الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
رأيٌ في إصلاح المسلمين
أو رأيان
كتب إلينا وكيل للمنار في بعض الأقطار رأيه في طريقة إصلاح المسلمين في
خاتمة جواب يتعلق بأمر الاشتراك والمشتركين؛ فأحببنا أن يطلع عليه القراء لِمَا
فيه من دقة النظر، وبُعْد الغَوْر، قال حياه الله:
(رأيك بالعناية في إصلاح النفوس والعقول والأفكار والأخلاق لا أظن أنه
يوجد من يخالفك فيه على شرط أن تجمع من أيدي الناس كتب التصوّف النظري،
وكتب العقائد التي أُلِّفت على طريقة أرسطو (لا كتب أرسطو نفسها) والتفاسير
التي ألبسها أصحابها لِبَاس الفلسفة اليونانية، وكذا الكتب الفقهية التي كتبها الأعاجم
ومَنْ احتذى حَذْوهم، لا الكتب التي كتبت بطريق الرواية كالموطأ وغيره، وطرح
القواعد التي دوّنها الأصوليون، وجعلوها من أصول تعاليم الدين، وتحويل تَكَايا
الطرق إلى مدارس تُعلَّم فيها العلوم الكونية بأسرها، على شرط أن تكون إدارتها
بيد أُناسيّ من علماء أمم أوربية صغيرة كسويسرة والبلجيك ويعزل الشباب
المتعلمون عن الأمة حتى يمتنع سريان عدوى الأخلاق التي أَرْزَأَت أمم الإسلام من
الأسلاف إلى الأخلاف، وبعد أن تندرس هذه الرمم التي صارت مع طول الزمن
رُكام أقذار مُفسِد للتمدن؛ يتسنّى للمصلحين أن يشيدوا على أنقاضها معاقل
إصلاح.
وهيهات هيهات أن يفوز المصلحون بتلك المطالب العسيرة التي أعيت هممًا،
وبيضت لِمَمًا، وأشفت أمما، ظهر كونفوشيوس قبل عصرنا هذا بإحدى وعشرين
قرنًا لمعاناة إصلاح مذهب سكياموني، وتجديد ما تداعى من بنيانه العتيق الذي
كرت عليه الدهور الدهارير، وبالرغم من مساعيه الكبيرة وهمته القَعْساء، وعزمه
الصارم بقيت آراء سكياموني كما هي محتكرة في الهياكل لكهنة الشعب، ولم يزدها
ذلك المصلح بقارعته العظمى إلا ثباتًا وتمكينًا، وهذا المسيح قام ليعدل سلطة
أكليروس اليهود وليجدّد ما اخلولق من مذهب التوراة فلم يقبل له رأيا إلا من خذله
في أداء الشهادة وقت المحاكمة.
وما عسى أن أقول ونبينا الكريم عليه السلام قد أرسله الله مهيمنا على الكتب،
ومجددًا لشرائع الكون التي اقتضت سنة العمران تجديدها بتجدد المقتضيات فلم
يقبل دعواه من أرباب تلك الأديان إلا مَن نكَّب عن فئته، وانحاز لغير بيئته، وهكذا
شأن كل مصلح يفلت من أسر العادة وينسلت من قيود المصطلحات، وتؤثر في
نفسه الحقائق، وتشعل بصيرته المشاهدات الصحيحة يستنكر ما يستحسنه الناس
ويستحسن ما استنكروه فيسفه أحلامهم، ويبين أوهامهم، إلى أن يثوبوا إلى رجعة
الهدى، أو يكوِّن نَشْأ جديدًا، ودون ذلك خَرْط القَتاد على فرض سلطة الظروف
المحيطة.
على أن هناك مَهْيَعًا آخر أقرب إلى السلامة، وأضمن للنتيجة، وهو سبيل
رجالات أوربا الكبار، ودهاقنها العظام، وبيانه أن يشتغل المصلح بعد ترقية نفسه،
وترتيب منزله، وتنظيم معيشته، وتدبير مأكله، بتنمية ثروته بالطرق القانونية
ويختار له منها الطريق الأضمن على شرط أن يحتذي مذهب الصدق ويتقيل نمط
الأمانة، ولا يعتمد إلا على نفسه فلا يمر عليه غير زمن قليل حتى يكون من أكبر
المُثْرين في العالم مثل مرجان وسيسل رود وغيرهم، فلا يصعب عليه بعد تكوين
الثروة تأسيس المشروعات، وعقد الشركات وإنشاء المدارس، وفتح المعامل،
وإرسال الفُلْك تمخر عُباب اليمّ تجمع له كنوز المخلوقات.
وأما طريقة إصلاح الأمم أو النفوس بإلقاء الخطب، وكتابة المقالات، فلا
تفيد المسلمين في شيء، اللهم إلا من كان له هَوَس منهم فيهما؛ لأن العالم والصانع
والزارع والصراف والتاجر في البلاد المربلة [1] لا يُصِيخُون الأسماع للخطب، ولا
يعيرون الأبصار للمقالات إلا في أوقات الفراغ من الأعمال فهي عندهم بمثابة
المسليات والمنبهات، والذي يُصيخ وينظر في بلادنا القاحلة هو المِكْسال المتقاعس
عن حير نفسه ونفع جنسه؛ وإذا تنبه لبُّه واستنارت بصيرته فلا يكون منه غير
التأوه على الإسلام، والبكاء على المسلمين، ولهذا اتفقت كلمة العمرانيين على أن
ترقي الأمم لا يفيد إلا إذا كان ماديًّا بحتًا، مطهيًا على أثافي الصناعة والزراعة
والتجارة، وطهاته الإقدام والحزم والعزم والنشاط والثبات، وحققوا أنه لا يتوقف
على دين، ولا يحتاج إلى بعثة رسول، وإنما تدعو إليه الحاجة، ويبعث إليه
اختلاط العناصر المختلفة ببعضها) .
يدين سكان الجابون بدين وثني، أخمد نفوس أهله آلاف السنين، وأبقاهم
خاملين تحت سُجُف طقوسه الواهنة، حتى ذاق أفراد منهم عُسَيْلة الإثراء؛ فانبرت
نفوسهم ساعية وراء التأسيسات النافعة، وما فتئوا يفكرون حتى تنبه لهم الأقران؛
فتلاحقوا بهم ثُبى، وما كادت تتنبه لهم الحكومة حتى اضطرها تفاقم المساعي إلى
التنازل عن كثير من حقوقها المكللة بطيلسان الكهنوتية المقدس، وأتاحت لهم بغير
عناد حكومة مقيدة باحتساب الأمة عليها، وقد صارت الآن تضارع أعظم الأمم
شوكة واقتدارا، وما دين المسيحية بأصفى منهلاً من المنبع البوذيّ، وهذا مبتدع
وذاك مخترع، والمنزع القديم في الغالب مقتبس ومتبع (كذا) ومع ما هو عليه من
التشويش والتشويه والتبلس بتلك الحجب التي حاكتها يد المجامع المقدسة لم يزل
دينًا للأمم الراقية ذات الطول والحَوْل والمَنَعَة والعزة رغمًا عن النهضة العلمية
والأخلاقية.
لا أحاول الجدال، ولا أريد الحوار، وإنما غايتي أن أطلعك على فكري
الخاص في إصلاح الأمة الإسلامية بالوسائل الصحيحة التي لا تستلزم زمنًا طويلاً
ولا تكلف تعبًا كبيرًا، وهي أن نترك القادري يَعْمُه في قادريّته، والرفاعيّ يعشو
في رفاعيته، كما تركنا النصراني يتخبط في ظلام نصرانيته والوثني يهرف في
وثنيته، ونسعى مع الجميع متكاتفين لنحصل فرنكًا واحدًا عن كل شخص من
المسلمين، ذاك لروح شيخه، وهذا باسم وَلِيّه، وذا في سبيل النهضة، وهذا باسم
الوطنية، إلى أن نتمكن من جمع مال كثير؛ فنؤسس به مشروعًا يكون جزيل
الفائدة، كبير العائدة، وما علينا والصراخ في الهواء، والنداء في الأجواء،
والاحتراس من السياسة، والتوقي من الرياسة، فذاك في مذهبي شيء لا يجدي
والسلام) .
***
رأي المنار في الموضوع
لقد أحسن الكاتب النبيل القصد في قوله ولكن فيه إجمالاً يحتاج إلى بيان
ونظرٍ في بعض الجزئيات، وما كان الإجمال منه إلا لأنه كتبه لمن يغنيه الإجمال
عن التفصيل، وفرق بين ما كُتِب ليُطْوَى وما كتب لينشر، ولقد سرَّنا توارد
الخواطر وتلاقي الأفكار بيننا وبين الكاتب النبيل، والوكيل الأصيل، في وجوب
عزل المتعلمين عن الأمة؛ لأن قِوام التربية بالقدوة والمحاكاة المتولدتين من
المعاشرة والمخالطة، وقد بدأ الله تعالى تربية نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله
وسلم) بعزله عن الناس فحبب إليه الوحدة، وألهمه الانزواء والعزلة، ثم علمه
بالوحي ما شاء أن يعلّمه، ولقد قال:(أدبني ربي فأحسن تأديبي) فعلينا أن نستفيد
من هذه الحكمة، مع من منحه الله العصمة، وموافقة أخرى في الرأي وهي
الاستعانة على تعليم الفنون والعلوم الكونية، بأساتذة من أصغر الشعوب الأوربية،
لأن هؤلاء أبعد عن السياسة التي تفسد كل صلاح، وتحول دون كل نجاح.
الذي لاح لي من كلام الكاتب في إخفاق رجال الإصلاح المعنوي هو أن
غرضه منه تحويل وجوه المتعلمين عنه؛ ليتولوا شطر الإصلاح المادي الذي يراه،
وإلا فإن كل واحد من المصلحين الذين ذكرهم قد كان له تأثير كبير في أنواع
الانقلاب الذي حدث في العالم المرة بعد المرة، وليس من شرط النجاح في
المشروع أن يأخذ به كل أحد، ولا أن يكمل فيه كل من أخذ به.
فإذا كان الإصلاح المعنوي لم يعم أفراد الأمم التي ظهر فيها فكذلك الإصلاح
المادي، والسبب في هذا وذاك أن الاستعداد في البشر متفاوت تفاوتًا كبيرًا وكل
يعمل بحسب استعداده؛ ففي أوربا من يملك ألوف الألوف وفيها من يموت جوعًا
وكأيَّنْ من عالم يطلب الثروة، وتعوزه الكِسْرة والحُسْوَة، وليس هذا مقام بيان تأثير
أولئك المصلحين العظام في الأمم، والكاتب يعرفه ولكن غرضه ما ذكرنا.
والقول في تأثير الخطب والمقالات يتصل بالقول في تأثير رجال الإصلاح
المعنوي؛ لأن الخطباء والكتّاب الداعين إلى الإصلاح هم ورثة الأنبياء والشارعين
وهم أركان الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ومَنْ ينكر أن لِلُوثر وأشياعه وميرانو
وأضرابه تأثيرًا عظيمًا في تحويل أوربا عما كانت عليه، ونقلها إلى ما انتهت إليه،
ومن ينكر تأثير تلك المقالات والرسائل التي كانت تنشر في فرنسا قبل الثورة
الكبرى، وأن ذلك التأثير هو الذي ثلّ عرش الملك، وسلط الصعاليك على الأمراء
والنبلاء؟ فالإصلاح في جميع الأمم إنما جرى على أيدي الفقراء والمتوسطين؛
بباعث معنوي، ولم يوجد إصلاح في الأرض بدأ به الأغنياء؛ بتأسيس
المشروعات المادية النافعة، وإن شئت فقل إنه لم يوجد إصلاح ماديّ بحت، ولكن
كل إصلاح يُرَقِّي البشر ينتج العمران، والعمران المادي إنما يكون في النهاية لا في
البداية.
كل هذا يعرفه الكاتب الفاضل، ولكن الرأي الذي أبداه؛ إنما هو في اختيار
أقرب الطرق، ولَعَمْري إنه لطريق أُمم، لولا أن فيه من العقبات الكؤود ما يتعذر
معها سلوكه على الضعفاء المحتاجين إلى الإصلاح كالمسلمين.
فيا دارها بالخيف إن مزارها
…
قريب ولكن دون ذلك أهوال
يقول: إن الواجب على مريدي إصلاح المسلمين أن يسلكوا سبيل (سسل
روس) بعد إصلاح شؤون منازلهم وتنظيم طرق معيشتهم. مَنْ هم هؤلاء المريدون
للإصلاح، وما هي طبيعة بلادهم التي يعيشون فيها؟ هم نفر من وسط الناس سلمت
فطرتهم، وصَفَتْ فكرتهم، وحسنت في الجملة وبالمصادفة تربيتهم، وامتازوا
بالميل إلى البحث في الأمور العامة والاهتمام بأمر الأمة والملة، ولم يكن لهم
شيء من هذه الخصائص بواسطة تعليم وتربية أُودِعَا في نفوسهم؛ إذ لا يوجد
للمسلمين مدرسة في قُطْر من الأقطار تذكر فيها مصلحة الأمة، أو توجه نفوس
تلامذتها في تعليم كل علم وفن إلى أن المراد به الإصلاح وإنقاذ الأمة مما هي فيه،
وإنما هو الاستعداد الفطري مع مساعدة التوفيق الذي يعبرون عنه بالظروف
والمصادفات، ولو أن هؤلاء اشتغلوا بغير البحث في الأمور العامة، وطرق
الإصلاح؛ لضعف استعدادهم فيه؛ لأنه لم يتربَّوْا عليه، ولم يتعلموا طرقه
تعلمًا فيكون همّهم بعد المدرسة السعي في اتخاذ الوسائل لما وَجّههم إليه
المربون والمعلمون.
وأما طبيعة بلادهم فهي كما يعلم الكاتب ليس فيها موارد قريبة للثروة الواسعة
من الطرق القانونية كالثروة التي جمعها سسل رود. والأعمال الكبيرة التي يتوقف
عليها إيجاد الموارد لا تكون إلا مِنْ قوم تعلَّموا طرقها وفنونها، وتربَّوْا تربية
صاروا بها محلَاّ للثقة في إناطة الأعمال بهم، وأنَّى لبلاد المسلمين بهؤلاء العاملين
العالمين! !
وجملة القول أن الذين يفكرون في الإصلاح من المسلمين ليس عندهم استعداد
لجمع الثروة الكبيرة، وأن بلادهم ليس فيها الآن منابع لهذه الثروة مفجَّرة
يسهل عليهم ورودها وأن الأُمة التي يعيشون فيها ليس لها استعداد لتفجير ينابيع
الثروة الطبيعة التي خصّ الله بلادهم بها؛ لجهلهم وفساد تربيتهم، ونسكت عن حال
حكوماتها وما يُنْتظر أن يلاقيه منهم مريد الإصلاح إذا حاول سلوك الطريق
المشروعة الشريفة لجمع المال.
إن العمران المادي كان نتيجة للإصلاح المعنوي وكذلك يكون.
أما الجابون (اليابان) فلم يكن السائق لهم إلى الإصلاح طلب الثروة، ولم
يكن تقدُّمهم ماديًّا بحتا لا شائبة فيه للدين، بل كان السائق إليه هو صاحب السلطة
الدينية المقدسة والسلطة المدنية القائمة على أساس الدين، وهو عاهلهم ومليكهم
(الميكادو) فهذا العاهل العظيم هو الذي قيد سلطة نفسه بعد أن كانت حكومته
استبدادية مقدسة، وهو الذي دعَّ أمته إلى العلوم والفنون دعًّا، ولا نقول إنه دعاها
دعاء، ولقد كانت التقاليد الدينية مساعدة للسلطة الدينية في عمران اليابان الحاضر
كما يعلم من المقالات التي نشرت في المقتطف الأغرّ معرَّبة عن أصل
إنكليزي لبعض كبار الكُتَّاب السياسيين، ويذكر العارفون بالتاريخ أن أول عاهل
(إمبراطور) اشتغل بالإصلاح في أوربا هو (شارْلمان) كان مندفعًا بدافع
معنوي مَشُوبٍ بالاعتقاد الديني، ولولا الإصلاح الديني الذي قام به زعماء
البروستنت لحبط عمله وكان هباءً منثورًا.
والقول الفصل في الإصلاح الإسلامي هو أن الواجب على العقلاء الذين
يتألمون من ضعف الأمة وهوانها أن يسعوا في إصلاح العقول والنفوس بتعليم
الصغار وتربيتهم بالمدرسة، ووعظ الكبار وتنبيههم بالخطابة والكتابة ليكثر بذلك
حزبهم ولا بد لهم في سلوك هذه السبيل من مُسَالَمَة القوة، سواء كانت أهلية أو
أجنبية.
فعُلِمَ من هذا أن أول واجب على من يشعر بالحاجة إلى الإصلاح في بلد من
البلاد الإسلامية أن يشتغل بالدعوة إلى ما يعتقده في ذلك؛ ليكوّن له حزبًا والدعوة
خطابة وكتابة؛ فإذا صار له حزب فالواجب عليه وعليهم السعي في التربية المِليَّة
والتعليم الذي يعد الناشئين لأعمال العمران والاستعانة على ذلك بالأساتذة المَهَرة
الذين ليس بيننا وبينهم مطامع سياسية، وهذا يختلف باختلاف البلاد الإسلامية،
وأَتمُّها استعدادًا الآن بلاد الهند وبلاد مصر وقد بدأ مسلمو الهند يسعون في التعليم
الأهلي، وشعروا بأنه لا يكون تامًّا نافعًا إلا بإنشاء المدارس الكلية، فاقترح مؤتمر
التربية الإسلامي في هذا العام جمع ألف ألف روبية لإنشاء مدرسة كلية، والمرجو
أن يتم لهم ذلك في وقت قريب، وأن تكون التربية في هذه المدرسة مِليّة إسلامية،
كما وافق على ذلك كبراء الإنكليز هناك، ولا بد لمسلمي مصر أن يتلوا تلوّ مسلمي
الهند في ذلك عن قريب إن شاء الله تعالى، وسيكون للخطب والمقالات تأثير عظيم
في جمع المال اللازم لذلك، فإن الجرائد كالحُدَاة ولا حُدَاء إلا أن يكون مسيرٌ كما، قلنا
في العدد الثاني من منار السنة الأولى ولا يرجى من الذين اتخذوا من دون الله
أولياء، وربطوا قلوبهم بقبور الأموات وقيدوا عقولهم بخرافات الأحياء، أن
يساعدوا على إنشاء مدارس للعلوم الكونية، وهم يشعرون بأنها القاضية على
تقاليدهم الوهمية.
هذه هي الطريقة المثلى للإصلاح ولا يجد المصلحون من الأمة غيرها، أما
الملوك والأمراء فإن لهم إذا أرادوا الإصلاح عملاً آخر وهو أن يبدؤوا بالقوة
العسكرية؛ فيعززوها ما استطاعوا لتكون الدولة آمنة من اعتداء الأعداء الذين
يشغلونها عن الإصلاح الداخلي متى آنسوا منها الضعف ثم يوجهون الأمة إلى تعميم
التربية والتعليم، وتنمية الثروة بالزراعة، والتجارة، والصناعة، ويقيمون حكومة
الشورى، ويجتهدون في توثيق الصلات بينهم وبين أمثالهم من الأمراء والسلاطين،
ولكل حكومة إسلامية ضرب من السير في الإصلاح يختصّ بها، ولا تبلغ الغاية
بدونه. وقد أخطأ سلطان مراكش ما يليق بحاله من السير في طريق الإصلاح
فزلّت قدمه، وكان الواجب عليه قبل كل شيء إصلاح الجندية - كما سبق لنا القول
في غير هذا الجزء - ليأمن العدوان الداخلي والخارجي، ثم يشرع في تعليم الأمة
وتربيتها مستعينًا في أول الأمر بالمسلمين، كالمصريين الموافقين لأهل بلاده في
اللغة، ثم بالأجانب الذين لا طمع لهم في بلاده عندما تستعد بلاده لذلك فلا تأنف
منه.
على أن أملنا في جميع حكام المسلمين ضعيف، بل نحن أقرب إلى اليأس
منهم منا إلى الرجاء فيهم. وهكذا شأن الملوك الذين أَلِفُوا الاستبداد، وما كان عمل
عاهل اليابان؛ إلا فلتة من فلتات الزمان، والظاهر لنا أن كل ما هو مخبوء في
الغيب من الخير لهذه الأُمة؛ فإنما يكون بسعي بعض العقلاء من أفرادها دون
الملوك والأمراء، ولله في غيبه شؤون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
_________
(1)
يقال رَبَلَ الناس إذا كثروا ونموا ولا أعرف له رباعيًّا، وأَرْبلَتْ الأرض أنبتت الربل، وهو شجر لا معنى لهذا هنا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدنية العرب
النبذة السادسة
تابعة لما نشر في الجزء 23 من المجلد الثالث
ينبغي للإنسان أن يجتنب الوعد ما استطاع، وأن يجتنب تحديد الوعد بزمان
أو مكان، إذا هو وعد إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا، وقلما يأتي الاضطرار
في الأمور العامة، كُنَّا شرعنا في السنة الثالثة للمنار بكتابة مقالات في مدنية
العرب أو مدنية الإسلام في عهد الدول العربية، فكتبنا خمس نُبَذ في منشأ تلك
المدنية، وكونها قامت على أساس الدين وتولدت من تعاليمه، ثم في اشتغال العرب
بالعلوم الكونية، وما اكتشفوه واخترعوه في علم الفلك وسائر العلوم الرياضية
كالحساب والجبر والهندسة، ووعدْنا بأن نتم هذا المبحث في السنة الرابعة، فمرت
السنة الرابعة ولم يتح لنا فيها الوفاء بالوعد، ولكننا استأنفنا وعدًا آخر في آخرها
بأننا نتم ذلك في هذه السنة، وقد مرت السنة حتى لم يبق منها إلا هذا الجزء ولم
نتمكن من إنجاز الوعد لأن المقالات المتسلسلة زادت في هذه السنة عما قبلها بنشر
مقالات جمعية أم القرى ومقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) التي كان
فيها شيء إجمالي من موضوع مدنية العرب، وقد رأينا أن نختم هذا الجزء بنبذة
سادسة وفاءً بالوعد بقدر الإمكان فنقول:
***
الجغرافيا الرياضية
وتقويم البُلْدان
أشهر كتب الجغرافيا اليونانية كتاب بطلميوس وأَزْياجه وقد كانت آراء
بطليموس تؤخذ على عِلاتها؛ لأن العلم صار تقليديًّا حتى تناوله اجتهاد العرب؛
فطَفِقوا من عهد المأمون يصححون أغلاط اليونان في الفلك وسائر الرياضيات -
كما تقدم -، ومن ذلك أنهم صححوا أرصاد المجسطي بالزِّيج الجديد، وأعادوا
تحديد أطوال الأرض فكان أتمها تصحيحًا تحديد بلاد العرب والخليج الفارسي
والجزيرة وبلاد فارس والبحر المتوسط، ولما اشتغل الأوربيون بهذا العلم ظلوا
زمنًا طويلاً مغرورين بكتاب بطليموس حتى ظفروا بكتب العرب وتصحيحهم
لأغلاط بطليموس.
بدأ العرب بتصحيح أَزْياج بطليموس في أول القرن الثالث على عهد المأمون،
ولكن ذلك التصحيح لم يكن تامًّا، فإن البيروني في أول القرن السابع هو الذي
صحح الغلط في حساب أطوال بلاد الروم، وما وراء النهر، والسند، وألف قانونًا
جغرافيًّا، كان قدوة للمشتغلين بالقسموغرافية من بعده.
وأتم عمر الخيّام حساب جداول التقويم السنوية (الروانامه) في سنة
469 و 470 وحدد مدة السنة الفلكية أصح تحديد وصنع الشريف الإدريسي في
أوائل القرن السادس خريطة جغرافية من الفضة لملك صقلية حفر فيها باللغة
العربية صور جميع الممالك المعروفة في ذلك العهد، وألَّف كتابًا في الجغرافية
بَيَّن فيه أول نقطة تماس بين جغرافية اللاتينيين وجغرافية المدارس الإسلامية،
وقد عكف رسامو الخرائط الجغرافية في أوربا على مُؤَلَّفِهِ ثلاثة قرون ونصف،
يتقلدونه كما هو لا يزيدون فيه ولا ينقصون منه، وكان من علماء هذا الفن في
المغرب أبوالحسن علي المراكشي في أول المئة السابعة للهجرة الشريفة، وقد قال
سيديو: إن كتابه كان أجلّ الآثار العلمية فيما عليه العرب من علم الجغرافية،
وكان لعلم الجغرافية خرائط بحرية أيضًا عثر الأوربيون على بعضها في أول
المئة التاسعة للهجرة، ووجدوا خريطة بحرية أخرى من رسم عمر العربي سنة
1684م أي سنة 1058 هـ.
أما الجغرافية الوصفية أو التخطيطية فقد عرفها العرب قبل الجغرافية
الرياضية، واتسعت معرفتهم بها باتساع فتوحاتهم وتجارتهم، قال سيديو: إنهم
حين امتدّت مملكتهم من المحيط الأطلانطيقي إلى تُخُوم مملكة الصين أنشؤوا
بالتدريج أربع طرق عظيمة تجارية توصل بين مدينتي قادس وطَنجة إلى أقصى
آسيا.
(إحداها) تخترق أسبانيا وأوربا وبلاد سلاوونة إلى بحر جرجان ومدينة
بَلْخ وبلاد تجزجز.
(والثانية) تخترق بلاد المغرب ووادي النيل ودمشق والكوفة وبغداد والبصرة
والأهواز وكرمان والسند والهند.
(والثالثة والرابعة) تعبران البحر الأبيض المتوسط وتتجه إحداهما من الشام
والخليج الفارسي والأخرى من الإسكندرية والبحر الأحمر للتوصل إلى بحر الهند،
فكثرت بهذه الطرق السياحات ونقل السياحون إلى أقصى البلاد ما عند العرب من
الأفكار والتمدن واستفاضت الأخبار الجليلة الفوائد؛ فنورت أذهان الملاحين
وعرفتهم الأخطار التي يخشى عليهم الوقوع فيها؛ إذا سافروا في ولايات غير
مكتشفة تمام الاكتشاف، واشتملت الأزياج التي حررها البتاني بالرَّقَّة سنة تسعمائة
(287هـ) وابن يونس في القاهرة سنة ألف (390هـ) على كتاب رَسْم
الأرض بلا تغيير كبير، وأما ابن حوقل والإصطخري والمسعودي المشهورون في
نصف القرن العاشر من الميلاد فوصفوا في كتبهم صورة الاكتشاف الجديد،
وحسب العلامة الكومي سنة 1067 الأطوال من ابتداء الطرف الشرقي من الأرض
القارة.
وزعم بعض الفرنج أن العرب كانوا متَّبعين في أول عصر بني العباس
الرواياتِ الهندية مع أن كتاب مبادئ الفلك المسمى (بسند هند) إن صح نقله إلى
المنصورة سنة 775 (158) لم يكن له عظيم اعتبار عند العرب؛ فإنهم ظفروا
عما قليل برسالات يونانية وتركوه لا يتفوّهون باسمه إلا ليبينوا ما فيه من الغلط،
ولم يعولوا في شيء من الجغرافية على كتب توضح أن شبه جزيرة هندستان في
مركز العالم وأن خط نصف النهار الذي يبين نقطة وسطها يخترق مدينة أوجين
وجزيرة سيلان، وبحث العرب في كتبهم عن خط نصف نهار القبة الأرضية، وهي
فيه عرين للتنصيص على الأطوال، فظن بعض الفرنج أن المراد من (عرين)
مدينة أوجين وهو خطأ فادح، فإن القبة المنسوبة إلى عرين هي نقطة تقاطع
الدرجة التسعينية من حساب بطلميموس مع خط الاعتدال على بعد متساوٍ من
الجهات الأربع الأصلية، وليست هي قبة أوجين فإن العرب كانوا يعرفون حق
المعرفة محل أوجين الجغرافي وأما (عرين) فكلمة اصطلاحية أرادوا بها جزيرة
موهومة بين هندستان وبلاد الحبشة سماها المؤرخ ديودور الصقلي جزيرة
أورانوس، وبدل العرب خط نصف نهار عرين أو قبة الأرض بخط نصف النهار
المار بالجزائر الخالدات فاتُّبِعَ ذلك من ابتداء القرن الحادي عشر إلى الثالث
عشر. اهـ
وقد ألف العرب كتبًا مخصوصة في مسالك البلدان حتى صار علمًا مستقلاً
وفي أسماء البلاد والأماكن ككتاب مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع
ومعجم ياقوت والمشترك، وتقويم البلدان للملك المؤيد صاحب حُمَاه وتقويم البلدان
للبلخي كتاب (أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والممالك) (وهذا أُلِفَ في عهد
الدولة العثمانية وأهداه مؤلفه محمد بن علي الشهير بسباهي إلى السلطان مراد
الثالث 980 ثم اختصره بالتركية.
***
العلوم الطبيعية
الكيمياء والصيدلة:
قد ارتقت العلوم الطبيعية عند العرب، واتسعت مذاهبها، وكثر الاكتشاف
والاختراع فيها، على أن حظها كان دون حظ العلوم الرياضية؛ لأن العمدة في
العلم الرياضي العقل والعمل مؤيد له، والعمدة في العلم الطبيعي العمل والعقل
مساعد له، وما يتوقف الارتقاء فيه على العمل لا يرتقي إلا بالزمن الطويل،
كانت العلوم الطبيعية من عهد أستاذها الأول أرسطاليس ضئيلة ضاوية، ثم ماتت
بضعفها، ولمَّا أحياها العرب بإحياء الإسلام لهم تنكبوا طريق النظر المحض فيها،
واعتمدوا على التجربة؛ فحولوا الكيمياء الوهمية إلى حقيقية واشتقوا منها فن
الصيدلة (تركيب الأدوية) ، وانتقلوا إلى التاريخ الطبيعي فاكتشفوا بذلك خواص
نبات بلادهم وصموغها البلسمية، وأفادوا بها الطب والصناعة فوائد جليلة، قال
سيديو: إن البحث عن الجواهر الطبية الذي مدحه ديوسقوريدس لأهل مدرسة
الإسكندرية كان من مخترعات العرب، فإنهم هم المنشئون للصيدليات
(الأجزخانات) الكيماوية والموروث عنهم ما يسمى الآن بقواعد تحضير الأدوية
الذي انتشر بَعْدُ من مدرسة سالرنة في الممالك التي في جنوب أوربا:
ومن مخترعات العرب في الكيمياء، الكحول أو الغُول، الذي صار قِوَام
الأعمال الكيمياوية والصيدلية، وتركيب حمض الكبريت، والماء الملكي، والماء
المعشر، والجلاب، وغير ذلك من الأدوية والمعاجين والمربيات والهلامات.
قال في دائرة المعارف: (وهم أول من اخترع السواغات لإذابة الأصول
الفعالة للأدوية سواء كانت معدنية أو نباتية أو حيوانية، واخترعوا الأنبيق والتقطير
والتسامي ووضعوا في أيام الخلفاء قانونًا أقرباذينيا، كانت جميع التراكيب
الأقراباذينية المذكورة فيه مثبتة من طرف الحكومة لا يجهز خلافها) أي أنهم هم
الذين جعلوا عمل الصيدلة رسميًّا بمعرفة الحكومة.
وأشهر العلماء المخترعين في الكيمياء والأقراباذين (الصيدلة) أبو بكر
الرازي صاحب كتاب (الترتيب) فيها، والكتب الكثيرة في الطب والفلسفة (توفي
سنة311هـ) وهو المخترع للمسهلات اللطيفة، ولاستعمال كثير من النبات في
الطب، والرئيس أبو علي بن سينا فيلسوف الشرق وأكبر أطبائه، وابن رشد
فيلسوف الغرب، وأكبر أطبائه، وقد ترجم الأوربيون أكثر كتب هذين الفيلسوفين،
وانتفعوا بها كما انتفعوا بكتب الشيخ أبي بكر الرازي ويشهدون للجميع بالتبريز في
العلوم.
***
الطب:
لا يعرف التاريخ أُمة أقدم عهدًا في صناعة الطب من المصريين فهم
أساتذة اليونانيين وأئمتهم، ولكن طبهم كان ممزوجًا بالأوهام والتقاليد الخرافية
كاعتقادهم أن الصرع يكون بدخول عفريت من الجن في جسم الإنسان، وكانوا
يعالجونه بالرُّقى والعزائم، وإنما برعوا في فرع واحد من فروع الطب، وهو
التحنيط، وكان التشريح مذمومًا عندهم، والأطباء من غير الكهنة محتقرين يعاقبون
إذا مات من يعالجون، ثم لمَّا دالت دولة العلم إلى اليونان بعد انحلال المصريين
عنوا بالطب، فكان علمًا محترمًا، ثم قضى الرومانيون على علم اليونان، كما
قضوا على دولتهم، وكانت عنايتهم في المعالجة مقصورة على الرُّقَى والطلاسم
ومجربات العامة التي يتناقلونها، ثم أحوجتهم الحضارة إليه فأجلوا الأطباء بعد
احتقارهم، ولكن الرومان أنفسهم لم ينبغوا في الطب وفنونه، بل احتقروه في أول
دولتهم واحترموه في عنفوانها، ثم عفا وانحلّ بانحلال دولتهم حتى إذا نهض
الإسلام بالعرب لم تكن لهذه العلوم سوق نافقة في الأرض فأحيوها بعد موتها.
دائرة المعارف: ولما كانت فتوحات العرب، وضربوا في طول البلاد
وعرضها كان الطب كسائر العلوم في أسفل دَرْك الهوان والخمول؛ فنهضوا به
نهضة جديدة، والتقطوا مسائله من كتب اليونان وغيرهم وأودعوه كتبهم مع زيادة مما
توسعوا فيه بالبحث والتحري، وأجادوا بتعريفه ووصفه وتقسيمه:
(ثم قال) : ولم يكد يفرغ الخلفاء ومَن وَلِيهم من بني أمية من بسط جناح
الإسلام حتى أخذ الخلفاء يلِجون باب العلم كما ولجوا باب الفتوحات فكان للطب علم
وافر، واستعانوا بعلماء اليهود والنصارى عملاً بالحديث القائل (استعينوا على كل
صنعة بصالح أهلها) فكانت للأمويين من ذلك بعض الآثار، ولكن الآثار المشيدة
والمساعي الحميدة، إنما كانت للعباسيين في بغداد ومن ثم للأندلسيين فاتخذ السفَّاح
العباسي أطباء ماهرين أقام بختيشوع النسطوري رئيسًا عليهم وطبيبًا خاصًّا له كما
كان جويه اليهودي عند عمر بن عبد العزيز الأموي:
ثم ذكر بعض كبار أطباء العرب ومؤلفاتهم واكتشافاتهم، وقال:
(وعلى هذا كانت دولة العرب عُرْوَة الوصل بين طب المتقدمين وطب
المتأخرين، ولولاهم لانتثر العقد، وعفا الكثير من معالم العلم والعرفان، فإن معظم
ما تناوله الإفرنج من علم الأقدمين قبل فتح القسطنطينية إنما كان عند العرب،
وظل اشتغال العرب مدة مديدة منحصرًا في النقل والتقليد لا يأخذون إلا بما ينقلون
ويذهبون مذهب الأقدمين، فبينما تراهم عالمين بالأمزجة والأغذية وباحثين في
الداء والدواء؛ وإذا بهم يقولون بالتنجيم والعزائم، والرُّقى والطلاسم، وكان هذا
شأنهم إلى أن نبغ منهم علماء حكماء، فاستجلوا كثيرًا من الحقائق العلمية وأبقوا
للخَلَف من مبتكراتهم وتوسعاتهم مباحث واكتشافات، فهم أول من دقق البحث في
الحُميات النفاطية كالجُدري والحصبة والحمى القرمزية، وحسبنا من ذلك رسالة
الرازي وهم الذين لطفوا المسهّلات، وأشاروا باستعمال المن، والسنا،
والتمرهندي، والراوند، والكافور، وغير ذلك. وإن كانوا عرفوا منافع أكثر تلك
المواد بما ترتب لهم من العلائق التجارية مع الصين والهند فليس في ذلك ما يخفض
من قدرهم ويقلل من فضلهم، وهم الذين حسنوا صناعة التقطير والتخمير وتشكيل
الأواني المعدنية، وكانت لهم اليد الطُّولى في فن الصيدلة فوضعوا أسسه ووطدوا
أركانه فأفادوا العالم فائدة خلدها لهم التاريخ.
ثم قال الكاتب: وفوق اشتغالهم بطب البشر عنوا بعض العناء (كذا)
بالبيطرة، وهي طب الخيل والزردقة، وهي طب الطيور، وسائر العلوم التي لها
علاقة صريحة أو غير صريحة بالطب كالبزدرة، وهي صناعة الغرس والطبيعيات:
(إلى أن قال) : ولهذا قبضوا على ناصية الطب كما استقلوا بأزِمَّة العلم من فلك،
وهندسة، ونبات، وكيمياء، ومنطق، وطبيعيات وما وراء الطبيعيات، ولبثوا
أربعة قرون متوالية مستودع المعرفة وملجأ الحكمة أي منذ تولي الرشيد في بغداد أو
قبيل توليه إلى موت ابن رشد، ولا عبرة بالفترة التي حصلت بعد وفاة ابن سينا
فإن العلم لم يمت في خلالها.
(قال) : والعجب كل العجب أنه قامت بعد ذلك للمسلمين دول شتى ذات
قوة وشأن عظيم فكان منها العرب، والعجم، والترك، والتتر، ولم تفلح دولة منها
هذا الفلاح، وإن لذلك بلا ريب أسبابًا نضرب عنها صفحًا لخروجها عن دائرة
بحثنا. اهـ
نقول: إن المدة التي ذكرها هي التي كان فيها العلم العربي في عنفوان شبابه،
وقد ولد قبلها ومات بعدها بزمن، وابن رشد مات في 595هـ، ولم يكن بعد
ذلك للعرب دولة قوية بروح الدين وحياة الخلافة الإسلامية، وإن كان لدولة الترك
من القوة الحربية، ما لم تصل إليه دولة سواها، ولم تكن حياة العلم في دول
العرب بالقوة الحربية وإنما كانت بالقوة الأدبية التي جاءتهم من الإسلام، ولم يُقم
الإسلام غيرهم كما يجب أن يقام، وقد ظهرت الدولة العلية بعد موت ابن رشد
بنحو مائة سنة فإن انقراض الدولة السلجوقية كان سنة 699هـ وعلى أنقاضها بنى
السلطان عثمان الأول بناء سلطنته خلدها الله تعالى بتوفيق القائمين على سريرها
للعدل والإصلاح. آمين
(للمقالات بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة السابعة
تابعة كما في العدد 41 من المجلد الثاني
نشرنا في منار السنة الثانية مقالات في كرامات الأولياء ذكرنا في مقدمة
المقالة الأولى منها (2: 26) أن النظر في هذه المسألة من وجوه حقيقتها،
والحكمة فيها. حجج القائلين بجوازها ووقوعها. حجج المنكرين لها، ادعاء جميع
الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها ومضرّته، تمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات،
وقد بَيَّنا هذه الوجوه والمباحث إلا مبحث منفعة الاعتقاد بالخوارق ومضرته فقد كنا
عازمين على أن نرجئه إلى أن ننقل طائفة من الخوارق التي تُؤْثَر عن كهنة
الوثنيين والكتابيين؛ إيضاحًا لما جاء في عرض القول من أن جميع الأمم تدعي
لرؤساء دينها الخوارق والكرامات، ولما كان هذا يتوقف على مراجعة كتب الدين
لتلك الملل، وذلك لا يتيسر إلا في وقت الفراغ ظللنا نتربص هذا الوقت فمرت
السنة الثالثة ولم نُصِبْه فيما بعدها؛ فوعدنا في آخرها بأن سنتم في الرابعة مبحث
الخوارق، ومبحث مدنية العرب، ومرت الرابعة مختومة بوعد آخر لم نر بدًّا من
الوفاء به مع الإيجاز كما بدأنا الوفاء بمبحث مدنية العرب، ونسأل الله تعالى أن
يتوب علينا من الوعود المحدودة؛ وإن كانت آجالها ممدودة.
اضطررنا إلى الوفاء بهذا الوعد (إكمال مبحث الكرامات) الذي ضاق عنه
حولان كاملان في أضيق الأوقات علينا وأكثرها شواغل - في جزء آخر سنة تقدمه
عيد لا عمل فيه، وانحراف في المزاج من النزلة الوافدة (الإنفلونزا) وزاحمه مع
الأعمال الإدارية والحسابية الاشتغال بالانتقال من المنزل الذي نحن فيه إلى منزل
آخر مجاور له والاشتغال بتأسيس مطبعة المنار، وهذه عاقبة من عواقب التسويف
السيئة ذكرناها تأديبًا لنفسنا ولغيرنا ولتكون لنا في الاختصار والإيجاز في موضوع
كنا نود التطويل فيه؛ لأن للاعتقاد بالخوارق تأثيرًا في الأخلاق والآداب والعادات
وشئون المعيشة والكسب، وإن شئت فقل: إن لها التأثير العظيم في سير الأمم،
فرسوخ هذا الاعتقاد في قوم وزِلْزاله أو زواله من نفوس قوم هو من علل ما عليه
الأقوام من التقدم والتأخر في السيادة والثروة وضدهما.
***
(الخوارق عند الوثنيين)
كانت الأديان الوثنية كلها قائمة بخوارق العادات، وكان لقدماء المصريين
منها النصيب الأوفر ولا يزال وَثَنِيُّو الهند إلى اليوم يأتون بخوارق مدهشة، ومن
أغرب خوارق البراهمة الجلوس في الهواء، ولكن الأوربيين تمكنوا بصناعتهم من
محاكاة هذه الخارقة، ومن خوارقهم أنهم يضعون النار في أفواههم، فلا تضرهم
على أنهم يلفظونها غير مطفأة، ومنها أنهم يظهرون أشياء من العدم، ومنها أنهم
يستنبتون الشجر من البِزْرة في مدة قليلة خارقة للعادة، ومنها أنهم يذبحون الإنسان
ثم يحيونه، ومنها أنهم يخبرون عن المغيّبات فيصيبون، ومن أحقرها ملاعبة
الأفاعي والثعابين والتعرض للسعها.
وقد نشرت جريدة الأهرام من مدة قريبة بعض العجائب والخوارق التي تظهر
على أيدي هؤلاء الهنود، والهنود معروفون بهذه الخوارق من قديم الزمان، وقد
اعترف لهم بعض المتصوفة بشيء مما وصل إليهم، وعللوا ذلك بأنه أثر
الرياضات الشديدة التي تكون منهم (راجع كتاب الجواهر والدرر للشَّعْرَانيّ وغيره)
ومن هذا التعليل يعلم أن أصحاب تلك الخوارق لم يكونوا كلهم من الأشرار، أو
الذين يتعرضون لإيذاء الناس فتأتي التفرقة التي يُفرق بها بعض المتكلمين بين
المعجزة والسحر، بل الكثيرون منهم عباد زهّاد نُسّاك متسمكون بدينهم أتم
الاستمساك، أما التفرقة الحقيقية بين السحر وآيات الأنبياء فقد تقدمت في بحث
الآيات من الأمالي الدينية.
***
(الخوارق عند النصارى)
كل ما ذكره الذين ألفوا الكتب منا في مناقب الصالحين، وكل ما يتناقله الناس
فيما بينهم من كرامات، أولئك الصالحين أحياءً وأمواتا؛ يوجد مثله في كتب
النصارى، وفي رواياتهم اللسانية التي يدعون أنها عن مشاهدة أو ترتقي إلى
المشاهدة، ومن ذلك ظهور المسيح ووالدته عليهما السلام للعباد في اليقظة والمنام،
وظهور غيرهما من القديسين.
ومنه استجابة الدعاء، والإخبار بالمغيبات الذي يسميه المسلمون كَشْفًا،
ويسمونه نبوّة، ومنه طيّ الأرض، وتقريب المسافات البعيدة، ومنه إشراق
الوجوه بالأنوار وقت العبادة، ومنه نزول المصائب والرزايا بمن يؤذي القديس،
ومنه قضاء الحاجات، والفوز بالخيرات لمن يتوسل بأحد القديسين والرهبان
المتوحدين ويتخذه شفيعًا عند الله، ومنه شفاء المرضى والمجانين ببركات القديس
الحي إذا لمس المريض أو صلى له (أي دعا) . والقديس الميت إذا زار المصاب
قبره، ومنه حَبَل النساء العواقر بالبركة والزيارة، ومنه إخراج الشياطين من
المصروعين، ومنه ظهور الملائكة للقديسين ومصاحبتهم ومساعدتهم إياهم في
بعض الشئون، ومنه الصبر عن الأكل والشرب زمنًا طويلاً، ولكن الذي ينقل عن
الهنود من هذه الخارقة لم ينقل مثله عن غيرهم؛ فإن أحدهم يدفن في الأرض نحو
شهر أو أكثر ثم يخرج منها حيًّا، وينقلون من كرامات القديسين ما هو أعظم مما
ذكر، ويدّعون في بعضها التواتر، فقد جاء في كتاب (العيشة الهنية في الحياة
النسكية) أن من عجائب القديس أغناطيوس التي تزيد على مائة عجيبة ما هو ثابت
بشهادة ستمائة وسبعين رجلاً.
هذا تواتر حقيقي، والتواتر حجة عقلية باتفاق علماء المسلمين وغيرهم،
والذين يدعون هذه الدعوى للقديس أغناطيوس يسهل عليهم أن يسردوا أسماء أولئك
الشاهدين ومَنْ نََقَل عنهم، فلا يبقى للمنكر عليهم إلا أن يلجأ إلى تأويل تلك
الخوارق، وإثبات أنها خوارق وَهْمية لا حقيقية، وهنا يَحْكُم العقل السليم من
شوائب التحيز والتعصب، الذي ينظر إلى الأمم نظرًا واحدًا لا يريد منه إلا
استجلاء الحقائق بأن التأويل إذا جاز فيما ينقل عن قديسي النصارى وكهنة البراهمة
جاز ينقل عن شيوخ المسلمين، فإذا كانت طرق النقل عند جميع الأمم واحدة؛ فإما
أن نصدق الجميع، وإما أن نكذب الجميع، وإما أنْ نُؤَوِّل الجميع ولا رابع لهذه
الوجوه، ومن قال من هذه الفِرَق: إنني أثق بنقل قومي دون غيرهم لأنني عالم
بحسن سيرتهم، يقال له: وغيرك كذلك فليس لك أن تحتج بأن ما ينقل عن صالحي
ملتك دليل على صحتها لأن هذا الدليل هو الذي يسميه علماء النظر مشترك الإلزام.
وإذ ذكرنا القديس أغناطيوس - وهولويولا مؤسس (طُغْمة الجزويت) التي
يستغيث من طمعها سائر فرق النصرانية - فإننا نشير إلى بعض عجائبه أو خوارقه
على سبيل النموذج، قال القَسُّ أفرام في ترجمته عند ذكر رياضته الأولى بعد تركه
الجندية ودخوله في الإكلركية: (وقد اتفق له مرة أنه نهض لممارسة رياضته هذه
الاعتيادية فتقدم إلى أيقونة والدة الله (تعالى الله عن الوالدة والولد) وجثا أمامها
بأقوى ما يكون من العبادة، وقدم نفسه للسيد المسيح بواسطتها وخصص حياته
لخدمة الابن ووالدته المجيدة، واعدًا إياهما بكل نشاط نفسه أنه يخدمهما خدمة دائمة،
وفي انتهاء صلاته هذه سمع صوتًا عظيمًا، وتزلزل المكان الذي كان فيه وانكسر
كل زجاج النوافذ حتى إن حائط المكان انشق أيضًا، وأظهر الله تعالى بذلك سروره
بتقدمة عبده نفسه لخدمته عز وجل اهـ.
وكأني بإخواني المسلمين وقد ضحكوا من هذه الأعجوبة ونظموها في سِمْط
الخوارق التي سماها المتكلمون خذلانًا، وتلوا قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقًّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي
لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} (مريم:90-92) ولكني أذكر لهم مالا يمكن أن يعدوه
خذلانا.
قال القَسُّ أفرام:
(وقد شاء ابن الرجل الذي كان أغناطيوس مقيمًا بمنزله، أن يعرف كيف يقضي
الليل فرآه مرة ساجدًا متأملا بوجه ملتهب مبتلّ بالدموع ومرة أخرى أبصره مرتفعًا
من على وجه الأرض ولامعًا بالنور كالشمس متنهدًا وقائلاً مرارًا كثيرة: (يا إلهي
يا حبيب قلبي وسرور نفسي، ليت الجميع يعرفونك حتى لا يجسر أحد منهم أن
يغيظك، فيا ما أعظم جودك ورحمتك لأنك تحتمل خاطئًا مثلي) وكأني بهم يقولون:
إن هذه رواية آحاد أو وِلْدان لا يعتد بها في هذا المقام وإن صحت: وإنني أرضى
بهذا القول بشرط أن لا يقبل قائله مثل هذه الروايات الآحادية عن صالحي قومه لأن
ما جاء على خلاف سنن الكون لا يُقْبل إلا بالدليل القاطع الذي لا يقبل النقض
كمعجزات الأنبياء عليهم السلام.
ومن قبيل هذه الأعجوبة قول القَسّ المذكورِ عنه أنه حينما كان يومًا يتلو
صلوات الكنيسة لإكرام مريم العذراء الجليلة رأى بغتة صورة ربه الثالوث الأقدس
وهذه الرؤيا نوّرته وعزته جدا حتى إنه لم يقدر في ذلك النهار كله أن يكف عن
ذرف الدموع، ولم يتكلم إلا عن الثالوث الأقدس بنوع جلي سام بحيث كان يذهل
بخطابه عقول أجلّ علماء اللاهوت مع أنه كان لا يعرف حينئذ إلا القراءة والكتابة،
ومرة أخرى رأى في القداس حقيقة وجود جسد المسيح ودمه في القربان المقدس)
اهـ. ولهم أن يقولوا في الكلام اللاهوتي الذي قاله من غير تعلم إنه ليس من
الخوارق؛ لأن الأذكياء إذا توجهوا إلى شيء واعتنوا به، فلا يبعد أن يقولوا فيه
قولاً غير منتظر ممن في درجتهم العلمية، وليس في درجتهم العقلية، ثم إننا لا
نعرف ما هو ذلك القول لنحكم أنه محل للإعجاب في الجملة فكيف نحكم بأنه علم
لَدُنيّ إلهي جاء بغير تعلم، وربما كان في الواقع خطأ، نعم إن أهل العلم والعقل من
المسلمين يقولون هذا، ولكن فينا كثيرًا من المدعين للولاية ليس لهم كرامة إلا الأقوال
التي يسمونها علومًا لدنية، وما هي إلا من اللغو والجهالة، ومنهم دجال الزقازيق
الذي يدعي أنه يفسر القرآن بالإلهام، ويعتقد صدقه الجمّ الغفير فيقصدونه من كل
جانب بالهدايا والنذور ومثله كثير.
وأما رؤية جسد المسيح ودمه في القربان، فهي دعوى بغير برهان، ومثل
ذلك دعوى ظهور الشيطان له بزي ملك النور وحثه على الرياضات والعبادة ليصرفه
عن العلم عندما قلل العبادة واشتغل بالعلم (قالوا) : ولكنه عرفه ولم ينخدع. ولكن
عندنا مثل هذه أيضاً فقد ذكروا أن الشيطان ظهر للشيخ عبد القادر الجيلي بصورة
نورانية وقال له إنه رفع عنه التكاليف فعرفه عبد القادر وقال: اخسأ يا ملعون. فعند
ذلك تحول إلى ظلمة، وقال له نجوت مني بعلمك يا عبد القادر وإنني قد فتنت بهذه
الحيلة كذا من العباد وذكر عددًا كثيرًا.
ومن عجائب أغناطيوس وخوارقه التي دونوها، أنه عندما رجع من القدس
إلى أوربا طلب من ربان سفينة (الربان رئيس الملاحين) أن يحمله إلى إيطاليا
حبًّا في الله؛ فأبى وحمله ربان آخر فانكسرت سفينة الذي أبى؛ ونجت سفينة الذي
حمله، ومثل هذه أنه رأى مرة جماعة يلعبون (فطلب منهم الصدقة؛ فنظر إليه
واحد من الجمهور وهتف قائلاً نحو القديس: ليحرقني الله حيًّا إن كان هذا الرجل
لا يستحق أن يحرق حيّا، وفي ذلك النهار عينه حضر فرجة دنيوية مبهجة، وكان
واقفًا على برميل ممتلئ بارودًا؛ وإذا بشرارة ملتهبة وقعت على ذلك البرميل
فاشتعل البارود حالاً وأحرق الرجل حيًّا) . وعجيبة أخرى من هذا القَبِيل وهي أنه
لما جمع (ينسي) بأمره الرهبان في مكان ليقرأ عليهم قوانينه التي وضعها لهم بعد
الخروج من المائدة، واجتمعوا انهدم الرواق الذي كانوا يتذاكرون فيه بعد الأكل
ولولا هذا لانهدم عليهم الرواق، وههنا يقول القارئ: إن هذه الوقائع هي التي نقلها
الكثيرون وعَدّوها عجيبة متواترة وما هي بعجيبة وإنما هي وقائع حدثت بأسبابها
وكان حدوثها بعد ما ذكر من باب المصادفة والاتفاق لا أن سر القديس كان سببًا في
حدوثها، ومثل ذلك يتفق لكل أحد ولكن الناس لا يلتفتون إلى هذه المصادفات إلا إذا
كان هناك من يعتقدون صلاحه، وهذا القول صحيح وهو ما يصدق فيما ينقله قومنا
من مثل ذلك عن معتقديهم من الأحياء والأموات.
ألم يقل كثير من الناس: إن الشيخ محمد عبده اتُّهِمَ في هذه المسألة العُرابية
وحبس وهو بريء، لأن الشيخ عليشًا غاضبًا عنه؛ فكان ذلك كرامة للشيخ عليش،
ولم يلتفتوا أن الشيخ عليشًا قبض عليه وحبس أيضًا، ولم يقولوا إن ذلك
كرامة للشيخ محمد عبده؛ لأن الشيخ عليشاً سمع فيه وشاية وحاول إيذاءه.
وذلك أن الشيخ محمد عبده كان متهمًا بالعقل والحكمة لأنه أول من قرأ في الأزهر
كتاب العقائد النسفية وبعض كتب المنطق والحكمة، التي لم تكن تقرأ لذلك العهد ثم
صارت تقرأ بعد ذلك بلا نكير، ألم يقل بعض الناس إن ابن الشيخ الظواهري أخذ
شهادة التدريس لأن والده يخدم ضريح السيد البدوي فتلك كرامة للسيد؟ وقد أخذ
مثل هذه الشهادة كثيرون ولم يعد ذلك كرامة لأحد، بل قال بعض الحمقى في هذه
الأيام إن الشيخ عليًّا البيلاوي صار شيخًا للأزهر بسر سيدنا الحسين (عليه الرضى
والسلام) لأنه كان خادمًا للمسجد الذي فيه الضريح المنسوب له! وقد خدم هذا
المسجد غيره ولم يكافئهم سيدنا الحسين بهذه المكافأة ونال مشيخة الأزهر كثيرون لم
يخدموا المسجد الحسيني فلمْ يعدَّ ذلك من الكرامات وخوارق العادات! ! !
ذكرنا هذه الشواهد المتعلقة برجال معروفين من أهل الطبقة العليا في
المسلمين، ويعرف كل واحد من الناس مالا يحصى من أمثال هذه الشواهد التي
يلهج بها الناس في كل مكان وهي عندهم أقوى من كل برهان، بل أقوى من الحس
والعيان والإحساس والوجدان، بل هي ركن الإسلام والإيمان، ويخشى بعض
الخواص من تشكيكهم فيها أن يمرقوا من الدين وينفلتوا من جماعة المسلمين، وقد
نقلنا هذا الرأي فيما سبق عن بعض كبار الشيوخ، وهو أنه يجب التأني في بيان
الحق في مسألة الاعتقاد بالأولياء، والتِمَاس المنافع، ودفع المضار من أصحاب
القبور، وجَعْل ذلك تدريجيًّا؛ لئلا نفسد اعتقاد العامة الذين لا يعرفون من دلائل
الدين غير ذلك، وقد تقدم في مقالات البحث في إثبات الكرامة، وسنذكر في الجزء
الآتي الحق الصريح الذي ينبغي تلقينه للناس في المسألة، وبيان منافع هذا الاعتقاد
ومضارّه، ووجوه تأويل ما ينقل عن جميع الأمم من الخوارق، فلا يعجلَنَّ القارئ
المغرم بهذه المسائل بالحكم حتى يقرأ المقالة الآتية مفصلة تفصيلاً.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________