الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد توفيق البكري
المستقبل للإسلام
بقلم صاحب السماحة السيد الشيخ محمد توفيق البكري
شيخ مشايخ الصوفية [1]
(الفصل الأول في رأس مال الإسلام)
(المكان والسكان)
إن مستقبل الأمم يتوقف في الحقيقة على أمرين طبيعيين هما كثرة السكان
وخصب المكان، فإذا استوفت الأمة حظها من هذين الأمرين عظم مستقبلها بقدر ذلك
مهما حرمت في الحال من الأسباب الأخرى الكسبية كالعلم والأخلاق والقوانين
والحكومة وغير ذلك، فإن هذه جميعها يأتي بها دور الزمان وإن أخرتها آونة طوارق
الحدثان، ولذلك قال (مونتورو) و (تين) وغيرهما: إن مستقبل الصين أكبر
من مستقبل أية دولة أخرى، ومَن شَاهد رُقِيَّ اليابان وما كانت عليه الروسيا منذ ثلاثة
قرون، وما هي عليه الآن من ضخامة السلطان لا يشك في صواب ذلك القول
المتقدم. وقد أشار ابن خلدون إلى شيء من هذا حيث قال: إن اتساع نطاق الدولة
يكون بقدر اتساع عصبيتها في الأصل. وقال الشاعر: (وإنما العزة للكاثر) . فإذا
تقرر ذلك علمنا أن مستقبل الإسلام كبير، وشأنه خطير. فإن حظه من هذين
الأمرين وافر، وقسطه متكاثر، وإليك البيان.
إذا تأمل المسلم في مصوّر الجغرافية يجد ثلاثة عوالم قد تقسمت الأرض وهي:
العالم الإسلامي في الوسط، والعالم المسيحي عن يساره، والعالم الوثني عن يمينه
على هيئة قلب وجناحين. ويرى أن قسط العالم الإسلامي من هذا الاقتسام عظيم،
ونصيبه جسيم، فهو يمتد في فسحة من الأرض بدؤها بحر الأطلنطيق، ونهايتها
رسيف الباسيفيك آخذة من حواشي سيبريا شمالاً إلى جزر المحيط جنوبًا، أقاليم
متصلة، وأقطار غير منفصلة، وأمصار متتاخمة، وأخياف متلاحمة، وبين ذلك
قصور وخيام، ودور وآطام، ووبر ومدر، وبدو وحضر، بقاعٌ هي أطيب
المعمور رقعة، وأمرعه نجعة، فيها النيل والفرات، وسيحون وجيحون، فيها
أوداء مصر، وسهول الهند وميطان الصين وسواد العراقين، وبطاح الأناضول
وجبالها، وريف فارس ورمالها، فيها مرقد النبي العربي الهاشمي، ووطن المسيح
ابن مريم، ومبعث موسى الكليم، ومهبط الوحي على جميع الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، إلى غير ذلك من هواء طلق، وماء عذب، وجوٍّ صحو، حسنات وراء
حسنات، تقصر دونها الأمصار، وتموت حسرة عليها الأقطار، ذهب بعض
مجوس الهند إلى لوندرة فقال له بعض أهلها: كيف أنتم تعبدون الشمس. فقال
المجوس: وأنتم لو رأيتموها لعبدتموها.
ثم إن هذه السعة في الأرض والبسطة في الخصب التي رزقها العالم الإٍسلامي
أصل كبير في نموّ أفراده وحسن حالهم إذ ارتباط المكان بالمكين في السعادة والشقاء
والقلة والكثرة أمر مقرَّرٌ في علم الاجتماع الإنساني.
قال (لوبون) : ما دامت الأرض القابلة للزراعة كافية للسكان يتأتّى لهؤلاء أن
يزيدوا عدًّا فيكثرون وينمون بالفعل فإن تعادلت موارد الأرض وعدد السكان بقي
هؤلاء على حالتهم لا يزيدون ولا ينقصون، فإن زاد عديدهم عن موارد الأرض وقعوا
في إفرة الشدائد والضيق وتواترت عليهم المصائب والأزمات إلى أن تأتي حروب
جارفة أو أوبئة قاشرة فتعدل الكفتين. هذه حقائق بسيطة ومع ذلك قد تغيب من أفهام
كبار الخواص وأشهر الكتاب فلا يفتأون يطلبون كل يوم زيادة السكان بأية وسيلة كانت
بلا مراعاة لما تقدم وقد وقع في مثل هذا الخطأ (جول سيمون) وزير معارف فرنسا
السابق على سعة علمه حيث قال في خطاب ألقاه على مجمع المعارف سنة 1868:
(إن من يمكنه أن يزيد سكان) فرنسا مليونًا من النفوس يفيدها أكثر مّمن يزيد
حدودها بعض فراسخ من الأرض بواسطة الحرب والدم بألف ضعف، وهذا كلام
يخلو من الصواب؛ لأن من يزيد مساحة فرنسا يكثر مواردها فيجعل الزيادة في
السكان محتمة. ومن شك في هذه الحقيقة أحلناه على قول أستاذ لا يشق له غبار في
هذا المضمار وهو (يبليج) الشهير قال: (قد اقتضت الحال زيادة السكان في بلدان
أوربا زيادة كثيرة غير طبيعية حتى اختلت النسبة بين عديدهم وبين غلاّت تلك
البلاد، فلا يمضي غير حقبة من الزمن حتى تعجز الأرض عما يفي بحاجاتهم مهما
أنهكوا قواها يختلف الأسمدة، وعندها لا يحتاج إلى نظريات علمية أو قياسات فنية
لإيضَاح الناموس الطبيعي الذي يأمر الإنسان بأن لا يغفل عن المحافظة على أبواب
رزقه ويعاقبه العقاب الأليم عند مخالفة ذلك. ولا يكون ثمة للأمم الأوربية من حيلة
ولا مخلص إلا أن تتفانى لتبقى فترى إذن أمثال مجاعات سنة 1316 وسنة 1317
وحروب بعد ذلك تليها حتى يحمل الأمهات جيف القتلى لإطعام أطفالهم كما وقع ذلك
في (حروب الثلاثين سنة) المعروفة، فكل ذي دُرية ورويّة دَقَّقَ النظر في أمر
ممالك أوربا ومستقبلها يجدها غير قائمة على أسس متينة بل على أسنة الإبر) .
اهـ
هذا، وربما ذهب بعض العرافين إلى أن طبيعة أرض الشرق مفسدة للهمم،
مقعدة للأمم، في تكون إذن هذه الأرضون من النعم بل من النقم، وهذا رأي تفنده
الأقيسة الصحيحة، والآراء النافذة، قال (فوليتر) في دحضه ما نصه: (نسأل
من يذهب إلى أن طبيعة الأجواء يتوقف عليها حالة الأمة وأخلاقها لما قال
الإمبراطور (جوليان) : إن الذي أعجبه من أهل باريس هو متانة أخلاقهم وأخذهم
بالجد والصلابة والسكون في طباعهم. وها هي أجواء باريس كما هي وأهلها فيها
الآن أخف أحلامًا وطباعًا من فراشة. أطفال في زيّ رجال، وصغار وإن كانوا
كبارًا، وهؤلاء المصريون الذين يصفهم لنا المؤرخون بقوة العزائم ومتانة الطباع
وعظم الفتوح أصبحوا الآن أمة رخوة ضعيفة العزائم، طعمة لكل آكل، ولِمَ لا
يوجد الآن في أثينا مثل (أناقريون) و (أرستطاليس) و (زوقسيس) ، ولِمَ
استعاضت روما عن (شيشيرون) وعن (قاطون) وعن (تتليف) قومًا بها لا
يحسنون أن يقولوا ولا أن يعملوا. أعظم أمانيهم ينحصر في أن يكون الزيت
رخيص الثمن لديهم. وقد كان من عادة (شيشيرون) الخطيب الروماني أن يهزأ
بالإنكليز ويتنادر عليهم حتى إنه كتب مرة في رسالة لأخيه (أقانتوس) الذي كان
ضابطًا مع قيصر في غزوته التي غزاها بإنكلترا يسأله مستهزءًا إن كان وجد ثمة
فلاسفة كبارًا أو رياضيين عظامًا. فهلا علم (شيشيرون) أنه نشأ بعده فيها أعظم
فلاسفة العالم ورياضيه تحت تلك السماء المظلمة بعينها. هذه كلها أمثلة تدل أن
ليس للإقليم أثر يذكر في ارتفاع الأمم وانخفاضها، بل العوامل الأخرى مثل الحكومة
أو الدين تفعل في ذلك أكثر منها بمائة ضعف.
كأن الله سبحانه وسعدانه، أراد أن لا تنزع هذه البلاد الجميلة من أيدي
المسلمين إذا أعجزهم الضعف يومًا ما عن صونها حتى يئوبوا إلى القدرة على
حفظها فجعلها شبه وقف عليهم، وذلك أن جعل وسطها الطبيعي غير صالح؛ لأن
تعيش فيه الأمم المتغلبة الآن وهي الأمم الأوربية، ولبيان هذا نقول:
قد تقرر في الطبيعيات أن الحيوان أو النبات أو الإنسان إذا نشأ في وسط
طبيعي لا يعيش في وسط آخر غير مماثل له، وأقيم على ذلك هناك البرهان.
وعندهم أنه كما لا يمكن للسمك أن يعيش في البيداء، ولا للناقة أن تدوم في الماء،
ولا للنخلة أن تنبت بين صخور الجليد، لا يمكن للإنكليزي أن يستوطن الهند، ولا
لابن للألمان، أن ينبت في السودان، قال (لوبون) في كتاب الفسيولوجي: (ذكر
بعض المؤلفين أن الإنسان يمتاز عن الحيوان بكونه يعيش في كل جوّ وعلى كل
أرض. وهذا خطأ عظيم، ووهم كبير، فقد أثبت التاريخ مرارًا أن أهل الشمال لا
يمكنهم العيش في أرض الجنوب. انظر إلى البربر من أهل الشمال وبلاد الجليد
الذين فتحوا أرض الرومان وسكنوا أقاليمها الحارة كيف لم يمضِ قرن واحد حتى
أفناهم الموت وأتى عليهم الفناء فلم يبق من الغوطيين واحد في إيطاليا، وهذه مصر
حكمتها عشرون أمة فأكلتهم وبقي الفلاح المصري كما هو على أرضه. وكذلك
عجز الرومان عن أن يستوطنوا أفريقية مع أنهم استوطنوا أسبانيا وأرض الجول
حتى جعلوهما بلادًا لاتينية بحتة. ولا ريب أننا سنلاقي في الجزائر ما لاقاه فيها
الرومان في سابق الزمان، فتهلك هذه الأرض ذراري فاتحيها ما لم يفعلوا كما يفعل
الإنكليز في الهند من إرسال أبنائهم ليتربوا في أوربا. وبالجملة: إن الإنسان إذا
اختلف وسطه الطبيعي هلك وخصوصًا إذا جاء من الشمال إلى الجنوب) . اهـ
جميع ما تقدم متعلق بالمكان أي مواطن الإسلام وبلاده. أما السكان وهم الأمم
المسلمة فحدث ولله الحمد عن حصى البطحاء، ورمال الدهناء، أو نجوم السماء،
كثرة آحاد، ووفرة أعداد، فَمِن هؤلاء في أفريقية ما ترى:
9000000 في مُراكش
4500000 في الجزائر
1500000 في تونس
1400000 في طرابلس
10000000 في مصر
6000000 في السودان المصري
4000000 في الصحراء الكبرى
13000000 في السودان الذي تحت حماية فرنسا
9000000 في السودان الذي تحت حماية إنكلترا وفي النيجر
5000000 في السودان الأوسط كواداي وباجرمي ونحوهما
1500000 في الكونغو
4000000 في توبو وقامرون
3000000 في الأوغندة
3500000 في الأريطرا والحبشة
30000000 في موزمبيق ومدغشقر والكاب والزنجبار وأوبوك وأفريقيا الوسطى
105400000 مجموع ما في أفريقيا
وفي أوربا ما ترى:
2500000 في تركية أوربا
700000 في البوسنة والهرسك
1000000 في البلغار والرومللي الشرقي
60000 في رومانيا
_________
4260000 المجموع
20000 في الصرب
10000 في الجبل الأسود
30000 في اليونان
2500000 في روسيا أوربا والقفقاس
_________
6820000 مجموع ما في أوربا
وفي آسيا ما ترى:
7000000 في الأناطول
4000000 في أرمينية
2500000 في العراق
2000000 في الشام
12000000 في جزيرة العرب
12000000 في العجم
10000000 في روسية آسيا
9000000 في أفغانستان
5000000 في بلوجستان
90000000 في الهند
1000000 في سيام
2000000 في الهند الصيني
45000000 في الصين
_________
197000000 مجموع ما في آسيا
وفي الأقيانوس ما ترى:
5000000 في فيلبين
40000000 في سوماطرا
370000000 في الجاوا
5000000 في بورنيو
90000000 في ماليزيا وغيرها من الجزائر.
_________
510000000 مجموع ما في الأقيانوس
فهذه ثلاثمائة وستون مليونًا من النفوس خلف لذلك السلف الذين يقول الله
سبحانه فيهم: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 29) .
وهذه الأمة الكريمة إن حُرمت الآن كثيرًا من أسباب العلم والعمل فإنه لم يزل
في أمزجتها آثار شريفة وصفات قويمة من أثر دينها وإرث سلفها تمتاز به على
كثير من الأمم. قال القسيس (إسحاق طيلر) : (إن الإسلام يمتد في أفريقيا
وتسير الفضائل معه حيث سار، فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة
والإقدام من أنصاره، ومن الأسف أن السكر والفحش والقمار تنشر بين السكان
بانتشار دعوة المبشرين) وقال (كونتنسن) : (يمتاز المسلمون في الصين على
مواطنيهم من الوثنيين برفعة في السجايا وشرف في الأخلاق قد طبعته في نفوسهم
ونفوس آبائهم وصايا القرآن بخلاف الوثنيين فإنهم في سقوط تام من حيث ذلك) .
ومن أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم: عزة النفس فهو سواء في حال بؤسه
ونعيمه لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله. وهذه الصفة التي غرسها الدين في
نفوسها إذا توفرت معها الوسائل كانت أعظم دافع لها إلى التسابق إلى غايات المدنية
ورقيات الكمال. وإن أردت فَالمحْ بعقلك حال قوم فقدوا هذا اليقين، ماذا تجد من
فتور في حركاتهم وقصور في هممهم وخصوصًا إذا بغى عليهم الجهل فظنوا أنهم
أدنى الملل كطائفة الدّهير ومانك.
ثم إن هذه الأمم الإسلامية وإن اختلفت بهم البلدان وتباينت البقاع والميطان،
وتنوعت الأجناس وافترقت الألسنة فقد وحدتهم وحدة الإسلام وجمعتهم جامعة الدين
وهي جامعة كبرى تتلاشى أمامها الجامعات الصغرى وتُلْغَى الفروق فيكون جميع
المسلمين بها إخوانًا. قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية) فوطن المسلمين هو
مجموع الأمة الإسلامية في الدين وهو الذي قيل فيه: حب الوطن من الإيمان [2]
وليس المراد به حب التربة والمسكن والأهل والعشيرة، ولو كان كذلك لما كانت
الهجرة في الإسلام. ولما نطق الكتاب بالحث عليها والأمر بها. قال الله تعالى:
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (النساء:
100) فمن قال من المسلمين في أية بقعة من الأرض (وطني) فقد قال (ديني) .
وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) وقال سبحانه:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ولهذا ترى
المسلمين مهما تباعدوا أو تباغضوا لا تزال تعمل هاته إلى الجامعة عملها فيهم
يسرون لسرور بعضهم، ويحزنون كذلك، وإن افترقت بهم البلدان ما بين
المشرق والمغرب. وقد عظمت الصلابة في هذه الجامعة الدينية والرابطة الإسلامية
حتى سماها غيرهم الآن (تعصبًا)[3] .
على أن التعريف بالوطن على هذا النحو هو غاية ما ترقى إليه الأمم،
وتنبعث نحوه الهمم، قال أدمون ديمولان: والمهاجر من الإنكليز السكسونيين يشعر
دائمًا بأنه إنما يرحل عن بلده مستصحبًا لوطنه إذ هو يرى الوطن حيث يعيش
المرء حر ثم قال: (والنصر كل النصر للأمم التي وطدت أركان نظامها على
دعائم هذه الوطنية.
والتعريف بالجامعة أيضًا على مثال ما تقدم سيرٌ مع سُنة العمران، وذلك أن
أول اجتماع للإنسان كان على شكل جمعيات صغيرة جامعتها النسب كبني دار وبني
أسد وبني شيبان إلخ. ثم ارتقى إلى جمعيات أكبر من الأولى جامعتها الجنسية وهي
التي عليها الأمم الآن، ويقول العلماء: إنه سيرتقي على جنسيات كبرى واحدة
جامعتها الإنسانية، وترى الأمم تقرب من تلك الغاية النهائية بتأليف الأجناس
المتقاربة إلى جنس أعم كسعي الجرمان والسكسون والسيلاف واللاتين في ذلك الآن.
فإذا تبين هذا كانت الجامعة الإسلامية التي أضعفت بل لاشت جامعات الأجناس
ونقلتها إلى جامعة عظمى يكون فيها كل مسلم اليوم عبارة عن 360 مليونًا خطوة
كبرى في السير نحو تلك الجامعة التي ستضم أفراد الإنسان، والتي يسعى وراءها
الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا [4] فشأن الجامعة الإسلامية أشبه بحال الجامعة الأمريكية
التي تضم الأجناس المختلفة فيها شرقًا وغربًا لتأييد مبدأ (مونرويه) .
ولا يقول بعض جيراننا من المسيحيين: إن التشبث بالجامعة الإسلامية يفقد
المسلمين الارتباط بهم فإنهم لو صدقوا في هذا القول لفقد المسلمون بذلك عشرة
ملايين نفس هم كل المسيحيين الذين في بلاد الإسلام وكسبوا 360 مليونًا من
إخوانهم على أن الأمر ليس كذلك، فإن رابطة الذمة تقوم مع هؤلاء المسيحيين مقام
الدين فلا يحرم الفريقان من التعاون والتعاضد للعمل وقد أمر القرآن بمزيد الحسنى
معهم قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن
دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) .
هذا وإن الإسلام آخذ في الازدياد والنموّ في أكناف الأرض بكيفية تستوقف
البصر، وتحير الفكر، بل هو كلما حزبته الأعداء، وضايقته اللأواء، أربى في
النماء، كالشجر إذا شذب منه زاد أو الأتيّ إذا سُد طريقه غرق البلاد. وقد جزم
العارفون وفي أولهم علماء الإفرنج أنه لا يمضي حرسٌ من الدهر حتى يربو على
جاريه المسيحي والوثني، وعدد الأول الآن (420) مليونًا والثاني (500) مليونًا.
وذلك لأن نسبة الزيادة فيه والزيادة فيهما مختلفة جدًّا حتى تكاد تكون كالفرق ما
بين الماشي وراكب الهملاج. كان سكان مصر سنة 1881ستة ملايين فأصبحوا سنة
1891 نحو عشرة ملايين وكان مسلمو الهند سنة 1892 (57) مليونًا فصاروا سنة
1901 (90) مليونًا وعلى هذا فقس مسلمي الصين والسودان وغيرهم. وهذا
شيء لا يوجد مثله في الأمم الأخرى. قال ديمولان: يتضاعف عدد سكان فرنسا في
334 عامًا، وسكان ألمانيا في 98 عامًا، وإنكلترا في 63 عامًا وأستريا في 62
عامًا.
والأسباب في انتشار الإسلام وازدياده في كل صقع وقطر من أحشاء أفريقية
إلى ميطان الصين إلى جزر المحيط كثيرة نذكر بعضها فنقول:
(السبب الأول) سلامة العقيدة الإسلامية وسهولتها، قلت مرة للسيد جمال
الدين الأفغاني ما هو دين المستقبل؟ فقال لي هذه الآية من كتاب الله: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) قال دي
كاستري في مؤلفه عن الإسلام:
(هكذا جذب الإسلام قسمًا عظيمًا من العالم بما أودع فيه من إعلاء شأن النفس بتصوُّر الذات الإلهية على صفات فوق صفات البشر نذكرها خمس صلوات في كل يوم، وبما اشتمل عليه من التَّرَفُّقِ بطبيعة البشر حيث أباح للناس شيئًا مما يشتهون. وأعظم عامل في انتشار الإسلام خصوصًا عند الأمم الزنجية
(السود) بساطة مذهبه وسذاجة تعاليمه، وهو سبب موجود في القرآن نفسه، فهو
بذلك يلائم الطباع. دين لا أسرار فيه وكلمته (أي كلمة الشهادة) يعتاض عنها عند
الاحتضار بإشارة تدل عليها كرفع السبابة إلى السماء إشارة إلى وحدانية الله تعالى
فكلما وجد الرجل الجاهلي أمامه دينين متحدين في حقيقتين: وحدانية الله، وخلود
الروح - وهما الإسلام ودين عيسى - تراه يختار الدين الذي لا يزيد شيئًا على
تينك الحقيقتين ويعتنق الإسلام بلا محالة، وهي قوة يفضل بها القرآن الديانة
المسيحية في الانتشار وكانت معروفة عند أهل القرن السابع عشر؛ لذلك تقرأ في
كتاب القس (ماراشي) الذي سماه (الرد على القرآن) : (ولا يغيبنّ عن ذهن
القارئ أن تلك الطائفة
…
لا تزال حافظة لكل ما في الدين المسيحي من الأمور
الظاهرة الوضوح القريبة التصديق مضافًا إليه ما يوافق نظام الكون وقانون
النشأة الدنيوية فقد أبعد عنه أحاجي الإنجيل التي نخالها في أول الأمر غير
صحيحة لا تدركها العقول كما أنه جرّد تعاليمه من كل قاعدة يشدُّ بها الخناق على
البشر مما جاء في ذلك الكتاب، وبهذه الواسطة تمكن من رفع العقبتين اللتين يحسّ
كل واحد منا بأنهما الحاجز بينة وبين الدين الحق الصحيح وهما عقبة الروح وعقبة
الجسم، وهذا هو السبب في أن الوثنيين الذين يريدون ترك دينهم في أيامنا هذه
يعتاضون عنه بالإسلام دون الديانة المسيحية) . اهـ
وقال (إسحق طيلر) : (ليس أمر المسيحية واقفًا عند العجز عن إحداث
مواطئ جديدة لأقدامها فقط ولكن المقام الذي هي فيه قد تعجز عن حفظه أيضًا. إنَّ
دين الإسلام قد انتشر آنفًا من مراكش إلى جاوا ومن زنجبار إلى الصين، وهو
الآن ينتشر في أفريقية بسرعة لا يأتي عليها الوصف، وإننا لنرى الإسلام أوفق ما
يكون لتهذيب الأمم المتوحشة وترقيتها. أما الديانة المسيحية فلا تنالها عقولهم،
وبذا قد نفع الإسلام المدنية أكثر مما نفعتها المسيحية. إذا دخلت الديانة المحمدية في
قبيلة زنجية محت عبادة الأوثان وأبطلت أكل لحوم البشر ووأد الأطفال، وأنشأت
فيهم النظافة وعزة النفس والوقار وكرم السجايا فيصير قرى الضيف بمنزلة
الفريضة الشرعية، ويندر السكر والقمار والمراقص الخزية، وتعد العفة في الإناث
من خلائق التقوى ويفشو التناصح بالإحسان والأخوة بالوجدان) [5]
(السبب الثاني لانتشار الإسلام) موافقة أحكامه للفطر الإنسانية وابتنائها
على الحكمة العقلية. قال (لوشاتلييه) في كتابه المسمى (الإسلام في القرن
التاسع عشر) : (إن نمو الإسلام في الهند أمر لا ينكر وسببه في الغالب حكم
المساواة بين الناس الذي سنته الشريعة الإسلامية، وذلك أن أهل الهند بحسب مذاهبهم
القديمة ينقسمون إلى طوائف لا ينبغي لطائفة منها أن ترقى إلى الطائفة التي
فوقها، فمن ولد منهم في طائفة دنيا لا يجد له مخلصًا للارتقاء إلى العلاء
والخلوص من قيد الطائفة إلا اعتناق الإسلام) وقال (لودوفيق دوقنتاسون)
في كتابه المسمى (النصارى والإسلام) : (لا يصل أهل الهند إلى أن تكون لهم
حكومة وطنية مستقلة إلا إذا ذهب من بينهم التخالف في المذاهب والطوائف
والأجناس، ولا يكون ذلك إلَاّ إذا ساد فيهم الإسلام الذي يبيد جميع هذه الفروق
ويقيم أركان المساواة والإخاء والحرية التي هي من قواعد الديانة الإسلامية [6] .
(السبب الثالث) وهو أهم الأسباب، حذق دعاة الإسلام وهم الصوفية.
الصوفية جمعية في الأمة مرتبة النظام، منظمة الهندام، يبلغ عددها مائة مليون من
النفوس فهي أكبر جمعية في الدنيا لا يضارعها البوكسر في الصين ولا الطوائف
الدينية في أوربا وغيرها، وقد قامت هذه الجمعية بالدعوة الإسلامية مقامًا عجيبًا [7] .
قال بعضهم: (إن العالم الإسلامي وقف عن التقدم والغلب أمام الدول الأوربية من
مدة مديدة فاستطالت هذه الدول على الممالك الإسلامية وغلب الكثير منها بالقوة
العقلية والمادية ولكن الذي أعجزها وضاعت معه قوتها وحياتها هم الصوفية،
فالصوفية هم في الحقيقة القوّة الدالة على الحيوية والنماء في العالم الإسلامي فتراهم
في أفريقية وفي الصين والهند وأواسط آسيا، بل في جزائر المحيط يدعون إلى
الإسلام ويدخلون الأفواج فيه كل يوم حتى إن الخطوط التي ترسم في أفريقية لبيان
حدود الإسلام وراء خط الاستواء تنقل متقدمة إلى الجنوب في كل عام من أثر
فتوحات مشايخ الطرق في مجاهل أفريقية. وما دخل الفرنسيس قرية في الكنغو إلا
وجدوا الصوفية قد سبقوهم إليها، وزرعوا بغض الناس لهم فيها. ومن اطلع على
المؤلفات الكثيرة الأوربية التي تؤلف في هذه السنين في أوربا عن أحوال الصوفية
وتاريخ الطرق وكيفية سير أهلها في الدعوة علم أن مسألة الصوفية هي المسألة
الشاغلة للباحثين عن حالة الإسلام الماضي والمستقبلة.
وقد بلغ من العناية بهم أَنَّ وَالِيَ الجزائرِ كَلَّفَ جمعية برئاسة (أوكتاف
دويون) عن البحث في أحوال الصوفية ففعلت وطبعت أعمالها في مؤلف ضخم
ورسمت خريطة عامة يتبين منها ما يوجد من الطرق والطوائف في كل بلد من بلاد
الإسلام بعلامات مخصصة حتى تستقصي منها حركاتها وتنقلاتها في الأقاليم. اهـ
وقال دي كاستري: (قد فطن المسلمون إلى ما أحدق بهم من الأخطار
وأرادوا تمكين الجامعة، وتوحيد الروابط بينهم، وهى عند المسلمين أشد قوَّة منها لدى
غيرهم من الأمم التي تدين بدين واحد؛ لأن القرآن شريعة دينية وقانون مدني
وسياسي، ومن ذلك وجدت حركة في النفوس غايتها مقاومة النصرانية بجميع
الوسائل الممكنة وعلى الخصوص مغالبة التمدن الجديد باسم الإيمان. قال القائد
(رين) وتأتي قوَّة هذه الحركة الإسلامية من تعدد الطرق الصوفية التي وجدت من
أول هذا القرن، وعظم شأنها في جميع الأنحاء وصار لها تأثير شديد في قلوب
الناس ولهم رسل ومريدون يطوفون البلاد الإسلامية التي لا حد لها وغير
الإسلام كمبشرين أو مستعطين أو قاصدين للحج، ويصلون بهذه الكيفية بين الأقطار من مكة إلى جغبوب إلى القسطنطينية، وبغداد إلى فاس، وتنبكتو إلى القاهرة إلى
الخرطوم إلى زنجبار، ثم كلكتا وجاوه ومنهم التاجر والمنجم وطالب العلم والشحاذ
والمجذوب وكلهم يلاقون صدورًا رحبة ومنزلة كريمة بين المؤمنين. اهـ
وقال (كونتانسون) : نرى حركات كثيرة وأعمالاً كبيرة يقوم بها المهديون أو
الأمراء في العالم الإسلامي، ثم تزول كأن لم تكن. أما العمل الثابت الدائم فيه فهو
عمل الصوفية، فالفضل لهم في انتشار الإسلام شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا. وقال
(شاتلييه) بعد أن أطال في وصف انتشار الإسلام في الدنيا وعزاه لمساعي مشايخ
الطريق: (والخلاصة أن الإسلام مدين بكل فتوحاته السلمية وانتشاره في الأقطار
لجماعة الصوفية، فمشائخ الطريق هم في الحقيقة الذين يديرون حركة الإسلام
الحية. ولا يخفى ما في عملهم هذا من الخطر على المصالح الأوربية) .
(السبب الرابع) تعدد الزوجات وهو الأمر الذي به يتفق للمسلم الواحد أن
ينسل خمسمائة نسمة وفي الحديث (تناكحوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم
القيامة) [8] وقال تعالى في حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة: 128) .
قال دي كاستري أيضًا: (ومن الوسائل الناجحة في المسلمين لانتشار الإسلام
الزواج. فإن سلاطين السودان يتزوّجون من العائلات الوثنية لهذه الغاية، ولا تمكث
النساء وأولادهن حتى يصير الكل من أقوى الأسباب لانتشار الدين الإسلامي، وقد
أشار موسيو (رونان) إلى ذلك في بعض كتبه حيث يقول: (من الصعب أن
يُصم المرء أذنه إذا تقدمت إليه النساء والأطفال ومد كلٌ يديه إليه وطلب منه أن
اعتقد بمن نعتقد) على أن الزواج هو السبب في وجود أنصار الإسلام الأولين) .
(السبب الخامس) بغض الأمم الوثنية للمسيحيين وميلهم إلى المسلمين
بالفطرة قال (كونتانسون) : إن مما أعلى كعب الإسلامية على النصرانية في
الصين عناية ملوك الصين بالمسلمين من قديم، فهم يمنحونهم على الدوام من المراتب
والألقاب والمنح ما يمنعونه النصارى. وقال بعض الكتّاب: (قد ملأ الأوربيون
بلاد الصين بجماهير المرسلين من كل ملة ونحلة، وسهلوا لهم سبل التملك ووعدوهم
بالمساعدة فأدخل هؤلاء المرسلون بعضًا من أهل الصين في دينهم بعدما وعدوهم
بالحماية الأجنبية من كل سلطة للقانون فجرأهم ذلك على ارتكاب ما تحرمه القوانين
والاعتداء على أهل البلاد فنجم عن هذا معظم الأسباب التي وجبت كره أهل الصين
للمسيحيين كرها يشبه التعصب، وبالجملة إن الأوروبيين القائلين بالمساواة يعاملون
اللون الأبيض من بني الإنسان معاملة الأخ لأخيه، واللون الأصفر معاملة الرجل
لخادمه واللون الأسمر معاملة السيد لعبده، ويطلقون الرصاصة على ذي اللون الأسود
كما يطلقونها على الوحش الضاري، فالإنسان كلما مال لونه إلى السواد كان نصيبه
من هؤلاء الخذلان وفاحش الامتهان. ولهذا كان كره الأمم الشرقية لهم متكاثرًا
وحقدهم عليهم عظيمًا.
وقال (فيلكس مارتان) في كتابه عن اليابان ما نصه: (وقد استأصل أهل
اليابان جميع النصارى فلم يبقوا مبشرًا إلا شردوه، ولا قسيسًا إلا قتلوه، وكان قد
تنصر من أهل اليابان 37 ألف نفس فأعدموهم قاطبة. وقال أيضًا: إن
الصبغة التي تغطي كل مشكلة أو ثورة في اليابان الآن لتجعلها مقبولة من الناس
هي الحركة ضد الإفرنج، وقال أيضًا: (كل من زار اليابان من الأوربيين يعلمون
بأن الحالة اليوم كما كانت في الأزمنة السابقة، وأن الإفرنج في اليابان كأنهم في دار
الحرب أو بلد عدو وأنه لو كشف الغطاء عن الياباني الحالي وزخرفه لوجد أنه ذلك
(الساموري) القديم الذي يغلي دمه بعداوة الإفرنج عداوة وراثية فيهم لا فرق فيها
بين الكبير والصغير والأمير والحقير) .
وقال هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقًا في مقالته عن الإسلام:
(وقد انبعثت شعبة منه في بلاد الصين فانتشر فيها انتشارًا هائلاً حتى ذهب البعض
إلى القول بأن العشرين مليونًا من المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن
يصيروا مائة مليون [9] فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء (لساكياموني) وليس هذا بالأمر
الغريب، فإنه لا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده
منتشرًا في الآفاق. فهو الدين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمرًا وأفواجًا
وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه.
ففي البقاع الأفريقية ترى المرابطين وقد أفرغوا على أبدانهم الحلل
البيضاء يحملون على الوثنيين من العبيد العارية أجسامهم من كل شعار قواعد الحياة
ومبادئ السلوك في هذه الدنيا كما أن أمثالهم في القارة الأسيوية ينشرون بين
الشعوب الصفر الألوان قواعد الدين الإسلامي ثم هو - أي: هذا الدين - قائم
الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها - أعني: في الآستانة - حيث عجزت
الشعوب المسيحية عن استئصال جرثومته من هذا الركن المنيع الذي يحكم على
البحار الشرقية ويفصل الدول الغربية عن بعضها شطرين) وقال آخر: إن
للإسلام في الصين أربعين مليونًا من النفوس، وإن للمسلمين عند أهل الصين منزلة
عليه. قال موسيو (وازيليف) وهو من الذين اشتغلوا بالإسلام في تلك النواحي:
إن مصيره القيام مقام مذهب (ساكياموني)[10] وإن لمسلمي المملكة السماوية
اعتقادًا جازمًا بأن الإسلام لا بد أن يسود حتى تزول به تلك الديانة القديمة وهى مسألة
من أهم المسائل إذ الصين آهلة بثلث العالم أو تزيد فلو صاروا كلهم مسلمين
لأوْجب ذلك تغييرًا عظيمًا في حالة تلك البلاد بأجمعها فيمتد شرع محمد من جبل
طارق إلى المحيط الأكبر الهادي ويخشى على الدين المسيحي مرة أخرى، ومعلوم أَنَّ
أمة الصين أمة عاملة وإن هدأت أخلاقها وجميع الأمم تستفيد الآن من عملها فلو
جاءها التعصب الإسلامي ذو البأس القوي لخشيت بقية الأمم من السقوط تحت
سلطانها [11] وقال موسيو (مونطيط) : لقد صار من المحقق أن الإسلام ظافر لا
محالة على غيره من الأديان التي تتنازع البلاد الصينية) .
وقال شاتلييه: (إن من تأمل حال الإسلام في القطرين اللذين هما أَأْهَلُ أقطار
آسيا بل أقطار العالم - الهند والصين - يجد أن الإسلام وحده يتقدم وينمو على
حين يرى غيره من الديانات القديمة تتداعى وتضعف، والمسيحية لا تكاد تثبت) .
وقال آخر بعد أن وصف فتوح الإسلام في الديانات الأخرى وعجز الآخرين
عن الفتوح فيه: (ولم ير المبشرون في طريقهم بلدًا قامت في وجههم سدوده
وأقفلت دونهم أبوابه مثل بلاد الإسلام، ومن الصعب أن يكيف الإنسان حالة مسلم
يريد أحد المسيحيين أن ينصره حتى لو شبهناه بمسيحي مستنير يريد وثني أن يميل
به إلى عبادة الأصنام لكان التشبيه ناقصًا) .
وقد ملأت هذه الفتوحات الإسلامية قلوب الأمم الأخرى وبلبلت بلبالهم حتى
عدوها من الخوارق وبنوا أسبابها على ما وراء الطبيعة.
قال دي كاستري: (هذه هي أهمّ الأسباب في انتشار الإسلام ولست أدري إن
كانت تكفي لإدراك سر هذا الدين في انتشاره أو أنه يجب البحث معها عن أسباب
سماوية، غير أن الإسلام خرج من ذرية إسماعيل وسرى في الأرض كما خرجت
المسيحية من ذرية إسحاق، وقد بارك الله في أبناء الخادمة كما بارك في أبناء السيدة.
(ونحن نعلم أن يهوذا قال لإبراهيم عن إسماعيل: إنه سيبارك فيه ويكثر من
نسله كثيرًا وكرّر له ذلك بقوله: إنه سيبارك له في ابن الخادمة فتخرج من صلبه أمة
كبرى لكونه من أولادك وأعاد يهوذا هذه البشرى مرة ثالثة لوالدة ذلك الطفل الذي
نجا في الصحراء حيث رمي ليموت عطشًا. وقصة ظهور الملَك إلى هاجر من
أجمل الروايات ووصف بادية الظماء ولهف الأم على ولدها من ألطف ما يقال
(نضب الماء في الزق ورمت هاجر الطفل تحت شجرة وابتعدت قليلاً ثم جلست
أمامه على مسافة مرمى النيل وقالت: لست أصبر أن أرى ابني يموت ثم رفعت
صوتها بالبكاء، وقد كان بكاء الطفل سبقها إلى السماء فناجاها الملَك من قبل الله:
م الك يا هاجر، لا تخافي فقد سمع الرب صوت الطفل من المكان الذي وضعتيه فيه
فقومي وساعديه على القيام وليشتد ساعدك على حمله فسيكون من ذريته أمة
كبرى) .
(ولقد ارتعشت يدي عندما مددتها لأزيل الغطاء عن الكتاب المقدس كي أنقل
الآيات التي سطّرتها ولولا ما قاله الأب بروغلي من أن تقدم الإسلام أمر مندرج
تحت ما بشر به أبو المؤمنين لما تجرأت أن أطبق تلك الآيات على الإسلام، ولا
ذهبت إلى أن في انتشار هذا الدين سرًّا من الأسرار الربانية) .اهـ
هذا ما أردنا بيانه في هذا الفصل ومنه يعلم أن حظ الإسلام من الأرض أوفر
حظًّا، وأن أرضه له لا يمكن أن ينتزعها منه غيره، وأن عدد المسلمين كثير،
وأن صفاتهم الفطرية قويمة. وجامعتهم الدينية عظمية، وأنهم يزيدون زيادة تستوقف
الأبصار، وتحير الأفكار، وأنه لا يتسنّى لغيرهم أن يجاريهم في هذا المضمار. وإذا
كان الأمر كذلك كان رأس مال الإسلام من الأصليين الطبيعيين الضروريين لمستقبل
الأمم كبيرًا في الحال. أكبر من غيره في الاستقبال، ولا ينقصه إلا الأمور الكسبية
والأسباب الوضعية التي لا بد أن تدفعه طبيعة العمران لتحصيلها شاء أو أبي.
فيصل إلى ما قدره له الله من السعادة والعلاء والمجادة ولله در القائل:
لي في ضمير الدهر سر كامن
…
لا بد أن تستلّه الأقدار
* * *
(الفصل الثاني)
في أسباب الانحطاط
(الجهل)
اختلف العلماء وافترق العقلاء في أسباب انحطاط الأمم وارتقائها وانقسموا في
ذلك إلى فريقين وهما:
(الفريق الأول) يرى هذا الفريق أن الأمم في ارتفاعها وانخفاضها أشبه
بالإنسان في أدوار عمره، لا تكبره الإرادة، ولا تضره الصنعة فهو إذا جاء
زمن المشي مشى وحده وإذا جاء زمن النطق نطق كذلك، وأن الجمعيات الإنسانية
مُسيرة بناموس طبيعي كالناموس الذي يسير الكواكب في أفلاكها. وأن الجمعية
الحالية هي نتيجة ضرورية لماضي طويل الأمد، وإنها حاملة معها جميع بذور
التحولات والأطوار التي لا بد لها من المرور عليها في رقيّها وانحطاطها. وأنه بذلك
تكون الجمعية كالشخص لا يبلغ سنًّا ما لم يَمُرّ بالأدوار التي تفصله عنه وأن تأثير
الإنسان في هذا السير هو كتأثير الطبيب في سير المرض أي: ضعيف لا
يذكر.
(الفريق الثاني) يرى هذا الفريق أن الأمم مثل الشمعة المذابة تضعها في
أي شكل أرادت. وتجعلها في أية صورة صورت، وأن الإرادة تفعل في كيانها
فعل الإكسير الذي يُحوّل الترب تبرًا. ورجال هذا الفريق هم أساطين الحكمة مثل
(أفلاطون) و (أرسطو) و (ليبنيز) و (ليكورغ) ، ولا حاجة في إطالة الكلام
لترجيح الفريق الثاني في هذا المقام فإن اليابان هي البرهان الذي لا يختلف فيه
اثنان.
ثبت عند كبار الحكماء أن الأمم يمكن رفعها وخفضها بالإرادة. أما الآلة
الرافعة أو الخافضة لها فقد اتفقوا على أنها العلم أو الجهل. قال ليبنيز الحكيم:
(لو كان أمر التعليم موكولاً إليّ؛ لغيّرت وجه أوربا في أقل من قرن) وقال أيضًا:
لو أجلنا النظر لألفينا أن تسعين في المائة من الناس هم فضلاء أو أرذلون نافعون
أو مضرون بالتعليم الذي تعلموه وأن كل ما يوجد من فرق بينهم فسببه ذلك التعليم.
وقال (ديدرو) : علة العلل في ارتقاء أو انحطاط الأمم هو العلم أو الجهل وما عدا
ذلك فأسباب ثانوية وعلل جزئية ترجع إلى تلك العلة الأصلية.
هذا وقد بدلنا النظر في حالة العمران أن العلم هو العلة التي تقوى بها أمة
على أمة، والجهل هو سبب انحطاط فريق عن فريق، وبيانه أن هذه الأرض وإن
تنوعت أسماء أجزائها في المواضعة واختلفت ألوان بقاعها في الخرائط فهي بسيط
واحد فيه العامر والغامر والأمم فيه كأمة واحدة فيها القوي والضعيف. وقد أوجدت
المصادفة بعض هؤلاء في حيز عامر مفعم بالنعم، والبعض في حيز غامر مملوء
بالنقم. وجبل الإنسان على حب الأثرة لنفسه ولو هلك في ذلك أهل الأرض جميعًا.
قال سهل بن هارون البخيل: (ليس لي من مالي إلا ما منعته الناس ولو أمكنهم
لنقضوا بيتي حجرًا حجرًا) . فوقع بين القوم بسبب ذلك ما يسمى بتنازع الحياة
وهو في الواقع قتال بلا سيوف ورماح، كل يطلب الطيبات لنفسه ويحرص على
نزع ذلك من الآخر بقوة بأسه، معمعة يعيش فيها الجليد ويهلك الرعديد ويحيا
القوي ويموت الضعيف؛ فلهذا احتاج كل واحد أن يكون أقوى من قرنه فتراجعوا
في الأزمان الأولى إلى القوة الجسمية حتى إذا سما العقل واستنبط من الأساليب ما
طمس به قوة فكان له الغلب والفلج على خصمه، وقد يكون هذا التنازع جهريًّا وهو
معروف في تغلب الأمم بعضها على بعض بقوة الآلات المستنبطة والعدد المبتدعة
وقد يكون خفيًّا وهو التناظر في سائر وسائل الحياة، فالأمم الحقيقية جيوش
متلاحمة، ومقاتلة متحاملة، قال المتنبي:
إنما أنفس الأنيس سباع
…
يتفارسن جهرةً واغتيالاً
فالجنود تقاتل الجنود، والتجار التجار، والصناع الصناع، والزراع الزراع وهكذا.
وكما أن الجندي إذا غالب الجندي وكان سلاح أحدهما المكسيم وسلاح الآخر
الرمح غلب الأوّل لا محالة فكذلك الحال في سائر الأنواع الأخرى. وبقدر ما يكون
في جميع طبقات الأمة من سعة العلم يكون غلب مجموعها على غيرها، ولا يمكن أن
ينحط فرد واحد منها إلا أثّر ذلك في كونها كما إذا وقفت بعوضة على طرف سفينة
عظمية أثقلتها وأمالتها حقيقة، وإن لم تدرك ذلك مشاعرنا.
ومن هذا يعلم أن جميع أحوال الأمة متوقفة على حالة أشخاصها من الجهل
والعلم، فإن صلحت الأشخاص صلحت الأحوال والعكس بالعكس. وبهذا جاء القرآن
الكريم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد:
11) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود
: 117) وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى:
30) وقال جلّ شأنه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53) وقال صلى الله عليه وسلم: (كمَا تَكُونوا يُوَلَّى عليْكُمْ)
[12]
. وفي معناه قول الحكيم (الأمة تعطى الحكومة التى تستحقها) . وقال فولتير:
(الظلم الواقع على الأمة عقاب لها على جهلها) .
ويعلم مما تقدم أيضًا أن الذين يعددون الأسباب الكثيرة في انحطاط الأمم أو
ارتفاعها إنما يذكرون أسبابًا ثانوية لعلة أولى: هي علة العلل وهى الجهل أو العلم.
فمن جعل السبب محصورًا في الحكومة مثلاً قلنا له: إن الحكومة لا تكون إلا على
نسبة استعداد الأمة فلا تلبث أن تتبدل بموت القائم بها أو نحوه فأخرى تفسد كل ما
أتت به الحكومة الأولى. وهكذا من جعل السبب في فشوّ العقائد الفاسدة في الأمة أو
المبادئ التي تزعم أنها من الدين وليست منه نقول له: إن السبب هو الجهل بالدين
وهَلُمَّ جَرّا.
ثم إن العلم له تبعان في الوجود وهما الأنبياء والحكماء أي: الدين والحكمة
فنأخذه من الدين أولاً ثم إن أردنا التفصيل في الفروع أخذناه من الحكمة. قال ابن
مسكويه: (إن تحصيل السعادة على الإطلاق يكون بالحكمة، وللحكمة جزآن
نظري وعملي، فبالنظري يمكن تحصيل الآراء الصحيحة، وبالعملي يمكن
تحصيل الهيئة الفاضلة التي تصدر عنها الأفعال الجميلة، وبهذين الأمرين بعث الله
الأنبياء صلوات الله عليهم ليحملوا الناس عليها، وهم أطباء النفوس يعالجونها من
أسقام الجهالة بالأدب الحق لما يأخذونهم به من الآداب الصحيحة والأعمال النافعة
ويطالبونهم بالاستسلام لهم بعد إقامه الحجة عليهم بالمعجزات فمن تبعهم ولزم
محجّتهم وقف على الصراط المستقيم. ومن خالفهم تردى في سواء الجحيم. فأما من
أحب أن يعلم صحة ما دعوا إليه بالنظر الصحيح فإنه يجد ذلك من جهة الحكماء) .
ولا يقول قائل: إنه يوجد تباين بين الدين والعلم يتنافيان به، فإن ذلك غير صحيح
وإنما جاء لهم من أنهم حصلوا من الدين ما ليس منه أو أخطأوه مقاصده ومعناه،
قال شيخ الفلاسفة في هذا الزمان هربرت سبنسر في كتابه (التربية والتعليم) ما
نصه: (العلم عدو الأوهام المتداولة بين الناس باسم الدين ولكنه ليس بعدو للدين
الحق الذي كثيرًا ما تحاول هذه الأوهام ستره عن الأبصار. نعم إنه يوجد شيء من
العلم المتداول يظهر عليه مناقضة الدين ومعاداته. ولكن هذا أيضًا من قبيل العلم
الذي أكثره وهم، إذ العلم الحقيقي الذي يغوص وراء حقائق الأشياء لا يناقض الدين
كما قدمنا) .
وقال (باقون) إمام الفلسفة الحديثة: (القليل من العلم يبعد من الله، والكثير
منه يقرب منه) وقال (هكسلي) الحكيم الكبير: (الدين والعلم كتوأمين متلاصقين
فصلهما يؤدي إلى موتهما. فإن العلم ينمو متى كان دينيًّا، والدين يثبت متى كان
علميًّا. وأهم آثار الفلاسفة أنتجتها أفكارهم بسائق دينيٍّ في الحقيقة) .
ولو تتبعنا جميع رؤساء الحكماء وأساطين الفلسفة العقلاء من سقراط وأرسطو
وأفلاطون إلى كانت وديكارت وليبنز وأمثالهم لوجدناهم من أهل الدين إن لم
يتسموا بهذا لأنهم يعتقدون بما جاء به الدين ويتخلفون بالحكمة التي أمر بها أن
تكون. قال (كارليل) الفيلسوف في كتابه (الهيرو) : (قال (جوتي) أكبر
شعراء الجرمان وقد وصف له الإسلام: إن كان هذا هو الإسلام أفلا نكون جميعًا
عائشين فيه؟
(ثم قال كارليل) : نعم إن كل واحد منا عنده حظ من الفضيلة والكمال في
الحياة عائش فيه) . اهـ
ولا فرق مثلاً بين قول سقراط: (يجب أن تعرفوا أن إلهكم واحد) وقول
المسيح في الإنجيل: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوا أنك أنت وحدك الإله
الحق) وقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1)
وكل ما أدخل على الدين من تحريف الأصول الحقيقية والقواعد العامة التي
فيه فإنما جاء من فساد عرض أو عرام طرأ وهو منه براء. وهذه الأصول العامة
التي هي عمد السعادة كما لا يختلف فيها الدين عن الحكمة لا يتباين فيها دين ودين
بل الأديان فيها سواء. قال الله تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136) وقال
تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} (الحج: 78)
إذا توضح ذلك وأنه لا خلاق بين العلم والدين فلنبين هنا ماهية كل منهما ليس
العلم هو هذه الأبواب المحفوظة فقط التي يتسمى محصولها بالعلماء عند المسلمين
الآن بل هو أوسع من ذلك رحابًا وأفسح مجالاً، هو معرفة حقائق الوجود جميعًا.
وينقسم إلى حكمة نظرية وحكمة عملية. وتنقسم الحكمة النظرية إلى ثلاثة أقسام
وهي (قسم العلم الإلهي) وهو ما لا يفتقر في الوجود الخارجي والتعقل إلى المادة،
و (القسم الرياضي) وهو علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي دون
التعقل، و (القسم الطبيعي) وهو علم ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي والتعقل.
وتنقسم الحكمة العملية إلى ثلاثة أقسام أيضًا: (قسم السياسة) ، وهو علم بمصالح
الأمة ويدخل تحت كل قسم من هذه الأقسام جملة علوم كالرياضي يدخل تحته علم
الحساب والهندسة والجبر والهيئة، وكالطبيعي يدخل تحته الكيمياء والطب والنبات
والحيوان والجغرافية والفلاحة إلى غير ذلك، بل كل واحد من هذه العلوم يدخل تحته
علوم أخرى كالطب يدخل تحته التشريح والجراحة والكحالة وهكذا إلى ما شاء الله.
ولو أحصيت العلوم التي تقوم بها أعمال المجتمع الإنساني الآن لأربت على ألف
علم.
وكل علم من هذه العلوم له وظيفة لا يقوم بها غيره فمثلها في جسم الاجتماع
كمثل الأعضاء في الجسم لا تغني فيه العين عن الأذن ولا اليد عن القدم وهكذا.
فالعلم الإلهي أو الفلسفة الأولى هو أس العلوم في الحقيقة. سأل (رينان) السيد
جمال الدين عن سبب عقم المدارس في الشرق سواء فيها القديمة والحديثة فقال له
السيد: إن سببه فقد الفلسفة الأولى منها إذ هي للعلوم كالسلك للعقد أو القاعدة
للمسائل فإن فقد السلك تبدّد العقد، أو عدمت القاعدة تناثرت المسائل.
وأما العلم الطبيعي والرياضي فهما باب الارتزاق وسلم المدنية وعنهما يصدر
كل ما نراه في الأمم المرتقية الآن من الحركة والعمران.
وأما علم الأخلاق فهو طب النفس، ومن العجيب أننا نرى الإنسان إذا أصابه
دمل في جسمه أسرع إلى العلاج والطبيب وفي نفسه عشرون دمّلاً لا يلتفت إليها
وإن أنهكته في الحقيقة آلامها، ولا سبب لهذا إلا فقدان هذا الطب من بين المسلمين
الآن مع نموه عند غيرهم من الأمم وحسبك أنه أُلّف في مرض الإرادة وحده عندهم
كتب ذات أسفار.
ويجب أن يكون هذا العلم ملكة في النفس كملكة النحو في اللسان حتى تنطبق
أحوال المرء على قواعده بلا تكلف فتصير الفضائل - كالوقوف عند الاعتدال في
الأعمال والحق في الأقوال والاعتماد على النفس ونحو ذلك جميعه - خلقًا له
وسجية طبيعية، وأما تدبير المنزل فهو من أهم الأمور الضرورية لسعادة الأمة وذلك
أن المنزل هو المدرسة الأولى، وبعده مدرسة التعليم، ثم مدرسة الدنيا فإن كان عمل
الأولى مضادَّا للثانية ضاعت النفس بينهما ضياع لب المأمور لآمِرِينَ مختلفين.
وأما علم السياسة فهو طب الاجتماع الإنساني وطالما أدّى الجهل به إلى شقاء
البشر قال لوبون: إنك لا ترى أحدًا لم يقرأ الفلك أو الجبر، ثم يحاول حل مسائل
فلكية أو معضلات جبرية، ولا نرى أحدًا كذلك لم يتعلم التشريح ثم يحاول أن
يخيط عرقًا مقطوعًا مثلاً، ولكن نرى كل يوم رجالاً لا يفقهون شيئًا من علم
السياسة يسوسون الأمم، ويضعون القوانين، ويسنون النواميس غافلين عن الأخطار
والأزمات التي تنجم من عملهم هذا مع أن خطأ الجاهل بالطب يُودي بشخص واحد
وهذا الخطأ يودي بأمة. وعلى هذا النحو فقس سائر العلوم والفنون.
أما الدين فليس هو أيضًا ما يفهم الناس من أنه مجموع حركات بدنية فقط، أو
لفيف أحاجي لا يصل إليها العقل بل هو العلم بأقسامه إلا أنه أبعد غاية. ومقصده
هو عين المقصد الذي وجد لأجله العلم؛ أي: إرشاد الخلق إلى الحق ثم
هدايتهم بقواعده إلى كل ما فيه السعادة لهم إلا أن الدين يمتاز على العلم بأنه يجمع
السعادتين: سعادة الدنيا والآخرة، وأن العلم يُرغّب في الفضيلة فقط وهو يقهر
عليها قهرًا ويُرتب على ذلك ثوابًا وعقابًا.
ولتقريب فهم المقصود من الدين والانتفاع بما جاء به نفرض على وجه التمثيل
أن الكتاب السماوي الكريم هو كتاب علم وحكمة ونقسمه في ذهننا إلى الأقسام
السابق ذكرها في تقسيم العلم؛ فنجد تحته قسم الإلهيات مفعمًا بما لا يصل البشر
إلى الإتيان بمثله ولا الوصول إلى مثل تعبيره وتمثيله. قال سبنسر الحكيم في كتاب
المبادئ الأولى: (لنعرف للدين الفضيلة الكبرى بأنه أول ما دل على الله، وأنه لم
يفتأ يعلن ذلك في كل زمان ومكان) . ثم إننا نجد الدين وإن لم يتعرض لقسم
الرياضيات والطبيعات فقد حث عليها في جملة ما حث فيه من النظر في الأكوان،
وكذلك وضع العبادات التي تحيي التوحيد في النفوس.
أما الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية، وما يتبع ذلك من الأحكام فقد بلغ
فيها غاية ليس وراءها مطلع لناظر وكانت عمومياته هي الأصل الذي فرع عليه
الحكماء جميع ما أتوا به في هذه الأبواب. وأما ما يقوله السفهاء من عدم موافقة
بعض أحكام الدين لسير العمران فهو خطأ ووهم إذ نراهم قد قهروا إلى الرجوع إلى
كثير منها بعد أن أنكروها قرونًا عديدة.
وإذ قد تبين أن الجهل هو سبب الانحطاط، وأن العلم هو سبب الارتفاع على
الإطلاق فيهما، فلم يبق خلاف في أن سبب انحطاط الأمم الإسلامية هو الجهل.
ولو نظرنا نظرة واحدة في أحوال المسلمين لتبّين لنا مقدار ذلك الجهل وآثاره
السيئة فيهم.
قلنا: إن بابي العلم هما الدين والحكمة؛ أما الدين فلو حكمناه في نفوس أكثر
المسلمين الآن وطبقناه على عقائدهم وأخلاقهم وأحكامهم لوجدنا لدى أكثرهم في
محل كل عقيدة قرآنية أو خلق ديني عقيدة أخرى، أو خلقًا آخر يكاد يضاد الأول
على خط مستقيم. وإذا كان الأول آلة للعلاء كان الثاني علة للانحطاط، ليس الغاية
من الدين مجرد الانتساب إليه، فإن ذلك لا يهدي إلى خير ولا يدفع عن شر وإنما
العمل والانتفاع بكل ما جاء فيه هو الذي يُرقي صاحبه إلى ذرى الكمال
وذلك كالطب، فإنه لا يكفي أن يعتقد الإنسان أنه نافع فيبرأ من مَرَضِهِ وأَوْصَابِهِ،
وإنما يحصل على ذلك باستعماله والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه. ولذلك
حرصت جميع الأديان على تبيان هذه الحقيقة للناس قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) وجاء في الإنجيل: (وإنه ليس
الذين يقولون للمسيح يا سيدي يا سَيِّدي يدخلون ملكوت الله، بل الذين يعملون إرادة
الله) ومهما قلبت بصرك لا تجد الدين في الغالب مستعملاً فيما وضع له، فهو
عند الخاصة موضوع مناقشات لفظية وصناعة فصاحة كلامية ومجال براعة في
اختراع وجوه، وتأويل مناحي وبُعد عن مقاصد. وعند العامة دفتر تعاويذ ورقى
وكتاب ترتيل وكلام يقال لكي لا يفهم حتى قال بعض الأدباء: (فات هؤلاء أن
يُفهموه الأحياء فهم يُسمعونه الموتى في القبور؛ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) .
وأما العلم فحالهم فيه كحالهم في الدين. فهم كل يوم يبعدون عنه ويقربون من
نقيضه، ولهذا تجد الكتاب عندهم كلما كان أقدم كان أنفس وأجود، بخلاف الأمم
الحية فإنه لا يُقرأ الكتاب فيها إذا مضى عليه عشرون عامًا.
منذ كسرت أقلام المسلمين الأولين نرى العلم واقفًا بيننا لا يتحرك، أين
الجماعات المشتغلة بالعلوم الإلهية؟ أين منشئو المذاهب والآراء؟ أين المحامون
عن العقائد؟ أين المؤلفون في الرياضيات؟ أين المخترعون لعلوم لم تكن كالجبر
والكيمياء؟ أين من نقل فلسفة أوربا كما نقل أولئك فلسفة اليونان؟ أين من شرح
كُتب كَانتْ ودِيكارت مِثلما شرح ابن رشد كتب أرسطو وابن كمونة كتب أفلاطون؟
أين من جمع علوم الأوائل في سفر شامل كما فعل الفارابي في كتاب التعليم الثاني؟
أين من ألف فوق مائة مؤلف في الطب كابن سينا والرازي؟ أين من سافر لجمع
غريب النبات وتدوينه كما سافر ابن البيطار إلى بلاد الأغارقة؟ أين من جرّب في
الحراثة ودَوّن كأبي زكريا الإشبيلي الذي رقَّت تجاربه زراعة الأندلس؟ أين من
ساح آسيا وأفريقية والجزر واكتشف البقاع ووصف المواطن كالحسن بن محمد
القرطبي المعروف بالأسد الأفريقي، والبيروني، والشريف الإدريسي؟ أين أنواع
العلوم الكثيرة التي يتداولها المسلمون ويؤلفون فيها والتي حسرها صاحب كشف
الظنون في زهاء مائتي علم؟ أين من دوَّن حوادث زمانه يومًا يومًا، وأخبار قومه
خبرًا خبرًا باختلاف الروايات وتنوع الأسانيد. أين من وقف على حدود العلوم
وزاد فيها على ما كان عند الأمم؟ أين من طلب العلم للعلم وأراد به أن يعرف
حقيقة يجهلها ولذة عقلية يحصلها؟ أكثر ما عند المسلمين الآن اختلاف في إعراب
البسملة وبيان وجوه الصفة المشبهة وأمثالها وشيء من الفقه يعلمونه ولا يعملون به،
وما عدا ذلك فقشور من العلم في المدارس الحديثة المقصود منها صنع موظفين
للحكومات، أو أُجراء لبعض المهن كالطب والحقوق ونحوهما.
هذه مصر وهي في مقدمة بلدان الإسلام عمرانًا وحضارة ورفاهية وشارة؛
تسعون في المائة من أهلها أميون ولا يوجد إلا واحدة في المائتين من نسائها تقرأ
الخط. فيكف حال المغرب والتركمان والعجم والسودان؟ حيثما سرت وأين اتجهت
وقعت عينك على أناسيّ لو جردتهم في الخيال من ألقابهم وأموالهم وحُليهم لم يبق في
يدك شيء. قال المعري:
لو يعرف الإنسان مقداره
…
لم يفخر المولى على عبده
لولا سجاياه وأخلاقه
…
لكان كالمعدوم في وجده
الناس أجمع في حركة وعمل، والمسلمون في سكون وسكوت كما قال تعالى:
{َحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ} (النور: 58) ولله در أبو تمّام حيث يقول:
أفكر في أحلامكم أين عُزّبت
…
فيصرعني طورًا وأصرعه الفكر
إذا الوحي فيكم لم يضركم فإنني
…
زعيم لكم أن لا يضوركم الشعر
* * *
(الفصل الثالث)
في وسائل الارتفاع
(العلم)
إذا كان الجهل سبب الانحطاط كان العلم سبب الارتفاع، فلا تصلح أحوال
المسلمين حتى تصلح نفوسهم، توقف لمعاول على العلة.
ولكن ربما رأى الإنسان الفساد الحال بالمسلمين في أنفسهم في أهلهم، في أمتهم
، في دينهم، في دنياهم، وقد سكن في كل عضو منهم علة، وفي كل جارحة ألم،
وأزمنت الأدواء واستطرقت إلى بعضها حتى أصبحت كل علة تسوق عللاً وكل
مرض يهيج أمراضًا، وغدا بينهما شبه الدور والتسلسل فيتيه في هذا التيه ولا
يدري كيف يسري وماذا يصلح وماذا يترك، وأيّ دواء يستعمل وقد اختلفت
الأمراض وتباينت الآلام فيقف حائرًا بائرًا يائسًا يرى أن خَلْقَ خَلْقٍ جديد أهون من
إصلاح هذا. فلمثل هذا الحائر المشتبه أضرب المثل الذي ضربه (فكتور هوجو)
الشاعر الكبير قال: مثل سلطان الاستبداد مثل مصرٍ بُنِيَ على بطائح (النيفا) في
الروسيا وقد جمد الثلج ماءها، فشيدت القرى والمنازل على الجليد وسارت العجلات
ودارت حركة المعاش في الأسواق كأكثر ما يكون، وضرب الرجل برجله الأرض
فوجد أصلب من الصخر لا تعمل فيه المعاول ولا يقطعه الدينامت فقيل له: إن هذا
كله ظل زائل لا يلبث إلا عشية أو ضحاها حتى يُمحى فلا يكون له أثر، فكذب
وأنكر وهاله الأمر وبينما هو كذلك وإذا بشعاعة من الشمس سالت على هذه الدنيا
الصغيرة فإذا هي حلم حالم. قال هوجو: (هذه الشعاعة هي الحرية) .
وأقول أنا: (هي (العلم) . وقد بينا آنفًا ماهيّة هذا العلم الذي ترقى به الأمة إذا
أخذ كل منها بنصيبه منه. فنذكر الآن الوسائل اللازمة لإدخاله في أرض المسلمين.
وهي تنحصر في (كيفية نقله) و (كيفية تعليمه) و (المال اللازم لذلك)
و (من يقوم بهذا العمل) .
أما نقل العلم وإيجاده بين المسلمين فله طريقان وهما: ترجمته إلى لغات
المسلمين أو تعليم المسلمين لغة من لغات العلم (وهي الآن الفرنسية والإنكليزية
والألمانية) لتكون هي لغتهم العلمية، ومن يقول بالوجه الأول يذكر أنه هو السبيل
الذي سلكته كل الأمم السالفة في نقل العلم إليها كما فعل العرب في نقل علوم
اليونان والسريان والكلدان، وكما فعل الإفرنج في نقل علوم العرب حتى إنك لتجد
الآن كثيرًا من مؤلفاتهم المهمة مترجمة إلى اللاتينية مطبوعة بها من قرون عدة مع
فقدها من بلاد الإسلام ويقول هؤلاء: إننا إذا ترجمنا العلم فقد نقلناه إلينا، وإن تعلمنا
اللغات فقط فقد نقلنا أفرادًا منا إلى العلم. وأما من يقول بالوجه الثاني فيرى أن سير
النقلة وسير العلم في حركته كفرق ما بين راكب الناقة وراكب البخار فإن بَدَءَا من
نقطة واحدة الآن فلا يلبثان أن يتفارقا فيسبق العلم الناقل أبد الأبيد ذنبًا له. وإن
أريد نقل ما عند القوم من أول الدهر إلى اليوم لزم لذلك خمسمائة عام يكونون فيها
قد تقدمونا بمثل هذا القدر من السنين. ويقول هؤلاء: (لهذا رأينا الأمم الآن
غيرت الطريق الأول في نقل العلم إلى هذا الطريق كما فعلت اليابان) .
وعندي أنه يجب التوفيق بين هذين القولين فنجعل تعليم اللغة العلمية إجباريًّا
وبهذا نعطي لكل واحد (مفتاح الجفر) ونرفع الستار عن عالم العلم. ثم نجعل
التعليم والتأليف بلسان الأمة التي هو فيها. ومتى فعلنا ذلك أمكننا أن نسير مع العلم
إذ كتبه وحدوده التي هو عليها تصبح كتبنا وحدودنا، وأمكننا أن ننقل منه ما شاء الله
أن ننقل منه.
ولا يلزم أن نتعلم اللغة العلمية بحيث نحسن الكتابة والتكلم بها بل
يكفينا القدرة على فهمها جيدًا والنقل منها كما كان ذلك شأن النقلة الكبار مثل ابن
ماسوية وحنين بن إسحق ورفاعة بك والرشيدي صاحب المادة وأمثالهم. ولو
حفظ الإنسان في كل يوم خمسة مصادر بمشتقاتها لكان رأسه في ختام السنة قاموسًا.
وإنما يجب إذن أن نجعل اللغات الإسلامية في حالة يمكنها بها أن تكون لغة علمية
وذلك بنقل ما جَدَّ من الألفاظ والاصطلاحات إليها وللوصول إلى هذا نتخذ أحد
المعاجم الموجودة بين أيدينا أصلاً، ونذيله بما استجد من ذلك ناقلين ألفاظ العلوم
واصطلاحات الفنون كما هي بعد تحوير قليل تنتظم به في صيغ اللغة الأصلية. أما
الجهد في سد هذا النقص بإيجاد ألفاظ من متن اللغة القديمة تؤدي المعاني الجديدة أو
استدراك ذلك بواسطة النحت أو الاشتقاق من الجوامد أو نحو ذلك فعبث ولا لزوم
له.
وأما كيفية تعليم العلم وترتيب ذلك فأهم ما يجب أن يعمل فيه أن يكون التعليم
عامَّا إجباريًّا على ثلاث طبقات (ابتدائي وثانوي وعال) وأن يكون التلامذة بقدر
عشرين في المائة من عدد السكان. منهم واحد في المائة للمدارس العالية وسبعة في
المائة للثانوية وما بقي فللمدارس الابتدائية. وأن يكون الأساتذة على نسبة واحد
لكل خمسة عشر تلميذًا في المدارس العالية، وواحد لكل ثلاثين في المدارس
الثانوية. ولكل خمسين في المدارس الابتدائية.
وعلى هذا يجب أن تكون المدارس الابتدائية منتشرة في كل قرية
انتشار المساجد والزوايا. والمدارس الثانوية في كل مركز. والمدارس العليا (أي
الجامعة) في أمهات المدن، وينبغي أن تكون الغاية عند الكافة من طلب العلم أن
يكون المرء سعيدًا في رزقه سعيدًا في نفسه وفي فكره وفي بيته وفي أمته، لا أن
تكون أداء امتحان وأخذ شهادة، ثم إن جدول التعليم في المدارس (البروجرام)
هو بمثابة الجوهر، وكل ما عداه في مقام العرض. فعليه يتوقف الفَلَاح في الحياة أو
الخيبة فيها. وطالما حرص الفلاسفة على تبيان أهمية هذا الأمر واهتمت به
الحكومات. قال جان جاك روسو: (إن أكثر ما نتعلمه في المدارس كأنما نتعلمه
للننساه لا غير ذلك إذ معظمه مما لا نستفيد منه في حياتنا مرة واحدة) . وقال آخر:
الفساد في التعليم يفسد أمة بأسرها) . وقال هربت سبنسر الفيلسوف الإنكليزي:
(لو لم يكن عندنا من العلم إلا ما نعلّمه في المدارس لكانت إنكلترا اليوم على ما كانت
عليه في القرون الوسطى. فجميع ما عندنا من المعارف الكبرى التي صرنا بها أمة
عظيمة في الدنيا لم تنشأ من المدارس المعدة لذلك، بل من أكواخ حقيرة وزوايا
مهجورة) . وقال (كوريون) عن مدارس الصنائع في فرنسا: إن ثلاثة أرباع الوقت
يضيع فيها سُدًى. وقال (هنري دوفيل) في جلسة عامة بأكاديمية العلوم في فرنسا:
إني عضو في المدرسة الجامعة (كلية باريس) من مدة، وإني اليوم على
وشك الاعتزال من الأعمال فأقول لكم قولاً يجب أن يملأ كل أذن وهو: إِنَّه ما دامت
هذه المدرسة على هذه الحال فلا تسوق إلا إلى الجهالة. وإذا كان الأمر من الأهمية
بحيث استدعى إيراد هذه الأقوال عن مدارس أوربا وجب أن نجعله في المنزلة
القصوى من الاهتمام به، ولا نقلد تلك الأمم بنقل بروجراماتها كما هي، وقد سمعنا
أقوال الفضلاء في قيمة تلك البروجرامات وقلة جدواها في التربية العامة.
وليس لي أن أجزم هنا في مسألة هي الآن مشكلة الأمم ومختلف العقلاء وإنما
رأيي أن يكون التعليم الابتدائي محصورًا في الأمور التي يجب عل كل امرئ أن
يعلمها وهو علم (ما يحفظ الجسم) كمبادئ قواعد الصحة والفسيولوجيا وعلم
(ما يحفظ النفس) كالأخلاق وما (يحفظ العائلة) كتدبير المنزل وما (يحفظ الأمة)
كمبادئ السياسة والتاريخ ونحوه وما (يحفظ العقيدة) وهو مبادئ الإلهيات، والحكمة
الأولى التي هى سلك العلوم الحافظ لها من الضياع كما قدمنا، ثم لا بد له من علم (ما
يحفظ الرزق) وهو الزراعة أو الصناعة أو التجارة ومبادئ علم الاقتصاد والحساب
الضابط للعمل.
وأما المدارس الثانوية فيتعلم فيها العلم الذي اختاره المرء لنفسه وما يلزمه
من الفنون ولغة أجنبية من لغات العلم.
ويتعلم التلميذ في المدرسة العليا تفصيل ما أجمله في المدرسة الثانوية. وتقسم
حينئذ المدارس العليا (الكلية) إلى أقسام، كل يختص بعلم مخصوص.
والاختصاص بالفن الواحد من أهم الأمور في بلوغ الغايات في العلوم، إذ العلم
يعطيك من نفسه بقدر ما تعطيه من نفسك، ومما يجب تعويد الطلبة عليه السير مع
العلم كل يوم وعدم الوقوف طول العمر عند ما يتلقونه في المدارس، وذلك بالاطلاع
على فهارس (دور الكتب) والوراقين والوقوف على كل ما يجد في الفن. قال
برتلو الكيماوي المشهور: (كنت أقرأ في كل عام فوق مائتي مصنف تنشر في
الكيمياء، وأحلل ما أجده منها في نفسي تحليلاً كمياويًّا فيتيسر لي بذلك توسيع دائرة
هذا العلم واكتشاف أمور كثيرة فيه.
وأما المال اللازم لذلك فهو لا يتجاوز ريالاً واحدًا عن كل شخص من الأمة
وهو ثلث ما تنفقه أمة كالأمة المصرية على الخمر والدخان في كل سنة.
والحصول على هذا المال يكون إما من طريق الحكومة بالطلب منها أو
الإلحاح عليها والاستماتة في ذلك. أو من طريق الأمة بالاكتتاب العام الدائم والحث
عليه بالخطب على المنابر والجرائد وغيرها. وقد كان السيد جمال الدين رأى في
ذلك رأيًا وهو أن يُنشأ صندوق يسمى (صندوق المسلمين) يوضع في كل قرية وعلى
كل طريق ومسجد ويجمع فيه المال لإصلاح أحوال المسلمين: ولا بأس من جعله
تحت مراقبة إدارة رسمية لتزداد ثقة الناس به كما جعلوا صندوق التوفير تحت
إدارة مصلحة البوسطة مثلاً. على أنه لا يعدم الإسلام رجالاً في هذا الزمان يقومون
على قدم أبي بكر الصديق رضي الله عنه في سالف العصر من بذل كل أموالهم
في تأييد العقيدة التي أخذوا بها والدين الذي انتسبوا إليه. روى مسلم في صحيحه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مِن أمنّ الناس عليّ في ماله وصحبته أبا
بكر) .
أما البحث عمن يقوم بهذا الأمر فهو أهم الأبحاث وأس المسائل. الذي يقوم
بهذا الأمر إما الأمة وإما الحكومة. أما الأمة فما دامت في الطفولية فلا يمكنها أن
تميز خيرًا من شر أو أن تترك اللعبة وتشتري الكتاب. وأما الحكومة فهي إما حكومة
وطنية وهي في الغالب الآن مع الأمم الإسلامية في مقام السيد مع العبد فإن تعلمت
الأمة وارتقت أصبحت معها في مكان الوكيل مع موكله، وهيهات هيهات أن تساعد
على ذلك. وأما الحكومة الأجنبية فهي بمثابة الوصيّ الطماع مع القاصر الغني
فمصلحتها أن تحول بينه وبين الرشد دائمًا [13] وإذ قد نفضنا أيدينا من هؤلاء جميعًا
فلم يبق أمل يرجى وأمنية تُنْتَظَرُ إلا من فئة قليلة بلغت الرشد فعرفت الحال والمآل
أعني بها (عقلاء المسلمين) هذه الفئة هي المسئولة وحدها ولا مسئولية على عامة
الأمة (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج)
وهؤلاء العقلاء بالنسبة إلى بقية الأمة القاصرة في مقام الأولياء فهم المسئولون
عن خيرها وشرها ونفعها وضرها.
لا سبيل إلى نجاة المسلمين وإعلاء كلمة الإسلام إلا أن يؤلف هؤلاء العقلاء
في كل قطر جمعية يسمونها جمعية (مستقبل الإسلام) وأن يؤلفوا جمعية أخرى
عامة تضم هذه الجمعيات تسمى (المؤتمر الإسلامي) ينعقد في مكة أو في أي
مكان يتفق عليه كل سنتين مرة ويكون أعضاؤه مندوبي جمعيات الأقطار المختلفة
ووجهته إصلاح أحوال المسلمين ونشر التعليم الذي هو وسيلة ذاك.
أي دولة قامت أو راية نصبت أو أمة خلصت أو وحدة تألفت، إلا
بالجمعيات؟ الجمعية عامل لا يموت وأمة في واحد. هل اجتمعت الوحدة الإيطالية
أو تهيأت الجامعة السلافية والجنسية السكسونية إلا بالجمعيات السرية أو الجهرية.
هذه الأمة الأرمنية والطائفة المقدونية والفئة الكريتية على صغرها في الوجود،
وكونها لا تكاد تذكر بين كل موجود، تعمل أعمال الجبابرة في الخلاص من
حضيض الأسر، إلى أوج النسر. والأمة الإسلامية التي ملأت المشرقين
والمغربين تنتفض انتفاض الطائر في شباك الصائد ولا تعمل للنجاة عملاً. وكيف
ترجو الوصول إلى الغاية وهي لا تنقل إليها قدمًا. ولا تحرك شفة ولا قلمًا، ومن
طلب شيئًا وجده، ومن تركه فقده.
ولا يعتذر الجبان المفقود القلب بأن عقد هذه الجمعيات مما يتعذر حصوله في
البلاد الإسلامية الآن إذ أي جمعية أنشئت لمثل هذا الغرض فلم تقابل بالكفران،
وتُحَط بالنيران، ولكنها العزيمة التي ترى أن الموت في حياة الأمة خير من الحياة
في موتهم وأنه لا محيص من الصدر أو القبر. على أن كثيرًا من بلدان الإسلام الآن
مفتوحة الأبواب لمثل هذا العمل وأخصها الممالك التي احتلها الإنكليز، ويقرب
سكانها من نصف المسلمين [14] على أن الممالك الأخرى متى علمت أن المقصد
من العمل هو التعليم والتربية، لا يكون لها مجال في منعه، فإن منعته في الجهر فهل
يمكنها أن تمنعه في السر؟ وإن أمسكت الأفواه فهل يمكنها أن تضبط
القلوب؟
أما أولئك الآخرون الذين نراهم ينذرون بفناء الإسلام وانتهاء أمده ويستدلون
على ذلك بالأحاديث الموضوعة والأقوال التي لفقها أعداء الدين قديمًا لإدخال اليأس
على قلوب المسلمين فيجب أن نسد أفواههم ونوجع أقفاءهم ونتلو على أسماعهم قول
الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: 32) .
أيها المسلمون جدُّوا في هذا أمر لتجِدوا. وموتوا فيه لتحيوا. واعرفوا قومكم
قبل أن ينكروكم، واحفظوا بلادكم قبل أن تضيعكم. قد حدثت فيك حركة عامة
فأيدوها وتحملوا فيها الأذى. هذا صوت القرآن يناديكم وداعي الله يستدعيكم {يَا قَوْمَنَا
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف: 31) .
_________
(1)
من قراء المنار في الأقطار النائية من لا يعرف البكري؛ هو من بيوتات الحسب والمجد وقد انفرد في صنفه بتلقي العلوم في مدارس أوربا العالية وبنيل رتبة قاضى عسكر من الدولة العلية، وهو في العربية خزانة الأدب، ولسان العرب يشهد له بذلك شعر فحل ونثر جزل.
(2)
المنار - اشتهر أن هذه الكلمة حديث وقد نبهنا غير مرة على أنه موضوع.
(3)
إن في مصر من أحداث السياسة من يكتب ويخطب لينسخ هذه الآيات الكريمة ويفرق هذه الجامعة بكلمات سخيفة مثل (الوطنية الحقة) و (الدخلاء) فهذه الوطنية الباطلة لا ترضي الإسلام والمسلمين ولا غيرهم من وطنيين ومهاجرين لأنها هضمت كل حق أما الجامعة الإسلامية فإنها تعطي كل ذي حق حقه (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ولئن وجد شيء من التعصب في بلاد المسلمين فإنما وجد بتراخي عرى هذه الجامعة العادلة كما بيناه مرارًا.
(4)
المنار: يراجع القراء مقالة (الجنسية والدين الإسلامي) في المجلد الثاني من المنار ض 321 ومنها يعلم أن الإسلام هو الذي جاء لجميع البشر كلهم فهم يسعون إليه ولا يعلمون.
(5)
تراجع مقالات إسحق طيلر وخطبه في المنار.
(6)
إن من أحداث السياسة في مصر من يحاول إبطال هذه المزايا الإسلامية بفمه وقلمه لغوًا بالوطنية ويزعم مع ذلك أنه يخدم مصر والإسلام!!! .
(7)
للصوفية علم وعمل؛ أما العلم فهو العقائد والقواعد والأحكام المعروفة في كتب التصوف كالفتوحات والفصوص ونحوهما وأما العمل فهو إرشاد المسلمين ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام وإنا نرى في هذه الأيام من بعض متهوري الكُتّاب إنكارًا وتثريبًا على عقائد الصوفية وطلبًا لتلاشي هذه الجمعية من بين المسلمين بسبب ذلك قال بعضهم (إن هذا المذهب دخل إلى الإسلام من القرن الثاني مع ما دخله من المذاهب إذ ذاك وإنما نقل إليه من الفرس بدليل أن مشائخة الأولين كلهم أعاجم كالجنيد النهاوندي وأبو يزيد البسطامي وإبراهيم بن أدهم البلخي وبشر الحافي المروزي وسهل التستري إلخ وبدليل أنهم جعلوا سند الطريق إلى علي رضي الله عنه دون غيره ولا يفعل ذلك إلا الفرس الذين هم شيعته وبدليل أنه كان مدونًا في كتب الفرس وأشعارها قبل الإسلام وقد نقله الفرس عن اليونان إذ كان عندهم مذهبًا للحكماء الإشراقيين وأخذه اليونان من الهنود الأقدمين إما بواسطة فتوح الإسكندر أو قبلها قال أبو الريحان البيروني في كتاب الهند عند ذكر اعتقاد الهنود في الموجودات العقلية والحسية ما نصه: (إن قدماء اليونانيين قبل ظهور الحكمة فيهم بالسبعة المسمين أساطين الحكمة وتهذب الفلسفة عندهم كانوا على مثل مقالة الهند وكان فيهم من يرى أن الأشياء كلها شيء واحد (وحدة الوجود) ثم من قائل في ذلك بالكمون ومن قائل بالقوة وأن الإنسان مثلاً لم ينفصل عن الحجر والجماد إلا بالقرب من العلة الأولى بالتربة وإلا فهو هو ومنهم من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط لاستغنائها بذاتها فيه وصاحبة غيرها إليها وأن ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره فوجوده كالخيال غير حق والحق هو الواجد الأول فقط وكانت هذه الآراء آراء (السوفية) أي الحكماء فإن سوف باليونانية معناها الحكمة وبها سمي الفيلسوف أي محبي الحكمة ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب مِنْ رأيهم سُمُّوا باسمهم ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم بالتوكل إلى الصُّفَّة وأنهم أصحابها في عصر النبي صلى الله عليه ولسم وصيره بعضهم من الصوف وعدل أبو الفتح البستي عن ذلك عدول في قوله:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا قدما وظنوه مشتقًا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى
…
صافي فصوفي حتى لُقِّب الصوفي
وكذلك ذهبوا إلى أن الموجود شيء واحد وأن العلة الأولى تتراءى فيه بصور مختلفة وتحل قوتها في أبعاضه بأحوال متباينة توجب التغاير مع الاتحاد (الحلول والاتحاد) وكان فيهم من يقول: إن المنصرف بكليته إلى العلة الأولى متشبهًا بها على غاية إمكانه يتحد بها عند ترك الوسائط وخلف العلائق والعوائق (الرياضة والتجرد) .
وكانوا يرون في الأنفس والأرواح أنها قائمة بذواتها قبل التجسد بالأبدان معدودة مجندة تتعارف وتتناكر وأنها تكتسب في الأجساد بالخيرورة ما يحصل لها به بعد مفارقة الأبدان الاقتدار على تصاريف العالم ولذلك سموها آلهة وبنوا آلهة وبنوا الهياكل بأسمائها وقرّبوا القرابين لها كما يقول جالينوس في كتاب الحث على تعلم الصناعات (أصحاب الكرامات) اهـ كلام البيروني قالوا: والوصول إلى المعرفة عند الصوفية ليس من طريق النظر والتجربة بل من طريق الرياضة، وكل ما يفعله الصوفية الآن من الاهتزاز الشديد في الذكر ونحوه هو لتخليص النفس من الحس حتى تتجلى لها المعرفة بقدر ذلك ولا شك أن هذه جميعها عقائد وقواعد يجب إلغاؤها؛ لأنه لم يجئ بها كتاب ولا سنة اهـ أقول: هذا تهور وخطل وبعد عن الصواب إذ كيف يجوز لمسلم أن يطالب إيقاف الحركة التي يعترف الإفرنج أنفسهم بأنها الحركة الحية الوحيدة الباقية الآن في الإسلام والتي فتحت للإسلام الآن قدر ما فتحته سيوف الفاتحين الأولين أما الطريقة لإصلاح حال الصوفي ونفي الضار عنها وإبقاء النافع فيها فهي أن نجعل (العلم) عندهم هو علم الشرع الإسلامي بلا زيادة ولا نقص و (العمل) يبقى موضوعه على ما هو عليه فيكون عبارة عن إرشاد المسلمين إلى الشريعة المطهرة ودعوة غير المسلم إلى الإسلام وبهذا يكون التصوف عبارة عن (علم بالشرع وعمل به) ويقوم مشايخ الصوفية إذن بركني التعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين حث عليما الكتاب الكريم قال تعالى: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ](آل عمران: 104) وقال تعالى: [فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ](التوبة: 122) وتكون جمعية الصوفية في الدنيا أشبه بمدرسة عظمى فيها المشايخ والخلفاء الأساتذة والمريدون من الكافة تلامذة قد وضعوا أنفسهم تحت التعلم ومراقبة العمل به مدى العمر اهـ مؤلف الرسالة.
(8)
المنار: رواه عبد الرزاق في مصنفه من حديث سعيد بن أبي هلال مرسلاً بسند ضعيف ولكن ورد بمعناه في مكاثرة النبي الأمم والأنبياء بأمته ما يقويه.
(9)
المنار: جاء القاهرة في هذه الأيام تاجر بلوجي مسلم ذهب إلى الصين مرارًا فأكد القول بأن مسلمي الصين يبلغون 80 مليونًا وأن علماءهم يهزأون بقول الأوربيين إنهم 40 مليونًا.
(10)
هو أحد ملوك الصين تخلى عن الناس في التاسعة والعشرين من عمره وعكف على العلوم حتى برع فيها وسمى نفسه (بودا) ومعناه العالم أو المتنور ووضع المذهب الذي اتخذته الصين والهند دينًا وكان ظهوره في القرن الحادي عشر قبل المسيح وقيل في القرن السابع وهو الأرجح.
(11)
راجع كتاب موسيو دابري المسمى الديانة المحمدية في الصين وتركستان الشرقية المطبوع في باريس سنة 1878 اهـ من هامش كتاب الإسلام لدى كاستري.
(12)
المنار: رواه الديلمي عن أبي بكرة والبيهقى عن أبي إسحق السبيعي مرسلاً.
(13)
يقول بعض السذج من البسطاء: لا حاجة لاهتمام المسلمين بأحوالهم؛ إذ الإفرنج لا بد أن يسوقهم دافع المدنية وروابط الإنسانية إلى أن يحتلوا بلادهم فيصلحوا أحوالها وينظموا أعمالها كما ذكر ذلك (روسفلت) رئيس جمهورية الولايات المتحدة في خطبة له قال فيها: (إن داعي الإنسانية يضطرنا إلى احتلال البلاد الضعيفة والتغلب على الأمم المنحطة لنرتب أحوالهم ونصلح أعمالهم ونرقيهم حتى يصبحوا مثلنا تمامًا وما نأخذه في أثناء ذلك من المنافع هو أجر ذلك العمل)، أقول: إن هذا تغرير للأبصار، وتضليل للأفكار، إذ الإفرنج قد يصلحون الأشياء لا الأشخاص، ومثل هذا الإصلاح لا يفيد المسلمين وهم في حالة الانحطاط، بل هو أشبه بالثياب المهندمة التي يضعها الباعة على تماثيل الخشب زخرف على تربة ونقش على خربة، فإن الأمة لا يمكنها أن تنازع غيرها سبل الحياة إلا بنفسها، فإذا فقدت نفسها فهي فاقدة لكل شيء، ولا ترجع فائدة هذه الاصلاحات إلا على الإفرنج أنفسهم فمثلهم فيه مثل من يعمر البيت بأجرته ثم يسكنه مدة طويلة حتى إذا خرج منه يوماً كان البيت قد عاد إلى حالته الأولى أما إصلاح الأشخاص الذي هو أس كل إصلاح حقيقي فهو ما لا يفعله الإفرنج بل ما يدأبون في الغالب لصده ورده، قال بعض نبهاء التونسيين، وقد سئل عن حال بلاده (تقدمت البلاد وتأخر أهلها) ولا عجب في ذلك كله ما دامت سنة الاجتماع قد قضت بأن تكون حياة القوي في موت الضعيف، اهـ لمؤلف الرسالة.
(14)
أوجه كثيرة كانت تحملني دائمًا أن أجزم بأنه من الضروري للمسلمين أن يتفقوا مع الإنكليز في السياسة العامة سواء في ذلك الذين تحت سلطتهم والذين تحت سلطة الدول الأجنبية الأخرى والمستقلون أما الذين تحت سلطتهم فيجب عليهم ذلك لأسباب كثيرة منها أن الإنكليز يطلقون في مستعمراتهم حرية الدين والتعليم والقول والتجارة ويكتفون من الفائدة بأن تكون البلاد سوقًا لتجارتهم ومجالاً لارتفاقاتهم المالية ولا شيء أنفع وأجدى على الإسلام من هذه الحرية التي لا توقف نموه الطبيعي ولا يخشى عليه أكثر من وقوف القوة أمام ذلك النمو ومنها أنه يمكن للأمة الإسلامية إذا ارتقت أن تخلص من نيِّر الإنكليز بالاتفاق أو بالقوة؛ إذ قوة الإنكليز البرية ضعيفة وقد صعب عليهم أن يخضعوا ثلاثمائة ألف من البوبر أخيرًا فكيف يخضعون ثلاثمائة مليون إذا أصبحوا مثل البوير ومنها أنه إذا لم يكن الإنكليز بين ظهرانيهم فلا بد أن يكون غيرهم من الأمم الأجنبية إذ الضعف الذي هو علة تسلط أولئك لم يفارقهم فإن تسلطت عليهم دول أخرى كالروسيا في آسيا أو ألمانيا وفرنسا في أفريقيا ودهمتهم بما عندها من الجند الذين لا يقلون عن خمسة عشر مليونًا فقل على المسلمين السلام على أنها إذا لم تنكل بهم فإنها تسد أبواب الحرية الدينية والسياسية في أوجههم هذه تونس أبطل منها الحج والجزائر لا تدخلها جريدة إسلامية حرة كالمؤيد وتركستان لا يقرأ في مدارسها آي الجهاد من كتاب الله، وجاوه أصبح المسلمون فيها من الضغط والإهانة في مرتبة الحيوان الأعجم وأما المسلمون الذين تحت سلطة الدول الأخرى - فللأسباب المتقدمة جميعها؛ ولأن مصلحة الإنكليز في خلاصهم من يد تلك الدول وهي أقدر الناس على هذا في الحقيقة إذ هذه الدول (ما عدا الروسيا) لا تصل إلى ممالك الإسلام إلا من طريق البحر ومفاتح البحر في أيدي الإنكليز وأما المسلمون المستقلون فيجب عليهم الاتفاق مع الإنكليز أيضًا لأوجه منها أن مصلحة الإنكليز تفضل بقاء هذه الممالك مستقلة غير محكومة بدولة أجنبية وذلك؛ لأن روح هذه الأمة التجارة ومادامت الممالك الإسلامية مستقلة فأبواب التجارة مفتوحة وطريقها مأمونة فإن احتلتها دولة أجنبية فهناك المخافة والخطر، ولهذا السب كان الإنكليز أحرص الناس على مساعدة هذه الممالك على التقدم والنجاح والبقاء، ومن رأى مخاطبات السير ليارد سفير إنكلترا للباب العالي بعد الحرب الروسية وجد غيرة كبيرة على مستقبل الدولة أما استيلاء الإنكليز أنفسهم على بعض الممالك الإسلامية فهو في الغالب لتحققهم وشك وقوعها في أيدي غيرهم إن لم يسبقوا إليها، على أنه لولا دماء الإنكليز وأموالهم لاستولى الروس على القسطنطينية وعلى العجم والأفغان، وملكت فرنسا مراكش والطليان طرابلس وهكذا، ومن هذه الأسباب يعلم أن الممالك الإسلامية محتاجة في كل وقت إلى عضد قوي تنقي به أوربا والإنكليز هم أولى الناس بهذا إذ تجمعهم مع الأمة الإسلامية كراهية أوربا للفريقين وكراهتهما لها هذه هي أفكاري في هذا الموضوع ولولا أن هذه المسألة جوهرية بالنسبة إلى مستقبل الإسلام لما احتجت للتعرض لها في هذا المقام، اهـ لمؤلف الرسالة.