيث يبطل حجها إذا هي غطت وجهها،
والإحرام مدته طويلة فتبقى فيه النساء مختلطات بالرجال في سائر مواقف الحج
وهن كاشفات لوجوههن، فلو كان في ذلك مفسدة لما أوجبه الإسلام وقرره، ولو
فتشت القرآن من أوله إلى آخره والأحاديث الصحيحة، لَمَا وجدت فيهما أمرًا واحدًا
يوجب ستر المرأة وجهها وكفيها بل بالعكس، نجد أن القرآن يستثنيهما في قوله:
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) كما عليه إجماع المفسرين.
وقد عدل عن الأمر بتغطيتها إلى تغطية غيرها في قوله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31) ، أم استشهادهم على الحجاب بآية {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ
مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53) فسيأتي بيان معناها على أن
هذه الآية هي الآية الوحيدة التي ذكر فيها لفظ الحجاب وسترى أنها لا تنهض بها لهم
حجة.
ولم يرد في القرآن الكريم مطلقًا ذكر للتبرقع والانتقاب أو ما في معناهما
ولو كانا واجبين لورد ذكرهما مرة واحدة بل مرارًا كثيرة، وإذا كانت نساء
المسلمين في عصر التنزيل محتجبة، فما معنى قوله:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} (طه: 131) وقوله: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) وقوله: {وَلَوْ
أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب: 52) فكيف يُعْجبه حسنهن وهو لا يراهن؟ وما
فائدة عدم مد الأعين إليهن وغض النظر عنهن وهن محتجبات.
(البقية تأتي)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) بقلم الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي.