الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد، فقد تم للمنار أربع سنين ودخل بهذا الجزء في السنة الخامسة. ولم ينس
القراء أن فواتح السنين الخالية وخواتمها كانت تكتب بمداد الصبر والتبرُّم، على
صحائف الأمل والتعلل، لِمَا لقيناه من معارضة أنصار الجهل، ومناهضة الذين
ألفوا الذل، وما تحملناه من مناصبة الظالمين، ومغاضبة المقلدين، مع العناء
الكبير، وقلة العون والنصير.
ولو كان هذا المنار مُنْشأ لأجل الكسب، وابتغاء الرزق، لقوّضته أنواء
المناوأة والمناكدة، ودكته رياح المماكرة والمكايدة. ولو قصد به التوسل إلى
الوظائف والمناصب، والتوصل إلى الرتب والرواتب، لنال منها ما أراد، أو نالت
منه ما تريد. ولو كان الغرض منه الرياء والفخر ، وحسن السمعة والذكر ، لتلاعبت
به الأهواء ، وعبثت به أيدي الزعماء والرؤساء ، فأمالته عن الطريقة ، وصرفته عن
طلب الحقيقة. كلا والله ما كان شيء من ذلك ولن يكون {إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
صرحت في فاتحة السنة الأولى بأنني كنت في هذا العمل بين يأس ورجاء
يحركني الباعثان ، ويتنازعني العاملان ، وفي خاتمتها بأن غوغاء الناس سلقونا
بألسنة حداد ، ورمونا بسهام الانتقاد ، ولم تكن السنة الثانية بأمثل من الأولى ، ولا
بأقل بلاءً وأكثر قبولاً. وقلت في فاتحة السنة الثالثة: إن المنار قد انتشرت تعاليمه.
ولم أقل: إنه زاد هو انتشارًا. وقلت: إن الكُتَّاب والخطباء قد تداولوا مسائله. ولم
أقل: إنهم كانوا أعوانًا له وأنصارًا ، بل صرحت بأنهم كانوا (بين مخطّئ
ومصيّب ومنتقد ومجيب ، وهكذا يكون الأمر في أوله وستتجلى الحقيقة للناس إن
شاء الله عن قريب) . وكتبت في فاتحة السنة الرابعة أنه قد نما النمو الطبيعي المقدر
له من أول نشأته (أي: التدريجي البطيء) ولقي صاحبه من الألاقي بعض ما لقي
الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) نعم إننا كنا نمزج هذه الشكوى بشكر العلماء ، والاعتراف بفضل
الفضلاء، الذين تقبلوا المنار بأحسن القبول، ورأوه من بواعث إحياء الأمل
وحصول المأمول، مع الإيماء إلى قلتهم، والتبرم من عدم نجدتهم.
هذا مجمل تاريخ المنار من أول نشأته إلى سنته الرابعة التي كان آخرها
خيرًا من أولها وخاتمتها أفضل من فاتحتها، ولم ينس القراء أننا اعترفنا فيها
بتضاعف قراء المنار، وكونه صار موضع الثقة في جميع الأقطار.
ونزيد تحدثًا بالنعمة فنقول: لقد خشعت بفضل الله تعالى أصوات المشاغبين،
وأعرض الناس عن جهل المعارضين، فخنست شياطين الوساوس، وطاشت سهام
أرباب الدسائس، وصار لنا من مستحسني العمل في السر، من يدعو إليه في الجهر،
ومن المتبرمين منه، من يناضل دونه ويدافع عنه، فلنا أن نقول الآن تحدثاً بالنعمة:
إننا انتقلنا من مقام الصبر إلى مقام الشكر.
فأما الصبر: فلا بد للداعي إلى الحق من الاعتصام به ولذلك قرن الله تعالى
التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومن فوائد الصبر الظفر وحسن الجزاء قال
تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 96)
وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) بل وعد سبحانه أهل الصبر، بمضاعفة الجزاء
والأجر، فقال:{أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} (القصص: 54) .
وأما الشكر: فقد وعد الله تعالى صاحبه بالمزيد من النعمة والأمن من العذاب
فقال عز شأنه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) وقال جل ثناؤه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِراً عَلِيماً} (النساء: 147) فنسأله تعالى أن يوفقنا للشكر على الآلاء (ما وفقنا
للصبر على البلاء) فإن الشكر مقام عزيز؛ لأن من شأن الإنسان أن تُبطره النعمة
ويشغله الغرور بها عن الشكر عليها، ولذلك قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13) .
الشكر هو: معرفة النعمة للمنعم تعالى والثناء عليها وصرفها في إقامة
سننه وموافقة حكمته وموجبات محبته، ومَنْ شَكَرَ اللهَ شَكَرَ مَنْ أحسن العمل مِن
عباده، فقد روى أحمد وأبو داود وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يشكر الله من لا يشكر
الناس) لهذا نشكر لأولئك الأفاضل الذين انتدبوا للدعوة إلى المنار والسعي في نشره
عملهم، ونعرف لهم فضلهم، ونشكر أيضًا للمشتركين الكرام الذين يؤدون الحقوق
في أوقاتها وفاءهم، ونعترف بالسبق بالفضل، لقوم سبقوا بالبذل؛ فأدوا قيمة
الاشتراك عن السنة الخامسة قبل دخولها حتى إننا لم نقبل ذلك من بعضهم إلا بعد الإلحاح منهم والإصرار.
ونرجو من سائر المشتركين الفضلاء أن يبادروا إلى حسن الأداء، فإنه من
يُشكَر له، خير ممن يُصْبَرُ عليه، ونحمد الله تعالى أن أكثر قراء المنار، من
المصطفين الأخيار فمنهم العلماء الفضلاء، والأمراء والوزراء، والقضاة
المقسطون، والمحامون البارعون، ونظار المدارس وأساتذتها، والأذكياء النابغون
من تلامذتها، وذوو الشهامة من الضباط المصريين، ونعِد الجميع بأننا سنبذل
الجهد في زيادة الفوائد، وتحرير المسائل، والبحث عن أقرب الوسائل لنهضة
المسلمين، ومنفعة جميع الشرقيين، بل نرجوا أن يكون عملنا خدمة للناس أجمعين.
ونسأل الله أن يحفظنا من عثرة القلم، وزلة القدم، وأن يلهمنا السداد،
ويوفقنا للصواب، وأن ينصر سلطاننا، وينير برهاننا، ويحقق آمالنا، ويحسن
مآلنا، فهو نعم المولى ونعم النصير، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
…
...
…
...
…
...
…
... صاحب المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيدرضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القضاء في الإسلام
النبذة الثانية
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
وجوب نصب القاضي:
(الحديث)[1] قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من
الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم) وفي رواية: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا
عليهم أحدهم) استدل العلماء بهذا الحديث على أن نصب الأمير الذي يسوس الناس
والقاضي الذي يحكم بينهم واجب شرعًا؛ لأن هذا أولى بالوجوب من تأمير
المسافرين - وإن كانوا أقل الجمع - واحدًا منهم عليهم، والعلة ظاهرة والعمل عليها
من أول الإسلام. وفي الحديث إرشاد إلى أن الأمة هي التي تولي الأمراء والحكام
كما تقدم شرحه في باب الأحاديث الواردة في الأمراء من المجلد الرابع.
موانع القضاء أو شروطه:
تقدم في الأحاديث السبعة التي أوردناها في النبذة الأولى ما يدل على أن
الضعيف لا يكون قاضيًا وبيَّنَّا أنواع الضعف، وأن الجاهل لا يكون قاضيًا. كما
يؤخذ من حديث قاضي الجنة وقاضيي النار وغيره. وأن الجائر لا يكون قاضيًا، وأن
المرأة لا تكون قاضية، وخالف في هذا الشرط الحنفية، ولو كان المخالف من علماء
هذا العصر لحكم بكفره أكثر المسلمين، ورموه بمصانعة الأجانب وتقليد الأوربيين،
وكذلك الصبي لا يكون قاضيًا، ونقل بعضهم الإجماع على هذا، ويستدل له بما
اسُتدِلَّ به على منع قضاء المرأة، وفي هذه الموانع أحاديث أخرى نورد بعضها [2] :
قال صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان)
والقضاء ضرب من الإمارة ولا نعرف في الناس من تُوَلِّي الصبيان القضاء،
ولكنهم يولونهم الإمارة والسلطنة بالوراثة، وقد قلد المسلمون الأوربيين في هذه
الوارثة.
فأما أولئك فإنهم آمنون من مضرة ولاية الصبي؛ لأن حكوماتهم مقيدة بقوانين،
ووزراء مسؤلين ومنفذين، وإنما الحاكم العام، (كالملك ورئيس الجمهورية)
لأجل الوحدة في مصدر الأحكام، وهو لا يستبد دونهم بنقض ولا إبرام.
وأما بلاد الشرق فلقد تأصل فيها الاستبداد ورسخت عروقه، واعتادت أممها
عليه، وضعفت عن مقاومته، فلو قضت شئون السياسة وتقلب الحوادث على بعضها
بوضع قانون يجعل أحكامها مقيدة بالقوانين التي تغل أيدي الأمراء والسلاطين،
لَمَا وُجد مِن الأمة كافل يضمن تنفيذ القانون ولا استبد الحاكم الأكبر كيف شاء أو
يجد قوة أجنبية تأخذ على يده وتوقفه عند حده.
ولهذا المعنى كانت تولية الصبي الملك خطرًا في الشرق، ومثله المرأة. وأما
رأس السبعين في الحديث فقالوا: إنه إنباء بما وقع في عشر السبعين من الفتن،
كقتل سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان ووقعة الحرة وغير ذلك.
عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس
ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)[3] والنظر في
هذا الحديث الشريف من وجهين:
أحدهما: كونه خبرًا.
وثانيهما: كونه حكما شرعيًّا؛ لأنه يتضمن بمعناه النهي عن تولية النساء الأمور
العامة كالخلافة والقضاء.
أما الأول فهو مبني على العادة التي كانت متبعة في الشرق بل في العالم كله
وهي أن الأمر والنهي والتصرف السياسي والقضائي بأيدي الملوك والأمراء، ولا
شك أن هذه الوظائف لا يصح أن تسند إلى النساء؛ لأنهن أضعف رأيًا لاسيما في
محافل الرجال وما يتعلق بأعمالهم، وأقل جلدًا وثباتا وأميل مع الهوى؛ لرقة قلوبهن
وسرعة انفعالهن، ولأنهن إن يشتغلن بذلك يضعفن عن وظيفتهن الطبيعية وهى
تربية الأولاد وتدبير المنزل.
فإذا كان في المرأة استعداد لأنْ تُجاري الرجل وتكون مثله في كل شيء كما
يزعم بعض الأوربيين فهذا الاستعداد لما يتحقق فعلاً مع العناية بتربية النساء في أوربا فلا يعترض به على حديث قيل في شأن الفرس من ثلاثة عشر قرنًا، ولا
ينبغي السعي في تحقيقه بتربية المرأة كما يتربى الرجل تماما؛ لأن هذا يضر النوع
الإنساني من وجوه أهمها تربية الأولاد، فإن المُرَبِّي يجب أن يكون بينه وبين
المُرَبَّى تقارب وتناسب في السجايا والأخلاق والأفكار والرغائب؛ ليسهل الائتلاف
والامتزاج معه والتقليد له والأخذ عنه بالطبع لا بالتكلف. والمرأة وسط بين
الأطفال وبين الرجال فهي التي تربي البنات كل التربية وتربي الصبية التربية
الأولى التي تعدهم للأخذ عن الرجال والاقتداء بهم. وإذا اشتغل الرجل بتربية
الأطفال، فإنه يعامل الذكران والإناث معاملة الرجال، وفي ذلك خروج بالبنات عن
سنة الفطرة، وذهاب بالصبيان مع الفطرة.
وأما الثاني - وهو كون الحديث حكمًا شرعيًّا بمنع ولاية النساء - فهو من
جهةٍ مناسبٌ لاستعداد النساء ولوظيفتهن الفطرية، ومن جهة أخرى مناسب لما كانت
عليه حالة الأمم في ذلك العصر ولا حاجة لإباحته في عصر آخر بل فيه الضرر
المذكور في الوجه الأول وهو التعدي على وظيفة النساء الطبيعية.
ولا يعترض بحال أوربا وكون الدولة الإنكليزية أفلحت في عهد الملكة فيكتوريا
فلاحًا ما رأت هي ولا غيرها من الدول مثله؛ لأن فرقًا بين أمم أوربا والأمة
الإسلامية، وهو أن المَلك فيهم ليس له من الوظائف مثل ما للخليفة عند المسلمين،
فإن الخليفة هو الإمام الديني الذي يصلي بالناس ويخطب فهم ويؤمهم في حجهم عند
حضوره الحج وكل الأئمة والخطباء في البلاد الإسلامية وكل القضاة والمفتين نوابه
ووكلاؤه فهو الذي يقلدهم هذا المنصب بشرط الكفاءة، وإليه يرجعون في مسائل
الخلاف ليفصل فيها، ومن شروط الكفاءة أن يكون القاضي والمفتي في مرتبة
الأئمة المجتهدين في الدين ومعرفة مصلحة المسلمين. ولا يعرف هذا إلا من هو أهله.
وإن فَرَضْنا أن في استعداد المرأة الوصول إلى هذه المرتبة، وأنه لا ضرر في
هذا على النوع الإنساني، فهناك مانع آخر من إمامتها وهو: أنها تكون في طور لا
تصح فيه صلاتها بنفسها؛ فكيف تكون إمامًا لغيرها؟ ولا يقال: تستنيب؛ لأن من
ليس له الحق بشيء لا يصح أن يستنيب فيه؛ إذ النائب يؤدي وظيفة المنيب، ولا
وظيفة له هنا - هذا بعض ما يقال في المنع من الجهة الدينية المحضة، وثَمَّ موانع
أخرى من الجهة الدنيوية وهي كون الخليفة مدير السياسة والحروب ومتولي النظر
في المصالح الداخلية والخارجية، ولذلك اشترطوا أن يكون شجاعاً فإن قيل: إن
الإسلام شرع المشاورة في الأمور وجعلها فرضًا لازمًا ومنع الخليفة أن يستبد في
أمر بنفسه، وهذا عين ما عليه الأوربيون في تقييد الملوك بالمجالس النيابية. قلنا:
نعم هذا صحيح، ولكن الإسلام أوجب على الخليفة أن يكون عاملاً بالمشاورة لا أن
يكون آلة تجري الأُمور باسمه بدون شعور. والكلام في هذا المقال كثير وفيما
ذكرناه غناء للصبر.
ومن موانع القضاء عند الجماهير الرق وحكي عن العترة أنه يصح أن يكون
العبد قاضيًا، وكأنهم أخذوا بظاهر الحديث وهو:[4] قال صلى الله عليه وسلم:
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) وفي رواية:
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله) قال القسطلاني في
شرح البخاري: معناه: إن استعمله الإمام الأعظم على القوم، لا أن العبد الحبشي هو
الإمام الأعظم؛ فإن الأئمة من قريش. اهـ، أو المراد به الإمام الأعظم على سبيل
الفرض والتقدير وهو مبالغة في الأمر بطاعته، والنهي عن شقاقه ومخالفته. اهـ أي:
ليس المراد به ظاهره فإن العبد إذا ولي الخلافة لا يطاع بل يخلع ويعزل: قال
الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود. وقال الحافظ في الفتح: ونقل ابن
بطال عن المهلب قال: قوله: (اسمعوا وأطيعوا) لا يوجب أن يكون المستعمِل للعبد
إلا إمام قرشي لما تقدم من أن الإمامة لا تكون إلا في قريش وقد أجمع الأمة على أنها
لا تكون في العبيد ويحتمل أن يكون سماه عبداً باعتبار ما كان قبل العتق. اهـ
والحاصل أن شروط القضاء في الشرع سبعة، كما قال في الأحكام
السلطانية: الرجولية، والحرية، والإسلام، والعدالة، والاجتهاد في العلم، والعقل،
وسلامة الحواس. وجوّز مالك قضاء الأعمى كما جوز شهادته.
***
آثار السلف عبرة للخلف
عدل عمر:
روى ابن عبد الحكم عن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن
الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذًا. قال:
سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن
الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم ابنه معه، فقدم، فقال عمر:
أين المصري؟ خذ السوط فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب
ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه فما أقلع
عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو.
فقال: يا أمير المؤمنين! إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر
لعمرو: مُذْ كم تعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا! قال: يا أمير المؤمنين
لم أعلم ولم يأتني.
وروى عبد الرزاق في الجامع والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر قال:
شرب أخي عبد الرحمن وشرب معه أبو سروعة عتبة بن الحارث وهما بمصر في
خلافة عمر فسكرا فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا:
طهّرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه (يظهر من هذه الكلمة أنهما لم يكونا
يقصدان السكر ولم يعرفا ما هو الشراب) قال عبد الله: فذكر لي أخي أنه سكر،
فقلت: ادخل الدار أطهّرك ولم أشعر أنهما قد أتيا عَمْرًا فأخبرني أخي أنه أخبر
الأمير بذلك فقلت: لا تحلق اليوم على رءوس الناس ادخل الدار أحلقك. وكانوا إذ
ذاك يحلقون مع الحد فدخلا الدار. قال عبد الله: فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهم عمرو
فسمع بذلك عمر وكتب إلى عمرو أن ابعث إليَّ بعبد الرحمن على قتب ففعل ذلك،
فلما قدم على عمر جلده وعاقبه لمكانه منه ثم أرسله فلبث شهرًا صحيحًا ثم أصابه قدره فمات فيحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر ولم يمت من جلد عمرو.
وروى هذا الأثر ابن سعد في الطبقات مطولاً، ذكر فيه مجيء عبد الرحمن
إلى مصر ونزوله في أقصاها وأن عَمْرًا خشي أن يزوره أو يهدي إليه شيئاً فيعلم
أبوه عمر بذلك فيعاقبه؛ لأنه كان كتب إليه (إياك أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي
فتَحْبُوه بأمر لا تصنعه بغيره) حتى جاءه هو ورفيقه أبو سرعة منكسرَيْنِ يطلبان
إقامة الحد عليهما. وفيه أن عمر لما علم أن عَمْرًا أقام الحد على ولده في بيته
وحلقه في بيته ظن أنها خصوصية اختص بها ولده، فكتب إليه يوبخه ويهدده بالعزل
ويطلب عبد الرحمن. وأن عَمْرًا اعتذر له بأن يحد كل مسلم وذمِّيٍّ في بيته.
اهـ ملخصًا من كتاب كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو، والرواية الثانية: أخرجها أبو داود عن أبي سعيد. وأخرج نحوهما البزار بسند صحيح عن عمر بن الخطاب.
(2)
رواه أحمد عن أبي هريرة.
(3)
رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي.
(4)
رواه أحمد والبخاري عن أنس والرواية الثانية لمسلم عن أم الحصين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
(الدرس 32)
عصمة الأنبياء عليهم السلام
(المسألة 79) حقيقة العصمة هي في اللغة: المنع، وقال الجرجاني
…
في التعريفات: (العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها) أي إن
المعصوم من الشيء يجد في نفسه قدرة عليه ويشعر بزاجر منها يحول دون
الوقوع فيه.
فالعصمة وازع نفسي راسخ في النفس وهي في الأنبياء فطرية، وقد يكون
لغيرهم بحسن التربية من ملكة الفضيلة ما يربأ بنفوسهم عن موافقة الفجور والدنايا.
ويسمي علماؤنا هذا المعنى حفظًا؛ للتفرقة، وإنما يكون هذا بالتربية الفاضلة بين
الفضلاء مع مساعدة الوراثة واعتدال المزاج. وقد ينكر الذين ابتلوا باقتراف الكبائر
هذا المعنى أن يكون لغير الأنبياء، ويسلمون به للأنبياء تقليدًا. ولهم العذر فإنه أمر
لا يعرفه إلا من ذاقه وقليل ما هم.
***
(م 80) العصمة في التبليغ.
جاء في المواقف أن أهل الملل والشرائع قد أجمعوا على عصمة الأنبياء
عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن
الله تعالى. وإن عاقلاً لا يجمع بين الإيمان والوحي والنبوة وبين تجويز كذب النبي
على الله تعالى فيما يبلغ عنه، فإن كان هذا جائزًا؛ فأي ثقة بالوحي؟!
وكيف يميز المكلف بين ما هو عن الله وما عن غير الله والمبلغ غير موثوق
بصدقه؟ !
ولقد أبعد القاضي - أحد أئمة الأشعرية - في قوله بجواز صدور الكذب منهم
سهوًا. وهو قول مردود لا يعوِّل عليه أحد. والدليل على هذا النوع من العصمة
هو عين الدليل على النبوة من الآيات العلمية أو الكونية.
***
(م 81) العصمة من الكفر.
أجمع المسلمون من جميع الفرق على عصمتهم من الكفر قبل النبوة وبعدها
وليس هنا شبهة لأحد فنتوسع فيه.
***
(م 82) العصمة من كبائر الذنوب
قال في المواقف وشرحه: (أما الكبائر)، أي: صدورها عنهم عمدًا (فمنعه
الجمهور) من المحققين والأئمة، ولم يخالف فيه إلا الحشوية، (والأكثر) من
المانعين (على امتناعه سمعًا) قال القاضي والمحققون من الأشاعرة: إن العصمة
فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً إذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عنهم سمعًا
مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك. (وقالت المعتزلة بناء
على أصولهم الفاسدة في التحسين والتقبيح العقليين ووجوب رعاية الصلاح
والأصلح) (يمتنع ذلك عقلاً) ؛ لأن صدور الكبائر عنهم عمدًا يوجب سقوط
هيبتهم من القلوب وانحطاط رتبتهم في أعين الناس فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم
الانقياد لهم. ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم وهو خلاف مقتضى
العقل والحكمة. (وأما) صدورها عنهم (سهوًا) وعلى سبيل الخطأ في التأويل
(فجوزه الأكثرون) والمختار خلافه. اهـ
ولم يذكر ناقلي الإجماع ولا كيف وقع هذا الإجماع، وما أراه إلا الإجماع
السكوتي. وعجيب من سادتنا الأشاعرة كيف ينقضون الأدلة العقلية على عصمة
الأنبياء لأجل مخالفة المعتزلة ولو بالتكلّف؟
إذ استلزام دليلهم للتحسين والتقبيح بالمعنى النافي لاختيار الله تعالى
ممنوع كما سنبينه.
ثم إنهم جوّزوا وقوع الكبائرمنهم سهوًا وتأويلاً كما ترى. وذكر السيد أن
المختار خلاف ما عليه الأكثرون. وقد جزم المتأخرون بهذا في عقائدهم، ولا
شك أن المتأخرين أشد تعظيمًا بالقول للأنبياء والصلحاء وكذلك في الاعتقاد
التخيلي دون البرهاني. على أنهم في هذه المسألة أقرب إلى الصواب من
المتقدمين.
***
(م 83) العصمة من الصغائر:
قال في المواقف: (وأما الصغائر عمدًا فجوزه الجمهور إلا الجبائي، وأما
سهوًا فهو جائز اتفاقًا إلا الصغائر الحسية كسرقة حبة أو لقمة. وقال الجاحظ:
يجوز بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير من المتأخرين وله نقول)
قال الشارح: (أي نحن الأشاعرة) .
***
(م 84) العصمة قبل النبوة:
قال في المواقف بعد إيراد ما ذكر كله: (هذا كله بعد الوحي وأما قبله
فقال الجمهور: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة؛ إذ لا دلالة للمعجزة عليه ولا حكم
للعقل. وقال أكثر المعتزلة: تمتنع الكبيرة وإن تاب منها؛ لأنه يوجب النفرة،
وهي تمنع عن اتباعه، فتفوت مصلحة البعثة. ومنهم من منع عما ينفر مطلقًا كعهر
الأمهات والفجور في الآباء والصغائر الحسية دون غيرها. وقالت الروافض: لا
يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة قبل الوحي، فكيف بعد الوحي؟) اهـ.
وقول الروافض هذا هو الذي اعتمده المتأخرون من أهل السنة، بل منع
بعضهم وقوع المكروه منهم إلا على سبيل التشريع.
***
(م 85) رَأْيُنا [1] : إنما ذكرنا هذا الاختلاف في العصمة ليعرف من يطلع
عليه من دعاة النصارى ومجادليهم أن المسلمين لم يتكلفوا القول بعصمة الأنبياء
تكلفًا لإثبات قدرتهم على إنجاء الناس من العذاب في اليوم الآخر كما يزعمون، وإنما
يتبعون في ذلك - كغيره - ما يظهر لهم من الأدلة العقلية والسمعية أي: أدلة الوحي
وإنما نقلنا عبارة كتاب المواقف الذي هو أعظم كتب الكلام عندنا لئلا يظن قليل
الاطلاع من المسلمين أن الأقوال التي أوردناها في الخلاف هي أقوال شاذة أو مسندة
لغير أصحابها سهوًا أو جهلاً لا سيما اعتماد متأخري أهل السنة قول الرافضة.
والذي نراه أنه يصح الاستدلال بالعقل على عصمة الأنبياء عليهم السلام، ولا
يستلزم ذلك القول بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين ولا سلب الاختيار عن الله تعالى.
وكذلك يستنبط من كثير من الآيات القرآنية ما يدل على نزاهتهم وكونهم قدوة في
الخير والفضائل، ولكن ليس فيها نص صريح على العصمة من الذنوب مطلقًا؛
ولذلك قال صاحب المواقف بعد إيراد تلك الآيات: إنها ليست بالقوية فيما هو محل
النزاع وهو الكبيرة سهوًا والصغيرة عمدًا. وفي الكتاب والسنة إسناد الذنوب إلى
بعض الأنبياء عليهم السلام، وما جاز على بعضهم جاز على الآخرين. والعلماء
يؤوِّلون ذلك. وقصارى هذا كله وجوب الاعتماد على الدليل العقلي والتوفيق بينه
وبين ما ورد من إسناد الذنوب إليهم، فاطلب ذلك من الدرس الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
راجع النبذة 11من شبهات المسيحيين وحجج المسلمين في عصمة الأنبياء والخلاص (ص816م4) .