المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أيصومون ولا يصلون وهم مؤمنون - مجلة المنار - جـ ٥

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (5)

- ‌غرة محرم - 1320ه

- ‌فاتحة السنة الخامسة

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌الكتاب الموعود بنشره

- ‌علم تلامذة العرب وبلاغتهم

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌حرية الجرائد والشعور العام بالفضيلة في مصر

- ‌16 محرم - 1320ه

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌القرآن والكتب المنزلة

- ‌الاجتماع الثاني - الداء أو الفتور العام

- ‌التعليم الذي ترتقي به الأمة

- ‌مقدمتنا لكتاب أسرار البلاغة

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌غرة صفر - 1320ه

- ‌لا وثنية في الإسلام

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌الإسلام في إنكلترا

- ‌(إلى الأغنياء)

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الحريق في ميت غمر

- ‌16 صفر - 1320ه

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌الاجتماع الثالثالداءأو: الفتور العام

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قوانين التعليم الرسمي والجمعية العمومية

- ‌شهادة مفتي الديار المصريةلكتاب أسرار البلاغة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌غرة ربيع الأول - 1320ه

- ‌آثار محمد علي في مصر

- ‌أميل القرن التاسع عشر [*]

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 ربيع الأول - 1320ه

- ‌شروط الواقفينوعدم التعبد بكلام غير المعصومين

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أأحياها محمد علي وأماتها خلفه

- ‌مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم

- ‌غرة ربيع الثاني - 1320ه

- ‌إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

- ‌الملائكة والنواميس الطبيعية

- ‌أميل القرن التاسع عشر [*]

- ‌الاحتفال السنوي بمدرسة الجمعية الخيريةوخطبة المفتي

- ‌تتمة سيرة الكواكبي

- ‌16 ربيع الثاني - 1320ه

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌فرنسا والإسلام

- ‌نموذج من كتاب دلائل الإعجازللإمام عبد القاهر الجرجاني

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌غرة جمادى الأول - 1320ه

- ‌الزواج وشبان مصر وشوابُّها

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 جمادى الأولى - 1320ه

- ‌الأزهر والأزهريون - وفاضل هندي

- ‌أفكوهة أدبية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌قصص (روايات) مجلة الهلال

- ‌مسيح الهند

- ‌غرة جمادى الآخر - 1320ه

- ‌الاضطهاد في النصرانية والإسلام

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌إيمان المسلمين وأعمالهم

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 جمادى الآخرة - 1320ه

- ‌الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مثال من أمثلة تسامح الإسلاموضيق صدر المسيحية

- ‌ الأخبار والآراء

- ‌غرة رجب - 1320ه

- ‌الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية

- ‌الإسلام اليومأو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام

- ‌الاجتماع السادس لجمعية أم القرى

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌الإسلام والدولة البريطانية

- ‌مثال من أمثلة طفولية الأمة

- ‌محادثة بينصاحب جريدة الحاضرة ورئيس تحرير جريدة فرنسوية

- ‌مثال من أمثلة تعصب النصرانية على العلم

- ‌سخافة بشائر السلام في الجاهلية والإسلام

- ‌16 رجب - 1320ه

- ‌الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية

- ‌الوفاق الإسلامي الإنكليزي

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الاحتفال بافتتاح مدرسة بني مزار

- ‌تتمة سيرة السنوسي

- ‌مشروع مجلة الجامعة الاقتصادي

- ‌غرة شعبان - 1320ه

- ‌الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌الأزهر والأزهريون، وفاضل هندي

- ‌رسالة الكسائي في لحن العوام

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 شعبان - 1320ه

- ‌المستقبل للإسلام

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌غرة رمضان - 1320ه

- ‌أيصومون ولا يصلون وهم مؤمنون

- ‌الأخبار والآراء

- ‌(كيف يكون المستقبل للمسلمين)

- ‌16 رمضان - 1320ه

- ‌مسير الأنام.. ومصير الإسلام

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌الاجتماع السابع لجمعية أم القرى

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مقدمة كتاب الإسلام والنصرانية

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 شوال - 1320ه

- ‌رأيٌ في علم الكلام، وطريقةٌ في إثبات الوحي

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌الاجتماع الثامن لجمعية أم القرى

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية

- ‌التقريظ

- ‌إعجاز أحمديأو سخافة جديدة لمسيح الهند

- ‌الأخبار والآراء

- ‌غرة ذو القعدة - 1320ه

- ‌الإسلام دين العقل

- ‌الاجتماع التاسع لجمعية أم القرىويتبعه الاجتماع 10 و 11

- ‌أحوال العالم الإسلامي

- ‌16 ذو القعدة - 1320ه

- ‌رد الشبهات عن الإسلام

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌مسألة الشيخ محمد شاكر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌غرة ذو الحجة - 1320ه

- ‌مسألة النساء

- ‌إحياء الإسلام لمدينة اليونان والرومان والمصريين

- ‌لاحقة سجل جمعية أم القرى

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌16 ذو الحجة - 1320ه

- ‌رأيٌ في إصلاح المسلمينأو رأيان

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌وصية بطرس الأكبر قيصر روسيا

- ‌التقريظ

- ‌الأخبار والآراء

- ‌خاتمة السنة الخامسة للمنار

الفصل: ‌أيصومون ولا يصلون وهم مؤمنون

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أيصومون ولا يصلون وهم مؤمنون

؟

إذا كان الله تعالى قد منحنا الدين ليهدينا به إلى سعادة الدارين ومنافع الحياتين

فلا غرو أن يكون لكل عبادة فيه وجهان: أحدهما روحاني ينظر إلى توثيق عقدة

الإيمان وتهذيب الأخلاق، والآخر اجتماعي دنيوي ينظر في إحكام عُرى الارتباط

بين المؤمنين العابدين لتتأكد أخوّتهم. وتُبرم جامعتهم، وتتحقق وحدتهم، وقد

اهتدى علماء الاجتماع في هذه العصور إلى وجوب توحيد عادات الأمة؛ لأن

الوفاق كلما كثر وتعدد ما به يكون اشتدت الأواخي وأمنت التراخي حتى يكون

مجموع الأفراد كالشخص الواحد. فتراهم قد اتفقوا في أنواع العادات فهم يلبسون

زيًّا واحدًا ويأكلون في وقت واحد ويتنزهون في وقت واحد كما يتعلمون على طريقة

واحدة ويتربون على مثال واحد، وبهذا صاروا كأنهم أهلُ بيت واحد يتعاطفون

ويتعاضدون؛ بل صاروا في مجموعهم كالجسد الواحد كما ورد الحديث في وصف

المؤمنين.

الصوم والصلاة عبادتان علَّمَتَا المسلمين الأولين مراقبة الله تعالى والتوجه إليه

وطلب مرضاته فصلحت نفوسهم وسمت هممهم وتهذبت أخلاقهم وعَلَّمَتَاهُمُ الاجتماعَ

في أوقات معينة والأكل في أوقات متفقة فأرشدتهم إلى النظام وطرق الوحدة

فصلحت أحوالهم باطنًا وظاهرًا فكانوا كما قال الله تعالى في خطابهم:

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) أو كالبنيان يشدُّ

بعضه بعضًا كما ورد في الحديث.

مضت سُنّة الأولين من أهل الملل أن الدين يضعف فيهم ويَضْمَحِلّ على هذا

النحو؛ تزول حقيقته المعنوية أولاً ثم تزول بعدها صورته الظاهرة بالتدريج.

الجسد الحيّ بقاؤه ببقاء روحه فإذا أُزْهِقَتِ الروحُ منه أسرع إليه الفساد ثم التلاشي

والاضمحلال. وإنما تَزْهَقُ روح الدين بأمراض تُعُرِّضَ لها بعد فَقْدِ الأطباء

الروحانيين أو إهمال خواص الأمة لهم وتركهم طبَّهم لأرواحهم عند مرضها.

والسبب في رغبة هؤلاء عن مداواة نفوسهم هو أن الأمراض التي تلّم بهم مستلذة؛

بل هي لا تعدو الإفراط في اللذة مع الجهل بالعافية وما وظيفة الدين إلا هداية

الإنسان إلى موقف الاعتدال في استعمال قواه الفكرية والنفسية لتبقى فطرته سليمة

معتدلة.

الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن سلطانها على الروح أعلى، وجذبها إياه إلى

عالم القدس أقوى، ولأن تأثيرها في جمع القلوب والتأليف بين الأفراد أبلغ،

وإشعارها نفوس الطبقات المختلفة معنى المساواة أشد.

الصيام يُذكّر النفس بالسلطان الإلهي عندما تُعْرَضُ لها الطيبات في النهار

فترى أنها ممنوعة منها بأمر الله تعالى شأنه وعند الفطر والسَّحُور إذا تذكّرت أن

تغيير مواقيت الأكل إنما كان لتحقيق هذه العبادة التي فرضها البارئ جل جلاله على

عباده ترويضًا لأرواحهم وجسومهم وتعويدًا لهم على حكم قواهم النفسية كيلا تَفْرُطَ

عليهم وتطغى ليستعدوا بذلك كله لتقواه جلّ وعَلا. وأما الصلاة فكل قول من أقوالها

وكل عمل من أعمالها فهو ينفخ هذا الروح الحي فيمن يُقيم الصلاة لا في كل مَن

يُصلي؛ لأن فصلاً بعيدًا بين إقامة الشيء على وجهه وبين الإتيان بصورته

كالفصل بين خَلْق الإنسان وبين رَسم صورته على لوح أو جدار.

إذا قال مقيم الصلاة: الله أكبر، أعطته هذه الكلمة من تجريد التفضيل في

التكبير أن الله تعالى أكبر مِن كل ما يوجد ويُتصور فيطمئن قلبه بالتنزيه وتستولي

عليه هيبة الكبرياء والعظمة، ثم إذا قال: وجهت وجهيَ للذي فطر السموات

والأرض (وهو مستحضرٌ أنه يعبر عن توجه قلبه، إلى حضرة معرفة ربه)

فإن نفسه تسمو عن الالتفات إلى الدنايا، وتسمو عن الاشتغال بالخسائس، حسبك

من الصلاة ما تعطيه هاتان الكلمتان، فكيف بك إذا تدبرت سائر الأذكار والتلاوة

وفقهت أثر ذلك القيام والقعود، والركوع والسجود؟ كأني ببعض المكابرين الذين

يحكمون على الدين وتأثيره بما يجدون في أنفسهم وما يعرفون من حال معاشريهم

والعائشين معهم يقولون: إنْ هذه إلا معاني مخترعة، وأسرار مبتدعة، وخواطر

سانحة، وموازين غير راجحة. وعذرهم في ذلك: الحرمانُ، وعدم تدبر سيرة

الذين سبقونا بالإيمان، ومن ذاق عرف، ومن عرف وصف، ولست واقفًا هنا

موقف المناظر، ولم أقصد بهذا القول إقناع المكابر، وقد سبق للمنار القول في

بيان فوائد الصوم النفسيّة والبدنية والاجتماعية (فليراجع في المجلدين الثاني

والرابع) وكذلك القول في فوائد الصلاة، إنما نريد الآن أنْ نذكُر أمرًا غريبًا في

التصور ولكنه واقع شائع وهو أن كثيرًا من الناس يصومون رمضان ولا يصلون

إلا في رمضان أو لا يصلون مطلقًا.

الصوم من آيات الإيمان فلا يجامع الكفر والجحود، ولكن كيف يكون المرء

مؤمنًا بدين ثم هو يستبيح ترْك أفضل عباداته وآكد فرائضه وأعظم شعائره، وما

هي علة هذا الترك المطلق، والإهمال المستغرق إذا كان الإيمان هو الذي بعث ذلك

الصائم على الصوم، فلماذا لم يَدُعُّهُ دَعًّا إلى الصلاة التي تلي الإيمان في المرتبة؟

أيتصور أن يكون لعلة واحدة معلولات فتوجد ويتخلّف عنها أول تلك المعلولات

وأَوْلاها، ثم يوجد أضعفها وأقصاها، هذا موطن مِن مواطن العجب، ولا بد من

بيان السبب، قد يقال: إذا كان ترك الصلاة لا يجامع الإيمان وترك الصيام لا

يجامع الكفر فلا بد أن يكون مَن يصوم ولا يصلي في مرتبة بين المؤمن الصادق

والكافر المارق، وهو ما كانوا يدعونه المنافق، فهو مرتاب يصوم لاحتمال صحة

الدين، ولا يصلي لفقد اليقين، ويمكن أن يقال: إن صوم مثل هذا ليس من ثمرات

الإيمان، وإنما هو مجاراة للأهل والجيران، فهو عادة لا عبادة. ولو تركه

المعاشرون والأقران، لما بعث عليه القرآن، ولذلك ترى الذين لا يبالون بالعادات

لقوة عزائمهم في العمل بما يعتقدون قد تركوا الصوم فهم يحاربون الدين جهرًا ولا

يحترمون أهله ولا يجاملونهم مِن حيث هم به مستمسكون. ويصحّ أن يقال: إن مِن

تاركي الصلاة المارق، ومنهم المنافق، ومنهم مَن يتركها لمرض الجهل والكسل لا

لمرض الارتياب أو الجحود. ولذلك يصوم هذا صومًا حقيقيًّا يفيده تقوى الله تعالى

في أمور كثيرة فهو يظمأ ويَصْدَى ولا يشرب في خلوته لعلمه بأن الله تعالى يراه

ولا يرضى له أن يكون ضعيف النفس مغلوبًا لشهوة الماء يعصي الله لأجلها. فإن

لم يلاحظ مثل هذا بالتفصيل فلا أقل مِن الإجمال.

أما الجهل الذي يساعد الكسل على ترك الصلاة فهو ذو شعب كثيرة يوجد

بعضها عند أبناء العصر العتيق. يقول أبناء العصر الجديد: إن الله تعالى لا يُعَذِّبُ

الناس إذا قصّروا في عبادته؛ لأن الدين لا يصح أن يكون عقوبة للبشر وإنما

فرضت الصلاة لتعين على تهذيب النفس ونحن قد تهذبت نفوسنا فلا نرضى لأنفسنا

أخلاق هؤلاء المصلين الذين فشا فيهم الكذب والغش والزور والطمع والدناءة. إلخ.

قول اشتبه حقه بباطله ومسلك الجهل فيه دقيق، ولنا أن نقول لهم صدقتم في

قولكم: إن الدين لا يصح أن يكون عقوبة بل هو رحمة من الله تعالى، قال تعالى

لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقال في خطاب

المتكلفين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220) ولكنه لم يشأ فله الحمد

والشكر. وقال جل ثناؤه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) وفي معناه قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ولكن العقوبة على ترك الصلاة ليست من الحرج وإنما هي من

الرحمة، فإن الصلاة منفعة وترك المنفعة ضارّ؛ لأنه وقوع في الضد وهي واقعة

في الدنيا ومعقولة فمن الجهل الارتياب فيها، ألا ينظر هؤلاء القائلون في

صنفهم والذين تعلموا وتربوا مثلهم كيف تفتك فيهم الفواحش المنكرات فتذهب بمالهم

وبصحتهم وتُكَبِّلُ بلادهم بالسلاسل والأغلال وتسلمها إلى الأجانب. وإذا

وجد فيهم أفراد ساعدهم الاستعداد الفطري وما يسمونه (الظروف) والوراثة

الطبيعية لسلفهم المصلّين على تهذيب نفوسهم فهل استغنوا بهذا التهذيب الذي

امتازوا به على العدد الكثير مِن أمتهم المريضة عن تكميل نفوسهم بمناجاة الله

تعالى؟ أليس لكل واحد منهم أمراض نفسية لو أقام الصلاة لوجد فيها شفاءها؟ منهم

الهَلُوعُ الذي يَجْزَعُ لكلّ شر يصيبه حتى كأنه امرأة ضعيفة أو طفل صغير، والذي

إذا أصابه الخير أمسكه عن إعانة الضعيف وإغاثة للهيف، بل الذي لا يخرج منه

الحق الثابت عليه إلا نكدًا. وإذا فرضنا أن جهله بحقيقة نفسه وحقيقة الصلاة زيّن

له عدم حاجته إليها ولو لِشُكْرِ اللهِ تعالى وحِفْظِ شعارِ الدين الذي ينتمي إليه فهل

يُزينُ له أيضًا أنّ أهله مِن زوجة وبنينَ وبناتٍ في غنى عن هذه الصلاة؟ وإذا لم

يكونوا في غنًى عنها، فهل يرى أن إقامتهم إيّاها من الأمور السهلة إذا كان هو

لا يصلي، أما صلاة فاسدي الأخلاق الذين يتمثل بهم هؤلاء فهي شبيهة بصيامهم

أي إنها محاكاة وتمثيل لهيأة الصلاة الظاهرة.

وجملة القول في جواب هؤلاء أن اعتذارهم بعدم العقوبة على ترك الصلاة

غير سديد وأنهم لم يفهموا معنى العقوبة على تركها، ولو فقهوا تأثيرها في النهي

عن الفحشاء والمنكر لفقهوا معنى كونها رحمة تزكي النفس فتفلح في الدنيا والآخرة.

وكونِ تركها نقمة تُدَسِّي النفس وتسهل لها سبل الفواحش والمنكرات فتسلكها

فتخسر في الدنيا والآخرة. لو تأمل المتأمل المؤمن بالله معناها وما وصفها به

الكتاب العزيز لفقه ذلك ولو علم أنها الآية الكبرى في انقلاب أحوال مسلمي الصدر

الأول وتبدل أخلاقهم وسجاياهم لَفَقِهَ ذلك، ولو كان عندنا اليوم عدد من مقيمي

الصلاة لاستغنينا عن هذا وذاك في تعليم الجاهل وتنبيه الغافل وإقناع المجادل. هذا

ما يقول لنا أبناء العصر الجديد وما نقول لهم الآن بالإيجاز وإنَّ لنا لعودة نفصِّل

فيها القول تفصيلاً إن شاء الله.

وأما أبناء العصر العتيق فإنّ لهم مِن الضلال في فهم الشفاعات والمكفرات

والانتساب إلى أصحاب الأضرحة والمقامات ما يصرفهم عن إقامة الصلاة، ويغلّ

أيديهم عن أداء الزكاة، فكيف إذا أضافوا إلى ذلك الغرور بالله والتشدق بذكر الرحمة

والمغفرة. وقد كشفنا من قبل جميع هذه الشبهات وأنَّ أكبرَ آية على ضلالهم في

فهمهما سوء تأثير هذا الفهم فيهم حتى انتهى بهَدْمِ أركان الإسلام وتَرْكِ شعائرِهِ فكاد

ينطمسُ مَبناه بعدما جهل معناه؛ ولكن خطباء الفتنة وعلماء السوء هم الذين

يروّجون هذه الأضاليل فهم قادة المقلدين، وعونهم على إضاعة الدنيا والدين، وكأنك

بغربانهم تنعق على أعواد المنابر بهذه المكفرات ومنها المكذوب على الله ورسوله

كقولهم: (إن الله يعتق في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق مِن النار، فإذا كان

آخر ليلة منه أعتق بقدر ما مضى) . وأمثال ذلك، وفي أقوالهم ما تصح روايته ولكن

الفساد في جهل معناه، لذلك نرى أكثر العامة يصومون ولا يصلون ولا يزكّون،

ومنهم الذين لا يحلّون ولا يُحرمون.

الصوم أسهل على النفس مِن المحافظة على الصلاة ومِن إيتاء الزكاة فهو

الرسم الباقي عند أكثر المسلمين فإذا دَرَسَ (والعياذُ بالله تعالى) كان دروسه خطرًا

كبيرًا على الرابطة الإسلامية؛ لهذا نرى أن الذين يجاهرون بالإفطار في رمضان

مِن المسلمين الجغرافيين أشد فتكًا بالإسلام والمسلمين مِن كل مخالف يطعن بعقائدهم

أو يستأثر بسياستهم؛ ومن العجيب أن يوجد فيهم من يتشدّق بكلمة الوطن أو الأمة،

وأعجب العجب أن بعضهم يذكر الإسلام ويُظهر أنه يتمنى عزته ويحاول خدمته.

إذا كان تارك الصلاة إنما يتركها تثاقلاً من مقدماتها وشروطها وتكرارها فأنا

أدلّه على ما يذهب بثقل هذه الأمور كلها ويُسهِّل عليه ما عَسَّره اختلاف الفقهاء،

وإنما يكون ذلك بالرجوع إلى أصل الدين، والعمل بما اتفق عليه جميع المسلمين،

فأما الطهارة فالغرض منها النظافة وهي مما يرغب فيه كل كريم النفس ويتحراه

بحسب استطاعته، وأما كون التنزه عن القليل مِن النجاسة والكثير شرطًا لصحة

الصلاة فما اختلف فيه السلف الصالح والائمة المجتهدون فليتحرَ الإنسانُ التنزه

احتياطًا إلا إذا عسر عليه، ولهذا يحتاط لقول بعض الفقهاء حتى يترك الصلاة

احتياطًا ولا يعمل بقول مَن لا يرى الشرطية ويقيم ركن الدين الركين احتياطًا؛ بل

إن الذين اشترطوا طهارة الثوب والبدن للصلاة قالوا: إن المشقة تجلب التيسير ولا

حرج في الدين فمن صعب عليه الاحتراز من شيء فله رخصة فيه.

وأما الوضوء فهو أسهل شيء إذا روعيت السنة ونبذت الوسوسة فقد ورد أن

النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم توضأ ولم يقع شيء من ماء وضوئه على

الأرض فيسهل على العارف بالسنة أن يتوضأ من كوب ماء (كوباية) وهو واقف

أو قاعد لا سيما إذا كان يمسح على ما يستر رجله ولو جَوْربًا مِن قطن أو صوف

فإن ذلك جائز عند كثير من الصحابة والتابعين وعليه الإمام أحمد.

وأما تعدّد الصلاة فخير لصاحب الشغل الكثير من الترك أنْ يأخذ بالحديث

الذي رواه مسلم في صحيحه والشافعي في سننه وغيرهما وهو أن النبي صلّى

بالصحابة الظهر والعصر في وقت واحد والمغرب والعشاء في وقت واحد من غير

مرض ولا سفر. وقد أوَّل أكثر الفقهاء الحديث فحمله الشافعية على وقت المطر

والمالكية على تأخير الأولى والتعجيل بالثانية ولكن في بعض رواياته عن ابن عباس

رضي الله تعالى عنهما تعليل ذلك بقوله (لئلا يحرج أمته) . فدل هذا على أن هذا

الجمع رخصة والعزيمة في أداء الصلاة في وقتها أفضل ولكن الرخصة أولى من

الترك كما هو واقع.

كل واحد مِن هؤلاء المترفين الذين يتثاقلون عن أداء الصلاة يغسل أطرافه عند

القيام من النوم، فإذا جعل ذلك الغسل موافقًا للوضوء الشرعي وصلى ركعتين شكرًا

لله تعالى وحفظًا لأفضل شعار يربطه بأمته وتعليمًا لمن يعيش معهم للدين بالعلم أو

حملاً لهم على التأسي به فأي ثقل عليه؟ ثم إذا فعل مثل ذلك في وقت الظهيرة؛ إذ

يسكن إلى الراحة أو وقت الأصيل إذا شغل وقت الظهيرة، فأي تعب في ذلك وهو

عمل لا يستغرق ربع ساعة؟ وكذلك وقت العشيّ عندما يستريح مِن عمل النهار.

أختم القول بتذكير أبناء العصر الجديد بمسألة هم أعرف بتفصيلها من سواهم.

وهي أن الأمم الحية تحافظ على عاداتها القومية وشعائرها المِلّية وإن كانت تعتقد

أنها وضعية فلا يرضى أهل الرأي منهم بترك شيء من ذلك إلا إذا تبين لهم أنه

ضارٌّ ضررًا كبيرًا لا يشفع فيه حفظ الرابطة العامة بالثبات عليه، ثم إنهم يتروّوْن

في ذلك التروّي الواجب، فما بالكم وأنتم تقلدونهم في الزي والحركة في الطريق

(لا في العمل) وفي الماعون والأثاث لا تقلدونهم في الثبات على شعائركم

والمحافظة على روابط جامعتكم؟ تعلمون أنهم ما تركوا شيئًا إلا بعد أن استبدلوا به

ما رأوه خيرًا منه، فماذا استبدلتم بهذه الشعائر الإسلامية النافعة، والروابط المِلّية

الجامعة، التي تتركونها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؟ ألا إنكم تستبدلون

الذي هو أدنى بالذي هو خير، تحلون عُرى جامعتكم التي فيها عزكم وشرفكم في

الدنيا وسعادتكم في الآخرة وأنتم لا تشعرون، فتوبوا إلى الله لعلكم تفلحون.

_________

ص: 641

الكاتب: محمد رشيد رضا

تتمة الاجتماع السادس لجمعية أم القرى

(تابع لما في الجزء 13)

ثُم قال (الأستاذ الرئيس) للخطيب القازاني: إن الإخوان يترقبون منه أيضًا

أن يفيدهم بما يلهمه الله مما يناسب موضوع مباحث الجمعية.

قال (الخطيب القازاني) : إن الإخوان الأفاضل لم يتركوا قولاً لقائل، ولذلك

لا أجد ما أتكلم فيه وإِنَّما أقصّ عليهم مساجلة جَرَت في الاستهداء بين مفتي قازان

وإفرنجيٍّ روسيٍّ من العلماء المستشرقين العارفين باللغة العربية المُولعين باكتشاف

وتتبع العلوم الشرقية ولا سيما الإسلامية، وقد هداه الله إلى الدين المبين فاجتمع

بمفتي قازان وقال له: إنه أسلم جديدًا وهو بالغ من معرفة لغة القرآن والسُّنة مبلغًا

كافيًا وعالم بموارد ومواقع الخطاب عِلمًا وافيًا، فيريد أن يتتبع القرآن وما يمكنه أن

يتحقق وروده عن رسول الله فيعمل بما يفهمه ويمكنه تحقيقه على حسب طاقته؛

لأنه لا يرى وجهًا معقولاً للوثوق بزيد أو عمرو أو بكر أصحاب الأقوال المتضاربة

المتناقضة لأن حكم العقل في الدليلين المتعارضين التساقط وفي البرهانين المتباينين

التهاتر فهل من مانع في الإسلامية يمنعه من ذلك؟

فأجابه (المفتي) : إن أكثر الأمة مطبق منذ قرون كثيرة على لزوم اعتماد ما

حرره أحد المجتهدين الأربعة المنقولة مذاهبهم، فإطباق الأكثرية دليل على الصحة فلا يجوز الشذوذ.

فقال (المستشرق) : لو كان الصواب قائمًا بالكثرة والقدم وإن خالف

المعقول لاقتضى ذلك صوابية الوثنية ورجحان النصرانية ولاقتضى كذلك عكس

حكم ما صح وروده على النبي صلى الله عليه وسلم من أن أمته تفترق إلى ثلاث

وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي التي كان هو وأصحابه عليها وقد وقع ما

أخبر به وكل فرقة تدعي أنها هي تلك الواحدة الناجية ولا شك أن الاثنتين والسبعين

فرقة أكثر من أي واحدة كانت منها فأين يبقى حكم الأكثرية؟.

فأجابه (المفتي) أنه قد سبقنا من أهل التحقيق والتدقيق الذين تشهد آثارهم

بمزيد علمهم ألوف من الفضلاء، وكلهم اعتمدوا لزوم اتباع أحد تلك المذاهب

القديمة حتى بدون مطالبة أهلها بدلائلهم؛ لأن مداركنا قاصرة عن أن توازن الدلائل

وتميز الصحيح والراجح من غيرهما، ومثلنا في تلك كالطبيب لا يلزمه أن يجرب

طبائع المفردات كلها ليعتمد عليها بل يأخذ علمه بطبائعها عما دونه أئمة الطب.

فقال (المستشرق) : نعم إن الطبيب يعتمد على ما حققه الأوّلون ولكن فيما

اتفقوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه على طرفي نقيض بين نافع أو سامٍّ فلا يعتمد فيه

على أحد القولين بل يهملهما ويجدد التجربة بمزيد الدقة والتحقيق؛ لأن اعتماده

على أحدهما يكون ترجيحًا بلا مرجح. هذا وإننا لنرى ببادئ النظر أن هؤلاء

الأئمة الأقدمين لم يقدروا أن يطلعوا على ما لا يقدر المتأخرون أن يطلعوا عليه

ويكفينا برهانًا على ذلك:

(أولاً) تخالفهم في كل الأحكام إلا فيما قلّ وندر تخالفًا مهمًّا ما بين موجب

وسالب ومحلل ومحرم حتى لم يمكنهم الاتفاق في نحو مسائل الطهارة وستر العورة

وما يحل أكله وما لا يحلّ.

(ثانيًا) ترددهم في الأحكام وتقلبهم في الآراء وذلك كحكم أحدهم في المسألة

ثم عدوله عنه إلى غيره كما يقول أصحاب الشافعي أنه كان له مذهبان رجع بالثاني

منهما عن الأول.

(ثالثًا) اختلاف أتباعهم في الرواية عنهم كأصحاب أبي حنيفة الذين قلّما

يتّفقون على روايةٍ عنه ويؤوّل ذلك لهم بعض المتأخرين بتعدد مذاهبه في المسألة

الواحدة والحاصل أنّ الإنسان الذي يتقيّد بتقاليد أحد أولئك الأئمة ولا سيما الإمام

الأعظم منهم لا يتخلص من قلق الضمير أو يكون كحاطب ليل وعلى ذلك لا بد

للمتحري في دينه من أن يهتدي بنفسه لنفسه أو يأخذ عمن يثق بعلمه ودينه

وصوابية رأيه ولو من معاصريه؛ لأن الدين أمر عظيم لا يجوز العقل ولا النقل

فيه المماشاة واتباع التقليد.

أجابه (المفتي) : نحنُ لا نحتّم بأن الصواب مقطوع فيه في جانب أحد تلك

المذاهب بل المقلد منّا، إما أن يقول بإصابة الكل أو يرجح الخطأ في جانب من

تَرَكَ مع احتمال الصواب.

فقال (المستشرق) : هذا القول يستلزم تعدد الحق عند الله أو القول بالترجيح

بلا مرجح؛ لأنكم تتحامون المفاضلة بين الأئمة، واعترافكم باحتمال المذاهب للخطأ

يقتضي جواز تركها كلها مع أنكم توجبون اتباع أحدها أفليست هذه قضايا لا تتطابق

ولا تعقل، فلماذا لا تجوزون وأنتم على هذا الارتباك أن يستهدي المبتلى لنفسه،

فإذا تحقق عنده شيء عن يقين أو غلبه ظن اتبعه وإلا كان مختارًا ولا يكلف الله

نفسًا إلا وسعها.

أجابه (المفتي) : إننا لِبُعْدِ العهد لم يبق في إمكاننا التحقيق فما لنا من سبيل

غير اتباع أحد المتقدمين ولو كان تحقيقه يحتمل الخطأ.

قال (المستشرق) : ما الموجب لتكليف النفس ما لم يكلفها به الله؟ أليس من

الحكمة أن يحفظ الإنسان حريّته واختياره فيستهدي بنفسه لنفسه حسب وسعه فإن

أصاب كان مأجورًا وإن أخطأ كان معذورًا ويكون ذلك أولى من أنْ يَأْسِرِ نفسه

للخطإ المحتمل من غيره.

أجابه (المفتي) : إن هذا الغير أعرف مِنّا بالصواب وأقل منا خطأ؛ فتقليده

أقرب للحق.

قال (المستشرق) : هذا مسلَّم فيما اتفق عليه الأقدمون، أما في الخلافيات

فالعقل يقف عند الترجيح بلا مرجح ولا سيما إذا كنتم لا تجوزون أيضًا البحث عن

الدليل ليُحكّم المبتلى عقله في الترجيح، بل تقولون نحن أسراء النقل وإن خالف

ظاهر النص.

أجابه (المفتي) : إننا إذا أردنا أن لا نعدّ من شرعنا إلا ما نتحقق بأنفسنا دليله

من الكتاب أو السنة أو الإجماع تضيق حينئذ علينا أحكام الشرع، فلا تفي بحل

إشكالاتنا في العبادات ولا لتعيين أحكام حاجاتنا في المعاملات فيحتاج كل منا أن يعمل

برأيه في غالب دقائق العبادات والمعاملات ويسير القضاء غير مقيد بإيجابات

شرعية، وهل من شك في أن اطراد الآراء وانتظام المعاملات أليق بالحكمة من عدم

الاطراد والنظام.

قال (المستشرق) : لا شك في ذلك ولكن أين الاطراد والانتظام منكم ولا

يكاد يوجد عندكم مسألة في العبادات أو المعاملات غير خلافية إن لم تكن في

المذهب الواحد فبين مذهبين أو ثلاث. هذا وربما يقال: إن توفيق العمل على قول

من اثنين أو أكثر أقرب للاطراد من الفوضى المحضة في تفويض الأمر لرأي

المبتلى أو تفويض الحكم لحرية القاضي فيجاب عن ذلك بأن الأمر أمر ديني ليس

لنا أن نتصرف فيه برأينا ونعزوه إلى الله ورسوله كذبًا وافتراءً وإفسادًا لدين الله

على عباده، ولو أن الأمر نظام وضعيُّ لما كان أيضًا من الحكمة أن يلتزم أهل

زماننا آراء مَن سلفوا من عشرة قرون ولا أن يلتزم أهل الغرب قانون أهل الشرق

وعندي أن هذا التضييق قد استلزم ما هو مُشاهد عندكم من ضعف حرمة الشرع

المقدس.

ثم قال (المستشرق) : وأعيد قولي، إنكم تحبون أن تكلفوا أنفسكم بما لم

يكلفكم به الله، ولو أن في الزيادات خيرًا لاختارها الله لكم ولم يمنعكم منها بقوله

تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) أي مما يتعلق بالدين [1]

وقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ

دِينًا} (المائدة: 3) وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ

اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) ولكن علم الله الخير في القدر الذي

هداكم إليه وترك لكم الخيار على وجه الإباحة في باقي شئونكم لتوفقوها على

مقتضيات الزمان أبي الغير وموجبات الأحوال التي لا تستقر فبناء عليه إذا أتيتم

أكثر أعمالكم الحيوية باطمئنان قلب بإباحتها يكون خيرًا من أن تأتوها وأنتم حيارى

لا تدرون هل أصبتم فيها أم خالفتم أمر الله فتعيشون وأفئدتكم مضطربة

تحاذرون في الدين شؤم المخالفة وفي الآخرة عذابًا عظيمًا.

وليس هذا من مخافة الله التي هي رأس الحكمة ولا من مراقبة الوازع التي هي

مزية الدين بل هذا من الارتباك في الرأي والاضطراب في الحكم ونتيجة ذلك فقد

الحزم والعزم في الأمور.

ثم قال: اعلم أيها المفتي المحترم أن هذه الحالة التي أنتم عليها من التشديد

والتشويش في أمر الدين هي أكبر أسباب انحطاط المسلمين بعد القرون الأولى في

شئون الحياة كما انحط قبلهم الإسرائيليون بما شدّده وشوّشه عليهم أهل التلّمود وكما

انحطت الأمم النصرانية لما كانت (أرثوذكسية) مغلظة أو (كاثوليكية) متشددة

يتحكم فيها البطارقة والقسيسون بما يشاءون تحت اسم الدين فكانوا يكلفون الناس أن

0يتبعوا ما يُلَقِّنُونُهم مِن الأحكام بدون نظر ولا تدقيق حتى كانوا يحظرون عليهم أن

يقرأوا الإنجيل أو يستفهموا عن معنى التثليث الذي هو أساس النصرانية كما أن

التوحيد أساس الإسلامية. وبقي ذلك كذلك إلى أن ظهرت (البروتستان) أي

الطائفة الإنجيلية التي رجعت بالنصرانية إلى بساطتها الأصلية وأبطلت المزيدات

والتشديدات التي لا صراحة فيها في الأناجيل وإلى أن اتسع من جهة أخرى عند

الأمم النصرانية نطاق العلوم والفنون رغمًا عن معارضة رجال الكهنوت لها

فتلطفت أيضًا الكاثوليكية والأرثوذكسية عند العوام واضمحلتا بالكلية عند الخواص؛

لأن العلم والنصرانية لا يجتمعان أبدًا كما أن الإسلامية المشوبة بحشو المتفننين

تضلل العقول وتشوش الأفكار.

أما الإسلامية السمحة الخالصة من شوائب الزوائد والتشديد فإن صاحبها يزداد

إيمانًا كلما ازداد علمًا ودق نظرًا؛ لأنه باعتبار كون الإسلامية هي أحكام القرآن

الكريم وما ثبت من السنة وما اجتمعت عليه الأمة في الصدر الأول لا يوجد فيها ما

يأباه عقل أو يناقضه تحقيق علمي.

وكفى القرآن العزيز شرفًا أنه على اختلاف مواضيعه من توحيد وتعليم وإنذار

وتبشير وأوامر ونواهٍ وقصص وآيات آلاء، قد مضى عليه ثلاثة عشر قرنًا

تمخضه أفكار النقادين المعادين ولم يظفروا فيه ولو بتناقض واحد كما قال الله تعالى

فيه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 82) بل

الأمر كما تنبه إليه المدققون المتأخرون أنه كلما اكتشف العلم حقيقة وجدها

الباحثون مسبوقة التلميح أو التصريح في القرآن. أودع الله ذلك فيه ليتجدد إعجاز

ويتقوى الإيمان بأنه من عند الله؛ لأنه ليس من شأن مخلوق أن يقطع برأي لا

يبطله الزمان.

فهذه القضايا التي قررها حكماء اليونان وغيرهم على أنها حقائق ولم تتردّد

فيها عقول عامة البشر ألوفًا من السنين أصبحت محكومًا على أكثرها بأنها

خرافات.

وكذا يقال كفى السنة النبوية شرفًا أنه لم يوجد في أعاظم الحكماء المتقدمين

والمتأخرين من يربو عدد ما يعزي إليه من الحكم التي قررها غير مسبوق بها على

عدد الأصابع مع أن في السنة المحمدية على صاحبها أفضل التحية من الحكم

والحقائق الأخلاقية والتشريعية والسياسية والتعليمية ألوفًا من المقررات المبتكرة

يتجلى عِظم قدرها مع تجدد الزمان وترقي العلم والعرفان.

وكفى بذلك ملزمًا لأهل الإنصاف بالإقرار والاعتراف لصاحبها عليه السلام

بالنبوة والأفضلية على العالمين عقلاً وعلمًا وحكمة وحزمًا وأخلاقًا وزهدًا واقتدارًا

وعزمًا وكفى أيضًا بهذه المزايا العظمى ملزمًا بتصديقه في كل ما جاء به واتباعه

في كل ما أمر أو نهى؛ لأن الدهر لم يأتِ بمرشد للبشر أكمل وأفضل منه. (مرحى)

ثم قال (المستشرق) للمفتي: وهذا ما دعاني إلى الإسلام فلبيت، والحمد لله

وعندي أن لو قام في الإسلام سراة حكماء دعاة مقدّمون لما بقي على وجه الأرض

عاقل يكفر بالله. ثم قال: وإني أرى أنه لا يمضي قرن إلا ويكثر المهتدون من

المستشرقين ويرسخون في الدين فيتولون تحرير شريعة الإسلام، ويفيضون بها

على الأنام، حتى على أهل الركن والمقام، ولا يبعد أن تأتي الأيام بالبرنس محمد

المهتدي الروسي أو الإنكليزي مثلا قائمًا مقام الإمام، معيدًا عزّ الإسلام بأكمل نظام.

أجاب (المفتي) : لا مانع مما ذكرت، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ودين

الله دين عام لا يختص بقوم من الأقوام.

ثم قال (المستشرق) : أيها المفتي المحترم لا يطاوعني لساني أن أدعي

الغيرة على الملة البيضاء الأحمدية أكثر منك إنما أناشدك بالله وبحبك لدينك أن

تترك هذه الأوهام التقليدية القائمة في فكرك وتعينني على تأليف كتاب يصور حكمة

دين الإسلام وسماحته ليكون سعينا هذا ذُخرًا عظيمًا ننال به فخر وثواب هداية

عشرات الملايين بل مئات الملايين من الناس إلى هذا الدين المبين. ولا يَكْبرن ما

أقول على فكرك، فإنّ أهل هذا الزمان المستنيرين الأحرار لا يقاسون بأهل الأزمنة

المظلمة الغابرة. نعم، وننال أيضًا ثواب حفظ الملايين الكثيرة من أبناء المسلمين

العريقين تلامذة المدارس العصرية من هجر الإسلامية على صورتها الحاضرة

المشوهة باختلاط الحكم بالخرافات المعطَّلة بثقل التشديدات المبتدعة فالبدار البدار؛

لأنْ تفوزَ بهذه الخدمة التي يكاد يعادل أجرها أجر نبي مرسل والله المعين

الموفق.

أجابه (المفتي) أصبت فيما تفكرت ولنعم ما أشرت به، ولكن هذا عمل

مهم يحتاج القيام به لعناية جمعية يتكوّن من تضلّع أعضائها في فروع العلوم الدينية

علم كافٍ للإحاطة وحصول الثقة، ولسوء الحظ لا يوجد من فيهم الكفاءة في هذه

البلاد ولذلك يتحتم علينا أن نترك هذه الفكرة آسفين وندعو الله تعالى أن يلهم علماء

مكّة أو صنعاء أو مصر أو الشام القيام بأداء هذا الواجب.

ولما انتهى (الخطيب الفازاني) إلى هنا قال هذه هي المساجلة، وقد سمعت

المفتي يقول: إنه اجتمع بكثير من المستشرقين فوجدهم كلهم يحسنون العربية أكثر

من علماء الإسلام غير العرب مع أنهم يشتغلون في علوم اللغة عمرهم كله وما ذلك

إلا من ظفر مدارس اللغات الشرقية الإفرنجية بأصول التعليم العربية أسهل من

الأصول المعروفة عندنا.

قال (المجتهد التبريزي) : إني أرى أن الإسلام أصابه فتنتان عظيمتان ولولا

قوة أساسه البالغة فوق ما يتصوره العقل لما ثبت الدين إلى الآن.

أما الفتنة (الأولى) فقد قدرها الله ومضت على وجهها وهى حين تشاجروا

في الخلافة والملك وانقسموا على أنفسهم بأسهم بينهم يقتل بعضهم بعضًا وتفرقوا في

الدين لتفرقهم في السياسة.

وأما الفتنة (الثانية) فلم تزل وهى أن الخلفاء العباسيين مالوا إلى تعميق

النظر في العقائد فخدمهم من خدمهم من علماء الأعاجم تقربًا إليهم في علم الكلام

وأكثروا من القيل والقال، ثم سرت العدوى إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من

المذاهب فأقبلوا على التدقيق والجدل في الخلافيات بين أبي حنيفة والشافعي وأثاروا

بينهما فتنة عمياء وحربًا صماء وتركوا بقية المذاهب فاندرست ولم يبق منها سوى

مذهب زيد وأحمد في جزيرة العرب ومذهب مالك في الغرب ومذهب جعفر في

بلاد الخزر وفارس فأكثروا التأليف والتصنيف في هذه المذاهب كل مؤلف يحبُّ

أن يبدي ما عنده ليشتهر فضله وينال حظَّه من دنياه زاعمًا أن غرضه استنباط

دقائق الشرع. وتقرير علل المذاهب فتزاحموا وتجادلوا وناقض بعضُهم بعضًا،

وكان من العلماء بعض الصلحاء الغافلين شاركوهم الفتنة وهم لا يشعرون كما قال

الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا

إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) وقوله تعالى: {قُلْ

هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103-104) .

وهكذا اتسعت دائرةُ الأحكام في الشرع فصار الخلف عاجزين عن التقاط

الفروع فضلاً عن الرجوع إلى الأصول فاطمأنت الأمة للتقليد وأقبل العلماء على

التعمقات في الدين يغرب المفسر ولو بحكايات قاضي الجن؛ لأنه غير مطالب

بدليل وبتفحص المحدّث عن نوادر الأخبار والآثار ولو موضوعة؛ لأنه غير

مسئول عن سنده ويستنبط الفقيه الحكم ولو بالشبه من وجه اللازم اللازم للعلة؛ لأن

مجال التحاكم واسع، وهذه الفتنة لم تزل مستمرة إلى أن أوقفها قصور الهمم عند

الأكثرين.

على أن هؤلاء المتأخرين أخلدوا إلى التقليد الصرف حتى في مسألة التوحيد

التى هي أساس الدين ومبدأ الإيمان واليقين والفارق بين الكفر والإسلام وجعلوا

أنفسهم كالعميان لا يميزون الظلمة من النور، ولا الحق من الزور، وصاروا

يحسنون الظن في كل ما يجدونه مدوّنًا بين دفتي كتاب؛ لأنهم رأوا التسليم أهون

من التبصَّر. والتقليد أستر للجهل، وصار أهل كل إقليم أو بلد يتعصبون لمؤلفات

شيوخهم الأقدمين ويتخذون الخلافيات مدارًا لتطبيق الأحكام على الهوى لا يبالون

بحمل أثقال الناس في الدين على عواتقهم يزعمون أن التسليم أسلم وأنهم أسراء

النقل وإن خالف ظاهر النص ويتوهمون أن اختلاف الأئمة رحمة للأمة.

نعم إن اختلاف الأئمة يكون رحمة إذا حسن استعماله ويكون نقمة إذا صار

سببًا للتفرقة الدينية والتباغض كما هو الواقع بين أهل الجزيرة السفليين وبين أهل

مصر والغرب والشام والترك وغيرهم من المستسلمين وبين أهل عراق العجم

وفارس والصنف الممتاز من أهل الهند الشيعيين وبين أهل زنجبار ومن حولهم من

الإباضيين فهذه الفرق الكبرى يعتقد كل منهم أنهم وحدهم أهل السنة والجماعة وأن

سواهم مبتدعون أو زائغون فهل - والحالة هذه - يتوهم عاقل أن هذا التفرق

والانشقاق رحمة لا نقمة وسَبَبُه وهو التوسع في الأحكام سَبَبُ خير لا سبب شر.

وكذلك اختلاف المجتهدين في كل فرقة من تلك الفرق لا يتصور العقل أن

يكون رحمة إلا بقيد حسن استعماله، وإلا فيكون نقمة حيث يوجب تفرقة ثانية بين

مالكي وحنفي وشافعي مثلاً.

والمراد من حسن استعمال الخلاف هو أن كل قوم من المسلمين قد اتبعوا

مذهبًا من المذاهب ترجيحًا أو وراثة أو تعصبًا ولا بد أن يكون في المذهب الآخذ به

كل قوم بعض الأحكام الاجتهادية التي لا تناسب أخلاق أولئك القوم أو لا تلائم

أحوالهم المعاشية أو طبائع بلادهم فيضطرون إلى الإقدام على أحد أمرين إما

التمسك بتلك الأحكام وإن أضرت بهم أو الجنوح إلى تقليد مذهب اجتهادي آخر في

تلك الأحكام فقط، وقد كان أكثر علماء وفقهاء المسلمين إلى القرن الثامن بل التاسع

يختارون الشق الثاني فيقلدّون في هذه الحالة المذاهب الأخرى ولكن بعد النظر

والتدقيق في الأدلة كما كان شأنهم في نفس مذاهبهم الأصلية مثلاً يكونوا مقلدين

تقليدًا أعمى لا يجوزه الدين أساسًا إلا للجاهل بالكلية.

وهذه الطريقة هي الطريقة المتبعة إلى اليوم في بلاد فارس، والعلماء

المتصدرون لذلك هم أفراد من توابع العلماء المتضامين في علوم مآخذ الدين

وأكثرهم ولا سيما الإيرانيون منهم متفقهون، متخرجون من مذهب الإمام جعفر

الصادق رضي الله عنه المدوّن عندهم، ويُطْلِق أهلُ فارس على هؤلاء العلماء

اسم (مجتهدين) تجوزًا واتباعًا لعادة الأعاجم في التغالي في التبجيل ونعوت

الاحترام، ومن ذلك يعلم أن ما يظنه فيهم إخوانهم المسلمون البعيدون عنهم غير

المواقفين على أحوالهم إلا من تفوهات السياسيين غير صحيح فما هم كما يقولون

عنهم مجتهدون في أصول الدين مجوّزون الرأي في الإجماعيَّات مخرجون الأحكام

أخذًا من الدلائل الظنية ولو لم يقل به أحد من علماء الصحابة والتابعين وأعاظم

أئمة الهداية الأولين فما أحرى مجتهدي فارس بأن يلقبوا بمرجحين أو مخرجين أو

فقهاء مدققين.

ثم إن بعض الناس دعوا المقلد لأحد المذاهب إذا أخذ في بعض الأحكام

بمذهب آخر ملفقًا، وسموا أخذه تلفيقًا واستعملوا لفظة تلفيق في مقام التلاعب في

الدين أو الترقيع القبيح والحال أن ما سموه بالتلفيق ليس إلا عين التقليد من كل

الوجوه ولا بد لكل من أجاز التقليد أن يجيزه؛ لأنه إذا تأمل في القضية يجد القياس

هكذا: يجب على كل مسلم عاجز عن الاستهداء في مسألة دينية بنفسه أن يسأل عنها

من أهل الذكر أي يقلد فيها مجتهدًا وكل مقلد عاجز طبعًا عن الترجيح بين مراتب

المجتهدين فبناءً عليه يجوز له أن يقلد في كل مسألة دينية مجتهدًا ما.

وما المانع - على هذا الاعتبار - للمسلم المقلد أن يتعلم كل مسألة من الطهارة

والغسل والوضوء والصلاة من مجتهد أو فقط تابع لمجتهد، فإذا اغتسل بماء دون

قُلَّتيْنِ لَحِقَتْهُ قطرة خمر واعتبره طاهرًا كما علمه عالم مالكيّ- غسلاً بدون دَلْكٍ كما

علّمه عالم حنفي وبعد حَدَث مُوجِبٍ توضأ ومسح شعرات من الرأس كما علّمه عالم

شافعي وصلى بعد خروج دم قليل منه كما علّمه عالم حنبلي صلاة الصبح بعد طلوع

الشمس كما علّمه عالم زيدي ووصل الفرض بصلاة أخرى بدون خروج من الأولى

كما علّمه عالم جعفري، أفلا يكون هكذا المقلّد صلّى صلاة تُجزئه عند الله؟ بلى،

ثم بلى تجزئه بالضرورة حتى لا يقوم دليل على أن ذلك خلاف الأَوْلى كما يقال في

حق الخروج من الخلافات؛ لأنه لا يُعقل أن يكلَّف هذا المقلد بأخذ دينه كله من عالم

واحد؛ لأن الصحابةَ رضي الله عنهم مع اجتهادهم وتخالفهم في الأحكام كان

يصلى بعضهم خلف بعض مع حكم المؤتم منهم على حسب اجتهاده بعدم صحة صلاة

إمامه واشتراطه صحة صلاة المأموم بصحة صلاة الإمام، وهل يتوهم مسلم أن أبا

حنيفة كان يمتنع أن يأتم بمالك أو يأبى أن يأكل ذبيحة جعفر كلا، بل كانوا أجهل قدرًا

من أن يخطر لهم هذا التعصب على بال وما كان تخالفهم إلا من احتياط كل منهم

لنفسه.

ويوجد في كل مذهب من المذاهب جماعة من تلاميذ الإمام أو الفقهاء

المعروفين بالمرجِّحين كل منهم كان مجتهدًا لم يتقيّد بمذهب أمامه تمامًا وخالفه في

كثير أو قليل من الأحكام مخالفة اجتهاد بسب اطّلاعه على أدلة مجتهد آخر أو الفتح

عليه بما لم يفتح به على إمامه ولأن الدين يلزم المسلم بأن يتبع في كل مسألة منه

الشارع لا الإمام وأنْ يعمل في مواقع الاجتهاد باجتهاده لا باجتهاد غيره وإن كان

أفضل منه.

وهذا أبو حنيفة وأمثاله رحمهم الله تعالى كانوا أفضل من أن يعتقدوا في

أنفسهم الأفضلية على أبى بكر وعمر رضي الله عنهما ومع ذلك خالفوهما في كثير

من الأحكام الاجتهادية وفقهاء كل مذهب من المذاهب لم يزالوا إلى الآن يجوِّزون

الأخذ تارة بقول الإمام وتارة بقول أحد أصحابه مع أن ذلك هو عين التلفيق، فلماذا

لا يجوز الحنفية مثلاً التلفيق بين أقوال أبي حنيفة والشافعي أو غيره وليس فيهم من

يقول: إن أصحاب إمامهم أفضل من الشافعي ومالك وابن عباس فما هذا إلا تفريق

بلا فارق وحكم يعكس الدليل. وقد نتج من التفريق بين المسلمين والتشديد عليهم

في دينهم ومصالحهم - بدون موجب غير التعصب - المخالفة لأمره تعالى {أَقِيمُوا

الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) . (مرحى) .

ثم ختم (المجتهد التبريزي) مقاله بقوله: (وليس مقامنا الآن مقام استيفاء

لهذا البحث وإنما أوردت هذا المقدار منه بقصد بيان جواز التلفيق إذا كان عن

غرض صحيح كما جوَّزه كثير من فقهاء كل المذاهب. ولا شك أن ضرورة التلفيق

أهم من الضرورة التي لأجلها جوَّز الفقهاء الحِيَلَ الشرعية مع أنها وصمة عارٍ على

الشرع حيث لا يُعقل أنْ يقالَ مثلاً: إن الشفعة مشروعة دفعًا للضرر عن الشريك

أو الجار، ولكن يجوز هذا الإضرار للمُحتال، أو إنّ الربا حرام ولكن إذا أضيف

للقرض ثمن مبيع خسيس بنفيس جاز استباحة مقصد الربا، وإن إيتاء الزكاة فرض

ولكن إذا أخرج رب المال ماله قبل الحَوْل ثم استعاده سَقَطَتْ عنه - إلى غير ذلك

من إبطال الشرع وجعل التكليف تخييرًا والتقييد إطلاقًا. ولا حجّة لهم في هذا غير

ما رخص الله به لأيوب عليه السلام من التوصل للبر باليمين في قوله تعالى:

{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَث} (ص: 44) وما أبعد القياس

بين الحنث وبين إبطال الشرع. ولا شكَّ أن المسلمين بذلك صاروا كأنهم لا شرع

لهم، وقد غضب الله على اليهود لتحيُّلهم على صيد السبت فقط، ونحن نُجوّز ألف

حيلة مثلها بضرورة وبلا ضرورة.

بناءً عليه من الحكمة أن نلتمس للضرورات أحكامًا اجتهادية فيَأمر بها الإمام

إن وجد وإلا فالسلطان؛ ليرتفع الخلاف فتعمل بها الأمة ما دام المقتضي باقيًا فإذا

ألجأ الزمان إلى تبديلها بقول اجتهاديّ آخر، فكذلك يأمُر به الإمام أو السلطان رفعًا

للخلاف، وبمثل هذا التدبير الذي لا يأباه شرعنا ولا تنافيه الحكمة نستبدل بتلك

الحيل المعطلة للشرع المسلمة لترقيعات كل فقيه ومتفقه أحكامًا شرعية إيجابية لا

زيغ فيها، وبنحو ذلك يَسْلَمُ شرعُنا من التلاعب والتضارب ويتخلص القضاء

والإفتاء من التوفيق على الأهواء وحينئذ يتحقق أن الخلاف في الفروع رحمة،

والحاصل أنه يقتضي على علماء الهداية أن يقاوموا فكر التعصب لمذهب دون آخر

فيكون سعيهم هذا منتجًا للتأليف وجمع الكلمة في الأمة.

قال (الأستاذ الرئيس) : إنا نشكر أخانا المجتهد التبريزي على بيانه لنا حالة

إخواننا أهل فارس وعلى غيرته للدين وقصده التأليف بَيْنَ المسلمين، أما تقريره

بخصوص أنَّ حُكْمَ الإمامِ إنْ وُجِدَ وإلا فالسلطان يَرْفَعُ الخلافُ، وبخصوص أنَّ

التلفيق هو عين التقليد، فتقرير يحتاج إلى نظر وتدقيق وسَتَقُومُ بمثل هذه التدقيقات

في المسائل الدينية التي بَحَثَ فيها الإخوانُ الكرام الجمعيةُ الدائمة التي ستتشكل

إن شاء الله. واليوم قد قرب وقت الظهر وآن أوان الانصراف.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

يريد أن القرآن محيط بأحكام الدين وما يناسبه لا بكل علم الله كما يتوهم الكثيرون.

ص: 668

الكاتب: محمد فريد وجدي

(كيف يكون المستقبل للمسلمين)

قرأت في (المنار) الزاهر مقال سماحة السيد البكري فأيقظ في نفسي آمالاً

كبارًا، وهاج من قلبي مرامي بعادًا، ورأيته يتفق معي في الغاية، ويلاقي قلمه

قلمي في النهاية، إلا أنه سار إليها مِن طرق المعارف التشريحية، وانتحى إليها

وجهة علم الظواهر الجوية، وناط ذلك المستقبل بالفواعل الطبيعية، والأحوال

الوسطية مِن كثرة السكان وخصوبة المكان وعدم إمكان الإنسان المعيشة في كل

مكان، وهي قضايا يتناولها النقد، ويمكن فيها الأخذ والرد والإقبال والصد، إن

رضيها (جوستاف لوبون) رفضها (لينيه) و (كاترفاج) و (داروين)

و (وروسل ولاس) و (هكسلي) و (لامارك) و (كوفييه) و (بوفون)

وغيرهم من إخوانه الفسيلوجيين، على أن تعليق حياة الإسلام على مؤثرات الوسط

وعوامل المكان لا يناسب مجده وعلو شأنه، وأهميته أكبر مِن أن تدفع الكاتب إلى

تحري أفكار الأفراد لتسكين الخواطر على نجاة بلدانه، وسلامة أوطانه، فإن كان

الإسلام له المستقبل الباهر والآتي الزاهر، فليس ذلك إلا لكونه الحق الصميم،

والنور الصريح، والكلمة العليا، والمحجة البيضاء، أنشودة الإنسان وضالة العرفان

ونظام العلم والدين؛ وسلك الفلسفة الحسية واليقين، إن كان ينشره الصوفية اليوم بين

الشعوب الشرقية المنحطة في درجات المدنية والعلوم الكونية، فسينشره غدًا

لَهَامِيم الفلسفة الحسية، ويَآفِيخ المعارف الطبيعية، ليس لكونه كما اعتدنا أن نقول

دينًا جمع بين المصالح الروحية والجسدية ويربط بين الأمور الدنيوية والأخروية

فقط، هذه بعض مزايا الإسلام تابع بسيط لتعاليم نسردها سردًا لبعض العقول البسيطة

التي لا تدرك غيرها، ولا تتمسك بالدين إلا مِن أجلها؛ أما غدًا وليس ببعيد يوم

تجيء دولة الروح ويخرج الإنسان مِن قهر المادة العمياء وسلطة الطين الأصم

وينتهي دور الزخارف الحيوانية، وتزول سلطنة البطن والأميال البهيمية، وينقلب

شأن الإنسان مِن حال مادي إلى حال روحاني كما انقلب مِن حال فطري إلى حال

فكري عقلي؛ فتشرق الروح في عالمها وتزعج الإنسان إلى أداء مطالبها، وتصيح

به لأنْ يَعرُجَ بها إلى محتدها، ويصعد معها إلى أوجها، كما كانت تزعجه المادة

إلى القيام برغائبها، وتميل به إلى عالمها، وتطالبه بالركون إلى طينها، ذلك اليوم

تطلب الروح بابًا لعروجها، وترتاد طريقًا لصعودها، تلتفت إلى جثمانها فتراه عبئًا

ثقيلاً ومانعًا كثيفًا، وأنّى له اختراق طبقات اللطافة الملكوتية بها؟ وكيف له السبح

في العوالم النوارنية معها؟ هنالك يكون التنازع بين الروح والجسد لا كما هو الآن

تنازع بين مطالب غذائية. وزخارف مادية، وأغذية دهنية وشحمية وألبسة قطنية

أو حريرية، بل تنازع في كيفية اعتمادهما معًا على السبح في سبحات النور

الأقدس، والجري يدًا بيد في باحات الكمال الأقدم.

هنالك سيدور الإنسان على نفسه دورة أخرى على محور لا يتخيله الآن إلا

كبار الأفئدة كبار العقول، هنالك سيكون الإسلام قائد تلك الحركة وسلطان تلك

الدولة والداعي إلى الكمال بلسان العدالة المطلقة والمؤاسي بمراهمهه الشافية القلوب

اليائسة، هنالك سيحوم الناس حول الإسلام كما يحول الفراش حول النور يطلبون

نجاة أرواحهم وأجسادهم معًا لا أرواحهم فقط. هذه حقائق لا خيالات إلا أن تجليها

للأذهان يحتاج إلى كلام كثير بل سَفَرٍ كبير.

فمستقبل الإسلام فيما أعلم وأرى مِن هذا الباب دون غيره وهو أليق بعلو شأنه

وأنسب لرفعة مكانه وأولى به دينًا إلهيًّا ووحيًا عُلويًّا؛ ولكن متى نصل إليه، وأيّ

نوع من أنواع الوسائل نُعوِّلُ عليه؟ هذه جهة الخلاف بيني وبين سماحة السيد.

يرى أنّ أَنْجَعَ الوسائلِ لذلك فتحُ المدارس وترتيبها؛ وترجمة الكتب العلمية ونشرها،

ومشاطرة الأجانب في لغاتهم والتعمق فيها؟ ويرجو لذلك أن تعقد جمعيات وتشكل

هيئات، وتنضم أصوات وتتحد وجهات وتتفانى هِمم أبيّة، وتتكاتف عزائم إسلامية،

وتبذل أنْفس عزيزة وأرواح، وتباع في سبيل الوحدة بيع السماح، وكلها مطالب

سامية ورغائب عالية، ولكن هل تتحقق؟ لِنُجِلْ في إمكانها نظرًا ونعمل في

احتمالها فكرًا، فإن لاح لنا برق أمل ضممنا صوتنا إلى صوته وإلا أبدينا فيها

رأينا، وعززناه بأسلوبنا.

حكم السيد بأن لا وطن للإسلام ولا جنسية، وأن رابطتنا الوحيدة هي جامعة

العقيدة وآصرة الإيمان ووشيجة اليقين، فلينظر هل تلك الرابطة اليوم صالحة لأن

تضم أجزاءنا وتلمّ شعثنا وتوجّه عواطفنا إلى تيار واحد لنحقق بذلك آمالاً

عظامًا، ونرأب بها مِن جسم هيئتنا صدوعًا جسامًا؟ يضربُ لنا السيد مثلاً

بالجمعيات الأجنبية التي تألّفت للوحدة الإيطالية؛ والجامعة السلافية، والجنسية

السكسونية، وعاج مِن ذلك على ذِكر الثورات الأرمنية والمقدونية والكريدية، ثم

قال إنها: (تعمل أعمال الجبابرة في الخلاص مِن حضيضِ الأسر، إلى أوج النسر،

والأمة الإسلامية التي ملأت المشرقين والمغربين تنتفض انتفاض الطائر في شباك

الصائد، ولا تعمل للنجاة عملاً، وكيف ترجو الوصول إلى الغاية وهي لا تنقل إليه

قدمًا، ولا تحرك شفة ولا قلمًا، ومَن طَلَبَ شيئًا وَجَدَهُ، ومَن تَرَكَهُ فقده) ثم أَرْدَفَ

ذلك لقوله: (ولا يعتذر الجبان المفقود القلب بأنّ عَقْدَ هذه الجمعيات مما يتعذّر

حصوله في البلاد الإسلامية الآن؛ إذ أي جمعية أنشئت قبل هذه فلم تقابل بالكفران

وتُحط بالنيران، لكنها العزيمة التي ترى أن الموت في حياة الأمة خيرًا من الحياة

في موتها وأن لا محيص من الصَدْرِ أو القبر) .

نقول ولسنا بجُبَناء ولا مفقودي القلب ولا يائسين ولا مفتونين: لقد سلك

السيد في مقاله مسلك الكاتب الحماسي، ولكنه لم يَسِرْ سَيْرَ العالم ولا الفيلسوف

العمراني. ولو كان قبل أن كتب مقالته تدبّر في ألوف المقالات التي كتبت قبل

مقالته بعشرين سنة وكان فيها مِن ضُرُوب الحَضِّ والحَثِّ والتحميس ما لا يمكن

المزيد عليه، ومع ذلك لم تنتج أثرًا، ولم تحقق لكاتبها ولا لخلافه أملاً، لكان رجع

إلى نفسه وعلم أن المانع للأمة مِن سماع تلك الصيحات، والإصاخة لتلك الهيعات

أمر جَلَلٌ وخطب كبير. ولتراءت له أدواء يجب فحصها وعلل لا ينجع دعاء

بوجودها.

قررت العلوم النفسية، وحكمت المشاهدات الوجودية أن الإنسان لا يعمل

عملاً بل ولا يتحرك حركة إلا وهو معتقد صلاحية ما يعمله أو يتحرك مِن أجله

ومتيقن مِن الوصول إلى غايته فهل لدى فُضلائنا الذين يُطلب منهم تأليف تلك

الجمعيات مِن العقيدة الراسخة واليقين الثابت ونحن في القرن العشرين ما يحملهم

على تشكيل الجمعيات وبذل نفوسهم ونفائسهم دفاعًا عن حقيقتهم وقراعًا دون

حريمها؟

أنا أول مَن يقول بأنّ المستقبل للإسلام وكُتبي ومُؤلفاتي تشهدُ لي بذلك؛ ولكني

لا أحب أنْ أجعلَ للخيال سلطانًا على قلمي، ولا للحماسة التي تنطفئ بمجرد الكتابة

نفوذًا على إحساسي؛ بل أعلم أني عائش في عصب الفلسفة الحسية والمدنية

المادية، والمعارف الطبيعية. وصَرَفْتُ زمنًا ليس بالصغير في فَحْصِ وَسَطِي الذي

أعيشُ فيه وأمّتي التي أنا بين ظهرانيها، ورأيت بالحسّ أننا إن لم نسع لمداواة عللنا

من أصولها تُهنا في تطبيبها، وضللنا في علاجها وذهبت كل صيحاتنا أدراج الرياح

كما ذهبت خاصتنا لأداء وظيفتها الصحيحة فوهن العقيدة وضعف الإيمان، وما دامت

على هذه الصفة فلا يرجى منها اجتماع على أمر ألبتة.

مجرد اعتقاد أن الإسلام دين يدعو إلى الفضائل ويحضّ على الأخذ بالماديات

والمعنويات معًا، وأنه آخذ في الانتشار بين القبائل الشرقية، أو أنه مَهِيبُ الجانب

في بعض البلاد الأجنبية، وكما اعتاد كثير من خاصتنا التفكه به في المجالس

إظهارًا لِغَيْرَتِهم على الإسلام وتحمّسًا لكثرة براهينه لا يفيدُهم في اليقين شيئًا؛ لأن

كلهم تقريبًا ممّن تعلّموا اللغات الأجنبيّة، ودرسوا العلوم الطبيعية، والمعارف

التشريعية، ووقفوا على تعاليم (داروين) و (جوستاف لوبون) الذي استَشهد به

السيد وعرفوا منهما ومن أمثالهما أنّ أصل الإنسان قِرْدٌ وأنه لا آدم ولا حواء ولا

كتابًا سماويًّا ولا روح ولا نفس ولا حَشْر ولا نشر ومَن يرد أن نعطيه صورة

موجزة مِن فلسفة هذه المدنية التي يقرأها خاصتُنا مِن عَرفة اللغات الأجنبية

ويعتقدون حقيتَها فإليه غير مضنون عليه.

يقولون: يا معشر المتدينين، إنكم لو جرّدتم نفوسكم عن الهوى، ووجّهتم

وجوهكم شَطْرَ الهدى، لرأيتم أنه ليس دينكم إلا أثرًا مِن آثار الماضين، وبقية من

بقايا أوهام السالفين، ليس لها مِن القِيمةِ والقَدْرِ إلا كما لسائرِ آثارهم الأخرى مِن

العلوم الطبيعية، والصناعات اليدوية، فقد حكم العلم - معاذ الله - بأن نواميس

الكون كافية في تعليل ظواهره، وقوانينه قد فسّرت أكثر غوامضه، فلا داعي

لفرض وجود قوىً وراء الطبيعة، ولا موجب لتوهُّمِ عالم علوي بعد هذه المرئيات

المحسوسة، أما الوجود فقديم إن لم يكن بصورته فبمادته الأولى. وأما القوى التي

تصرفه فلا استقلال لها في ذاتها بل هي صفة لهيولاه الأصلية فلا مادة بلا قوة ولا

قوة بلا مادة بل المادة في نفسها مَظْهر مِن مظاهر القوّة المتحركة في الأثير مِن

الأزل.

أما الإنسان وما نسبتموه إليه مِن نفس مستقلّة عن الجسد وما منحتموها مِن

مزية الخلود بعد فنائه، وتبعثر ذراته فما تبطله الشواهد العلمية، وتحيله البدائية

التشريحية، فقد قرّر العلم - معاذ الله - أنه لا فرق بينه وبين غيره مِن الكائنات

السفلية ولا ميزة له على سواه مِن الأنواع الحيوانية، بل ليس هو في ذاته إلا حيوانًا

فاق في قوة التعقل والإدراك غيرَه مِن أبناء نوعه، على أن أبناء نوعه - الحيوانات-

غير محرومة مِن قِسْطٍ مناسب مِن التعقّل والإدراك. وإذا أردت الدليل فدونك كتب

حياة الحيوان ترى مِن آثار الفِكْرِ ونتائج التعقّل ما يدلّك تمام الدلالة على أنّ العقل ليس

بوقف على الإنسان ولا هو وصفه المميز، فإذا نسبت للإنسان روحًا مستقلة عن

الجسد ومنحتها مزية الخلود والبقاء اعتمادًا على القوة العقلية فلِمَ لا تحكم هذا الحكم

نفسه بالنسبة إلى الحيوانات أيضًا؟ أليس هذه من آثار المعلومات السابقة النافعة

حينما كان الناس لا يميزون بين ما يؤيده الحس والعيان. وبين ما هو من قبيل

الخيالات التي تنشأ في الوجدان بلا روية ولا إمعان؟ أما الفضائل التي تقرعون

الآذان بها، وتضربون وجوه مناظريكم بسلاحها مُدّعين أنكم قادتها وزعماؤها،

وأنّ لكم حق السيطرة على الناس بها، فليست في الحقيقة تبعًا لتعليم من التعاليم

القديمة لكتب خاصة يقوم بها رجال ذوو صفات خاصة؛ بل هي تابعة لنواميس

طبيعية تظهر في الأمم الحية ظهور سائر آثار النواميس الأخرى فلا علاقة لها

بدين ألبتة.

ألا ترون أنّ كثيرًا مِن المتدينين بُعداء عن الفضيلة، مغمورين في غمرات

الرذيلة، ودونك الإحصائيات المدققة التي يعتني بجمعها علماء الإنسان؛ ترى أن

أكثر أصحاب الجرائم من المتدينين المتشددين في الدين، وإليك كتب علماء الجرائم

مثل (لومبروزو) و (فريرو) و (سيرجي) ترى العجب العجاب، بل انظر

بعينيك إلى الأمم التى تزعم أن لها ارتباطًا بالدين وغيرة على اليقين، ألا تراها في

حالة مِن الإجرام والتسفّل تفضل عليها معها الأمم التي تركت الأديان، وجعلتها

خبرًا لكان، والتفتت للمدنية والعلوم الطبيعية، فأصلحت شئونها ودبرت أمورها،

فقامت على قطب الاستقامة والاستقلال، ونحت منحى الكرامة والجلال، فكشفت لها

المدنية عن وجهها الباسم، وتجلّت لها الحضارة في شكلها الفاتن، فسيطرت على

الأمم الأخرى بعلومها وصنائعها، وقهرتهم بقوتها وسطوتها، كما صارت بالنسبة

إليهم عَلَمًا في فضائلها وآدابها؟ إذا كان لا فضيلة بغير الدين وأنها لا تخرج

عما حددتم لها مِن القيود في كتبكم، فما سبب هذه الآثار المدهشة للعقول المضللة

للمدارك؟ إذا كان الإنسان كما تقولون خلق مستقلاً بذاته مِن طبيعة علوية، وأنه

مستعد لأنْ يسمو بروحه أسمى منصّة للحياة الملكيّة، فماذا هبطتم وعلا عليكم أولئك

الذين يزعمون أنّ الإنسان مِن سلالة القردة، وأن بينه وبين الحيوانات أواصر من

القربى ووشائج مِن الرّحم؟ إذا كانت الفضيلة كما تقولون لا تثبت للإنسان بغير

دين ولا تطبع بضميره إلا بطابعه، فلماذا حرمتم من أصغر أنواعها

وسبقكم في باحتها من يقول: إن الفضيلة صفة من صفات الحياة الإنسانية والرذيلة

كذلك تنشأ الأولى عندما تكون شئون تلك الحياة جارية على سمت منتظم ملائمة

لقوانين الخلقة وتبرز الثانية في ضد تلك الحالة.

أمّا ما تزعمون مِن أن لا قوام للأمم بغير الدين، ولا نظام لهم سوى حبله

المتين، فمما لا نحتاج معكم فيه إلى كبير جدال، ولا كثير قيل وقال، فدونكم الأمم

الغربية الكبرى قد بنت عظمتها بملاشاته وأقامت وحدتها بمنابذة أشياعه، ومع ذلك

نرى لها كل يوم في سجل المعالي أثرًا جديدًا، وفي حدائق الفخار والمجد صرحًا

مشيدًا، فإن كان الحال كما تزعمون فما هذا الأثر المنعكس؟ وما تفسير هذا الأمر

الملتبس؟ أليست كل هذه البراهين المحسوسة دالّةً على أنكم متمسكون بأقوال لا

يقوم عليها مِن عالم الشهود شاهد، ولا ينهضَ لها من وقائع الحوادث مدافع، لا

جَرَمَ أنكم تتأخرون ونتقدم، وتخضعون ونتحكّم، ولا غَرْوَ أنْ عَلونا وسَفلتم،

وتعزّزنا وذللتم، كما لا عجب أن استخدمنا نواميس الكون وأسرتكم، واستغللنا

خيرات الطبيعة وحرمتم.

كل هذه الشبه المتعاصية قد نشأت في وسط العلم الأوروبي ونبع سمها من

بين ذرات دسم هذه المدنية العجيبة، فالتاثت بأكثر العقول أقذارها، وتسممت الفطر

بسمومها، وقد سَرَتْ هذه السموم إلى شبيبتنا الإسلامية التي نهلت مِن العلوم

الأجنبية فخلعتها عن مجموعها، وذهبت بها مذهبًا لا تجعلها مع هؤلاء ولا هؤلاء.

وكفى أمة عجزًا وضعفًا وقصورًا وتأخرًا أنْ لا يكون لشببتها وجهة تسير عليها،

ولا غاية تعتقدها وتتوق إليها، وتدأب للحصول عليها، حلت هذه الشكوك والشبه

من قادة النشأة وزعماء التقدم في البلاد الأجنبية محلاًّ علميًّا، وجعلتهم ينبذون

معتقداتهم ظهريًّا، ولكن قام مقامها لديهم موقتًا غيرة قومية، وحمية جنسية أو لغوية،

لمت شعثهم وضمت أجزاءهم حينًا ظنوا فيه إمكان قيامهم بدون الدين بل خالوا أن

مصدر رفعهم ومنبع نظامهم والتئامهم، ومنشأ ألفتهم ووئامهم، هدم تعاليمه وتذريتها

في الهواء مع الهباء، ثم لما استقاموا على هذه المفازة الخطرة حينًا من الزمن

ورأى قادتهم ورؤساء معارفهم أن هذه خطة عوجاء، وسراب ليس وراءه ماء،

وأن بالإدمان على متابعة السير في خطتهم هذه الهلاك المستأصل والجائحة الكبرى

التي تطفئ نور مدنيتهم، وتهدم صروح عظمتهم، وساعد هذا الأثر في نفوسهم

الإحساس بالفراغ الذي ألم بصميم معناهم الإنساني وجوهرهم البشري من جراء فَقْدِ

العقيدة التى هى لازم لوازم هذه النفس الناطقة تعطشت قلوبهم إلى الدين الصحيح

وحنت فطرهم إليه حنين البائس ينتظر فرجه، ويتنسم مِن شطر الخلاص نسمة.

ولكن أين الدين؟ كانت الفلسفة الحسية فلسفة (أجوست كونت) وأشياعه القائلين

بأن المعقول إذا لم يؤيده شاهد مِن الحس جاز أن يكون ضلالاً -آخذًا مِن الأفكار

مكانة لا يمكن قلعه منها، وما دامت أسس الدين مِن عقيدة وجود الروح وخلودها في

دار بعد هذه الدار مما لا يمكن الاستدلال عليها بمحسوس جاز أن تكون وهمًا لا

حقيقة له في الواقع. فهي على حسب أسلوب هذا المذهب الكثير الأشياع من قبيل

ما لا يمكن إثباته، وما لا بد مِن عدم الخوض فيه، وما معنى دين بدون روح

وخلود وآخرة فيها نعيم مقيم أو شقاء مستديم؟

كيف الوصول إلى الاعتقاد بدين مهما كانت تعاليمه في عصرٍ هذه فلسفة بنيه

وتلك مبادئها؟ ولكنّ الله سبحانه أكرم من أن يُخيب سائلاً وأرحم مِن أن يطرد طارقًا؛

فأرسل عليهم مِن جهة فلسفتهم هذه آياتٍ تأخذُ بالأعناق خضوعًا، وبالأبصار

والبصائر دهشة وخشوعًا، فنشأت أبحاث سموها (أبنوتزم) و (مانيتزم)

التنويم المغناطيسي و (إسبرتزم) استحضار الأرواح، وغير ذلك استدل منها

عِليتُهم على أن للإنسان روحًا وخلودًا فأنشأوا مئاتِ المجلات والمجامع، وعقدوا لها

المؤتمرات والمحافل، وألفوا فيها الكتب والرسائل، وبلغ عددهم مِن العلماء

الأعلام، وقادة المعارف العظام والمحامين البارعين والكتاب المتفننين، ما يزيد

عن عشرين مليونًا - كما سنوضحه بعد إن شاء الله -. فهم على هذا لم يقعوا حتى

نهضوا ولم يضلوا حتى أوشكوا يهتدون. ولكن شبيبتنا التي جرّعت مِن حوض

علومهم، وشحنت في أذهانها صور معارفهم لم يشاءوا أن يوسعوا دائرة معارفهم،

وكأنهم لم يعلموا أن ما يدرس في المدارس مِن العلوم الطبيعية والرياضية ليس إلا

قطرة مِن بحرٍ لا تنقع صدًى ولا تروي غلة؛ بل كأنهم يعتقدون أن العلم واقف حيث

هو مِن عهد (لفوازيير) و (توسيلي) و (ماريوط) و (قولطا) وأن باب الرحمة

الإلهية أغلق في وجه بني آدم - معاذ الله - فلا مَرْمى بعد مرماهم ولا مذهب بعد

مذهبهم، ثم نسوا ما تعلموه أيضًا ولم تحفظ ذاكرتهم منه إلا شكلاً مشوّهًا مِن

استنتاجات عرجاء ليس لها أصل ترتكن إليه ولا أساس تعتمد عليه، فهم على مذهب

(أجوست كونت) و (داروين) بدون أن يكلفوا أنفسهم معرفة ماهية مذهبهما ولا

أصول نظرياتهما، وكأنهم كفاهم في أن يكونوا (أوجوستيين) و (داروينيين) أن

يروا في بعض المجلات نبأ مِن فلسفتهما لم يرد على أسلوب صحيح ولا سَلَكَ فيه

كاتبُه مسلك الاستقراء والتحليل.

ثم إنهم على فرض تعمقهم في فلسفة علماء هذا العصر وتغلغلهم في مناحيها

تدقيقًا وتمحيصًا لم يكلفوا أنفسهم النظر في ماهية الإسلام وأصوله ليروا إن كانت

مبانيه مما تهدمها هذه الأبحاث أو هي بالعكس تقوّيها وتؤيدُها.

أقول هذا ولا أنكر أن لدينا أفرادًا من رجال هذه النشأة صاروا لهامة علوم

العصر تاجًا وفي ذروة العلا الإسلامي عَلَمًا. ولكنهم - وياللأسف - قليلو العدد

مبعثرون في الجهات مشغولون بالوظائف يتألمون لهذه الحالة مثل ما نتألم ويرون

أدواءنا مثل ما نرى.

هذه صورة مصغرة من الشّبه والشكوك التي جرفتها إلينا مدينة أوربا،

وألصقتها بأذهان كثير مِن رجال نشأتنا التي اتسقت منها معلوماتها، وأخذت عنها

لغاتها، فهل بعد هذا يطوف بفكر عمرانيّ باحث أو تحليليّ مدقق أنه يمكن جمع

جمعية عصبيتها الدين وجامعتها العقيدة وسلاحها اليقين ويكون مِن أثرهم تشييد

معالي الإسلام وإرجاع مجده إليه ولو ببذل الأرواح، وبيع المهج بيع السماح؟ اللهم

لا. إذن فلنختر أحد أمرين: إما أن نقلب شكل هيئتنا الاجتماعية من شكلها الحالي

إلى شكل آخر، وروابطها الوطنية أو الجنسية أو أي أمر غيرهما، وهيهات أن يتم

لنا ذلك في ألفي سنة. وإما أن نتعهد رابطتنا الأصلية وهو الدين ونجليه لتلك الأذهان

في شكل يُذهب شكوكهم وشبههم، ويُرجع إلى تلك الفطر الإسلامية التائهة نورها

الصافي؛ حتى تدور على نفس القطب الذي كانت تدور عليه تلك الأرواح الطاهرة

والنفوس الكريمة روح سيد ولد آدم وأصحابه الذين كانوا حجة الحق الدامغة،

وأنوار الفضائل الساطعة، وخلفاء الله في أرضه وجيرانه في عالم قدسه، صلِّ اللهم

عليه وعليهم وتابعيهم آمين.

...

...

...

...

محمد فريد وجدي

(المنار) : ما دخل هذا القرن الميلادي إلا وكان شغل طائفة من كبار كتاب

أوربا البحث عن مستقبل الإسلام فيه فكتبوا في ذلك المقالات الطويلة كلٌّ يظهر

رأيه، فمنهم مَن بَشّر ومنهم مَن أنذر. وقد كنّا شَرَعْنا مِن عدة أشهر بكتابه مقالة

في ذلك عنوانها (مصير الأنام، ومستقبل الإسلام) ولكن شغلتنا عنها مقالات

(الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ثم مقالة السيد البكري في الموضوع ثم

هذه المقالة. السيد البكري أحسن في بيان الأغراض التي رمى إليها ونتائجه

صحيحة وإن كان بعض البحث في المقدمات لا يسلم مِنَ النقد كما قال صاحب هذه

المقالة؛ ولكن لم يكن للتخيلات في كلامه ذلك السلطان الذي نُسب إليه؛ بل التخيلات

الخطابية والشعرية في هذه المقالة أكثر ولا بأس بذلك إذا أريد به التأثر فيما يحمد

وإنما يذم إذا كان خلابة وخداعًا.

وأما قوله: إن الجامعة الإسلامية لا ترجي لما رجاه السيد منها، وإن عقلاء

المسلمين الذين طالبهم السيد بالعمل لا يمكن أن يعملوا، أو استدلاله بعدم تأثير المقالات

الطويلة التي كتبت منذ عشر من السنين - فهو غير سديد فإن كل ما كتب بحق

وإخلاص قد أثّر حتّى أحدث حركة عظيمة في العالم الإسلامي وإنّ عقلاء المسلمين

يشتغلون الآن بما طالبهم به السيد، وإنما مطالبته لزيادة البيان والتنشيط والكمال

وإنما لم يظهر أثر كبير لسعيهم لضعف الاستعداد {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38)

وفي هذه المقالة موافقة على هذا فإن الكاتب طالب المسلمين في آخرها بأحد أمرين

وهم قائمون بالثاني منهما، وهو السديد {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) .

التنويم واستحضار الأرواح لم يزل أمرهما مُبهمًا، ومستقبل أثرها مجهولاً

وتعليق مستقبل الإسلام عليهما لا يحث المسلمين على عمل، ولا يحيي في نفوسهم

ميّت الأمل، نعم؛ إننا نرجو من كل ما يكشفه العلم مِن أسرار الخليقة تأييدًا للإسلام

سواء كان السر روحانيًّا أو ماديًّا والقول الذي لا ريب فيه هو أن المستقبل للإسلام؛

لأنه دين الفطرة والاجتماع المرشد إلى مصالح الروح والجسد والهادي إلى الوفاق

بين وظائف العقل ووظائف القلب. فلا بد أن يكون الإسلامُ هو الحاكم الأعلى في

المدنية العليا عندما تكمل هي ويظهر هو خاليًا مِنَ التقاليد التي أضيفت إليه كما قلناه

مِرارًا. وسنزيدهُ بيانًا. أما ما كَرِهَ الكاتبُ مِن شبهاتِ أوربا على الدين فهو لا يمس

الإسلام؛ لأن عقائده مؤيَّدة بالعقل، وسيرة المسلمين أطهر سير البشر عندما كانوا

على الإسلام السليم مِن البدع، وعلى كل حال نشكر للكاتب الأول وللكاتب الثاني

إعمال قلميهما في هذا الموضوع الشريف وكل منهما أحسن في الوجه الذي كتب فيه

لا تنافي بينهما ولا تناقض في الحقيقة وكلّ ما كتبا لا يمنعنا مِن نشر ما كنا شَرَعْنا فيه

ولكنّه كفانا مؤنة التطويل {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب:4) .

_________

ص: 656