الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة الخامسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وصحبه وسلم.
وبعد، فقد تم للمنار أربع سنين ودخل بهذا الجزء في السنة الخامسة. ولم ينس
القراء أن فواتح السنين الخالية وخواتمها كانت تكتب بمداد الصبر والتبرُّم، على
صحائف الأمل والتعلل، لِمَا لقيناه من معارضة أنصار الجهل، ومناهضة الذين
ألفوا الذل، وما تحملناه من مناصبة الظالمين، ومغاضبة المقلدين، مع العناء
الكبير، وقلة العون والنصير.
ولو كان هذا المنار مُنْشأ لأجل الكسب، وابتغاء الرزق، لقوّضته أنواء
المناوأة والمناكدة، ودكته رياح المماكرة والمكايدة. ولو قصد به التوسل إلى
الوظائف والمناصب، والتوصل إلى الرتب والرواتب، لنال منها ما أراد، أو نالت
منه ما تريد. ولو كان الغرض منه الرياء والفخر ، وحسن السمعة والذكر ، لتلاعبت
به الأهواء ، وعبثت به أيدي الزعماء والرؤساء ، فأمالته عن الطريقة ، وصرفته عن
طلب الحقيقة. كلا والله ما كان شيء من ذلك ولن يكون {إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) .
صرحت في فاتحة السنة الأولى بأنني كنت في هذا العمل بين يأس ورجاء
يحركني الباعثان ، ويتنازعني العاملان ، وفي خاتمتها بأن غوغاء الناس سلقونا
بألسنة حداد ، ورمونا بسهام الانتقاد ، ولم تكن السنة الثانية بأمثل من الأولى ، ولا
بأقل بلاءً وأكثر قبولاً. وقلت في فاتحة السنة الثالثة: إن المنار قد انتشرت تعاليمه.
ولم أقل: إنه زاد هو انتشارًا. وقلت: إن الكُتَّاب والخطباء قد تداولوا مسائله. ولم
أقل: إنهم كانوا أعوانًا له وأنصارًا ، بل صرحت بأنهم كانوا (بين مخطّئ
ومصيّب ومنتقد ومجيب ، وهكذا يكون الأمر في أوله وستتجلى الحقيقة للناس إن
شاء الله عن قريب) . وكتبت في فاتحة السنة الرابعة أنه قد نما النمو الطبيعي المقدر
له من أول نشأته (أي: التدريجي البطيء) ولقي صاحبه من الألاقي بعض ما لقي
الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) نعم إننا كنا نمزج هذه الشكوى بشكر العلماء ، والاعتراف بفضل
الفضلاء، الذين تقبلوا المنار بأحسن القبول، ورأوه من بواعث إحياء الأمل
وحصول المأمول، مع الإيماء إلى قلتهم، والتبرم من عدم نجدتهم.
هذا مجمل تاريخ المنار من أول نشأته إلى سنته الرابعة التي كان آخرها
خيرًا من أولها وخاتمتها أفضل من فاتحتها، ولم ينس القراء أننا اعترفنا فيها
بتضاعف قراء المنار، وكونه صار موضع الثقة في جميع الأقطار.
ونزيد تحدثًا بالنعمة فنقول: لقد خشعت بفضل الله تعالى أصوات المشاغبين،
وأعرض الناس عن جهل المعارضين، فخنست شياطين الوساوس، وطاشت سهام
أرباب الدسائس، وصار لنا من مستحسني العمل في السر، من يدعو إليه في الجهر،
ومن المتبرمين منه، من يناضل دونه ويدافع عنه، فلنا أن نقول الآن تحدثاً بالنعمة:
إننا انتقلنا من مقام الصبر إلى مقام الشكر.
فأما الصبر: فلا بد للداعي إلى الحق من الاعتصام به ولذلك قرن الله تعالى
التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومن فوائد الصبر الظفر وحسن الجزاء قال
تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 96)
وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) بل وعد سبحانه أهل الصبر، بمضاعفة الجزاء
والأجر، فقال:{أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} (القصص: 54) .
وأما الشكر: فقد وعد الله تعالى صاحبه بالمزيد من النعمة والأمن من العذاب
فقال عز شأنه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) وقال جل ثناؤه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِراً عَلِيماً} (النساء: 147) فنسأله تعالى أن يوفقنا للشكر على الآلاء (ما وفقنا
للصبر على البلاء) فإن الشكر مقام عزيز؛ لأن من شأن الإنسان أن تُبطره النعمة
ويشغله الغرور بها عن الشكر عليها، ولذلك قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13) .
الشكر هو: معرفة النعمة للمنعم تعالى والثناء عليها وصرفها في إقامة
سننه وموافقة حكمته وموجبات محبته، ومَنْ شَكَرَ اللهَ شَكَرَ مَنْ أحسن العمل مِن
عباده، فقد روى أحمد وأبو داود وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يشكر الله من لا يشكر
الناس) لهذا نشكر لأولئك الأفاضل الذين انتدبوا للدعوة إلى المنار والسعي في نشره
عملهم، ونعرف لهم فضلهم، ونشكر أيضًا للمشتركين الكرام الذين يؤدون الحقوق
في أوقاتها وفاءهم، ونعترف بالسبق بالفضل، لقوم سبقوا بالبذل؛ فأدوا قيمة
الاشتراك عن السنة الخامسة قبل دخولها حتى إننا لم نقبل ذلك من بعضهم إلا بعد الإلحاح منهم والإصرار.
ونرجو من سائر المشتركين الفضلاء أن يبادروا إلى حسن الأداء، فإنه من
يُشكَر له، خير ممن يُصْبَرُ عليه، ونحمد الله تعالى أن أكثر قراء المنار، من
المصطفين الأخيار فمنهم العلماء الفضلاء، والأمراء والوزراء، والقضاة
المقسطون، والمحامون البارعون، ونظار المدارس وأساتذتها، والأذكياء النابغون
من تلامذتها، وذوو الشهامة من الضباط المصريين، ونعِد الجميع بأننا سنبذل
الجهد في زيادة الفوائد، وتحرير المسائل، والبحث عن أقرب الوسائل لنهضة
المسلمين، ومنفعة جميع الشرقيين، بل نرجوا أن يكون عملنا خدمة للناس أجمعين.
ونسأل الله أن يحفظنا من عثرة القلم، وزلة القدم، وأن يلهمنا السداد،
ويوفقنا للصواب، وأن ينصر سلطاننا، وينير برهاننا، ويحقق آمالنا، ويحسن
مآلنا، فهو نعم المولى ونعم النصير، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
…
...
…
...
…
...
…
... صاحب المنار ومحرره
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد رشيدرضا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القضاء في الإسلام
النبذة الثانية
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
وجوب نصب القاضي:
(الحديث)[1] قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من
الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم) وفي رواية: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا
عليهم أحدهم) استدل العلماء بهذا الحديث على أن نصب الأمير الذي يسوس الناس
والقاضي الذي يحكم بينهم واجب شرعًا؛ لأن هذا أولى بالوجوب من تأمير
المسافرين - وإن كانوا أقل الجمع - واحدًا منهم عليهم، والعلة ظاهرة والعمل عليها
من أول الإسلام. وفي الحديث إرشاد إلى أن الأمة هي التي تولي الأمراء والحكام
كما تقدم شرحه في باب الأحاديث الواردة في الأمراء من المجلد الرابع.
موانع القضاء أو شروطه:
تقدم في الأحاديث السبعة التي أوردناها في النبذة الأولى ما يدل على أن
الضعيف لا يكون قاضيًا وبيَّنَّا أنواع الضعف، وأن الجاهل لا يكون قاضيًا. كما
يؤخذ من حديث قاضي الجنة وقاضيي النار وغيره. وأن الجائر لا يكون قاضيًا، وأن
المرأة لا تكون قاضية، وخالف في هذا الشرط الحنفية، ولو كان المخالف من علماء
هذا العصر لحكم بكفره أكثر المسلمين، ورموه بمصانعة الأجانب وتقليد الأوربيين،
وكذلك الصبي لا يكون قاضيًا، ونقل بعضهم الإجماع على هذا، ويستدل له بما
اسُتدِلَّ به على منع قضاء المرأة، وفي هذه الموانع أحاديث أخرى نورد بعضها [2] :
قال صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان)
والقضاء ضرب من الإمارة ولا نعرف في الناس من تُوَلِّي الصبيان القضاء،
ولكنهم يولونهم الإمارة والسلطنة بالوراثة، وقد قلد المسلمون الأوربيين في هذه
الوارثة.
فأما أولئك فإنهم آمنون من مضرة ولاية الصبي؛ لأن حكوماتهم مقيدة بقوانين،
ووزراء مسؤلين ومنفذين، وإنما الحاكم العام، (كالملك ورئيس الجمهورية)
لأجل الوحدة في مصدر الأحكام، وهو لا يستبد دونهم بنقض ولا إبرام.
وأما بلاد الشرق فلقد تأصل فيها الاستبداد ورسخت عروقه، واعتادت أممها
عليه، وضعفت عن مقاومته، فلو قضت شئون السياسة وتقلب الحوادث على بعضها
بوضع قانون يجعل أحكامها مقيدة بالقوانين التي تغل أيدي الأمراء والسلاطين،
لَمَا وُجد مِن الأمة كافل يضمن تنفيذ القانون ولا استبد الحاكم الأكبر كيف شاء أو
يجد قوة أجنبية تأخذ على يده وتوقفه عند حده.
ولهذا المعنى كانت تولية الصبي الملك خطرًا في الشرق، ومثله المرأة. وأما
رأس السبعين في الحديث فقالوا: إنه إنباء بما وقع في عشر السبعين من الفتن،
كقتل سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان ووقعة الحرة وغير ذلك.
عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس
ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)[3] والنظر في
هذا الحديث الشريف من وجهين:
أحدهما: كونه خبرًا.
وثانيهما: كونه حكما شرعيًّا؛ لأنه يتضمن بمعناه النهي عن تولية النساء الأمور
العامة كالخلافة والقضاء.
أما الأول فهو مبني على العادة التي كانت متبعة في الشرق بل في العالم كله
وهي أن الأمر والنهي والتصرف السياسي والقضائي بأيدي الملوك والأمراء، ولا
شك أن هذه الوظائف لا يصح أن تسند إلى النساء؛ لأنهن أضعف رأيًا لاسيما في
محافل الرجال وما يتعلق بأعمالهم، وأقل جلدًا وثباتا وأميل مع الهوى؛ لرقة قلوبهن
وسرعة انفعالهن، ولأنهن إن يشتغلن بذلك يضعفن عن وظيفتهن الطبيعية وهى
تربية الأولاد وتدبير المنزل.
فإذا كان في المرأة استعداد لأنْ تُجاري الرجل وتكون مثله في كل شيء كما
يزعم بعض الأوربيين فهذا الاستعداد لما يتحقق فعلاً مع العناية بتربية النساء في أوربا فلا يعترض به على حديث قيل في شأن الفرس من ثلاثة عشر قرنًا، ولا
ينبغي السعي في تحقيقه بتربية المرأة كما يتربى الرجل تماما؛ لأن هذا يضر النوع
الإنساني من وجوه أهمها تربية الأولاد، فإن المُرَبِّي يجب أن يكون بينه وبين
المُرَبَّى تقارب وتناسب في السجايا والأخلاق والأفكار والرغائب؛ ليسهل الائتلاف
والامتزاج معه والتقليد له والأخذ عنه بالطبع لا بالتكلف. والمرأة وسط بين
الأطفال وبين الرجال فهي التي تربي البنات كل التربية وتربي الصبية التربية
الأولى التي تعدهم للأخذ عن الرجال والاقتداء بهم. وإذا اشتغل الرجل بتربية
الأطفال، فإنه يعامل الذكران والإناث معاملة الرجال، وفي ذلك خروج بالبنات عن
سنة الفطرة، وذهاب بالصبيان مع الفطرة.
وأما الثاني - وهو كون الحديث حكمًا شرعيًّا بمنع ولاية النساء - فهو من
جهةٍ مناسبٌ لاستعداد النساء ولوظيفتهن الفطرية، ومن جهة أخرى مناسب لما كانت
عليه حالة الأمم في ذلك العصر ولا حاجة لإباحته في عصر آخر بل فيه الضرر
المذكور في الوجه الأول وهو التعدي على وظيفة النساء الطبيعية.
ولا يعترض بحال أوربا وكون الدولة الإنكليزية أفلحت في عهد الملكة فيكتوريا
فلاحًا ما رأت هي ولا غيرها من الدول مثله؛ لأن فرقًا بين أمم أوربا والأمة
الإسلامية، وهو أن المَلك فيهم ليس له من الوظائف مثل ما للخليفة عند المسلمين،
فإن الخليفة هو الإمام الديني الذي يصلي بالناس ويخطب فهم ويؤمهم في حجهم عند
حضوره الحج وكل الأئمة والخطباء في البلاد الإسلامية وكل القضاة والمفتين نوابه
ووكلاؤه فهو الذي يقلدهم هذا المنصب بشرط الكفاءة، وإليه يرجعون في مسائل
الخلاف ليفصل فيها، ومن شروط الكفاءة أن يكون القاضي والمفتي في مرتبة
الأئمة المجتهدين في الدين ومعرفة مصلحة المسلمين. ولا يعرف هذا إلا من هو أهله.
وإن فَرَضْنا أن في استعداد المرأة الوصول إلى هذه المرتبة، وأنه لا ضرر في
هذا على النوع الإنساني، فهناك مانع آخر من إمامتها وهو: أنها تكون في طور لا
تصح فيه صلاتها بنفسها؛ فكيف تكون إمامًا لغيرها؟ ولا يقال: تستنيب؛ لأن من
ليس له الحق بشيء لا يصح أن يستنيب فيه؛ إذ النائب يؤدي وظيفة المنيب، ولا
وظيفة له هنا - هذا بعض ما يقال في المنع من الجهة الدينية المحضة، وثَمَّ موانع
أخرى من الجهة الدنيوية وهي كون الخليفة مدير السياسة والحروب ومتولي النظر
في المصالح الداخلية والخارجية، ولذلك اشترطوا أن يكون شجاعاً فإن قيل: إن
الإسلام شرع المشاورة في الأمور وجعلها فرضًا لازمًا ومنع الخليفة أن يستبد في
أمر بنفسه، وهذا عين ما عليه الأوربيون في تقييد الملوك بالمجالس النيابية. قلنا:
نعم هذا صحيح، ولكن الإسلام أوجب على الخليفة أن يكون عاملاً بالمشاورة لا أن
يكون آلة تجري الأُمور باسمه بدون شعور. والكلام في هذا المقال كثير وفيما
ذكرناه غناء للصبر.
ومن موانع القضاء عند الجماهير الرق وحكي عن العترة أنه يصح أن يكون
العبد قاضيًا، وكأنهم أخذوا بظاهر الحديث وهو:[4] قال صلى الله عليه وسلم:
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) وفي رواية:
(اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله) قال القسطلاني في
شرح البخاري: معناه: إن استعمله الإمام الأعظم على القوم، لا أن العبد الحبشي هو
الإمام الأعظم؛ فإن الأئمة من قريش. اهـ، أو المراد به الإمام الأعظم على سبيل
الفرض والتقدير وهو مبالغة في الأمر بطاعته، والنهي عن شقاقه ومخالفته. اهـ أي:
ليس المراد به ظاهره فإن العبد إذا ولي الخلافة لا يطاع بل يخلع ويعزل: قال
الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود. وقال الحافظ في الفتح: ونقل ابن
بطال عن المهلب قال: قوله: (اسمعوا وأطيعوا) لا يوجب أن يكون المستعمِل للعبد
إلا إمام قرشي لما تقدم من أن الإمامة لا تكون إلا في قريش وقد أجمع الأمة على أنها
لا تكون في العبيد ويحتمل أن يكون سماه عبداً باعتبار ما كان قبل العتق. اهـ
والحاصل أن شروط القضاء في الشرع سبعة، كما قال في الأحكام
السلطانية: الرجولية، والحرية، والإسلام، والعدالة، والاجتهاد في العلم، والعقل،
وسلامة الحواس. وجوّز مالك قضاء الأعمى كما جوز شهادته.
***
آثار السلف عبرة للخلف
عدل عمر:
روى ابن عبد الحكم عن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن
الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذًا. قال:
سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن
الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم ابنه معه، فقدم، فقال عمر:
أين المصري؟ خذ السوط فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب
ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه فما أقلع
عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو.
فقال: يا أمير المؤمنين! إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر
لعمرو: مُذْ كم تعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا! قال: يا أمير المؤمنين
لم أعلم ولم يأتني.
وروى عبد الرزاق في الجامع والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر قال:
شرب أخي عبد الرحمن وشرب معه أبو سروعة عتبة بن الحارث وهما بمصر في
خلافة عمر فسكرا فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا:
طهّرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه (يظهر من هذه الكلمة أنهما لم يكونا
يقصدان السكر ولم يعرفا ما هو الشراب) قال عبد الله: فذكر لي أخي أنه سكر،
فقلت: ادخل الدار أطهّرك ولم أشعر أنهما قد أتيا عَمْرًا فأخبرني أخي أنه أخبر
الأمير بذلك فقلت: لا تحلق اليوم على رءوس الناس ادخل الدار أحلقك. وكانوا إذ
ذاك يحلقون مع الحد فدخلا الدار. قال عبد الله: فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهم عمرو
فسمع بذلك عمر وكتب إلى عمرو أن ابعث إليَّ بعبد الرحمن على قتب ففعل ذلك،
فلما قدم على عمر جلده وعاقبه لمكانه منه ثم أرسله فلبث شهرًا صحيحًا ثم أصابه قدره فمات فيحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر ولم يمت من جلد عمرو.
وروى هذا الأثر ابن سعد في الطبقات مطولاً، ذكر فيه مجيء عبد الرحمن
إلى مصر ونزوله في أقصاها وأن عَمْرًا خشي أن يزوره أو يهدي إليه شيئاً فيعلم
أبوه عمر بذلك فيعاقبه؛ لأنه كان كتب إليه (إياك أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي
فتَحْبُوه بأمر لا تصنعه بغيره) حتى جاءه هو ورفيقه أبو سرعة منكسرَيْنِ يطلبان
إقامة الحد عليهما. وفيه أن عمر لما علم أن عَمْرًا أقام الحد على ولده في بيته
وحلقه في بيته ظن أنها خصوصية اختص بها ولده، فكتب إليه يوبخه ويهدده بالعزل
ويطلب عبد الرحمن. وأن عَمْرًا اعتذر له بأن يحد كل مسلم وذمِّيٍّ في بيته.
اهـ ملخصًا من كتاب كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو، والرواية الثانية: أخرجها أبو داود عن أبي سعيد. وأخرج نحوهما البزار بسند صحيح عن عمر بن الخطاب.
(2)
رواه أحمد عن أبي هريرة.
(3)
رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي.
(4)
رواه أحمد والبخاري عن أنس والرواية الثانية لمسلم عن أم الحصين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
(الدرس 32)
عصمة الأنبياء عليهم السلام
(المسألة 79) حقيقة العصمة هي في اللغة: المنع، وقال الجرجاني
…
في التعريفات: (العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها) أي إن
المعصوم من الشيء يجد في نفسه قدرة عليه ويشعر بزاجر منها يحول دون
الوقوع فيه.
فالعصمة وازع نفسي راسخ في النفس وهي في الأنبياء فطرية، وقد يكون
لغيرهم بحسن التربية من ملكة الفضيلة ما يربأ بنفوسهم عن موافقة الفجور والدنايا.
ويسمي علماؤنا هذا المعنى حفظًا؛ للتفرقة، وإنما يكون هذا بالتربية الفاضلة بين
الفضلاء مع مساعدة الوراثة واعتدال المزاج. وقد ينكر الذين ابتلوا باقتراف الكبائر
هذا المعنى أن يكون لغير الأنبياء، ويسلمون به للأنبياء تقليدًا. ولهم العذر فإنه أمر
لا يعرفه إلا من ذاقه وقليل ما هم.
***
(م 80) العصمة في التبليغ.
جاء في المواقف أن أهل الملل والشرائع قد أجمعوا على عصمة الأنبياء
عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن
الله تعالى. وإن عاقلاً لا يجمع بين الإيمان والوحي والنبوة وبين تجويز كذب النبي
على الله تعالى فيما يبلغ عنه، فإن كان هذا جائزًا؛ فأي ثقة بالوحي؟!
وكيف يميز المكلف بين ما هو عن الله وما عن غير الله والمبلغ غير موثوق
بصدقه؟ !
ولقد أبعد القاضي - أحد أئمة الأشعرية - في قوله بجواز صدور الكذب منهم
سهوًا. وهو قول مردود لا يعوِّل عليه أحد. والدليل على هذا النوع من العصمة
هو عين الدليل على النبوة من الآيات العلمية أو الكونية.
***
(م 81) العصمة من الكفر.
أجمع المسلمون من جميع الفرق على عصمتهم من الكفر قبل النبوة وبعدها
وليس هنا شبهة لأحد فنتوسع فيه.
***
(م 82) العصمة من كبائر الذنوب
قال في المواقف وشرحه: (أما الكبائر)، أي: صدورها عنهم عمدًا (فمنعه
الجمهور) من المحققين والأئمة، ولم يخالف فيه إلا الحشوية، (والأكثر) من
المانعين (على امتناعه سمعًا) قال القاضي والمحققون من الأشاعرة: إن العصمة
فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً إذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عنهم سمعًا
مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك. (وقالت المعتزلة بناء
على أصولهم الفاسدة في التحسين والتقبيح العقليين ووجوب رعاية الصلاح
والأصلح) (يمتنع ذلك عقلاً) ؛ لأن صدور الكبائر عنهم عمدًا يوجب سقوط
هيبتهم من القلوب وانحطاط رتبتهم في أعين الناس فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم
الانقياد لهم. ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم وهو خلاف مقتضى
العقل والحكمة. (وأما) صدورها عنهم (سهوًا) وعلى سبيل الخطأ في التأويل
(فجوزه الأكثرون) والمختار خلافه. اهـ
ولم يذكر ناقلي الإجماع ولا كيف وقع هذا الإجماع، وما أراه إلا الإجماع
السكوتي. وعجيب من سادتنا الأشاعرة كيف ينقضون الأدلة العقلية على عصمة
الأنبياء لأجل مخالفة المعتزلة ولو بالتكلّف؟
إذ استلزام دليلهم للتحسين والتقبيح بالمعنى النافي لاختيار الله تعالى
ممنوع كما سنبينه.
ثم إنهم جوّزوا وقوع الكبائرمنهم سهوًا وتأويلاً كما ترى. وذكر السيد أن
المختار خلاف ما عليه الأكثرون. وقد جزم المتأخرون بهذا في عقائدهم، ولا
شك أن المتأخرين أشد تعظيمًا بالقول للأنبياء والصلحاء وكذلك في الاعتقاد
التخيلي دون البرهاني. على أنهم في هذه المسألة أقرب إلى الصواب من
المتقدمين.
***
(م 83) العصمة من الصغائر:
قال في المواقف: (وأما الصغائر عمدًا فجوزه الجمهور إلا الجبائي، وأما
سهوًا فهو جائز اتفاقًا إلا الصغائر الحسية كسرقة حبة أو لقمة. وقال الجاحظ:
يجوز بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير من المتأخرين وله نقول)
قال الشارح: (أي نحن الأشاعرة) .
***
(م 84) العصمة قبل النبوة:
قال في المواقف بعد إيراد ما ذكر كله: (هذا كله بعد الوحي وأما قبله
فقال الجمهور: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة؛ إذ لا دلالة للمعجزة عليه ولا حكم
للعقل. وقال أكثر المعتزلة: تمتنع الكبيرة وإن تاب منها؛ لأنه يوجب النفرة،
وهي تمنع عن اتباعه، فتفوت مصلحة البعثة. ومنهم من منع عما ينفر مطلقًا كعهر
الأمهات والفجور في الآباء والصغائر الحسية دون غيرها. وقالت الروافض: لا
يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة قبل الوحي، فكيف بعد الوحي؟) اهـ.
وقول الروافض هذا هو الذي اعتمده المتأخرون من أهل السنة، بل منع
بعضهم وقوع المكروه منهم إلا على سبيل التشريع.
***
(م 85) رَأْيُنا [1] : إنما ذكرنا هذا الاختلاف في العصمة ليعرف من يطلع
عليه من دعاة النصارى ومجادليهم أن المسلمين لم يتكلفوا القول بعصمة الأنبياء
تكلفًا لإثبات قدرتهم على إنجاء الناس من العذاب في اليوم الآخر كما يزعمون، وإنما
يتبعون في ذلك - كغيره - ما يظهر لهم من الأدلة العقلية والسمعية أي: أدلة الوحي
وإنما نقلنا عبارة كتاب المواقف الذي هو أعظم كتب الكلام عندنا لئلا يظن قليل
الاطلاع من المسلمين أن الأقوال التي أوردناها في الخلاف هي أقوال شاذة أو مسندة
لغير أصحابها سهوًا أو جهلاً لا سيما اعتماد متأخري أهل السنة قول الرافضة.
والذي نراه أنه يصح الاستدلال بالعقل على عصمة الأنبياء عليهم السلام، ولا
يستلزم ذلك القول بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين ولا سلب الاختيار عن الله تعالى.
وكذلك يستنبط من كثير من الآيات القرآنية ما يدل على نزاهتهم وكونهم قدوة في
الخير والفضائل، ولكن ليس فيها نص صريح على العصمة من الذنوب مطلقًا؛
ولذلك قال صاحب المواقف بعد إيراد تلك الآيات: إنها ليست بالقوية فيما هو محل
النزاع وهو الكبيرة سهوًا والصغيرة عمدًا. وفي الكتاب والسنة إسناد الذنوب إلى
بعض الأنبياء عليهم السلام، وما جاز على بعضهم جاز على الآخرين. والعلماء
يؤوِّلون ذلك. وقصارى هذا كله وجوب الاعتماد على الدليل العقلي والتوفيق بينه
وبين ما ورد من إسناد الذنوب إليهم، فاطلب ذلك من الدرس الآتي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
راجع النبذة 11من شبهات المسيحيين وحجج المسلمين في عصمة الأنبياء والخلاص (ص816م4) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة والأجوبة
(س1) محمد توفيق أفندي حمزة بالفشن (المنيا) : هل يوجد حديث
صحيح بأن في القرآن لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها وأن منه قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) نرجو الرد على ذلك لإزالة الشبهة.
(ج) لم يرد في هذا المعنى حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، ولكن
الزنادقة الذين حاولوا العبث بدين الإسلام كما كان يفعل أمثالهم في الأديان الأخرى
لما عجزوا عن زيادة حرف في القرآن أو نقص حرف منه؛ لحفظه في الصدور
والصحف أرادوا أن يشككوا بعض المسلمين فيه بشيء يضعونه عن لسان الصحابة
الكرام فزعم بعضهم أن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان
فوجد فيها حروفًا من اللحن فقال: (لا تغيروها فإن العرب ستغيّرها، أو قال:
ستقرأها بألسنتها، ولو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه
الحروف) .
وفي لفظ آخر: (أحسنتم وأجملتم، أرى شيئًا من لحن ستقيمه العرب
بألسنتها. ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد هذا) ، ولما تصدى
المحدثون رضي الله عنهم لنقد الحديث والأثر من جهة الرواية التي راج في سوقها
الطيب والخبيث تبين لهم في هذا الأثر ثلاث علل: الانقطاع، والضعف
والاضطراب؛ فهو لا يعوّل عليه لو كان في الحث على فضائل الأعمال فكيف يلتفت
إليه في موضوع هو أصل الدين الأصيل وركنه الركين؟ ومن يدري إن كان
الساقط من سنده مجوسي أو دهري أو إسرائيلي؟ على أن الكلمة التي نسبت إلى
عثمان تدل على أن اللحن في الرسم، وأنه لم يكن مما يشتبه في قراءته؛ لأنه لا
يحتمل في النطق وجهًا آخر، كرسم الصلاة والزكاة والحياة بالواو مثلاً (الصلوة
الحيوة) . ولكن الموسوسين حملوا ذلك على كلمات قليلة جاءت في المصحف على
خلاف القواعد النحوية التي وضعها الناس لكلام العرب وتحكَّمُون بها عليهم، ومن
ذلك الآية التي أشار إليها السائل وهي قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ} (النساء: 162) وإنني لأعجب من دخيل في لغة قوم يتحكم عليهم في
شيء يخترعه هو ويجعله أصلاً لها، وأعجب من هذا أن يكون هذا التحكم على
أصح شيء في اللسان فإن الذين يؤولون ما ورد عن بعض سفهاء الأعراب من
الشعر المخالف للقواعد أو يكتفون بأنه صحيح - لأنه هكذا سُمع - يتوقفون في بعض
الكلم من القرآن إذا رأوا أنها على خلاف القياس.
على أن علماء العربية خرجوا تلك الكلمات على ما يوافق قواعدهم من وجوه
مذكورة في كتب التفسير وكتب النحو لا محل لها هنا. وسنفصل القول في مسألة
جمع القرآن في دروس الآمالي الدينية بما يشفي الصدور إن شاء الله تعالى.
***
(س2) أحمد أفندي الألفي في أبي كبير (شرقية) : ما أقرب الطرق
لمعرفة أحكام العبادات من الكتاب والسنة؟
(ج) الكتاب العزيز لم يفصل القول في صور العبادات، وإنما بين روح
العبادات والمقصود منها، وفيه كيفية الوضوء وذكر الركوع والسجود من أعمال
الصلاة. والسنة بينت صورها وأذكارها. وأصحاب الكتب الستة التي هي أصح
كتب الحديث إنما ألفوا كتبهم لمعرفة الدين منها، فجامع البخاري هو مذهبه الذي
يعتمد عليه في فهم الدين وقد قال بعض العلماء: إن سنن أبي داود كافية فيما
يشترط للاجتهاد من علم السنة.
ويوجد كتاب يسمى (منتقى الأخبار) جمع فيه صاحبه أحاديث الأحكام من
الكتب الستة ومن مسند الإمام أحمد، وقد شرحه الإمام الشوكاني وأورد في شرحه خلاف جمع أئمة المسلمين المشهورين من الصحابة والتابعين مع بيان الترجيح في
الاستدلال.
واسم الشرح (نيل الأوطار) ، فهو أجمع كتاب في أحكام الدين من السنة
وهدي سلف الأمة لمن هو أهل للفهم. والأحاديث الشريفة أسهل فهمًا من كلام
العلماء، ولكن لا يستغنى عن هدايتهم في معرفة ما يحتج به وما يختلف مع غيره.
***
(س3) ومنه: هل يفيد حفظ القرآن في اكتساب ملكة البلاغة كغيره من الكلام البليغ؟
(ج) لعل سبب السؤال توهم أن القرآن في علو أسلوبه وإعجازه لا يمكن
أن يحتذي بلاغته مَنْ لا يطمع أن يبلغ غايته. والصواب أن لحفظ القرآن مع
فهمه أبلغ التأثير في ارتقاء ملكة البلاغة العربية، ولقد ارتقى به كلام العرب
أنفسهم فكان كلامهم في المنظوم والمنثور بعد الإسلام أعلى منه قبله. فالقرآن أنفع
الكلام في ارتقاء اللغة كما أنه أنفعه في إصلاح الأرواح وتهذيب النفوس وإكمال
العقول. ولا يستلزم نفعه في ارتقاء البلاغة إمكان التسلق إلى درجته، والجري إلى
غايته، وإن لنا لعودة إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
***
(س4) ع. ا. ر. في الإسكندرية: لا يخفى ما رسخ في أوهام العوام من
مسألة كرامات الأولياء والخروج في فهم حقيقتها عن الحد الذي نبهت عليه شريعتنا
السمحة، وبثغرنا واحد من هؤلاء الدجالين الجهلاء المنتحلين لأنفسهم على الغيب،
وله سبحة طويلة ينظر فيها عند سؤاله من العامة فيخبرهم بما يحصل لهم في غد
من الحوادث فيصدقونه، والمنتبهون منهم إن سألوا بعض العلماء عن ذلك جوزوه
بدعوى أنه كرامة من غير توضيح ما هي الكرامة ومن يكرم الله بها من عباده
المتقين غير الدجالين الذين هم عن صلاتهم ساهون.
ولما كان للإسلام والمسلمين صوًى و (منار) كمنار الطريق الذي
يتخذونه نبراسًا لهم ودليلاً إن هم تاهوا في بيداء الحيرة وقبور الضلال، فقد أرسلت
بهذه السور إليكم ملتمسًا من بحر علمكم وواسع حكمتكم أن توضحوا بعدد المنار المقبل
(وإن كان سبق توضيح) : هل ورد في الشرع ما يجيز لأحد من الناس التهجم على
غيب علم الله الذي ستره عن عباده وإخبار الناس بما يصيبهم من خير أو شر؟ فإن
ضل أو استشعر من الخبط والخلط قال: (السبحة تايهة السبحة تايهة) فالمرجو أن
توضحوا لنا ذلك بمناركم المنير وتزيلوا هذه الغيوم المتلبدة على العقول.
(ج) لم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ما يدل على جواز
هذه الدعوى لأحد، بل ورد ما يدل على أن الأنبياء عليهم السلام قد أمروا بأن
يتنصلوا منها: {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50) ، {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ
أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ، {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ
إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل: 65) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
واستشكل بعضهم نفي علم الغيب عن النبي مع أنه أخبر بكثير منه، وأحسن جواب
أجابوه ما تؤيده الآيات كقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إليَّ} (الأنعام:
50) فنقول فيما أخبر به من ذلك كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) وأما المنفي فهو ما يتعلق بمصالح
الدنيا وما يكون من أمر الناس فيها واستشهدوا له بالحديث الصحيح الوارد في
تأبير النخل وقوله لما خرج خلاف ما قاله عليه السلام: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)
وفي رواية لمسلم: (إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإن كان من أمر
دينكم فإلي) فالحديث يدل على أن الله تعالى لم يعط الأنبياء معرفة الغيب في
مصالح الناس في دنياهم، وإنما جعل علم الدنيا كسبيًّا يعلمه الناس بالبحث والجد.
أما هؤلاء الدجالون من أصحاب السبح ونحوهم فلا تزال بضاعتهم تروج ما
دام هذا الجهل فاشيًا في جميع طبقات الأمة، ولا ينفع في الجاهل المُقَلِد الأعمى دليل
ولا برهان. وراجعوا مقالات (كرامات الأولياء) في ص401 و417 و 449
و481 و 545 من مجلد المنار الثاني.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكتاب الموعود بنشره
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المخلوقين
وعلى آله وأصحابه أنصار دينه الأولين وعلى أتباعهم في مسالكهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأقول: لما كان عهدنا هذا - وهو أوائل القرن الرابع عشر- عهدًا
عم فيه الخلل والضعف جميعَ المسلمين، وكان من سنة الله في خلقه أن جعل لكل
شيء سببًا، فلا بد لهذا الخلل الطارئ والضعف النازل من أسباب ظاهرية غير سر
القدر الخفي عن البشر فدعت الحمية بعض أفاضل العلماء والسراة والكتاب
السياسيين للبحث عن أسباب ذلك والتنقيب عن أفضل الوسائل للنهضة
الإسلامية فأخذوا ينشرون آراءهم في ذلك في بعض الجرائد الإسلامية
الهندية والمصرية والسورية والتاتارية. وقد اطلعت على كثير من مقالاتهم
الغراء في هذا الموضوع الجليل واتبعت أثرهم بنشر ما لاح لي في جل هذا المشكل العظيم.
ثم بدا لي أن أسعى في توسيع هذا المسعى بعقد جمعية من سراة الإسلام في
مهد الهداية - أعني مكة المكرمة - فعقدت العزيمة متوكلاً على الله تعالى على إجراء
سياحة مباركة بزيارة أمهات البلاد العربية؛ لاستطلاع الأفكار وتهيئة الاجتماع في
موسم أداء فريضة الحج، فخرجت من وطني أحد مدن الفرات في أوائل محرم سنة
ست عشرة وثلاثمائة وألف وكلي ألسن تنشد:
دراك فمن يدنف لعمري يدفن
…
وما نافع نوح متى قيل قد فني
دراك فإن الدين قد زال عزه
…
وكان عزيزًا قبل ذا غير هين
فكان له أهل يوفون حقه
…
بهدي وتلقين وحسن تلقن
إلام وأهل العلم أحلاس بيتهم
…
أما صار فرضًا رأب هذا التوهن
هلموا إلى (أم القرى) وتآمروا
…
ولا تقنطوا من روح رب مهيمن
فإن الذي شادته الأسياف قبلكم
…
هو اليوم لا يحتاج إلا الألسن
فسلكت الطريق البحري من إسكندرون معرجًا على بيروت فدمشق ثم يافا
فالقدس، ثم جئت الإسكندرية فمصر، ثم من السويس يممت الحديدة فصنعاء فصُعُدًا
إلى البصرة ومنها رجعت إلى حائل إلى المدينة على مُنوِّرِها أفضل الصلاة والسلام
إلى مكة المكرمة، فوصلتها في أوائل ذي القعدة، فوجدت أكثر الذين أجابوا الدعوة
ممن كنت اجتمعت بهم من أفاضل البلاد الكبيرة المذكورة وسراتها قد سبقوني
بموافاتها، وما انتصف الشهر - وهو موعد التلاقي - إلا وقدم الباقون ما عدا
الأديب البيروتي الذي حرمنا القدر ملاقاته لسبب أنبأنا عنه فعذرناه.
وفي أثناء انتظارنا منتصف الشهر سعيت مع بعض الإخوان الوافدين في
تحري وتخيّر اثني عشر عضوًا أيضًا لأجل إضافتهم للجمعية، وهم من مراكش
وتونس والقسطنطينية وبغجة سراي وتفليس وتبريز وكابل وكشغر وقازان
وبكين ودهلي وكلكتة وليفربول.
وإذ كنت المباشر لهذه الدعوة بادرت واتخذت لي دارًا في حي متطرف في مكة
لعقد الاجتماعات بصورة خفية، ومع ذلك استأجرتها باسم بواب داغستاني روسي؛
لتكون مصونة من التعرض رعاية للاحتياط. وقد انعقد من منتصف الشهر إلى سلخه
اثنا عشر اجتماعًا غير اجتماع الوداع جرت فيها مذكرات مهمة صار ضبطها
وتسجيلها بكمال الدقة كما سيعلم من مطالعة هذا السجل المتضمن كيفية الاجتماعات مع جميع المفاوضات والمقررات غير ما آثرت الجمعية كتمه كما سيشار إليه.
***
الاجتماع الأول
يوم الإثنين الخامس عشر ذي القعدة سنة 1316
في اليوم المذكور انتظمت الجمعية للمرة الأولى وأعضاؤها اثنان وعشرون
فاضلاً كلهم يحسنون العربية، فبعد أن عَرَّفت كلاًّ منهم بباقي إخوانه وتعارفوا
بالوجوه بادرتهم بتوزيع اثنين وعشرين قائمة - كن مهيئات قبلاً - مطبوعات بمطبعة
(الجلاتين) التي استعرتها من تاجر هندي في مكة لأجل طبع هذه القائمة وأمثالها
من أوراق الجمعية، محررًا في نسخ القائمة مختصر تراجم إخوان الجمعية جميعهم
ببيان الاسم والنسبة والمذهب والمزية المخصوصة، وموضحًا فيها أيضًا مفتاح
الرموز التي يحتاج الإخوان لاستعمالها.
وأعضاء الجمعية هم: السيد الفراتي، الفاضل الشامي، البليغ القدسي، الكامل
الإسكندري، العلامة المصري، المحدث اليمني، الحافظ البصري، العالم النجدي،
المحقق المدني، الأستاذ المكي، الحكيم التونسي، المرشد الفاسي، السعيد
الإنكليزي، الموالي الرومي، الرياضي الكردي،المجتهد التبريزي، العارف
التاتاري، الخطيب الفازاني، المدقق التركي، الفقيه الأفغاني، الصاحب الهندي
الشيخ السندي، الإمام الصيني. ثم بادرت الإخوان جاهرًا بكلمة شعار الأخوة التي
يعرفونها مني من قبل وهي (لا نعبد إلا الله) مسترعيًا سمعهم وخاطبتهم بقولي:
من كان منكم يعاهد الله تعالى على الجهاد في إعلاء كلمة الله والأمانة لإخوان
التوحيد أعضاء هذه الجمعية المباركة فليجهر بقوله: (عليّ عهد الله بالجهاد والأمانة) ،
ومن كان لا يطيق العهد فليعتزلنا وما جال نظري فيهم إلا وسارع الذي عن يميني إلى
عقد العهد ثم الذي يليه ثم الذي يليه إلى آخرهم.
ثم التمست منهم أن ينتخبوا أحدهم رئيسًا يدير الجمعية ومذكراتها وآخر كاتبًا
يضبط المفاوضات ويسجل المقررات، فأجابني العلامة المصري أن معرفة الإخوان
بعضهم بعضًا جديدة العهد وأنك أشملهم معرفة بهم، فأنا أترك الانتخاب لك. وما أتم
رأيه هذا إلا وأجمع الكل على ذلك، فحينئذ أعلنت لهم أن أتخير للرئاسة الأستاذ المكي
وأتخير نفسي لخدمة الكتابة تفاديًا من إتعاب غيري في الخدمة التي يمكنني
القيام بها، واستأذنت الأفاضل الأعجام منهم بنوع من التصرف في تحرير بعض
ألفاظهم، فأظهر الجميع الرضا والتصويب. وصرح الأستاذ بالقبول مع الامتنان
من حسن ظنهم به واستولى على الجمعية السكون ترقبًا لما يقول الرئيس.
أما (الأستاذ الرئيس) فقطَّب جبينه مستجمعًا فكره ثم استهل فقال: الحمد لله
عالم السر والنجوى، الذي جمعنا على توحيده ودينه وأمرنا بالتعاون على التقوى،
والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ،
وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله انتصارًا لدينه لم يشغلهم عن إعزاز
الدين شاغل، وكان أمرهم شورى بينهم يسعى بذمتهم أدناهم، اللهم {إِيَّاكَ نَعْبُد} (الفاتحة: 5) لا نخضع لغيرك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) لا ننتظر نفعًا
من سواك ولا نخشى ضرًّا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) الذي لا
خفيات ولا ثنيات فيه {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) بنعمة الهداية
إلى التوحيد {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) بما أشركوا {وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 7) بعد ما اهتدوا، سبحانك ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من
أمرنا رشدًا.
وبعد: فيا أيها السادة الكرام، كل منا يعلم سبب اجتماعنا هذا من مفاوضات
أخينا السيد الفراتي الذي أجبنا دعوته لهذه الجمعية شاكرين سعيه. ولذلك لا أرى
لزومًا للبحث عن السبب، كما لا أجد حاجة لتنشيط همتكم، وتأجيج نار حميتكم؛
لأننا كلنا في هذا العناء سواء، ولكن أذكركم بخلاصة تاريخ هذه المسألة فأقول: إن
مسألة تقهقر الإسلام بنت ألف عام أو أكثر، وما حفظ عز هذا الدين المبين كل هذه
القرون المتوالية إلا متانة الأساس مع انحطاط سائر الأمم عن المسلمين في كل
الشؤون إلى أن فاقتنا بعض الأمم في العلوم والفنون المنورة للمدارك فَرَقَت قوتها
فنشرت نفوذها على أكثر البلاد والعباد من المسلمين وغيرهم ولم يزل المسلمون في
سُباتهم إلى أن استولى عليهم الشلل على كل أطراف جسم الممالك الإسلامية وقرب
الخطر من القلب - أعني: (جزيرة العرب) - فتنبهت أفكار من رزقهم الله بصيرة
بالعواقب، ووفقهم لنيل أجر المجاهدين فهبوا ينشرون المواعظ والتذكرة والمباحث
المنذرة، فكثر المتنبهون، وتحركت الخواطر لكنها حركة متحيرة الوُجهة ضائعة القوة، فعسى الله أن يرشد جمعيتنا للتوصل إلى توحيد هذه الوجهة وجمع هذه القوة.
وبتدقيق النظر في النشريات والمقالات التي جادت بها أقلام الفضلاء في هذا
الموضوع نرى كلها دائرة على أربعة مقاصد ابتدائية:
(الأول) منها بيان الحالة الحاضرة ووصف أعراضها بوصف عام وصفًا
بديعًا يفيد التأثر ويدعو إلى التدبر، على أن ذلك لا يلبث إلا عشية أو ضحاها.
(والثاني) بيان أن سبب الخلل النازل هو الجهل الشامل، بيان إجمال
وتلميح، مع أن المقام يقتضي عدم الاحتشام من التفصيل والتشريح.
(والثالث) إنذار الأمة بسوء العاقبة المحدقة بها إنذارًا هائلاً تطير منه
النفوس مع أن الحال الواقع لا تغني فيه النذر.
(والرابع) توجيه اللوم والتبعة على الأمراء أو العلماء أو على الأمة كلها
لتقاعدهم عن استعمال قوة الاتفاق على النهضة، مع أن الاتفاق وهم متشاكسون
متعذر لا متعسر.
فهذه المقاصد القولية قد استوفت حقها من أنواع بدائع الأساليب، وآنَ أوان
استثمارها وذلك لا يتم إذا لم يشخص المرض أو الأمراض المشتركة تشخيصًا دقيقًا
سياسيًا، فالبحث أولاً عن مراكز المرض ثم جراثيمه ليتعين بعد ذلك الدواء الشافي
الأسهل وجودًا والأضمن نتيجة، وبالتنقيب ثانيًا عن تدبير إدخاله في جسم الأمة
بحكمة تصرع العناد والوهم، وتتغلب على مقاومة أعضاء الذوق والشم.
ثم أظنكم أيها السادة تستحسنون الاكتتام الذي اختاره أكثر هؤلاء الكتاب
الأفاضل؛ لأن لذلك محسنات بل موجبات شتَّى ينبغي أن تستعملها جمعيتنا أيضًا
فلنحرص كلنا على الاكتتام؛ لأن من موجباته التزام كل منا المشرب العمري، أعني
القول الصريح في النصيحة للدين بدون رياء ولا استحياء ولا مراعاة ذوق عامة أو
عتاة؛ لأن حياء المريض مهلكة، وكتم الأمر المستفيض سخافة، والدين النصيحة،
ولا حياء في الدين.
ومن موجبات الاكتتام أيضًا أن كل ما يتخالج الفكر في موضوع مسألتنا
معروف عند الأكثرين ولكن بصورة مشتتة، والناس فيه على أقسام: فصنف العلماء
إما جبناء يهابون الخوض فيه، وإما مراءون مداجون يأبون أن تخالف أقوالهم
أحوالهم، وباقي الناس يأنفون أن يذعنوا لنصح ناصح صادع غير معصوم، ولذلك
كان القول من غير معرفة القائل أرعى للسمع وأقرب للقبول والقناعة وأدعى
للإجماع.
ثم أظنكم أيها الإخوان تستصوبون أن نترك جانبًا اختلاف المذاهب التي نحن
متبعوها تقليدًا، فلا نعرف مآخذ كثير من أحكامها، وأن نعتمد ما نعلم من
الكتاب وصحيح السنة وثابت الإجماع؛ وذلك لكيلا نتفرق في الآراء، وليكون ما
نقرره مقبولاً عند جميع أهل القبلة؛ إذ إن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يرد، ولا
تستنكف الأمة أن ترجع إليه وتجتمع عليه في بعض أمهات المسائل؛ لأن في ذلك
التساوي بين المذاهب، فلا يثقل على أحد نبذ تقليد أحد الأئمة في مسألة تخالف
المتبادر من نص الكتاب العزيز أو تباين صريح السنة الثابتة في مدونات الصدر
الأول.
ولا يكبرن هذا الرأي على البعض منكم فما هو برأي حادث بين المسلمين. بل
جميع أهل جزيرة العرب ما عدا أخلاط الحرمين على هذا الرأي، ولا يخفى عليكم
أن أهل الجزيرة وهم من سبعة ملايين إلى ثمانية كلهم من المسلمين السلفيين عقيدة
الحنابلة ، أو الزيدية أو الشافعية مذهبًا وقد نشأ الدين فيهم وبلغتهم فهم أهله وحملته
وحافظوه وحماته وقلما خالطوا الأغيار أو وجدت فيهم دواعي الغرباء والتفنن في
الدين لأجل الفخار ولا يعظمن على البعض منكم أيضًا أنه كيف يسوغ لأحدنا أن
يثق بفهمه وتحقيقه مع بعد العهد ويترك تقليد من يعرف أنه أفضل منه وأجمع عملاً
وأكثر إحاطة واحتياطًا. ولا أظن أن فينا من ليس في نفسه إشكال عظيم لوجود
اختلافات واضطرابات مهمة بينهم ما بين نفي وإثبات حتى في كثير من الأمور
التعبدية الفعلية التي مأخذها المشاهدة المتكررة ألوف مرات مثل: هل كان النبي
عليه الصلاة والسلام ثم جمهور أصحابه عليهم الرضوان يصلون وِتر العشاء
بتسليمة أم بتسليمتين، وهل كانوا يقنتون في الوتر أم في الصبح، وهل كان
المؤتمون يقرؤون أم ينصتون، وهل كانوا يرفعون الأيدي عند تكبيرات الانتقال أم
لا يرفعون، وهل يعقدون الأيدي أم يرسلونها. فإذا كان الأئمة والعلماء الأقدمون
هذا شأنهم في التباين والتخالف في تحقيق كيفية عبادة فعلية هي عماد الدين، أعنى:
الصلاة التي هي من المشهودات المتكررات وتؤدى بالجموع والجماهير؛ فكيف
يكون شأنهم في الأحكام التي تستند إلى قول أو فعل أو سكوت صدر عن النبي
صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات فقط ورواها فرد أو أفراد.
فعلى هذا لا أرى من مانع أن نترك النقول المتخالفة خصوصًا منها المتعلق
بالبعض القليل من الأصول ونجتمع على الرجوع إلى ما نفهمه من النصوص أو ما
يتحقق عندنا حسب طاقتنا أنه جرى عليه السلف، وبذلك تتحد وجهتنا ويتسنى لنا
الاتفاق على تقرير ما نقرره، ويقوى الأمل في قبول الأمة منا ما ندعوها إليه.
وإني أسلفكم أيها السادات أنه يبقى أن لا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم
أسباب الضعف والفتور كيلا نيأس من رَوح الله، وأن لا نتوهم الإصابة في قول من
قال: إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال: إذا نزل
الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع. فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان
واليابان وغيرها كلها أمم أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم
الأدبية للحياة السياسية.
بل ليس بيننا ولا سيما عرب الجزيرة منا وبين أعظم الأمم الحية المعاصرة
فرق سوى في العلم والأخلاق العالية على أن مدة حضانة العلم عشرون عامًا فقط
ومدة حضانة الأخلاق أربعون سنة، فعلينا أن نثق بعناية الله الذي لا يعبد سواه
وبهذا الدين المبين الذي نشر لواء عزه على العالمين ولم يزل بالنظر لوضعه الإلهي
دينًا حنيفًا متينًا محكمًا مكينًا لا يفصله ولا يقاربه دين من الأديان في الحكمة والنظام
ورسوخ البنيان، ثم أيقنوا أيها الإخوان أن الأمر ميسور، وأن ظواهر الأسباب
ودلائل الأقدار مبشرة بأن الزمان قد استدار ونشأ في الإسلام أنجاب أحرار وحكماء
أبرار يعد واحدهم بألف وجمعهم بألف ألف، فقوة جمعية منتظمة من هؤلاء النبلاء
كافية لأن تخرق طبل حزب الشيطان وتسترعي، سمع الأمة مهما كانت في رقاد
عميق وتقودها إلى النشاط، وإن كانت في فتور مستحكم عتيق.
على أن محض انعقاد جمعيتنا هذه لمن أعظم تلك المبشرات خصوصًا إذا وفقها
الله تعالى بعنايته لتأسيس جمعية قانونية منتظمة؛ لأن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها
الثبات على مشروعها عمرًا طويلا يفي بما لا يفي به عمر الواحد الفرد وتأتي بأعمالها
كلها بعزائم صادقة لا يفسدها التردد، وهذا هو سر ما ورد في الأثر من أن يد الله مع
الجماعة، وهذا هو سر كون الجمعيات تقوم بالعظائم وتأتي بالعجائب وهذا هو
سر نشأة الأمم الغربية وهذا سر النجاح في كل الأعمال المهمة لأن سنة الله في خلقه
أن كل أمر كليًّا كان أو جزئيًّا لا يحصل إلا بقوة وزمان متناسبين مع أهميته، وأن كل
أمر يحصل بقوة قليلة في زمان طويل يكون أحكم وأرسخ وأطول عمرًا مما إذا حصل
بمزيد قوة في زمان قصير، وكلنا يعلم أن مسألتنا أعظم من أن يفي بها عمر إنسان
ينقطع أو مسلك سلطان لا يطرد شأو قوة عصبية حضرية حمقاء تفور سريعًا وتغور
سريعًا.
وإذا تفكرنا أن مبدأ أعظم الأعداد اثنان؛ فكذلك مبدأ الجمعيات شخصان ثم
تتزايد حتى تكمل وتتقلب أشكالاً حتى ترسخ، فعلى هذا لا يبعد أن يتم لنا انعقاد
جمعية منتظمة تنعقد الآمال بناصيتها. ولا ينبغي الاسترسال مع الوهم إلى أن
الجمعيات معرضة في شرقنا لتيار السياسة فلا تعيش طويلاً، ولا سيما إذا كانت
فقيرة ولم تكن كغالب (الأكاديميات) ؛ أي: المجامع العلمية تحت حماية رسمية بل
الأليق بالحكمة والحزم الإقدام والثبات وتوقع الخير إلى أن يتم المطلوب.
هذا وإن شرقنا مشرق العظائم، والزمان أبو العجائب وما على الله بعزيز أن
يتم لنا انتظام جمعية يكون لها صوت جهوري إذا نادى مؤذنها: (حي على الفلاح) في
رأس الرجاء يبلغ أقصى الصين صداه.
ومن المأمول أن تكون الحكومات الإسلامية راضية بهذه الجمعية حلمية لها
ولو بعد حين؛ لأن وظيفتها الأساسية أن تنهض بالأمة من وهدة الجهالة، وترقى
بها في معارج المعارف متباعدة عن كل صبغة سياسية، وسنعود لبحث الجمعية
فيما بعد.
ولنبدأ الآن بتشخيص داء الفتور المستولي على الأمة تشخيصًا سياسيًّا مدققًا
فأرجوكم أيها السادات أن يعمل كل منكم فكره الثاقب فيما هو سبب الفتور ليبين
رأيه وما يفتح الله به عليه في اجتماعاتنا التي نواليها كل يوم ما عدا يومي الثلاثاء
والجمعة من بعد طلوع الشمس بقراءة ضبط المذكرات التي جرت في الاجتماع
السابق ثم نشرع بالمفاوضات، وإني أختم اجتماعنا اليوم ببرنامج المسائل الأساسية
التي تدور عليها جمعيتنا وينبغي لكل منا أن يفتكر فيها ويدرسها وهي عشر مسائل:
(1)
موضع الداء (2) أعراض الداء (3) جراثيم الداء (4) ما هو
الداء (5) ما هي وسائل استعمال الداء (6) ما هي الإسلامية (7) كيف يكون
التدين بالإسلامية (8) ما هو الشرك الخفي (9) كيف تقاوم البدع (10) تحرير
قانون لتأسيس جمعية تعليمية.
ولما انتهى خطاب الرئيس وانتهت الجلسة قال السيد الفراتي: أرى أن يقيد
كل منا هذه المسائل العشر في جانب من ورقة التراجم لأجل التذكرة ففعلوا. ثم
دعاهم إلى الطعام فأجابوا، وكان حديثهم على المائدة استقصاء أخبار المهتدين في
ليفربول من السعيد الإنكليزي. وبعد أن طعموا عرض عليهم الشاي والقهوة
والشراب المثلوج فاختار كلٌّ ما أَلِفَ وأحب، ثم انصرفوا أزواجًا وفُرادى مجيبين
دعوة خير الدعاة؛ إذ كان قد دنا وقت الصلاة.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
علم تلامذة العرب وبلاغتهم
جاء في أمالي أبي علي القالي ما نصه: حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا
أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانذاني، عن التوزي، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان لرجل من مقاول حمير ابنان يقال لأحدهما عمرو،
وللآخر ربيعة، وكانا قد برعا في الأدب والعلم، فلما بلغ الشيخ أقصى عمره
وأشفى على الفناء دعاهما ليبلو عقولهما ويعرف مبلغ علمهما، فلما حضرا قال
لعمرو وكان الأكبر: أخبرني عن أحب الرجال إليك، وأكرمهم عليك. قال: السيد
الجواد، القليل الأنداد، الماجد الأجداد، الراسي الأوتاد، الرفيع العماد، العظيم
الرماد، الكثير الحُساد، الباسل الذواد، الصادر الوراد. قال: ما تقول يا
ربيعة؟ قال: ما أحسن ما وصف، وغيره أحب إلي منه. قال: ومن يكون بعد
هذا؟ قال: السيد الكريم، المناع للحريم، المفضال الحليم، القمقام [1] الزعيم، الذي
إن هم فعل، وإن سئل بذل.
قال: أخبرني يا عمرو بأبغض الرجال إليك. قال: البرم اللئيم [2] ،
المستخذي الخصيم [3] ، المبطان النهيم [4] العيي البكيم [5] ، الذي إن سئل منع،
وإن هُدِّد خضع، وإن طلب جشع [6] . قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره
أبغض إلي منه. قال: ومن هو؟ قال: النموم الكذوب، الفاحش الغضوب،
الرغيب عند الطعام [7]، الجبان عند الصِّدام. قال: أخبرني يا عمرو، أي النساء
أحب إليك؟ قال: الهركولة اللفاء [8] ، الممكورة الجيداء [9] ، التي يشفي السقيم
كلامها، ويبرئ الوصب إلمامها [10] ، التي إن أحسنت إليها شكرت، وإن أسأت إليها
صبرت، وإن استعتبتها أعتبت [11] ، الفاترة الطرف، الطفلة الكف [12] ، العميمة
الردف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعت فأحسن وغيرها أحب إلي منها. قال:
ومن هي؟ قال: الفتانة العينين، الأسيلة الخدين، الكاعب الثديين، الرداح
الوركين [13] ، الشاكرة للقليل، المساعدة للحليل، الرخيمة الكلام، الجماء العظام،
الكريمة الأخوال والأعمام، العذبة اللثام.
قال: فأي النساء أبغض إليك يا عمرو؟ قال: القتاتة [14] الكذوب، الظاهرة
العيوب، الطوافة الهبوب [15] ، العبسة القطوب، السبابة الوثوب، التي إن ائتمنها
زوجها خانته، وإن لان لها أهانته، وإن أرضاها أغضبته، وإن أطاعها عصته.
قال: ما تقول ياربيعة؟ قال: بئس والله المرأة ذكر وغيرها أبغض إلي منها.
قال: وأيتهن التي هي أبغض إليك من هذه؟ قال: السليطة اللسان، المؤذية
للجيران، الناطقة بالبهتان، التي وجهها عابس، وزوجها من خيرها آيس، التي
إن عاتبها زوجها وترته [16]، وإن ناطقها انتهرته. قال ربيعة: وغيرها أبغض إلي
منها. قال ومن هي؟ قال: التي شقي صاحبها، وخزي خاطبها، وافتتضح أقاربها،
قال: ومن صاحبها، قال صاحبها مثلها في خصالها كلها، لا تصلح إلا له ولا يصلح
إلا لها، قال: فصفه لى؟ قال: الكفور غير الشكور، اللئيم الفخور، العبوس الكالح،
الحرون الجامح، الراضي بالهوان، المختال المنان، الضعيف الجنان، الجعد
البنان [17] ، القؤول غير الفعول، الملوم غير الوصول، الذي لا يرع عن المحارم،
ولا يرتدع عن المظالم. قال: فأخبرني يا عمرو أي الخيل أحب إليك عند
الشدائد، إذا التقى الأقران للتجالد؟ قال: الجواد الأنيق، الحصان العتيق، الكفيت
العريق [18] ، الشديد الوثيق، الذي يفوت إذا هرب، ويلحق إذا طلب. قال: نعم
الفرس والله نعت فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أحب إليَّ منه. قال: وما هو؟ قال
الحصان الجواد، السَّلس القياد، الشهم الفؤاد، الصبور إذا سرى، السابق إذا
جرى، قال فأي الخيل أبغض إليك يا عمرو؟ قال: الجموح الطموح، النكول
الأنوح [19] الصؤول الضعيف، الملول العفيف، الذي إن جاريته سبقته، وإن
طالبته أدركته، قال: فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إليَّ منه، قال وما هو؟
قال: البطيء الثقيل، الحرون الكليل، الذي إن ضربته قمص [20] ، وإن دنوت منه
شمس، يدركه الطالب، ويقطع بالصاحب، قال ربيعة: وغيره أبغض إليّ منه،
قال: وما هو؟ قال: الجموح الخبوط [21] ، الركوض الخروط [22] ، الشموس
الضروط، القطوف [23] في الصعود والهبوط، الذي لا يسلم الصاحب - لعلها
بالصاحب -. ولا ينجو من الطالب.
قال: أخبرني يا عمرو أي العيش ألذ؟ قال: عيش في كرامة، ونعيم
وسلامة، واغتباق مدامة. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: ونعم العيش والله وصف
وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: عيش في أمن ونعيم، وعز وغنى عميم،
في ظل نجاح، وسلامة مساء وصباح، وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال:
غنى دائم، وعيش سالم، وظل ناعم.
قال: فما أحب السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الصقيل الحسام، الناثر
المجذام، الماضي السطام [24] ، المرهف الصمصام، الذي إذا هززته لم يكب،
وإذا ضربت به لم ينب.
قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم السيف نعت وغيره أحب إلي منه. قال:
وما هو؟ قال: الحسام القاطع، ذو الرونق اللامع، الظمآن الجائع، الذي إذا
هززته هتك، وإذا ضربت به بتك، قال: فما أبغض السيوف إليك يا عمرو؟ قال:
القطار الكهام الذي إذا ضُرِبَ به لم يقطع، وإن ذبح به لم ينخع [27] . قال: ما تقول
يا ربيعة؟ قال: بئس السيف والله ذكر، وغيره أبغض إلي منه. قال: وما هو؟
قال: الطبع الددان [28] ، المعضد [29] المهان.
قال: فأخبرني يا عمرو أي الرماح أحب إليك عند المراس، إذا اعتكر
البأس، واشتجر الدعاس [30] ؟ قال: أحبها إلي المارن المثقف [31] ، المقوم
المخطف [32] ، الذي إذا هززته لم يتعطف، وإذا طعنت به لم يتقصف. قال: ما
تقول يا ربيعة؟ قال: نعم الرمح نعت وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال:
الذابل العسال، المقوم النسال [33] ، الماضي إذا هززته، النافذ إذا همزته [34] .
قال: فأخبرني يا عمرو عن أبغض الرماح إليك. قال: الأعصل [35] عند الطعان،
المثلم السنان، الذي إذا هززته انعطف، وإذا طعنت به انقصف. قال: ما تقول يا
ربيعة؟ قال: بئس الرمح ذكر وغيره أبغض إلي منه. قال: ما هو؟ قال:
الضعيف المهز. اليابس الكز [36] . الذي إذا أكرهته انحطم، وإذا طعنت به انقصم.
قال: انصرفا، الآن طاب لي الموت اهـ.
فهل نجد في تلامذتنا أو شيوخنا من يلم بمثل هذه المعاني أو يحسن مثل هذا
الوصف؟ ! أنى ولا لغة لنا ولا علم إلا بلغة حية مرتقية فليرجع القارئ إلى ما جاء
في نبذة التفسير من الحكم بأننا أجهل الجاهلية الأولى.
_________
(1)
القمقام من أسماء البحر ويطلق عليه السيد الكريم، ويطلق أيضا على الدنيء أخذًا من قمقم فلان ما على المائدة كتقممه واقتمه إذا تتبعه وأتى عليه.
(2)
البرم بالتحريك ثمر العضاة، وهو لا ينتفع به فيطلقونه على الرجل لا خير فيه، والبرم أيضا من لا يدخل مع القوم في الميسر وهو جدير بالاستعمال.
(3)
استخذى - خضع وذل وأقبح بالمستخذي كثير الخصومة.
(4)
المبطان كبير البطن من كثرة الأكل، والنهيم والنهم: الشره.
(5)
العيي العاجز عن الإفصاح بالقول، والبكيم: الأبكم.
(6)
الجشع: الحرص على الأكل وغيره.
(7)
في الأساس: رجل رغيب واسع الجوف أكول.
(8)
الهركولة: الحسنة الجسم والخلق والمشية والجارية الضخمة الأوراك، واللفاء مؤنث الألف وهى الضخمة الفخذين.
(9)
الممكورة - المطوية الخلق والجيداء الطويلة الحسنة.
(10)
الوصب المريض، والإلمام: الزيارة.
(11)
أي: إن استرضيتها أرضت.
(12)
الطفلة: الناعمة.
(13)
الثقيلتهما.
(14)
النمامة.
(15)
يصفها بكثرة الطواف كالريح ويحسن من المرأة أن تقر في بيتها.
(16)
الوتر: الثأر، ووتره: أصابه بالوتر أو ظلم فيه، ووتره عمله أو حقه نقصه إياه.
(17)
البخيل المنقبض الكف.
(18)
الكفيت: السريع، والعريق: ما له عرق في الكرم أو اللؤم.
(19)
نكل عن الشيء نكص ولم يقدم أو هم بالشيء وهاب إتيانه، وأنح أنحًا وأنوحًا زجر من ثقل مرض أو بهر نفس والأنوح أيضًا البخيل ويتنحنح إذا سئل.
(20)
قمص الفرس ونحوه استن أي: رفع يديه معًا ووضعهما معًا.
(21)
الذي يخبط الأرض برجله.
(22)
الجموح يجتذب الرسن من ممسكه.
(23)
الذي يسيء السير ويبطئ.
(24)
الحد.
(25)
قطع.
(26)
الفطار ما فيه تشقق فلا يقطع، والكهام: الكليل لا يمضي.
(27)
نخع الذبيحة: جاز بالذبح إلى النخاع وذلك أقصاه.
(28)
الطبع: الصدىء، والددان: الكهام.
(29)
الذي يهان بعضد الشجر، أي: قطعه.
(30)
الدعاس: الطعان، واشتجروا: اختلفوا، وتشاجروا بالرماح تطاعنوا.
(31)
اللين المقوم.
(32)
لا أعرف وصفًا للرمح من حرف خطف، ومن معانيه المناسبة استلبه بسرعة.
(33)
السريع والعسال: اللين المتحرك.
(34)
دفعته طاعنًا.
(35)
الأعوج الملتوي.
(36)
اليابس.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهدايا والتقاريظ
(سلم الارتقاء لمعرفة دروس الأشياء)
مجموعة كتب علمية في التاريخ الطبيعي وحفظ الصحة والتدبير المنزلي
والأِشياء (الطبيعيات) . شرع في تأليفها الفاضل محمد أفندي أمين من موظفي
الإدارة بنظارة الأشغال العمومية. وقد صدر الجزء الأول منها وفيه 36 درسًا في
مباحث التاريخ الطبيعي العمومية مع شيء من التفصيل في الإنسان.
والغرض الأول من هذا الكتاب تسهيل فهم هذه العلوم على تلامذة المدارس
فإنهم يتعلمونها باللغة الأجنبية في أثناء تعلم اللغة فيعسر عليهم فهمها
كما يعسر عليهم فهم الكتب العربية المؤلفة فيها؛ لأنها لم توضع للمبتدئين. وقد تكرم
المؤلف الفاضل بإهداء باكورة عمله إلينا. ورغب إلينا أن ندله على غلطه ليصلحه
في طبعة ثانية ولكن بعض الأصدقاء أخذ الكتاب منا ليطلع عليه ويعيده بعد يوم أو
يومين فعرض ما أوجب تأخير إرجاعه زمنًا طويلاً، ولذلك لم نتمكن من مطالعته،
ولكننا تصفحنا قليلاً منه فألفيناه في غاية السهولة، فنتمنى أن يقبل عليه مع التلامذة
نبهاء المجاورين في الأزهر الذين سألونا عن كتاب في هذا الفن يسهل عليهم
فهمه من غير أستاذ. وأسلوب كتابة الكتاب أسلوب الجرائد السيارة وفيها من
الانتقاد ما نود أن نذاكر المؤلف فيه مشافهة. وفي آخر الكتاب عدة رسوم،
وثمنه خمسة قروش فقط.
***
(الإحاطة في أخبار غرناطة)
تاريخ عظيم لأديب الأندلس الشهير الوزير محمد لسان الدين بن الخطيب.
عثرت عليه شركة طبع الكتب العربية فاختارت طبعه، وقد صدر الجزء الأول منه
مطبوعًا طبعًا متقنًا. وهو مبتدأ بكلام عام في تلك العاصمة كوضعها، وفتحها،
ونزول العرب الشاميين بها، وما آل إليه حال سكانها الأولين معهم، وحال ما يتصل
بها وينسب إلى كُورتها، ووصف سورها، ونحو ذلك، وسائر الكتاب في تراجم من
نشأ فيها من رجال السيف والقلم من الرجال والنساء.
ولا شك أن كل قارئ بالعربية يتشوق إلى معرفة تاريخ الأندلس التي كانت
أكبر فخر للعرب في العلم والمدنية وكل محب للأدب يتلذذ بقراءة كتابة لسان الدين
بن الخطيب البليغة وكفى بهذين تشويقًا وترغيبًا، ولكننا أسفنا لما رأيناه في الكتاب
من الغلط والتحريف كأكثر المطبوعات الجديدة، وإنما نبهنا على هذا؛ لأن هذه
الشركة أقدر على ضبط كتبها من الأفراد الذين يتجرون بطبع الكتب. ولعل عذرها
في هذا الجزء أنه لم يوجد منه إلا نسخة واحدة، وثمنه 15 قرشًا وصفحاته 375.
***
(الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف
بين المسلمين في آرائهم)
تصنيف العلامة عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي الأندلسي الشهير،
واسم الكتاب يدل على سمو موضوعه، وهو على اختصاره قد جمع من الفوائد في
بابه ما لم تجمعه الأسفار الكبيرة، ولا شك أنه من أنفع الكتب التي ألفها سلفنا. وقد
طبعه واعتنى بضبطه وتصحيحه وشرح أبياته وتفسير غريبه أخونا الفاضل الشيخ
أحمد عمر المحمصاني الأزهري بمراجعة إمام اللغة في هذا العصر الأستاذ الشيخ
محمد محمود الشنقيطي الشهير. فنحث جميع الذين يعولون على رأينا في اختيار
الكتب النافعة على قراءته، ثمنه ثلاثة قروش ولو لم أظفر به إلا بثلاثة دنانير لبذلتها
مرتاحًا وسنعود إلى الاقتباس منه بعد.
***
(مرشد مأموري الضبطية القضائية. ضبط الوقائع الجنائية)
لقد أحسن صنعًا الفاضل محمد بك صبري عضو النيابة بمحكمة الزقازيق
بتأليف رسالة سهلة العبارة في كيفية ضبط الوقائع الجنائية ليستعين بها العمد
ومأمورو الضبطية فيما يعهد إليهم من هذا العمل العظيم الذي يتعلق بحفظ الدماء
والأعراض، وأكثر العمد والمأمورين جهلاء بالطرق التي تتبع في ذلك، ويصعب
عليهم الاستمداد من كتب القوانين، فسهل لهم هذا المؤلف ذلك، فعسى أن يقبلوا عليه
ويحيطوا بما فيه. وهو مطبوع طبعًا حسنًا بمطبعة الشعب، ويطلب من مكتبة
الشعب ومن حضرة مؤلفه
***
(المصور)
جريدة أسبوعية سياسية أدبية مصورة بالألوان أنشأها حديثًا أحد الكتاب
المشهورين بآثارهم القلمية في المؤلفات العصرية والجرائد اليومية الفاضل
خليل أفندي زينية. وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا أميريًّا في السنة، وهي
جديرة بالرواج.
***
(الرأي العام)
جريدة مشهورة في مصر يمتاز صاحبها البارع إسكندر أفندي شلهوب بأسلوب
في كتابة الجرائد يجذب القارئ إلى المطالعة فإذا أخذ جريدته قرأها كلها بلذة، وإن
كان من لا يقرأون من الجرائد إلا ما يحبون موضوعه. وقد كانت احتجبت ثم أسفرت
فعسى أن تظل مسفرة دائمًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حرية الجرائد والشعور العام بالفضيلة في مصر
أكبر النعم التي مُنحتَها مصر في عهد الاحتلال الأمن العام وحرية المطبوعات.
ومن العجائب أن المتمتعين بهذه الحرية يشكون في هذه الأيام منها، ويطلب
بعضهم أن تقيد الحكومة هذه الحرية المطلقة كمن يطلب احتكار الهواء الذي يحيا به
الناس ليعطوا منه بقدر ما يراه المحتكر لازمًا لحياتهم. هذا ما يظهر بادئ الرأي
من الذين يردون على طالبي التقييد، على أنه لم يطلبه أحد ونحن نذكر الحقيقة مع
بيان السبب.
كثرت الجرائد الأسبوعية في مصر، وأكثر أهلها ليسوا من أهل الصحافة فلا
استعداد عندهم لجعلها حاجة من حاجات البلاد؛ ولذلك أشرعوا لهم طريقًا جديدًا
وهو التنديد أو التعريض بمساوئ الأشخاص وقد وجدوا في هذا الطريق لماجًا
وعوارض يرضون بها قومهم، فمن الناس من يفتدي عرضه منهم بقليل من المال أو
العروض، ومنهم من يغريهم بذم عدو له بأجر معلوم، وقد أطمعتهم معاملة هؤلاء
السفهاء بالعظماء والفضلاء فلم يسلم منهم صنف من الأصناف، وقد أكثروا في هاتين
السنتين من الخوض (بالمعية السنية
…
) والإرجاف بأعمالها.
هذا كله، والرأي العام ساكت عنهم، فما الذي أقام عليهم القيامة في هذه الأيام
وأفاض التبرم والشكوى على جميع الألسنة والأقلام؟ الجواب عن هذا السؤال
يعرفه كل من يقرأ الجرائد المصرية وإنما نذكره صريحًا؛ لأنه من المبشرات
بدخولنا في الحياة الاجتماعية بعد أن كانت حياتنا فردية أحادية، وليكون مسجلاً في
تاريخ مصر الأدبي.
وهو أن جريدة (حمارة منيتي) الهزلية التي تكتب غالبًا باللغة العامية المصرية
قد طعنت من عهد قريب بفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية فهاج
الرأي العام في مصر للطعن بهذا الإمام العظيم، وذهب الأستاذ الأكبر شيخ الجامع
الأزهر بنفسه إلى محكمة مصر الكبرى وطلب من رئيس النيابة فيها محاكمة صاحب
جريدة الحمار بعد أن طلب مقابلة النائب العمومي فقيل له أنه مسافر. وتقدمت
المحاضر العمومية من العلماء وطلاب الأزهر ومن الأهالي في القاهرة ومن بعض
البلاد في خارجها يطلبون محاكمته. وانطلقت أقلام الكتاب والشعراء في ذم صاحب
الحمارة وأجمعت الجرائد على ذمه وانبرى بعض الكتاب لإحصاء عيوب جريدته منذ
أنشئت، وذكروا منها إهانة القرآن وإفساد الآداب وإفساد اللغة والطعن بالسلطان
والأمير وغير ذلك. وقد قال بعض الأدباء: إن بعض هذه الذنوب أكبر عقوبة من
الطعن بمفتي الديار المصرية فلماذا سكت الناس عنها إلى الآن؟
وقد ذكر صاحب الحمارة نفسه هذا المعنى في مقدمة العدد الأول من السنة
الخامسة ونصه: (قل لي بحقك ما الذي جناه صاحب الحمارة اليوم حتى قامت
عليه هذه القيامة، وما هي بالله تلك الخطيئة التي ارتكبها واستحق عليها الملام،
واتجهت إليه أسنة الأقلام. وانصبت عليه كل هذه السهام؟ فلم يبق في أرض
مصر جريدة ولا مجلة ولا قصيدة إلا وقد حملت عليه، بعد أن كانت في العادة
تحمل منه لا عليه، ولا يبقى شاعر، ولا كاتب واعر، إلا وحرك في ذكراه شفتيه،
كأنهم يريدون ابتلاعه بكل ما لديه) إلخ.
هذا هو السبب في تألم الرأي العام من إطلاق المطبوعات، وما من شيء في
هذا الوجود إلا وله سيئات وحسنات، وهو دليل على أن الأمة المصرية قد دب
فيها الشعور بشئون الحياة الاجتماعية، وصار الرأي العام يعرف لذي الفضل فضله.
ولذا طالب بعض أعضاء الجمعية العمومية الرغبة إلى الحكومة بالاتفاق مع وكلاء
الدول لوضع قانون عام عادل لفوضوية المطبوعات ليأمن كل إنسان على عرضه.
واستحسن رأيه هذا بعض أصحاب الصحف الكبيرة وعده الآخرون وسيلة لتقييد
حرية الصحافة والمطبوعات فأنكروه، ولا يزالون يتناقشون فيه وهم متفقون على أن
حرية الطباعة والصحافة حسناتها أكثر من سيئاتها بأضعاف مضاعفة.
وإذا رجعنا إلى مثلنا الأول نقول: إن هذه الحرية كالهواء الذي هو شرط
للحياة فإذا مر في بعض الأيام على جيفة فحمل إلينا ريحها أو هب شديدًا فأثار الغبار
في وجوهنا فلا شك أننا نبادر إلى ذمه والشكوى منه، ولكننا لا نطلب انقطاعه وإنما
نطلب منع الجيف من طريقه وإزالة الغبار برش الأرض بالماء فلا خلاف إذن بين
الناس في وجوب بقاء هذه الحرية.
أما إزالة هذه الجيف فأمثل طرقها تصدي النيابة العمومية لمحاكمة أصحابها،
فيجب عليها أن تحاكم كل من ينتهك حرمات الآداب وينال من أعراض الناس، وإن
لم يطلب ذلك ممن يطعن فيه. إن لم تقم النيابة بهذه الخدمة للأمة فيجب على الناس
أن يحاكموا من يطعن فيهم إلا عثرة الكريم فإنها تقال شرعًا وأدبًا. والامتناع عن
محاكمتهم توهمًا أن ذلك يعلي شأنهم أو يخفض شأن من يحاكمهم خطأ كبير؛ فإن
الحدود والعقوبات لم تسن في الشرائع الإلهية ولم توضع في القوانين البشرية إلا
لهؤلاء المعتدين {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21) .
وأما صاحب الحمارة فقد حاكمته النيابة العمومية فحكم عليه بالسجن مدة ثلاثة
أشهر وبالنفقات، ولم يدخل المفتي في الدعوى مطلقًا ولا طلب حقًّا مدنيًّا. وكان في
الجرائد التي حملت على صاحب الحمارة جريدة طلبت من المفتي العفو عنه، ولو كان
هو الذي طلب ذلك تائبًا لأجيب طلبه قطعًا فإن الأستاذ سليم القلب واسع الحلم لا
يحب أن ينتقم لنفسه، على أن ما كتبته الحمارة كان أكبر خدمة له؛ لأنه أظهر له
مكانة عالية في نفوس خواص الأمة وعوامها لا يدانيه فيها أحد مع العلم القطعي
لكل أحد بأنه بريء من سبب نهاق الحمارة براءة عائشة من إفك المنافقين،
وصاحب الحمارة نفسه يعتقد ذلك أيضًا، لأن هذيانه لم يكن مبنيًّا إلا على الاستنباط
من صورة اخترعها بعض المفسدين.
أما العبرة التي نقصدها من إيراد هذه المسألة فهي إزالة شبهة علقت في أفهام
أكثر الناس فكانت أضر اعتقاد تقلدوه، وهي أن من يشتغل بالعلوم الحقيقية ويتخلق
بالأخلاق الفاضلة والسجايا الكاملة كالصدق والمروءة وعلو الهمة وبذل المعروف
والسعي في خير الناس ومنفعتهم لا ينجح في عمله ولا يعرف له أحد فضله
ويستدلون بأمثال يضربونها قد اشتبه عليهم حقها بباطلها، وهذا المثل الحق الذي
يدحضها وهو أن الشيخ محمد عبده سلك هذه الطريقة فحل من نفوس الأمة محلاً
عليًّا ونال فيها اسمًا سميًّا ما زاحمه فيه عالم ولا أمير، ولا شاركه فيه غني ولا
وزير، والعاقبة كما قال الله تعالى للمتقين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
(الدرس 33)
عصمة الأنبياء عليهم السلام
(المسألة 86) الدليل العقليّ على عصمة الأنبياء:
يؤخذ الدليل على عصمة الأنبياء من وجه الحاجة إليهم في الكمال الإنساني،
ومن وظائفهم المنطبقة على وجه الحاجة إليهم. وقد تقدم الكلام في ذلك، ومنه أن
الوظائف خمس وهي نوعان: نوع في بيان الاعتقادات التي ترقي العقل وتعتقه
من رق العبودية لمظاهر الطبيعة التي خلق مستعدًّا لتسخيرها والتصرف فيها فجنت
عليه الوثنية فسخرته لعبادة كل مظهر منها لا يعرف علته ولا يحيط بحكمته.
ونوع في تهذيب النفس وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة. ولا
يرتقي النوع الإنساني إلا بمجموع ما يندرج في هذين النوعين من التكاليف وبارتقائه
يكون خليفة الله تعالى في الأرض، وتلك غاية سعادته في هذه الحياة الدنيا التي
تستتبع سعادته في الحياة الآخرة الباقية التي جعلت هذه الحياة مزرعة لها كما ورد.
وبديهي أن العمدة في بيان النوع الأول صدق الخبر بحيث لا يحوم حوله
الشك والريب. والعمدة في الثاني صدق الخبر كذلك مع حسن الأسوة وصحة القدوة
بالمخبر؛ لأنه تربية وإنما التربية بالقدوة، والتعليم القولي مساعد للتأسي وأثره. ولا
تحصل الثقة القطعية بصدق الخبر إلا إذا كان المخبر معصومًا من الكذب والخطأ
في التبليغ. ولا تتم القدوة وتحسن الأسوة إلا إذا كان الإمام المقتدى به بريئًا من
النقائص، منتهيًا عما ينهى عنه، مؤتمرًا بما يأمر به، متخلقًا بما يرغب في التخلق
به إذًا لا تتم حكمة الله تعالى في إرسال الرسل إلا إذا كانوا بحيث ذكرنا من الصدق
والنزاهة.
والحكمة واجبة لله تعالى فوجب أن يكون الأنبياء المبلغون عنه سبحانه صادقين
معصومين {لَاّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) ولا يلزم من هذا إيجاب شيء على الله تعالى فيكون حجة للمعتزلة وإنما هو إيجاب الحكمة له كإيجاب العلم والقدرة.
***
(م 87) الدليل النقلي على عصمتهم:
إن الله تعالى ما أرسل المرسلين إلا ليُتبعوا ويُقتدى بهم، وقد أمر باتباعهم
كقوله في خاتمهم عليه السلام: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) فلو كانوا يخالفون ما يجيئون
به من الهدى لكان الله تعالى آمرًا بالشيء ناهيًا عنه في آنٍ واحد، وهو مُحال على
الله تعالى، ولو فعلوا الفاحشة لكان الله آمرًا بها من حيث أمر باتباعهم أمر تشريع
وأمر بالتأسي بالعظماء أمر تكوين بأن أودع ذلك في فطرة الإنسان. وقد قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: 28) على أن الطاعة هي ما أمر الله
تعالى به فلو فُرض أن المرسلين يرتكبون المعاصي لكان معنى ذلك أن الطاعات
هي من المعاصي كما قال السنوسي في الكبرى وذلك تناقض لا يقول به عاقل.
وهذا الاستدلال لا يصح على أصول أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويجب أن
يكون أصلاً يرجع إليه جميع الأدلة التي يثبت هو بها فيكون ناقضًا لنفسه.
***
(م 88) الشبه على العصمة:
يقولون: ورد في القرآن إثبات الذنوب للأنبياء والمرسلين إجمالاً
وتفصيلاً.
أما الإجمال فكقوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: 2) وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (غافر: 55) وقوله عز وجل:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (النصر: 3) وأما التفصيل فكقوله: {وَعَصَى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121) وكقصة داود وسليمان عليهما السلام وكقصة إخوة
يوسف، ونحن نجيب عن ذلك بالتفصيل.
***
(م 89) مغفرة الذنوب:
علمنا مما تقدم أن معنى عصمة الأنبياء في النوع الثاني (العملي) هو
نزاهتهم وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها لئلا
يكونوا قدوة سيئة مفسدين للأخلاق والآداب وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات
الشرائع. وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الضعف البشري من
التقصير في القيام بحقوق الله تعالى على الوجه الأكمل، ومن الخطأ في الاجتهاد
ببعض المصالح والمنافع ودرء المضار. كلا إن الإنسان خلق ضعيفًا، وما أوتي
من العلم إلا قليلاً، ولا يمكن أن يحيط بوجوده المصالح والمنافع ودرء المضار
والمفاسد إلا من هو بكل شيء عليم، ومن ليس له هذه الإحاطة قد يخطئ في اجتهاده
فيعمل العمل وهو يعتقد أنه الصواب والخير فيجيء بخلاف ذلك - ومثل هذا يسمى
ذنبًا من الكامل والمقرّب؛ لأن الإنسان مستعد لإدراك الصواب في تلك المسألة التي
أخطأ فيها، فإذا وقع عَرَضًا من الأنبياء يعاتبهم الله تعالى عليه ويغفره لهم ويأمرهم
بتبليغ ذلك لأمتهم؛ ليعرفوا الفرق بين الرب والعبد فلا يفضي بهم الغلوّ بتعظيم
أنبيائهم والإعجاب بفضائلهم ونزاهتهم إلى عبادتهم مع الله تعالى-.
ومن أمثلة ذلك اجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم في استمالة رؤساء
قومه وأغنيائهم إلى الإيمان الذي أدّاه إلى الإعراض عن ابن أمّ مكتوم لما جاءه يسأله
أن يعلمّه مما علّمه الله وكان يدعو صناديد قريش، فإنه كره أن يشتغل به عنهم لئلا
ينفّرهم، ولا يخفى أن أولئك النفر من كبارهم هم الذين كانوا يحادّون النبي ويناصبونه
ولو آمنوا أولاً لتبعهم سائر قريش، فهذا هو وجه اجتهاده صلى الله عليه وسلم في
العناية بهم والإعراض عن الأعمى إذ جاء يشغله عنهم.
فعاتبه الله تعالى على ذلك وردعه عنه بالقول الشديد كقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (عبس: 3) ، فلَْتُتْلَ الآيات في أول سورة (عبس) وذلك أن سنة
الله تعالى مضت في أن الأديان تقوم بالدعوة والاقتناع والرؤساء والمترفون أبعد
الناس عن معرفة الحق وعن الخضوع له إذا عرفوه، وقد جاء في هذا المعنى آيات.
ومن الأمثلة أيضًا عتابه في مسألة زيد وزينب (فلتراجع في ص 630
و714 من المجلد الثالث) . ومنها: إذنه صلى الله تعالى عليه وسلم للذين استأذنوه
في التخلّف يوم الخروج إلى تبوك، وقد عاتبه الله تعالى على ذلك ألطف عتاب بقوله:
{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: 43) الآية. فكان الأولى أن لا يأذن
ليعلم الكاذب المنافق، من المؤمن الصادق، ومنها مسألة أخذ الفداء من أسرى بدر
اجتهد صلى الله عليه وسلم وشاور فاختلف أصحابه فوافق رأيه رأي أبي بكر بأخذ
الفداء فعاتبه الله تعالى عتابًا شديدًا حتى بكى وبكى أبو بكر، وذلك قوله تعالى: {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} (الأنفال: 67-68) قال البيضاوي في تفسيره: والآية دليل على أن
الأنبياء يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يُقَرُّون عليه.
فهذه هي ذنوب الأنبياء وهم يستغفرون منها، وهي مغفورة لهم بفضل الله
تعالى لأنهم لم يريدوا إلا الخير والنفع وليس فيها قدوة سيئة، وإنما فيها فائدة
معرفة الناس أن النبي وإنْ جلّ قدره وعلت نفسه فهو بشر مثلهم ميزه الله تعالى
بالوحي وجعله إمامًا في الخير، وأنه على هذه الخصوصية يعاتب وينسب إليه
الذنب والتقصير، ويمنحه الله المغفرة دلالة على أن له أن يغفر له وله أن يعاقبه {قُلْ
فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ
جَمِيعا} (المائدة: 17) وعلى أنَّ توقع نزول العقوبة بأصحاب المعاصي التي تنتهك
فيها الشرائع ويخالف الدين عمدًا - وهو ما لا يقع من الأنبياء - أقرب، وأنهم أولى
بالخوف منه وأجدر بالتوبة. وأن الكمال المطلق لله تعالى وحده فلا رب غيره ولا
معبود سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة والأجوبة
(س1) من الشيخ مقبل عبد الرحمن الذكير في البحرين: ما قول منار
الإسلام وهداة الأنام سادتنا العلماء الأعلام في الأوراق المسماة بالأنواط التي وضعها
بعض الدول للتعامل عوضًا عن بعض المسكوكات الفضية كالروبيات مثلاً والتزمت
تلك الدولة التعويض عنها بالأثمان المقدرة بها؟ هل تجري مجرى العروض كما هو
واقع من كثير من التجار يتعاطونها بيعًا وشراءً، رواجًا وبخسًا، أو تجري مجرى
العين؟ فإن قلتم بالثاني فهل تقولون به من كل وجه وفي كل باب، أو من بعض
الوجوه وفي بعض الأبواب؟ فإن قلتم بالأول فيقتضي أن لا يجوز صرف تلك
الأوراق بباقي أيّة سكة من السكك الفضية إلا وزنًا بوزن، يدًا بيد وهو في الظاهر
بعيد كما أن ذلك يقتضي أن لا يجوز الزيادة على الثمن الذي قدرت به بشيء
ما، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذه المسألة، ويتفرع عنها في باب الزكاة وباب
الصرف، وباب الدين والحوالة والبيع نقدًا ونسيئة، وما تقولون في الحديث
الوارد: (إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم) .
وبالضرورة أن الورق المذكور بل وجنس الورق كيف كان ليس هو من جنس
أحد النقود الذهبية والفضية والنحاسية لا لغةً - وهي معتبرةٌ هنا في الشرع - ولا
عقلاً وشرعًا ولا عرفًا عامًّا. والمأمول أن يكون التقرير في غاية الوضوح والبيان
والمتانة على منهج القواعد الشرعية والأدلة المرعية والطرق الأصولية بالسيرة
المرضية؛ لأن المسألة بعموم البلوى والضرورة العامة صار لها في البحث أهمية.
ولكم الأجر والثواب من الملك الوهاب.
(ج) الورق ليس مالاً ربويًّا في عرف فقهائنا؛ ولذلك أفتى بعض
علماء الشافعية بأن هذه الأوراق المالية المسماة بالأنواط (مفرد: نوط) لا يجري فيها
الربا، ويفتي غيرهم من علماء المذاهب بذلك؛ لأن الربا مخصوص بالنقدين
والأقوات عند الشافعية ومن وافقهم.
والعلة عند الحنفية الكيل مع الجنس أو الوزن، فكل مكيل أو موزون إذا بيع
بجنسه متفاضلاً فهو ربًا محرم ولكن هذا لا يأتي في هذه الأنواط وإن ورقتين منها
يتساويان في الوزن، وقيمة إحداهما مائة روبية والأخرى ألف روبية مثلاً. فلا
بد من النظر في مقاصد الشريعة وحكمها وجعلها مدار معرفة الأحكام، وإننا نأخذ
بكلام الفقهاء ما لم يخل بهذه المقاصد، فإذا أخل بشيء منها كمنع الزكاة أو إباحة
الربا الضار الذي حرمه الله تعالى رحمة بالناس فإننا لا نقبله؛ إذ لا يصح أن يكون
الاجتهاد مبطلاً للنص بل لا يصح مع النص، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ
والمباني. ولا يخفى على أحد أن هذه الأوراق المالية لا قيمة لها من حيث هي
ورق، وإنما هي سند بمبلغ من النقود فقيمتها بحسب الرقم الذي يعين المبلغ. ولا
يضر المتدين الأخذ بقول أي فقيه ما لم يمنع الزكاة أو يستبِح الربا.
فأما الزكاة فلا تضيع إذا اعتبرنا هذه الأنواط من عروض التجارة؛ لأنها
تقوم في كل حول بقيمتها وتؤدى زكاتها. وأما الربا فالذي أجمع المسلمون على
تحريمه منه هو ربا النسيئة، والجماهير من الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريم ربا
الفضل أي: الزيادة في أحد العوضين مع التقابض فيما هو ربوي كالنقود
والتمر والحنطة ونحوهما، وفيه خلاف بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم
أجمعين كابن عمر وابن عباس وأسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم، وكسعيد
بن المسيب وعروة بن الزبير من التابعين. واستدلوا بما أخرجه البخاري ومسلم
وغيرهما من حديث أسامة (إنما الربا في النسيئة) في رواية مسلم عن ابن
عباس (لا ربا فيما كان يدًا بيد) .
ومثل ذلك الأحاديث الصحيحة في جواز الصرف يدًا بيد. والعله أو الحكمة في
منع الربا لا محل لتفصيلها في هذا الجواب. وإنما نقول بالإجمال: إن من أكل شيئًا
من مال أخيه بغير مقابل من عين أو عمل فقد أكله بالباطل، وإن أخذ زيادة عما
يعطي الإنسان لأخيه بمجرد التأخير في الوفاء من دواعي قسوة القلوب ومحو
عاطفة التراحم وقطع طريق الصنيعة وعمل المعروف فلا يليق بالدين أن يبيحه.
ومن بليغ الكلام ، ما قاله الأستاذ الإمام ، وهو: إن الربا عبارة عن استغلالك
حاجة أخيك. وإن مشروعية التعامل بالنقود خاصة تفضي إلى الجناية على التجارة -
وسنفصل القول في الربا ومضاره في فرصة أخرى.
أما حقيقة الربا فليس بعد بيان الله تعالى فيها بيان قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) فعلمنا أن
الربا قسيم البيع ومقابله، فالجامع بينهما المعاوضة، والفارق هو أن أحد العوضين في
البيع وهو الثمن يقابل جميع العوض الآخر وهو المثمن بخلاف الربا فإن أحد
المتعاوضين فيه يأخذ جزءًا من مال الآخر بدون عوض ولا مقابل، وهذه التفرقة
معتبرة في التسمية إلى الآن، فالربا لا يسمى بيعًا، ولكن من البيع ما تدخله شبهة
الربا بحسب ما توسع فيه الفقهاء من أحكامه وجزئياته، ولكن من فهم حكمة الشارع
المبنية على درء المفسدة وجلب المنفعة لمجموع الأمة يقدر أن يميز بتفقهه في الدين
بين المعاوضة والمقصود بها البيع، ونفع أخيه بمثل ما ينتفع به منه بالمعروف،
وبين انتظار الفرص لضرورته واستغلال حاجته وأكل ماله بالباطل.
وإنني أنصح للأخ السائل وغيره من تجار المسلمين الذين يهمهم أمر الدين أن
يلاحظوا هذا الفقه الحقيقي ويجعلوه الأصل في معاملتهم؛ لأنه هو روح الدين وسره
الذي يتعلق بإصلاح القلب وتزكية النفس، فإذا أفتاهم علماء الرسوم بفتوى تؤدي إلى
منع الزكاة بحيلة من الحيل ، أو أكل أموال الناس بلا بدل ، أو تجعل البيع ربًا؛
فليحتاطوا لأنفسهم فإن الله تعالى ما تعبدنا بظواهر الألفاظ ومدلولات كلم الناس وما
يضعون من الأقيسة والقواعد التي لا تصلح بها القلوب.
وقد قال عليه السلام لوابصة (استفت نفسك البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت
إليه النفس والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه
أحمد والبخاري في التاريخ وغيرهم. ومن فقه ما ذكرنا لا يحار سواء عليه أعد تلك
الأنواط عروضًا أم عدها نقودًا، والذي يميل إليه القلب هو اعتبارها نقودًا.
وأما الحديث الذي ذكره فهو جزء من حديث صحيح أخرجه أحمد وابن أبي
شيبة في مسنديهما ومسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننهما عن عبادة
ابن الصامت ولفظه: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير
بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه
الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيد) ومعلوم أنه إذا اختلف الصنف بطل الربا
ولا معنى لبيع شيء بمثله من صنفه إلا إذا كان من جيد ورديء، وفي هذه الحالة
أجاز النبي صلى الله عليه وسلم المعاوضة بالتفاضل بشرط أن يكون بيعًا يقدّر بالثمن
كما في حديث البخاري وغيره.
وليس هذا من الحيلة التي تضيع بها حكمة التشريع، وإنما هي سدٌ لذريعة الربا
وبيانٌ لقاعدة نافعة وهي أن الربا ينتفي بقصد البيع فكل ما تحقق فيه معنى البيع
فليس من الربا في شيء. هذا ما يتسع له المجال الآن وسنعود إلى الموضوع ونطلب
من العلماء الكرام بيان رأيهم لننشره والله الموفق للصواب.
***
(س2) السيد أحمد منصور الباز ببني صالح: يعتري بعض الناس حال
تسميها العامة (جذبًا) فيغيب عن وجوده حتى يصير كالمجنون لا يدري ما يقول
ويفعل ويظهر هؤلاء بمظاهر مختلفة تعتقدهم العامة بل والعلماء، وكتب الصوفية
طافحة بأخبارهم وأخبار القطب والأنجاب والأوتاد والأبدال، ويسمون مجموع
هؤلاء الدائرة القطبية ورئيسها القطب الملقب بالغوث، ويقال: إنه يتلقى الأوامر
الإلهية وتفيض منه إلى الدائرة القطبية بترتيب معروف عندهم فما رأيكم فيهم؟
نرجو الإفادة بالمنار ليظهر الحق للناس كافة.
(ج) أما الحال التي يسمونها جذبًا فهي فن من فنون الجنون، وإنما
يسمى صاحبها مجذوبًا أو بُهلولاً إذا كان سبب الحال هو الإفراط في الرياضة
والمجاهدة النفسية والانقطاع للذكر والعبادة إكرامًا لمن كان كذلك أن يساوى بسائر
المجانين والاعتقاد بهؤلاء البهاليل قديم العهد عندنا، وسببه أن منهم من كان يظهر
على لسانه بعض الحكم؛ لأن من يذهب عقله لا يعدم كل ما كان أدركه وعَلمه،
وإنما يعدم النظام بين الأفكار والمعلومات، ومنهم من ظهر على يديه بعض الغرائب
أو أسنده إليهم بعض المغرورين الذين يضيفون الأشياء الغريبة إلى ما يقارنها من
الحوادث، وإن لم يكن علة لها، كأن يؤذي إنسان آخر فيصاب عقيب ذلك بمصيبة
تقع بوقوع سببها.
وأما القطب وسائر الموظفين الروحانيين في دائرة تصرفه، الذين يسمونهم
رجال الغيب كالإمامين والأوتاد والأبدال، فلم يرد فيه شيء صحيح في السنة إلا ما
رووه في الأبدال وهي روايات ضعيفة مضطربة في بعضها يعدون ثلاثين وبعضها
أربعين إلخ. ومن عجيب تمحلهم في الاستدلال على القطب ما نقله ابن حجر عن
بعض المحدثين من حمله خبر أبي نعيم في الحِلْية على القطب وهو: (إن لله في
كل بدعة كِيد بها الإسلام وأهله وليًّا صالحًا يذب عنه) إلخ.
وأعجب من هذا أن المسلمين في الغالب لا يحفلون بمن يدافع عن البدع بالفعل
ولا يسمونه وليًّا ولا قطبًا بل ربما عادوه، ولكن يسهل عليهم أن يقولوا: إن الذي
يدافع عن البدع رجل خفي من رجال الغيب يدافع في الغيب عن الإسلام فلا يُعرف
ولا تُعرف مدافعته.
والحاصل أن الشرع لا يطالب أحدًا بتصديق ما لم يقُم عليه دليل، ولا يكلفه
بالإيمان بهؤلاء الرجال المجهولين، بل يحرُم عليه أن يقول ما لا يعلم. وهذا لا يمنع
أن تصطلح طائفة الصوفية على ألقاب تطلقها على أهل الخصوصيات، وليس لهم أن
يفضوا بذلك إلى من لا يعرف تلك الخصوصية لئلا يكلفوه بالقول بغير علم. وللمبحث
ذيول سنفصلها تفصيلاً.
***
(س3) محمد أفندي مأمون كرشه بسنديون (غربية) : هل حكم الحاكم
يرفع الخلاف أم لا، ومَن هذا الحاكم، فإن كان رافعًا فهل يبقى كذلك بعد موته؟ فإنه
إذا لم يبق يلزم أن لا يعمل بحكم قاضي مصر السابق إلا إذا أجازه من يخلفه.
(ج) حكم الحاكم الشرعي الذي رأيتم شروطه في الجزء الماضي يرفع
الخلاف في المسائل الاجتهادية فيجب تنفيذه ولو عزل أو مات. ونعني بالمسائل
الاجتهادية ما لا يخالف الكتاب والسنة والإجماع. قال في الجامع الصغير: (وما
اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاضٍ آخر يرى غير ذلك أمضاه)
وعلَّله الكمال في الفتح بأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، ويرجح هذا باتصال القضاء
به فلا ينقض بما دونه.
***
(س4) ومنه: هل يصح ما يقول الوعاظ وعصابة الزار من أن
الجنّ مسلطون على الإنسان؟ وهل الزار على هذا منكر يجب النهي عنه شرعًا أم
لا؟ وإن أجبتم بالسلب، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا
الحمام المقاصيص فإنها تلهي الجن عن صبيانكم) ؟ ومعنى ما ورد في الآثار أن
الجن يجري في جسم الإنسان مجرى الدم في الشرايين؟
(ج) لفظ الجن يطلق على المخلوقات الخفية، ويقال: إن منها ما هو مادي
وما هو روحاني، وأجدر بهذه الأحياء التي يسمونها الميكروبات أن تكون من المادي
وهي سبب الأمراض والأوبئة كالطاعون والهيضة، وعليها يحمل ما ورد من أن
الطاعون من وَخْز الجن، فهي مسلطة على الإنسان وهو مسلط عليها بالعلم
الصحيح، وإن كان لما يقدر على كثير منها بعد تمكنها في الجسم.
وأما الروحانية فلا سُلطة لها على الأجساد وإنما هي منشأ الوساوس والخواطر
القبيحة الضارّة فمن العلماء من يقول: إنها القوى المعنوية الباعثة على الشر،
والأكثرون على أنها عالم مستقل من جنس عالم الروح يلابس أفراده النفوس المستعدة
للشر بسوء التربية فيقوي فيها الرغبة فيه. وعليه يحمل حديث الصحيحين وغيرهما
(إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع) .
وهو كناية عن تمكنه من الوسوسة. وأما الزار فهو منكر قبيح يجب إبطاله
بالفعل، فإن لم يستطع فبالقول، وأما حديث اتخاذ الحمام المقاصيص فغير صحيح،
ويطلق لفظ الشياطين والجن على الأشرار من الناس وعلى الحيّات والثعابين. وعلى
الأول يحمل الحديث لو ثبت وكذا غيره مما ورد في النهي عن خروج الصبيان في
الليل؛ لأنه وقت انتشار الشياطين. وإننا نرى شياطين الأزبكية وجنها ينتشرون إذا
جنّ الليل، ونحث من يهمهم تربية أولادهم على منعهم من الخروج لئلا يفسدهم
هؤلاء الشياطين.
***
(س5) ومنه: هل التسبيح في قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِه} (الإسراء: 44) بلسان المقال أم بلسان الحال أم المقصود أنه سبب في
تسبيح الرائي؟
(ج) المتبادر الذي اختاره المفسرون أن التسبيح من غير العقلاء هو بلسان
الحال أي: إن إمكان الأشياء وحدوثها يدلان على تنزيه واجب الوجود. وذهب بعض
إلى أنه بلسان المقال؛ لقوله: {وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44)
وأجابوا عنه بأن الخطاب للمشركين لا للناس أجمعين؛ أي: لا تفقهون هذه الدلالة
لإهمالكم النظر الصحيح والاستدلال العقلي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القرآن والكتب المنزلة
المقالة الثالثة للقس إسحاق طيلر نشرت في جريدة سنت جمس في 13 مايو
سنة 1888.
إن المسلمين قد آمنوا بالمسيح وصدقوا ببعثته وهو عندهم معدود في أولي
العزم من رسل الله إلى خلقه، فهم عندنا مسيحيون نصلي لهم كل يوم أحد ونسأل الله
أن يهديهم وإيانا إلى الحق وطريق مستقيم. ولا منافاة عندهم بين الاعتقاد بالقرآن
وأنه كلام الله وتنزَّل من عنده، وبين الاعتقاد بسائر الكتب السماوية وأنها بوحي من
الله وإلهام. بل يعرف من صريح كلام المسلمين أن اعتقادهم بالكتب السماوية إنما
ساقه إلى قلوبهم الاعتقاد بالقرآن فهم في اعتقادهم بها يمتثلون أمرًا من أوامره
ويجيبون داعيًا من دواعيه.
وليس في المسلمين من يدعي أن القرآن يكذب شيئًا من الكتب الإلهية ولا في
إمكان مسلم أن يدعي ذلك لما يشهد به القرآن من أنه مهيمن على ما بين يديه من
الكتب يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، مصدق لما معهم من
الحق ولكنهم يقولون: إن القرآن خاتمة الكتب كما أن من أنزل عليه (صلى الله
عليه وسلم) خاتمة الأنبياء، ولا تجد مسلمًا إلا يؤمن بالتوارة والإنجيل
والزبور والقرآن، فكل صحيفة من الكتب الإلهية ثبت مجيئها على لسان
نبي صادق فهي عندهم كلام الله المنزه عن الخطأ والزلل.
وما صح نقله عن عيسى عليه السلام فهو حق واجب التصديق، وكثيرًا ما
ينقلون عن نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يعرف بالأحاديث شيئًا من أقوال المسيح
ونصائحه وأحواله ويتلقونها بالقبول، غير أن المعروف عندنا أن الأناجيل
المشهورة لم تكتب في عهد المسيح عليه السلام كما كتب القرآن وغيره في حياة
من أنزل عليهم فلا لوم على المسلم إذا طلب التثبت وتحقيق السند لصحة النقل كما يكون منه ذلك فيما ينقل عن نبيه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث؛ لأن
عروض الشبهة في نقل من تتحقق عصمته أمر طبيعي عند عموم البشر.
قال لي أحد المسلمين: إن القرآن يشهد بأن الله آتى عيسى عليه السلام
الإنجيل وجعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، وما نعرفه من الكتب الإلهية نقبله
ولا ننكر شيئًا منه، وإن كنا قد نختلف معكم على تفسيره وتأويله كما اختلف
الأحزاب من بينكم، وعندنا أن كتابنا ونبينا صلى الله عليه وسلم قد بشر بهما أنبياؤكم
من قبل كما تقولون في المسيح عليه السلام، وكما لم يقدح إنكار اليهود لعيسى في
اصطفاء الله له، كذلك لا يقدح إنكار من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في
ثبوت رسالته. ولقد أرشدني الاطلاع على مذاهب المسلمين في التعليم إلى أنهم لا
يأبون عن تسليم أدلة القسيس بالي التي ذكرها في كتابه المسمى ببراهين دين المسيح
غير أنهم يتخذون منها حججًا قويمة على أن دينهم الحق. مثلاً يعدون من بينات
دينهم ودلائل أنه الحق سرعة انتشاره واستقبال القلوب وجهته على نحو غريب
عزيز المثال، ثم إشراق نور الإخلاص من عقائد الذين اتبعوه كما يرشد إليه أدنى
الفكر في أحوالهم من ثباتهم معه في ساعات العسرة ومصابرتهم في الشدائد وازدياد
إيمانهم في الضراء واستقامة سيرهم في السراء.
ومنها ما بهر العقول من الحكم الدقيقة التي برعت بها أحكام القرآن وانطباقها
مجيب على ما تقتضيه طبيعة الإنسان الدينية (أي: من حيث يطلب دينًا) وتأثيرها
الغريب في قلوب الآخذين بها والقائمين على سبيلها واحتباسها لنفوسهم على
الكمالات الإنسانية، واجتذابها لهممهم عن الانبعاث إلى ما تدعو إليه الرعونة البدنية،
فهي تلبسهم ثوب الوقار والحشمة في النعماء، وتشعرهم شعار التسليم والاصطبار في
البأساء. وفي الحق أن لهم أن يسألونا: هل يمكن لأميّ مثل محمد (صلى الله عليه
وسلم) أن يأتي بحقائق زكية نقية عليَّة وأحكام تسطو بسلطانها على النفوس كالتي جاء
بها القرآن بدون أن يكون ذلك بوحي من الله وإمداد منه؟
أما ما يقال من أن القرآن لم يذكر فيه معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم سوى
القرآن نفسه؛ فعلى فرض أن لا يصح شيء مما نقل في كتب الأحاديث من المعجزات
مع أنها أشبه بالأناجيل عندنا يجاب عنه بأن هذا لا يقدح في رسالته، بل هو أوضح
دليل على صدقه في دعواه؛ إذ لو كان ملبسًا أو مفتريًا (والعياذ بالله) لما أعوزه
التمويه ببعض الغرائب المخترعة ليشبه على أصحابه ويحمل الناس على الإعجاب
بغرائبه. وقد رأينا أن المسيح عليه السلام كان يوبخ اليهود على مطالبتهم له
بالمعجزات، والذي يظهر لنا أنه لولا قساوة قلوبهم وعنادهم لما عوّل في دعواه
عليها.
على أن الأعاجيب التي رويت عن المسيح عليه السلام أصبحت في هذه
الأيام مما يعد عقبة في طريق الاعتقاد بدينه فكثير من الناس يحسبون الدين سهل
القبول لولاها. فعدول محمد صلى الله عليه وسلم في إثبات نبوته عن سبيل
الغرائب واكتفاؤه من المعجزة بكتابه وصدق أنبائه، والبراهين العقلية التي تحدق
إليها البصائر السامية، كل ذلك آيات بينات في صدور الذين أُوتوا العلم على صدقه،
ولا إشكال فيه بل هو عين ما يطلبه المسلمون.
ثم إن المسلمين لا يقفون في إثبات دينهم عند نهاية هذا الحد ولكنهم يذهبون إلى
أن لهم في الكتب السابقة أدلة بينة على صدق كتابهم ونبيهم، صلى الله عليه وسلم
وهم على يقين أن الأنبياء السابقين (عليهم الصلاة والسلام) قد توالت أنباؤهم على
التبشير بنبيهم كما نقول في عيسى عليه السلام، وما يذهب إليه المسيحيون في تأويل
بعض الأخبار المأثورة عن الأنبياء أو الأصفياء الأولين يخالفهم فيه المسلمون إلى
تأويل أفضل لهم، وقد نجد التأويل الثاني ألصق بعبارة النبأ، فإن لم يكن فإنا نرى
التأويلين في كفتين متعادلتين، وإنما يرجح كُلاًّ إِلفُ صاحبه ومَيله، ولذلك أمثال
كثيرة يطول سردها ويسهل على الطالب إيجادها.
أذكر ما نبهني إليه أحد أصدقائي المسلمين من معنى العددين المذكورين في
آخر كتاب دانيال النبي عليه السلام وهما عدد 1290 وعدد 1335، فبعد أن بين
بتاريخ انقطاع الذبيحة اليومية من يوم بني منسه ملك اليهود مذابح للأصنام في هيكل
القدس، وفسر الصنم المصوغ الذي نصبه الملك في القدس بالرجس المخرب، وعبر
عن الخراب بتسخير الأوديين لأورشليم فأراني كيف أن أحد العددين المذكورين يأتي
بنا إلى زمان الهجرة النبوية، وأن الثاني ينتهي بنا إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان
عندما أتم المسلمون فتوحاتهم في سورية ومصر وفارس وأفريقيا، وكيف قطعت
مصالحة الحسن بن عليّ دابر الشقاق بين الأمة، وسكن المسلمون الأرض آمنين
مطمئنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولست أحكم بصحة التأويل ولا عدمها،
ولكن أقول: إنه ليس بأقل جودة من بعض ما أول به قوم آخرون.
وأهم ما نقصد الآن أن يعرف النصارى عندنا في إنكلترا كيف يستدل
المحمديون بأنباء كتب اليهود والنصارى على إثبات دينهم وتحقيق يقينهم.
بقي شيء يشتد الإنكار فيه منا على المسلمين وهو اعتقادهم بجنة جسمانية فيها
من الحور العين ما تشتهيه نفوس المؤمنين، على أني أقول: وما إنكارنا ونحن
نرى في كتاب نشيد الأناشيد المنسوب إلى سليمان بن داود عليه السلام عبارات إن حُملت على ظاهرها كانت أدخل في الجسمانية وعالم المادة من كل ما ينسب إلى
القرآن غير إننا لمحنا من درس فصول ذلك الكتاب في ترجمته المشهورة أن تلك
كنايات عن محبة المسيح لأمته، ثم إننا نرى ذِكرًا صريحًا للجنة الجسمانية في
مكاشفات يوحنا المعدودة عندنا خاتمة الأناجيل، فإنه يذكر وصف أورشليم الجديدة وهي الجنة ومساحتها الدقيقة وحدودها وما فيها من أبواب من لؤلؤ وأزقة من ذهب
وجدران من جوهر ويفيض فيما رواه ذلك مما لم يأت القرآن عليه. وإن لنا
عبارة تألفها نفوسنا ونترنم بها في عبادتنا مع الافتخار إذ نقول: (أورشليم
المذهبة المباركة باللبن والعسل) وليس يخطئ قائل لنا: إن نغمات المظفرين
وأغاني المخلفين التي نجدها في مكاشفات يوحنا تذكّرنا بأن غاية المسيحي من إيمانه
وأمله المطلوب من عبادته أن يصل إلى جنة نعيمه فيها أن يأكل ويشرب ويسكر
ويغني كما نرى من عمله في هذه الدنيا أيام الأعياد المشهورة، على أننا نأول ذلك كله
ونصرفه عن ظاهره، ونحمل كل لفظ وجد لمعنى محسوس على سر معقول.
وإن العرفاء من المسلمين يعتقدون بأن لهم نعيمًا روحانيًّا يتعالى إلى غير
النهاية عن النعيم الجسداني، ولسنا نكابر كما يكابر القسيس (مكول) ونحكم بأن
المسلم لا مطمح له في أخراه إلا الأكل والشرب وقضاء شهوات أُخَرَ، وقد ذكر في
القرآن في سورة القيامة من جزاء المؤمنين أن تكون وجوههم يوم القيامة ناضرة إلى
ربها ناظرة، وفي الأحاديث عندهم ما يدل على ذلك ففيها عن نبيهم (صلى الله
عليه وسلم) ما معناه أن أعظم فوز يفوز به العبد في الآخرة هو لقاء ربه في الغدوّ
والآصال وهو نعيم يفوق كل نعيم كما يفوق البحر قطرات العرق، وفي حديث آخر
أن المؤمنين يرون ربهم كما يرون القمر ليلة البدر. وفي آخر ما يشبه المعروف
عندنا (إن الله قد أعد للمؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر) .
وإن في عقائد المحمديين أن رضوان الله أكبر من كل نعيم، فإن وافقنا المسلم
على أن جنة جسدانية لا تليق أن تكون جزاء المؤمن في الآخرة؛ أفلا يجوز له أن
يُؤول ما ورد في كتابه من ذلك كما وردت عبارة النشيد وعبارات المكاشفات
والتأويل عليه أسهل منه علينا فإن عنده في كتابه ما يشير إلى أن بعض ما نص الله
لهم من الكتاب لا يؤخذ على ظاهره، وله في السنة ما معناه: ليس في الجنة شيء مما
في الدنيا إلا الأسماء لنا نحن. فلم يذكر لنا في المكاشفات ما يسوغ التأويل أو يشير
إلى أن ما جاء فيها من الأوصاف ضرب من التمثيل؛ لأن صاحب الكتاب يصرح
لنا بأن ما فيه من الأقوال حق لا ريبة فيه كما هو مذكور، فللمحمديين حق إن
طلبوا الجنة الروحانية واللذائذ السامية العقلية، وهم مؤمنون بكتابهم، ويرون أن هذا
المطلب عليهم أيسر منه على كثير من غيرهم، وإني أحسب من الظلم الفاحش أنَّا لا
نسوغ للمسلمين سلوك طريق من التفسير لم نزل نسلكه في إيضاح غوامض
كتابنا المقدس.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إسحاق طيلر
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاجتماع الثاني - الداء أو الفتور العام
في مكة المكرمة يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة سنة 1316 في صباح
اليوم المذكور انعقد الاجتماع وبعد قراءة ضبط الجلسة الأولى افتتح الكلام (الأستاذ
الرئيس) فقال: إنا نجد الباحثين في الحالة النازلة بالمسلمين يشبهونها بالمرض
فيطلقون عليها اسم الداء مجردًا أو مع وصفه بالدفين أو المزمن أو العضال، ولعل
مأخذ ذلك ما ورد في الأثر وألفته الأسماع من تشبيه المسلمين بالجسد إذا اشتكى منه
عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ويلوح لي أن إطلاق الفتور العام
أليق بأن يكون عنوانًا لهذا البحث لتعلق الحالة النازلة بالأدبيات أكثر منها بالماديات،
ولأن آخر ما فيها ضعف الحس فيناسبه التعبير عنه بالفتور.
إن هذا الفتور في الحقيقة شامل لجميع أعضاء الجسم الإسلامي فيناسب أن
يوصف بالعام، وربما يتوقف الفكر في الوهلة الأولى عن الحكم بأن الفتور عام
يشمل المسلمين كافة، ولكن بعد التدقيق والاستقراء نجده شاملاً للجميع في مشارق
الأرض ومغاربها لا يسلم منه إلا أفراد شاذة.
فيا أيها السادة، ما هو سبب ملازمة الفتور منذ قرون للمسلمين؟ من أي قوم
كانوا، وأينما وجدوا، وكيفما كانت شئونهم الدينية أو السياسية أو الأفرادية أو
المعاشية حتى إننا لا نكاد نجد إقليمين متجاورين أو ناحيتين في إقليم أو قريتين في
ناحية أو بيتين في قرية، أهل أحدهما مسلمون وأهل الآخر غير مسلمين إلا ونجد
المسلمين أقل من جيرانهم نشاطًا وانتظامًا في جميع شئونهم الحيوية الذاتية
والعمومية، كذلك نجدهم أقل إتقانًا من نظرائهم في كل فن وصنعة مع أننا نرى أكثر
المسلمين في الحواضر وجميعهم في البوادي محافظين على تميزهم عن غيرهم
من جيرانهم ومخالطيهم في أمهات المزايا الأخلاقية مثل الأمانة والشجاعة
والسخاء.
فما هو والحالة هذه سبب شمول هذا الفتور وملازمته لجامعة هذا الدين
كملازمة العلة للمعلول بحيث يقال: أينما وجدت الإسلامية وجد هذا الداء حتى توهم
كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان. هذا هو المشكل العظيم الذي يجب
على جمعيتنا البحث فيه أولاً بحث تدقيق واستقراء عسى أن نهتدي إلى جرثومة
الداء عن يقين فنسعى في مقاومتها حتى إذا ارتفعت العلة برئ العليل إن شاء الله
تعالى.
قال (الفاضل الشامي) : إني أوافق الأستاذ الرئيس على تعريفه ووصفه
الحالة النازلة بالفتور، ولا أعلم ما يعارض كون هذا الفتور عامًّا محيطًا بجميع
المسلمين.
قال (الصاحب الهندي) : إني وإن كنت أقل الإخوان فضيلة ولكنني جوّال،
وقد خبرت البلاد وأحوال العباد، ولا شك عندي في أن هذا الفتور عامّ وإن كان لا
يظهر في بعض المواقع التي ليس فيها غير المسلمين كقلب جزيرة العرب وبعض
جهات إفريقيا، ولا يظهر أيضًا في بعض مواقع أخرى مجاورو المسلمين فيها
ومخالطوهم من أهل النِّحل الوثنية الغريبة الوضع المتناهية في الشدة كبقايا الصابئة
حول دجلة الذين يضيعون كثيرًا من أوقاتهم منغمسين في الماء تعبدًا، وكالكونغو من
الزنوج، وكالبوذية من الهنود المعتقدين أن كل مصائبهم حتى الموت الطبيعي من
تأثيرات أعمال السحرة عندهم، فإن أمثال هؤلاء أكثر فتورًا من المسلمين على أن
ذلك لا يرفع صفة الفتور وعموميته عن المسلمين.
فقال (الأستاذ الرئيس) : إن الصاحب الهندي مصيب في تفصيله وتحريره،
ولذلك رجعت عن قولي بأن المسلمين أحط من غيرهم مطلقًا إلى الحكم بأنهم أحط
من غيرهم ما عدا النحل المتشددة في التدين.
قال (الحافظ البصري) : يلوح لي أنه يلزم استثناء الدهريين والطبيعيين
وأمثالهم ممن لا دين لهم؛ لأنهم لا بد أن يكونوا على غير نظام ولا ناموس في
أخلاقهم معذبين منغصين في حياتهم منحطين عن أهل الأديان كما يعترف بذلك
الطبيعيون أنفسهم فيقولون عن أنفسهم: إنهم أشقى الناس في الحياة الدنيا.
فأجابه (الصاحب الهندي) : إني كنت أيضًا أظن أنه يوجد في البشر أفراد
ممن لا دين لهم، وإن من كانوا كذلك لا خلاق لهم، ثم إن اختباري الطويل قد برهن
لي على أن الدين بمعناه العام وهو إدراك النفس وجود قوة غالبة تتصرف بالكائنات،
والخضوع لهذه القوة على وجه يقوم في الفكر هو أمر فطريٌّ في البشر، وإن قولهم:
فلان دهري أو طبيعي هو صفة لمن يتوهم أن تلك القوة هي الدهر أو الطبيعة فيدين
لما يتوهم، فثبت عندي ما يقرره الأخلاقيون من أنه لا يصح وصف صنف من
الناس بأنهم لا دين لهم مطلقًا، بل كل إنسان يدين بدين إما صحيح أو فاسد عن
أصل صحيح، وإما باطل أو فاسد عن أصل باطل، والفاسدان يكون فسادهما إما
بنقصان، أو بزيادة، أو بتخليط، فهذه أقسام ثمانية.
فالدين الصحيح كافل بالنظام والنجاح في الحال والسعادة والفلاح في المآل،
والباطل والفاسدان بنقصان قد يكون أصحابهما على نظام ونجاح في الحياة على
مراتب مختلفة، وأما الفاسدان بزيادة أو بتخليط فمهلكة محضة، ثم أقول: بما كان
تقريري هذا غريبًا في بابه فألتمس أن لا يقبل ولا يرد إلا بعد التدقيق والتطبيق؛
لأنه أصل مهم لمسألة الفتور العام المستولي على المسلمين.
(قال الرئيس الأستاذ) : إني أجلكم أيها السادة الأفاضل عن لزوم تعريفكم
آداب البحث والمناظرة، غير أني أنبه فكركم لأمر لا بد أن يكون في نفوسكم جميعًا،
أو تحبوا أن يصرَّح به ألا وهو عدم الإصرار على الرأي الذاتي وعدم الانتصار له،
واعتبار أن ما يقوله ويبديه كل منا إن هو إلا خاطر سنح له فربما كان صوابًا أو
خطأً، وربما كان مغايرًا لما هو نفسه عليه اعتقادًا وعملاً، وهو إنما يورده في
الظاهر معتمدًا عليه، وفي الحقيقة مستشكلاً أو مستثبتًا أو مستطلعًا رأي غيره، فلا
أحد منا ملزم برأي يبديه ولا هو بملوم عليه، وله أن يعدل أو يرجع عنه إلى ضده؛
لأننا إنما نحن باحثون لا متناظرون، فإذا أعجبنا رأي المتكلم منا أثناء خطابه
إعجابًا قويًّا فلا بأس أن نجهر بلفظ (مرحى)[1] تأييدًا لإصابة حكمه وإشعارًا
باستحسانه، فلنمض في بحثنا عن أسباب الفتور العام على هذا النسق.
قال (الفاضل الشامي) : إني أرى منشأ هذا الفتور هو بعض القواعد
الاعتقادية والأخلاقية، مثل العقيدة الجبرية التي من بعد كل تعديل فيها جعلت الأمة
جبرية باطنًا قدرية ظاهرًا (مرحى) ومثل الحث على الزهد في الدنيا والقناعة
باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية كحب المجد والرياسة والتباعد
عن الزينة والمفاخر والإقدام على عظائم الأمور، وكالترغيب في أن يعيش المسلم
كميت قبل أن يموت، وكفى بهذه الأصول مفترات مخدرات مثبطات معطلات لا
يرتضيها عقل ولم يأت بها شرع، ولمثلها نفى عثمان بن عفان رضي الله عنه أبا ذر
الغفاري إلى الربذة.
فأجابه (البليغ القدسي) : إن هذه الأصول الجبرية والتزهيدية الممتزجة
بعقائد الأمة وما هو أشد منها تعطيلاً للأخذ بالأسباب، ولنشأة الحياة موجودة في
جميع الديانات؛ لتعدل من جهة شره الطبيعة البشرية في طلب الغايات، وتدفعها إلى
التوسط في الأمور، ولتكون من جهة أخرى تسلية للعاجزين وتنفيسًا عن المقهورين
البائسين وتوسلاً إلى حصول التساوي بين الأغنياء والفقراء في مظاهر النعيم.
ألا يرى إجماع كل الأديان على اعتقاد القدر خيره وشره من الله تعالى، أو
خيره منه وشره من النفس أو من الشيطان، ومع ذلك ليس في البشر من ينسب أمرًا
إلى القدر إلا عند الجهل بسببه سترًا لجهله، أو عند العجز عن نيل الخير أو دفع الشر
سترًا لعجزه، وحيث غلب أخيرًا على المسلمين جهل أسباب المسببات الكونية
والعجز عن كل عمل التجأوا إلى القدر والزهد تمويهًا لا تديُّنًا. وهذا التبتل
والخروج عن المال من أعظم القربات في النصرانية، فهل كان قصد شارع
الرهبانية أن ينقرض الناس كافة بعد جيل واحد، أم كان قصده أن يشرعها على أن
لا يتلبس بها إلا القليل النزر؟ كلا لا يُعقل في هذا المقام إلا التعميم، وينتج من ذلك
أنه لا يصح اعتبار هذه الأصول الجبرية والتزهيدية سببًا للفتور، بل هي سبب
لاعتدال النشاط وسيره سير انتظام ورسوخ.
وفي النظر إلى المشاق والعظائم التي اقتحمها الصحابة والخلفاء الراشدون
رضي الله عنهم لنيل الغنى والرياسة والفخار مع الأجر والثواب أقوى برهان مع أن
الأمة إذ ذاك كانت زاهدة فعلاً لا كالزهد الذي ندعيه الآن كذبًا ورياءً
(مرحى) .
وإذا تتبعنا كل ما ورد في الإسلامية حاثًّا على الزهد نجده موجهًا إلى الترغيب
في الإيثار العام؛ أي: بتحويل المسلم ثمرة سعيه للمنفعة العمومية دون خصوص
نفسه، حتى إن كل ما ورد في الحث على الجهاد في سبيل الله مراد به سعي المؤمن
بكل الوسائل حتى ببذل حياته لإعزاز كلمة الله وإقامة دينه، لا في خصوصية محاربة
الكفار كما تتوهم العامة، كما أن المراد من محاربة الكفار هو من جهة: إعزاز
الجامعة الإسلامية، ومن أخرى: خدمة الجامعة الإنسانية من حيث إلجاء الكفار إلى
مشاركة المسلمين في سعادة الدارين؛ لأن للأمم المترقية علمًا ولاية طبيعية على
الأمم المنحطة؛ فيجب عليها إنسانية أن تهديها إلى الخير ولو كرهًا باسم الدين أو
السياسة.
ثم قال: أما أنا فيخيل إليّ أن سبب الفتور هو تحويل نوع السياسة الإسلامية
حيث كانت نيابية اشتراكية؛ أي: (ديمقراطية) تمامًا، فصارت بعد الراشدين بسبب
تمادي المحاربات الداخلية ملكية مقيدة بقواعد الشرع الأساسية، ثم صارت أشبه
بالمطلقة. وقد نشأ هذا التحول من أن قواعد الشرع كانت في الأول غير مدونة ولا
محررة بسبب اشتغال الصحابة المؤسسين رضي الله عنهم بالفتوحات وتفرقهم في
البلاد، فظهر في أمر ضبطها خلافات ومباينات بين العلماء، وتحكمت فيها آراء
الدخلاء، فرجحوا الأخذ بما يلائم بقايا نزعاتهم الوثنية (وليتهم لم يدنسوا الإسلام
بالدخول فيه) فاتخذ العمال السياسيون -ولا سيما المتطرفون منهم- هذا التخالف في
الأحكام وسيلة للانتقام والاستقلال السياسي، فنشأ عن ذلك أن تفرقت المملكة
الإسلامية إلى طوائف متباينة مذهبًا، متعادية سياسة، متكافحة على الدوام.
وهكذا خرج الدين من حضانة أهله وتفرقت كلمة الأمة فطمع بها أعداؤها
وصارت معرضة للمحاربات الداخلية والخارجية معًا، لا تصادف سوى فترات قليلة
تترقى فيها العلوم والحضارة على حسبها ، وقد أثر استمرار الأمة في هذه الحروب أن صارت باعتبار الأكثرية أمة جندية صنعةً وأخلاقًا، بعيدة عن الفنون والصنائع
والكسب بالوجوه الطبيعية، ثم بسبب فقدان القواد والمعدات لم يبق مجال للحروب
الرابحة فاقتصرت الأمة على المدافعات خصوصًا منذ قرنين إلى الآن؛ أي: منذ
صارت الجندية عند غيرنا صنعة علمية مفقودة عندنا، فصرنا نستعمل بأسنا بيننا
فنعيش بالتغالب والاحتيال لا بالتعاون والتبادل، وهذا شأن يميت الانتباه والنشاط
ويولد الخمول والفتور (مرحي) .
فابتدر (الحكيم التونسي) وأجابه: إن غيرنا من الأقوام -كجرمانيا مثلا- وُجِدُوا في حكومات مطلقة، وفي اختلافات مذهبية، وفي انقسامات إلى طوائف
سياسية، وفي حروب مستمرة، ولم يشملهم الفتور بوجه عام فلا بد للفتور في
المسلمين من سبب آخر.
ثم قال: وفيما أتصور أن بلاءنا من تأصل الجهل في غالب أمرائنا المترفين
الأخسرين أعمالاً الذين ضلوا وأضلونا سواء السبيل وهم يحسبون أنهم يُحْسنون
صنعًا، حتى بلغ جهل هؤلاء دركةً أسفل من جهل العجماوات التي لها طبائع
ونواميس، فمنها التي تحمي ذمارها وتمنع عن حدودها وتدافع عما استُحفظت عليه،
وهؤلاء ليس لهم طبائع ونواميس فيخرّبون بيوتهم بأيديهم وهم لا يشعرون، ومنهم
الذين ضلوا على علم وهم الذين يشكون ويبكون حتى يظن أنهم مغلوبون على أمرهم
ويتشدقون بالإصلاح السياسي مع أنهم - وايم الحق - يقولون بأفواههم ما ليس في
قلوبهم، ويظهرون الرغبة في الإصلاح ويبطنون الإصرار والعناد على ما هم عليه
من إفساد دينهم ودنياهم وهدم مباني نجدهم وإذلال أنفسهم والمسلمين. وهذا داء عياء
لا يُرجى منه الشفاء؛ لأنه داء الغرور لا يقر صاحبه لفاضل بفضيلة، ولا يجاري
حازمًا في مضمار، وقد سرى من الأمراء إلى العلماء ثم إلى سائر الطبقات.
فأجاب (المولى الرومي) إن إلقاء التبعة على الأمراء خاصة غير سديد؛
خصوصًا لأن أمراءنا إن هم إلا لفيف منا، فهم أمثالنا من كل وجه، وقد قيل: كما
تكونوا يولَّى عليكم، فلو لم نكن نحن مرضى لم يكن أمراؤنا مدنفين.
وعندي أن البلية هي فقدنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؟ هي ما حرمنا معناه
حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه. وقد عرف الحرية من عَرفَها بأن
يكون الإنسان مختارًا في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم. ومن فروع الحرية
تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنّهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة
بالحق وبذل النصيحة، ومنها حرية التعليم وحرية الخطابة والمطبوعات وحرية
المباحثات العلمية.
ومنها الأمن على الدين والأرواح والأمن على الشرف والأعراض والأمن على
العلم واستثماره، فالحرية هي روح الدين، وينسب إلى حسان بن ثابت الشاعر
الصحابي رضي الله عنه:
وما الدين إلا أن تقام شرائع
…
وتؤمن سبل بيننا وهضاب
فلينظر كيف حصر هذا الصحابي الدين في إقامة الشرع والأمن. هذا، ولا
شك أن الحرية أعز شيء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال وتبطل
الأعمال وتموت النفوس وتتعطل الشرائع وتختل القوانين. وقد كان فينا راعي
الخرفان حرًّا لا يعرف للملك شأنًا، يخاطب أمير المؤمنين بيا عمر ويا عثمان.
فصرنا ربما نقتل الطفل في حِجْر أمه ونلزمها السكوت فتسكت، ولا تجسر أن
تزعج سمعنا ببكائها عليه. وكان الجنديُّ الفرد يؤمّن جيش العدو فلا يخْفر له عهد،
فصرنا نمنع الجيش العظيم من صلاة الجمعة والعيدين ونستهين بدينه، لا لحاجة غير
الفخفخة الباطلة (مرحى) .
فلمثل هذا الحال لا غرو أن تسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور، وقد
كرت القرون وتوالت البطون ونحن على ذلك عاكفون فتأصّل فينا فقد الآمال،
وترك الأعمال، والبعد عن الجد والارتياح إلى الكسل والهزل، والانغماس في اللهو
تسكينًا لآلام أسرِ النفس، والإخلاد إلى الخمول والتسفل طلبًا لراحة الفكر المضغوط
عليه من كل جانب. إلى أن صرنا ننفر من كل الماديات والجديات حتى لا نطيق
مطالعة الكتب النافعة، ولا الإصغاء إلى النصيحة الواضحة؛ لأن ذلك يذكرنا
بمفقودنا العزيز فتتألم أرواحنا وتكاد تزهق إذا لم نلجأ إلى التناسي بالمُلْهيات،
والخرافات المروّحات، وهكذا ضعف إحساسنا وماتت غيرتنا، وصرنا نغضب
ونحقد على من يذكرنا بالواجبات التي تقتضيها الحياة الطيبة لعجزنا عن القيام بها
عجزًا واقعيًّا لا طبيعيًّا.
هذا ونعترف بأن فينا بعض أقوام قد ألفوا من ألوف سنين الاستعباد والاستبداد
والذل والهوان فصار الانحطاط طبعًا لهم تؤلمهم مفارقته، وهذا هو السبب في أن
السواد الأعظم من الهنود والمصريين والتونسيين صاروا بعد أن نالوا رغم أنوفهم
الأمن على الأنفس والأموال، والحرية في الآراء والأعمال. لا يَرْثُونَ ولا
يتوجعون لحالة المسلمين في غير بلادهم بل ينظرون للناقمين على أمرائهم المسلمين
شزرًا، وربما يعتبرون طالبي الإصلاح من المارقين من الدين.
كأن مجرد كون الأمير مسلمًا يغني عن كل شيء حتى عن العدل، وكأن طاعته
واجبة على المسلمين وإن كان يخرب بلادهم ويقتل أولادهم ويقودهم ليسلمهم
لحكومات أجنبية، كما جرى ذلك قبلاً معهم. والحاصل أن فقدنا الحرية هو سبب
الفتور والتقاعس عن كل صعب وميسور.
أجاب (المجتهد التبريزي) : إن هذا الحال ليس بعام مع أن الفتور لم يزل
في ازدياد واستحكام فلا بد لذلك من سبب آخر.
ثم قال: ويلوح لي أن انحطاطنا من أنفسنا؛ إذ أننا كنا خير أمة أخرجت للناس
نعبد الله وحده؛ أي: نخضع ونتذلل له فقط، ونطيع من أطاعه ما دام مطيعًا له
نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، أَمْرُنا شُورَى بيننا، نتعاون على البر والتقوى
ولا نتعاون على الإثم والعدوان. فتركنا ذلك كله ما صعب منه وما هان. وقد يظن أن
أصعب هذه الأمور النهي عن المنكر؛ مع أن إزالة المنكر في شرعنا تكون بالفعل فإن
لم يمكن فبالقول، فإن لم يكن فبالقلب، وهذه الدرجة الثالثة هي الإعراض عن الخائن
والفاسق والنفور منه وإبطان بغضه في الله.
ومن علائم ذلك تجنب مجاملته ومعاملته. ولا شك أن إقامة هذا الواجب الديني
كافٍ للردع ولا يتصور العجز عنه قط. قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْض} (البقرة: 251) .
فهذا هو سبب استرسال الأمة في عبادة الأمراء والأهواء، والأوهام وفي طاعة
العصاة اختيارًا وترك التناصح، والركون إلى الفساق، والإذعان للاستبداد،
والتخاذل في الخير والشر. قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وعنه
صلى الله عليه وسلم [2] (لتأمُرُنَّ بالمعروف وَلّتنْهن عن المنكرِ أوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ الله
عليكم شِرَارَكم فليسومونكم سوء العذاب) إلى غير ذلك من الآيات البينات
والأحاديث المنذرات القاضيات بالخذلان على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فهذا هو السبب الناشئ عنه الفتور.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
مرحى - كلمة تعجب يقولها العرب عند إصابة الرامي المرمى.
(2)
المنار - لفظ الحديث (أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم) رواه البزار عن عمر والطبراني عن أبي هريرة وسندهما ضعيف 0 وللترمذي من حديث حذيفة نحوه إلا أنه قال: (أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم) وقال: حديث حسن.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم الذي ترتقي به الأمة
أكثر الناس في بلاد الشرق - بلاد البطالة والكسل - يفنون أزمنتهم بالعبث
واللغو من القول، فلا تسمع منهم في أنديتهم وسمّارهم إلا الخوض بفلان والإزراء
بعلاّن ومما أشبه ذلك مما هنا وهنالك، ورب فئة قليلة تحب الجد وتختار للبحث
والحوار المسائل النافعة، وقد كتبنا مقالة في الجزء الرابع والعشرين من السنة
الماضية في موضوع حديثهم في سامر من سمارهم وهو إصلاح الدولة العلية،
ونذكر ههنا أنهم رأوا أن يقترحوا على كل واحد منهم كلما ضمهم نادٍ أو سامرٌ أن
يتكلم في مسألة من المسائل النافعة، وابتدؤوا بالاقتراح على كاتب هذه السطور أن
يتكلم في التعليم النافع للمسلمين فأجاب، وإنني أذكر بعض ما قلته هناك ملخصًا وقد
ابتدأت بذكر عيوب التعليم عندنا وهي:
العيب الأول:
عدم اللغة: إحياء العلم لا يكون إلا بلغة حية، ولغة الإسلام والمسلمين العربية
ولكنهم أهملوا تعلمها وتعليمها حتى إنني أقول ما قلته من قبل: إنني لا أعرف مدرسة
في الدنيا تعلّم فيها اللغة العربية الصحيحة، ومن عنده حظ من هذه اللغة فإنما تعلّمه
بنفسه؛ لاهتدائه إلى طريقة التعلم بذكائه أو بإرشاد مرشد آخر، وستأتي الإشارة إلى
كيفية هذا التعلم، وإن كان المنار قد فصله من قبل تفصيلاً.
العيب الثاني:
في اختلاف منابع التعليم: التعليم النافع هو ما يكون فيه قوام الأمة وترقيها،
والترقي إنما يكون بالرجال المتعلمين العلم النافع لها؛ لأن زمامها يكون في أيديهم،
وقواد الأمة يجب أن يكونوا متفقين في مقاصدهم الإصلاحية، وإنما يكون هذا الاتفاق
والاتحاد إذا كانت تربية عقولهم وأفكارهم متحدة، ولن تكون متحدة إلا إذا كان
التعليم من منبع واحد.
والتعليم في بلادنا بعضه في مدارس الحكومة وبعضه في المدارس الأجنبية من
فرنسوية وأميركانية وإنكليزية وإسرائيلية، وليس منه شيء موافق لحاجة الأمة،
ومنطبق على مصلحتها فإن لكل صنف من هذه الأصناف مقصد من التعليم إما
سياسيّ وإما ديني غير إسلامي، والتعليم في المدارس الأهلية الإسلامية ناقص بحيث
يصح أن نقول: إنه دون كل تعليم، ولا أستثني المدرسة الدينية الإسلامية الكبرى
وهي الجامع الأزهر فكلنا نعرف أنها ليس فيها غناء وأنها مقصرة كل التقصير في
وظيفتها الأولى وهي إحياء اللغة العربية وعلوم الدين. على أن علم الدين لا يكاد يوجد في علم الأزهر وما يتبعه من المساجد فهو على نقصه خير من غيره من هذه الجهة (ومن للعُمْي بالعور) .
العيب 3: عدم التربية.
التعليم لا يفيد النجاح المطلوب للأمة إلا إذا كان مقارنًا للتربية الملية القومية،
وهذه التربية مفقودة عندنا؛ لأن القائمين على أمر التعليم لا يهمهم أمرها بل هو
مباين لمقصدهم السياسي والديني. على أنهم لو حاولوها لما أحسنوها؛ لأنه لا
يحسن الشيء إلا من يتوجه إليه بباعث الشعور بحاجته وحاجة أمته إليه مع العلم
بطريقه الطبيعي.
وقد علمنا أن أكثر المسلمين المشتغلين بالتعليم جاهلون بطرقه وعادمو الإحساس
والشعور بالحاجة الملية القومية. وعلمنا حال مدارس الأجانب ولمدارس الحكومة في
مصر حكمها؛ لأن روح التعليم فيها إنكليزي استعماري لا إنكليزي سكسوني. ولا
يحسبنّ أحد أن مدارس الحكومة في بلاد الدولة العلية أمثل وأنفع من مدارس الحكومة
في مصر، بل الصواب أنها دونها في كل البلاد لا سيما العربية منها إلا مدارس دار
السلطنة فإنها أرقى من مدارس مصر؛ لأنها فيها روحًا وطنيًّا حقيقيًّا عجزت
السياسة عن إزهاقه.
هذه هي العيوب الأساسية للتعليم في البلاد الإسلامية، أما إزالة هذه العيوب
من مواطنها؛ فلا سبيل إليه ولا طاقة لنا به، ولكن من الممكن السعي في إيجاد تعليم
نافع وتربية قويمة، والطريق إليه واحد وهو إنشاء المدارس الكلية التي تربي
الناشئين وتعلمهم التعليم الابتدائي والتجهيزي والعالي، ولكنه طريق يعسر تطريقه
وإشراعه؛ لأننا فقراء في المال وفي العلوم والعقول، وهذا الفقر المعنوي أشد فينا
فتكًا، ولكنه لا يعوزنا ويعجزنا في طريقنا هذا كما يعجزنا ويعوزنا الفقر المادي، فإن
مَن أوتي نصيبًا من العلم والعقل والأدب يجود بما عنده مرتاحًا إليه إذا رجا الانتفاع به
ولكن الذين أوتوا المال منا قد أوتوا معه البخل والسفه معًا، فهم يبذلون المال في
طرق الفساد بغير حساب، ولا يخرج من أيديهم درهم في طريق الخير إلا نكدًا.
وليس المقام مقام بيان تطريق الطريق لإنشاء مدرسة كلية في مصر ولكنني أقول: إن هذه الفئة تحب خدمة أمتها إذا لم تجتهد في إنشاء هذه المدرسة فلنا أن
نحكم بأنها لم تعمل شيئًا يذكر، وإذا هي لم تعمل فلا ندري متى تلد أرض مصر
خيرًا منها ليعمل خيرًا من عملها.
أما التعليم والتربية في الكلية فلا نبحث فيهما؛ لأن الحاضرين يعرفون هذا
الفن (البيداجوجيا) ، وإنما ننبه على وجوب إحياء اللغة العربية بالعمل بأن يكون
الكلام العربي الصحيح هو اللسان الرسميّ فيها، ويعلم كما تعلم اللغات الأخرى في
المدارس لا كما يعلم هو فيها.
وأما تعليم الدين فيجب أن يكون أساسه القرآن والسنة الصحيحة ومعرفة
الإجماع وأن يعدّ كل ما وراء هذا من الخلاف بين أئمة المسلمين وعلمائهم
كالخلاف في المسائل العلمية، لا ينكث من فتل الأخوة الإسلامية، وكل ما هو من
أعمال الجوارح يكون تعليمه بالعمل كالصلاة مثلاً، وما عدا ذلك يعلم بالقول. وأما
التربية فمما يجب التنبيه عليه وتربية الإرادة والعزيمة التي هي منشأ
الاستقلال الشخصي، والنوعيّ تبع للشخصي، وتربية الأخلاق بملاحظة
السيرة والسلوك، وتربية الخيال التي تعد للخطابة والشعريات المؤثرة في النفوس،
هذا ما أراه نافعًا من التعليم الإسلامي، وفّق الله المسلمين لتحقيقه، والسير طريقه، آمينَ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقدمتنا لكتاب أسرار البلاغة
بسم الله الرحمن الرحيم
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} (الرحمن: 1-3) ، فله الحمد
أن علم، والشكر على ما أنعم، ومنه الصلاة والتسليم على نبيه الرؤوف الرحيم،
الذي جاء بتوحيد اللغة والدين، وجعل الكتاب والحكمة في الأميين، فكانوا بذلك
أئمة وكانوا هم الوارثين.
الإنسان يمتاز بالعلم وإنما العلم بالتعلم، والتعلم باللغة. واللغات تتفاضل في
حقيقتها وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنفس تامة على وجه يكون
أقرب إلى القبول، وأدعى إلى التأثير، وفي صورتها وأجراس كلمها بعذوبة النطق
وسهولة اللفظ والإلقاء والخفة على السمع.
وإن للغة العربية من هذه المميزات الميزان الراجح، والجواد القارح،
يعرف ذلك من أخذها بحق، وجرى فيها على عرق، فكان من مفرداتها على علم،
وضرب في أساليبها بسهم، ومن آية ذلك لغير العارف أن أولئك الشراذم والأوزاع من
أهلها قد حملوها إلى الأمم، التي كان للغاتها في العلوم قدم، ولم يحملوهم عليها
بالإلزام، ولا بالتعليم العام، وكان من أمرها مع هذا أن نسخت بطبيعتها لغة
المصريين من مصرهم، والرومانيين من شامهم، واستعلت على الفارسية العذبة
في مهدها وموطنها، وامتد شعاعها إلى الأندلس في غربي أوربا بعد ما طاف ساحل
أفريقيا الشمالي وإلى جدار الصين من الشرق - كل ذلك في زمن قريب لم يعرف
في التاريخ مثله للغة أخرى من لغات الفاتحين الذين يتخذون كل الوسائل لنشر لغاتهم
وتعميمها بالتعليم العام وضروب الترغيب والترهيب.
كانت لغة أميين وثنيين جاهليين فظهر فيها أكمل الأديان فكانت له أكمل
مظهر، وتجلى لها العلم فكانت له خير مَجْلَى، وصارت بذلك لغة الدين والشريعة،
وعلوم العقل والطبيعة، ولكن عَدَتْ على أهلها عواد كونية، وطرأت عليهم
أمراض اجتماعية، فضعف فيهم كل مقوّم من مقوّمات الأمم الحية، ومن تلك
المقوّمات الحقيقية اللغة؛ فقد فسدت ملكتها في الألسنة، والتوى طريق تعليمها
في المدارس، حتى كادت تكون من اللغات الدوارس.
ظهر ضعف اللغة في القران الخامس وكانت في ريعان شبابها وأوج عزها
وشرفها، وكان أول مرض ألمّ بها الوقوف عند ظواهر قوانين النحو ومدلول
الألفاظ المفردة والجمل المركبة والانصراف عن معاني الأساليب، ومغازي
التركيب، وعدم الاحتفال بتصريف القول ومناحيه، وضروب التجوز والكناية فيه،
وهذا ما بعث عزيمة الشيخ عبد القاهر الجرجاني إمام علوم اللغة في عصره إلى
تدوين علم البلاغة ووضع قوانين للمعاني والبيان كما وضعت قوانين النحو عند
ظهور الخطأ في الإعراب، فوضع هذا الكتاب في البيان، ومن فاتحته يتنسم
القارئ أن دولة الألفاظ كانت قد تحكمت في عصره واستبدت على المعاني، وأنه
يحاول بكتابه تأييد المعاني ونصرها، وتعزيز جانبها وشد أسرها.
كتب قبل عبد القاهر في البيان بعض البلغاء مثل: الجاحظ، وابن دُريد، وقدامة الكاتب. ولكنهم لم يبلغوا فيما بنوه أن جعلوه فنًّا مرفوع القواعد، مفتح
الأبواب كما فعل عبد القاهر من بعدهم، فهو واضع علم البلاغة كما صرح به بعض
علمائها وإن لم يذكر له هذه المنقبة المؤرخون الذين رأينا ترجمته في كتبهم حتى إن
ابن خلدون الذي تصدى دون القوم للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره، وزعم أن الذي
هذب الفن بعد أولئك الذين كتبوا في مسائل متفرقة منه هو السكاكي، وما كان
السكاكيّ إلا عيالاً على عبد القاهر تلا تلوه وأخذ عنه مع المخالفة في شيء من
الترتيب والتبويب، ولكنه لم يسلم من التكلف في بعض عبارته، والتعقيد في بعض
منازعه، فإذا جاز لنا أن نقول: إنه فاق لتأخره بالترتيب المعلوم، وبما حرره من
الحدود والرسوم، فإننا لا ننسى من فضل المتقدم سلامة عبارته، وصفاء ديباجته،
وغوصه على أسرار الكلام، ووضع دررها في أبدع نظام.
كان السكاكيّ وسطًا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل،
وأضرابه من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا
بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسروا اصطلاحاته كما يفسرون المفردات اللغوية، ثم
تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعمَّيات والألغاز،
فضاعت حدوده بتلك الحدود، وَدَرَستْ رسومهُ بهاتيك الرسوم، وكان من أثر
فساد ذوق اللغة اختيارُ هذه الكتب التي ملكت العجمة عليها أمرها على الكتب التي
تهديك إلى العلم الصحيح بمعانيها، وتهدي إليك الذوق السليم بأساليبها ومناحيها،
فكادت كتب عبد القاهر تمحى وتنسخ، وصارت حواشي السعد تطبع وتنسخ، وهذا
هو حظ العلم النافع إذا ألقي إلى الأمة في طور التدلّي والضعف، فمثل عبد القاهر
في أسرار بلاغته ودلائل إعجازه، كمثل ابن خلدون في مقدمته، كالسلطان سليمان
العثماني في قوانينه.
رب غذاء طيب نافع عافته النفس لمرض ألمّ بها حتى إذا نقهت أو أبلت
اشتهته وطلبته، وهذا هو مثلنا أمس واليوم، فقد كنا متفقين على أخذ العلم من كتب
علمائنا المتأخرين كما يختار المريض الغذاء الضار، فظهر فينا هداة مرشدون
يسعون في إحياء ما أماته الجهل من آثار سلفنا ومصنفات أئمتنا، ويدلوننا على العلم
الحيّ الذي تفجر من ينابيع النفوس الحية؛ لنفرق بينه وبين الرسوم الميتة التي
سماها الجهل علمًا.
ولما هاجرت إلى مصر في سنة 1315 لإنشاء (المنار) الإسلامي ألفيت
إمام النهضة الإسلامية الحديثة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده رئيس جمعية إحياء
العلوم العربية ومفتي الديار المصرية اليوم مشتغلاً في بعض وقته بتصحيح كتاب
دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني، وقد استحضر نسخة من المدينة المنورة
ومن بغداد ليقابلها على النسخة التي عنده، فسألته عن كتاب (أسرار البلاغة) للإمام
المذكور فقال: إنه لا يوجد في هذه الديار. فأخبرته بأن في أحد بيوت العلم في
طرابلس الشام نسخة منه. فحثني على استحضارها وطبعها فطلبتها من صديقي
الحميم العالم الأديب عبد القادر أفندي المغربي وهي مما تركه له والده فلبى الطلب.
وعلمنا أن نسخة أخرى من الكتاب في إحدى دور الكتب السلطانية في دار
السلطنة السنية، فندبنا بعض طلاب العلم الأذكياء لمقابلة نسختنا بتلك النسخة فخرج
لنا من مجموعها نسخة صحيحة شرعنا في طبعها، ووضعنا في ذيل المطبوع شرحًا
لطيفًا ضبطنا فيه الكلمات الغريبة، وفسرنا منها ومن جمل الكتاب ما رأيناه يستحق
التفسير، وأشرنا إلى الخلاف بين النسختين، فيما يحتمل صحة الاثنتين.
أما كون عبد القاهر هو واضع الفن ومؤسسه؛ فقد صرح به غير واحد من
العلماء الأعلام أجلهم قدرًا، وأرفعهم ذكرًا، أمير المؤمنين، محيي علوم اللغة
والدين، السيد يحيى بن حمزة الحسيني صاحب كتاب (الطراز في علوم حقائق
الإعجاز) فقد قال في فاتحة كتابه. هذا وهو من أحسن ما كتب في البلاغة بعد عبد
القاهر ما نصه:
(وأول من أسس من هذا الفن قواعده، وأوضح براهينه وأظهر فوائده ورتب
أفانينه الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد
الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد، وفتح أزاهره، من
أكمامها، وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام أفضل
الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه
كتابان: أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز، والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على
شيء منهما، مع شغفي بحبها وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم
منهما) .
وأما مكانة هذا الكتاب وبيان ما يمتاز به على كتب البيان فحسبي عرضه
على الأنظار مع التنبيه على مسألتين نافعتين:
(إحداهما) أن العلم هو صورة المعلوم مأخوذة عنه بواسطة الإدراك كما
تؤخذ الصورة الشمسية بالآلة المعروفة، فإن كان المعنى المنتزع من الجزئيات قانونًا
كليًّا يرشد إليها؛ فهو القاعدة، وإن كان صورة تناسبها وتقربها من الفهم؛ فهو المثل.
(والثانية) أن القاعدة الكلية هي صورة إجمالية للمعلومات الجزئية، والأمثلة
والشواهد صور تفصيلية لها. والتعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة
بالصورة المجملة؛ إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل، وبهذه
الطريقة يجمع بين العلم والعمل الذي يثبت به العلم وهي طريقة عبد القاهر في
كتابه هذا وكتاب دلائل الإعجاز.
على أن كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- كله من آيات البلاغة فهو يعطيك علمها
بمعانيه، وعملها بمبانيه، وبهذه المميزات يفضل هذا الكتاب جميع ما بين أيدينا من
كتب الفن؛ لأنها إنما تقتصر على سرد القواعد والأحكام بعبارات اصطلاحية،
تنكرها بلاغة الأساليب العربية، ولا تذكر من الشواهد والأمثلة إلا القليل النادر،
الذي أدلى به السابق إلى اللاحق والأول إلى الآخر.
لهذا بادر الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية في هذه الأعوام إلى تدريس
الكتاب في الأزهر الشريف عقيب شروعنا في طبعه، فأقبل على حضور درسه مع
أذكياء الطلاب كثيرون من العلماء والمدرسين وأساتذة مدارس الأميرية. وقد قال
أحد فضلاء هؤلاء الأستاذين بعد حضور الدرس الأول: إننا قد اكتشفنا في هذه
الليلة معنى علم البيان.
وقد ظهر للأستاذ في غضون التدريس والمطالعة أغلاط في الكتاب بعضها من
الطبع، وبعضها من تحريف النساخ في الأصل، وأغلاط أخرى في
الهوامش، فأحصيناها كلها من نسخته، ووضعنا لها جدولاً في آخر الكتاب إتمامًا
للفائدة، ومما يجب التنبيه عليه أن بعض تراجم فصول الكتاب هي من وضعنا؛
فإن المصنف رحمه الله تعالى كان يكتفي في كثير منها بكلمة (فصل) اهـ. ويلي
هذا ترجمة المصنف.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهدايا والتقاريظ
(فتح القدير شرح الهداية)
لمجتهد الحنفية في القرن السابع الكمال بن الهمام
يتعب طلاب فقه الحنفية عشرين سنة أو أكثر ليكونوا فقهاء في هذا المذهب،
فيضيع تعب الأكثرين سُدًى؛ لاشتغالهم بكتب المتأخرين المحشوّة بالفروع الشاذة
وغير الشاذة، والاضطراب في التصحيح والترجيح ولا يكون الإنسان بهذه الطريقة
فقيهًا ولو أفنى عمره في المُدارسة. وقد كان لهؤلاء بعض العذر قبل أن يطبع هذا
الكتاب (فتح القدير) الذي هو أحسن كتب المذهب في تحرير المسائل وبسط أدلتها
وإرجاعها إلى أصولها.
وقد كان العلماء يتنافسون في الاطلاع عليه حتى إن ابن عابدين المشهور
ظفر بنسخة منه فاشتراها بوزنها ذهبًا. وقد كان طبع في الهند فطلب نسخًا منه
أكابر فقهاء الحنفية فألفوه كما كان يقول أحدهم (الشيخ عبد الغني الرافعي رحمه
الله تعالى) : توراة مبدّلة؛ أي: إنه كثير الغلط والتحريف. وقد طبعه أخيرًا السيد
عبد الواحد بك الطوبي وأخوه في المطبعة الأميرية، واعتنى بتصحيحه، وأضيف
إليه تكملته المسماة (نتائج الأفكار) للمولى شمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده.
ووضع في هامشه (شرح العناية على الهداية) لأكمل الدين البابرتي
وحاشية سعدي جلبي المفتي الشهير، فبلغ الجميع ثمانية مجلدات وجعل ثمنه 160
قرشًا و 165 من الورق النباتي، ويطلب من مكتبة طابعيه في مصر. فنوجه إليه
أنظار الحنفية عامة وأهل الهند خاصة.
* * *
(جواهر الإنشاء)
أنشأ أخونا الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري مدرس العربية في
المدرسة الخديوية نبذًا وفصولاً في موضوعات مختلفة؛ لتكون تمرينًا للتلامذة على
الكتابة والإنشاء. ثم ضم إليها بعض الأحاديث النبوية في الفضائل ومحاسن
الأعمال وشيئًا من الحِكَم المنثورة، ومن الأشعار المختارة في الآداب، ومنها نظم
ملخص من كتاب (أدب الدنيا والدين) وسمى هذه المجموعة (جواهر الإنشاء) . وقد
طبعت في مطبعة الترقي الشهيرة بالإتقان، وثمنها قرشان، وهي 90 صفحة
وتطلب من مكتبة الترقي ومن حضرة ملتزم طبعها توفيق أفندي كاشف بشارع
بركة الفيل.
* * *
(رسالة الشيرازي في علم الأخلاق)
هي رسالة مختصرة مفيدة في الأخلاق والآداب سهلة العبارة اعتنى بطبعها
المحامي الفاضل الأديب عبد العليم أفندي صالح، ولا يعرف مؤلفها، وربما يتبادر
إلى الذهن أنها للشيخ أبي إسحاق وما هي له فيما يظهر من إهدائها في فاتحتها. على
أن العبرة بالقول لا بالقائل، والرسالة نافعة في بابها، وهي ثلاثة أقسام:
أحدها في الأصول الكلية لعلم الأخلاق.
وثانيها فيما يجري مجرى الأمثال السائرة من الكلمات النادرة.
وثالثها في محاسن أخلاق الملوك وآداب أتباعهم وحواشيهم وهذا القسم يدلنا
على استبداد الملوك في ذلك العصر وإقرار العلماء على ذلك. فنشكر لطابعها فضله
في إحياء هذه الآثار الأخلاقية التي نحن أشد حاجة إليها من سائر العلوم، ونحث
الناس على قراءة هذه الرسالة وثمنها قرشان.
* * *
(تاريخ حرب الدولة العثمانية مع اليونان)
كما يجب على الإنسان أن يعرف نفسه من حيث هو شخص يجب عليه أن
يعرفها من حيث هو أمة؛ أي: عضو من أمة شرفه بشرفها ومهانته بمهانتها والأمم
الحية تعتني بتاريخها فتعلمه أولادها بالتفصيل وتاريخ سائر الأمم والدول بالإجمال
ولكننا نرى أكثر المسلمين يجهلون تاريخ الإسلام، وأكثر العثمانيين يجهلون تاريخ
الدولة العلية ولآل العظم فضل على الفريقين بالعناية بالتأليف في التاريخين. فإذا كان
رفيق بك العظم مشغولاً بتأليف تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) فحقي بك العظم
الفاضل مشغول بتاريخ الدولة العلية فبعد أن ألف كتاب (دفاع بلفنا) وطبعه، ألف لنا
كتاب (تاريخ الحرب العثمانية اليونانية بالتفصيل) وطبعه، فجاء كتابًا حافلاً صفحاته
225، وفيه مباحث تاريخية واجتماعيه نافعة منها بحث (اللغة تحفظ كيان الشعب) ،
ومنها التعريف بمقدمات الحرب وأسبابها والجمعية الوطنية اليونانية، ومنها تعليل
الحوادث والوقائع ونتائجها، وختمه بنظرة سياسية في موقف الدولة العلية
قبل الحروب وبعدها وأحوال ألبانيا ومكدونيا، واحتياج الدولة للرجال الأكفاء،
وسبب سكوت الدولة عنها الآن. والكتاب مطبوع في مطبعة الترقي على ورق
جيد ويطلب منها ومن إدارة المنار وثمنه عشرة قروش أميرية.
* * *
(البيان)
مجلة إخبارية تاريخية تصدر مرة في الشهر باللغتين العربية والأوردية،
لمُنشئها الفاضل الشيخ عبد الله العماوي، وصاحب امتيازها المولوي عبد الولي ابن
الفاضل الراسي عبد العلي المدراسي. والغرض منها جمع كلمة الأمة الهندية ،
وإحياء الفضائل العربية ، ومن المباحث النافعة فيها نبذة (الحضارة والهند) شكا
فيها الكاتب من فقر الأمة وقلة الكسب، وكثرة الإتاوات والضرائب وهي نحو 500
مليون روبية، منها 160 مليونًا من الخراج و 85 مليونًا من الملح و 35 مليونًا
من القراطيس القضائية و 55 مليونً من الخمور و 35 مليونًا الزيادات الخراجية
و5 ملايين من التسجيل (السيكورتاه) . ومنها نبذة في مقاصد ندوة العلماء لم تتم،
ولعلنا نلخصها بعد تمامها. ونرجو لهذه المجلة الرواج فقيمة الاشتراك فيها 8 روبيات
في الهند و30 غرشًا أو 6 شلينات في الخارج.
* * *
(تنبيه)
ضاق هذا الجزء عن باب الأخبار النبوية وآثار السلف وعن الأخبار والآراء
والبدع والخرافات.
* * *
(للشاعر المجيد مصطفى أفندي صادق الرافعي في الساعة)
تضرب كالقلب شفَّه السقم
…
كأن فيها الهموم تضطرم
ذات محيّا أظل أقرأ من
…
خطوطه ما يخطه القلم
ألفتها لا أذم صحبتها
…
وعيّ بي في اصطحابها السَّأم
وما أراها سوى الزمان أما
…
يدور فيها النعيم والنِقم
تُذكرني ما يمر من عمري
…
فكل يوم يَجِدّ لي نَدم
ما إنْ تراعي لأهلها ذممًا
…
إن رعيت عند أهلها الذِمم
وليس إذ ما سعت عقاربها
…
يدب في غير مهجتي الألم
ولا إذا أعجلت فجائعها
…
في غير ضيق القلوب تزدحم
يا أخت ذات البروج هل حجبت
…
طوالع السعد هذه الظلم
كأنها والخطوب تكتمها
…
سر بقلب الزمان مُنكتم
وهل تعود الجدود ثانية
…
من بعد هذا العبوس تَبتسم
ما أثبت الهم في الصدور إذا
…
أمست ليالي الحياة تنهزم
وهذه الدار كلها تعب
…
سيان فيها الوجود والعَدم
والناس كالنائمين ما لبثوا
…
فكل ما يشاهدونه حُلم
أبدع ذات العماد مبدعها
…
فأين راحت بأهلها إرَم
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
(الدرس 34)
الأجوبة عن شبهات العصمة
(المسألة 90) معصية آدم عليه السلام:
علمنا أن مذهب جمهور أهل السنة أن الأنبياء معصومون بعد النبوة لا قبلها،
فلا ترد معصية آدم على هذا المذهب؛ لأنه لم يكن نبيًّا حين عصى ربه، بل لم يكن
في طور التكليف إلا بالنسبة إلى النهي عن الأكل من الشجرة. ولا ترد أيضًا على
ما اختاره المتأخرون من عصمتهم قبل النبوة (وإن كان يلزم منه أن هناك أحكامًا قبل
التشريع والوحي) ؛ لأن الدليل العقلي الذي يمكن أن تثبت به هذه العصمة لا يأتي في
مسألة آدم وهو أن يكون من اختياره للنبوة معروفًا في قومه بمكارم الأخلاق وأحاسن
الأفعال؛ لأن سيّئ السيرة ممقوت منبوذ تحفظ مساويه وجرائمه فتحول دول قبول
دعوته وكون هذا لا يجيء في مسألة آدم بديهيٌّ لا يحتاج إلى بيان. فإن قيل إن الدليل
يرشد إلى أن فطرة الأنبياء زاكية ونفوسهم عالية فهم ينفرون من المعاصي والجرائم
بوازع نفسي راسخ فيهم - كما علم من إثبات النبوة والوحي - فكيف يقترف آدم تلك
المعصية مع كونه خلق في أحسن تقويم وأكمل صفة؟
والجواب: إن صاحب النفس الزاكية تربأ به نفسه عن تعمد إتيان المنكر
وارتكاب الفاحشة التي يعرف مضرتها وسوء عاقبتها، وآدم لم يتعمد المخالفة بدليل
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (طه:
115) ولم يكن عالمًا بوجوه مضرتها لتنفر فطرته منها، بل كان يعتقد صدق
الشيطان الذي وسوس إليه بأنها شجرة الخلد وملك لا يبلى فهذا الاعتقاد دفعه عند
نسيان النهي إلى الأكل؛ ليكون مظهرًا لهذا النوع الذي هو أبوه، وليعلم مَن بعده مِن
ولده غير المعصومين ما يجب على من عصى ربه من التوبة والإنابة إلى
الله تعالى.
على أن في قصة آدم وجهًا في التأويل، بأنها وردت مورد التمثيل، لإظهار
طبيعة النشأة البشرية في أطوارها التدريجية، فالجنة والعيش الرغد فيها مثل لما
كان عليه النوع البشري في طور السذاجة الأولى، وعصيان آدم وهبوطه هو وزوجه
من الجنة مثل لدخول البشر في طور المخالفات التي تجر عليهم الشقاء والبلاء.
والتوبة والمغفرة مثل لطور الكمال الكسبي والارتقاء العلمي والعملي (سيأتي
إيضاح ذلك في باب التفسير المقتبس من مفتي الديار المصرية) .
***
(م91) قصة داود عليه السلام
وُلع بالإسرائيليات بعض الذين اشتغلوا بتفسير القرآن بالمأثور، فألصقوا
بالقرآن ما تلقفوه من أهل الكتاب لأدنى مناسبة، ولولا ذلك لما كنا محتاجين إلى
الجواب عن هذه الشبهة بعد ما قررنا في الدرس الماضي الفرق بين ذنوب الأنبياء
وبين المعاصي الحقيقية التي عصمهم الله تعالى منها.
القرآن مهيمن على الكتب السماوية؛ لأنه ثابت بالتواتر دونها، فما أثبته فهو
الثابت وما نفاه فهو المنفي. وقصة داود مع الخصم ليس فيها بحسب نصّ القرآن
إلا أن اجتهاد داود اختلف في قضيتين متشابهتين فعرفه الله خطأ الاجتهاد الأول بما
عداه إليه في الثاني؛ لأن خطأ الأنبياء في اجتهادهم لا يُقرُّون عليه كما تقدم في
الدرس الماضي عن البيضاوي. هذا إذا كان لقصة المرأة أصل، وإلا فإن قضية
الخصمين اللذين تحاكما إلى داود عليه السلام ليست نصًّا في أنه أخطأ في قضية، أو
تزوج امرأة بعد ما عرّض زوجها للقتل أو غير ذلك مما يزعمون.
القضية أن أحد الخصمين له تسع وتسعون نعجة وللآخر نعجة واحدة فطلب
الأول أن يضمها إلى نعاجه، وحاجّ صاحبها في بيان أن ذلك هو الصواب والأولى
فعزّه وغلبه في الخطاب والكلام فحكم داود بأن صاحب التسع والتسعين ظالم وأن من
شأن الخلطاء البغي، ولكن خَتْمَ النبأ بقوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: 24-25) يدل على أن وراء القضية أو فيها هفوة لداود.
ولقائل أن يقول: يحتمل أن تلك الهفوة في نفس الحكم؛ فإنه لا يبعد أن يكون
الصواب ضم النعجة إلى القطيع لتحفظ وتأتي بالنسل، وأن بقاءها عند صاحبها
مَضيعة لها فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية كما ورد في الحديث الشريف.
واعتراف المدعي بأن خصمه عزّه في الخطاب دليل على أنه لم يطلبها إلا بحق
وبعِوض كثمن المثل أو منفعة أخرى من اللبن أو النسل. وفي البيضاوي وغيره
احتمال آخر في التأويل مروي، وهو أن الذين تسوروا المحراب كانوا يقصدون
اغتيال داود في يوم انفراده فوجدوا عنده قومًا فتصنّعوا بالتحاكم، فعلم غرضهم
وقصد أن ينتقم منهم ثم لم يجد مسوغًا شرعيًّا فعاتب نفسه، وظن أن الله تعالى أراد
ابتلاءه واختباره بذلك فاستفغر ربه مما هم به؛ لأن ذلك ذنب بالنسبة إلى مقامه،
وإذا كان لقصة امرأة أوريا أصل فيجب أن يكون مطابقًا لقضية الخصمين؛ بأن يكون
داود اعتقد أن امرأة جميلة في بيت جندي فقير خلف أسفار لا تسلم من تطلع السفهاء
وتعرّض الفجار، وأن الطريقة المثلى لصيانتها هي أن تكون في بيت النبوة والملك
وأنه كلم زوجها في أن يكفلها فأقنعه وعزّه في الخطاب؛ لأن هذا هو الصواب.
وإنما استغفر داود من ذلك؛ لأنه ظن أن اجتهاده في أمر المرأة مشوبٌ بشيء من ميل
النفس إلى كفالتها وأن هذا الميل هو الذي رجَّح في نفسه الرأي الأول بدليل أنه ظهر
له خلافه في قضية تشابه الأولى، ومثل هذا يعده هؤلاء الكمَلَة ذنبًا، وإن لم يكن فيه
مخالفة لأمر الله تعالى وحيد عن شريعته.
ومن تأمل ما تقدم القصة وما تأخر عنها من الثناء على داود عليه السلام علم
أن القرآن يتنزه في حكمته وبلاغته أن يكون ذكر الفاحشة فيه محتفًّا بهذا الثناء
والإطراء. ويقال: إن تنازل الرجل عن امرأته لآخر ليتزوج بها كان مشروعًا
عندهم. وقد آثر الأنصار المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين) بزوجاتهم فكان
من عنده امرأتان يطلق إحداهما ليتزوج بها أخوه المهاجر.
وفي القصة روايات كثيرة في كل فرع من فروعها لا يعبأ بها أهل العقل ولا
أهل النقل. فإن قبلنا منها شيئًا فلنقبل ما يوافق قواعدنا الثابتة، كرواية أن أوريا لم
يكن متزوجًا بالمرأة وإنما كان خاطبًا، ورواية نهي الإمام علي كرم الله وجهه عن
التحديث بالقصة على ما يرويه القصاص، ووعيده من خالف بجلد مائة وستين جلدة
وذلك حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام.
(م 92) الشبهة الأولى على سليمان عليه السلام
حاسب الله القصاص فلقد شوهوا كتب التفسير بقصصهم، استعرض
سليمان نبيّ الله وملك بني إسرائيل الخيل وهو نعم العبد {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} (ص: 31-32) المعقود
بنواصي الخيل لا عن هوى نفسي ولكن {عَن ذِكْرِ رَبِّي} (ص: 32) وَوحيه
الذي أمر برباط الخيل للدفاع عن الحق.
فما زالت تعرض {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) فقال {رُدُّوهَا
عَلَيّ} (ص: 33) لأراها مقبلة ومدبرة أو لأختبر حالها. فقد قيل: إنه كان
عالمًا بها وبأمراضها أو لأتمتع بمسح سوقها وأعناقها، فردُّوها عليه {فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} (ص: 33) كما هو شأن محبّي الخيل في كل جيل وزمان.
فأي هذيان أم أية شبهة في هذه الآيات على أن سليمان عليه السلام ترك صلاة
العصر شغلاً بالخيل حتى غربت الشمس، وأنه انتقم منها بقطع سوقها وأعناقها -
ولو كان المسح هو القطع لكان قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم} (المائدة: 6) بمعنى: اقطعوها - وأن قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} (ص: 33) خطاب
للملائكة الموكلين بالشمس يأمرهم بردها بعد غروبها ليصليَ العصر؟ وأيّ حاجة
لتطويل الفقهاء البحث في هذه الصلاة هل هي أداء أم قضاء؟ ولكن هذا قضاء
الله في قوم اشتغلوا عن لباب العلم بلَوْك القشور، ألا إلى الله تصير الأمور.
***
(م93) الشبهة الثانية على سليمان عليه السلام
رووا في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ
أَنَابَ} (ص: 34) روايات مضطربة متعارضة، فإذا حكَّمنا علم الرواية فإننا
نقبل رواية البخاري ومن وافقه، وملخصها: أن سليمان قال: لأطوفنَّ الليلة
على أربعين امرأة (من نسائه) تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل
إن شاء الله: فلم تحمل منهن إلا واحدة جاءت بشق رجل فألقي على كرسيه عرضًا
عليه، وسمي جسدًا؛ لأنه ليس إنسانًا كاملاً، فكان ذلك فتونًا واختبارًا من الله تعالى
له فأناب إليه وتاب أن يجزم بشيء دون الاستثناء بمشيئته؛ فأين التماثيل وعبادة
الأصنام ووثبان الشياطين على كرسيّ الملك وما أشبه هذا الهذيان الذي رووه؟
***
(م94) الشبهة على عصمة يوسف عليه السلام
إن ما جرى ليوسف مع امرأة العزيز كان قبل نبوته، وليس فيما قصه الله
تعالى علينا إلا أنه: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه} (يوسف: 24) فيجوز
أن يكون جواب لولا محذوفًا دلّ عليه ما قبله فتكون الآية ناطقة بأنه لم يهمّ، وبعض
النحاة جوَّز تقديم جوابها؛ أي: إنه لولا رؤية برهان رّبه لهمَّ بها لتوفّر
الدواعي ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء فلم يهمّ
ولو فرضنا أن الجواب (لغَشْيِهَا) وأنَّ الهمّ وقع منه لكان لنا أن نقول: إن الأنبياء
ليسوا معصومين من حديث النفس ومراودة الشهوة البشرية، ولكنهم معصومون من
طاعتها والانقياد إليها. ولو لم توجد عندهم داعية إلى خطأ لما كانوا مأجورين على
ترك المنكرات والمعاصي؛ لأنهم يكونون مجبورين على تركها طبعًا. والعنين لا
يؤجر ويثاب على ترك الزنا؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية
ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية فهو كفّ النفس عما تتشوّف إليه فهو عمل نفسي.
***
(م 95) الشبهة على إخوة يوسف
لا شك أن إخوة يوسف قد ارتكبوا المعصية المشتملة على عدة معاصي،
ولكنهم لم يكونوا أنبياء. وأما ذكر الأسباط، فيمن أوحى الله تعالى إليهم من الأنبياء
فالمراد به (والله أعلم) أنبياء الأسباط وهم فرق بني إسرائيل الاثنى عشر. قال
تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} (الأعراف: 160) ، وقد بعث الله
في كل أمة من هؤلاء الأسباط أنبياء وأوحى إليهم فعل الخيرات وهداية بني
إسرائيل. وما رواه ابن جرير الطبري من استغفار يعقوب لهم في وقت السحر
وتأمين يوسف عليهما السلام، وأن الله استجاب له على رأس العشرين سنة من دعائه
وأوحى إليه أنه غفر لهم (وعقد مواثيقهم على النبوة) فهو غير صحيح هذا هو
الحق في هذه القصص، وقد انكشفت به الشبه، فينبغي ذأن يلقن للمسلمين في الدروس
ويعلم للأطفال لكيلا يغتر أحد بما في كتب العهد العتيق التى يسمونها التوراة وبما
حشي في كتب قصص الأنبياء وبعض التفاسير من الإسرائيليات، {وَاللَّهُ
يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
لا وثنية في الإسلام
(نبذة من الجزء الثاني من كتاب أشهر مشاهير الإسلام الذي يطبع الآن)
(رأيت ما قاله عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار، وهو قول لا نحب أن
يفوتنا البحث فيه، لهذا رأينا أن نفرد له هذا الفصل فنقول [1] : أولع الإنسان
بالإفراط، كما أولع بالتفريط في كل شؤونه الروحية والجسمانية، ولو أنصف
واعتدل ولم يطلق لنفسه العنان ليبلغ مقام الملائكة في أعلى عليين أو يهبط بها إلى
مقر الشرور في أسفل سافلين؛ لكانت السعادة الدائمة به ألزم وطريق النعيم الحيوي
لديه أوسع، ولما احتاج إلى كثير من هذه القوانين وقوّامها، وزعماء السيطرة
وجنودهم، والحكام وأعوانهم، والسجون وحراسها، بل ولكان اكتفى بدين واحد قويم
وشرع إلهيّ مستقيم ولم يشوّه وجه الشرائع ولم يدعُ لتعدد الأديان وإرسال الرسل في آن وآن.
أجل، أولع الإنسان بالشطط حتى في العقائد، فبينا يكون هذا في طرف
التفريط مارقًا من كل دين منكرًا لكل نحلة، هائمًا في المادة التي يتناولها حسه، وينكر
ما فوقها عقله، يكون الآخر مسلمًا لعقيدته، بما لا يبعد طبعه عن طبيعته طالبًا بخياله
ما يظن له قدرة فوق قدرته، وسلطة أعلى من سلطته، وأوّل ما يلاقيه في طلبه يعلق
بقلبه ويظنه منتجع عقله والغاية التي يطلبها في سيره فتولع به نفسه ويقوى فيه أمله
ويختص به عمله فيغلو في عبادته غلو المادي في مادته، حتى يساويه من طرف
الأطراف بالتوجه تارة للأقمار وأخرى للأشجار وآونة للأحجار، ووقتًا للأرواح
وآخر للأشباح إلى غير ذلك مما هو داخل في المادة قريب من متناول الحس.
فكأن العقل الإنساني في حال الإيمان والكفر أسير المادة لا يفلت من شَرَك
الحس ولا يذعن إلى ما فوق المادة ويصعد إلى أفق الكمال إلا هنيهة ريثما يتلقى
برهان ربه بواسطة الأنبياء، ويطمئن إلى التسليم بقوة إلهية تفوق قوى المادة وتعلو
عن العقل وتتحكم على الكائنات تحكم الصانع المختار، ثم لا يلبث أن ينحط عن هذه
المرتبة، فيعود إلى نحيزته الأولى للهبوط إلى هوة النقص والتوجه إلى مظاهر
المادة ولو تدريجيًّا حتى يلتصق بالحضيض، ويعود إلى الشرك وهو يظنه الإيمان
ويخاله منتهى العبادة، وإنْ من دين إلا أصيب أهله بهذا المصاب وأشركوا مع الله
الأرواح تارة، وأخرى الأنصاب توصلاً إليه على زعمهم بالحس، وارتياحًا إلى ما
تحت النظر والعقل، والله سبحانه وتعالى فوق ما يتصورون، ليس من المادة ولا
المادة منه، بل هي مخلوقة له مفتقرة إليه، وليس بينه وبين خلقه سبب منها
يتوصل به إليه بل هو كما قال في كتابه الكريم: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَاّ
بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) الآية.
ومن الثابت أن العرب كانوا على دين إبراهيم الذي هو كباقي الأديان الإلهية
دين التوحيد بالله والإيمان بأنه تعالى خالق الكون وما فيه، وإنكار ما دون ذلك من
الاعتقاد بشيء من المادة ومن التمسك في العمل بأهداب الشرك، ولكن لم يلبثوا أن
تدرجوا في مدارج المادة وهبطوا إلى حضيض الشرك، وتدرجوا من الاعتقاد
بالأرواح إلى الاعتقاد بالأشخاص ثم إلى الاعتقاد بالأنصاب والأحجار، وغير ذلك
مما هو داخل في المادة واقع تحت الحس.
وهم مع ذلك كانوا يزعمون أنهم مؤمنون لا مشركون، وأنهم بعبادة المادة
يعبدون الله ويتقربون بها إليه كما أخبر عن ذلك القرآن بقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) وهذا من الإغراق في الجهل،
والانحطاط في العقيدة والإفساد لأصل التوحيد. ولم يكن هذا الإفساد قاصرًا على
العرب فقط بل عمَّ سائر أرباب الأديان، مما لا محل لبسطه الآن.
إذا تمهد هذا علمنا أن الإسلام بما جاء به من آيات التوحيد الخالص من كل
شائبة من شوائب الشرك إنما جاء لاستئصال شأفة الوثنية من نفوس العرب وغيرهم
من أرباب الأديان بمحو شائبة الاعتقاد بأي أثر من آثار المادة، وصرف النفوس عن
التوجه إلى تلك الآثار بالحس لتتوجّه إلى واجب الوجود بالضمائر، والاكتفاء
باستحضار هيبة جلاله في القلب، وتمكين الاعتقاد بأن الأثر الواقع تحت الحس إنما
يقوم قوامه بالمؤثر المستحضر في الضمير الخارج عن الحس؛ إذ بغير هذا لا يقوم
للتوحيد أثر متين في النفس ينجي من مزلة القدم إلى الوثنية المفضية إلى الشرك
المؤدي إلى الجحود، وإنما الإنسان مادة، وهذه أعراض منها تنمو وتعظم في النفس
ما دامت النفس مستشعرة بشيء من وجوب التعظيم لغير الله تعالى والتوجه لأيّ أثر من آثار المادة وساء منقلب الظالمين.
هذا هو التوحيد الذي جاء به الإسلام ودعا إليه النبي محمد عليه الصلاة
والسلام، وإنما اضطربت العقول وساءت الأوهام لتفاوت الأفهام، وتباين
مراتب المسلمين في العلم بحقيقة الدين والإحاطة بأسراره، والوقوف على جميع
مقاصده حتى على عهد الرسالة، وإليك الدليل:
أخرج الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في سيرته العمرية عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب في حجة حجها قال: فقرأ بنا في الفجر
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ} (الفيل: 1) و {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1) فلما انصرف رأى الناس مسجدًا فبادروه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا
مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا أهلك أهل الكتاب
قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له فيه صلاة فليصلّ، ومن لم
تعرض له صلاة فليمضِ.
فلو كان أولئك المصلون يومئذ في مرتبة عمر في العلم، واستشعروا من إقبالهم
على ذلك المسجد للصلاة فيه تعظيمًا له كما استشعر به عمر رضي الله عنه وعنهم
أجمعين لما بادروا للصلاة فيه إلا إذا عرضت لهم صلاة. ولا جرم أن أعظم الناس
فهمًا للإسلام وعلمًا بغوامض الدين ووقوفًا على مقاصد النبوّة المحمدية وما كانت
تدعو إليه من التوحيد البحت الخالي عن كل شائبة من الشوائب التي مَرّ ذكرها -
هم أهل السابقة من المهاجرين الأولين الذين تلقوا الدين أنجمًا كان ينزل بها الوحي
على رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن البعثة، ولازموا الرسول ملازمة الظل،
فاكتنهوا سرّ، شريعته وأدركوا مرامي غرضه، وقلدوه في أعماله وأقواله، وانتهجوا
منهجه واهتدوا بسيرته، فتفوقوا على غيرهم في العلم بالدين وعرفوا حقيقة التوحيد.
ومن هؤلاء من هم في المرتبة الأولى في فهم مقاصد الإسلام، ومنهم عمر
ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومن تتبع سيرته وأمعن النظر في أقواله وأفعاله
وانطباقها على الكتاب الكريم ونهج السنة القويم، علم ما هو التوحيد الذي أرشد إليه
الإسلام وعرفه أولئك الصحابة الكرام، فأرادوا أن يمحوا به كل أثر من آثار الوثنية
عن صفحات الضمائر والقلوب. وحسب العاقل دليلاً على هذا قول عمر ابن
الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار لما أشار عليه بجعل المصلَّى إلى الصخرة:
(لقد ضاهيت اليهودية يا كعب. إلى قوله: اذهب إليك [2] فإنا لم نؤمر بالصخرة
ولكنَّا أُمرنا بالكعبة) وقد مرّ الخبر في الفصل السابق نقلاً عن الطبري، ولأجله
عقدنا هذا الفصل ليكون به عبرة وذكرى لقوم يعقلون.
تقدم معنا كيف تدرّج العرب إلى الوثنية حتى أنسوا بلمس الأحجار، وعكفوا
على عبادة الأصنام، وأن أصول التوحيد عند أرباب الأديان كلها أفسدت تدريجًا كما
حصل في دين العرب. وإنما كان مبدأ هذا التدريج الاستسلام للشعور بوجوب تعظيم
مظهر من مظاهر المادة يظن أن له صلة بما فوق المادة كالعابد مثلاً، ثم يأخذ هذا
الشعور ينمو ويتعدى المظهر الأول إلى غيره، ويتدرج في أطوار التعبد له حتى
تنقلب صورة التوحيد المرتسمة على صفحات الضمائر إلى صورة من صور المادة
مجسمة للحس، ويستحيل الإيمان بإله واحد فوق المادة إلى آلهة شتى كلها من المادة
أو لها صلة بها.
وهذا هو الشرك التام الجلي، ومبدؤه ذلك الشرك الخفي، ولم تكن دعوة
الإسلام قاصرة على استئصال الوثيقة فقط ، بل كان من مقاصدها الأولى والغايات
التي ترمي إليها - بل من أولاها بالاهتمام وأجدرها بالعناية - تطهير النفوس من كل
أثر من آثار ذلك الشعور الفاسد، ولو أشبه بدقته دقة الجرثومة الحية التي لا ترى إلا
بالنظارة المكبرة، إلا أنها إذا وجدت منبتًا صالحًا لها تولد عنها ما لا يحصى من
الجراثيم في بضع ثوان.
فمن قال بخلاف ذلك، أو ظن أن الإسلام يتسامح في تلك الجزئيات أو يبيح
تعظيم أي مظهر من مظاهر المادة تعظيمًا دينيًّا؛ فقد أخطأ ونسب العبث إلى دين الله
لهذا. ولما أشرب قلب عمر رضي الله عنه من التوحيد الحق الصادق لم
يتسامح مع كعب الأحبار حتى في خلعه عند دخوله المسجد الأقصى، وأخذه على
عمله ذلك كما أخذه على رأيه في جعل المصلى إلى الصخرة كما رأيت وسترى من
أخباره بهذا الصدد إن شاء الله.
هكذا كان فهم كبار الصحابة للدين ، ومن أمعن النظر في قول أبي بكر
الصديق رضي الله عنه في إحدى خطبه التي مر إيرادها في هذا الكتاب وهو (إن
الله لا شريك له، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف
عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره) يعلم كيف كان أولئك الصحابة الكرام يعلّمون
الناس التوحيد، ويقتلعون من أعماق نفوسهم أصول الشرك. ورحم الله امرأً حاسب
نفسه وعرف دينه وتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ونبذ بدع
النفوس وأهواءها، وتنكب مواضع الزلل ومواقع الخطأ وسوء الفهم، والله ولي الرحمة وهو القاهر فوق عباده) . اهـ
_________
(1)
يريد قول عمر لكعب: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، ولقد رأيتك وخلعك نعليك. وذلك حين استشاره في أمر قبلة المسجد فأشار بجعل المصلى إلى الصخرة.
(2)
هكذا جاءت هذه العبارة في تاريخ الطبري بهذا اللفظ ولعلها إليك عني اهـ من الأصل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات المسيحيين
وحجج المسلمين
نشرت مجلة بشائر السلام الإنجيلية في الجزء الرابع منها نبذة في الطعن
بالمسلمين عامة وبأكابر الصحابة الكرام خاصة، وذلك أن عابتهم وعابت دينهم
بالرجاء لفضل الله والخوف من الله ، وهذا مبلغ القوم من العلم بالله وبدين الله، أثبتت
(إن كثيرين من المسلمين يموتون على بساط الرجاء بدخول الجنة والتنعم بنعيمها بناء
على ما لهم من المواعيد الكريمة في قرآنهم) إلى أن قالت: (وما علة ذلك سوى
جهلهم حقيقة أنفسهم وكمالات الباري تعالى) ثم قالت مستدركة: إن أولي العلم
والذكاء من المسلمين غالوا في النسك والتعبد والصلاة والابتهال إلى الله تعالى
وجعلتْ علة هذه العبادة أنهم لم يجدوا ما يريح نفوسهم من الشعور بثقل حمل
خطاياهم.
واستشهدت على المعلول دون العلة بكلام في الخوف من الله عن أبي بكر
الصديق وعلي بن أبي طالب وسفيان الثوري، وعُدَّ سفيان من الصحابة وما هو
من الصحابة، ولكن العلم ليس شرطًا للقول عند هؤلاء المشاغبين، وفي العبارة أيضًا
تحريف، وليست الأمانة من شروط النقل عند هؤلاء المبشرين.
وما لنا وللبحث في الروايات التي نقلتها وبيان التحريف ، وضعف الضعيف؟
نضرب عن ذلك صفحًا، وعن العبارات التي أساء بها الكاتب الأدب مع هؤلاء
الأئمة الذين يفتخر بهم النوع الإنساني ، ولو صدق المسلمون هذه الكتب التي تسمى
التوراة، وسمح لهم دينهم بتفضيل أحد على الأنبياء لكان لهم من التاريخ ما يفضلون
به هؤلاء الأئمة على أنبياء التوراة؛ إذ لم ينقل عن واحد منهم مثلما نقل القوم عن
أنبيائهم من القسوة والظلم والسكر والزنا وسفك الدماء برأهم الله مما قالوا.
نغضّ الطرف عن هذا ونبين للقراء أن الغرض من ذم الخوف والرجاء اللذين
هما الركنان لكل دين صحيح هو تقرير قاعدة إباحة المعاصي والشرور التي هي
العنوان لبشارتهم والجاذبة إلي ديانتهم ، وهي أن النجاة في الآخرة من العذاب
والحياة الأبدية في الملكوت إنما يحصلان باعتقاد أن الإله لم يجد وسيلة لنجاة البشر
من ذنب أبيهم آدم إلا بحلوله في جسم إنسان، وتسليط طائفة كانت أفضل الشعوب
عليه، وصلبها إياه وصيرورته ملعونًا بحكم الناموس والشريعة! ! فمن أطفأ سراج
عقله وأفسد فطرة نفسه وسلم بهذه القاعدة فهو الناجي الذي يرث الملكوت الأعلى، وإن
قَتَلَ وَزَنى وسكر وأكل أموال الناس بالباطل وظلم العباد وكان آفة العمران. ولذلك
صرح الكاتب الذي لا أقدر أن أصفه إلا بكونه مبشرًا داعيًا إلى هذه العقيدة بأن
سبب خوف أبي بكر وعلي وسفيان من الله هو جهلهم بقاعدة الفداء ، يعني أنهم لو
عرفوا وصدقوا بها لكانوا عاشوا آمنين من مكر الله وعذابه، يسرحون ويمرحون في
أهوائهم وحظوظهم.
والحاصل أن المسلم الذي يغلب عليه الرجاء بفضل الله ووعده للمحسنين بالنعيم
جاهل ضال ، والذي يخاف الله هيبة وتعظيمًا أو لاتهام نفسه بالتقصير في
الأعمال الصالحة النافعة للناس وفي المعارف والكمالات المزكية للنفس ، فهو
جاهل ضال. وأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله من غير تفرقة بينهم وتهذيب
الأخلاق وإصلاح الأعمال - كل ذلك لا ينفع المسلم الصادق ولا يغني عنه شيئًا،
فما حيلة المسلم المسكين إذا ابتلاه الله تعالى بسلامة الفطرة ونور العقل فلم يقبل تلك
القاعدة التي تفصَّى منها الذين تربوا عليها تقليدًا لما عقلوا وميزوا، على أن كتب القوم
لا تخلو من نصوص تدل على أن رسلهم ومقدسيهم كانوا يخافون من الله تعالى
ويرجون رحمته؛ لأنهم لم يكونوا إباحيين بل كانوا قومًا صالحين.
إن القرآن الحكيم علمنا بأن دين الله تعالى واحد في جوهره ، وأن جميع
الأنبياء وصالحي المؤمنين بهم كانوا عليه، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن صفات
الحوادث وإفراده بالعبادة والخوف الزاجر عن المعاصي والشرور والرجاء الباعث
على الخير والصلاح، وإننا نرى جميع عقلاء المسيحيين يوافقوننا على هذه القاعدة
ويودون أن يهتدي إليها دعاة كل دين ورؤساؤه ليكون الدين كما شرع الله سعادة
للبشر ، لا وبالاً وشقاءً عليهم ، ومثارًا للخلاف والشحناء والبغضاء بينهم.
وقد ذكر الإمام الغزالي أنواعًا للخوف كخوف الموت قبل التوبة، وخوف نقض
التوبة ونكس العهد وخوف ضعف القوة عن الوفاء بالحقوق، وخوف زوال رقة القلب
وتبدلها بالقساوة وخوف الميل عن الاستقامة، وخوف استيلاء العادة في اتباع
الشهوات المألوفة، وخوف الغرور بالحسنات وخوف البطر بكثرة النعم وخوف
انكشاف غوائل الطاعات بأن يبدو للمرء ما لم يكن يحسب وخوف ما عساه يطرأ
عليه في مستقبله، وخوف نزول البلاء، وخوف الاغترار بزخرف الدنيا وخوف
اطلاع الله على السريرة في حال الغفلة وخوف سوء الخاتمة. ويمكن استنباط أنواع
أخرى، وأعلى الخوف خوف المهابة والإجلال لله عز وجل، وكل ذلك من الذنوب
عند هؤلاء المبشرين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإسلام في إنكلترا
رأينا في كراسة سياسية تسمى (ديبلوماتيك فلي شينس) أي: المنشورات
السياسية لشهري نوفمبر وديسمبر سنة 1887 مقالة بإمضاء المستر جورج كراشي
أحد أعضاء البرلمنت الإنكليزي أخذنا منه ما يأتى تعريبه وهو:
الإسلام دين لا يبتدع أحكامًا، ولا يخترع للوحي أساسًا جديدًا، ولا يوصي بغير
معهود ليس له كهنوت خاص ولا رئاسة كنسية، ولكنه يسن للملة شرعًا وللدولة قانونًا
يكون تنفيذهما باسم الدين. هذا ما قاله (داود أرقوهارت) في المجلد الأول من
كتابه المسمى بروح الشرق في الصفحة الخامسة والعشرين من مقدمة طبعته الثانية
سنة 1839.
إن حقيقة الإسلام التي أماط الحجاب عنها أولاً من اشتهر بروح الشرق،
وأبرزها للمرتابين من الغربيين، لم تزل تزداد وضوحًا منذ كشفها حتى تجلت اليوم
بنفسها على وجه لم يبق معه للأكاذيب المفتراة على الإسلام سبيل لسلطتها على
النفوس فيما بعد ذلك التجلي الباهر كان فيما ألقاه القسيس (إسحاق طيلر) من
خطابته في المحفل الديني، صدق أرقوهارت في دعواه أن حقيقة الإسلام أمر مسلّم
عند كثيرين، فالنبلاء الكرام (بالكراد) و. مبري و. راولنسون و. لايارد
و. رولاند و. ستانلي أوف ألدرلي و. ديشانسكي وقوم آخرون من قبيلهم شاركوه
في البصيرة وصدقوه فيما قرره. وكل مسافر عاشر الأقوام المحمدية وأنس إليهم،
فله عنهم خبر محمود ومع ذلك كله نرى الجمهور في إنكلترا لم تزل آراؤهم في
مواقفها الأولى.
كانت الحقيقة في احتجاب عن أنظار العامة لأن أكثر أهالي إنكلترا
مصروفون إلى النصرانية عن النظر فيما سواها، وتوارثوا فيها عصبية تظهر لهم
في شعار الدين أما الآن وقد قام قسيس محترم من البيعة الإنكليزية يصدع بهذا الحق،
فلا بد أن يصغي إلى قوله ويذعن له ملايين ممن كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم
ويعرضون عن مقالات قوم يعدونهم سياحين أو متفلسفين.
هذه الحقائق مما لا يقبل الإنكار، وإنما كان الإشكال في طريق اجتلاب
الخواطر إليها حتى تجتليها، وحيث زال هذا الإشكال بهمة أحد القسيسين المحترمين
فالغاية المطلوبة أصبحت مما لا يشك فيه معشر الذين قبلوا نصيحة داود أرقومارت.
ليس السعي لبيان أن الإسلام مما يمكن احتماله فقط، بل لم نزل نطلب أن يكون من
النفوس في مكانة الاحترام، وقد استيقنّا الآن أن رجاءنا المُرْجَأ قد تحقق ومدّعانا
الحق قد سلم به.
لا ينبغي أن يظن أننا نحسب دين الإسلام مخالفًا للدين المسيحي، فذلك مما لم
يخطر لنا ببال قط، وقصارى ما نقول: إن الغاية من كل دين إنما هو العمل الصالح
والمسلك المستقيم، ولسنا نحكم على أبناء جنسنا إلا كما قال المسيح عليه السلام
(بثمراتهم تعرفونهم) وحيث استمسكنا بهذا الأصل فلنا أن نجهر بأن المعتقدين بالدين
المسيحي في هذه الأوقات ليسوا بمنزلة يفضلون بها على المسلمين.
هذا الحق ننادي به ونحن على يقين منه ونحثّ الذين يقولون إنا نصارى. على
أن يضعوا الإسلام في منزلة تنطبق على الواقع ونفس الأمر، فإن استطاعوا أن
يدحضوا حجتنا بالبراهين الساطعة فليعملوا على مكانتهم، وإن لم يفعلوا ولن يفعلوا
فليكن نظرهم إلى الإسلام على حد ما بيّنا مناسبًا للحقيقة الواقعية، ولينصفوا الإسلام
ذلك الدين القيم الذي هو نظام لمعيشة قسم عظيم من أمم كريمة كثيرة العدد من النوع
البشري.
مما يهم الشعب الإنكليزي خاصة أن يتخلصوا من أطوار التعصب التي لا
تنحصر آثارها في إلحاق العار بهم فقط بل تتعدى إلى جلب المضرة عليهم أيضًا؛ لأن
لحضرة الملكة ملايين من رعاياها كلهم مسلمون ونحن في مقام على أحد جانبيه
دولة الروسية، وعلى الجانب الآخر الدولة العثمانية ولا يمكننا أن نزعم عدم المبالاة
بعقابيل الحروب التي قامت على سوقها بين هاتين الدولتين من أمد بعيد، وإلى الآن
لم تضع أوزارها وضعًا حقيقيًّا. إن الدولة الروس لا يمكنها أن تكون في حرب
مستمرة، لكنها لا تراعي ما تكلف به من شروط السلام ولا يزال وكلاؤها الخفيّون
مشتغلين بالعمل (كذا) وما من زمان إلا والحذر فيه من الروسية ضروري للباب
العالي وهذا مجموع أحوال توجب على دولة الإنكليز أن تسأل نفسها آنًا بعد آن: هل لنا أن نقاوم الروسية أو ندعها وشأنها؟
كل وجه من وجوه السياسة يتعلق بسلامة الدولة الإنكليزية وبقائها، يرشدنا
إلى الاعتراف بلزوم عقد معاهدة مع الدولة التي لم تضرنا قط، وفتحت فُرَصَها
لتجارتنا، وأبواب بلادها لأشغالنا، أما الصيحة الفارغة بأن الروسية دولة نصرانية،
والدولة العثمانية دولة محمدية فقد كان لها إلى الآن أسوأ الأثر في إعماء عقولنا
وخطلنا في سياستنا، فلنأخذ من الآن بأصل صحيح وهو أن نعلق الحكم بالأعمال لا
بالعقائد، فإنه ليس خاصًا بالأفراد، بل كما يكون بها يكون بالأقوام والدول أيضًا،
فإن قابلنا بين روسيتنا النصرانية وبين العثمانية المحمدية لم يشك في أن المعاهدة
مع العثمانية هي التي تظهر أفضليتها عند الحاكمين بالحق أجمعين، وإذا ذكرنا
المعاهدة العثمانية فلا نستعمل اللفظ فيها بمعناه السياسي أو تركيبه الديبلوماسي، ولا
ينبغي أن يفهم ذلك من كلامنا، إنما المعاهدة التي كنا نجتهد في إعدادها لسنين طويلة
كانت معاهدة مبنية على شروط مساواة مؤسسة على الاحترام من الجانبين، وظهر لنا
في الأزمان الماضية أن إكمال مثل تلك المعاهدة من المحال. أما الآن فلا نقول: إنها
من قبيل الممكن الذاتي فقط بل صارت من قبيل ما بالقوة القريبة من الفعل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة الاجتماع الثاني
لجمعية أم القرى
الداء
أو: الفتور العام
أجابه (المرشد الفاسي) إننا كنا على عهد السلف الصالح وشريعتنا سمحة
واضحة المسالك معروفة الواجبات والمناهي، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وظيفة لكل مسلم ومسلمة، وكنا في بساطة من العيش متفرغين لذلك، ثم شغلنا
شأن التوسع فخصصنا لذلك محتسبين ثم دخل في ديننا أقوام ذوو بأس ونفاق أقاموا
الاكتساب مكان الاحتساب، وحصروا اهتمامهم في الجباية وآلتها التي هي الجندية
فقط؛ فبطل الاحتساب وبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طبعًا، فهذا يصلح
أن يكون سببًا من جملة الأسباب، ولكنه لا يكفي وحده لإيراث ما نحن فيه من الفتور.
على أن انحصار همة الأمراء الدخلاء في الجباية والجندية أدى بهم إلى
إهمال الدين كليًّا ولولا أن في القرآن آيتين اثنتين لهجروه ظهريًّا إحداهما قوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) مع الغفلة عن
المراد بكلمة (أولي) وما تقتضيه صيغة الجمع وما يقتضيه قيد منكم. والثانية قوله
تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 218) مع إغفال بيان الجهاد المأمور
به؛ هل هو ما يكون به إعزاز كلمة الله أم ما تؤيد به سلطة الأمراء العاملين على
الإطلاق؟ فإهمال الاهتمام بالدين قد جر المسلمين إلى ما هم عليه حتى خلت قلوبهم
من الدين بالكلية، ولم يبق له عندهم أثر إلا على رءوس الألسن لا سيما عند بعض
الأمراء الأعاجم الذين ظواهر أحوالهم وبواطنها تحكم عليهم بأنهم لا يتراءون بالدين
إلا لقصد تمكين سلطتهم على البسطاء من الأمة، كما أن ظواهر عقائدهم وبواطنها
تحكم عليهم بأنهم مشركون ولو شركًا خفيًّا من حيث لا يشعرون.
فإذا أضيف إلى شرهم هذا ما هم عليه من الظلم والجور يحكم عليهم الشرع
والعقل بأن ملوك الأجانب أفضل منهم وأولى بحكم المسلمين لأنهم أقرب إلى العدل
وإقامة المصالح العامة وأقدر على عمارة البلاد وترقية العباد، وهذه هي حكمة الله في
نزع الملك من أكثرهم كما يقتضيه مفهوم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ} (هود: 117)[1] . وقد افتخر النبي عليه السلام بأنه ولد في زمن
كسرى أنوشروان عابد الواكب [2] فقال: (ولدت في زمن الملك العادل)[3]
وحكى ابن طباطبا في (الآداب السلطانية والدول الإسلامية) أنه لما فتح
السلطان هلاكو (وهو مجوسي) بغداد سنة (656) أمر أن يستفتى علماؤها: أيّ
الرجلين أفضل السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ فاجتمع العلماء
في المستنصرية لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب حيث كان رضي
الدين علي بن طاووس حاضرًا وكان مقدمًا محترمًا فتناول الفتيا ووضع خطَّه
فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الظالم فوضع العلماء خطوطهم بعده.
ثم قال: إني أظن أن السبب الأعظم لمحنتنا هو انحلال الرابطة الدينية؛ لأن
مبنى ديننا على أن الولاء فيه لعامة المسلمين، فلا يختص بحفظ الرابطة والمسيطرة
على الشؤون العمومية رؤساء دين سوى الإمام إن وجد وإلا فالأمر يبقى فوضى بين
الجميع، وإذا صار الأمر فوضى بين الكل فبالطبع تختل الجامعة الدينية وتنحل
الرابطة السياسية كما هو الواقع. ومن أين لنا حكيم (كبسمرك) أو ملزم
(كغاريبالدي) يوفق بين أمرائنا أو يلزمهم بجمع كلمتنا. وقد زاد على ذلك فقدنا
الرابطة الجنسية أيضًا، فإن المسلمين في غير جزيرة العرب لفيف أخلاط دخلاء،
وبقايا أقوام شتى لا تجمعهم جامعة غير التوجه إلى هذه الكعبة المعظمة.
ومن المقرر المعروف أنه لولا رءوساء الدين في سائر الملل وروابطهم
المنتظمة المطردة أو من يقوم مقام الرؤساء من الدعاة أو مديري ومعلمي المدارس
الجامعة المتحدة المبادئ لضاعت الأديان وتشعب أخلاق الأمم ونالهم ما نالنا من
كون كل فرد منا أصبح أمة في ذاته.
أجابه (المحقق المدني) إن فقد الرابطة الدينية والوحدة الخلقية لا يكفيان أن
يكونا سببًا للفتور العام بل لابد لذلك من سبب أعم وأهم. ثم قال: أما أنا فالذي
يجول في فكري أن الطامة هي من تشويش الدين والدنيا على العامة بسبب العلماء
المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فضيعوه وضيعوا أهله. وذلك
أن الدين إنما يعرف بالعلم، والعلم يعرف بالعلماء العاملين، وأعمال العلماء قيامهم
في الأمة مقام الأنبياء في الهداية إلى خير الدنيا والآخرة. ولا شك أن لمثل هذا
المقام في الأمة شرفًا باذخًا يتعاظم على نسبة الهمم في تحمل عنائه والقيام بأعبائه.
فبعض ضعيفي العلم وفاقدي الدم تطلعوا إلى هذه المنزلة التي هي فوق طاقتهم،
وحسدوا أهلها المتعالين عنهم، فتحيلوا للمزاحمة والظهور في مظهر العلماء العظماء
بالإغراب في الدين ، وسلوك مسلك الزاهدين. ومن العادة أن يلجأ ضعيف العلم
إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر، وكما يلجأ قليل المال إلى زينة اللباس
والأثاث (مرحى) .
فصار هؤلاء المتعالمون يدلسون على المسلمين بتأويل القرآن بما لا يحتمله
محكم لفظه الكريم، فيفسرون البسملة أو الباء منها مثلاً بسفر كبير تفسيرًا مملوءًا
بلغط لا معنى له، أو تحكم لا برهان عليه، ثم جاءوا الأمة بوراثة أسرار ادعوها
وعلوم لدُنيات ابتدعوها وتسنيم مقامات اخترعوها ووضع أحكام لفقوها وترتيب
قربات زخرفوها. وبالإمعان نجدهم قد جاءوا مصداقًا لما ورد في الحديث الصحيح
(لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع - وفي رواية: حذو القذة بالقذة -
حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال هو
فمن؟) . وذلك أن هؤلاء المدلسين اقتبسوا ما هنالك كله أو جله عن أصحاب
التلمود وتفاسيرهم ومن المجامع المسكونية ومقراتها ومن البابوية ووراثة السر ومن
مضاهاة مقامات البطارقة والكردينالية والشهداء وأسقفية كل بلد ومطاهر القديسين
وعجائبهم والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها وحالة الأديرة
وبادريتها، والرهبنة أي التظاهر بالفقر ورسومها والحمية وتوفيتها ورجال الكهنوت
ومراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم ومن مراسم الكنائس وزينتها، والبيع
واحتفالاتها والترنحات ووزنها والترنمات وأصولها، وإقامة الكنائس على القبور
وشد الرحال لزيارتها والإسراج عليها والخضوع لديها وتعليق الآمال بسكانها.
وأخذوا التبرك بالآثار كالقدح والحربة والدستار من احترام الذخيرة وقدسية
العكاز، وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر بعض الصالحين من إمرارها
على الصدر لإشارة التصليب، وانتزعوا الحقيقة من السر، ووحدة الوجود من
الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء
المصدرة بالندامة على الجدران من تعليق الصور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة
من التوجه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام، ومنع الاستهداء من نصوص الكتاب
والسنة من حظر الكهنة الكاثوليك قراءة الإنجيل على غيرهم، وسد اليهود باب
الأخذ من التوارة وتمسكهم بالتلمود إلى غير ذلك مما جاء به المدلسون تقليدًا لهؤلاء
شبرًا شبرًا واقتفاء لأثرهم بالدخول حيث دخلوا جُحرًا جحرًا. وهكذا إذا تتبعنا
البدع الطارئة نجد أكثرها مقتبسًا وقليلها مخترعًا.
وقد فعل المدلسون ذلك سحرًا لعقول الجهلاء، واختلابًا لقلوب الضعفاء كالنساء
وذوي الأهواء والأمراض القلبية أو العصبية من العامة والأمراء السلسي القياد طبعًا
إلى الشرك؛ لأن التعبد رغبة أو رهبة لما بين أيديهم وتحت أنظارهم أقرب إلى
مداركهم من عبادة إله ليس بجوهر ولا عرض وليس كمثله شيء، ولأن التعبد باللهو
واللعب أهون على النفس والطبع من القيام بتكليفات الشرع كما وصف الله تعالى
عبادة مشركي الرب فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلَاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَة} (الأنفال: 35) أي: صفيرًا وتصفيقًا وهؤلاء جعلوا عبادة الله تصفيقًا وشهيقًا
وخلاعة ونعيقًا (مرحى) .
والحاصل أنه بذلك وأمثاله نجح المدلسون فيما يقصدون، ولا سيما بدعوى فئة
منهم الكرامة على الله والتصرف بالمقادير وباستمالتهم العامة بالزهد الكاذب والورع
الباطل والتقشف الشيطاني وبتزيينهم لهم رسومًا تميل إليها النفوس الضعيفة الخاملة
سموها آداب السلوك ما أنزل الله بها من سلطان ولا عمل بها صحابي ولا تابعي،
ظاهرها أدب وباطنها تشريع وشرك، وبجذبهم البله الجاهلين لتصعيب الدين من
طريق العلم والعمل بظاهر الشرع، وتهوينه كل التهوين من طريق الاعتقاد بهم
وبأصحاب القبور.
وقد تجاسروا على وضع أحاديث مكذوبة أشاعوها في مؤلفاتهم حتى التبس
أمرها على كثير من العلماء المخلصين من المتقدمين والمتأخرين مع أنها لا أصل
لها في كتب الحديث المعتبرة. وجلبوا الناس بالترهيب والترغيب، أما الترغيب:
فبالاستفادة من الدخول في الرابطات والعصبيات المنعقدة بين أشياعهم. وأما
الترهيب: فبتهديدهم مناوئيهم أو مسيئي الظن بهم بإضرارهم في أنفسهم وأولادهم
أموالهم ضررًا يتعجلهم في دنياهم قبل آخرتهم. (مرحى)
وقد قام لهؤلاء المدلسين أسواق في بغداد ومصر والشام وتلمسان قديمًا،
ولكن لا كسوقها القائم في القسطنطينية منذ أربعة قرون إلى الآن حتى صارت فيها
هذه الأوهام السحرية والخزعبلات كأنها هي دين معظم أهلها، لا الإسلام، وكأنهم لما
ورثوا عن الروم الملك حرصوا على أن يرثوا طبائعهم أصلاً حتى التوسع في هذه
المصارع السيئة، فاقتبس لهم المدلسون كثيرًا مما طبقوه على الدين، وإن كان الدين
يأباه، وزينه لهم الشيطان بأنه من دقائق الدين، ومن هذه العواصم سرى ذلك إلى
الآفاق بالعدوى من الأمراء إلى العلماء الأغبياء إلى العوام.
فهؤلاء المدلسون قد نالوا بسحرهم [4] نفوذًا عظيمًا، به أفسدوا كثيرًا في الدين
وبه جعلوا كثيرًا من المدارس تكايا للبطالين؛ الذين يشهدون لهم زورًا بالكرامات
المرهبة وبه حولوا كثيرًا من الجوامع مجامع للطبالين الذين ترتد من دوي طبولهم
قلوب المتوهيمن، وتكفهر أعصابهم فيتلبسهم نوع من الخيل يظنونه حالة من الخشوع
وبه جعلوا زكاة الأمة ووصاياها رزقًا لهم وبه جعلوا ربع أوقاف الملوك والأمراء
عطايا لأتباعهم مما نسمي في البلاد العثمانية (دعا كوا وطعامية)(مرحى) .
وبذلك ضاق على العلماء الخناق لا رزق ولا حرمة وكفى بذلك مضيعًا للعلم
وللدين؛ لأنه قد التبس على العامة علماء الدين بالفقراء الأدلاء من هؤلاء
المدلسين الأغنياء الأعزاء، فتشوشت عقائدهم وضعف يقينهم فضيع الأكثرون
حدود الله وتجاوزوها، وفقدوا قوة قوانين الله ففسدت أيضًا دنياهم واعتراهم هذا
الفتور.
أجاب (المولى الرومي) إن كل الديانات مُعَرَّضة بالتمادي لأنواع من
التشويش والفساد، ولكن لا تفقد من أهلها حكماء ذوي نشاط وعزم ينبهون الناس
ويرفعون الالتباس، أو يعوضون قواعد الدين إذا كان أصلها واهيًا (لا متينًا كقواعد
الإسلام) بقوانين موضوعة تقوم بنظام دنياهم ويتحملون في سبيل ذلك ما يتحملون
من المشاق خدمة لأفكارهم السامية، ويبذلون ما عز وهان حفظًا لشرفهم القائم بشرف
قومهم، بل حفاظًا لحياتهم وحياة قومهم من أن يصبحوا أمواتًا متحركين في أيدي
أقوام آخرين. ولقد أثبت الحكماء المدققون بعد البحث الطويل العميق أن المَنْشأ
الأصلي لكل فساد في أخلاق العباد، والمَنْبَت الأول لكل شقاء في بني حواء هو أمر
واحد لا ثاني له؛ ألا وهو وجود السلطة القانونية منحلة ولو قليلاً لفسادها، أو لغلبة
سلطة شخصية عليها من فرد أو أكثر، فما بال الزمان يَضِنُّ علينا برجال ينبهون
الناس، ويرفعون الالتباس، يفتكرون بحزم، ويعلمون بعزم، ولا ينفكون. حتى
ينالوا ما يقصدون، فينالوا حمدًا كثيرًا، وفخرًا كبيرًا، وأجرًا عظيمًا؟ وعندي أن
داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين وبعبارة أخرى تحت ولاية
الجهال المتعممين.
وهنا نبه السيد الفراتي الأستاذ الرئيس إلى قرب وقت الانصراف؛ عندئذ
جهز (الأستاذ الرئيس) بشعار (لا نعبد إلا الله) تنبيهًا للإخوان وقال لهم إن أخانا
المولى الرومي لفارس مغوار نحب ما عودنا من التفصيل والإشباع، والآن قد آن
وقت الظهر وحان أن نتفرق لندرك الصلاة وموعدنا غدًا إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الظلم هنا الشرك.
(2)
يظن أن اتخاذ الشمس إلى الآن شارة للملك في إيران وكذلك اتخاذ الهلال والنجم شارة للملك عند الترك هو من بقايا دياناتهم الأولى.
(3)
الحديث موضوع باطل وإن استشهد به بعض العلماء الأعلام ومنهم حجة الإسلام.
(4)
السحر لغة إخراج الباطل في صورة الحق بالتمويه والخداع، والسحر الذي جاء في الشرع ليس غير هذا بدليل وصفه تعالى لعمل سحرة فرعون في قوله جلت حكمته:[قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ](الأعراف: 116) وقوله: [فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى](طه: 66) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
قانون التعليم الرسمي والجمعية العمومية
كان كل مصري يسيء الظن بكل عمل يجري على أيدي المحتلين فما زالت
الأعمال تنقض وتبرم وتمحو وتثبت حتى اعترف الأكثرون بأكثر نتائج الأعمال
الإصلاحية النافعة في الري والمالية والإدارة والسياسة، ولولا أن أكثر الناس أو كل
الناس غير راضين عن سير نظارة المعارف لاعترفوا أجمعين بحسن نية المحتلين
وإرادتهم الخير للبلاد وأهلها، وليس هذا مقام بسط هذه المسألة ولكن هذه الكلمة
تمهيد لما يأتي وهو أن سخط الناس من سير نظارة المعارف في التعليم جعل شأنًا
عظيمًا لاقتراح الوجيه الفاضل أمين بك الشمسي على الجمعية العمومية أن تطلب
من الحكومة عرض قوانين التعليم (بروجرامات) ومنشورات المعارف على
مجلس شورى القوانين ومجلس النظار.
وتوقع الناس أن تقبل الحكومة هذا الاقتراح بمقدار ما لهم من حسن الظن فيها.
وما كانوا ينتظرون أن يدافع صاحب السعادة ناظر المعارف الجمعية العمومية
ويناضلها نضال بني ثعل؛ ليدفع عن نظارته هذا الاقتراح؛ لأنهم يعتقدون أنه
مستريح من أعمال المعارف لثقته بأمين أسرارها العامل الدائب المستر دنلوب
وسائر الموظفين تحت يده، ولأن من شأن الواثق بحسن عمل ينسب إليه حقيقة أو
عرفًا بالذات أو بالواسطة أن يحب عرضه على الناس ويسعى في توجيه أنظارهم إليه
لا سيما إذا كان الغرض من العمل المنفعة العامة وكان نقد الناظرين فيه من أسباب
ترقيه وإتقانه كنظام التعليم ولكن الناظر جاء بما لم يكن في الحسبان ولا نخوض في
تعليل ذلك مع الخائضين، ولكننا نبحث في دفاعه وتعليله في مناقشة الجمعية العمومية
في جلسة 6 ذي الحجة سنة 1319 ونختصر ما نورده من المناقشات غالبًا ونحذف
الألقاب الرسمية فنقول:
عندما عرض اقتراح الشمسي بيَّن الناظر للجمعية كيفية وضع قوانين التعليم
(البروجرامات) وهو أن نظار المدارس ومفتشيها يقدمون في آخر كل سنة مكتبية
تقارير بما يرونه في نظام التعليم فتبحث فيه اللجنة العلمية المؤلفة من كبارهم، وتقدم
ما تقر عليه منه إلى مجلس المعارف الأعلى فيبحث فيه ويقدم ما يراه منه إلى
مجلس النظار (قال) : (والذي يتقرر يصدر الأمر بإجرائه) .
فقال مفتي الديار المصرية: الذي يلاحظه الناس هو أن القوانين تعرض
بمقتضى العادة على مجلس النظار ثم ترسل إلى مجلس شورى القوانين، ومن ذلك ما
يكون متعلقًا بوضع مائة قرش غرامة ونحوه. فالقوانين المتعلقة بالأصول العامة
للتربية والتعليم أولى بهذا، وهي لا تخص نظارة المعارف وحدها بل القطر كله،
فيصح للجمعية العمومية أن تطلب ضمانًا زائدًا بالنسبة إلى حالة الأشخاص، فإن
الكثيرين يعتقدون أن تلامذة السنة الثانية في المداس الابتدائية يعلمون بعض العلوم
باللغات الأجنبية فلا يفهمونها طبعًا. ثم إن طرق التهذيب وتربية النفوس هي التي
عليها مدار مستقبل الناشئين ومعرفتهم ما يجب عليهم لمصلحة أنفسهم فمن الضروري
الاعتناء بأمثال هذه المسائل، فلو درس قانون التعليم بمجلس النظار وتحول إلى
مجلس الشورى لكان ذلك أكثر ضمانًا، فإن المشتغل بعمل يحكم ذلك العمل عليه
فيضيع منه كثير من الأشياء المتعلقة بالحالة العمومية.
(الناظر) : (البروجرامات) جار نشرها قبل دخول السنة المكتبية، وما
يفهمه البعض من أن السنة الثانية تدرس باللغة الأجنبية فهو خطأ؛ لأن التلميذ يبتدئ
في هذه السنة في تعلم مبادي اللغة الأجنبية فقط، ولم يكن المعلمون وحدهم منفردين
في إبداء رأيهم في سير التعليم بل المشتغل بذلك هم ونظار المدارس والمفتشون
الذين هم من خيار الناس، فعندنا تقارير نظار المدارس وتقارير المفتشين وتقارير
اللجنة العلمية وقرار مجلس المعارف وقرار مجلس النظار فهذه خمس ضمانات) .
أوردنا جواب ناظر المعارف بلفظه كما نشر على ما فيه من ضعف العبارة
لتظهر مغالطته بأتم إيضاح، وهي من وجهين:
أحدهما قوله: إن التلميذ يبتدئ في السنة الثانية بتعلم اللغة الأجنبية؛ أي:
العلوم فلا يتعلم بها شيئًا من العلوم والصواب أنه يبتدئ بتعلمها في السنة الأولى كما
ترى في الصفحة 10 من قانون التعليم الابتدائي الصادر بإمضاء الناظر نفسه في
جمادى الثاني سنة 1319 أي قبل هذه المناقشة بنحو نصف سنة، وكون التلميذ يتعلم
في السنة الأولى وكذا الثانية لغة أجنبية خطأ ظاهر، وإننا لنعرف كثيرين من المعلمين
ونظار المدارس يتبرمون منه ولكنهم يعتقدون أنه أمر مبرم هبط من سماء القوة على
أرض الضعف والاستكانة، ولو علموا أن إبداء رأيهم يصل مجلس الشورى فيطالب
به باسم الأمة لأبدوه آمنين من مغبته؛ لأن كل ما يتوقعونه حينئذ من المؤاخذة على
نكث شيء من فتل ذلك الأمر المبرم يكون معلومًا للناس إذا وقع بعد إطلاع
مجلس الشورى ومجلس النظار وسائر الناس على اقتراح المقترح.
ثم إن تعليم التاريخ الطبيعي (الأحياء) وتقويم البلدان يكون باللغة
الإنكليزية في السنة الثالثة الابتدائية والفرق بينها وبين السنة الثانية ليس كبيرًا
وإنهم ليعلمون أنه لا يمكن أن يحصل التلميذ من اللغة الأجنبية في سنتين ما يتمكن
به من فهم العلوم الطبيعية فيها، ولذلك يعيدون عليه في السنة الثالثة من دروس
تقويم البلدان بالإنكليزية ما كان تعلمه بالعربية، فإن كان الغرض العلم فلا معنى لهذا
الرجوع القهقرى، وإن كان المراد اللغة العربية فالأوقات المخصصة لها ليست
بقليلة كما سنبينه في نبذة أخرى.
والوجه الثاني: (الضمانات الخمس) وهي لا تصلح دفعًا لقول المفتي؛ لأنه
قال: إن عرض نظام التعليم على مجلس الشورى أكثر ضمانًا أي: إن الخمس تكون
به ستًّا فإذا كان الناظر واثقًا من إتقان نظام نظارته ويود أن تزداد إتقانًا وارتقاءً
فماذا يضره لو عرض ذلك على كل من له رأي من الناس وعلم رأيه؟ ثم هو يعلم
أن الحكومة أنشأت مجلس الشورى والجمعية العمومية لتعلم الأمة كيف تحكم
ولتجعل لها رأيًا في قوانينها ونظاماتها لتكون أمة حية كأمم أوربا، حتى إذا ما
استعدت لذلك يكون كل شيء برأي مجلسها النائب عنها، فلماذا يبخل عليها ناظر
المعارف بالبحث في قوانين نظارته ونظام التعليم في مدارسها بواسطة أعضاء
مجلس الشورى الذين هم من خيارها كما أن نظار المدارس ومفتشيها من الخيار كما
قال وزيادة الخُيَّار خير.
ولا يخفى عليه أن الأمة تثق بمجلس الشورى أكثر من ثقتها بأي مجلس من
مجالس الحكومة؛ لأنها تعتقد أن أعضاءه لا سلطان عليهم للسياسة؛ لأن الحكومة
وضعتهم للانتقاد على قوانينها، ولأنهم لا يتوقعون ضرًّا من مخالفة رغائبها.
أما (الضمانات الخمس) فهي في المعنى شيء واحد، وإن شئت قلت: لا
شيء؛ لأن العامل الذي تطلب الأمة الضمان على إتقان عمله هو نظارة المعارف،
فلا يصح أن تكون هي الضامنة لنفسها بأن عملها برأي الموظفين فيها. وذلك
التعدد في الضمانات لا تأثير له؛ لأن آراء المعلمين والناظرين والمفتشين يدغم
بعضها في بعض، ولا يعرض على مجلس النظار إلا ما يراه مجلس المعارف الأعلى
وحده فمجلس النظار لا يبحث في آراء أصحاب (الضمانات) الثلاث
ولا يعرفها. ذلك أن المعلمين يبدون آراءهم لنظار مدارسهم فيختار منها هؤلاء ما
يرضونه أو ما يرضون به، ويقدمونه للجنة العلمية فتمحو منه ما تشاء وتثبت ما
تشاء وترفعه إلى اللجنة العليا فتنسخ منه ما تشاء، وتقدم الباقي إلى مجلس النظار
فيصدق عليه. وإنما يتحقق الضمان من معلمي المدارس ونظارها ومنشئيها إذا
أعطوا حرية بأن يقولوا ما يرونه وكان يعمل بما يقولون أو يبين المانع من العمل
به وأعطوا مع ذلك ضمانًا بأن من رأت اللجنة العلمية أو العالية خطأ رأيه فإنه لا
يؤاخذ سرًّا ولا جهرًا.
ثم إن المفتي احتج على كون تلك (الضمانات) غير كافية بأمرين، أحدهما:
استمرار التغيير في قانون التعليم (البروجرام) حتى في المسائل الكلية. قال:
وهذا يدل على أن معلومات واضعي التقارير غير كافية. وأجاب الناظر عنه بأن
التغيير يدل على دقة البحث. وظاهر أن هذا الجواب غير سديد؛ لأن دقة البحث إذا
سلمت وكان من المسلم أيضًا أن التغيير مستمر حتى المسائل الكلية فذلك دليل على
أن هذه الدقة لم تأت بالفائدة المطلوبة، وما ذلك إلا لأنها غير مبنية على علم
كاف فهي تحتاج إلى الإمداد والمساعدة، وللحكومة مجلس أنشئ للبحث في القوانين
خاصة فيجب أن يكون هو المساعد والممد لنظارة المعارف في تنقيح قوانينها.
والأمر الثاني الذي احتج به المفتي: هو أن لكمال ثقة الناس بسير التعليم أكبر
شأن وأهمه، وإن ذلك يكون باطلاع مجلس النظار ومجلس الشورى على قوانينه،
وأجاب الناظر بإعادة ذكر (الضمانات الخمس) وزاد ضامنًا آخر سماه (الضمانة)
الكبرى وهو طبع تلك القوانين ونشرها. قال: وقلما نرى واحدًا من الناس يقرؤها
فيعرف سير التعليم. وظاهر أن هذا الجواب في غير موضوع الدعوى؛ لأن
الدعوى هي أن ثقة الأمة بالتعليم مطلوبة، وأنها تكون بكذا بدليل طلب نوابها له.
فكان ينبغي أن يكون الجواب إما بالتسليم وإما بمنع الحاجة إلى ثقة الأمة بالتعليم، أو
بمنع أن ثقتها تكون بعرض قوانين التعليم على مجلس النظار ومجلس الشورى، فأما
المنع الأول فيستحيل أن يصدر من ناظر المعارف، وأما الثاني فالفصل فيه للجمعية
العمومية، وقد وافقت أخيرًا عند أخذ الآراء على وجوب عرض قوانين التعليم
ومنشورات المعارف على مجلس الشورى فثبت رأي مفتي الديار المصرية، وأما
الجواب عن (الضمانة) الكبرى، فهو أن عدم رؤية الناظر لقراء قوانين التعليم لا
يدل على عدم القارئين لها فإذا قال: كان يجب أن ينتقدوها إن لم يرتضوها. نقول:
إن العامل لا يتوجه إلى عمل إلا إذا رجا فائدته، ولا يطوف في ذهن أحد أن
انتقاده قانون التعليم يكون سببًا لرجوع نظارة المعارف عن خطئها فيه. وإذا كان قد
ظهر أن ناظر المعارف يدافع الجمعية العمومية الناطقة باسم الأمة المصرية،
ويمنعها بالمغالطات عن طلب النظر في قوانين التعليم، فهل كان ينتظر أن يلتفت إلى
قول واحد من الناس أو اثنين أو أكثر إذا هم انتقدوا على قوانينه؟ على أن الجرائد
كثيرًا ما تنتقد المعارف في سير التعليم وسائر نظامها فيه ولم يغن ذلك شيئًا.
ثم تكلم بعد المفتي الشيخ علي يوسف فذكر بعض ما ينتقد على نظام التعليم
وقوانينه مما يصح أن يذكر في مجلس رسمي، وسنذكر ذلك الجزء الثاني مع جواب
الناظر وبيان الصواب، ونزيد من الانتقاد على تلك القوانين ما شاء الله أن نزيد.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: حافظ إبراهيم
آثار علمية أدبية
(إلى الأغنياء)
قال الأديب الشهير حافظ أفندي إبراهيم في حريق ميت غمر الذي يذكر
في باب الأخبار:
سائلوا الليل عنهم والنهارا
…
كيف باتت نساؤهم والعذارى
كيف أمسى رضيعهم فقد الأ
…
م وكيف اصطلى مع القوم نارا
كيف طاح العجوز تحت جدار
…
يتداعى وأسقف تتجارى
رب إن القضاء أنحى عليهم
…
فاكشف الكرب واحجب الأقدارا
ومر النار أن تكف أذاها
…
ومر الغيث أن يسيل انهمارا
أين طوفان صاحب الفلك يروي
…
هذه النار فهي تشكو الأوارا
أشعلت فحمت الدياجي فباتت
…
تملأ الأرض والسماء شرارا
غشيتهم والنحس يجري يمينًا
…
ورمتهم والبؤس يجري يسارا
فأغارت وأوجه القوم بيض
…
ثم غارت وقد كستهن قارا
أكلت دورهم فلما استقلت
…
لم تغادر صغارهم والكبارا
أخرجتهم من الديار عراة
…
حذر الموت يطلبون الفرارا
يلبسون الظلام حتى إذا ما
…
أشرق الصبح يلبسون النهارا
حلة لا تقيهم البرد والحـ
…
ـر ولا عنهم ترد الغبارا
أيها الرافلون في حلل الوشـ
…
ـي يجرون للذيول افتخارا
إن تحت العراء قومًا جياعًا
…
يتوارون ذلة وانكسارا
أيُّهذا السجين لا يمنع السجـ
…
ـن كريمًا من أن يقيل العثارا
مر بألف لهم وإن شئت زدها
…
وأجرهم كما أجرت النصارى
قد شهدنا بالأمس في مصر عرسًا
…
ملأ العين والفؤاد انبهارا
سال فيه النضار حتى حسبنا
…
أن ذاك الفناء يجري نضارا
بات فيه المنعمون بليل
…
أخجل الصبح حسنه فتوارى
يكتسون السرور طورًا وطورًا
…
في يد الكأس يخلعون الوقارا
وسمعنا في (ميت غمر) صياحًا
…
ملأ البر ضجة والبحارا
جل من قسم الحظوظ فهذا
…
يتغنى وذاك يبكي الديارا
رب ليل في الدهر قد ضم نحسًا
…
وسعودًا وعسرة ويسارا
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهدايا والتقاريظ
(كتاب الفوز الأصغر)
هو للفيلسوف الإسلامي الشيخ أحمد بن مسكويه الرازي صاحب كتاب
(تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) المتوفى سنة 421 وضعه لتحقيق البحث
النظري في ثلاث مسائل: (1) إثبات الصانع و (2) النفس وأحوالها و (3)
النبوات وقد نزع فيه منازع دقيقة في الوفاق بين الفلسفة والدين، وجعل لكل مسألة
عشرة فصول، فمن فصول المسألة الأولى فصل في بيان أن وجود الأشياء
كلها إنما هي بالله عز وجل، وفصل في أن الله تعالى أبدع الأشياء من لا شيء ومعلوم
أن الفلاسفة يقولون: يستحيل إيجاد شيء من لا شيء. وفي فصول المسألة الثانية
إثبات النفس وكونها ليست جسمًا ولا عرضًا، وإثبات أنها جوهر حي باق وأنها
ليست الحياة بعينها بل إنها تُعْطى الحياة، وبيان ماهية النفس والحياة، وبيان كمال النفس والكلام في السعادة وفي حال النفس بعد البدن.
وفي فصول المسألة الثالثة بيان مراتب الموجودات واتصال بعضها ببعض
وبيان أن الإنسان عالم صغير وقُواه متصلة ذلك الاتصال والكلام في كيفية الوحي وفي
العقل وكونه ملكًا مطاعًا، وفي المنام الصادق، وفي الفرق بين النبوة والكهانة وفي
النبي المرسل وغيره وفي أصناف الوحي، وفرق بين النبي والمتنبئ. وقد طبع
الكتاب طبعًا جميلاً في بيروت ويباع في مكتبة أمين أفندي هندية بمصر، فنحث
جميع المشتغلين بالعلم على مطالعته.
* * *
(كتاب تفصيل النشأتين. وتحصيل السعادتين)
هو للإمام أبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني
المتوفى في رأس المائة الخامسة. ومباحث الكتاب فلسفية أخلاقية إسلامية، وقد قرن
جميع مسائله بالآيات القرآنية فجعلها شواهد وأدلة، وبعضها لا يصلح لما وضعه
له، ولكن له منازع دقيقة فيها. وأبواب الكتاب على اختصار 33 وهي في معرفة
الإنسان نفسه، وفى أجناس الموجودات ومواضع الإنسان منها، وفي العناصر التي
أوجد منها الإنسان والقوى التي جمعت فيه، وفي تدرج الإنسان حتى يصير كاملاً،
وفي كونه مستصلحًا للدارين، وفي كونه هو المقصود من العالم وكون ماعداه خلق
لأجله، وفي تفاوت الناس وسببه، وفي الشجرة النبوية وفضلها، وفي الشرع والعقل
والعبادة وغير ذلك، وهو كالذي قبله جدير بالمطالعة وطبع حيث طبع ويباع حيث
يباع.
* * *
(إقامة البراهين العظام على نفي التعصب الديني في الإسلام)
رسالة من تأليف الشيخ محمد بن مصطفى بن الخوجة الجزائري بوجوب
الخضوع لفرنسا وعدم الخروج عليها، وقد جاء فيها بمسائل نافعة تثبت أن دين
الإسلام يأمر بمعاملة المخالفين في الدين بالعدل، ويحرم إيذاءهم والاعتداء عليهم
وأنه شرع فيه ما يقتضي التآلف مع أهل الكتاب كحل مؤاكلتهم وتزوج المسلم منهم،
وغير ذلك من الفوائد المسلمة. وفي الرسالة ما يُنتقد. فمنه أنه أخطأ في بعض ما
أسنده إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية عند الاحتجاج بكلامه
واصفًا إياه بكونه (خاتمة الأئمة وعلامة الآفاق على الإطلاق) فقد قال عن الأستاذ
الإمام إنه قال في دروس التفسير بالأزهر: إن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) خاص بالواقعة التي كانت متوقعة
للمسلمين في رواحهم إلى مكة إلخ.
والأستاذ الإمام لم يقل بهذا التخصيص، وإنما قال: إن معنى {حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَة} (البقرة: 193) : هو أن يؤمن شر المعتدين ويأمن الدعاة إلى الدين على
أنفسهم وعلى من يجيبهم إلى ما دعوا إليه. ومعنى {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه} (البقرة:
193) : أن يكون دين كل شخص خالصًا لربه لا تدخله محاباة ولامداجاة ولا يهدده
مهدد، ولا ينقضه خوف من معتد. فلا يكون لغير خشية الله أثر في نفوس
المؤمنين. وانظر بم يكون هذا؟
ومما ينتقد عليه أشد الانتقاد قوله في نصيحته للمسلمين بعد إطراء فرنسا
وذمهم ووصف سوء حالهم: (فلا ينبغي لهم الاهتمام إلا بشئونهم المعاشية) إلخ كأنه
يريد أن يجعلهم بهائم. وهل يرى ذلك الأستاذ أن فرنسا التي وصف عدلها وحريتها
وفضلها ومدنيتها لا ترضى من المسلمين في الخضوع لها إلا أن يكونوا كالأنعام. لا
يهتمون إلا بالأكل والشرب والمنام. وهل ينافي خضوعهم لها اشتغالهم بالعلوم
والآداب التي يرتقون بها ارتقاءً معنويًّا ويسامون الإفرنج في الصفات
البشرية؟
إن كان يقول هذا فهو ناقض به كل مدح مدح به فرنسا! فينبغي لهذا الشيخ
المدرس وأمثاله إذا كُلفوا بالكتابة في مثل هذا المقام أن يقتصدوا ويقفوا عند حد
معلوم وكان المجال واسعًا لإقناع المسلمين بعدم الخروج على فرنسا وتعريض أنفسهم
للهلكة من غير عبث بالأحكام، ولا تكليف للمسلمين بأن يكونوا كالأنعام. وبهذا القدر
كفاية وسلام.
* * *
(الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية)
للشيخ عبد الغني النابلسي الفقيه الصوفي الشهير رحلتان أو ثلاث، وهذه منها
وهي أخصرها وقد طبعت في مطبعة جريدة الإخلاص الغراء على نفقتها، ووقف
على طبعها أحد محرري الجريدة ديمتري أفندي نقولا المحترم صاحب مجلة الفكاهة.
أما المؤلف فإنه يذكر في هذه الرحلة كيفية سفره من الشام إلى القدس ونواحيه، وما
رآه وجرى له فيه، وأهمه زيارة قبور الأنبياء والصالحين بحسب تعريف المعرفين
الذين يصحبون الزائرين في تلك البلاد وما في الكتب المؤلفة في تاريخها، وقد ختم
الكتاب ملتزم طبعه بإحصاء ما ذكر في الرحلة من المدن والقرى والأمكنة
ومقامات الأنبياء، والجوامع والمساجد والمدارس والكنائس والأديرة والأنهر
والعيون والآبار وقبور الصحابة والأولياء والصالحين، وذلك أحسن ما في الرحلة
وربما ينقل بعد في باب البدع شيئًا مما في الرحلة. وصفحاتها 84 وهي تطلب
من إدارة جريدة الإخلاص الغراء وثمنها 5 قروش صاغ.
* * *
(الدنيا في باريس)
هي الرسائل التي وصف بها مشاهد معرض باريس الأخير صديقنا الفاضل
الشهير أحمد زكي بك الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، وقد اشتهر أمر هذه
الرسائل وانتشرت في البلاد؛ لأن رصيفنا البارع الدكتور عيد أفندي كان يطبعها
ويوزعها مع مجلة (طبيب العائلة) وقد سبق للمنار تقريظها وبيان بعض فوائدها.
الآن وقد جمعت هذه الرسائل كلها في كتاب واحد مزين بالرسوم صفحاته 372 وثمنها
15 قرشًا وسننقل بعض فوائدها عند سنوح الفرصة إن شاء الله تعالى.
* * *
(قاموس الجغرافية القديمة بالعربي والفرنساوي)
أهدى إلينا صديقنا مؤلف رسائل (الدنيا في باريس) مع هذه الرسائل
نسخة من هذا القاموس المختصر المفيد الذي يعرف الكتاب حاجتهم إليه من اسمه.
قال المؤلف في مقدمته: هذا معجم صغير أوردت فيه كثيرًا من الأعلام الجغرافية
التي لها ذكر في تواريخ الأقدمين من مصريين وآشوريين وروم وعجم وغيرهم
من الأمم جمعته بعد أبحاث شتى ومطالعات عديدة، فكابدت فيه عناء ليس باليسير
يعرفه من أُطِلعَ عليه أو انشغل بشيء من هذا القبيل ثم قال: (وإذا نال هذا الكتاب
الصغير من الإقبال ما هو خليق به لشددت عزيمتي لإبراز المعجم الكبير الوافي الذي
جمعته في هذا الموضوع المفيد) فعسى أن تتحقق الآمال وينال فوق ما يطبله مؤلفه
الفاضل من الإقبال، والكتاب مطبوع في المطبعة الأميرية وثمنه 8 قروش وهو يطلب من مؤلفه ومن إدارة مجلة طبيب العائلة.
* * *
(مجموعة حقوقية طبية هندسية. لجميعة متخرجي المدرسة الخديوية لسنة
…
1901)
إذا وجب أن نذكر ما ينتقد على نظارة المعارف في نظام التعليم وقوانينه
فمن الواجب أيضا أن نذكر ما لها من الحسنات؛ لأن الله تعالى يحب العدل في كل
شيء، ولأن فائدة استحسان الحسن لا تنقص عن فائدة انتقاد المنتقد، فكل واحد من
الأمرين جعله الله سببًا لإتقان الأعمال واختيار النافع منها وتجنب الضار.
ومن حسنات المعارف المصرية الإذن للتلامذة المتخرجين من المدرسة
الخديوية بإنشاء جمعية علمية أدبية في نفس المدرسة يعدون فيها المقالات الضافية في
مسائل العلوم التي يتعلمونها في المدرسة وفي المداس العالية التي ينتقلون منها
إليها ويعرضونها للانتقاد والبحث والتمحيص وقد حضرت اجتماعًا في المدرسة
فسررت سرورًا عظيمًا، ورغبوا إليّ في انتقاد ما تكلموا فيه وهو حقيقة الجنون
وتاريخه وأنواعه فانتقدته علنًا فتلقوا انتقادي بالقبول والشكر كما هو شأن الباحث
المستفيد.
وقد طبعوا في هذه الأيام الجزء الأول من مقالاتهم التي تليت في السنة
الماضية وسموه بما ذكر في صدر الكلام. وتفضل وكيل الجمعية الفاضل النبيل
علي بك ماهر نجل صاحب السعادة ماهر باشا محافظ مصر بتقديم نسخة إلينا بنفسه
فشكرنا له ذلك. وفي المجموعة ست مقالات: (1) في التربية والتاريخ لعلي بك
ماهر بمدرسة الحقوق و (2) في أشعة رنتجن لعبد الرحمن أفندي عمر بمدرسة
الطب و (3) في التكافل والتضامن لمحمد حلمي أفندي عيسى بمدرسة الحقوق.
و (4) في التنويم المغناطيسي واستحضار الأرواح لمحمد أفندي شكري بمدرسة
الطب و (5) في لوازم الحياة الأصلية لمحمد أفندي ماهر بمدرسة الطب. و (6)
شهران بسويسرا لعلي بك ماهر وفي المقالات فوائد كثيرة وعدد صفحات المجموعة
612 فنحث جميع المصرين على اجتناء هذه الثمرة الشهية، التي أنتجتها فروعهم
الذكية.
* * *
(مجلة الأحكام الشرعية)
كثرت الجرائد والمجلات في مصر حتى تناولت كل موضوع يمكن أن تنشأ له
إلا موضوع القضاء الشرعي كأن المحاكم الشرعية وأعمالها ليست من حاجات
العمران التي يجب أن تخدمها الصحافة. وقد انبرى في أول هذا العام للقيام بهذه
الخدمة الجليلة المحامي الشرعي الشهير حسن بك حمادة المتخرج في مدرسة
الحقوق السلطانية في الأستانة العلية فأنشأ هذه المجلة الشهرية، وقد صدر الجزء
الأول منها مفتتحًا بمقدمة بليغة في حالة القضاء الشرعي والمحاكم الشرعية وسيرها
والحاجة إلى الإصلاح فيها على الوجه الذي حرره الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية
في تقريره المشهور.
وقد كادت هذه المقدمة أن تكون تاريخًا للمحاكم الشرعية بصورة مجملة.
ويلي ذلك مقالة في القضاء الشرعي بمصر ماضيه وحاضر وهي تاريخية
مفصلة، ومقالات أخرى في المحاماة والقضاء وفي المجالس الحسبية وتاريخها وفي
المحاكم الشرعية وتنازع الاختصاص. وقد فتح فيها بابًا لنشر تراجم المشهورين
من علماء الشرع، وبدأ بترجمة الإمام أبي حنيفة، وبابًا لأشهر القضايا الشرعية التي
لها فائدة عامة وفي المجلة غير ذلك من الفوائد العلمية والأدبية وقيمة الاشتراك
فيها ستون قرشًا في القطر المصري وعشرون فرنكًا في خارجه فتنتمى لها
النجاح الذي تستحقه.
* * *
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد لسنة 1320 على ما يعهد الناس وفوق ما يعهدون من
الإتفان وكثرة الفوائد العلمية والفلكية والطبية والتاريخية والأدبية وغير ذلك، وقد
جلد في هذه السنة تجليدًا جميلاً مزخرفًا اجتلب له جلد من أوربا منقوشًا عليه اسمه
واسم مؤلفه فنهنئ صديقنا الفاضل محمد أفندي مسعود بما صادف عمله المتقن من
النجاح الذي هو جدير به.
* * *
(النتيجة الوحيدة)
أهدتنا مطبعة الموسوعات نسخة من هذه النتيجة التي تطبع فيها بالدقة والإتقان
فنشكر لها إتقان طبعها، ولمؤلف النتيجة الحاسب المدقق السيد مصطفى
محمد الفلكي المحامي تلك الفوائد التي فيها.
* * *
(التقويم الأزهري)
يسر المسلمين أن يروا جميع الآثار العلمية منسوبة إلى الأزهر الشريف
وصادرة من أهله، وهذا الشاب الفاضل الشيخ محمد محمد عمر الأسطنهاوي
الفلكي قد أنشأ تقويمًا يصدره في كل سنة هجرية وقد أراد الأستاذ الأكبر شيخ
الجامع الأزهر بأن يسميه التقويم الأزهري فعسى أن يقبل عليه الناس ليزيدوا مؤلفه
تنشيطًا على إتقان عمله.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحريق في ميت غمر
(ميت غمر)
بلدة في مديرية الدقهلية أصابها في آخر الشهر الماضي حريق دمر الدور،
وقوض القصور، والتهم الأثاث والرياش، ولم يبق على الناس إلا من لجأ إلى الفرار
قبل أن تحيط به النار، فيأخذه لسانها، أو يخنقه دخانها، ويقال: إن عدد البيوت
التي أحرقت بأهلها إلا من أنجاه الله تقارب 500، وإن الخسائر تقدر بمئات الألوف
من الجنيهات. وقد كان الهول عظيمًا، والخطب جسيمًا، وقد كاد يكون حال الذين
نجوا شرًّا من حال الذين فقدوا، فإن عذاب ساعة وإن كان شديدًا دون العذاب
المستمر الذي يتلون ألوانًا كثيرة، وكيف حال من أمسى واجدًا فأصبح معدومًا،
وكان كاسيًا فصار عاريًا، وكان ذا مكان آهل، فعاد ولا مكان ولا أهل. صار
الزوج أيّمًا، والمرأة أرملة، والولد يتيمًا، كما صار الغني فقيرًا والعزيز ذليلاً.
وما من هؤلاء أحد إلا وقد لفحته النار أو لذعته أو أحرقت له عضوًا، وحاصل
القول أن هؤلاء الذين سلموا من هذا الحريق قد صبت عليهم جميع المصائب التي
تفرقت في العالمين فكان كل واحد منها باعثًا للرحمة والشفقة وسببًا للإغاثة والإعانة.
وقد توجهت النفوس لجمع الإعانات لهم ولا شك أن الباخل في هذا الموضوع هو
أبخل الناس بل هو من جنس الجماد، لا من نوع الإنسان ولا من جنس الحيوان.
لا عذر لأحد من خلق الله في البخل على هؤلاء {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ
عَن نَّفْسِهِ} (محمد: 38) فمن وجد في قلبه قساوة وفى نفسه شحًّا مطاعًا وفي يده
انقباضًا وإمساكًا فليمثل في نفسه هذا المصاب واقعًا به وبأهله، والناس معرضين
عنهم لا يجودون عليهم بشيء، ولينظر كيف يكون حكمه عليهم، ثم لينظر هل
يرضى بأن يكون محكومًا عليه عند الله والناس بمثل ما يحكم به عليهم. ليبذل كل
إنسان ما يستطيع، ولولا الاعتماد على التعاون لوجب عليه أن يبذل كل ما يملك
إن كانت وقاية إخوانه متوقفة على ذلك {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق: 7) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القضاء في الإسلام
النبذة الثالثة في آدابه
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
السكوت عند الغضب
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (لايقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان)[1] وروي عن غير أبي بكرة
أيضا وهذا أدب عظيم لا بد من مراعاته، فإن الغضب يذهب بالرويّة والفطنة
ويحكم الهوى فلا يتيسر معه استيفاء النظر والإحاطة بأسباب الحكم العادل ، وقد ذهب
بعض العلماء المسلمين إلى أن الحكم في حال الغضب لا ينفذ لثبوت النهي عنه،
والنهي يقتضي الفساد. وقال الأكثرون: إنه صحيح وإن كان إتيانه مكروها وينفذ
إذا وافق الحق؛ لأن النهي الذي يفيد الفساد عند هؤلاء هو ما كان لذات المنهي عنه
أو لجزئه أو لوصفه اللازم له. وفي القاعدة خلاف لا محل للبحث فيه هنا.
***
المساواة بين الخصمين
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: (قضى رسول الله صلى
الله وعليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم) [2] . وهذا من المساواة التي
جاء بها الإسلام. وقال بعض العلماء: إن هذه الهيئة مشروعة لذاتها لا لمجرد
المساواة.
[3]
عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال له: (يا
علي، إذا جلس إليك الخصمان لا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من
الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) .
[4]
عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده
ومجلسه، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر) وهذا هو
العدل الأكمل الذي ما بعده غاية. وذكر المسلمين فيه؛ لأن الكلام في دينهم
وشرعهم وحكومتهم وإن كان المتقاضون من غيرهم كذلك؛ إذ لا فرق في حكمهم
العادل بين مسلم وذمي ومعاهد. وما روي عن علي كرم الله وجه أنه جلس بجنب
شريح القاضي في خصومة له مع يهودي أو نصراني وقال لو كان خصمي مسلمًا
جلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: (لا
تساووهم في المجالس) فقد قال المحدثون: إنه منكر وأورده ابن الجوزي في العلل
وقال: لا يصح، تفرد به أبو سمية هذا ما قالوه في رواية أن الخصم كان يهوديًّا.
ورواية البيهقي التي ذكر فيها أن الخصم كان نصرانيًّا في إسناده عمرو بن سمرة
عن جابر الجعفي وهما ضعيفان. وقال ابن الصلاح: لم أجد له إسنادًا، فهو منكر
وباطل ومضطرب، والعلة في سنده ومتنه معًا، وكان مروجه من الجهلاء الذين
يرون تعظيم شأن المسلمين بظلم غيرهم، ولو كانوا كذلك لما قامت لهم دولة.
ومما تجب ملاحظته هنا أن ملوك عصرنا وأمراءه لو فعلوا مثل ذلك ورضي
أحدهم بأن يخضع للقضاء ويتحاكم مع بعض رعيته الموافقين أو المخالفين في الدين
وجلس مع ذلك بجنب القاضي أو على رأسه لوصف بأنه أعدل العادلين، وفضل
على الخلفاء الراشدين، وإنهم ليصفونهم بالعدل وينتحلون لهم ما شاء الهوى من
الفضل، على حين أنهم رفعوا أنفسهم فوق الشريعة الإلهية، بل نسخوا أكثر
أحكامها بقوانينهم الوضعية، فلا يمكن أن يتحاكم سلطان أو أمير مع كبير من
رعيته ولا صغير، فأضاعوا بكبريائهم الدين وإلى الله المصير.
[6]
عن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم
فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن لي على هذا أربعة
دراهم، وقد غلبني عليها. فقال: أعطه حقه. قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر
عليها قال: أعطه حقه قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قد أخبرته أنك
تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئًا فأرجع فأقضيه قال: أعطه حقه.
قال (الراوي) : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثًا لا يراجع فخرج به
ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة فنزع العمامة عن
رأسه فاتزر بها ونزع البردة فقال: اشتر مني هذه البردة فباعها منه بأربعة
الدراهم فمرت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فأخبرها فقالت: ها دونك هذا - لبرد عليها طرحته عليه. وقد أوردت هذا في أدب
المساواة وإن كان من باب آخر لمناسبة له. وانظر إلى شدة الإسلام في أداء
الحقوق، وإلى قساوة اليهود في أخذ دينهم فقد ترك اليهودي صاحب النبي صلى الله
عليه وسلم عريانًا لا ساتر لعورته إلا عمامته لأجل أربعة دراهم لم ينظره بها.
***
…
الاحتجاب عن المتظلمين
[7]
عن عمرو بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(ما من إمام أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة إلا أغلق الله دونه أبواب
السماء دون خلته وحاجته وسكنته) استدلوا بالحديث على منع الحاكم من اتخاذ
حاجب لبابه لمجلس حكمه. والحديث ناطق بأن المراد منع المظلومين من
التقاضي والشكوى اشتغالاً عنهم بشئون النفس أو حبًّا بالراحة أو ترفعًا عن الناس
ونحو ذلك ولا يدخل في النهي الحُجّاب الذين يقفون على أبواب المحاكم لحفظ
النظام ومنع الفوضى والخلل وهو الذي قال بعض علمائنا بجوازه وبعضهم
باستحبابه. وإنما يدخل فيه حجاب الأمراء والسلاطين الذين يذودون
الناس عن مجالسهم؛ لأنهم لا يقابلون إلا أشخاص معلومين لهم صفة رسمية عندهم
ويجهلون سائر أصناف رعيتهم بدون عذر. ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال:
الذي أحدثه القضاة من شدة الاحتجاب وإدخال بطائق من الخصوم لم يكن من فعل
السلف. ثم قال متعقبًا له: إن كان مراده البطائق التي فيها الإخبار بما جرى
فصحيح، وإن كان مراده البطائق التي يكتب فيها للسبق ليبدأ بالنظر في خصومة
من سبق فهو من العدل في الحكم. وقال الشوكاني: لو لم يحتجب الحاكم لدخل
عليه الخصوم وقت طعامه وشرابه وخلوته بأهله وصلاته الواجبة وجميع أوقات ليله
ونهاره. وهذا ظاهر لا نزاع فيه.
***
منع الرشوة:
[8]
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي)، والرشوة هي السحت في قوله تعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42) .
[9]
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم) وفي هذا زيادة بيان.
[10]
عن ثوبان رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الراشي والمرتشي والرائش، يعني الذي يمشي بينهما وفي هذا زيادة فائدة، ولا
حاجة لبيان مفسدة الرشوة وتدميرها للممالك وثلها لعروش الأمراء والسلاطين فإن
هذا يكاد يكون معلومًا للناس أجمعين.
***
…
منع الحاكم من الهدية:
[11]
عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله وعليه وسلم رجلاً
من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال:هذا لكم وهذا أهدي إليّ
فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (قال سفيان أيضًا) فصعد المنبر فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لكم وهذا لي فهلا
جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا. والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا
جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تَيْعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه (ألا هل بلغت) ثلاثًا. وتيعر الشاة
بمعنى تصيح.
[12]
عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (هدايا العمال غلول) وفي رواية: (هدايا الأمراء) . الغلول في الأصل:
خيانة في الغنيمة وهي المال الذي كان يأتي إلى أيدي العمال والأمراء في الأكثر
وورد في الكتاب العزيز التشديد فيه والهدية للحاكم مثله أو منه بحكم السنة. قال
الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف. ولكن له شواهد وطرقًا متعددة تقويه. والهدية
مستحبة لغير علة الحكم وما بمعناه.
[13]
عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من
استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذه بعد فهو غلول) .
[14]
عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الأمير
الهدية سحت وقبول القاضي الرشوة كفر) وإنني لأتنسم من تشديده الوضع.
***
آثار السلف عبرة للخلف
عدل عمر وسياسته
(2)
روى سعيد بن منصور في سننه، وأبو بكر بن شيبة في مسنده
والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اشتريت إبلاً وارتجعتها إلى الحِمى
فلما سمنت قدمت، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سمانًا فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل
لعبد الله بن عمر فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر! بخ بخ ابن أمير المؤمنين! !
فجئت أسعى فقلت ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قلت: إبل
اشتريتها وبعثت بها الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون. فقال: ارعو إبل ابن أمير
المؤمنين. اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين. يا عبد الله بن عمر اغد على رأس مالك
واجعل الفضل في بيت مال المسلمين. اهـ قوله: (ارعو إبل ابن أمير المؤمنين)
إلخ حكاية قول الناس.
فماذا يقول أمراؤنا الذين يستعبدون رعاياهم ما استطاعوا، ويمتصون دماءهم
إن استطاعوا، ويسخّرونهم في خدمة أرضهم ومواشيهم. ما لم يأخذ الأجنبي
الذي يسمونه كافرًا على أيديهم، فما هذا الزمان الذي يعلمنا فيه (الكفار) العدل بل
يلزموننا به إلزامًا حتى يطمئن الرعية على أموالهم ويأمنوا على أنفسهم من أمرائهم
وأئمتهم الذين انتحلو لأنفسهم إمامة الدين.
***
(3)
روى ابن سعد في الطبقات وابن راهويه عن عطاء قال: كان عمر
بن الخطاب يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم فإذا اجتمعوا قال: يا أيها الناس إني لم
أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ولا من أعراضكم إنما
بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم. فما قام
أحد إلا رجل قام فقال: أمير المؤمنين إن عاملك فلانًا ضربني مائة سوط. قال
فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن
فعلت هذا يكثر عليك وتكون سُنة يأخذ بها من بعدك. قال أنا لا أقيد وقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِيد من نفسه [15] قال: فدعنا لنرضيه. قال:
دونكم فأرضوه. فافتدي منها بمائتي دينار عن كل سوط بدينارين.
فماذا يقول الناس هنا في أمرائهم الذين كانوا يضربون السياط بغير حساب
لتحصيل الأموال الأميرية، ويضربونهم بغير حساب لتحصيل الضرائب والمكوس
الظالمة، ويضربونهم بغير حساب لتحصيل ديون الخراجات، ويضربونهم بغير
حساب لتسخيرهم في الأعمال العامة والخاصة. ومع هذا كله يمنون على البلاد
أنهم أنقذوها من ظلم الظالمين السابقين؛ أي: إنهم حصروه في أنفسهم واحتكروه لها
ولا فرق عند المظلوم بين أن يسمى ظالمه مالكًا أو مملوكًا. وإنه ليفرح بإنقاذه سواء
سمي منقذه مسلمًا أم سمي كافرًا. فالحقائق لا تتبدل بتبديل الأسماء والألقاب
وبالعدل قامت ممالك الإسلام، وبالظلم سقطت ممالك المسلمين {عَسَى رَبُّكُمْ أَن
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: 8) .
***
(4)
روى ابن عساكر من مسند عمر عن الأحنف بن قيس قال: ما كذبت
إلا مرّة قالوا: وكيف يا أبا بحر قال وفدنا على عمر بفتح عظيم فلما دنونا من المدينة
قال بعضنا: لو ألقينا ثياب سفرنا ولبسنا ثياب صوننا فدخلنا على أمير المؤمنين
والمسلمين في هيئة حسنة وشارة حسنة كان أمثل. فلبثنا ثياب صوننا وألقينا ثياب
سفرنا حتى إذا طلع في أوائل المدينة لقينا رجل فقال: انظروا إلى هؤلاء أصحاب
دين ورب الكعبة. فقال: فكنت رجلاً ينفعني رأيي فعلمت أن ذلك ليس بموافق القوم
فعدلت فلبستها، (وفي نسخة: فلبثت ثياب سفري) وأدخلت ثياب صوني العيبة
وأشرجتها [16] وأغفلت طرف الرداء ثم ركبت ولحقت بأصحابي، فلما دفعنا إلى عمر
نَبَت عيناه عنهم ووقعت عيناه عليَّ فأشار إليّ بيده فقال: أين نزلتم؟ قلت في مكان
كذا وكذا فقال أرني يدك فقام معنا إلى مناخ ركبنا فجعل يتخللها ببصره، ثم قال:
ألا اتقيتم الله في ركابكم هذه؟ أما علمتم أن لها عليكم حقًّا؟ ألا تقصدتم بها في
المسير؟ (وفي راوية: قصدتم. وهما بمعنى التوسط) ألا حللتم عنها فأكلت من نبت
الأرض؟ فقلنا يا أمير المؤمنين إنا قدمنا بفتح عظيم فأحببنا أن نسرع إلى أمير
المؤمنين وإلى المسلمين بالذي يسرهم فحانت منه التفاتة فرأى عيبتي فقال: لمن
هذه العيبة؟ قلت لي يا أمير المؤمنين. قال: فما هذا الثوب؟ قلت ردائي. قال: بكم
ابتعته، فألقيت ثلثي ثمنه فقال: إن رداءك هذا لحسن لولا كثرة ثمنه! ثم انطلق
راجعًا ونحن معه فلقيه رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين انطلق معي فأعذني على فلان
فإنه قد ظلمني. فرفع الدرة فخفق بها رأسه [17] وقال: تدعون أمير المؤمنين وهو
معرض لكم حتى إذا أشغل في أمر من أمر المسلمين أتيتموه: أعذني أعذني.
فانصرف الرجل وهو يتذمر فقال: علي الرجل. فألقى المخفقة فقال: امتثل. فقال:
لا والله، ولكن أدعها لله ولك. قال: ليس هكذا. إما تدعها لله إرادة ما عنده،
أو تدعها لي فأعلم ذلك. قال: أدعها لله. قال: فانصرف ثم مضى حتى دخل منزله
ونحن معه، ففتح الصلاة فصلى ركعتين وجلس فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعًا
فرفعك الله وكنت ضالاًّ فهداك الله وكنت ذليلاً فأعزك الله ثم حملك على رقاب
المسلمين فجاءك رجل يستعديك فضربته. ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟ قال فجعل
يعاتب نفسه في ذلك معاتبة ظننا أنه خير أهل الأرض.
فأين أمراؤنا اليوم؟ وما مبلغ معرفتهم بالله وخوفهم منهم وتعظيمهم له. أعرف
أن بعض من يتراءى بالدين ويفتخر بأنه يصلي قال له قائل مرة: ورد في الحديث
(الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) ومولاي من أئمتهم فأنا عملاً
بالحديث أقدم له هذه النصيحة في شأن كذا. فغضب عليه غضبًا شديدًا؛ لأنه وجه
إليه النصيحة ومثله أعلى في اعتقاده من أن ينصح، وإن كان الحديث ناطقًا بأن
النصيحة لله ولرسوله. ومثل هذه من أمرهم لا يحصى.
***
(5)
روى الدينوري في (المجالسة) عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قدم
بريد ملك الروم على عمر بن الخطاب، فاستقرضت امرأة عمر بن الخطاب دينارًا
فاشترت به عطرًا فجعلته في قوارير، وبعثت به مع البريد إلى امرأة ملك الروم فلما
أتاها فرغتهن وملأتهن جواهر وقالت اذهب إلى امرأة عمر بن الخطاب فلما أتاها
فرغتهن على البساط فدخل عمر فقال: ما هذا؟ فأخبرته بالخبر، فأخذ عمر الجواهر
فباعها ودفع إلى امرأته دينارًا وجعل ما بقي من ذلك في بيت مال المسلمين. اهـ
وفي الأثر من الفقه: أن الهدية وإن كانت مكافأة على هدية أخرى فهي لأجل أن
امرأة عمر امرأة أمير المؤمنين لا لذاتها فيجب أن يكون ما أخذ بجاه أمير المؤمنين
للمؤمنين، ولكن الملوك والأمراء على المؤمنين في هذه العصور قد ملأوا قصورهم
جواهر من بيت مال المؤمنين، وهم يهدون منها ويهبون بلا معارض ولا منازع.
وفيه أيضًا الموادة والتحاب بالهدايا بين المسلمين وغيرهم وإن كانوا حربيين
ولكن في غير وقت الحرب وغير ما يتعلق بالحرب كالإعانة عليها فإن عمر لم ينكر
على امرأته إهداء العطر إلى ملكة الروم وهو يدل أن النساء أسرع إلى الائتلاف
والموادة بعضهن مع بعض من الرجال وهو مشاهد معروف.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة.
(2)
رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم، وقد طعن بمصعب بن ثابت من رجاله بأنه كان يغالط كثيرًا على صدقه، ولا يضرنا هذا في هذا الحديث.
(3)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه وله طرق أخرى.
(4)
رواه الدارقطني والطبراني والبيهقي وفي إسناده عبادة بن كثير وقد ضعف ولكن الحديث صحيح المتن.
(5)
رواه الإمام أحمد.
(6)
استعداه عليه أي استغاثه واستنصره.
(7)
رواه أحمد والترمذي والحاكم والبزار وتقدم غيره في الكلام على الأمراء في المجلد الرابع.
(8)
رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا النسائي، وابن حبان والطبراني والدارقطني.
(9)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه.
(10)
رواه أحمد.
(11)
رواه البخاري بل هو متفق عليه.
(12)
رواه أحمد والبيقي وابن عدي وكذا أبو سعيد النقاش زاد في كنز العمال بعد ذكر أبي حميد الساعدي في الأولى (عن عرباض) وفي الثانية (وعن أبي سعيد عن أبي هريرة) وابن جرير وابن عساكر وغيرهم.
(13)
أخرجه أبو داود.
(14)
رواه أحمد في الزهد عن علي.
(15)
القَوَدُ: القصاص. وأقاد الأمير القاتل بالقتيل إذا قتله به. المراد هنا: التمكين من القصاص.
(16)
العيبة وعاء توضع فيه الثياب وأشرجها: ضمها.
(17)
خفقه: ضربه ضربًا خفيفًا بشيء عريض كالمِخفقة، وهي الدرة أو خشبة عريضة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة والأجوبة
نزول المسيح
(س1) من أحمد أفندي عبد الحليم بشبين الكوم: هل يوجد دليل شرعي على
أن المسيح سينزل ويحكم؟ وهل يكون بنزوله نبيًّا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم
هو خاتم النبيين كما هو معلوم في الشرع، ولماذا حينئذ ينزل المسيح؟ وهل
يكون قبل نزوله فترة؟
(ج) ليس في الكتاب والسنة نص قطعي الثبوت والدلالة على نزول
المسيح توجب على المسلمين الاعتقاد بذلك، وإنما ورد في نزوله أحاديث اشتهرت
لغرابة موضوعها وتخريج الشيخين لها وأكثرها عن أبي هريرة. وهذه المسألة من
المسائل الاعتقادية التي يطلب فيها النص القطعي المتواتر. وقد استدل بعضهم
عليها بآيتين من القرآن ليستا نصًّا فيها بل ربما كان الظاهر منهما خلاف ما حملتا
عليه عند من ذكر، (إحداهما) قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) جاءت الآية في سياق الكلام على المسيح ومزاعم
أهل الكتاب فيه ومعناها الظاهر أنه لا أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بالمسيح
الإيمان الصحيح قبل أن يموت أي: قبل خروج روحه؛ لأنه وقت تشرف فيه النفس
على العالم الآخر فيظهر لها الحق، ولكن إذا جاء هذا الوقت {لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ
تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (الأنعام: 158) فالضمير في
(موته) للمنفي في قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَاب} (النساء: 159) الذي معناه لا
أحد من أهل الكتاب. وعليه الأكثرون. وذهب المستدل بالآية على نزول المسيح إلى
أن الضمير للمسيح، وأنهم يؤمنون به قبل أن يموت عندما ينزل ويقيم دين الإسلام
ويحكم به، ولكن النفي العام في الآية لا يصح على هذا الوجه؛ لأنه لا يشمل أهل
الكتاب الذين يموتون قبل النزول ولا يؤمنون به كاليهود في عصر التنزيل وما بعده
إلى عصر النزول المدعى. على أن القرآن مصرح بأن المسيح قد توفي قبل رفعه
كما هو المتبادر من قوله عز وجل: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} (آل عمران: 55) ولا يصار إلى التأويل ما لم يقم على خلاف الظاهر الدليل،
هذا ما يقال في الآية بذاتها فهي من حيث إنها متواترة ليست نصًّا ولا ظاهرًا في
المطلوب وإن وردت شاهدًا في بعض الروايات المرفوعة، وللرواية حكمها ومن
ثبتت عنده وجب عليه الإيمان بها.
والآية الثانية قوله تعالى بعد ذكر عيسى عليه السلام ومقارنة المشركين
بينه وبين آلهتهم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الزخرف: 61) فذهب بعضهم إلى أن الضمير (إنه) لعيسى، واختلفوا في وجه
كونه علمًا للساعة فقيل: إنه حدوثه، وقيل: إحياؤه الموتى وقيل: نزوله في
آخر الزمان، والآية لا تدل على هذا وإنما هو احتمال، وإنما ذهب بعضهم إلى
أن الكلام في القرآن؛ لأن فيه الإعلام بالساعة والاستدلال عليها بالأدلة التي
تقرب الاعتقاد بها من العقول، وهذا مما امتاز به على سائر الكتب السماوية
التي سكتت عن ذلك أو أشارت إليه من طرف خفي، ولا غرو، فنبي القرآن هو
نبي الساعة، وقد عرفنا من أسلوب القرآن الانتقال من محاجة الزائغين في عقائدهم
وتقاليدهم إلى الدعوة إلى القرآن واتباع من جاء به، وتتمة الآية تؤيد هذا القول
الأخير، فظهر أن لا دليل في القرآن على نزول المسيح، وأما الأخبار فقد ورد فيها
ذلك فتلقاه الناس بالقبول لا سيما بعد اشتهار كتابي الشيخين ولكنهم لم
يذكروه في العقائد الإسلامية؛ لأنه ليس قطعيًّا.
ومما يستحق الذكر أن القول بظهور المسيح في آخر الزمن قد اتفق فيه
المسلمون مع اليهود والنصارى في الجملة، ولكنهم اختلفوا في التفصيل، فاليهود
ينتظرون مسيحًا جديدًا يجدد ملك إسرائيل ولذلك يسعون لتحقيق هذه الأمنية سعيًا
ماديًّا يناسب الملك. والنصارى ينتظرون مجيء المسيح في ملكوته وصليبه ليدين
العالمين ويحاسبهم على نحو ما يعتقد المسلمون في الآخرة. والمسلمون يعتقدون أن
المسيح ينزل في آخر الزمان فيكسر الصيلب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقيم
الشريعة الإسلامية ويصلي مأمومًا وراء أحد أئمة المسلمين ليظهر أن الدين عند الله
الإسلام.
وقد بنت فرقة البهائية دينها على أساس هذا الاتفاق الإجمالي بين أهل الأديان
السماوية، وزعموا أن زعيمهم (بهاء الله) دفين عكا هو المسيح المنتظر، وأن
الباب هو المهدي الذي يقول المسلمون: إن ظهوره يتقدم ظهور المسيح. ولهم سبح
طويل في تأويل الأحاديث وأقوال الصوفية الواردة في المهدي والمسيح وتطبيقها
على الباب والبهاء وعندما يدعون النصارى إلى دينهم يعترفون بأن المسيح كان إلهًا
كاملاً ويقولون: إنه لم يكن إلهًا بجسمه بل بروحه وهذه الروح الإلهية نفسها هي التي
حلت في البهاء فهو إله كامل {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) .
وفي الهند قائم يدعي الآن أنه المسيح عيسى ابن مريم وكان من مشايخ الطريق
وأهل العلم الإسلامي، وقد رددنا عليه في مجلد المنار الثالث ورددنا على البهائية
أيضًا، وإن لنا لعودة إن شاء الله تعالى.
وإن من النصارى من يحمل ظهور المسيح أو نزوله في آخر الزمان على أن
الصفات التي امتاز بها والتعاليم التي كان يرشد إليها هي التي تكون سائدة في الناس
وهي المحبة والمسالمة والمؤاخاة والأخذ بمقاصد الدين والشريعة دون الوقوف عند
الرسوم الظاهرة التي قالوا: إنه طمسها من اليهودية. ثم عاد المنتسبون إليه فوضعوا
لهم رسومًا غيرها ربما تزيد عليها من بعض الوجوه. وهذا التأويل على حدّ (ظهر
في المسلمين عمر) إذا قام فيهم ملك عادل (وهذا الجيش يقوده نابليون) إذا كان
قائدة شجاعًا مدربًا ولا حاجة للمسلمين بالتأويل إلا إذا ثبت أن الأخبار الواردة
متواترة ويعارضها قطعي آخر ككون محمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين.
فعلم من هذا أنه لا يكون زمن فترة يضيع فيها الإسلام فيجدده المسيح، وإنما يبقى
الإسلام معمولاً به إلى قيام الساعة كما ورد في الحديث الصحيح.
هذا وإن لفظ النزول يستعمل بمعنى الخروج كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} (الحديد: 25) فإذا احتجنا للتأويل نقول: إن معنى حديث نزول عيسى هو ظهور
حقيقته بظهور الإسلام واستعلاء برهانه فيعلم النصارى أن المسيح بشر لا إله، وأن
دين الله واحد لا فرق فيه بين عيسى ومحمد وغيرهما من الرسل، وهو توحيد الله
والإيمان بلقائه في الآخرة ووجوب عمل الخير وترك الشر وما يتفرع عن هذه
الأصول، ولا شك أن الترقي في علم النفس وعلم الكون سيرتقي بالناس إلى هذه
المعرفة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
***
انتفاع الموتى بالقراءة
(س2) من الشيخ أحمد حسن يوسف معمَّر بالأزهر:
هل ورد دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع بانتفاع الموتى بقراءة القرآن عليهم
أم لا؟ فإن كان ورد شيء يؤيد ذلك فما معنى قوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا
سَعَى} (النجم: 39) الرجاء كشف النقاب عن هذه المسألة ولكم الفضل.
(ج) لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع شيء يثبت انتفاع
الأموات بقراءة غيرهم القرآن عليهم، والآية ناطقة بأن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله
وكسبه، ومنه ما يبقى أثره أو عينه بعد موته كالصدقه الجارية والعلم النافع والذرية
الصالحة، ولذلك ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع
عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم يُنْتَفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه
مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة.
فهذه الثلاث ملحقة بعمل الإنسان ومعتبرة منه فلا حاجة إلى ما قاله بعضهم من
تخصيص عموم قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم: 39) .
بالحديث إذ لا منافاة. ومثل ذلك يقال فيمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل
يتصدق عن أبيه، ومَنْ سأله هل يتصدق عن أمه، وإجابته إياهم بنعم ومنهم سعد بن
عبادة الذي سأله: أي الصدقة أفضل؟ فقال: سقي الماء. ولم يرد مثل ذلك إلا في
صدقة الأبناء عن الوالدين. وقد ألحقوا بهم غيرهم في الصدقة، ولا دليل على ذلك إلا
إذا صح القياس في الأمور التعبدية. وخصوا الآية بالعبادات البدنية كالصلاة
والقراءة.
وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بالآية على أن ثواب القراءة
لا يلحق الأموات، وهو مذهب مالك أيضًا. ولا نخوض هنا في خلاف العلماء
وتأويلهم؛ لأن السائل لم يسأل عن ذلك.
وأما حديث (اقرأوا يس على موتاكم) فقد رواه أبو داود وابن ماجه
والنسائي وابن حبان وصححه وأحمد بلفظ آخر. ولكن ابن القطان أعله بالاضطراب
وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه من رجال سنده، وقال الدارقطني: هذا حديث
ضعيف الإسناد مجهول المتن. وتصحيح ابن حبان لا يُعول عليه مع هذا الجرح؛
لأنه كان يتساهل بالجرح فيعتمد جرحه دون تعديله إذا انفرد به كما صرح به
الذهبي في (ميزان الاعتدال) على أنه فسره في صحيحه بقراءتها عند المحتضر
فقال: (أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يُقْرَأ عليه) وخالفه المنتصرون
للقراءة على الأموات. ولو أن في الباب حديثًا صحيحًا لما احتاجوا للاستدلال
بحديث وضع الجريدتين على القبر، ولا دلالة فيه كما هو ظاهر.
***
اتخاذ الصور
(س3) أحمد أفندي صادق الدباغ بالإسكندرية: ما حكم اتخاذ الصور وهل
يحرم تزيين المنازل بها؟
(ج) اختلف العلماء في اتخاذ الصور فقيل: إنه محرم مطلقًا. وقيل: إن
المحرم منها ما له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه. وقيل: إن المحرم هو ما
اتخذ بهيئة تعظيم، وهذا أقوى الأقوال عندي لوجهين:
أحدهما حديث عائشة عند أحمد والبخاري ومسلم وهو:
(أنها نصبت سترًا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونزعه. قالت: فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما) وفي لفظ أحمد (فقطعته
مرفقتين فلقد رأيته متكئًا على إحداهما وفيها صورة) المرفقة: المتكأ والمخدة،
ولو كانت الصورة ممنوعة لذاتها لأزالها من المرفقة، وإنما هتك الستر؛ لأنه كان
منصوبًا كالصور المعبودة فهو يذكر بها وفيه تشبه بعابديها.
ثانيهما: العلة الحقيقية في النهي عن التصوير والصور المعظمة وهي محاكاة
عُباد الأصنام لا ما قالوا من أن فيها محاكاة خلق الله، فإن هذه العلة تقتضي تحريم
تصوير الشجر والجماد، وقد نقل بعضهم الإجماع على حله. فإذا انتفت العلة انتفى
المعلول والله تعالى أعلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاجتماع الثالث
الداء
أو: الفتور العام
في مكة المكرمة يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة سنة 1316
في الوقت المعين وهو بعد طلوع الشمس بساعة تم توارد الإخوان لمحفل
الجمعية غير أن الأستاذ الرئيس تأخر نحو نصف ساعة ثم حضر واعتذر بأنه عاقه
عن الحضور أن حضرة الشريف الأمير قد طلبه لزيارته فما وسعه إلا الإجابة باكرًا
وما كان يظن أن يسترسل بينهما الحديث فيتأخر عن الميعاد، ولكن اتفق أن
الحديث كان طويلاً.
ثم قال الأستاذ الرئيس: إننا متشوقون لتمام بحث المولى الرومي، وأمر السيد
الفراتي كاتب الجمعية فقرأ ضبط مذاكرات الاجتماع السابق حتى بلغ آخره
من عبارة المولى الرومي، وهي قوله: وعندي أن داءنا الدفين دخول ديننا تحت
ولاية العلماء الرسميين وبعبارة أخرى: ولاية الجهال المتعممين.
فحينئذ أفاض (المولى الرومي) في الكلام فقال: وهم المقربون من الأمراء
على أنهم علماء، وارتباط القضاء والإمضاء بهم فإن بعض هؤلاء المتعممين في
البلاد الإسلامية كانوا اتخذوا لأنفسهم قانونًا جعلوا فيه من الأصول ما أنتج منذ
قرنين إلى الآن أن يصير العلم منحة رسمية تعطى للجهال حتى للأميين بل
وللأطفال. ويترقى صاحبها في مراتب العلم والفضل والكمال بمجرد تقادم
السنين أو ترادف العنايات لا سيما إذا كان من زمرة الأصلاء. فإنه يكون طفلاً
في المهد وينعت رسمًا بأنه (أعلم العلماء المحققين) ، ثم يكون فطيمًا فيخاطب بأنه
(أفضل الفضلاء المدققين) ، ثم يصير مراهقًا فيعطى لقب (أقضى قضاة المسلمين
معدن الفضل واليقين، رافع أعلام الشريعة والدين، وارث علوم الأنبياء
والمرسلين) ثم وثم حتى يبلغ الوصف (بأعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء
المتورعين، ينبوع الفضل واليقين) .
ولا يظن ظانّ أن هذا الإطراء من الأمراء للمتعممين هو بقصد أن يقابلوهم
بالمثل بألقاب (المولى، المقدس، ذي القدرة، صاحب العظمة والجلالة، المنزه
عن النظير والمثال. واهب الحياة، ظل الله، مهبط الإلهامات، سلطان السلاطين،
مالك رقاب العالمين، ولي نعمة الثقلين، ملجأ أهل الخافقين، إلى غير ذلك من
مصارع الكبرياء والمهالك) .
هذا ولا ريب أن كثيرًا من هؤلاء العلماء المتبحرين لا يحسنون قراءة نعوتهم
المزورة كما أن بعض أولئك المتورعين رافعي أعلام الشريعة والدين يحاربون الله
جهارًا ويستحقون ما يستحقون من الله وملائكته والمؤمنين.
ويكفي حجة عليهم بذلك تميزهم جميعًا بلباس عروسي مزركش بكثير من
الفضة والذهب مما هو حرام في الإسلام، وقد اقتبسوا هذا اللباس من كهنة الروم
الذين يلبسون القباء والفلنسوات المذهبة عند إقامة شعائرهم وفي احتفالاتهم الرسمية
وكم من خطيب يستوي على المنبر ويقول: اتقوا الله. وعلى رأسه وصدره ومنكبيه
هذا اللباس المنكر (مرحى) .
ثم إن هؤلاء المتعممين ما كفاهم هذا القانون فألحقوه بقانون آخر جعلوا فيه
التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخدم الدينية كالعروض تباع
وتشترى وتوهب وتورث وما ينحل منها نادرًا عن غير وارث يبيعها القضاة لمن
يزيد في ثمنها أو يتكرمون بها على المتملقين، وبهذا القانون انحصرت الخدم
الدينية في الجهلاء والمنافقين. ثم لما شكلت بعض الحكومات مجالس إدارية لم
يرض المتعممون حتى جعلوا فيها قاضي المسلمين، وكذلك مفتي المؤمنين فهما في
كل بلد عضوان في مجالس الإدارة يحكمان بأشياء كثيرة مما يصادم الشرع كالربا
والضريبة على الخمور والرسوم العرفية وغيرها مما كان الأليق والأنسب بالإسلامية
أن يبقى العلماء بعيدين عنه، كما أن القسيس بل الشَّماس لا يحضر مجلسًا يعقد فيه
زواج أو تفريق مدينان ولا يشهد في صك دين داخله ربًا فضلاً عن أن يقضي أو
يمضي بصفة رسمية كهنوتية أمثال ذلك من الأعمال التي تصادم دين النصرانية.
وكذلك لما وضعت المحاكم العرفية (الأهلية) تهافت المتعممون على جعل
قاضي المسلمين رئيسًا للمحكمة العرفية التي تحكم بما لم ينزل الله وبما يتبرأ الدين
الحنيف منه من نحو ربًا صريح، ومن إبطال حدود الله التي صرح بها القرآن أو
باستبدال عقوبات سياسية أو تغريمات مالية بها.
ومن نحو معاقبة العباد بمجرد الظن والرأي وشهادة الواحد وشهادة الفاسق
وشهادة العاهرة المجاهرة بما لا يلائم الشرع قطعًا، ومن نحو تنفيذ كل حكم
عرفي حق أو باطل بدون نظر فيه، ومن تحصيل ضرائب وغرامات، ومن
توقيف الأحكام الشرعية على استيفاء الرسوم من الأخصام وأموال الأيتام.
ومن أهم دسائس المتعممين أنهم ينفثون في صدور الأمراء لزوم الاستمرار
على الاستقلال في الرأي وإن كان مضرًّا، ومعاداة الشورى وإن كانت سنة متبعة
والمحافظة على الحالة الجارية وإن كانت سيئة ويلقون عليهم بأن مشاركة الأمة في
تدمير شؤونها وإطلاق حرية الانتقاد لها يخل بنفوذ الأمراء ويخالف السياسة
الشرعية ويلقنونهم حججًا واهنة، ولولا أن أمامها جهل الأمة ووراءها سطوة
الإمارة لما تحركت بها شفتان ولا تردد في ردها إنسان.
والأمر الأمرّ أن أولئك الأمراء يقتبسون من هذه الحجج ما يتسلحون به في
مقابلة من يعترض على سياستهم من الدول الأجنبية بقولهم: إن قواعد الدين
الإسلامي لا تلائم أصول الشورى ولا تقبل النظام والترقيات المدنية، وإنهم
مغلوبون على أمرهم ومضطرون لرعاية دين رعاياهم ومجاراة ميل الفكر العام.
وبهذه القوانين استأثر الجهلاء الفاسقون بمزايا العلماء العاملين واغتصبوا
أرزاقهم من بيت المال ومن أوقاف الأسلاف، فبالضرورة قلَّت الرغبات في
تحصيل العلوم. وتثبطت الهمم وصار طالب العلم يضطر للاكتفاء ببلغة منه ويشتغل
بالاحتراف للارتزاق، وهكذا فسد العلم وقل أهله فاختلت التربية الدينية في
الأمة فوقعت في الفتور وعمت فيها الشرور.
أجاب الرياضي الكردي: إن هذا الداء خاص ببعض الشعوب الإسلامية
فلا يصاغ سببًا للفتور العام الذي نبحث فيه ونتساءل عنه ، وعندي أن السبب العام
هو أن علماءنا كانوا اقتصروا على العلوم الدينية وبعض الرياضيات وأهملوا باقي
العلوم الرياضية والطبيعية التي كانت إذ ذاك ليست بذات بالٍ ولا تفيد سوى الجمال
والكمال ففقد أهلها من بين المسلمين، واندرست كتبها وانقطعت علاقتها فصارت
منفورًا منها على حكم (المرء عدو ما جهل) بل صار المتطلع إليها منهم يفسق
ويرمى بالزيغ والزندقة، على حين أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب وعلى مر
القرون ترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في جميع الشئون المادية والأدبية حتى
صارت كالشمس لا حياة لذي حياة إلا بنورها فأصبح المسلمون مع شاسع بعدهم عنا
محتاجين إليها لمجاراة جيرانهم احتياجًا يعم الجزيئات والكليات من تربية الطفل إلى
سياسة الممالك ومن استنبات الأرض إلى استمطار السماء، ومن عمل الإبرة
والقوارير إلى عمل المدافع والبوارج، ومن استخدام اليد والحمار إلى استخدام البرق
والبخار.
ولا شك أن المسلمين أصبحوا بعد الاكتشافات الجديدة يستفيدون من العلوم
الطبيعية والحكمية فوائد عظمية جدًّا بالنظر إلى كشفها بعض أسرار كتاب الله وبالغ
الحكمة المطوية فيه مما كان مستورًا إلى الآن وقد خبط فيه المفسرون خَبْط
عشواء.
بل أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية التي كادت تجعل الغربيين أدرى
منا حتى بمباني ديننا كاستدلالهم بالمقايسة على أن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام
أفضل العالمين عقلاً وأخلاقًا؟ وكإثباتهم بالمقابلة أن ديننا أسمى الديانات حكمة
ومزية.
وعندي أنه لولا هذا القصور، لما وقع المسلمون في هذا الفتور. والأمل بعناية الله أنه بعد زمان قصير أو طويل لا بد أن يلتفتوا إلى هذه العلوم النافعة
فيستعيدوا نشأتهم بل يجلبوا إلى دينهم العالم المتمدن؛ لأن نور المعارف على
قدر إبعاده العقلاء عن النصرانية وأمثالها يقربهم من الإسلامية؛ لأن الدين المملوء
بالخرافات والعقل المستنير لا يجتمعان في دماغ واحد. (مرحى)
ثم إن تبعة هذا التقصير وإن كانت تلحق علماء الأمة المتقدمين إلا أن علماءنا
المتأخرين أكثر قصورًا؛ لأنهم في زمان ظهرت فيه فوائد هذه العلوم ولم يحصل
فيهم ميل لاقتباسها بل نراهم مقتصرين على تدريس فنون اللغة والفقه فقط أو
بعلاوة شيء من المنطق إتمامًا للعقائد وشيء من الحساب إكمالاً للفرائض
والمواريث قلما يفيد.
وكذلك نرى وعاظنا مقتصرين على البحث في النوافل والقربات المزيدة في
الدين ورواية الحكايات الإسرائيليات، ومثلهم المرشدون أهل الطرائق فهم
مقتصرون على حكايات نوادر الزهاد من صحيح وموضوع ورواية كرامات الأنجاب
والنقباء والأبدال وعلى ضبط وزن التمايل وأصول الإنشاد. ولا ننسى خطباءنا
واقتصارهم على تكرار عبارات في النعت والدعاء للغزاة والمجاهدين وتعداد
فضائل العبادات والشهور والمواسم، والحاصل أن تقصيرات العلماء الأقدمين
واقتصارات المتأخرين وتباعد المسلمين إلى الآن عن العلوم النافعة الحيوية أحط من
كثير من الأمم، ولا شك أنه إذا تمادى تباعُدهم هذا خمسين عامًا آخرين تبعد النسبة
بينهم وبين جيرانهم كبعدها ما بين الإنسان وباقي أنواع الحيوانات فبناءً
عليه يكون ناموس الارتقاء هو المسبب لهذا الفتور كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) .
فأجابه الكامل الإسكندري: إن هذا سبب من الأسباب ولا يكفي وحده لحل
الإشكال؛ لأن فقد العلوم الحكمية والطبيعية لا يصلح سببًا لفقد الإحساس المِليّ
والأخلاق العالية؛ لأنها توجد في أعرق الأمم جهالة، وإنما سبب فتور حياتنا الأدبية
هو يأسنا من المباراة وذلك أننا كنا علماء راشدين وكان جيراننا متأخرين عنا فغرنا
البقاء فنمنا واجتهدوا فلحقونا ، ولبثنا نيامًا فاجتازوا وسبقونا، وتركونا وراء، وطال
نومنا فبعُد الشوط حتى صار ما بعد ورائنا وراء، فصغرت نفوسنا وفترت همتنا
وضعف إحساسنا فيئسنا من اللحاق والمجاورة، وخرجنا من ميدان المنافسة
والمباراة وألسنتنا تفيض بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن
مَّحِيصٍ} (إبراهيم: 21) فعدنا إلى كهف النوم مستسلمين للقضاء ، نطلب الفرج
بمجرد التمني والدعاء ذاهلين على أن الله تعالى جلت حكمته رتب هذه الحياة لدنيا
على أسباب ظاهرية ولم يشأ أن يجعلها كالآخرة عالم أقدار، فهذا اليأس هو سبب
الفتور فنسأل الله تعالى اللطف في المقدور.
أجابه العارف التاتاري: أن هذه شكاية حال ولا تفي بالجواب؛ لأنه ما
السبب في أن هذا النوم غشي المسلمين ولم يزل يغشاهم دون كثير غيرهم من الأمم
التي انتبهت وسارت ولحقت ظعن الأحياء، وما المسلمون بالأبعدين المتقطعين
كأهل الصين ولا هم بالمتوحشين العريقين كأهل أمريكا الأصليين.
ثم قال: أنا أرى أن عارضنا فقدنا السراة والهداة فلا أمير عام حازم مُطاع
ليسوق الأمة طوعًا أو كرهًا إلى الرشاد، ولا حكيم معترف له بالمزيد والإخلاص
لتنقاد إليه الأمراء والناس، ولا تربية متحدة المقصد ينتج منها رأي عام، لا يطرقه
تخاذل وانقسام، ولا جمعيات منتظمة تسعى بالخير، وتتابع السير، ولذلك حل فينا
الفتور وإلى الله ترجع الأمور.
أجابه الفقية الأفغاني: إن ما وصفته من أمير وحكيم لا يوجدان في الأمم
المنحطة إلا اتفاقًا، وأما الرأي العام والجمعيات فلا يفقدان إلا بسبب فقد الإحساس
وهذا ما نتساءل عنه. وذكر أن الداء العام فيما يراه هو الفقر الآخذ بالزمام؛ لأن
الفقر قائد كل شرور ورائد كل نحس فمنه جهلنا ومنه فساد أخلاقنا بل منه تشتُّت آرائنا
حتى في ديننا، ومنه فقد إحساسنا ومنه كل ما نحن فيه ، أو نتوقع أننا سنوافيه: فهذه
فطرتنا لا ننقص فيها عن غيرنا وعددنا كثير وبلادنا متواصلة وأرضنا خصبة
ومعادننا غنية وشرعنا قويم وفخارنا قديم فلا ينقصنا عن الأمم الحية غير القوة
المالية التي أصبحت لا تحصل إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تحصل إلا بالمال
الطائل فوقعنا في مشكل الدور، وعسى أن نهتدي لفكه سبيلاً وإلا فيحيق بنا ناموس
فناء الضعيف في القوي وفناء الجاهل في العالم.
ومن أعظم أسباب فقر الأمة أن شريعتنا مبنية على أن في أموال الأغنياء حقًّا
معلومًا للبائس والمحروم فيؤخذ من الأغنياء ويوزع على الفقراء، وهذه الحكومات
الإسلامية قد قلبت الموضوع فصارت تجبي الأموال من الفقراء والمساكين وتبذلها
للأغنياء وتحابي بها المسرفين والسفهاء.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: عبد العزيز محمد
الكتاب الثالث من
أميل القرن التاسع عشر
في اليافع [*]
شذرات مقتطفة من جريدة أراسم. تحريرًا بمرازيون في سنة -185
الداخلة في سنة - 186
الشذرة الأولى
حب الزوجة والولد والوطن
منذ سنة تغيرت شئون حياتي كلها ولقد وجدتها هي بعينها [1] ولما تلاقينا كنا
كأننا لم نفترق في حياتنا فإن النَّوى لم تغير شيئًا من ضروب وجداننا ولا من عاداتنا
لبقاء قلبينا على ما كانا عليه من الارتباط والاتحاد، وغاية ما حدث أني أراني
الآن آنس مني في جميع أيامي السالفة بحسن معاشرتها وجمال معاملتها. نعم إنها
لم تبقَ طفلة كما عهدتها ولكنها لم تأخذ من مرور الأعوام وكرور الأيام إلا ما يزيد
المرأة في القلوب محبة وفي النفوس تأثيرًا، فكأن روحها وملامح وجهها تكملت
وتطهرت بأدائها فروض الأمومة المقدسة.
كنت أوشكت أن أقنط من معرفتي لولدي، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا
المقام أن الذين هم أكثر الناس اشتغالاً بالتربية لم يرزقوا أولادًا أو رُزقوهم وحُرموا
من رؤيتهم، وربما كان هذا هو الباعث لهم على الاهتمام بالتربية وجعل البحث في
شئونها غايتهم ليؤدوا بذلك ما فرضه الله عليهم منها بنوع آخر من الأداء.
فليت شعري بماذا استحققت أن أكون أسعد من هؤلاء مع كونهم أجدر مني
بالسعادة؟.
ما أشدني حُنُوًّا وتأثرًا عند تقبيل ولدي إياي، وما أعظم زهوي وإعجابي به
عندما آخذ بيده أتنزه معه في المزارع، وإن الدنيا لتُرى في عيني جديدة وهو معي
كأن لم أرها منذ سبع سنين. ولا جرم أن الإنسان لا يبصر وهو رهين السجن
محروم من الحرية فكل ما كنت أراه من أشجار وصخور عمرت عمر الدنيا القديمة
كأن يخيل إلي أنه لم يخلق إلا بالأمس.
خطر في ذهني ساعة خاطر العود إلى فرنسا ولكن ألف مانع، وإن شئت فقل
ألف وَهْم قد تحول بين المرء وبين معيشته في وطنه، وما أدراك أن من هذه الموانع
ما يعتريني من الألم الممضّ الذي لا أستطيع التعبير عنه إذا رأيت أمة عظيمة
عهدتها حرة قد أصبحت في قبضة حاكم وجميع ما يحصل في هذا الوطن لا يقل عن
ذلك إيلامًا للقلب ولا إزهاقًا للنفس.
يوجد في جميع عصور التاريخ رجال بررة صالحون رأوا من الواجب عليهم
لأنفسهم ولأوطانهم أن يخدموا هذه الأوطان وهم بمعزل عنها، فمثل هؤلاء هم فيما
أرى أشد حبًّا لها؛ لأنهم سواء قربوا منها أم بعدوا عنها يحيون بنفحاتها وينتشعون
بمجاهداتها في سبيل الخير وبما لها من الآمال في الوصول إليه. جرحهم في صميم
أفئدتهم ما مس أمتهم من القروح، وإن كان يبدو من حال الأمة عدم شعورها بألمها
كأن في مرور الزمن عليها والاعتياد على احتمالها من قوة التأثير ما يكفي لاندمالها
جميعاً. مثل هؤلاء المتطوعين بالاغتراب والنفي يلومون الناس وحوادث الدهر
ولكن إذا حاول مجادل أمامهم أن ينقص من كرامة فرنسا ويحط من شأنها استشاطوا
غضبًا وتليّغ الدم في عروقهم. ذلك أن هذه القطعة من الأرض التي تنازلوا عن
سكناها مختارين قد تغلغل حبها في أحشائهم وأخذ بمجامع قلوبهم، فتراهم يبذلون
الوطن نفسه في إعزاز شأن المعنى الذي قام في أذهانهم ويفضلون الحكم على
أنفسهم بالبعد عنه على رؤيتهم إياه مهينًا ذليلاً.
كأني بسائل يقول: لماذا اتخذت هذه العادة وهي تقييد أفكارك ومذكراتك كل
يوم بحسب المصادفة والاتفاق؟ فأجيبه: إن هذا مطوي أيام معيشتي في السجن أنشره
للناس، لأني لما لم يكن لي فيه أنيس أطارحه الحديث كنت أكتب كأني أراسل
نفسي. اهـ
***
الشذرة الثانية
تعليم المسميات قبل الأسماء
لم تُخْلِفْ طريقتها في تربية (أميل) أملاً من آمالي فلتبق على ما هي بسبيله
من تهذيبه وتثقيفه بما تقدمه له من الأُسى وبما توحيه إلى نفسه من الثقة بها، على
أننا من عهد أن أنعم الله علينا باللقاء رأينا من المفيد أن نقسم العمل بيننا؛ لأن
التعليم - إن لم أكن غاليًا في حكمي - هو من وظائف الوالد غالبًا، وأما التربية
فإنها من أعمال الوالدة، وإن أردت أن تعلم أين نحن من قيام كلٍّ بعمله فأقول:
لما يدرس (أميل) شيئًا درسًا منتظمًا فهو إنما لقف دروسه الأولى في علم
التاريخ الطبيعي متفرقة على نحو من الاتفاق وذلك بمعاينة ما كان يجده كل يوم
على شاطئ البحر من أنواع المحار والصدف. ثم إنني أمكنه من النظر بالمنظار
المعظم (الميكرسكوب) وهو آلة شائعة الاستعمال جدًّا عندنا محركًا أجزاءه
بنفسي فيكبر له بعض عجائب المخلوقات غير المتناهية في الصغر وأريه بالمرقب
(التليسكوب) وهو آلة أرصد بها النجوم ليلاً عجائب المخلوقات غير المتناهية في
الكبر.
وقد ملأنا إناءً من الزجاج بالماء المالح ووضعنا فيه حيوانات هلامية
وحيوانات قشرية وأسماكًا وكنا نجدد ماءه كل ثمانية أيام، ومنه تلقى (أميل) كل ما
عرفه فيما أرى من علم حياة الحيوانات التي تعيش في جوف البحر. وفي بعض
الأحيان أكرر بمشهد منه بعض تجارب سهلة جدًّا في الكيمياء والطبيعة وهو على
جهله باسمَيْ هذين العلمين يدرك بعض الإدراك تأثير بعض الأجسام الفطرية في
بعض. ورآني يومًا أضع مقاييس للحرارة والهواء، ومع كونها لم تكن من الإتقان
في شيء بدا لي منه أنه أدرك استعمالها في الجملة؛ لأني رأيته يريد محاكاتها.
جميع ما تقدم هو كتب تعليمنا حتى الآن.
لا بد أن أكون أنا و (أميل) تابعين في التعليم لمذهب أرسطاليس؛ لأن أغلب
درسنا يحصل في وقت التنزه، فإني أدع لأمور الكون وحوادثه تنبيه ذهنه غير
متعرض لها بشرح ولا تفسير إلا أن يكون إجابة عما يوجه إليّ من الأسئلة مجتهدًا
في أن يكون الشرح واضحًا والبيان وافيًا. وقد عرفت من محاورته أن الوسيلة إلى
إصغائه إليّ هي تتبع سلسلة أفكاره عند محادثته، وإن كثيرًا ممن يأخذون على أنفسهم
تعليم الأطفال ليبالغون لهم في البيان ويفرطون في الشرح كما لو كانوا في حاجة إلى
أن يثبتوا بذلك لأنفسهم أنهم على معارف واسعة وعلوم جمة.
أنا لا أعلم (أميل) شيئًا بل إني أتعلم معه فعوضًا عن كوني أعلمه طريقتي في
النظر أجتهد في معرفة طريقته وتمييزها وما لا يميل إلى معرفته بحال أجهله مثله أو
أتجاهله. نعم إن هذه الطريقة ليس من شأنها أن تعلي قدر الأستاذ في نظر تلميذه،
وأنه لا بد في اتباعها من تنزه العقل عن الغرض وتنازله عن بعض شهواته، ولكن
ما هو متبع الآن من نقش صيغ العلوم وقوانينها وقضاياها في أذهان الأطفال ليس هو
إلا كرقم الألفاظ على الرمل.
ملكة البحث عند الطفل هي كغيرها من الملكات تنمو بالاعتياد والمراس، فإن
الشوق إلى معرفة الأشياء يتولد في الإنسان ولا يولد معه وإنما يكتسب ذوق الملاحظة
الاستقلالية بالملاحظة نفسها. إن لي أن أعين تنبه (أميل) والتفاته بأن أريه ما لا
يراه في الأشياء لأول نظرة إليها غير أنه في هذه الحالة يجب أن يكون هو مصدر
الميل إلى ذلك أيضًا، وأن يكون صدور هذا الميل منه فطريًّا. ثم إن الأطفال في
الجملة مدفوعون جدًّا بسائق الطبع إلى الإكثار من السؤال، فرأيي أن التعجيل لهم
بالجواب قبل السؤال وتجاوز حدود ما يطلبون معرفته مما تخبو به نار هذا
الاستعداد المبارك، لأن ذلك يفضي بكثير منهم إلى التزام السكوت ليكفوا أنفسهم
مؤنة سآمة الدرس وطوله. اهـ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) الباب الأول من هذا الكتاب في الأم، والباب الثاني في الولد، وقد تقدما وهذا الباب الثالث في تربية الغلام اليافع.
(1)
يريد زوجته أم أميل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
قوانين التعليم الرسمي والجمعية العمومية
النبذة الثانية
تقدم في الجزء الماضي ملخص ما دار بين مفتي الديار المصرية وناظر
مدرسة المعارف من المناقشة والمراجعة في اقتراح عرض قوانين التعليم في
مدارس الحكومة على مجلس شورى كسائر قوانين الحكومة. ونذكر في هذا الجزء
ملخص ما دار في الجمعية بين الناظر والشيخ علي يوسف مع ذلك مع بيان رأينا فيه ثم ننقد القانون فنقول:
(الشيخ علي)(الضمانات)[1] التي ذكرها سعادة ناظر المعارف إنما هي
كافية في التغييرات الإدارية كتحديد أوقات الدروس وحصص المدرسين، وأما
القواعد الكلية المتعلقة بالعلوم من حيث ترتيبها في التعليم واللغة التي تعلم بها فربما
لا يصح تغيير قوانينها في أقل من عشرين سنة مثلاً لذلك يجب الضمان. والتعليم
باللغة الأجنبية معناه نقل أشخاص إلى العلم، وأما التعليم بلغة الأمة فهو نقل العلم إلى
الأمة فيسهل على الطالب معه أن ينفع بيته بعلمه وبما يجيء به من كتب التعليم.
وقد نشأ عن التعليم باللغة الأجنبية قلة التأليف بالعربية وعدم وجود الأساتذة الأكفاء في
المدارس الحرة ولم نق من ذلك (ضمانات) ناظر المعارف. فالقوانين
العمومية يجب عرضها على مجلس شورى القوانين؛ إذ لا يكفي فيها نظر
الحكومة وحدها.
(الناظر) إن الطرق المتبعة في التعليم ما وضعت إلا بعد تجارب شتى
بمعنى أن هذا التعليم الذي تبين أن تعليمه بالعربية أنفع يكون تعليمه بها والعكس
بالعكس إذ المدار في ذلك على الكتب والمدرسين والأقرب للترقي. ومما بينته من
(الضمانات) وغيرها يتضح أن وضع (البروجرامات) يتبع فيه أحسن الطرق
وأفضلها اهـ كما كتب.
(الشيخ) ذلك يراد به الأسهل في التعليم، والذي نريده هو نفع الأمة وقد كان
منذ عشر سنين تؤلف كتب في الطب والطبيعة وغيرهما من العلوم فيأتي بها التلميذ
فيستفيد منها أبوه وأهله، ولا شيء من ذلك الآن؛ لأن التعليم والتأليف باللغة الأجنبية
فيجب أن يكون التعليم الوسط بلغة البلاد، ويصح أن يكون في المدارس العالية باللغة
الأجنبية.
(الناظر) يترتب على هذا جعل التعليم ناقصًا، وانتشار العلم في البيوت لا
يكون بوجود الكتب في أيدي أفرادها؛ إذ لا من يفهم الكتاب إلا من كانت عنده
مبادي العلوم.
وعند ما رأى أعضاء الجمعية أن الناظر يعيد كلامه ويحتج (بضماناته) كلما
ألحت الجمعية بوجوب اطلاع مجلس الشورى على قوانين التعليم قال حسن بك
مدكور إن أحسن ضمان هو إرسال قوانين التعليم لمجلس الشورى. وأمر الرئيس
بأخذ الآراء (فتقرر بأغلب الآراء) طلب ذلك من الحكومة. ولا أدري هل كان في
المخالفين أحد غير ناظر المعارف؟ إن كان فلعله من بعض الموظفين الذين يرون
موافقة الناظر تأييدًا لحزب الحكومة وإن كانت المصلحة واحدة والشورى من
الحكومة.
أما الجواب الأول للناظر فقد أحسن الشيخ علي في نقضه بقدر ما يسمح له
المجلس الرسمي، ونزيده إيضاحًا بأن هذا التعليم الذي وصفه الناظر بأنه أنفع
وأحسن وأفضل قد خالفت النظارة فيه ما اتفقت عليه الأمم الأوربية كلها وفي
مقدمتهم الإنكليز.
ذلك أن التعليم الابتدائي في أوربا لا يكون إلا بلغة البلاد؛ لأن حياة الأمة بلغتها
وتعلم لغة أخرى لأجل المزيد في العلم كتعلم الإنكليز لغة الألمان هو من
الكماليات التي يجب أن تكون بعد الضروريات. فهل وصل نظار مدارس معارفنا
ومفتشوها - إن كان قانون التعليم برأيهم - إلى ما لم يصل إليه فلاسفة أوربا
وأساتذتها في علم التربية والتعليم؟ ؟
فإن قال الناظر: إذا ثبت أن تعلم الطبيعيات مثلاً أسهل باللغة الإنكليزية منه
باللغة العربية فكيف نتنكب الطريق السهل ونسير في الحزون الوعرة؟ نقول له
بعد التسليم: وهل تعدل عن الإنكليزية إلى التركية أو اليابانية إذا ثبت عندك أن
التعليم بها أسهل والتحصيل أقرب؟ وإنما قلنا: أسهل وأقرب ولم نقل: (أنفع) كما
قال الناظر لأن الأنفعية لا شبهة عليها إذا فسرت بالسهولة وقرب التحصيل؛ إذ لا
يمكن أن يقول عاقل: إنني أسعى بمحو لغة أمتي واستبدال لغة أخرى بها لمنفعة من
المنافع، وأي نفع في الدنيا يوازي ضرر إهمال الأمة التي هي من أقوى مقوماتها أو
هي أقواها في نظر الأكثرين.
وأما الجواب الثاني من أجوبة الناظر فأمثل ناقض له ما فعلته الجمعية من
ترك المناقشة بالمكابرة والإصرار على أن الضمان على التعليم لا يكون للأمة إلا
بعرض قوانينه على مجلس الشورى والجزم بطلب ذلك من الحكومة، وماذا عسى
أن يقال لمن يقول: إن التعليم الابتدائي بلغة الأمة يكون ناقصًا وجميع الأمم الحية
عليه كأن الكمال لم يوجد إلا في معارف مصر التي لا أثر لمعارفها يذكر بالنسبة
إلى سائر الأمم. وماذا عسى أن يقال لمن يدعي أن انتشار الكتب العلمية في الأمة
لا تأثير له في منفعة البيوت وترقي أفرادها؟ أليس تحدث التلامذة في بيوتهم
ومذاكراتهم في المسائل العلمية بلغتهم مما يجعل الاصطلاحات العلمية مألوفة في
البيوت لكثرة طروقها للسامع؟ أليس الآباء والأمهات الذين تلقوا شيئًا من مبادئ العلوم
وقضت عليهم شئون المعيشة بعدم إتمام تعليمهم ينتفعون بالكتب المؤلفة إذا كانت
بلغتهم؟ بلى وإننا نعود إلى الكلام في قانون التعليم فنقول: إن في هذا القانون
(البروجرام) عيوبًا وتقصيرًا نسرد ما يظهر لنا منها باختصار على ترتيب القانون
وهو:
(1)
كون القرآن لا يدرس في السنتين الأولى والثانية وكون الذي يقرأ منه
جزأين فقط. والأمة ترغب في إقراء أولادها القرآن كله لما في قراءته من تقويم
اللسان وتعويده على الفصاحة في النطق والاستعانة على الكتابة والخطابة، ولكونه
أصل الدين والوسيلة العظمى لكمال من يفهمه. ولم تغن (الضمانات الخمس) عن
هذا النقص شيئًا.
(2)
كون تعليم الدين والتهذيب في أثناء سنتين فقط مع أنه يجب أن يكون
ذلك موزعًا على جميع السنين؛ لأن الدين والتهذيب هما المقصود والأهم من التعليم
ومن لم يتمكن منهما يكون خاسرًا في حياته وإن تعلم جميع الفنون الأخرى. ولم
تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(3)
كون الوقت المخصص لتعليم الدين والتهذيب معًا ساعة واحدة في
الأسبوع مع أن اللغة الأجنبية التي تعلم من السنة الأولى الابتدائية إلى آخر يوم من
أيام التعليم العالي لها سبع ساعات في الأسبوع من السنتين الأوليين. فالساعات
المقررة في القانون لتعليم علوم الدين وعلم التهذيب 36 ساعة في السنة و 72
ساعة في مدة الدراسة كلها، وتغتال منها أيام الأعياد والمواسم ما تغتال. فالمدة نحو
ثلاثة أيام وهي لا تكفي لتعليم الأكل. فهل تكفي ببركة (الضمانات الخمس) لمعرفة
الله وما أوجبه على عباده من أصول الإيمان وتثقيف الأخلاق وكيفية العبادات مع
التهذيب المدني الدنيوي الذي نوه به ذلك القانون. هذا أكبر عيب ونقص في نظام
المعارف ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(4)
كون علم الدين لا شأن له في درجات ترقي التلامذة في الامتحان
المعبر عنها بالنمرة، فلو فرضنا أن تلميذًا بلغ في فهم الدين ومعرفة أحكامه مبلغ
الأئمة وكان مساويًا لآخر في سائر العلوم فإن هذه المعرفة لا ترفعه عنه درجة واحدة
فإن زاد ذلك الآخر درجة واحدة في الخط الإفرنجي مثلاً فإنه يرتفع بذلك ويتقدم
على ذلك الإمام الديني الجليل، ومن لاحظ أن التلامذة لا يجتهدون إلا لأجل السبق
في الامتحان وعلم أن الدين لا مجال فيه للسبق؛ لأنه لا درجة له علم أن النظارة
متعمدة إهمال الدين أو جاهلة منزلته ومكانته، وهذا نقص فاحش في قانون التعليم ولم
تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(5)
كون المسائل التي يبتدأ بها في تعليم الدين تعلو على عقول المبتدئين
وهي كما في الصفحة 12 من قانون (احتياج الإنسان إلى الدين - بيان الفوائد
المترتبة على التمسك به - بيان أنه ليس قاصرًا على أنواع العبادات بل هو مشتمل
على ما يلزم للإنسان من المعاملات وغيرها ويرشده إلى طريق المجد والشرف في
الدنيا والآخرة - أول ما أوجبه الدين - ما يجب في حقه تعالى وما يستحيل وما يجوز - الحكمة في إرسال الرسل - ما يجب في حقهم عليهم الصلاة والسلام وما يستحيل وما يجوز - نسبه صلى الله وعليه وسلم من جهة أبيه وأمه) .
ولا شك أن هذه المسائل يتوقف فهمها على معرفة الأحكام العقلية والإلمام بعلم
الاجتماع فابتداء التعليم بها نقص. وإذا فرضنا أن تلاميذ السنة الثالثة الذين لم
يكونوا تعلموا من الدين شيئًا مستعدون لفهم مقدمات هذه المسائل ثم لفهمها، ثم
فرضنا أنهم يعلمون المقدمات فعلاً، فهل يقدر المعلمون على تعليم ذلك كله مع علم
التهذيب في ست وثلاثين ساعة وهو الوقت المعين لدرس هذه الأشياء كما تقدم؟
اللهم إن هذا ما لا يستطيع أن يتصوره عاقل وإنه لنقص فاحش وخلل فاضح في
قانون تعليم المعارف، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(6)
كون هذه المسائل غير محيطة بالعقائد الدينية فهناك مسائل أخرى
تجب معرفتها وليس بعد هذه السنة تعليم للعقائد وهذا نقص ضار منتقد، ولم تغن
(الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا آخر.
(7)
كون الكتاب الذي تعلم به هذه العقائد وما معها ليس مؤلفًا على الوجه
الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قانون التعليم قبل تلك المسائل التي ذكرناها، ثم
إن أثر تلك الغاية لم يظهر في تلامذة مدرسة من المدارس كلهم أو جلهم فنقول:
إن المدار على المعلمين في الوصول إليها وهذا إهمال عظيم ونقص محسوس ولم
تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(8)
كون قسم الأخلاق الدينية لا وجود له في تعليم مدارس الحكومة وهذا
نقص عظيم، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا.
(9)
كون علم الحلال والحرام مهملاً لا وجود له في التعليم الديني وهذا
النقص قبيح، والغاية من تعليم الدين لا تتم إلا به، ولم تغن (الضمانات الخمس)
عن هذا النقص شيئًا.
(10)
كون مسائل العبادات التي تدرس في السنة الرابعة غير كافية وغير
مؤدية إلى الغاية المطلوبة، وكون الوقت المخصص لتعليم العبادة غير كافٍ، وهذه
أنواع من النقص والخلل جعلناها واحدة؛ لأنه تقدم في قسم العقائد نظيرها. ولم
تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. وقد طال الكلام في انتقاد تعليم
القسم الديني ومن بين لنا خطأ في شيء منه فإننا نرجع عنه؛ لأن قصدنا الإصلاح
لا إظهار العيوب. وسنتكلم عن النقص في سائر الأقسام فيما يأتي إن شاء الله
تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رأى القراء في النبذة الأولى أننا كنا نضع كلمة (الضمانة) و (الضمانات) بين علامات مميزة كما هنا إشارة إلى معناها الذي يخالف ما استعملت فيه وهو المرض فكان ناظر المعارف يقول: إن لقوانين التعليم في نظارته خمسة أمراض ونحن نقول: إنها أكثر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شهادة مفتي الديار المصرية
لكتاب أسرار البلاغة
طلبنا من مولانا الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية أن يكتب لنا رأيه في
كتاب أسرار البلاغة الذي طبعناه بإرشاده فكتب حفظه الله ما يأتي:
اطلعت على كتاب أسرار البلاغة من تأليف الإمام الجليل الشيخ عبد القاهر
الجرجاني وسعيت في طبعه وقرأته درسًا في الجامع الأزهر. وقد وضعه مؤلفه في
علم البيان والاستعارة والمجاز وسلك المسلك الذي يوافق العقل البشري سلوكه في
تصوير المعاني وتشخيصها على وجه تتأثر منه العقول بالأثر المطلوب من إبرازها
لها. ولم أرَ كتابًا في هذا الفن لا بقلم متأخر ولا بقلم متقدم يقرب من هذا الكتاب
في حسن الأسلوب وحياة المعنى ورونقه. ولقد كان كنزًا مخفيًّا لا تصل إليه يد
الباحث حتى يسر الله لنا نسخة بعث بها إلينا أحد أهل العلم من طرابلس الشام، وكان
فيها نقص وتحريف فأرسلت أحد طلبة العلم إلى الآستانة العلية ليقابلها على نسخة هناك ثم أكمل تصحيحها أثناء الدرس فكان ظهور هذا الكتاب من نعم الله على
المشتغلين بهذا الفن الجليل. وهو جدير بأن ينتفع به الأستاذ ويقتطف منه التلميذ
وتزين به كل مكتبة في مشارق الأرض ومغاربها.
…
...
…
...
…
...
…
... مفتي الديار المصرية
…
...
…
...
…
...
…
...
…
محمد عبده
***
دلائل الإعجاز
يعلم قراء المنار أن الإمام عبد القاهر الجرحاني قد أسس علمي البلاغة بكتابيه
المشهورين (أسرار البلاغة) الذي طبعناه، وهو في فن البيان، و (دلائل الإعجاز)
الذي نطبعه وهو في فن المعاني. وإنما سماه دلائل الإعجاز؛ لأنه لا طريق إلى
معرفة كون القرآن الآن معجزًا ببلاغته (كما أنه معجز بهدايته) إلا بالقوانين التي
وضعها في هذا الكتاب. وقد كتب رحمه الله مقالة أو رسالة سماها (المدخل في
دلائل الإعجاز) وجعلها مقدمة له مبينة لمنزلته، ودالة على مكانته ، ومصرحة بأنه
هو الواضع للفن. وهي على اختصارها قد أشارت إلى أصول قواعد النحو، وقال
بعد ذلك: إن جميع كلام العرب كان موافقًا لهذه القواعد، فإذا قال معترض: ما هذا
الذي امتاز به القرآن حتى كان معجزًا؟ نقول: إن الجواب عن هذا السؤال هو
كتاب دلائل الإعجاز لا جواب غيره. وإنني أذكر خاتمة كلامه في المدخل بنصه
وقصيدة ختمه بها وهو:
(إذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور وهذه
الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما
ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها
وكانت حقائق لا تتبدل ولا يختلف بها الحال؛ إذ لا يكون للاسم بكونه خبرًا لمبتدأ أو
صفة لموصوف وحالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف
حقيقته في كلام آخر - فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل
والعجيب من الرصف حتى أعجز الخلق قاطبة وحتى قهر من البلغاء والفصحاء
بالقوى والقدر ، وقيد الخواطر والفكر حتى خرست الشقاشق [1] ، وعدم نطق الناطق
وحتى لم يجر لسان. ولم يُبِن بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زَند،
ولم يمض له جد وحتى أسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا؟
أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونرده عن ضلاله، وأن نَطِبَّ لدائه
ونزيل الفساد عن رائه؟ [2]
فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي
وضعناه، ويستقصي التأمل لما أودعناه، فإن علم أنه الطريق إلى البيان،
والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحق وأخذ به وإن رأى أن له طريقًا غيره أومأ
لنا إليه ودلنا عليه، وهيهات ذلك، وهذه أبيات في مثل ذلك:
إني أقول مقالاًُ لست أخفيه
…
ولست أرهب خصماً إن بدا فيه
ما من سبيل إلى إثبات معجزة
…
في النظم إلا بما أصبحت أبديه [3]
فما لنظم كلام أنت ناظمه
…
معنى سوى حكم إعراب تزجيه
اسم يرى وهو أصل للكلام
…
فما يتم من دونه قصد لتشبيه
وآخر هو يعطيك الزيادة في
…
ما أنت تثبته أو أنت تنفيه
تفسير ذلك أن الأصل مبتدأ
…
تلقى له خبرًا من بعد تثنيه
وفاعل مسند فعل تقدمه
…
إليه يكسبه وصفًا ويعطيه [4]
هذان أصلان لا تأتيك فائدة
…
من منطق لم يكونا من مبانيه
وما يزيدك من بعد التمام فما
…
سلطت فعلاً عليه في تعديه
هذي قوانين يكفي من تتبعها
…
ما يشبه البحر فيضًا من نواحيه
فلست تأتي إلى باب لتعلمه
…
إلا انصرفت بعجز عن تقصيه [5]
هذا كذاك وإن كان الذين ترى
…
يرون أن المدى دانٍ لباغيه [6]
ثم الذي هو قصدي أن يقال لهم
…
بما يجيب الفتى خصمًا يماريه
تقول من أين أن لا نظمَ يشبهه
…
وليس من منطق في ذاك يحكيه
وقد علمنا بأن النظم ليس سوى
…
حكم من النحو نمضي في توخيه [7]
لو نقَّب الأرض باغٍ غير ذاك له
…
معنًى وصعد يعلو في ترقيه [8]
ما عاد إلا بخسر في تطلبه
…
ولا رأى غير غي في تبغيه [9]
ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في
…
أحكامه ونروي في معانيه
كانت حقائق يُلفى العلم مشتركًا
…
بها وكلا تراه نافذًا فيه
فليس معرفة من دون معرفة
…
في كل ما أنت من باب تسميه
ترى تصرفهم في الكل مطردًا
…
يجرونه باقتدار في مجاريه
فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا
…
حتى غدا العجز يهمي سيل واديه
قولوا وإلا فاصغوا للبيان تروا
…
كالصبح منبلجًا في عين رائيه
وقد كان هذا الكتاب كالذي قبله كنزًا مخفيًّا فظفر الأستاذ الشيخ محمد عبده
مفتي الديار المصرية بنسخة منه، وكان عند الأستاذ العلامة اللغوي الشيخ محمد
محمود الشنقيطي نسخة أخرى، وكلاهما كان محرفًا ومبدولاً فعلم الأستاذ الإمام أن
في المدينة المنورة نسخة منه وفي بغداد أخرى فعمل على استناسخها وصحح
الكتاب هو والأستاذ الشنقيطي بمقابلة النسخ الأربع فكان الكتاب الوحيد الذي اجتمع على تصحيحه أعلم علماء العصر في المعقول والمنقول.
هذا وإن هذا الكتاب أكبر من أسرار البلاغة حجمًا، وأغزر علمًا، فهو يزيد
عليه بنحو عشر ملازم، وقد شرعنا بطبعه على ورق جيد وجعلنا قيمة الاشتراك فيه
مع ذلك قيمة الاشتراك في أسرار البلاغة رفقًا بمجاوري الأزهر الذين سيكونون
أكثر الناس اشتراكًا به؛ لأن الأستاذ الإمام سيقرأه درسًا في الأزهر الشريف.
وستكون قيمته بعد تمام الطبع عشرين قرشًا أميريًّا فمن أراد الاشتراك فليدفع إلينا
القيمة ويأخذ بها وصلاً بإمضائنا.
_________
(1)
الشقاشق ج شقشقة بكسر الشين وهي لهاة البعير أو شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، ويقال للفصيح: هدرت شقاشقه، يريدون الانطلاق في القول وقوة البيان، ويقال في مقابل ذلك، خرست الشقاشق.
(2)
الراء هنا بمعنى الرأي كما قال ابن نباتة السعدي:
…
... يا أيها الملك الذي أخلاقه من خلقه ورواؤه من رائه
(3)
يريد كتاب (دلائل الإعجاز) وهو صريح في كونه هو الواضع لعلم المعاني.
(4)
يريد نظم القرآن وأسلوبه وفي هذا البيت تصريح أيضًا بأنه هو الواضع للفن.
(5)
تزجُّه بالتشديد تدفعه برفق وتسوقه ومثله التخفيف.
(6)
يكسبه من الثلاثي ومنه الحديث (تكسب العدوم) .
(7)
التقصي: التتبع.
(8)
باغيه: طالبه.
(9)
توخي الشيء: تحريه وتعمد طلبه.
(10)
صعَّد بالتشديد رقي كالثلاثي وهو هنا مقابل التنقيب في الأرض الذي فيه معنى التسفل، ويقال صوَّب النظر وصعده إذا نظر في أسفل الشيء وأعلاه، وعدَّى نقب بنفسه حاذفًا الخافض ولعله كان يراه قياسًا والمسموع تعديه بفي [فنقبوا في البلاد] .
(11)
تَبغَّاه كابتغاه: طلبه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الاحتفال بتذكار محمد علي باشا)
في يوم الأربعاء الماضي تم لتأسيس محمد علي باشا هذه الإمارة في مصر
مائة عام هجري فاحتفل ديوان الأوقاف بذلك في جامع القلعة وكذلك احتفلت به مشيخة
الأزهر في الجامع الأزهر، ومن بدع الزمان وغرائب الأيام أن يحتفل في بيوت الله
تعالى بذكر الأمراء والسلاطين والظلمة من الحاكمين، وهي البيوت التي أذن الله أن
ترفع عن الحظوظ الدنيوية ويذكر فيها اسمه وحده تقربًا إليه وابتغاء مرضاته لا
لذكر أمير ميت ولا لمرضاة أمير حي. فلماذا تنفق أوقاف المسلمين على إحياء
البدعة ومخالفة السنة؟ ولماذا لا تكون أمثال هذه الاحتفالات في قصور المنعمين
كعابدين ورأس التين؟ فمحمد علي لم يؤسس دينًا ولم يكن إمام مذهب في دين
وإنما أسس ملكًا عضوضًا بسفك الدماء والقوة والجبروت، هذا هو محمد علي في
نظر الدين، والحكمة في الاحتفال بذكره والإشادة بحمده في بيوت الله تعالى دون
بيوت الحكومة يعرفها جميع الناس.
أما محمد علي في نظر التاريخ فهو من الرجال العاملين الذين يحفظ التاريخ
فضلهم؛ لأن التاريخ سياسي أكثر مما هو ديني أو علمي، وقد جرت العادة أن يتملق
الناس للأمراء بمدحهم ومدح سلفهم وجعل سيئاتهم حسنات، فإنك ترى العالم الديني
الذي يحكم بكفر من يحكم بالقانون وظلمه وفسقه يقدس من وضع القانون باسمه ويحكم
فيه بأمره فمدح الأمراء والسلاطين وأصحاب الجاه أكثره كذب، والمادح محل التهمة،
والمنتقد لهؤلاء أقرب إلى العدل والإنصاف وإن احتمل أن يكون له هوى في بعض
الأحوال، وإننا نقول في تاريخ محمد علي كلمة عادلة نرجو أن يتلقاها كل عاقل
بالقبول وهي: إذا ذكر الرجل بأعماله فلمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة وهي:
(1)
تأسيس حكومة في بلاد مصر كانت مقدمة لدخول الأجانب فيها واحتلالهم
إياها. و (2) محاربة الدولة العثمانية وإظهار ضعفها للبرية. و (3) محاربة
الوهابية وخضد شوكتهم وإبطال امتداد دعوتهم.
وكل عمل من هذه الأعمال محل نظر الناس من بعده له، ومنهم من يعده
عليه وهم الأكثرون أو المحققون.
أما الأول فالمكبرون لأعماله يتوسعون فيه ما شاءوا؛ لأن المجال واسع
أمامهم فيذكرون إزالة دولة المماليك الظالمة الغاشمة وهو عمل جليل، ولكنهم
يستدلون بذلك على أن دولته كانت عادلة وهذا غير صحيح، فإن حكومته كانت
ظالمة منذ أسست إلى أن تولى الأوربيون السيطرة عليها فكان الظلم يقل كلما كثروا
والبغي يضعف كلما قوي نفوذهم ولكن الحسن في إزالة دولة المماليك من وجهين:
أحدهما: أن الظلم كان مشوشًا وحكومة محمد علي وأبنائه نظمته وكان متفرقًا
فوحدته وكان غير محصور فحصرته.
وثانيهما: أن نتيجة هذا النظام وهذه الوحدة هي تمهيد السبيل لدخول مدنية
أوروبا في مصر والأعمال إنما تمدح وتذم بنتائجها وغاياتها والعاملون إنما يمدحون
بحسن القصد والنية وبإتقان العمل، فأما محمد علي فقد أتقن عمله ولكن قصده لا
يحمد في نظر الدين ولا في نظر الفضيلة وإنما يحمد في نظر متاع الحياة وزينتها؛
لأن سيرته الملطخة بالدماء المحترمة تدل على أنه لم يكن يقصد غير الملك
وعظمته له ولذريته من بعده. وأما نتيجة عمله - فهي كما قلنا - دخول الأوربيين
هذه البلاد ونشر مدنيتهم فيها وإلقاء سيطرتهم عليها بالاحتلال الإنكليزي، فمن يرى
أن هذا خير وسيلة لنجاح البلاد وسعادتها فعليه أن يحمد عمل محمد علي وآل بيته
مهما ظلموا في الأموال والأعراض؛ لأن الإصلاح الكبير لا يأتي إلا ببذل الثمن
الكثير، ومن يقول: إن مدنية أوروبا شر على البلاد وأن الإصلاح الإنكليزي بلاء
عليها ووبال، فليحكم على عمل محمد علي وذريته بالإفساد وليحفظ له سوء الذكر إلى
يوم التناد.
وأما العمل الثاني وهو الخروج على الدولة العثمانية ومحاربتها وقهرها
وإظهار ضعفها، فلو سألت عنه أي مسلم في أي قطر لأجابك بأنه كان أضر عمل
عمله إنسان على الإسلام والمسلمين؛ لأنه في ذاته خروج والٍ على موليه وسلطانه
وتلك أكبر الخيانات، وأقبح الجنايات في الشرائع الإلهية، وفي القوانين البشرية.
وفي نتيجته إضعاف وقهر لأقوى دولة إسلامية، في عصر قويت فيه الدول
الأجنبية، فضعف بذلك الإسلام، ولم تقم لأهله قائمة بعد ذلك إلى الآن، ولكنك لا
تعدم ثلاثة نفر أو ثلاثين من الثلاثمائة المليون المسلمين يعتذر عن عمله أو يعده
فضيلة ومحمدة. فأشد هؤلاء المدافعين أَفَنًا في الرأي وصغارًا في النفس من يقول:
إن الدولة العلية لم تكن مرتاحة لاستقلاله، فكانت تدس الدسائس لزلزاله؛ أي: إنه
انتقم لنفسه من دولته، وحاربها لتمكين سطلته، ومن الناس من يقول: إن تلك
الحرب كانت بمواطأة بين محمد علي ورجال الدولة العلية في الأستانة وأنهم هم
الذين مكنوا له في أرض مصر ليخرج على الدولة، وأنه كان غرضهم الأخذ على
يد السلطان محمود وتخفيف سلطته الاستبدادية ومنعه من سفك الدماء، وعزل
العمال والوزراء بمجرد الهوى.
وأما العمل الثالث وهو محاربة الوهابية فأكثر العامة أو كلهم يعتقدون أنه كان
خدمة للإسلام، كفرت عن محمد علي جميع الذنوب والآثام، أما الخواص فإنهم
يعلمون أن الوهابية كانوا قائمين بإصلاح إسلامي لو تم لعاد للإسلام مجده الأول وأن
الذين وسوسوا لمحمد علي بمحاربتهم هم الأوربيون الذين ينظرون إلى غايات الأمور
وعواقبها كما هو مصرح به في بعض تواريخهم، وأما ما شاع في بلاد الشام
والحجاز من أن الوهابية خارجون عن السنة وملحقون بأهل البدعة فسببه بعض
المصنفات التي لفقها العلماء الرسميون المصانعون للحكام وهي مملوءة بالأكاذيب،
وإنما مذهب القوم مذهب السلف في العقائد مذهب الإمام أحمد في الفروع ولهم تشديد
عظيم على مخالف السنة. هذا هو اعتقاد الخواص، وهم يقولون: إن هذا العمل
الثالث هو أكبر سيئات محمد علي وأنه به وبما سبقه كان أكبر بلاء على الإسلام
والمسلمين في القرن الماضي.
* * *
(مكتوب عالم هندي من أركان النهضة الإسلامية)
كتب إلينا العلامة العامل، والسري الكامل، محسن الملك بهادر سيد مهدي
علي خان ناظم مدرسة العلوم (في على كده) وكان انقطع المنار عنه؛ لأن جزءًا
ردّ إلينا مما أرسل إليه لخطأ في عنوانه فتوهمنا أنه هو الذي ردّه فمنعناه فكتب إلينا
يقول بعد رسوم المخاطبة ما نصه:
(كانت ترد علينا في الأعوام الخالية مجلتكم الغراء وكنا نقرأها بشغف
وفرحة لا مزيد عليهما، ونستفيد من مقالاتها الصافية العلمية الدينية الإسلامية في
الرد على المنكرات والبدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا عامًّا،
ويسرُّنا ما لاح لنا من تآلف الأذواق وتوارد الخواطر بيننا وبينكم فإننا أيضًا قد
بذلنا جهدنا منذ عشرين عامًا في إيقاظ المسلمين من نوم الغفلة التي غرقوا فيها حتى
أضاعوا كل ما كان في أيديهم من العلوم والفنون والحكم والصنائع واتخذوا دينهم
هزؤًا ولعبًا، فأصبحوا كأنهم قوم لا يعقلون. فأخذنا ندعوهم إلى الانتباه من منامهم
الذي سبب امتهانهم لأجل تأخرهم عن الأقوام الذين كانوا شركاءهم في الوطنية
بالمقالات المشتهرة في الجرائد والمجلات، والخطبات والتصنيفات والتأليفات،
لتنبيههم واستنهاض هممهم على الأعمال النافعة، كتحصيل العلم حسب مقتضيات
الزمان وتعلم اللغة الإنكليزية (في الأصل اللسان) التي هي لغة حكامنا العادلين مع
الإقبال على تحصيل العلوم الجديدة المغربية، والنظر في شئون حياتهم الاجتماعية
وأمورهم الدينية والالتفات إلى إصلاحهم من كل الوجوه.
ولكننا نقول بأسف زائد: إن جميع مؤلفاتنا ومصنفاتنا ورشحات أقلامنا كلها في
لغتنا الأوردية، (وفي الأصل لساننا) التي لا تكاد تفهم في البلاد الأجنبية، وإلا
كان بودي أن نرسل إليكم بعض مؤلفاتنا.
أما الآن فالمرجو من حضرتكم أن تفضلوا وتراسلوا بإرسال مجلتكم الغراء
ولا تقطعوا عنا إرسالها.
ونثني ثناء جميلاً على غيرتكم الدينية وشغفكم بالاجتهاد في إصلاح حال
المسلمين وإرجاع مجدهم وحثهم على أسباب التقدم الملية والقومية. وقد سرني ما
شاهدت في مجلتكم من المقالات البديعة البالغة حد الإعجاز، المطابقة لذوقي تمامًا
وكمالاً.
فبهذا تعرفون ما يناسب ذوقي من الكتب؛ لأن ما وجدتم أنه تلذكم مطالعته فلا
بد من أنه يلذني أيضًا، فالرجاء أن ترسلوا إلينا من أمثال تلك الكتب، منها
مصنفات حضرتكم ومصنفات حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده المصري صاحب
رسالة التوحيد وغير ذلك من الكتب المفيدة
…
إلخ.
فنشكر لهذا الأستاذ حسن ظنه ونسأل الله أن يوفقنا جميعًأ لما يرضاه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
القضاء في الإسلام
(ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم
ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه)
النبذة الرابعة
ما به القضاء:
(تمهيد) أركان القضاء وأصول الحكم في الإسلام أربعة: الكتاب العزيز
والسنة المتبعة، والاجتهاد في الرأي، والمشاورة في الأمر، وإنها لأركان عظيمة،
وأصول قويمة، والأساس الذي بنيت عليه هذه الأركان (درء المفاسد وجلب
المصالح والمنافع) ولهذا كان الاجتهاد شرطًا في القاضي لوجوب تطبيق الأحكام
على المنفعة في كل زمان ومكان بحسبه. فمن يدّعي أنه وجد في أمة من الأمم
أساسًا أثبت من هذا الأساس وأركانًا أقوى من هذه الأركان فليدلنا على ذلك؛ وإلا
فليذعن لنا الناس بأن شريعتنا خير الشرائع وأساس العمران ولا يحتج علينا بسوء
حال قومنا الذين ما رَعَوها حق رعايتها في زمان ولا مكان، أما الأخبار والآثار
الدالة على ما ادعيناه فهذا بعضها:
(الحديث 25)[1] عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم قال له لما بعثه إلى اليمن: (كيف تقضي؟) قال: أقضي بكتاب
الله قال: (فإن لم تجد في كتاب الله؟) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (فإن لم تجد في سنة رسول الله؟) قال: أجتهد رأيي ولا آلو أي: لا
أقصر، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: (الحمد
لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى به رسول الله) . فهذا دليل على أن
القاضي مفوض إليه تحري الحق في الأقضية والاجتهاد لاستبانة العدل المطلوب في
الكتاب والسنة وذلك بعد اختياره من أهل الكفاءة الذين استوفوا الشروط التي نوهنا بها
من قبل، وقد اتبع هذه الطريقة الانكليز في هذا العصر، فالعمدة في الأحكام اجتهاد
القاضي العادل.
(ح 26)[2] عن عمرو بن العاص وأبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى
عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران)
والذي يصيبه الحاكم أو يخطئه هو الحق وإصابة الحق هي العدل، ومتى
تحرى الحاكم العدل ولم يتعمد الميل إلى أحد الخصمين يظهر له الحق في الغالب
فإذا تعمد الجور اختلط عليه الأمر وكان مخذولاً في الدنيا والآخرة. يدل على ذلك
الحديث الآتي وهو:
(ح 27)[3] عن واثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم
ولي من أمر المسلمين شيئًا إلا بعث الله إليه ملكين يسددانه ما نوى الحق، فإذا نوى
الجور على عمد وَكَلاه إلى نفسه) ويظهر من النصوص الواردة في الحق والعدل
أن مراد الشرع منهما هو ما يعرفه الناس بالفطرة السليمة والعقل وإنما شُرعت
الأحكام ووضعت القواعد لتهدي الحاكم إلى طريق الوصول إلى الحق الذي يتعمد
الظالمون إخفاءه.
(ح 28)[4] عن علي - كرم الله وجهه - قال: قلت: يا رسول الله إذا
بعثتني في شيء أكون كالسُّكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يراه الغائب؟ قال: (بل
الشاهد يرى ما لا يرى الغائب) وهذا دليل على أن مراعاة المصالح والمنافع هي
الأصل في القضاء؛ لأن الأحكام القضائية ليست من الأمور التعبدية، وإنما هي
وسائل لمعرفة الحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه، ولذلك لا يحل لمن حُكم له بشيء
يعلم أنه ليس له أن يأخذه وإن كان القاضي هو الرسول عليه الصلاة والسلام كما يُعلم
من الحديث الآتي وهو:
(ح 29)[5] عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من
بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما
أقطع له قطعة من النار) ، والألحن بالحجة: هو الأبلغ قولاً والأفصح عبارة.
وبقي من أركان الحكم المشاورة، ولا أعرف فيها حديثًا مرفوعًا يتعلق بالقضاء
وحسبنا الأمر العام بها في القرآن وستأتي شواهدها في آثار السلف.
(ح 30)[6] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين
على المُدَّعَى عليه) قال النووي في شرح مسلم: وفي رواية البيهقي بإسناد حسن
أو صحيح، زيادة عن ابن عباس مرفوعًا (لكن البينة على المدعي واليمين على من
أنكر) .
(ح 31)[7] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلي الله
عليه وسلم قال: (البينة على المُدّعِي واليمين على المُدَّعَىَ عليه) .
(ح 32)[8] عن وائل بن حجرة قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من
كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد
غلبني على أرض كانت لأبي، قال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له
فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي:(ألك بينة؟) قال: لا.
قال: (فلك يمينه) فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر الرجل: (أما لئن حلف على مالٍ
لِيأكله ظلمًا لَيلقينّ الله وهو عنه معرض) .
قال الإمام الحافظ الفقيه ابن القيم الجوزية في كتابه (إعلام الموقعين) ما
نصه: البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم
من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمن. لا حَجْر
في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم
النصوص. ونذكر من ذلك مثلاًُ واحدًا -وهو ما نحن فيه - لفظ (البينة) فإنها في
كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَات} (الحديد: 25) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ} (النحل: 43-44) وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ
الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: 4) وقال: {قُلْ إِنِّي
عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} (الأنعام: 57) وقال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه} (هود: 17) وقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْه} (فاطر: 40)[9]
وقال: {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) وهذا كثير لم
يختص به لفظ البينة بالشاهدين بل ولا استعمل في الكتاب فيها ألبتة.
إذا عرف هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي (ألك بينة؟)
وقول عمر: البينة على المدعي، وإن كان هذا قد روي مرفوعًا المراد به ألك ما
يبين الحق من شهود أو دلالة؟ فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق
بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له ولا يردّ حقًا قد ظهر
بدليله أبدًا فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها. ولا يقف ظهور الحق على أمر معين
لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحًا لا يمكن
جحده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على
رأسه عمامة وبيده عمامة، وآخر مكشوف الرأس يعدو أثره ولا عادة له بكشف
رأسه.
فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد
عند كل أحد، فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة ويضيع حقًا يعلم كل أحد ظهوره وحجته. بل لما ظن هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم فضاع كثير من
الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين وصار الظالم الفاجر ممكَّنًا من ظلمه
وفجوره فيفعل ما يريد ويقول لا يقوم عليَّ بذلك شاهدان اثنان. فضاعت حقوق
كثيرة لله ولعباده وحينئذ أخر الله أمر الحكم العام عن أيديهم وأدخل فيه من أمر
الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى ويحصل به العدوان تارة
والعدل أخرى، ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه؛ لكان فيه تمام المصلحة
المغنية عن التفريط والعدوان.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع
فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور، وأما في غير الزنا
فذكر شهادة الرجلين والرجل والمرأتين في الأموال فقال في آية الديْن {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان} (البقرة: 282) فهذا
في الحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه لا في طريق الحكم وما يحكم
به الحاكم فإن هذا شيء وهذا شيء. وأمر في الرجعة بشاهدين عدلين وأمر في
الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم،
وغير المؤمنين: هم الكبار، والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على وصية
(المسلم) في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين وقد حكم به النبي صلى الله عليه
وسلم والصحابة بعده ولم يجئ بعدها ما ينسخها فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً
وليس فيها منسوخ وليس لهذه الآية معارض ألبتة، ولا يصح أن يكون المراد بقول:
(من غيركم) من غير قبيلتكم فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ
مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة
حتى يكون قوله: (من غيركم) أيتها القبيلة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا
من الآية، بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده.
(وهو سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا
يحكمون إلا بذلك. فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين ولا بالنكول ولا
باليمين المردودة ولا بأيْمان القَسامة ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق
ويظهره ويدل عليه) . اهـ المراد منه، وذكر بعده ما اتفقوا عليه من الشهادات وما
اختلفوا فيه.
***
(آثار السلف عبرة للخلف)
قضاء الخليفتين
(1)
روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران أنه قال: (كان أبو بكر
إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم،
وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة فإن
علمها قضى بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال أتانى كذا وكذا فنظرت في
كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجد في ذلك شيئًا فهل
تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط
فقالوا نعم قضى فيه بكذا وكذا؛ فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول
عند ذلك: الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. وإن أعياه ذلك دعا رءوس
المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به. وأن عمر
ابن الخطاب كان يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن أو السنة شيئًا دعا رءوس
المسلمين وعلماءهم واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى بينهم) وإنما كان
يرجع إلى أقضية أبي بكر؛ لأنها مبنية على ما ذكر فربما ذَكَّرَتْه بدليل كان عنه
ذاهلاً. ولينظر في سؤال مثل أبي بكر رضي الله عنه عن قضاء رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم، وكون الصحابة كانوا يخبرونه بما لا يعرفه منها فإنه حجة
على الجاهلين الذين كانوا يزعمون أن ملقديهم كانوا محيطين بالسنة لا يغيب عنهم منها
شيء. وقد ورد بمعنى هذا الأثر آثار أخرى. وفي المحاكم الآن ضرب عن
المشاورة.
(2)
روى البيهقي عن ابن سيرين أنه قال: إن كان عمر بن الخطاب
لَيستشير في الأمر حتى إن كان ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء
يستحسنه فيأخذ به. وفي هذا الأثر من الفقه تكريم النساء ومشاركتهم للرجال في
الرأي حتى في الأمور العامة وهذا مما يرفع نفوسهن التي كانت قبل الإسلام
مهضومة. وما رُوي عنه من أنه قال: (خالفوا النساء فإن في خِلافهن البركة) فمعناه لا تتبعوا أهواءهن على أن سنده ضعيف.
***
كتاب عمر في القضاء
(3)
روى الدارقطني والبيهقي وابن عساكر عن أبي العوام البصري قال:
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري (أما بعدُ فإن القضاء فريضة محكمة وسنة
متبعة فافهم إذا أدلي إليك [10] فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له. آس [11] بين الناس
في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من
عدلك. البينة على المدَّعي واليمن على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا
صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً. ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فأضرب له أمدًا
ينتهي إليه، فإن بينه [12] أعطيته بحقه وإن أعجزه ذلك استحلت عليه القضية فإن
ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى [13] ولا يمنعك قضاء قضيت فيه [14] اليوم فراجعت
فيه رأيك [15] وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق [16] فإن الحق قديم لا يبطله [17]
شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل [18] والمسلمون عدول بعضهم على
بعض [19] إلا مجربًا عليه شهادة زور أو مجلودًا في حد أو ظنينًا في ولاء أو قرابة
[20]
فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان.
ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك [21] مما ليس في قرآن ولا سنة. ثم
قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال [22] ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله
وأشبهها بالحق. وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند
الخصومة أو الخصوم (شك أبو عبيد) فإن القضاء. في مواطن الحق مما يوجب
الله به الأجر ويحسن به الذكر [23] . فمن خلصت نيته [24] في الحق، ولو على نفسه
كفاه الله ما بيْنه وبين الناس ومن تزين لهم بما ليس في نفسه شانه الله [25] فإن الله
تعالى لا يقبل من العباد إلا من كان خالصًا، فما ظنك بثواب عند الله [26] في عاجل
رزقه وخزائن رحمته. والسلام عليك ورحمة الله) [27]
قال ابن القيم بعدما أورد هذا الكتاب في إعلام الموقعين: (وهذا كتاب جليل
تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج
شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه) ثم شرحه شرحًا مطولاًُ، وقد اعتمد في نصه هنا
على نسخة إعلام الموقعين؛ لأننا رأيناها أصح وذكرنا ما وجدناه من الاختلاف بينه
وبين (كنز العمال) في الهامش وليس فيه شيء جوهري.
_________
(1)
رواه أبو داود والترمذي والدارمي.
(2)
رواه البخاري ومسلم وكذا الحاكم والدارقطني وأحمد بألفاظ أخرى.
(3)
رواه الطبراني ورواه البيهقي بلفظ آخر بمعناه من حديث ابن عباس وضعفوه ورواه البزار بلفظ آخر وفي سنده متهم.
(4)
رواه أحمد والبخاري في التاريخ والدورقي وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر وابن منصور.
(5)
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة.
(6)
رواه أحمد ومسلم.
(7)
رواه الترمذي.
(8)
رواه مسلم والترمذي وصححه.
(9)
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر (بينات) والباقون (بينة) .
(10)
أدلي إليك أي تخوصم إليك، وقال ابن القيم أي ما توصل به إليك الكلام الذي تحكم به بين الخصوم، وفي نسخة كنز العمال (إذا أدى إليك) ولعلها تحريف.
(11)
في نسخة كنز العمال (آس) والمعنى ساوِ بينهم.
(12)
في نسخة كنز العمال (فإن جاء بينة) .
(13)
في الكنز (وأحلى) وذكرت نسخة في هامش إعلام الموقعين وهي تحريف كما حرف فيه لفظ للعمى فكتب (للعلماء) .
(14)
في الكنز (قضيته) .
(15)
في الكنز (لرأيك) .
(16)
في الكنز (إن تراجع الحق) .
(17)
في الكنز (لا يبطل الحق) .
(18)
الجملة في الكنز بدون عطف.
(19)
في الكنز زيادة (في الشهادة) .
(20)
المستثنيات في نسخة الكنز مرفوعة والظنين المتهم في شهادته للقرابة أو الولاء.
(21)
في الكنز (أدى إليك) .
(22)
في الكنز زيادة لفظ (والأشباه) وليس المراد أنه يقيس على كلام غيره وإنما ميزان القياس ما ذكره بعدُ.
(23)
في الكنز (ويحسن له الذخر) .
(24)
في الكنز (نفسه) .
(25)
سقط لفظ الجلالة من نسخة الكنز.
(26)
في الكنز (وما ظنك بثواب الله) .
(27)
آخر الرواية في الكنز (والسلام) .