الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
الملائكة والنواميس الطبيعية
سأل سائل: إذا كانت الملائكة هي عبارة عن القوى المعنوية والنواميس التي
بها نظام العوالم الحية. فما معنى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ} (النبأ: 38) وأمثاله؟ والجواب: إن الذي تقدم في التفسير هو أن الملائكة عالم
مستقل مستتر عنا وإنما كان ذكر القوى والنواميس الطبيعة جذبًا لمنكري الملائكة
إلى التصديق؛ لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون، فيكف يكفرون لاختلاف
الألفاظ لا أن الكلام كان إرجاعًا لنصوص الدين إلى أقوالهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من كتاب دلائل الإعجاز
للإمام عبد القاهر الجرجاني
(وهو يطبع الآن)
فصل
في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه
وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه
لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور (أحدها) : أن يكون رفضه له وذمه إياه
من أجل ما يجده فيه من هزل أو سُخْف وهجاء وسب وكذب وباطل على الجملة،
(والثاني) : أن يذمه لأنه موزون مُقفّى، ويرى هذا بمجرده عيبًا يقتضي الزهد فيه
والتنزه عنه (والثالث) : أن يتعلق بأحوال الشعراء وأنها غير جميلة في الأكثر،
ويقول: قد ذُمُّوا في التنزيل، وأي كان من هذه رأيًا له فهو في ذلك على خطأ ظاهر
وغلط فاحش، وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنظر، بالضد مما جاء به الأثر،
وصح به الخبر.
أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسُخْف وكذب وباطل،
فينبغي أن يذم الكلام كله. وأن يضل الخرس على النطق والعيَّ على البيان فمنثور
كلام الناس على كل حال أكثر من منظموه، والذي زعم أنه ذم الشعر بسببه، وعاداه
بنسبته إليه أكثر؛ لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون، والعامة ومن لا
يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل. ونحن نعلم أنه لو كان منثور الكلام يجمع كما
يجمع المنظوم. ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثرًا في عصر
واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظمًا في الأزمان الكثيرة، ولغمره حتى لا
يظهر فيه، ثم إنك لو لم تَروِ من هذا الضرب شيئًا قط ولم تحفظ إلا الجِدّ المحض
وإلا ما لا يعاب عليك في روايته وفي المحاضرة به وفي نسخه وتدوينه لكان في ذلك
غنى ومندوحة، ولو وجدت طلبتك ونلت مرادك حصل لك ما نحن ندعوك إليه
من علم الفصاحة، فاختر لنفسك ودع ما تكره إلى ما تحب (هذا) وراوي الشعر
حاكٍ وليس على الحاكي عيبٌ. ولا عليه تبعة، إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر
باطلاً أو يسوء مسلمًا. وقد حكى الله تعالى كلام الكفار، فانظر إلى الغرض الذي له
روي الشعر، ومن أجله أُرِيدَ وله دُوِّنَ، تعلم أنك قد زغت عن المنهج، وأنك مسيء
في هذه العداوة، وهي العصبية منك على الشعر. وقد استشهد العلماء لغريب
القرآن وإعرابه بالأبيات، فيها الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك إذا
كانوا يقصدون إلى ذلك الفحش، ولم يريدوه ولم يرووا الشعر من أجله. قالوا:
وكان الحسن البصري رحمه الله يتمثل في مواعظه وكان من أوجعها عنده:
اليوم عندك دلها وحدثيها
…
وغدًا لغيرك كفها والمعصم
وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المَرْزُباني في كتابه بإسناد عن عبد الملك بن عمير أنه قال: (أوتي عمر - رضوان الله عليه -
بحلل من اليمن فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر الصديق
ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي
الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء المحمَّدون بالباب يطلبون الكسوة فقال: ائذن
لهم يا غلام فدعا بحلل فأخذ زيد أجودها، وقال هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمه
عنده وهو من بني لؤي فقال عمر رضي الله عنه: أَيْهَاتَ أَيْهَاتَ، وتمثل بشعرعُمارة
بن الوليد:
أسرك لما صرع القوم نشوة
…
خروجي منها سالمًا غير غارم [1]
بريئًا كأني قبل لم أك منهم
…
وليس الخداع مرتضى في التنادم
رُدّها، ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل، وقال: أدخل يديك فخذ حلة
وأنت لا تراها فأعطهم. قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها. وعُمارة هذا هو
عمارة بن الوليد بن المغيرة خطب امرأة من قومه، فقالت: لا أتزوجك أو تترك
الشراب، فأبى ثم اشتد وجده بها، فحلف لها أن لا يشرب، ثم مر بخمَّار عنده شَرْب
يشربون [2] فدعوه، فدخل عليهم، وقد أنفدوا ما عندهم فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه
ومكثوا أيامًا، ثم خرج فأتى أهله، فلما رأته امرأته قالت: ألم تحلف أن لا تشرب
فقال:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا
…
ثياب الندامى عندهم كالغنائم
ولكننا يا أم عمرو نديمنا
…
بمنزلة الرَّيان ليس بعائم [3]
أسرك البيتين. فإذنْ: رُبَّ هزل صار أداة في جد، وكلام جرى في باطل، ثم
اُستعين به على حق؛ كما أنه رُب شيء خسيس، تُوصِّلَ به إلى شريف، بأن
ضرب مثلاً فيه، وجعل مثالاً له؛ كما قال أبو تمام:
والله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلا من المشكاة والنبراس
وعلى العكس، فرب كلمة حق أريد بها باطل، فاستحق عليها الذم كما عرفت
من خبر الخارجي مع علي، رضوان الله عليه. وربَّ قول حسن لم يحسن من
قائله حين تسبب به إلى قبيح كالذي حكى الجاحظ قال: رجع طاوس يومًا عن مجلس
محمد بن يوسف وهو يومئذ والي اليمن فقال: ما ظننت أن قول سبحان الله يكون
معصية لله حتى كان اليوم سمعت رجلاً أبلغ ابن يوسف عن رجل كلامًا فقال رجل من أهل المجلس: سبحان الله، كالمستعظم لذلك الكلام ليغضب ابن يوسف، فبهذا
ونحوه اعتبر، واجعله حكمًا بينك وبين الشعر.
(وبعد) فكيف وضع من الشعر عندك وكسبه للمقت منك أنك وجدت فيه
الباطل والكذب، وبعض ما لا يحسن ولم يرفعه في نفسك، ولم يوجب له المحبة من
قلبك، وأن كان فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب. وأن كان مَجْنَى ثمر
العقول والألباب، ومجتمع فرق الآداب، والذي قيد على الناس المعاني الشريفة،
وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى
الولد عن الوالد، ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار
الماضين، مخلدة في الباقين، وعقول الأولين، مردودة في الآخرين، وترى لكل من
رام الأدب، وابتغى الشرف، وطلب محاسن القول والفعل، منارًا مرفوعًا، وعلمًا
منصوبًا، وهاديًا مرشدًا، ومعلمًا مسددًا، وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر،
والزاهد في اكتساب المحامد، داعيًا ومحرضًا، وباعثًا، ومحضضًا، ومذكرًا
ومعروفًا وواعظًا ومثقفًا، فلو كنت ممن ينصف كان في بعض ذلك ما يغير هذا
الرأي منك، وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه، ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به،
ولكنك أبيت إلا ظنًّا سبق إليك، وإلا بادئ رأي عنَّ لك، فأقفلت عليك قلبك،
وسددت عما سواء سمعك، فعيّ الناصح بك [4] ، وعسر على الصديق الخليط
تنبيهك، نعم وكيف رويت (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا فَيَرِيَه [5] خير له أن يمتلئ
شعرًا) ، ولهجت به وتركت قوله صلى الله وعليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة
وإن من البيان لسحرًا) [6] وكيف نسيت أمره صلى الله وعليه وسلم بقول الشعر
ووعده عليه الجنة، وقوله لحسان:(قل وروح القدس معك) ، وسماعه له،
واستنشاده إياه، وعلمه صلى الله عليه وسلم به، واستحسانه له، وارتياحه عند
سماعه؟
(أما) أمره به فمن المعلوم ضرورة، وكذلك سماعه إياه فقد كان حسان وعبد
الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه، ويسمع منهم، ويصغي إليهم، ويأمرهم
بالرد على المشركين [7] فيقولون في ذلك ويعرضون عليه ، وكان عليه السلام يذكر
لهم بعض ذلك كالذي روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب: (ما نسي ربك
وما كان ربك نسيًّا شعرًا قلته) [8] قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: (أنشده يا أبا
بكر) فأنشد أبو بكر رضوان الله عليه:
زعمت سَخِينةُ أن ستغلب ربها
…
وليغلبنّ مُغالب الغَلابِ [9]
(وأما) استنشاده إياه فكثير، من ذلك الخبر المعروف في استنشاده حين استسقى فسُقِيَ قول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامي عصمة للأرامل
يطيف به الهلَاّك من آل هاشم
…
فهم عنده في نعمة وفواضل
الأبيات. وعن الشعبي رضي الله عنه عن مسروق عن عبد الله قال: لما نظر
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتلى يوم بدر مصرّعين، فقال صلى الله عليه
وسلم لأبي بكر رضي الله عنه (لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت
بالأنامل) قال: وذلك لقول أبي طالب [10] :
كذبتم وبيت الله أن جد ما أرى
…
لتلتبسن أسيافنا بالأنامل
وينهض قوم في الدروع إليهم
…
نهوض الروايا في طريق حلاحل
ومن المحفوظ في ذلك حديث ابن مسلمة الأنصاري [11]
…
جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق، قال: فتذاكرنا الشكر والمعروف، قال: فقال محمد: كنا يومًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان بن ثابت:
(أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية فإن الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها
وروايته) فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة عُلاثة:
علقمَ ما أنت إلى عامر
…
الناقض الأوتار والواتر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد
مجلسك هذا) فقال: يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر فقال
النبي صلى الله وعليه وسلم: (يا حسان، أَشْكَرُ الناس للناس أَشْكَرَهُم لله تعالى،
وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني، وفي خبر آخر: فشعَّث مني
وإنه سأل هذا عني فأحسن القول) فشكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك
وروي من وجه آخر أن حسان قال: يا رسول الله من نالتك يده وجب علينا شكره،
ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول (أبياتك) فأقول:
ارفع ضعيفك لا يَحُرْ بك ضَعفُه
…
يومًا فتدركه العواقب قد نَمَى
يجزيك أو يثني عليك وأنَّ من
…
أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
صرع بالتشديد كصرع بالتخفيف والضمير في منها لنشوة السكر ومن شأن المنتشى أن يتلف ماله فيخرج غارمًا وأن للإمارة نشوة أدعى إلى الغرم، وسكره أبعث على الظلم، ومثل عمر من يخرج منها وهو سالم، لا ظالم ولا غارم.
(2)
الشرب بالفتح جماعة الشاربين.
(3)
العائم ذوالعيمة (كخيمة) وهي شهوة اللبن مع فقده.
(4)
عي: عجز أصله عيي فأدغم.
(5)
حديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن أبي هريرة وعن غيره والرواية المشهورة فيه (حتى يره) أي يفسده، وفي رواية يحذف حتى يريه، وفي أخرى حذف حتى، وقرأها بعضهم حينئذ يريه بالفتح وبعضهم بالضم ولم أر من رواه بالفاء (فيريه) كما في نسخة المصنف وفي رواية ابن عدي عن جابر (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا أو دمًا خيرًا له من أن يمتلئ شعرًا مما هجيت به) .
(6)
الحديث المشهور رواه أصحاب الصحاح وغيرهم، ورواية المصنف ملفقة من روايتين لقد وردت كل جملة من طريق وأما الجملتان معًا فقد جاءتا في حديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجه هكذا (إن من البيان سحرًا وإن من الشعر حكمًا) وعند ابن عساكر من حديث علي باللام وله تتمة وهي (وإن من العلم لجهلاً وإن من القول عيالاً) .
(7)
روى الخطيب وابن عساكر عن حسان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اهجُ المشركين
وجبرائيل معك، إذا حارب أصحابي بالسلاح فحارب أنت باللسان وفي حديث جابر عند ابن جرير أنه قال يوم الأحزاب (من يحمي أعراض المؤمنين، قال كعب: أنا يا رسول الله فقال: إنك محسن الشعر، فقال حسان بن ثابت: أنا يا رسول الله قال: نعم اهجهم أنت فسيعينك روح القدس) وكتب الأستاذ الإمام في هامش النسخة الأصلية بإزاء اسم كعب: (لعله كعب بن مالك لأن ابن زهير وإن مدح لكنه لم يؤمر بالشعر للمناضلة عن الإسلام، فقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع) ويؤيد قول الأستاذ ما رواه ابن جرير عن ابن سيرين وملخصه: أن المهاجرين رغبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يأمر عليا بهجاء الرهط الذين هجوه (وهم عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبعري وأبو سفيان بن الحارث) فقال: ليس علي هنالك وعرض بالأنصار فانتدب لذلك حسان وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وفيه أنه استنشد كعبًا وهو راكب ناقته الأبيات التي أولها:
قضينا من تهامة كل ريث
…
وخيبر ثم أجمحنا السيوفا
لخيرها ولو نطقت لقالت
…
قواطعهن دوسًا أو ثقيفا
قال: فأنشد الكلمة كلها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لهي أشد عليهم من رشق النبل) قال ابن سيرين: فنبئت أن دوسًا إنما أسلمت بكلمة كعب هذه.
(8)
قال الأستاذ الإمام: (هذا هو كعب بن مالك) .
(9)
كتب في هامش الأصل: سخينة لقب تنبز به قريش لأنها كانت تأكل السخينة وهي طعام من دقيق الشعير واللحم وتسخن وذلك من أيام المجاعات والحديث رواه ابن منده وابن عساكر عن جابر.
(10)
البيت الذي فيه لفظ الأنامل في قصيدة أبي طالب هو قوله:
وقد حالفوا قومًا علينا أظنة
…
يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل
والبيت الذي فيه كذبتم هو قوله:
كذبتم وبيت الله نترك مكة
…
ونظعن إلا أمركم في بلابل
وقوله:
كذبتم وبيت الله نُبزَى محمدًا
…
ولما نطاعن دونه ونناضل
والبيت الذي فيه لتلتبسن إلخ هو قوله:
وأنا لعمر الله إن جد ما أدوى
…
لتلتبسن أسيافنا بالأناثل
والذي فيه ينهض إلخ قوله هو:
وينهض قوم في الحديد إليكم
…
نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وبهذا تعلم مافي بيتي الشيخ اهـ من هامش الأستاذ الإمام.
(تفسيره) قوله أظنة جمع ظنين وهو المتهم والظنة بالكسر التهمة وجمعها ظنين وجمع فعيل على أفعلة غير قياسي ولكنه ورد ومنه قوله تعالى: [أَشِحَّةً عَلَيْكُم](الأحزاب: 19) وقول نترك مكة أي لا نتركها ومثل قوله نبزي محمدًا أي لا نبزاه ولفظ (محمدًا) منصوب بنزع الخافض يقال: أبزى فلان بفلان إذا غلبه وقهره أي لا نغلب بمحمد ولا نقهر عليه، والحال أننا لم نطاعن دونه بالرماح ونناضل عنه بالسهام فالجملة المنفية بلمَّا حال من نائب الفاعل، وقوله (لتلتبسن أسيافنا بالأماثل) أي لتختلطن بالأشراف بما تفتك بهم في الحرب، والروايا جمع رواية هو ما يستقى عليه من بعير وغيره، والصلاصل القِرَب فيها بقايا الماء واحدها صُلصلة بضم الصادين وهي بقية الماء في الإداوة والقربة- يريد أن قومه ينهضون مثقلين بالحديد تسمع له قعقعة كصلصلة الماء في المزادات.
(11)
الحديث رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج وابن عساكر عن محمد بن مسلمة بلفظ (يا حسان أنشدني من شعر الجاهلية فإن الله قد وضع عنك آثامها في شعرها وروايتها) وفيه أنه قال له بعد إنشاد القصيدة: (يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة فإني ذكرت عند قيصر وعنده أبو سفيان وعلقمة بن علاثة فأما أبو سفيان فتناول مني، وأما علقمة فحسن القول وأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى
ثم إذا انقلبنا في البحث إلى ما هو الشرك في نظر القرآن وأهله لنتقيه، نجد
أن الله تعالى قال في اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن
دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) مع أنه لم يوجد من قبل ولا من بعد من الأحبار والرهبان
من ادعى المماثلة ونازع الله الخالقية أو الإحياء أو الإماتة كما يقتضيه انحصار
معنى الربوبية عند العامة من الإسلام، حسبما تلقوه من مروجي الشرك والإيهام،
بل الأحبار والرهبان إنما شاركوا الله تعالى في التشريع المقدس فقط فقالوا: هذا
حلال وهذا حرام. فقبل منهم أتباعهم ذلك فوصفهم الله بأنهم اتخذوهم أربابًا من دون
الله.
ونجد أيضًا أن الله تعالى سمى قريشًا مشركين مع أنه وصفهم بقوله: {وَلَئِن
سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) أي يخصصون
الخالقية بالله. ووصف توسلهم بالأصنام إلى الله بالعبادة فحكى عنهم قولهم: {مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) والمعظمة من المسلمين يظنون أن
هذه الدرجة التي هي التوسل ليست من العبادة ولا الشرك ويسمون المتوسَل بهم
وسائط ويقولون: إنه لا بد من الواسطة بين العبد وربه (وإن الواسطة لا تنكر) .
ويُعلم من ذلك أن مشركي قريش ما عبدوا أصنامهم لذاتها ولا لاعتقادهم فيها
الخالقية والتدبير بل اتخذوها قبلة يعظمونها بندائها والسجود أمامها وذبح القرابين
عندها أو النذر لها على أنها تماثيل رجال صالحين كان لهم قرب من الله تعالى
وشفاعة عنده فيحبون هذه الأعمال الاحترامية منهم فينفعونهم بشفاء مريض أو
إغناء فقير وغير ذلك، وإذا حلفوا بأسمائهم كذبًا أو أخلوا في احترام تماثيلهم
فيضرونهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم.
ونجد أيضًا أن الله تعالى قال: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18)
وأصل معنى الدعاء النداء، ودعا الله: ابتهل إليه بالسؤال واستعان به، والدليل
الكاشف لهذا المعنى هو قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ} (الأنعام: 41) وكذلك أنزل الاستعانة به مقرونة بعبادته في قوله جلت كلمته:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) .
وبما ذكر وغيره من الآيات البينات جعل الله هذه الأعمال لقريش شركًا به
حتى صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلف بغير الله أنه شرك فقال:
(من حلف يغير الله فقد كفر وأشرك [1] ) وجعل الله القربان لغيره والإهلال والذبح
على الأنصاب شركًا وحرم تسييب السوائب والبحائر لما فيها من ذلك المعنى، وكان
المشركون يحجون لغير بيت الله بقصد زيارة محلات لأصنام يتوهمون أن الحلول
فيها يكون تقربًا من الأصنام، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام أمته عن مثل ذلك
فقال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد
الأقصى [2] ) . فلا ريب إذن أن هذه الأعمال وأمثالها شرك أو مدرجة للشرك.
(مرحى)
فلينظر الآن هل فشا في الإسلام شيء من هذه الأعمال وأشباهها في الصورة
أو الحكم؟ ومن لا تأخذه في الله لومة لائم لا يرى بدًّا من التصريح بأن حالة السواد
الأعظم من أهل القبلة في غير جزيرة العرب تشبه حالة المشركين من كل الوجوه
وإن الدين عندهم عاد غريبًا كما بدأ كشأن غيرهم من الأمم. فمنهم الذين استبدلوا
بالأصنام القبور فبنوا عليها المساجد والمشاهد وأسرجوا لها السرج وأرخوا عليها
الستور يطوفون حولها مقبلين مستلمين أركانها، ويهتفون بأسماء سكانها في الشدائد
ويذبحون عندها القرابين يُهلُّ بها عمدًا لغير الله وينذرون لها النذور ويشدون للحج
إليها الرحال ويعلقون بسكانها الآمال، يستنزلون الرحمة بذكرهم وعند قبورهم،
ويترجونهم بإلحاح وخضوع ومراقبة وخشوع أن يتوسطوا لهم في قضاء الحاجات
وقبول الدعوات، وكل ذلك من الحساب والتعظيم لغير الله [3] والخوف والرجاء من
سواه.
ومنهم مَنْ استعاضوا عن ألواح التماثيل عند النصارى والمشركين بألواح فيها
أسماء معظَّميهم مصدرة بالنداء تبركًا وذكرًا ودعاءً يعلقونها على الجدران في بيوتهم
بل في مساجدهم أيضًا [4] ويتوّجون بها للأعلام من نحو (يا علي، يا شاذلي، يا
دسوقي، يا رفاعي، يا بهاء الدين النقشي، ويا جلال الدين الرومي، يا بكتش ولي)
ومنهم ناس يجتمعون لأجل العبادة بذكر الله ذكرًا مشوبًا بإنشاء المدائح لغُلاة شعراء
المتأخرين التي أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام
حتى لنفسه الشريفة فقال: (لا تطروني كما أطرت اليهود والنصارى أنبياءهم [5] )
وبإنشادهم مقامات شيوخية تغالوا فيها في الاستعانة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ
لو سمعها مشركو قريش لكفروهم؛ لأن أبلغ صيغة تلبية لمشركي قريش قولهم:
(لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك غير شريك واحد تملكه وما ملك) وهذه أخف
شركًا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادًا بأصوات عالية مجمتعة وقلوب
محترقة خاشعة كقولهم:
عبد القادر يا جيلاني
…
يا ذا الفضل والإحسان
صرت في خطب شديد
…
من إحسانك لا تنساني
وقولهم:
الآهم يا رفاعي لي
…
أنا المحسوب أنا المنسوب
رفاعي لا تضيعني
…
أنا المحبوب أنا المنسوب
إلى غير ذلك مما لا يشك فيه أنه من صريح الإشراك الذي يأباه الدين الحنيف.
ومنهم جماعة لم يرضوا بالشرع المبين فابتدعوا أحكامًا في الدين سموها علم
الباطن أو علم الحقيقة أو علم التصوف، علمًا لم يعرف شيئًا منه الصحابة والتابعون
وأهل القرون الأولى المشهود لهم بالفضل في الدين. علمًا انتزعوا مسائله من
تأويلات المتشابه من القرآن مع أن الله تعالى أمرنا أن نقول في المتشابه منه:
{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) وقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ
اللَّهُ} (آل عمران: 7) وقال عز شأنه في حقهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام: 68) وقال
تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود: 112) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (النور: 63) وانتزع هؤلاء المداحون أيضًا بعض تلك
المزيدات من مشكلات الأحاديث والآثار ومما جاء عن النبي عليه السلام من قوله
على سبيل الحكاية أو عمل على سبيل العادة، أي لم يكن ذلك منه عليه السلام من
قول على سبيل التشريع. أو من الأحاديث التي وضعها أساطينهم إغرابًا في الدين
لأجل جذب القلوب كهذا الحديث الذي ننقله بالمعنى وهو (يفتح بالقرآن على الناس
حتى يقرأه المرأة والصبي والرجل فيقول الرجل قد قرأت القرآن فلم أتبع لأقومن
بهم فيه لعلي أُتَّبَع فيقوم به فيهم فلا يُتبع، فيقول قد قرأت القرآن وقمت به فلم أتبع،
لأحتظرن من بيتي مسجدًا لعلي أتبع فيحتظر من بيته مسجدًا فلا يتبع، فيقول قد
قرأت القرآن وقمت به واحتظرت من بيتي مسجدًا فلم أتبع، والله لآتينهم بحديث لا
يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلي أتبع) .
ومنهم فئة اخترعوا عبادات وقربات لم يأت بها الإسلام ولا عهد له بها إلى
أواخر القرن الرابع فكأن الله تعالى ترك ديننًا ناقصًا فهم أكملوه، أو كأن الله جل
شأنه لم يُنَزِّل يوم حجة الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) أو كأن النبي عليه السلام لم يتمم كما
يزعمون تبليغ رسالته فهم أتموها لنا، أو كتم شيئًا من الدين وأسرَّ به إلى بعض
أصحابه وهم أبو بكر وعلي وبلال رضي الله عنهم، وهؤلاء أسروا به إلى
غيرهم وهكذا تسلسل حتى وصل إليهم فأفشوه لمن أرادوا من المؤمنين؛ تعالى الله
ورسوله عما يأفكون ، أليس من الكفر بإجماع الأمة اعتقاد أن النبي عليه السلام
نقص التبليغ أو كتم أو أسرَّ شيئًا من الدين (مرحى) .
ومنهم جماعة اتخذوا دين الله لهوًا ولعبًا فجعلوا منه التغني والرقص ونقر
الدفوف ودق الطبول ولبس الأخضر والأحمر واللعب بالنار والسلاح والعقارب
والحيات يخدعون بذلك البسطاء ويسترهبون الحمقى.
ومنهم قوم يعتبرون البلادة صلاحًا والخبل خشوعًا والصرع وصولاً والهذيان
عرفانًا والجنون منتهى المراتب السبع للكمال.
ومنهم خلفاء كهنة العرب يدَّعون علم الغيب بالاستخراج من الجفر والرمل أو
أحكام النجوم أو الروحاني أو الزايرجه أو الأبجديات أو بالنظر في الماء أو السماء
أو الودع أو باستخدام الجن والمردة، إلى غير ذلك من صنائع التدليس والإيهام
والخزعبلات وليس العجب انتشار ذلك بين العامة الذين كالأنعام في كل الأمم
والأقوام، بل العجب دخول بعضه على كثير من الخواص وقليل من العلماء كأنه من
عزيز الكمالات في دين الإسلام (مرحى) .
فهذه حالات السواد الأعظم من الأمة وكلها إما شرك صراح أو مظنات إشراك
حكمها في الحكمة الدينية حكم الشرك بلا إشكال، وما أخر الأمة إلى هذه الحالات
الجاهلية، وبالتعبير الأصح: رجع بها إلى الشرك الأول إلا الميل الطبيعي للشرك
كما سبق بيانه مع قلة علماء الدين وتهاون الموجودين في الهدى والإرشاد.
نعم، إن رد العامة عن ميلها أمر غير هين وقد شبه النبي عليه السلام معاناته
الناس فيه بقوله: (مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل
الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن
فيها فأنا آخذ في حجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها [1] ) وقد قال الله تعالى في
العلماء المتهاونين عن الإرشاد كيلا يقابلوا الناس بما لا يهوون: {إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
إِلَاّ النَّارَ} (البقرة: 174)، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لما وقعت بنو
إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم
وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن
مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) فالتبعة كل التبعة على العلماء الراشدين، ولم
يزل والحمد لله في القوس منزع ولم يستغرقنا بعد انتزاع العلماء بالكلية كما أنذرنا
به النبي عليه السلام في قوله: (إن الله لا يقبض العلماء انتزاعًا من الناس ولكن
يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهلاء؛ فسئلوا فأفتوا بغير
علم؛ فضلوا وأضلوا) ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ثم قال: ولننتقل من بحث الشرك والإعراض عن ذكر الله إلى بيان أسباب
التشديد في الدين وحالة التشويش الواقع فيه المسلمون فأقول
…
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: هذا الحديث رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرطهما.
(2)
رواه أحمد والشيخان عن أبي هريرة وروياه عن أبي سعيد ورواه أصحاب السنن وغيرهم.
(3)
أي من عبادة غيره.
(4)
كجوامع القسطنطينية وبلاد الترك، كذا في هامش الأصل ومثل بلاد الترك كثير من بلاد المسلمين.
(5)
لفظ الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد الله فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري والترمذي في الشمائل ولا أذكر غيرهما الآن.
(6)
ينقل عنهم (إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) .
(7)
الحديث رواه أحمد ومسلم عن جابر بلفظ (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تفلتون من يدي) .
(8)
رواه الترمذي وقال حسن غريب.
(9)
رواه الشيخان وأصحاب السنن ما عدا أبا داود عن عبد الله بن عمرو ولفظ مسلم (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) وفي البخاري (من العباد) بدل (من الناس) وقال (حتى إذا يبق عالم) كما هنا.