الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من كتاب دلائل الإعجاز
للإمام عبد القاهر الجرجاني
(تتمة الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه
وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه)
كان آخر القول في النبذة الماضية أن النبي كان يستنشد عائشة فتنشده ما تقدم.
قالت: فيقول عليه السلام (يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده صنع إليك
عبدي معروفًا فهل شكرته عليه فيقول يا رب علمت أنه منك فشكرتك عليه قال
فيقول الله عز وجل: لم تشكرني إذ لم تشكر من أجريته على يده) .
(وأما) علمه عليه السلام بالشعر فكما روي أن سودة أنشدت (عدِيٌّ وتَيم
تبتغي من تحالف) فظنت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنها عَرَّضَتْ بهما
وجرى بينهن كلام في هذا المعني فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليهن
وقال: (يا ويلكن ليس في عديكن ولا تيمكن قيل هذا، وإنما قيل هذا في عدي تميم
وتيم تميم) وتمام هذا الشعر:
فحالف ولا والله تهبط تَلْعة
…
من الأرض إلا أنت للذل عارف [1]
ألا من رأى العبدين أو ذكرا له
…
عدي وتيم تبتغي من تحالف
وروى الزبير بن بكار. قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو
بكر رضي الله عنه برجل يقول في بعض أزقة مكة:
يا أيها الرجل المحول رحله
…
هلا نزلت بآل عبد الدار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر هكذا قال الشاعر) قال: لا يا رسول
الله ولكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله
…
هلا سألت عن آل عبد مناف
فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم هكذا كنا نسمعها.
(وأما) ارتياحه صلى الله عليه وسلم للشعر واستحسانه له فقد جاء فيه
الخبر من وجوه من ذلك حديث النابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله صلى الله
عليه وسلم قولي:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
…
وإنا لنرجو فوق مظهرا
فقال النبي صلى اله عليه وسلم: (أين المظهر يا أبا ليلى؟) فقلت: الجنة يا
رسول الله قال: (أجل إن شاء الله) . قال: (أنشدني) فأنشدته من قولي:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له
…
بوادر تحمي صفوة أن يكدرا [1]
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
…
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال صلى الله عليه وسلم: (أجدت، لا يفضض الله فاك) قال الراوي: فنظرت
إليه فكأن فاه البَرَد المنهلّ ما سقطت له سن ولا انفلت تَرَف غُرُوبه [2]
(ومن ذلك) حديث كعب بن زهير روي أن كعبًا وأخاه بجيرًا خرجا إلى
رسول الله عليه وسلم حتى بلغا أبرق العَزَّاف فقال كعب لبجير: القَ هذا الرجل وأنا
مقيم ههنا فانظر ما يقول وقدم بجير على رسول الله صلى الله وعليه وسلم فعرض
عليه الإسلام فأسلم وبلغ ذلك كعبًا فقال في ذلك شعرًا فأهدر النبي صلى الله عليه
وسلم دمه فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلى الله وعليه وسلم
ويقول: وأن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل منه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأسقط ما كان قبل ذلك فقدم كعب وأنشد النبي صلى الله عليه
وسلم قصيدته المعروفة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
…
متيم إثرها لم يفيد مغلول [4]
وما سعاد غداة البين إذ رحلت
…
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
…
كأنه منهل بالراح معلول
سحَّ السقاة عليه ماء مَحْنِيَة
…
من ماء أبطح أضحى وهو مشمول [5]
أكرم بها خلة لو أنها صدقت
…
موعودها أولو أن النصح مقبول
حتى أتى على آخرها فلما بلغ مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الرسول لسيف يستضاء به
…
مهند من سيوف الله مسلول
في فتية من قريش قال قائلهم
…
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم
…
وما بهم عن حياض الموت تهليل
شهم العرانين أبطال لبوسهم
…
من نسيج داود في الهيجا سرابيل
أشار رسول الله صلى الله وعليه وسلم إلى الحِلَق أن اسمعوا قال: وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم يتحلقون حلقة دون
حلقة فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة والأثر به
مستفيض.
وإن زعم أنه ذم الشعر من حيث هو موزون مقفى حتى كان الوزن عيبًا،
وحتى كان الكلام إذا نُظِمَ نَظْمَ الشعر اتضع في نفسه وتغيرت حاله. فقد أبعد وقال
قولاً لا يُعرف له معنى، وخالف العلماء في قولهم: إنما الشعر كلام، فحسنه حسن
وقبيحه قبيح [6] وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.
فإن زعم أنه إنما كره الوزن؛ لأنه سبب لأن يغني في الشعر ويلتهى به فإنا إذًا
كنا لم نَدْعُه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل، والقول الفصل،
والمنطق الحسن البين، والى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة،
وإلى صنعة تعميم المعنى الخسيس فتشرفه، وإلى الضئيل فتفخمه، وإلى المشكل
فتجليه، فلا متعلَّق له علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكر، فليقل في الوزن
بما شاء، وليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي
راجعنا القول فيه، وهذا هو الجواب لمتعلِّق إن تعلّق بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: 69) وأراد أن يجعله حجة في المنع من الشعر ومن
حفظه ومن روايته، وذاك أنا نعلم أنه صلى الله عليه لم يمنع من الشعر من أجل أن
يكون قولاً فصلاً، وكلامًا جزلاً ومنطقًا حسنًا وبيانًا بينًا، كيف وذلك يقتضي أن
يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة، وحماه الفصاحة والبراعة، وجعله لا يبلغ
مبلغ الشعراء في حسن العبارة، وشرف اللفظ وهذا جهل عظيم. وخلاف لِمَا
عرفه العلماء وأجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب. وإذا
بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني وكنا قد أعلمناه أنا ندعو إلى الشعر من
أجلها ونحدو بطلبه على طلبها كان الاعتراض بالآية مُحالاً والتعليق بها خطلاً من
الرأي وانحلالاً:
فإن قال إذا قال الله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: 69)
فقد كره للنبي صلى الله عليه وسلم الشعر ونزّهه عنه بلا شبهة وهذه الكراهة كانت
لا تتوجّه إليه من حيث هو كلام ومن حيث إنه بليغ بيّن وفصيح حسن ونحو ذلك
فإنها تتوجه إلى أمر لا بد لك من التلبس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من
الشعر وذلك أنه لا سبيل لك إلى أن تميز كونه كلامًا عن كونه شعرًا حتى إذا رويته
التبست به من حيث هو كلام ولم تلتبس به من حيث هو شعر هذا مُحال. وإذا كان
لا بد لك من ملابسة موضع الكراهة فقد لزم العيب براوية الشعر وإعمال اللسان فيه.
قيل له [6] : هذا منك كلام لا يتحصل وذلك أنه لو كان إذا وزن حطّ ذلك من قدره
وأزرى به وجلب على المفرِّغ له في ذلك القالب إثمًا، وكسبه ذمًّا. لكان من حق
العيب فيه أن يكون على واضع الشعر أو من يريده لمكان الوزن خصوصًا دون من
يريده لأمر خارج عنه ويطلبه لشيء سواه فأما قولك: إنك لا تستطيع أن تطلب من
الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره فإني إذًا لم أقصده من أجل ذلك المكروه
ولم أرده له وأردته لأعرف به مكان بلاغة. وأجعله مثالاً في براعة. أو أحتج به
في تفسير كتاب وسنة وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن، فأرى موضع الإعجاز وأقف
على الجهة التي منها كان، وأتبين الفصل والفرقان، فحق هذا التلبس أن لا يعتد
عليّ ذنبًا وأن لا أؤاخذ به إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عَمْدٌ إلى أن تواقع
المكروه وقصد إليه [1] وقد تتبع العلماء الشعوذة والسحر وعُنُوا بالتوقف على حيل
المموِّهين ليعرفوا فرق ما بين المعجزة والحيلة فكان ذلك منهم من أعظم البر إذ كان
الغرض كريمًا والقصد شريفًا هذا وإذا نحن رجعنا إلى ما قدمنا من الأخبار، وما
صحَّ من الآثار، وجدنا الأمر على خلاف ما ظن هذا السائل ورأينا السبيل في منع
النبي صلى الله عليه وسلم الوزن وأن ينطلق لسانه بالكلام غير ما ذهبوا إليه وذاك
أنه لو كان منع تنزيه وكراهة لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونًا وأن ينزّه
سمعه عنه كما ينزه لسانه ولكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر به ولا يحثّ عليه.
وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعرًا ولا يؤيد فيه بروح القدس،
وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة بل
سبيل الوزن في منعه عيه السلام إياه سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا
يكتب في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط بل؛ لأن تكون الحجة
أبهر وأقهر، والدلالة أقوى وأظهر، ولتكون أعم للجاحد [2] وأقمع للمعاند، وأردّ
لطالب الشبهة، وأمنع في ارتفاع الريبة.
وأما التعليق بأحوال الشعراء بأنهم قد ذُمُّوا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً
يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته،
والعلم بما فيه من بلاغة، وما يختص به من أدب وحكمة؛ ذاك لأنه يلزم على قول
هذا القول أن يعيب العلماء في استشاهدم بشعر امرئ القيس وأشعار أهل الجاهلية
في تفسير القرآن وغريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم
ذكره من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وإصغائه إليه واستحسانه له، هذا
ولو كان يسوغ ذم القول من أجل قائله، وأن يحمل ذم الشاعر على الشعر لكان
ينبغي أن يُخص ولا يعم وأن يستثنى فقد قال الله عز وجل: {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} (الشعراء: 227) ولولا أن القول يجر
بعضه بعضًا وأن الشيء يذكر بدخوله في القسمة لكان حق هذا ونحوه أن لا يتشاغل
به وأن لا يعاد ويبدأ في ذكره اهـ.
_________
(1)
التلعة تطلق على ما علا وما سفل من الأرض وقيل هي ما اتسع من فوهة الوادي.
(2)
البوادر جمع بادرة وهي الحدة أو ما يبدر من الإنسان عند الحدة من الخفة إلى الانتقام بالقول أو الفعل والحديث رواه ابن عساكر وابن النجار بلفظ (بجدنا) بدل (مجدُنا) وفيه أنه أنشد البيتين بعد ذلك من نفسه فقال له عليه السلام: (لا يفضض فوك) مرتين قال الراوي: وهو يعلى بن الأشدق فلقد رأيته بعد عشرين سنة ومائة، وأن لأسنانه أُشُرًا كأنه البرد والأشر الحدة والرقة في أطراف الأسنان والتحزيز الذي يكون فيها.
(3)
الغروب: الأسنان ورفيفها بريقها كذا في الهامش بخط الأستاذ وقبل هذه الجملة (ولا انفكت) وهي مع ترف غروبه جملة واحدة ولا الانفلال التثلم والأشر.
(4)
المتبول: من تبله الحب إذا أضناه وأفسده أو ذهب لبه وعقله، والمتيم: المذلل المعبَّد والمغلول من وضع الغل في عنقه، وفي رواية (مكبول) وهو المقيد بالكبل أي القيد.
(5)
وفي نسخة (سحَّ لسقاة عليها) أما الرواية المشهورة في البيت فهي شٌجَّت بذي شبم من ماء مخنية/ صافٍ بأبطح أضحى وهو شمول.
(6)
وفي رواية (وَيْلُمّها خلة) .
(7)
وفي رواية لنور بدل السيف ولا تفسر الأبيات فالقصيدة شهيرة وشروحها في الأيدي على أنني لم أر أحدًا من المحدثين رواها.
(8)
روى الدارقطني في الأفراد عن عائشة والبخاري في الأدب والطبراني في الأوسط وابن الجوزي في الواهيات عن عبد الله بن عمر والشافعي والبيهقي عن عبد الله مرسلا: (الشعر كلام بمنزلة الكلام فحسنه حسن الكلام وقبيحه قبيح الكلام.
(9)
هذا هو جواب قوله: (فإن قال إذا قال الله) إلخ قاله الأستاذ الإمام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى
قد وجد فينا علماء كان أحدهم يطلع في الكتاب أو السنة على أمر أو نهي
فيلقاه على حسب فهمه ثم يُعدي الحكم إلى أجزاء المأمور به أو المنهي عنه أو إلى
دواعيه أو إلى ما يشاكله، ولو كان من بعض الوجوه، وذلك رغبة منه في أن يلتمس
لكل أمر حكمًا شرعيًّا، فتختلط الأمور في فكره وتشتبه عليه الأحكام ولا سيما من
تعارض الروايات فليلتزم الأشد ويأخذ بالأحوط ويجعله شرعًا، منهم من توسع
فصار يحمل كل ما فعله أو قاله الرسول عليه السلام على التشريع، والحق كما
سبق لنا ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وفعل أشياء كثيرة على سبيل
الاختصاص أو الحكاية أو العادة، ومنهم من تورع فصار لا يرى لزومًا لتحقيق
معنى الآية أو للتثبت في الحديث إذ كان الأمر من فضائل الأعمال فيأخذ بالأحوط
فيعمل في الشديد ويظن الناس منه لك ورعًا وتقوى ومزيد علم واعتناء بالدين
فيميلون إلى تقليده ويرجحون فتواه على غيره.
وهكذا عظم التشديد في الدين بالتمادي حتى صار إصرًا وأغلالاً فكأننا لم نقبل
ما مَنَّ الله به علينا من التخفيف، وأن وضع عنا ما كان على غيرنا من ثقل
التكليف، قال تعالى شأنه وجلت حكمته:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، وقال جلت منته مبشرًا: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) أي يخفف عنهم التكاليف الثقيلة. وعلمنا كيف
ندعوه بعد أن بَيَّن لنا أنه {َلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وهو
أن نقول: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة: 286) وقال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) وقد ورد في الحديث (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه)[1] حديث
آخر (هلك المتنطعون) أي المتشددون في الدين وظن بعض الصحابة أن ترك
السحور أفضل بالنظر إلى حكمة تشريع الصيام فنهاهم النبي عليه السلام عن ظن
الفضيلة في تركه، وقال عمر رضي الله عنه في حضور رسول الله لمن أراد أن
يصلي النافلة بالفرض: بهذا هلك من قبلكم فقال النبي عليه السلام: أصاب الله
بك يا ابن الخطاب وأنكر النبي عليه السلام على عبد الله بن عمرو بن العاص التزامه
قيام الليل وصيام النهار واجتناب النساء، وقال له: (أرغبت عن سنتي؟ فقال، بل
سنتك أبغي، قال: فإني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن رغب عن
سنتي فليس مني) وقد كان عثمان بن مظعون وأصحابه عزموا على سرد الصوم وقيام الليل والاختصاء، وكانوا حرموا الفطر على أنفسهم ظنًّا أنه قربة إلى
ربهم فنهاهم الله عن ذلك؛ لأنه غلُّو في الدين واعتداء فيما شُرِّعَ فأُنزل {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) أي أنه لا يحب من تعدى حدوده وما رسمه من الاقتصاد في
أمور الدين، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله عليه السلام: (والذي نفسي بيده
ما تركت شيئًا يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئًا
يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا نهيتكم عنه) فإذا كان الشارع يأمر بالتزام
ما وضع لنا من الحدود فما معنى نظرنا الفضيلة في المزيد، وورد في حديث
البخاري (إن أعظم المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّم من أجل
مسألته) وبمقتضى هذا الحديث نقول: ما أحق بعض المحققين المتشددين بوصف
المجرمين.
وهذه مسألة السواك مثلاً فإنه ورد عن النبي صلى الله وعليه وسلم فيها
أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) فهذا الحديث مع صراحته
في ذاته أن السواك لا يتجاوز حد الندب جعله الأكثرون سنة وخصصه بعضهم بعود
الأراك، وعمَّم بعضهم الإصبع وغيرها بشرط عدم الإدماء، وفصّل بعضهم أنه إذا
قصر عن شبر وقيل: عن فتر كان مخالفًا للسنة، وتفنن آخرون بأن من السنة أن
تكون فتحته مقدار نصف الإبهام ولا يزيد عن غلظ إصبع، وبيَّن بعضهم كيفية
استعماله فقال يسند ببطن رأس الخنصر ويمسك بالأصابع الوسطى ويدعم بالإبهام
قائمًا، وفصَّل بعضهم أن يبدأ بإدخاله مبلولاً في الشدق الأيمن ثم يراوحه ثلاثًا ثم
يتفل وقيل: يتمضمض ثم يراوحه ويتمضمض ثانية وهكذا يفعل مرة ثالثة، وبحث
بعضهم في أن هذه المضمضة هل تكفي عن سنة المضمضة في الوضوء أم لا،
ومن قال لا تكفي احتج بنقصان الغرغرة، واختلفوا في أوقات استعماله هل هو في
اليوم مرة أو عند كل وضوء أو عند تلاوة القرآن أيضًا حتى صاروا يتبركون بعود
الأراك يخللون به الفم يابسًا والبعض يعدون له كثيرًا من الخواص منها: إذا وضع
قائمًا يركبه الشيطان والبعض خالف فقال: بل إذا ألقي يورث مستعمله الجذام،
ويتوهم كثير من العامة أن السواك بالأراك من شعائر دين الإسلام إلى غير هذا من
مباحث التشديد والتشويش المؤديين إلى الترك على عكس مراد الشارع عليه السلام
من الندب إلى تعهد الفم بالتنظيف كيف ما كان.
ثم قال (العالم النجدي) : هذا ما ألهمني ربي بأنه في هذا الموضوع، وربما
كان لي فيه سقطات ولا سيما في نظر السادات الشافعية من الإخوان كالعلامة
المصري والرياضي الكردي؛ لأن غالب العلماء الشافعية يحسنون الظن بغلاة
الصوفية ويلتمسون لهم الأعذار وهم لا شك أبصر بهم منا معاشر أهل الجزيرة لفقدانهم
بين أظهرنا كليًّا ولندرتهم في سواحلنا ولولا سياحتي في بلاد مصر والغرب والروم
والشام لما عرفت أكثر ما ذكرت وأنكرت إلا عن سماع ولكنت أقرب إلى حسن
الظن ولكن ما بعد العيان لتحسين الظن مجال، وما بعد الهدى إلا الضلال، فنسأل
الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل.
فأجابه (العلامة المصري) أن أكثر الصوفية من رجال مذهبنا معاشر
الشافعية نتأول لهم كثيرًا ما ينكره ظاهر الشرع ونلتمس له وجوهًا ولو ضعيفة لأننا
نرى مؤسسي التصوف الأولين كالجنيد وابن سبعين من أحسن المسلمين حالاً وقالاً.
وفيما يلوح لي أن منشأ ذلك فينا جملة أمور منها: كون علماء الشافعية بعيدون
عن الإمارة والسياسة العامة إلا عهدًا قصيرًا. ومنها كون المذهب الشافعي مؤسسًا
على الأحوط والأكمل في العبادات والمعاملات أي على العزائم دون الرخص ومنها
كون المذهب مبنيًا على مزيد العناية في النيات. فالشافعي في شغل شاغل بخويصة
نفسه وهو مستمر من جهة دينه ومحمول على تصحيح النيات وتحسين الظنون ومن
كان كذلك مال بالطبع إلى الزهد والإعجاب بالزاهدين وحمل أعمال المتظاهرين
بالصلاح على الصحة والإخلاص بخلاف العلماء الحنفية فإنهم من عهد أبي يوسف
لم ينقطع تقاربهم في النظر في الشئون العامة في عموم آسيا وكذا المالكية في
الغرب وإمارات أفريقيا والحنابلة والزيدية في الجزيرة ومن لوازم السياسة الحزم
وتغليب سوء الظن وإتقان النقد والأخذ بالجرح ومحاكمة الشئون لأجل العمل
بالأسهل الأنسب.
وقد امتاز أهل الجزيرة في هذا الخصوص بأنهم كانوا ولايزالون بعيدين عن
التوسع في العلوم والفنون وهم لم يزالوا أهل عصبية وصلابة رأي وعزيمة، وقد
ورد قول النبي عليه السلام فيهم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المسلمون في
جزيرة العرب ولكن في التحريش) أي إغراء بعضهم ببعض، وكذلك أهل
الجزيرة لم يزل عندهم بقية صالحة كافية من السليقة العربية فإذا قرأوا القرآن أو
الحديث أو الأثر أو السيرة يفهمون المعنى المتبادر باطمئنان فينفرون من التوسع في
البحث ولا يعيرون سمعًا للإشكالات فلا يحتاجون للتدقيقات والأبحاث التي تسبب
التشديد والتسويش، وأما غيرهم من الأمم الإسلامية فيتلقون العربية صنعة
ويقاسون العناء في استخراج المعاني والمفهومات ومن طبيعة كل كلام في كل لغة
أنه إذا مخضته الأذهان تشعبت وتشتت فيه الأفهام.
وربما جاز أن يقال في السادة الشافعية - ولا سيما في علماء مصر منهم -:
إن انطباعهم على سهولة الانقياد سهل أيضًا دخول الفنون الدينية المستحدثة عليهم
ودماثة أخلاقهم تأبى عليهم إساءة الظن ما أمكن تحسينه فلذلك حازت هذه الفنون
التصوفية المستحدثة قبولاً عند علماء الشافعية الأولين.
هذا وحيث قلنا: إن من خلق المصريين سهولة الانقياد ولا سيما للحق وكذلك
علماء الشافعية الأكراد كلهم أهل نظر وتحقيق فلا يصعب حمل الشافعية على النظر
في البدع الدينية خصوصًا ما يتعلق منها بمظنات الشرك الجالب للمقت والضنك ولا
شك أنهم يمتثلون أوامر الله في قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) وقوله تعالى:
24) وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) هذا وكثير من علماء الشافعية الأقدميين والمتأخرين
المنتصرون للمذهب السلفي السديد، المقاومون للبدع والتشديد، والحق أن
التصرف المتغالى فيه لا تصح نسبته لمذهب مخصوص فهذا الشيخ الجيلي
رضي الله عنه حنبلي وصوفي.
قال (الأستاذ الرئيس) : إن أخانا العالم النجدي يعلم أن ما أفاض به علينا لا
غبار عليه بالنظر إلى قواعد الدين وواقع الحال وكفى بما استشهد به من الآيات
البينات براهين دامغة، ولله على عباده الحجة البالغة، وعبارة التردد التي ختم بها
خطابه يترك بها الحكم لرأي الجمعية ما هي إلا نزعة من فقد حرية الرأي والخطابة
فأرجوه وسائر الإخوان الكرام أن لا يتهيبوا في الله لومة لائم، ورأي كل منا هو
اجتهاده وما على المجتهد سبيل، وليعلموا أن رائد جمعيتنا هذه الإخلاص، فالله
كافل بنجاحها، وغاية كل منا إعزاز كلمة الله، والله ضامن إعزازه قال تعالى:
{إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) .
نعم هذا النوع من الإرشاد أعني الانتقاد على الاعتقاد هو شديد الوقع والصدع
على التائهين في الوهلة الأولى؛ لأن الآراء الاعتقادية مؤسسة غالبًا على الوراثة
والتقليد دون الاستدلال والتحقيق وجارية على التعاون دون التقانع، على أن
أعضاء جميعتنا هذه وكافة علماء الهداية في الأمة يشربون والحمد لله من عين واحدة
هي عين الحق الظاهر الباهر الذي لا يخفى على أحد فكل منهم يختلج في فكره ما
يخالج فكر الآخرين عينه أو شبهه لكنه يهيب التصريح به لغلبة الجهل على
الناس واستفحال أمر المدنسين ويخاف من الانفراد في الانتقاد، في زمان فشا فيه
الفساد، وعم البلاد والعباد، وقلَّ أنصار الحق، وكثر التخاذل بين الخلق.
ويسرني والله ظهور الثمرة الأولى من جمعيتنا هذه، أعني اطمئنان كل منا
على إصابة رأيه واطلاعه على أن له في الآفاق رفاقًا يرون ما يراه ويسيرون
مسراه، فيقوى بذلك جنانه، وينطلق لسانه، فيحصل على نشاط وعزم في إعلاء
كلمة الله ويصبح غير هياب لوم اللائمين، ولا تحامل الجاهلين، ومن الحكمة
استعمال اللين والتدريج والحزم والثبات في سياسة الإرشاد كما جرى عليه الأنبياء
العظام عليهم الصلاة والسلام وقد بسطت ذلك في اجتماعنا الأول وسنلاحظه في
قانون الجمعية الدائمة الذي نقرره إن شاء الله بعد استيفاء البحث في طريقة
الاستهداء من الكتاب والسنة في اجتماعاتنا الآتية، أما اليوم فقد انتهى وانتصف
النهار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه البخاري عن أبي هريرة بلفظ (لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا) ورواه غيره أيضًا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
قوانين التعليم الرسمي - انتقاد
النبذة الرابعة - تعليم اللغة والتاريخ والعلوم
انتقدنا في النبذة السابقة قانون التعليم الرسمي من حيث تعليم الدين وودَدْنا لو
نعلم لنِظَارة المعارف عذرًا نعذرها على تلك العيوب وضروب القصير ونتكلم في
هذه النبذة على تقصير القانون فيما يتعلق بتعليم اللغة العربية لغة الأمة والبلاد
وتعليم التاريخ والعلوم.
العيب العامّ الأكبر هو ما جاء في عرض كلامنا على اقتراح الجمعية العمومية،
أعني مزاحمة اللغة الأجنبية للبلاد في التعليم الابتدائي وقد خرجت نظارة معارف
مصر في هذا عن سُنة أئمتها الأوربيين كلهم، فهي لا تجد لها دولة أوربية تقتدي
بها. ولم تكتف بتعليم قواعد اللغة الأجنبية ومبادئها بل زادت على ذلك تعليم مبادئ
العلوم، فالتاريخ الطبيعي يُبتدأ به في السنة الثانية وله درس واحد في الأسبوع،
يقرأ بالعربية ثم يقرأ في السنتين الثالثة والرابعة باللغة الأجنبية وله فيها درسان في
كل أسبوع فكأن دروس السنة الثانية تمهيد لما بعدها فتكون لغة البلاد وسيلة لا
مقصدًا. وكذلك الحال في علم تقويم البلدان إلا أن دروسه في الثالثة والرابعة ثلاثة
في كل أسبوع.
ومَنْ نظر في جدول توزيع حصص الدروس في التعليم الثانوي لا يرى بإزاء
خطوط اللغة العربية من الجدول إلا النقط والأصفار، فالعلوم كلها تقرأ باللغة
الأجنبية وهي الحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان والتاريخ والطبيعة والكيمياء
والرسم. وكأن (الضمانات الخمس) التي قدمها ناظر المعارف لنواب الأمة في
الجمعية العمومية هي التي جعلت دروس الترجمة من حصص اللغة العربية في
الجدول الابتدائي والثانوي ليزيد العدد فتقتنع الأمة بأن لغتها قد اعْتُنِيَ بها وأدخل
فيها العلوم والفنون، ولكن هذا غش وخداع فإن الترجمة كما تكون من اللغة
الأجنبية إلى العربية تكون بالعكس والعناية الكبرى فيها باللغة الأجنبية ومعلموها هم
معلمو اللغة الأجنبية إلى العربية فكان الأقرب إلى الصواب أن تعد الترجمة من
دروس اللغة الأجنبية.
فدروس الأسبوع في التعليم الثانوي 33 درسًا: ثمانية منها للغة العربية نفسها
(النحو والصرف والبلاغة) والباقي للغة الإنكليزية، تسعة لنفس اللغة وواحد
للترجمة والباقي للعلوم.ومما يدل على أن حصص الترجمة تعدّ من دروس اللغة
الأجنبية إهمال الكلام عليها في الفصل الذي يشرح كيفية تعليم العربية من القانون
وذِكْرها في الفصول التي يشرح فيها كيفية تعليم اللغة الأجنبية.
الأمور التي تهم الأمة في التعليم وتود الضمان عليها ثلاثة: الدين وهو في
المرتبة الأولى، واللغة وهي في المرتبة الثانية، والتاريخ وهو المرتبة الثالثة،
فأما الدين فقد بيّنا وجوه تقصير المعارف فيه وجعله كالرسم الدارس.
وأما اللغة العربية فتقصيرها فيها من وجهين أحدهما نسبي وهو جعلها دون
اللغة الأجنبية، والواجب أن تكون فوقها، وثانيهما عدم تعليم العلوم والفنون بها
والواجب أن تجعلها لغة العلم؛ لأن الأمة لا تحيا حياة حقيقية إلا بجعل لغتها لغة
العلم ليتسنى بذلك تعميم العلم فيها فتكون حياتها العلمية مُمِدّة لحياتها المعاشية
والقومية. وإذا نحن جعلنا للعلم لغة ولسائر الشئون لغة أخرى نكون قد جعلنا في
مقومات حياة الأمة تنازعًا بفصل العلم عن العمل ولا يمكن أن يكون العلم مرشدًا
إلى العمل، والعمل منبعثًا عن العلم إلا إذا كان العامل عالمًا، ونتيجة هذا من غير
تطويل بشرح المقدمات أن أحد الأمرين واجب لكمال الحياة؛ إما نقل العلم إلى لغة
الأمة وهو المعقول المقبول، وإما نقل الأمة إلى لغة العلم الطارئ وهذا إعدام الأمة
وجعلها غذاءً وممدة للأمة التي تنتقل إلى لغتها، وما أخال أن ناظر المعارف
ورجال (ضماناته الخمس) من أمته يرضون بذلك سرًّا وجهرًا فإن كان لهم من الأمر
شيء فليعلموا أبناء الأمة العلوم بلغتها وإن كانوا مغلوبين على أمرهم للمستر
دنلوب ومن ينصره فلا يعارض ناظر المعارف الجمعية العمومية في طلبها عَرْض
قوانين المعارف على مجلس الشورى ولا يكابر نفسه وقومه بزعمه أن قوانين
نظارته موافقة لمصلحة الأمة ومؤيدة منها (بخمس ضمانات) ! !
وأما التاريخ فهو عند جميع الأمم الحية قِوام التربية الاجتماعية به تنفخ روح
محبة الجنس والأمة والوطن في الناشئين فبتعليم التاريخ كانت ألمانيا ألمانيا
وإنكلترا إنكلترا وفرنسا فرنسا، فالغرض الأول من علم التاريخ معرفة الإنسان أُمته
أو معرفته نفسه من حيث هو أمة، ثم معرفته سائر الأمم ليعرف مكانه منها ومكانها
منه وبذلك يُحصِّل الإنسان العلم النافع الذي هو غاية كل تربية وتعليم وهو الذي
عرّفه حكيمنا الإمام بقوله: (العلم ما يعرّفك مَنْ أنت ممن معك) .
إذا كان هذا هو الغرض من التاريخ فقد أصابت الأمم الأوربية بتلقين الناشئين
في أول الأمر تاريخ أمتهم مفصلاً وجعلهم تاريخ بقية الأمم في الدرجة الثانية، فالتلميذ
عندهم لا يعرف شيئًا من عظمة غير قومه وأمته إلا بعد أن يُشْرب قلبه عظمة سَلَفه
وحبهم وحب بلادهم. ويقال إن أكثر الألمانيين لا يكادون يتعلمون شيئًا عن غير
بلادهم وأمتهم إلا إجمالاً؛ لأن الواجب في رأيهم على كل إنسان أن يعرف نفسه
وقومه الذين سعادته بسعادتهم وشقاؤه بشقائهم. وأما معرفة أحوال بقية الأمم فإنما
تجب على طائفة من الناس كالذين يتصدُّون للسياسة وللتعليم ونحو ذلك مما يحتاج
فيه إلى معرفة تاريخ الآخرين وأحوالهم.
على هذا كان الواجب على نظارة معارفنا أن تجعل تاريخ الإسلام والسيرة
النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين في مقدمته هو أول ما يغرس في نفوس تلامذتنا وأن
تتوسع في تاريخ جميع الدول الإسلامية وبيان أسباب تقدمها وتأخرها حتي تنتهي
بالدولة العثمانية والبلادُ المصرية جزء منها وبعد هذا كله تلقن التلامذة بالإجمال
تاريخ سائر الأمم لا سيما المجاورة للممالك الإسلامية ليعرفوا نسبتهم إلى قومهم ونسبة
قومهم إليهم.
ما أدت نِظَارة المعارف هذا الواجب ولا رَعَتْهُ حق رعايته فإنها لم تعتبر
جنسية قومها في الدين ولا في اللغة ولا في الحكومة (وهي العثمانية)
ولكنها اعتبرت أن جنسيتها نسبتها إلى مصر وأن سلف هذه الأمة الغربية هم
الفراعنة والرعاة واليونان والرومان والعرب وخَلَفها الترك فهي والأَوْشاب تعلم
التلامذة في الطور الابتدائي تاريخ هذه الأمم الكثيرة بهذا الترتيب.
وأما تعليم التاريخ في القسم الثانوي: ففي السنة الأولى منه يعلمون تاريخ
الرجال وذكرهم في قانون وليس فيهم مسلم ولا عربي إلا محمد على باشا
وإسماعيل باشا أميرَيْ مصر، وفي السنة الثانية أقسام (1) الدولة الرومانية (2)
الدولة الإنكليزية (3) الحروب الصليبية (4) الدولة العثمانية (5) عظم دولة
أسبانيا وفيها الإصلاح المسيحي (6) عظم فرنسا (7) ارتقاء الروسيا وفيه
تاريخ المسألة الشرقية وما فقدته الدولة العثمانية من أملاكها وتغلب روسيا عليها
وإضعافها.. (8) ارتقاء بروسيا (9) نابليون (10) المستعمرات الأوربية.
وفي السنة الثالثة أقسام أيضًا: (1) قيام أمم أوربا (2) نمو الحرية السياسية
في أوربا (3) المدنية عند جميع الأمم ماعدا المسلمين (4) تقدم مصر (5)
أسباب ارتقاء واضمحلال الأمم باختصار، وكل هذا يَعْلمه الأوربيون بلغتهم؛
فاعتبري أيتها الأمة المصرية (بضمانات ناظر المعارف الخمس) واطمئني له
ولها ما أجدر هؤلاء التلامذة بأن يشبّوا لا يعرفون لهم أمة ولا جنسًا ينتمون إليه
ويفتخرون به ويعملون على إحياء مجده وتجديد فخره. بل ما أجدرهم بفساد الفطر
التي نراها في بعض أحداثهم الذين ينادون بالوطنية المصرية بغير عقل. فإن قيل
لهم: هل الوطني المصري هو من يسكن مصر ويتخذها وطنًا؟ قالوا: لا لا إن
ممن يسكنها النزلاء الإفرنج وهؤلاء يحترمون في الظاهر ويبغضون في الباطن
ومنهم الدخلاء العثمانيون من سوريا وغيرها وهؤلاء يمقتون في الظاهر والباطن.
وإن قيل لهم: هل الوطني المصري ما كان من سلائل القِبْط والفراعنة فيجب أن
نبغض من يسكن مصر من سلائل العرب والترك الأرنؤود والجراكسة وإن كان
حكامنا منهم؟ قالوا: لا لا إن الجنس القبطي هو شر الأجناس فنسميه وطنيًّا ظاهرًا،
ولكننا في الباطن نفضل عليه المسلمين المصريين. فإن قيل لهم: إذن إن
جنسيتكم هي الإسلام فيجب أن تعتصموا مع كل مسلم من أي مملكة كان؟ قالوا: لا
لا إن هذا ينافي الوطنية الحقّة، وإننا لا نعتد إلا بالمسلمين المصريين الأصليين لا
الذين سكنوا مصر من عهد قريب. فهذه الذبذبة والحيرة عند هؤلاء الأحداث من
المسلمين لها سبب أقوى من هذا التعليم المذبذب. وظاهره أن نتيجة هذا التعليم الجناية
على الرابطة الدينية وعلى الرابطة اللغوية وعلى الرابطة الوطنية؛ لأن هؤلاء
الأحداث لا يحبون كل أبناء وطنهم بحيث يفضلونهم على سواهم. نعم إن مَضرّته
وفساده في القبط أقل منها في المسلمين فإن القبطي المتعصب يقول: إن المصري هو القبطي وكل من عداه دخيل، وغير المتعصب يقول: إن المصري هو من يقيم
في مصر ويتخذها وطنًا ينفعها وينتفع منها سواء كان شرقيًّا أم غربيًّا، مسلمًا أم مسيحيًّا. ولا يقول بهذا القول إلا أفراد قليلون على أنني أحكم بوجودهم بالرأي والتخيل، لا بالمعرفة والاختبار.
رُبّ قائل يقول: إن غرض الحكومة أن تربّي الناشئة على هذا الرأي
ونحن نقول: إن هذه غاية لا تُدْرك إلا بمحو الدين وذلك متعذر على الحكومة إذا
فقدت الدين وأرادت محوه ولكن حكومة البلاد إسلامية، والشعب الكبير إسلامي
وإذا وُجِدت آداب الإسلام الحقيقية فهي تقتضي الوطنية الحقيقية وهي اتفاق جميع
سكان البلاد على ما فيه خيرهم وخير بلادهم ومعاملة الجميع بالعدل والمساواة
بينهم بالحقوق وقد أوضحنا هذا في مقالة (الجنسية والديانة الإسلامية) فلتراجع
في المجلد الثاني، والله أعلم.
_________