الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين،
وإمام الهداة والمصلحين، وعلى آله وصحبه الراشدين المهديين، وعلى من تبعهم
بهديهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد بلغ المنار - بفضل الله وتوفيقه - السنة السادسة وهذا أول جزء منها،
ولله مزيد الشكر والثناء أن أعطانا فوق ما تعلق به الأمل والرجاء، وزادنا على ما
كنا نتوقع من زيادة القراء والمشتركين، عددًا صالحًا يدخل في عقود المِئِين، من
غير دعاة مندوبين، ولا وكلاء مُسْتَخْدَمين؛ إلا ترغيب أهل الغيرة الملية، وتنبيه
ذوي الأريحية الإسلامية، صادفًا من قلوب إخواننا المسلمين شعورًا ينمو، ووجدانًا
يسمو، وعلمًا بالحاجة الشديدة إلى توثيق الرابطة الدينية، وإحكام عقدة العقائد
الإسلامية، والجمع بين مجاورة الأمم المعاصرة، وحفظ ما فيه حياة الدار الآخرة،
من العقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال النافعة، وهذا ما أنشئ المنار
للدعوة إليه، وهو عين ما يدعو إليه الإسلام، ما زدنا فيه ولا نقصنا منه، وإنما
نتوخى بيانه، ونقيم برهانه، بما يناسب حال الزمان، وما انتهى إليه رُقِيُّ
الإنسان.
لقد أتى على المسلمين حِينٌ من الدهر وهم في مرض اجتماعي يشبه داء
السكتة، تعيث في جامعتهم جراثيم المرض وهم لا يشعرون، وتهددهم بالفناء
والزوال ولا يعلمون، حتى إذا فار التنور، وجاء القدر المقدور، تخرق حجاب
الغرور، وطفق يدب دبيب الشعور؛ ولكنه شعور يظهر أنه زاد الأمة مرضًا،
حتى كادت تكون حَرَضًا، شعور هبط ببعض ذويه في مهاوي الإياس، وطوح
ببعضهم إلى موامي الوسواس؛ فكان انتقالاً من طور الخدر والسبات، إلى طور
الحيرة والشتات، ولَحيرةٌ في الفكر وشتات في الأمر خير من خدر الحواس،
وفقد الإحساس؛ لأن هذا من أمارات العدم والزوال، وذاك من علامات الحياة على
كل حال.
ذهب أقوام في هذه الحيرة إلى أن وقاية المسلمين من الخطر إنما تكون
بالاعتماد على الأمراء والسلاطين، والاستماتة في الخضوع لهم وتقديس سلطتهم؛
ولأن الخطر إنما ينذرنا من الجانب الغربي جانب القوة القاهرة، والمدنية الساحرة
وملوكنا - وإن جاروا - هم القابضون على بقايا ما عندنا من القوة التي نكافح بها
تلك القوى، فلا بد من تعزيزهم وتعزيرهم، وإجلالهم وتوقيرهم؛ بل لا بد لنا من
تنزيههم وتقديسهم بكرة وأصيلاً!
وذهب آخرون إلى أن الملوك والأمراء قد استبدوا بسياسة الأمة بدون
مشاورتها قرونًا طويلة فما كان منهم إلا أن أوقعوها في هذا الضعف والهوان،
والفقر والخذلان، والجهل بأمر الدنيا والدين؛ لأجل الخضوع الأعمى لهم وإن
كانوا ظالمين، وإذا كانوا هم مصدر الشرور والفتن ، ومثار البلايا والمحن، فأول
واجب على الأمة مقاومة استبدادهم، ومقاومة استعبادهم، وإلزامهم بالمشاورة في
الأمر، وتقييد السلطة في الحكم، وإعلامهم بأنهم أجراء الرعية، كما قال أبو العلاء
حكيم الشعراء:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
…
فعدَوْا مصالحها وهم أُجراؤها
وبذلك يصلح الحال، وتتحقق الآمال، ونثق من حسن الاستقبال، وأما دوام
الاستماتة في الخضوع للمستبدين فإنه يردينا في أسفل سافلين، فهم الذين يُجْهِزُونَ
على ما أبقى أسلافهم من قوى الأمة الحسية والمعنوية، وهم الذين يسلمون بقية
بلادها للدول الأجنبية، إلا أن الفريق الأول أكثر عددًا، وأغزر مددًا، والفريق
الثاني أكثر علمًا، وأبعد فهمًا، ولكل منهما صحف منشَّرة، وجرائد محررة؛ ولكن
جرائد حزب القوة أعز أنصارًا، وأكثر دينارًا والنجاح من حجج القوة على الضعف
وما كل ناجح محق، وما كل خائب مظلوم.
وقد فات حزب المحافظين أنهم يطلبون بناءَ ما كان على ما كان. فإذا طلب
أحدهم إصلاحًا فإنما يطلبه في فرع من الفروع، ولا إصلاح إلا بصلاح الأصول.
(متى يستقيم الظل والعود أعوج؟ !) .
وفات حزب المعارضين أنهم لا يدرون من يطالبون، ولو دروا لعلموا أنهم
يلغون ويعبثون، فإنه لا يقوِّم الحكام إلا الأمة المتعلمة المهذبة، فالسعي في تكوين
أمة عالمة مهذبة هو الواجب الأول على الذين شعروا بمُصَاب المسلمين وأبصروا
من وراء الحجاب ما كمن لهم من الغوائل والرزايا.
ولا طريق لهذا التكوين إلا التربية الملية الصحيحة والتعليم العام، ولا يكمل
هذا إلا في المدارس الكلية كما سبق لنا القول.
هذا رأي لا يختلف فيه أهل البصيرة من عقلاء المسلمين؛ ولكن هؤلاء لم
يبلغوا أن تكون لهم صحف تنشر، وجرائد تدعو - على أن كل الصحف عون لهم -
حتى إذا ما أنشئ المنار كان هو صحيفتهم؛ لأنه لم ينشأ لمقاومة سلطة ولا
حكومة ولا لمدح سلطان أو أمير ولا لذمهما وإنما أنشئ لمساعدة العقلاء على السعي
في (تكوين الأمة) من طريق التربية الملية والتعليم النافع؛ ولذلك قلنا في مقدمة
العدد الأول: إن الغرض الأول من المنار الحث على التربية والتعليم، لا الحط على
الأمراء والسلاطين.. إلخ. وقلنا في أواخر مقالة نشرت في العدد 16 من السنة
الأولى عنوانها (إلى تربية وتعليم نحن أحوج) - بعد كلام في تعلم الفنون
العصرية بصبغة أوربية - ما نصه:
(فيجب على العلماء والكُتاب الشرقيين أن يوجهوا عنايتهم الكبرى إلى هذا
الأمر - تكوين الأمة -، ويجتهدوا فيه قولاً وعملاً، ويجب على مؤسسي المكاتب
والمدارس الوطنية ومعلميها وأساتذتها أن يجعلوه نصب أعينهم وأهم ما تدور عليه
تعاليمهم بحيث يغرسون في قلب كل تلميذ أن حياته كلها لأمته وبلاده وأن علمه
وعمله لا شرف له فيهما إلا إذا صرفهما لمنفعة الأمة والبلاد..) إلخ.
في طريق هذه التربية وهذا التعليم عقبة في طريق المسلمين يتعسر اقتحامها
وهي سوء فهم الدين وتقليد الجاهلين بعضهم بعضًا فيه، لهذا كان الذي جمع بين
مصالح الدارين. وليس المراد من جعْل المنار دينيًا إلا بيان ما هو الدين على وجهه
الحق والتفرقة بينه وبين ما ليس من الدين في شيء وكيفية الجمع بين مصالح
الروح والجسد، وكل هذا مما يتقبله جميع المسلمين بالإجمال، وفي التفصيل مزلة
الأقدام، ومضلة الأقوام.
ومن مقدمات الإصلاح إحياء اللغة؛ إذ لا أمة بدون لغة حية ومنها إزالة
حجب الغرور عن حقائق الأمور، ومن هذا القبيل ما ينشر أحيانًا من النبذ الأدبية
والتاريخية ومن جوائب الأخبار، التي تتضمن العظة والاعتبار.
هذا هو موضوع المنار نشير إليه على رأس كل سنة، لا ينازع حزبًا من
الأحزاب في مشربه ولذلك سالمه أصحاب الجرائد السياسية، من وقف نفسه منهم
على مدح الأمراء والسلاطين ومن وقفها على ذمهم، ومن رضي بنفوذ الحكومات
الأجنبية في البلاد التي يسكنها ومن سخط عليها. وسالمه أيضًا أصحاب المجلات
العلمية والدينية وسالمهم، إلا مَن استهواه الغرور فطعن في أصول الإسلام
الاعتقادية أو الأدبية أو العلمية فردَّ المنار طعنه، وأخرج ضغنه.
وجملة القول: إن المنار قد جاء بمشرب جديد استعذبه الأقلون، ومجّه
الأكثرون، استعذبه من ذاقه فعرفه، ومجّه من جهله فما أنصفه، أولئك أسرى
التقليد، ينفرون من كل جديد إلا أن يكون بدعة دينية، ويفرون من كل داعٍ إلا أن
يدعو إلى لذة بهيمية يألمون مما هم فيه، ويتنكبون طريق تلافيه، يطلبون النجاة
من الشقاء ويصرون على أسباب البلاء؛ يهرب مدعي العلم فيهم من المناظرة،
وينبري المعترف بالجهل منهم إلى المماراة والمهاترة، يتبرأ زعيمهم من الدليل
المعقول والمنقول ويحاول أن يقلّد في كل ما يقول، حجتهم استبداد الأمراء،
واعتقاد الدهماء، وقد سحل مرير هذا الاعتقاد وانتكث فتل ذلك الاستبداد؛ وتقلص
ظل ذلك الزمان؛ الذي كان يحتكر فيه الدين والإيمان، وخلّى بين العقول
والاستقلال، وبين الإرادة والأفعال، فساء صباح المقلدين، وأذن مؤذن بينهم
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) ، فخذل الجاهلون {أُوْلَئِكَ
حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .
هذا ما كان في كثير من بلاد المسلمين، وهذا ما سيكون في باقيها بعد حين،
ولحرّيةٌ تبيح بعض المنكر ولا تمنع شيئًا من المعروف أهون من عبودية تنهى
عن المعروف وتأمر بالمنكر، فالعبوية تطفئ نور الفطرة البشرية، والحرية تظهر
مبلغ استعداد القوى الإنسانية.
فيا حسرة على سلطة تهدم بمعاول الاستبداد والاستعباد، ويا ضيعة لحرية
يفسدها سوء الاختيار وضعف الاستعداد، ويا طوبى لمن اغتنم فرص الزمان؛
فعمل في نفسه لنفسه، وعمل في أمته لأمته، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الثامنة في
(منفعة الاعتقاد بها ومضرته)
يذهب كثير من الناس إلى أن جميع الأديان وثنية وسماوية قائمة على قواعد
الخوارق فإذا تزلزلت هذه القواعد في دين انقضّ الجدار وخر السقف وذهب بناء
الدين حتى لا يبقى له أثر.
قول يقوله الملاحدة، ويوافقهم عليه رجال كل دين على حدة، فهو حجة الدين
عند أهله، وهو الحجة عليه عند أعدائه، وتلك عضلة العقد، ومحك المنتقد، يقول
كل ذي دين: إن الخوارق التي نعتقد بها قد ثبتت عندنا بالمشاهَدة بالنسبة إلى قوم،
وبالنقل عن الثقات بالنسبة إلى آخرين وقد بلغ عدد الناقلين في بعضها مبلغ التواتر
الحقيقي وفي بعضها الآخر مبلغ التواتر المعنوي أو الاستفاضة أو الشهرة بين
الآحاد الثقات على الأقل.
وأما ما يدعيه أهل الملل الأخرى فهو كذب وافتراء، أو شعوذة وسيمياء،
ويقول الملحد - لا سيّما إذا دُعي إلى الدين -: إنه ليس من العدل، ولا من
مقتضى العقل أن ينظر طالب الحقيقة في قول أحد المدعين، ويغفل أقوال الآخرين؛
بل الصواب أن ينظر في جملتها ليتسنى له الترجيح، وقد فعلنا ذلك فألفينا أن
الآية الكبرى في كل دين هي دعوى الخوارق لزعماء الدين. وإننا لنعلم أن كل دين
من هذه الأديان يحرم الكذب، ونعلم أن من أهل كل منها الأخيار والأشرار فلا وجه
لترجيح أحدها على الآخر فلم يبق إلا تصديق الجميع أو تكذيب الجميع!
والتصديق يستلزم التكذيب؛ إذ لو قلت: كل واحد من هؤلاء صادق لدخل في
تصديق كل واحد تكذيب الآخرين؛ لأنه يدعيه وهو صادق فتكون النتيجة أن كل
واحد صادق كاذب في حال واحد وهو محال فتعين إذن تكذيب الجميع.
ثم إن هؤلاء المنكرين يقولون أيضًا: إن من ينشأ في دين يجوِّز وقوع
الخوارق آنًا بعد آن من كبار المتمسكين يكون عقله دائمًا متقلقلاً أسير الأوهام
والخرافات؛ بل يكون ألعوبة في أيدي الدجالين والمشعوذين، الذين يلبَسون ثياب
الصالحين، أو الذين يتخذون الدين حرفة يعيشون بها في سوق الغرور والغفلة.
ولذلك نرى هذه الخوارق التي يدعونها تكثر ويكثر مدعوها في البلاد التي
خيَّمت فيها الجهالة، وعُرِفَ أهلُها بالغباوة والبلادة، وإننا نعرف كثيرًا من البلاد
الأوربية كان أهلها يدعون كثيرًا من هذه العجائب ويزعمون أنهم يروون ما يرون
بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويحسون في أنفسهم، ومن ذلك زعمهم أن القديسين
والشهداء يخرجون من قبورهم في صورة نورانية فيطوفون في الأرض ويأتون
بعض الأعمال، ثم لما تقشعت عنها سُحُب الجهل، وأشرقت عليها شمس العلم
بطلت هذه الدعاوى، وانتقضت هاته القضايا، وطاحت تلك الإشارات، وذهبت
هاتيك العبارات، ومحيت آيات الليل بآية النهار، وصار النور بدلاً من الظلام
شرطًا في الإبصار.
ويقولون أيضًا: إن العلم قد كشف الستار عن أكثر هذه الخوارق للعادات،
وعرف علة ما أدركه من هذه العجائب والكرامات، وقد حاكى العلماء بعض ما
رأوه من مدهشات سحرة إفريقيَّة وكهنة الهنود وعرفوا علة بعض وإن لم يحاكوه
فمنهم من توصل إلى الجلوس في الهواء بحيلة صناعية ومنهم من أظهر للملأ أنه
أطاح رأس إنسان عن بدنه، ثم أعاده إليه.
فتبين من استقراء هذه الأمور والبحث فيها أن منها ما له أسباب علمية
صحيحة كان يعرفها بعض الناس فيكتمها عن الآخرين لما يكون له بها من
السلطان عليهم. ومنها ما هو حيل وشعوذة يخيل المتمرنون عليها إلى الناس أنهم
يوجدون أشياء وما هم بموجديها ولكنهم قوم يخدعون.
وقد رأى هؤلاء الناس ما كتب كثير من القسيسين في إنكار نبوة نبينا - عليه
الصلاة والسلام - واحتجاجهم بأنه لم يكن يحتج على نبوته إلا بما جاء به من العلم
والهدى في الكتاب وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وزعمهم أن هذا لا يكفي في إثبات
النبوة، وأنه لا بد من إظهار الخوارق الكونية، فضحكوا من احتجاجهم وزعمهم
وقالوا: إن صح ما ذكرتموه فهو أقوى البراهين على صدقه وبراءته من الغش
والتمويه الذي كان يتيسر له لو أراده لعلو فكره وقوة ذهنه. وقال بعض فلاسفة
فرنسا منهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن محتاجًا إلى عمل العجائب
لمثل ما كان يحتاجها الأنبياء من جذب النفوس إلى الإيمان به فإنه كان يقرأ
القرآن باسم الله في حال وَجْد ووَلَه روحاني ينتقل تأثيره من نفسه إلى نفوس من
يسمعه فيكون ذلك جاذبًا لهم إلى الإيمان بجاذبَيْ الإذعان والوجدان إيمانًا يملك على
النفس أمرها حتى لا يمكنها الانسلال منه، وإن قاست في سبيله من الأهوال ما
يشيب النواصي، ويدك الصَّيَاصِي، فأين هذا الإيمان من إيمان قوم رأوا أعجوبة لا
يدركون سرها فخضعوا لصاحبها وسلموا بما يقول، وإن لم تدرك فائدته العقول،
حتى إذا ما غاب عنهم برهة من الزمان عبدوا ما يصوغون من الأوثان، فإذا كانت
فائدة المعجزات جذب النفوس إلى الإيمان فلا شك أن هذه الفائدة أظهر في القرآن منها
في سائر المعجزات؛ لذلك كان إيمان المسلمين أشد من إيمان جميع أتباع الأنبياء
الآخرين.
وقال أحد القسيسين العلماء: إننا نفضل الإنجيل بما فيه من كثرة الخوارق
والعجائب المنسوبة إلى صاحبه على أن القرآن لم يسند إلى من جاء به عجيبة واحدة
وإنما ذكرت فيه العجائب حكاية عن السابقين ويقول في جواب الذين طالبوا محمدًا
بالآيات: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) ،
(قال) : ولكننا صرنا إلى عصر تعد فيه الخوارق من العقبات في طريق الإيمان،
ويفضل فيها القرآن على الإنجيل بذلك!
هذا مجمل اعتقاد خواص الناس في الأقطار الغربية في الخوارق والعجائب
وهو اعتقاد أكثر الذين يتعلمون على طريقهم في البلاد المشرقية، وهذا الصنف
المتعلم هو صاحب السلطة على غير المتعلم وإنَّا لنراه لا يوجد في بلاد إلا وينمو نموًّا
مستمرًّا بطيئًا كان أو سريعًا ونرى أهله يتسللون من الدين لِوَاذًا ويمرقون
منه زُرافات وأفذاذًا؛ ولهذا رسخ في أكثر الأذهان أن العلم والدين ضدان، وصار
المستمسكون بالدين ينفرون من العلم؛ ولكن أهله يسودون عليهم تارة بالحرب
وتارة بالسلم، ولهذا يظن الناظرون في سير الإنسان أن العلم يفتأ يفتك بالدين،
حتى يمحوه من لوح الوجود ولو بعد حين، وما لهؤلاء الظانين من علم بأن في
العالم دينًا حل جميع المشكلات، وأزال جميع الشبهات وهو دين العلم والعرفان
إلى آخر الزمان.
فعُلم - مما شرحناه - أن أهل الأديان يرون للخوارق التي تجري على أيدي
رجال الدين فائدة عظيمة وهي تأييد الدين بها في أثنائه، كما قام بها في أول ظهوره؛
ولذلك قال بعض علمائنا: إن كرامات الأولياء شعبة من معجزات الأنبياء فيخشى
على منكر الفرع أن ينكر الأصل ، وقد شرحنا هذا أتم شرح في المقالة الأولى
فلتراجع في المجلد الثاني، ويذكرون لها فائدة أخرى وهي انتفاع الناس بالكرامة فإنها
إما أن تكون جلب منفعة لإنسان، أو دفع مضرة عنه، أو إيقاع سوء بمنكر أو فاسق
ليرتدع غيره.
وعُلِم أن من غوائل الاعتقاد بالخوارق ومضراتها تنفير خواصِّ أهل الدنيا من
الدين وهذه غائلة تتبعها غوائل أشرنا إليها آنفًا وهي تتطرق إلى معجزات الأنبياء
كما تقدم، ولم يكن ذلك من موضوعنا هنا وقد سبق لنا القول في إثبات آيات الأنبياء
فليراجع في الأمالي الدينية من المجلد الرابع. ونزيد الآن أنها كانت في أزمنة
تحقق فيها أن البشر كانوا في أشد الحاجة إليها، وثبت أنهم انتفعوا بها في عقولهم
ونفوسهم وفي أعمالهم ومعايشهم؛ ذلك لأنهم كانوا لم يرتقوا إلى معرفة العقائد
ببراهينها وكانوا ألاعيب في أيدي السحرة والدجالين يتصرفون في عقولهم ونفوسهم
وأموالهم فأنقذهم الأنبياء بإذن الله تعالى وتأييده من ذلك كله، وعلموهم أن أولئك
السحرة قوم مبطلون وأنه ليس لهم من الأمر - الذي يزعمونه - شيء وأن
التصرف فيما وراء الأسباب التي يقدر على الوصول إليها الناس خاص بالله تعالى
وحده وأن تلك الأعمال التي يظهر بادي الرأي أنها عن اقتدار إنما هي {كَيْدُ
سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) ، ولولا أن جاء كل نبي
بمعجزة أو أكثر لما تسنَّى له جذب أولئك القوم الغلف القلوب، الغلاظ الرقاب،
الضعاف الاستعداد.
والدليل على أن المراد من بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تطهير
العقول من لوث الخرافات والأوهام وعتقها من أسر السحرة والدجالين وأن الآيات
الكونية كانت هي الآلات الجاذبة لهم إلى الإيمان بالتوحيد الذي هو المطهر الأكبر
للعقول، وأنه لو أمكن جذبهم بالآيات العلمية الأدبية لما خرق الله على أيديهم شيئًا من
الأمور العادية هو بناء نبوة خاتم النبيين على الآية العلمية الكبرى. والهداية الأدبية
العظمى وهي القرآن الحكيم، المنزل على النبي الأمي اليتيم، الذي علَّم به
الأميين الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ومكَّن به لهم في
الأرض وجعلهم أئمة وارثين، وبلّغ رسالة ربه الأممَ المجاورةَ وأَمرَ بأن يبلغ
الشاهدُ الغائبَ.
ومن أصول دينه أن زمن الوحي والمعجزات قد انتهى به فلن يعود، وأن لله
في الخلق سننًا لن تتغير ولن تتبدل، وأن الأمور تُطلب بأسبابها، وأنه ليس وراء
الأسباب شيء إلا معونة الله تعالى وتوفيقه، فليس لمؤمن أن ييئس إذا تقطَّعت به
الأسباب من خير يتطلبه أو النجاة من سوء يترقَّبه، فثبت بهذا أن الدين القيم الذي
يمكن أن يتفق مع العلم في كل زمان هو هذا الدين الذي يحكم بأن زمن المعجزات
قد مضى ولا يُكَلَّف الآخذ به بأن يعتقد بخارقة على يد أحد الناس بعد الأنبياء - عليهم
الصلاة والسلام -.
أما البحث في آيات الأنبياء كيف وجدت وهل كانت كلها بمحض قدرة الله
تعالى التي قامت بها السماوات والأرض أم كانت لها سنن روحانية خفية عن
الجمهور خصَّهم الله تعالى بها كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور؟
فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارًّا. ومبلغ العلم فيها أنها كما قال
ابن رشد: قد وجدت ونقلت نقلاً متواترًا اعترف به المؤمنون بهم والكافرون الذين
سموها سحرًا لجهلهم بالتفرقة بينها وبين تلك الشعوذات والحيل الباطلة، وفي شرح
المواقف أن (المعجزة كل ما يراد به إثبات النبوة وإن لم يكن من الخوارق) .
فعلم بهذا أن آيات الأنبياء عليهم السلام مصونة من إنكار
المنكرين، واعتراض الواهمين، وأنها قد انتهت فلا يُخشى أن يضر الاعتقاد بها في
الزمن الحاضر وما بعده، كما أنه لم يكن ضارًّا في الماضي، وإنما كان نافعًا.
وبقي القول في كرامات الأولياء ومقتضى ما تقدم أن الاعتقاد بها يضر كما
يضر الاعتقاد بالخوارق عند كهنة الوثنيين وقدّيسي المسيحيين. والمنفعة التي
تدعيها كل الطوائف من الاحتجاج بهذه الخوارق على صحة الدين أو الاستعانة بها
على تمكين اعتقاد المؤمنين، ممنوعة بأنها من المشترك الإلزام كما تقدم في الجزء
الماضي.
فإذا دعوت إنسانًا إلى دينك بحجة أن من قومك من يعمل العجائب وتظهر
على يديه الخوارق يلزمك بأن في قومه أيضًا مَن له مثل ذلك أو ينازعك في
دعوته داعٍ آخر يحتج بمثل هذا الاحتجاج.
ووجه آخر للدفع وهو أن أهل العلم والبحث يرون دعوى الخوارق من الأدلة
على بطلان الدين كما سبق آنفًا، وأما العوام فإنهم أسرى التقليد ولذلك يصدقون ما
يسمعون من قومهم من الأخبار ويكذبون ما تدعيه لقومك، هذا وإن دعوة الإسلام قد
انتشرت في الأرض انتشارًا لم يعرف ما يقاربه في دين آخر، وما ذاك إلا أن
الدعاة إليه ما كانوا يعتمدون في الدعوة إلا على كون ما يدعون إليه صوابًا، عقائده
معقولة، وأحكامه مقبولة، ولم يُعْرَف أنه كان للإسلام دعاة قد استحوذوا على
النفوس بما أدهشوها بالكرامات والخوارق كما هو المنقول عن دعاة النصارى
وغيرهم، نعم، إنه قد نقل عن بعض الأولياء من الكرامات أضعاف ما نقل عن
المسيح وتلامذته وعن جميع الأنبياء والمرسلين؛ ولكن أولئك الأولياء لم يعرف في
التاريخ الصحيح أنهم كانوا دعاة وأن الناس آمنوا بكراماتهم، اللهم إلا بعض الحكايات
التي توجد في بعض كتب المناقب وقلما يوثق بشيء من رواياتها لا سيما إذا
انفردت بها.
ووجه آخر للدفع: وهو أن أمر الخوارق صار عند العامة من جميع الأمم
كالصناعة المحترمة لشدة الحاجة إليها ولا ينظر فيها إلى الدلالة على صحة دين مَن
ظهرت على يديه لا سيما بعد موته؛ ولذلك ترى كثيرًا من عامة النصارى يقصدون
من اشتهر من أولياء المسلمين لقضاء الحاجات ببركاتهم وهم على نصرانيتهم. ولقد
كان عم والدي (السيد الشيخ أحمد رحمه الله تعالى) مشهورًا بالصلاح والبركة
فكان يرد عليه وفود الناس من المسلمين والنصارى يلتمسون بركته بالرُّقَى والتمائم
ويأخذون منه البشارات.
وقد كدت أكون خليفة له رغم أنفي لأمور اتفقت لي في سن الحداثة، من ذلك
أن بعض الأعراب أخذوا مني ورقة فعلقوها على كبش في غنم موبوءة فزعموا
أن الموت أدبر والصحة أقبلت منذ عُلِّقت الورقة على الكبش! ومن ذلك أن
إنسانًا كان يُصْرع ويرى نفرًا من الجن يضربونه فدُعِيت إليه فأبيت مؤكدًا لهم
أنه لا فائدة من زيارتي له ألبتَّة فألحوا وتوسلوا بالوالدة فعدت مريضهم فشفي.
واتفق لي أمثال هذه الوقائع من كثير من المسلمين والنصارى فانتشر خبرها
وكدت أكون مقصودًا بها كعم الوالد الذي كنت أنكر عليه (رحمه الله تعالى) لولا
أن بادرت إلى محاربة هذه الاعتقادات وعدم إجابة القاصدين إلى ما يطلبون.
وكذلك نرى كثيرًا من المسلمات والمسلمين يقصدون بعض الأديار وقبور
القديسين بالزيارة، ويحملون إليها النذور كما يحملونها إلى قبور الأولياء متوسلين
بهؤلاء وأولئك وطالبين منهم قضاء الحاجات! ومن ذلك دير مَار جرجس في
مصر العتيقة، والمير تادرس بكنيسة القبط بحارة الروم، وغير ذلك مما لا يُحصَى.
وكذلك يقصد بعض المسلمين والمسلمات بعض القسيسين الذين يشتهرون في
قومهم بالعجائب وقضاء الحاجات. ولا يكاد يعتقد أحد من هؤلاء وأولئك بصحة
دين غير دينه الذي نشأ عليه. وذلك أن الخوارق صارت عندهم من قبيل الصناعة
والدين صار من قبيل الجنسية.
وقد طال بنا المقال أكثر مما كنا نتوقع فنرجئ إتمام المبحث على الجزء الآتي
وفيه نبين وجود التأويل ومناشئ القال والقيل. وما ينبغي اعتقاده في الكرامات التي
أثبتناها في المقالات الأولى وقد سئلنا عن الثابت من معجزات نبينا غير القرآن
وسنجيب عنها في الجزء الآتي أيضًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفد بني تميم
عن جابر قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم -، فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زَيْن، وإن سبنا شَيْن. فسمعهم
النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله عز وجل فما
تريدون؟ قالوا: نحن ناس من بني تميم جئناك بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك
ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالشعر بُعثنا ولا بالفخار أُمرنا
ولكن هاتوا. فقال الأقرع بن حابس لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك وفضل
قومك. فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء،
فنحن من خير أهل الأرض وأكثرهم عددًا وأكثرهم سلاحًا، فمَن أنكر قولنا فليأتِ
بقول هو أحسن من قولنا وبفَعَال (كرمٍ) هو أفضل من فعالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري -
وكان خطيبه -: (قم فأجبْه) فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به
وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله، دعا المهاجرين من بني نمر أحسن الناس وجوهًا وأعظم الناس أحلامًا
فأجابوه، الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزًّا لدينه، فنحن نقاتل الناس
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمَن قالها منع منا ماله ونفسه ومن أباها قاتلناه وكان
رغمه في الله علينا هينًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
قال الزبرقان بن بدر لرجل منهم: يا فلان قم واذكر أبياتًا تذكر فيها فضلك
وفضل قومك، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
…
نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند المحل كلهم
…
من السديف إذا لم يؤنس الفزع [1]
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد
…
إنَّا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بحسان بن ثابت. فذهب إليه
الرسول فقال: وما يريد مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كنت عنده آنفًا.
قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فتكلم خطيبهم فأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه ، وتكلم شاعرهم فأرسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليك لتجيبه. فقال حسان: قد آن لكم أن تبعثوا إلى هذا العود (والعود
الجمل الكبير) . فلما أن جاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، قم
فأجبه. فقال: يا رسول الله مُره فليُسمعْنِي ما قال. قال: أسمعْه ما قلت. فأسمعه،
فقال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة
…
على رغم باد من معدٍّ وحاضر
بضرب كإيزاع المخاض مشاشه
…
وطعن كأفواه اللقاح الصوادر [2]
وسلْ أُحدًا يوم استقلت شعابه
…
بضرب لنا مثل الليوث الخوادر [3]
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى
…
إذا طاب ورد الموت بين العساكر؟ !
ونضرب هام الدارعين وننتمي إلى حسب من جِذم غسان قاهر [4]
فأحياؤنا من خير مَن وطئ الحصى وأمواتنا من خير أهل المقابر
فلولا حياء الله قلنا تكرُّمًا على الناس بالخيفين هل من منافر؟ [5]
فقام الأقرع بن حابس فقال: إني - والله - يا محمد لقد جئت لأمر ما جاء له
هؤلاء، إني قد قلت شعرًا فاسمعْه. قال: هاتِ. فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا
…
إذا اختلفوا عند اذِّكار المكارم
وأنَّا رؤوس الناس من كل معشر
…
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وأن لنا المرباع في كل غارة
…
تكون بنجد أو بأرض التهايم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسّان فأجبه. فقام وقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم
…
يعود وبالاً بعد ذكر المكارم
هُبلتُم علينا تفخرون وأنتم
…
لنا خَوَلٌ ما بين قِنٍّ وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كنت غنيًّا يا أخا بني دارم أن
نذكر منك ما قد كنت ترى أن الناس قد نسوه منك "، فكان قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشد عليه من قول حسان ثم رجع حسان إلى قوله:
وأفضل ما نلتم من الفضل أنكم
…
ردافتنا من بعد ذكر المكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم
…
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا
…
ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا - ورب البيت - مالت أكفّنا
…
على رأسكم بالمراهفات الصوارم
فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء ما أدري ما هذا الأمر؟ ! تكلم
خطيبنا؛ فكان خطيبهم أرفع صوتًا وأحسن قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع
صوتًا وأحسن قولاً، ثم دنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا
الله وأنك رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يضرك ما كان قبل هذا) ا. هـ رواه الروياني وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر. وقد طعنوا بالمعلى
بن عبد الرحمن بن الحكيم الواسطي راويه، حتى رماه الدارقطني بالكذب، ولا
يستلزم هذا أن يكون الحديث بطوله غير واقع فإن احتمل أن فيه زيادة أدرجها
المعلى فذلك لا يمنع أن يستفاد من الحديث ما فيه من الأدب والعبرة، وإنما يمنع
الاحتجاج به في إثبات الأحكام ورُوي في السير بألفاظ أخرى.
_________
(1)
السديف: شحم السنام.
(2)
قال - في التاج عند قول القاموس -: والتوزيع القسم والتفريق كالإيزاع، وبه يروى شعر حسان رضي الله عنه * بضرب كإيزاع المخاض مشاشه * جعل الإيزاع موضع التوزيع، وهو التفريق، وأراد بالمشاش هنا البول، وقيل: هو بالغين المعجمة وهو بمعناه اهـ.
(3)
الليث الخادر: المقيم في خدره، وهو أشد بأسًا منه خارج العرين لمكان الحماية ومنع الأشبال.
(4)
جذم غسان: أصله وهو بكسر الجيم ويُفتح.
(5)
نافره منافرة: حاكمه في الحسب والنسب، وقيل: فاخره مطلقًا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ورع أبي بكر رضي الله عنه
عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر مملوك يغلّ عليه فأتاه ليلة فتناول منه
لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال:
حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت
لهم فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت فإذا عرس لهم فأعطوني. قال: أفٍّ لك
كدت أن تهلكني. فأدخل بيده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلتْ لا تخرج فقيل له: إن
هذا لا يخرج إلا بالماء. فدعا بعسّ [1] من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها.
فقيل له: يرحمك الله، كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي
لأخرجتها؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من
سُحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. رواه
الحسن بن سفيان وأبو نعيم في الحِلية والدِّينوري في المجالسة بهذا السياق.
وروى أحمد في الزهد من طريق ابن سيرين والبيهقي عن زيد بن أرقم ما يؤيد
الواقعة.
وعن أبي بكر حفص بن عمر قال: جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو ما يعالج
الميت ونفسه في صدره فتمثلت هذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين (وفي رواية: ليس
كما قلت يا بنية) ؛ ولكن: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19) ، إني كنت قد نحلتك حائطًا وإن في نفسي منه شيئًا فرُدِّيه على
الميراث قالت: نعم. فَرَدَّتْهُ، أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل دينارًا ولا
درهمًا ولكن قد أكلنا من جريش طعامهم [2] في بطوننا، ولبِسنا من خشن ثيابهم على
ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا
البعير الناضح وجرد هذه القطيفة [3] فإذا متّ فابعثي بها إلى عمر وأبرئيني منهن.
ففعلت فلما جاء الرسولُ عمرَ بكى حتى جعلت دموعه تسيل على الأرض وجعل
يقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب مَن بعده ، يا غلام، ارفعْهن. فقال عبد الرحمن
بن عوف: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر عبدًا حبشيًّا وبعيرًا ناضحًا وجرد
قطيفة ثمنه خمسة دراهم؟ ! قال: فماذا تأمر؟ قال: تردهن على عياله. قال:
لا والذي بعث محمدًا بالحق لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا يخرج أبو بكر منهن
عند الموت وأردهن أنا على عياله. الموت أقرب من ذلك، رواه ابن سعد.
(المنار)
هكذا تكون خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي السيرة التي كان
يجب على المسلمين أن يُلزموا بها ملوك بني مروان وبني العباس الذين سموا
أنفسهم خلفاء، وكذلك غيرهم من الملوك. والله ما نكل بالإسلام وأوقع المسلمين في
هذا الهوان إلا استبداد أولئك الملوك بالسلطة وجعلهم الرعية وأموالها ملكًا لهم
يتوارثونها ويتصرفون فيها بما شاؤوا، حتى إذا ظهر فيهم عادل يحاول وضع
الحق موضعه - كمعاوية الأصغر وعمر بن عبد العزيز والمأمون - ألزموه بقوة
العصبية على أن يجري في طريقهم أو يخلع من الملك. ولقد تعب عمر بن عبد
العزيز فيما قدر عليه من العدل تعبًا عظيمًا.
نعم، إن هذه السُّنَّة التي سنَّها أبو بكر متعبة لا يقدر عليها إلا مثل عمر
ويظهر أنه كان يعتقد أن ما فرض له من الانتفاع من بيت المال (كما ذكرنا في
السنة الماضية) يجب أن يكون مشروطًا بمدة عمله للمسلمين، وأنه إذا بقي منه بقية
يجب أن ترد إلى بيت المال ولا يجوز لورثته التمتع بها؛ لأنهم لا يعملون للمسلمين
ما كان يعمله.
وإنَّا لنتمنى اليوم أن يأخذ أمراؤنا وملوكنا أضعاف كفايتهم، وأن يورث عنهم ما
بقي عن نفقاتهم بشرط أن يكفوا عن تبذير ما في خزائن الأمة من الأموال والتحف
والإفضاء بها إلى أوليائهم بمجرد شهواتهم وأهوائهم، وقد سبق لنا القول في السنة
الرابعة بأن في خزائن الدولة العلية من الذخائر والجواهر ما يكفي بعضه للقيام
بإنشاء الأساطيل البحرية وترقية القوة الحربية، بحيث تقاوم بها أعظم الدول القوية،
وهذه الذخائر كغيرها تحت تصرف شخص السلطان، ولا يكاد يسمح بشيء منها
إلا لقيصري الروس والألمان.
_________
(1)
العُسّ: بالضم: القدح الكبير.
(2)
الجريش: الدقيق الغليظ، معروف والمِلح لم يطيب.
(3)
القطيفة: دثار مخمل أي: له زغب وجرد قطيفة: يريدون به خلق قطيفة، وأصله شيء جرد أي خَلِق.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ديوان الرافعي
مصطفى أفندي صادق الرافعي يعرف شعره قراء المنار؛ فلا حاجة لتعريفهم
به، وقد جمع منظوماته في ديوان يطبع الآن، وإننا ننشر كلمة له فيه تنويهًا به
وترغيبًا فيه وهي:
كلمة الناظم
أول الشعر اجتماع أسبابه، وإنما يرجع في ذلك إلى طبع صقلته الحكمة،
وفكر جلا صفحة البيان، فما الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب، وسفير
النفس إذا ناجت النفس، ولا خير في لسان غير مبين، ولا في سفير غير حكيم.
ولو كان طيرًا يتغرد لكان الطبع لسانه، والرأس عُشه، والقلب روضته،
ولكان غناؤه ما تسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء، وحسبك بكلام تنصرف إليه
كل جارحة، ويجني من كل شيء حتى لتحسب الشعراء من النحل تأكل من كل
الثمرات، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس.
وكأنما هو بقية من منطق الإنسان اختبأت في زاوية من النفس، فما زالت بها
الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب، وأخرجتها بعد ذلك ألحانًا بغير إيقاع،
ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرغ كلها، ثم تتعاون كأنما تبحث بنور العقل عن
شيء غاب عنها في تفنن الشعراء، حتى لكأن الحُطيئة يعوي في أثر القوافي في
عواء الفصيل في أثر أمه.
وترى المجيد من أهل الغناء إذا رفع عقيرته يتغنى ذهب في التحرك
مذاهب، حتى كأنما ينتزع كل نغمة من موضع في نفسه، فيتألف من ذلك صوت
إذا أجال حلقه فيه وقعت كل قطعة منه في مثل موضعها من كل مَن يسمع فلا يلبث
أن يستفزه طربه، كأنما انجذب قلبه، وتصبو نفسه كأنما أخذ حسّه، لا فرق في
ذلك بين أعجمي وعربي، ومن أجل هذا ترى أحسن الأصوات يغلب على كل طبع،
وإنما الشاعر والمغني في جذب القلوب سواء، وفي سحر النفوس أكْفَاء، إلا أن
هذا يوحى إلى القلب، وذاك ينطق عنه، وأحدهما يفيض عليه، والثاني يأخذ منه،
والويل لكليهما إذا لم يطرب هذا، ولم يعجب ذاك.
والشعر موجود في كل نفس من ذكر وأنثى، فإنك لتسمع الفتاة في خدرها،
والمرأة في كِسر بيتها، والرجل وقد جلس في قومه، والصبي بين إخوته يقصون
عليك أضغاث أحلام، فتجد في أثناء كلامهم من عبق الشعر ما لو نسمته لفغمك،
وحسبك أن تكسر وسادك تتحدث إليهم؛ فتراه طائرًا بين أمثالهم وفي فلتات ألسنتهم،
وهو كأنما قد ضل أعشاشه، ولقد نبغ فيه من نساء هذه الأمة شموس سطعن في
سماء البيان، وطلعن في أفق البلاغة، ولا يزال الناس إلى اليوم يروون للخنساء
وجنوب وعلية وعنان ونزهون وولاّدة وغيرهم وبحسبك قول النواسي: ما قلت
الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى.
ولو كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفَّاة لعددناه ضربًا من قواعد الإعراب،
لا يعرفها إلا مَن تعلمها؛ ولكنه يتنزل من النفس منزلة الكلام، فكل إنسان ينطق
به، ولا يقيمه كل إنسان، وأما ما يعرض له بعد ذلك من الوزن والتقفية، فكما
يعرض للكلام من استقامة التركيب والإعراب، وإنك إنما تمدح الكلام بإعرابه،
ولا تمدح الإعراب بالكلام.
ولم أقرأ أجمع فيه من قول حكيم العصر وإمام الإفتاء في مصر: (لو سألوا
الحقيقة أن تختار لها مكانًا تُشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من
الشعر) ، ولا فيما قالوه في الشعراء أجمع من قول كعب الأحبار: (الشعراء
أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة) .
ولم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا الأبيات يقولها الرجل في الحاجة
تعرض له، كقول دويد بن زيد، حين حضره الموت، وهو من قديم الشعر
العربي:
اليوم يبنى لدويد بيته
…
ولو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدًا كفيته
وإنما قُصِدَت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهناك
رفع امرؤ القيس ذلك اللواء، وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء، وهو لم
يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما اتبعه فيه مَن جاء بعده، فهو أول مَن استوقف على
الطلول ووصف النساء بالظباء والمهى والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعِصي،
وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد
الاستعارة والتشبيه، ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره.
ثم تتابع القارضون من بعده، فمنهم من أسهب فأجاد، ومنه من أكب كما
يكبو الجواد، وبعضهم كان كلامه وحي الملاحظ، وفريق كان مثل سهيل في
النجوم يعارضها، ولا يجري معها، ولقد حدوا في ذلك حتى إن منهم مَن كان يظن
أن لسانه لو وضع على الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه.
ذلك أيام كان للقول غرر في أوجه ومواسم؛ بل أيام كان من قدر الشعراء أن
تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم، حتى لا يعرفون إلا بها كالمرقش والمهلهل والشريد
والممزق والمتلمس والنابغة وغيرهم، ومن قدر الشعراء كانت القبيلة إذا نبغ
فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن
بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وأيام كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر
ينبغ أو فرس تنتج، وكانت البنات ينفقن بعد الكساد إذا شبَّب بهن الشعراء.
ولم يترك العرب شيئًا مما وقعت عليه أعينهم أو وقع إلى آذانهم أو اعتقدوه
في أنفسهم إلا نظموه في سَمْط من الشعر، وادخروه في سفط من البيان؛ حتى إنك
لترى مجموع أشعارهم ديوانًا فيه من عوائدهم وأخلاقهم وآدابهم وأيامهم وما
يستحسنون ويستهجنون حتى من دوابهم، وكان القائل منهم يستمد عفو هاجسه
وربما لفظ الكلمة تحسبها من الوحي وما هي من الوحي ولم يكن يفاضل بينهم إلا
أخلاقهم الغالبة على أنفسهم، فزهير أشعرهم إذا رغب، والنابغة إذا رهب،
والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب، وهلم جرًّا.
ولكل زمن شعر وشعراء ولكل شاعر مرآة من أيامه؛ فقد انفرد امرؤ القيس
بما علمت واختص زهير بالحوليات واشتهر النابغة بالاعتذارات وارتفع الكميت
بالهاشميات وشمخ الحطيئة بأهاجيه، وساق جرير قلائصه وبرز عدي في صفات
المطية وطفيل في الخيل والشماخ في الحمير، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك
شيئًا من شعره فيها فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارًا!
وحسبك من ذي الرمة رئيس المشبهين الإسلاميين أنه كان يقول: (إذا قلت
(كأن) ولم أجد مخلصًا منها، فقطع الله لساني) ! ! وقد فتن الناسُ ابنُ المعتز
بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، ورقت قلوبهم على زهديات أبي العتاهية
وجرت دموعهم لمراثي أبي تمام، وابتهجت أنفسهم بمدائح البحتري،
وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم.
فمن رجع بصره في ذلك وسلك في الشعر ببصيرة المعري، وكانت له أداة
ابن الرومي، وفيه غزل ابن ربيعة وصبابة ابن الأحنف وطبع ابن برد وله اقتدار
مسلم، وأجنحة ديك الجن ورقة ابن الجهم وفخر أبي فراس وحنين ابن زيدون وأنفة
الرضي وخطرات ابن هانئ، وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينه بصر ابن خفاجة
بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطيب، فقد استحق أن يكون شاعر دهره،
وصناجة عصره.
ولا يهولنّك ذلك إذا لم تستطع عد الشعراء الذين انتحلوا هذا الاسم ظلمًا،
وألحقوه بأنفسهم إلحاق الواو بعمرو، فكلهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
وأبرع الشعراء مَن كان خاطره هدفًا لكل نادرة، فربما عرضت للشاعر
أحوال مما لا يعني غيره، فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر؛
فجاءت بها كالمعجزات وهي ليست من الإعجاز في شيء، ولا فضل للشاعر فيها
إلا أنه تنبه لها، ومَن شدَّ يده على هذا جاء بالنادر، من حيث لا يتيسر لغيره، ولا
يقدر هو عليه في كل حين.
وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك، وأن عينك
تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء، وإذا تحمس فزعت
لمساقط رأسك، وإذا وصف لك شيئًا هممت بلمسه، حتى إذا جئته لم تجده شيئًا.
وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نثل كنانته رأيت مَن
يرميه صريعًا، لا أثر فيه لقذيفة ولا مدية، وإنما هي كلمة فتحت عليها عينه، أو
ولجت إلى قلبه من أذنه، فاستقرت في نفسه، وكأنما استقر على جمر.
وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه، وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعًا،
وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعًا، وإذا فخر اشتم من لحيته
رائحة الملك؛ فحسبت إنما حفت به الأملاك والمواكب.
وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه؛ فإن الكلمة إذا
خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.
ولقد رأينا في الناس مَن تكلف الشعر على غير طبع فيه، فكان كالأعمى
يتناول الأشياء ليقرها في مواضعها، وربما وضع الشيء الواحد في موضعين أو
مواضع وهو لا يدري!
وأبصرنا فيهم كذلك مَن يجىء باللفظ المونق والوشي والنضر، فإذا نثرت
أوراقه لم تجد فيها إلا ثمرات فجة.
ورأينا في المطبوعين مَن أثقل شعره بأنواع من المعاني، فكان كالحسناء
تزيدت من الزينة، حتى سمجت فصرفت عنها العيون بما أرادت أن تلفتها به!
على أن أحسن الشعر ما كانت زينته منه وكل ثوب لبِسته الغانية فهو معرضها.
وهو عندي أربعة أبيات: بيت يُستحسن، وبيت يسير، وبيت يندر، وبيت
يجن به جنونًا، وما عدا ذلك فكالشجرة التي نقض ثمرها، وجني زهرها، لا
يرغب فيها إلا محتطب.
أما مذاهبه التي أبانوها من الغزل والنسيب والمدح والهجاء والوصف والرثاء
وغيرها - فهي شعوب منه، وما انتهى المرء من مذهب فيه إلا إلى مذهب، ولا
خرج من طريق إلا إلى طريق {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء:
225) وما دامت الأعمار تتقلب بالناس فالشعر أطوار، آونة تخطر فيه نسمات
الصبا ما بين أفنان الوصف إلى أزهار الغزل، ويتسبسب فيه ماء الشباب من نهر
الحياة إلى مشرعة الأمل، وطورًا تراه جم النشاط تكاد تصقل بمائه السيوف،
وتفرق بحده الصفوف، وحينًا تجده وقد ألبسه المشيب ثوب الاعتبار، وجمَّله
بمسحة من الوقار، وهو في كل ذلك يروي عن الأيام وتروي عنه، وما أكثر فنون
الشعر إذا رويت عن أفانين الأيام.
وأما ميزانه فاعمد إلى ما تريد نقده فرده إلى النثر، فإن استطعت حذف شيء
منه لا ينقص من معناه أو كان في نثره أكمل منه منظومًا؛ فذلك الهذر بعينه أو
نوع منه، ولن يكون الشعر شعرًا حتى تجد الكلمة من مطلعها لمقطعها مفرغة في
قالب واحد من الإجادة، وتلك مقلدات الشعراء، إليك مثلاً قول ابن الرومي -
يصف منهزمًا -:
لا يعرف القرن وجهه ويرى
…
قفاه من فرسخ فيعرفه
فقلِّبْ نظرك بين ألفاظه وأجِلْه في نفسك، ثم ارجع إلى قول ذلك الخارجي،
وقد قال له المنصور: أخبرني أي أصحابي كان أشد إقدامًا في مبارزتك؟ فقال: ما
أعرف وجوههم ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم: يديروا أعرفك، ألست ترى في ذلك
النظم من كمال المعنى وحلاوة الألفاظ ما لا تراه في هذا النثر.
ولقد بقي أن قومًا لم يهتدوا إلى الفرق بين منثور القول ومنظومه، والذي أراه
أن النظم لو مد جناحيه وحلق في جو هذه اللغة ثم ضمهما لما وقع إلا في عش النثر
وعلى أعواده، ولن تجد لمنثور القول بهجة إلا إذا صدح فيه هذا الطائر الغرد، بل
لو كان النثر ملِكًا لكان الشعر تاجه، ولو استضاء لما كان غيره سراجه.
ومازال الشعراء يأتون بجمل منه كأنها قطع الروض إذا تورَّد بها خد الربيع،
وهذا ابن العباس وكتبه، وابن المعتز وفصوله والمعري ورسائله، وانظر إلى قول
بشار وقد مدح المهدي فلم يعطه شيئًا، فقيل له: لم تجد في مدحه، فقال: (والله
لقد مدحته بشعر لو قلت مثله في الدهر لما حتف صرفه على حر، ولكني أكذب في
العمل فأكذب في الأمل) ، وبشار هو ذلك الغواص على المعاني الذي يزعم ابن
الرومي أنه أشعر مَن تقدم وتأخر، وهو القائل في شعره مفتخرًا:
إذا ما غضبنا غضبة مُضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة
…
ذرى منبر صلى علينا وسلما
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُعد، وأوسع من أن تُحد.
ولا تجد الناظم وقد أصبح لا يحسن هذا الطراز إلا إذا كان جافي الطبع، كدر
الحس غير ذكي الفؤاد، لم تجتمع له آلة الشعر وهو إذا كان هناك وجاء من
صنعته بشيء، فإنما هو نظام وليس بشاعر.
أما الفرق بين المترسلين والشعراء، فإن كان كما يقول الصابي: (إن
الشعراء إنما أغراضهم التي يرتمون إليها وصف الديار والآثار، والحنين إلى
الأهواء والأوطار، والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء، وأما
المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على
جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن
فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك، فذلك زمن قد درج
فيه أهله، وبساط طوي بما عليه، ولم يعد أحد يحذر مؤاخاة الشاعر؛ لأنه يمدحه
بثمن ويهجوه مجانًا، وإنما الفرق بين الفريقين أن مسلك الشاعر أوعر ومركبه
أصعب وأسلوبه أدق، وكلامه مع ذلك أوقع في النفس وعلى قدر إجادته يكون
تأثيره، فالمجيد من الشعراء أفضل من غيره في صناعة الكلام، وإنك إنما تزين
النثر بالشعر، ولا تزين الشعر بالنثر.
وفي الحديث الشريف: (إنا قد سمعنا كلام الخطباء وكلام أبي سُلمى، فما
سمعنا مثل كلامه من أحد) ، وقال الشافعي - في كتاب (الأم) -: (الشعر كلام
كالكلام، فحَسَنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، وفضله على سائر الكلام أنه سائر في
الناس يبقى على الزمان، فينظر فيه) .
هذا، وإن من الشعر حكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة تقريظ
(أحسن الكلام)
أورد المصنف - بعد مقدمته تلك - حديث أبي هريرة الصحيح في النهي عن
الكلام وقت خطبة الجمعة وهو (إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصتْ. والإمام
يخطب فقد لغوتَ) ، وقال: إنه قد أخرجه الستة، ونقول: إن ابن ماجه لم يخرجه.
وأورد بعده احتجاج أبي حنيفة بأقوال الصحابة على منع الكلام من وقت
خروج الإمام، وأن صاحبيه خالفاه؛ لأنهما لا يحتجّان برأي الصحابي؛ لأن
المجتهد لا يقلد مجتهدًا، واستنتج من ذلك أن الترقية المتعارفة في زماننا جائزة عند
الصاحبين ما لم تشتمل على تغنٍّ وتلحين مخل، قال:(وإلا فهي مكروهة اتفاقًا) ،
ثم قال: إنه لا وجه للإنكار على الترقية مع هذا الخلاف بين المجتهدين، (وإنما
يجب الإنكار فيما اتفق الكل، وأجمعوا على عدم جوازه) .
ونقول: الظاهر أن مصنف الرسالة هو الذي استنبط هذا الجواز من قواعد
الصاحبين، فإن كان يدعي أن بدعة الترقية كانت في عهدهما، وأنهما نصَّا على
جوازها فليدلنا على النص، وإذا كان هو المستنبط للجواز فلنا في استنباطه
إشكالات:
أحدها: إنه ليس لمثله أن يستنبط ولا أن يرجح، وإنما هو من الطبقة التي لا
يُقبل منها إلا نقل نصوص المذهب كابن عابدين، ولا يدعي أنه فوق طبقة ابن
عابدين الذي صرح بأنه لا يُقبل منه إلا النقل لنصوص المذهب المرجحة، بل قالوا:
إن أبحاث الكمال بن الهمام لا يعمل بها إذا خالفت نصوص المذهب.
ثانيها: إذا فرضنا أنه ادّعى أنه فوق الكمال في الفقه، وأن له أن يستنبط من
نصوص أئمته فلماذا لا يستعمل هذه الموهبة في وظيفة ويزحزح عن المحكمة
بعض قيود الفقهاء الذين ضيقوا مذهب الحنفية؟! وأكثرهم من الذين لم يبلغوا هذه
الدرجة - درجة الاستنباط من أصول المذهب - وإذا كان المؤلف وصل إليها فلا
يجوز له التقيد بأقوال مَن هم دونه من الفقهاء، وأي نعمة على المحاكم الشرعية في
مصر؛ بل على مذهب الحنفية من وجود مجتهد فيه ينقحه، ويسهل وعورته،
فيصلح به حال هذه المحاكم التي يحتج قضاتها بأنهم ممنوعون عن الإصلاح بقيود
الفقهاء التي كُلفوا بالجمود عليها، وعدم التصرف فيها كأنما ألفاظها قرآن تعبّدوا به
تعبدًا.
ثالثها: أن ما يُنقل عن الصحابة عليهم الرضوان إن كان من قبل الرأي فهو
الذي لا يكلف المجتهد باتباعهم فيه إلا إذا وافق دليله دليلهم، وأما إذا كان مما لا
مجال للرأي فيه كالعبادات، فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
والأقرب أن مسألتنا من هذا القسم، فإن لم يسلم بأنه الأقرب فلا أراه ينكر أنه
الأحوط.
رابعها: أن الكلام الذي أجازوه في المسجد في غير وقت الخطبة ليس فيه
شبهة التعبد به، واتخاذه شعارًا لازمًا، كما هو الشأن في الترقية المعروفة في هذه
الأزمنة، فقياس الترقية على الكلام قياس مع الفارق، على أن ما كان من قبيل
الشعائر الدينية والتعبد لا يجوز القياس فيه، كما تقدم في النبذة الماضية؛ لأنه مما
يجب فيه الوقف عند نص الشارع؛ فثبت بهذا أن الترقية بدعة منكرة لا وجه
لجوازها في مذهب من المذاهب.
خامسها: أن الترقية المسؤول عنها مشتملة على التغني والتلحين المخل،
فهي منكرة حتى في رأي المصنف؛ ولكن إيراد قياسه على تقدير خلوها من ذلك
والحكم بأنه لا وجه لإنكارها يوهم من يطلع على الرسالة من غير أهل التدقيق أنه
بذلك القياس يجيز ما عليه الناس، وهو إنما أجاز صورة من صور الترقية غير
موجودة، وخلاصة القول إن هذه الرسالة لا تبيح الترقية المعهودة الآن، وإنما تبيح
ترقية مشروطة بشرط غير موجود بناءً على قياس في غير محله.
ثم تكلم المصنف في حكم قراءة سورة الكهف، فقال: (إنها جائزة اتفاقًا،
ولا وجه للقول بمنعها) ، ثم ذكر أنها عبادة لم يرد النهي عنها بخصوصها، (ولم
يدخل ذلك تحت نهي عام، واستثنى من ذلك القراءة وقت الخطبة، أو عند خروج
الإمام على الخلاف المار) ، ثم صرح بأن قراءتها برفع الصوت في المسجد لا
تمنع، وأورد حديث:(لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)، وقال: إنه على
فرض صحته لا يصلح حجة للمنع وكذلك حديث: (لا ضرر ولا ضرار) قال:
(وعلى فرض وجود مصلٍّ لنحو تحية مسجد وقت قراءتها فلا يحصل من ذلك
تشويش عليه) ، ثم قال:(إنه ورد أحاديث كثيرة بطلب قراءتها) ، وأورد منها
حديثين، ثم نفى أن يكون الاجتماع الخاص في المسجد لسماعها بدعة لدخوله في
عموم الترغيب في الاجتماع للذكر.
نقول: إن في هذا الاستدلال نظرًا ظاهرًا، لا سيما على قواعد الحنفية الذين
يقلدهم المصنف، فإنهم نصوا في كتبهم على أن قراءة (الم.. السجدة)
و (الإنسان) في فجر الجمعة مكروهة، مع أن الأحاديث فيها صحيحة ليست
كأحاديث قراءة سورة الكهف، وعللوا الكراهة بأن فيها هجرًا لباقي القرآن، بل
قالوا باتجاه التحريم في ذلك، فإن قيل: إنهم قالوا بذلك لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لم يلتزم قراءة (الم.. السجدة) و (الإنسان) في فجر الجمعة؛ بل
ورد أنه قرأ غيرهما أيضًا، فقالوا بكراهة المواظبة عليهما، نقول: إن ما ورد
فيهما أصح مما ورد في غيرهما، ويدل على التكرار، ولم يرد حديث صحيح في
قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والناس يواظبون عليها مع الاجتماع والتوقيت،
حتى كأنها من شعائر الإسلام المنصوصة، مع أنها معارَضة بأحاديث منها ما رواه
الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعًا: (مَن قرأ السورة التي يُذكر فيها آل
عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته، حتى تحجب الشمس) ، ومنها ما
رواه ابن مردويه عن كعب مرفوعًا بسند صحيح: (اقرؤوا سورة هود يوم
الجمعة) ، نعم، إنه مرسل، ولكن الحنفية يحتجون بالمرسل، وإن لم يحتج به
مصنف الرسالة في منع الكلام عند خروج الإمام إلى الجمعة، ومنها حديث
الطبراني في الكبير عن أبي أمامة: (مَن قرأ حم.. الدخان في ليلة الجمعة أو يوم
الجمعة بنى الله له بيتًا في الجنة) ، ومنها أحاديث في قراءة سورة في ليلة الجمعة.
وأما الأحاديث التي اختارها مما ورد في قراءة سورة الكهف فهي كما ذكرها
بالنص، قال: منها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعًا: (مَن قرأ
سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عَنان السماء، يضيء
له إلى يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين) . وما رواه غير واحد عن أبي
سعيد الخدري: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه
وبين البيت العتيق) .
أقول: قد طعن في سند كل منهما، بل قال الحافظ ابن حجر في تخريج
أحاديث الأذكار: إن أقوى ما ورد في قراءة سورة الكهف حديث أبي سعيد عند الحاكم
في التفسير والبيهقي في السنن: (مَن قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له
من النور ما بين الجمعتين) ، وقد أورده الحاكم من طريق نعيم بن حماد عن هشيم
عن أبي هاشم وصححه؛ ولكن قال الذهبي في الميزان: بل نعيم بن حماد ذو
مناكير، وقد ورد في قراءة آيات مخصوصة من الكهف بدون ذكر الجمعة روايات
قوية، وبعضها في صحيح مسلم.
وأما تشويش هؤلاء القراء في المساجد على المصلين فهو مما لا شك فيه،
وما فرضه صاحب الرسالة من وجود المصلين وقت قراءة سورة الكهف في المسجد
أمر واقع مشاهَد؛ ولكن هؤلاء الفقهاء يتكلمون بالفروض كأنهم في كون مفروض
غير موجود.
وكون التشويش على المصلين غير جائز مما لا ينبغي أن يشك فيه، والصلاة
هي المقصودة من المساجد بالذات؛ ولذلك صرح الفقهاء بمنع الجهر بالتلاوة في
المسجد إذا كان فيه مَن يصلي. وقد أوَّل المصنف حديث: (لا يجهر بعضكم على
بعض بالقراءة) ورواه (بالقرآن) بأن معناه الظاهر: (لا يذم أحد أحدًا بالقرآن،
أو لا يشتم بعضكم بالقرآن انتصارًا على البعض الآخر) ، ولم يعلم أنه عُلل بإيذاء
المصلي، رواه الخطيب عن جابر.
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم
مناجٍ لربه، فلا يؤذِ بعضكم بعضًا، ولا يرفعْ بعضكم على بعض في القراءة) ؛
ولكن أكثر المشتغلين بالفقه لا يطلعون على كتب السنة إلا قليلاً. ولا يخفى أن
إيذاء من يجهر لمَن يسر بالصلاة أو القراءة أشد من إيذائه لمن يجهر مثله؛ لأن
الجهر يُدفع بالجهر. فسقط جميع استدلال المصنف، وثبت أن قراءة سورة الكهف
في المسجد يوم الجمعة - في الوقت الذي يجتمع الناس فيه للصلاة - بدعة
محظورة، لا سُنة مطلوبة.
(للتقريظ بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
…
...
(كتاب إصابة السهام فؤادَ مَن حاد عن سنة خير الأنام)
أهدانا الشيخ محمود محمد أحمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر نسخة من
كتاب له جديد سمّاه بهذا الاسم، وهو في بيان البدع والمنكرات الفاشية بين أهل
العلم والدين، وفي المساجد وحلقات الدروس وغير ذلك، ولم تتيسر لنا مطالعته،
وإنما أخذناه الآن في يدنا، وقرأنا جملة من فهرسه، فإذا فيها:
(مطلب تحريم القراءة إذا لزم عليها تشويش خلافًا لمن قال بالكراهة) ، فراجعنا
هذا المطلب، وأحببنا أن ننقل منه تأييدًا لما ذكرنا آنفًا في الانتقاد على رسالة الشيخ
بخيت ما يأتي، قال المصنف - في سياق الكلام على المنكرات الفاشية في الجامع
الأزهر ومنها التشويش على المصلين برفع الصوت بالنية - ما نصه:
(قال ابن العماد: لو توسوس المأموم من تكبيرة الإحرام على وجه يشوش
على غيره من المأمومين حرم عليه ذلك، كمن قعد يتكلم بجوار المصلي، وكذا
تحرم عليه القراءة جهرًا على وجه يشوش على المصلي بجواره) . اهـ
وقوله: (من المأمومين) : يعني مثلاً، وكذا قوله:(على المصلي) ، وإلا
فالتشويش حرام، ولو على النائم، وأما قول ابن حجر بكراهة القراءة عند التشويش،
وردّه قول ابن العماد بالحرمة فهو المردود، وكيف لا، وقد أضر بقراءته المتعبدين،
ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) . اهـ
ثم رأيت فيه مبحث قراءة سورة الكهف في المساجد فأحببت نقله أيضًا، وهو:
ومنها - أعني البدع التي اخترعوها في الجامع الأزهر ونحوه - قراءة سورة
الكهف يوم الجمعة بصوت مرتفع وترجيع، والمسجد ممتلئ من الناس ما بين راكع
وساجد وذاكر وقارئ ومتفكّر إلى غير ذلك، ومع ذلك يرتبون للقارئ لها أجرة من
الوقف، وذلك ممنوع من وجوه:
(الأول) كونه مخالفًا لما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمن
أصحابه والسلف، والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع والأحاديث في
ذلك معلومة.
(الثاني) أن فيه تشويشًا على مَن بالمسجد متلبّسًا بعبادة، وقد تقدم غير مرة
أن التشويش ممنوع بالإجماع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ملعون مَن
ضارَّ مؤمنًا) .
(الثالث) فيه صرف المال في غير مصرف شرعي؛ بل هو منكر، وهو
ممنوع، ولا سيّما من مال الوقف.
(الرابع) أن ذلك كان سببًا في اعتقاد العوام أن قراءة السورة المذكورة بهذه
الصفة من معالم الدين، فأدخلوا في الدين ما ليس منه، وتقدّم أنه ممنوع بنص
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الخامس) فيه رفع الأصوات في المسجد لغير ضرورة شرعية، وقد ورد
النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجهر بعضكم على بعض في
القراءة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا عليُّ، لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك
حيث يصلي الناس؛ فإن ذلك يفسد عليهم صلاتهم) .
وقال في الدر المختار للسادة الحنفية: (يحرم رفع الصوت في المسجد بذكر
إلا للمتفقهة) . اهـ.
ولعل موضوعه فيما إذا كان في تشويش، وقال ابن العماد الشافعي: (تحرم
القراءة جهرًا على وجه يشوش على نحو مصلٍّ) اهـ ومر.
ويأتي النص على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون
رفع الصوت بالذكر والقرآن، ولا سيّما في المساجد، فإذًا عند التشويش لا يشك
في التحريم، نعم، ورد النص على فضل قراءة هذه السورة ليلة الجمعة ويومها،
ولكن ليس كما اعتاده هؤلاء الناس، بل يقرأ لنفسه في بيته مطلقًا، أو في المسجد
بدون رفع صوت؛ حذرًا من التشويش، وعبارة (قرة العين) مع شرحها (فتح
المعين) للعلامة زين الدين المليباري الشافعي نصها: (وسُن قراءة سورة الكهف
يوم الجمعة وليلتها لأحاديث فيها، وقراءتها نهارًا أوكد، وأولاها بعد الصبح
مسارعة للخير، وأن يكثر منها ومن سائر القرآن فيهما، ويكره الجهر بقراءة
الكهف وغيرها إن حصل به تأذٍّ لمصلٍّ أو نائم، كما صرّح به النووي في كتبه)
وقال شيخنا في شرح الباب: (ينبغي حرمة الجهر بالقراءة في المسجد، وحمل
كلام النووي بالكراهة على ما إذا خِيفَ التأذي، وعلى كون القراءة في غير المسجد)
اهـ.
قال محشيّه السيد علوي قوله: (.. لأحاديث) فقد صح أن من قرأها
ليلتها أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. اهـ
وفي فتاوى قاضي خان: (رجل يقرأ وبجنبه رجل يكتب الفقه لا يمكنه أن
يستمع كان الإثم على القارئ؛ لأنه قرأ في موضع يشتغل الناس بأعمالهم، ولا
شيء على الكاتب) . اهـ
فما بالك بمَن كان مشغولاً بنحو صلاة، ويشوش القارئ عليه كالحاصل
بقراءة سورة الكهف يوم الجمعة، ونحوه في الفتح عن الخلاصة قال: (وعلى هذا
لو قرأ على السطح والناس نيام يأثم) . اهـ، قال ابن عابدين: (أي لأنه يكون
سببًا لإعراضهم عن استماعه، أو لأنه يؤذيهم بإيقاظهم) ، ثم قال: (يجب على
القارئ احترام القرآن بأن لا يقرأه في الأسواق ومواضع الاشتغال، فإذا قرأ فيها
كان هو المضيع لحرمته، فيكون الإثم عليه دون أهل الاشتغال دفعًا للحرج)
اهـ
(وكذا في مذهب السادة الحنبلية وغيرهم، فتحصل أن قراءة السورة
المذكورة بهذه الكيفية التي اعتادها كثير من الناس ممنوعة بإجماع المسلمين،
وكيف لا وهي من الحدث في الدين لمخالفتها لما كان عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وآله وأصحابه وصالح السلف، ومعلوم أن كل ما خالف ذلك فهو في
شَرَك الوبال والتلف) . اهـ.
هذا ما رأينا نقله الآن من كتاب السبكي من غير بحث فيه، وسنعود إلى
النقل عن هذا الكتاب الذي نودّ أن يطلع عليه جميع المسلمين، ونشكر لمؤلفه
عنايته بخدمة الدين.
***
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الجديدة، وفيه من الفوائد والمباحث العلمية
والتاريخية والسياسية والأدبية ما جمع - على اختصاره - بين الفائدة واللذة، وقد
توسع فيه بالكلام عن مصر والسودان، حتى إنه يُغني عن كتاب (دليل مصر)
لما فيه من بيان أحوال البريد والسكك الحديد
…
وذكر في باب وفيات الأعيان
ملخص تراجم كبار الرجال الذين ماتوا في العام الماضي، ومنهم باي تونس والسيد
الكواكبي، وذكر في باب القضاء أهم المسائل التي يحتاج إلى معرفتها المتخاصمون
في المحاكم المصرية مرتبة على حروف المعجم، وفي باب الإحصاء طلبة العلم
والعلماء بمساجد مصر، البريد المصري، سكك الحديد في العالم، الأمم المدمنة
السكر، نسبة المتعلمين في الأمم، العائلات وضعف التناسل، الجرائد في العالم،
سكان الأرض، السفن، اللغات، الزنا في فرنسا، النساء في الولايات المتحدة،
أعمار النساء، وغير ذلك.
وجملة القول في هذا التقويم: إنه نديم المقيم، ورفيق المسافر، وقاموس العلم،
ومكتبة الحبيب، وهو يُطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر بالمؤيد، ومن
المكاتب الشهيرة، وثمنه خمسة قروش.
***
(النخبة الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية)
كتاب حافل في تقويم البلدان يدخل في أربعة أجزاء:
الجزء الأول: عموميات على الدنيا، الجزء الثاني: مصر والحكومة
السودانية، الجزء الثالث: إفريقيا وأوربا، الجزء الرابع: آسيا وأمريكا
والأقيانوسية والأقاليم القطبية، وفيه 47 خريطة ملونة و66 صورة وشكلاً، ومؤلفه
إسماعيل أفندي علي الموظف بنيابة الاستئناف الأهلية، ومدرس علم تقويم
البلدان بالجامع الأزهر الشريف.
هذا ملخص التعريف بالكتاب، ونقول إن قُراء العربية في أشد الحاجة إلى
كتب مطولة في هذا الفن ومن العجيب أن وُجدت كتب مطولة في أكثر العلوم
العصرية دون هذا العلم الذي يجب أن يكون عامًّا، ومن الفضائح أن يجهله ذكر أو
أنثى، فمن نعم الله تعالى على قراء العربية أن سخر لهم رجلاً من أوسعهم اطلاعًا
وتدقيقًا فيه، فوضع لهم هذا الكتاب، وهو مؤلفه إسماعيل أفندي علي الذي زاول
تعليمه في المدارس الأميرية أعوامًا طويلة، ثم لا يزال يعلّمه في الأزهر إلى
اليوم.
ومن شكر النعم أن يبادورا إلى اقتناء الكتاب والاستفادة منه؛ لأن الشكر إنما
يكون بوضع النعمة في موضعها الذي وجدت لأجله، ومن آيات الجهل الفاضحة أن
يحبس هذا الكتاب الجليل في مكاتب الباعة زمنًا طويلاً، ومن الإساءة أن ينفق هذا
المؤلف زمنًا طويلاً من وقته في التعريب والتأليف ووضع الخرائط بالعربية، ثم
يصرف مبلغًا كبيرًا من ماله في نفقات طبع الكتاب، ولا تكون أقل مكافأة له من
الأمة سرعة الإقبال على كتابه.
أما صفحات الكتاب فهي 640 من الشكل الكبير جدًّا، وثمنه أربعون قرشًا
صحيحًا، ومَن لاحظ الصعوبة في طبع الخرائط الملونة بالألوان الكثيرة، وصعوبة
وضعها يعلم أن ثمن الكتاب رخيص بصرف النظر عن فائدته.
إننا تصفحنا بعض الكتاب بالإجمال، وإنما نثق به لثقتنا بسعة اطلاع مؤلفه
على كتب الإفرنج الحديثة، وله العذر إذا وقع فيه شيء من الخطأ في إحصاء
أهالي بلاد كالبلاد العثمانية، لا يتيسر له الوقوف على كتب حديثة فيها كما يتيسر
له في غيرها، وقد كان أول مَن انتقد ذلك في الكتاب هو أول المعجبين به صديقنا
رفيق بك العظم، قال:(إنه اعتمد على الإحصاءات القديمة) ، كقوله - عن
سكان دمشق - إن عددهم 60 ألفًا، مع أن الإحصاء الجديد الوارد ذكره في سلنامة
الولاية الرسمية هو 143321، وفي الحقيقة إنه يزيد عن هذا العدد أيضًا؛ إذ يقدر
العارفون سكان دمشق بمائة وستين ألفًا، وعلى هذا يقاس ما ذكره عن عدد نفوس
بقية البلدان الكبيرة في الزيادة والنقصان كحلب وبيروت وحماة وغيرها، ولو
اعتمد في النقل على سلنامات الدولة الرسمية لكانت خدمته العظيمة أتم، ووضعه
الجميل أكمل، وانتقد عليه أيضًا عدم تعيينه درجات العرض للبلدان الكبيرة
بالتفصيل، أو الأقطار بالإجمال، ولو فعل لأغنى المطالع عن مراجعة الخرائط
الموجودة في الكتاب لمعرفة عرض كل بلد أو قطر، كما فعل غيره في كتب أصغر
من كتابه، وانتقد أيضًا اختصار الكلام في المملكة العثمانية، وهو يرجو - كما
نرجو - أن يضع لها كتابًا مخصوصًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدولة العلية ومكدونية
نجم من عدة أشهر ناجم من الثورة في بلاد مكدونية فشخصت له أوربا
وأسرعت روسيا والنمسا إلى الدولة العلية بالنصيحة والحث على تلافي الأمر
والمسارعة إلى إصلاح البلاد ووضعتا للإصلاح (لائحة) عرَّفتا بها سائر الدول ثم
قدمتاها إلى الدولة ملحّتين في المبادرة إلى قبولها فلم تلبث الدولة أن قبلتها على
عِلَاّتها خلافًا لعادتها في التريث والليِّ.
ومن موضوع اللائحة وجوب استعمال الأوربيين في الإصلاح؛ لأنه لا ثقة
لأوربا برجال الدولة وقد ساء هذا معشر الألبانيين ولم يقع موقعه من نفوس معاشر
المسيحيين؛ لأن نفوسهم طمعت بالاستقلال، فكل ما دونه يعد عندهم من ألاعيب
الأطفال.
كان في أثر ذلك أو معه حركة في البلغار وهزة في (السرب) ، وطاف في
الأذهان أن هذه الفتنة ستعم بلاد البلقان، وظهرت من بعض الدول العظام أمارات
الاتفاق مع روسيا والنمسا، ومن بعضهن علائم السكوت وعدم المعارضة،
واختلفت الظنون في نية روسيا فجنح بعضٌ إلى ترجيح كفة السلم من جانبها؛ بدليل
نصائحها المتتابعة للبلغاريين وغيرهم من شعوب البلقان بأن يخلدوا إلى السكينة
ويتفيّؤوا ظلال الهدوء والمسالمة، ومال بعض إلى ترجيح كفة الحرب بدليل التقاليد
القديمة التي وضعها بطرس الأكبر في وصيته (التي نشرناها في الجزء الماضي)
وما يصدق ذلك من أخبار استعدادها الحربي في هذه الأيام.
الحق أن لكل من الرأيين وجهًا وجيهًا، وأن سياسة روسيا أصبحت دقيقة
المسالك مشتبهة الأعلام فبينا ترى قيصرها ينادي بوجوب تعميم الأمن والسلام،
ومد ظلاله على رؤوس جميع الأنام، تراه يستعد للكفاح استعدادًا صوريًّا ومعنويًّا.
فأما الصوري فبإنشاء الأساطيل وتكثير الأسلحة وإتقان العلوم العسكرية، وأما
المعنوي: فبمحالفة بعض الدول القوية ومسالمة بعض. ولقد كان الإنكليز عون الدولة
العثمانية على روسيا فحال لوْن السياسة الجامعة بينهما وتغير شكلها وتبدل السلطان
عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ شديد الجشع، قوي الطمع إذا رأى
روسيا وقد جدَّ جدها يكتفي منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا
يطوف في خاطر عاقل أنه يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان إذا نزل مع
الروس في ميدان الطعان!
كانت قلوب المسلمين في العيدين محوّمة فوق بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج،
كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من
هم مراكش، همّ الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله تعالى) ولا خوف عليها إلا من
روسيا. فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم بنيران الثورة اضطرامًا ولا
تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة تنتظر حينئذ استقلال مكدونية
أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب الجديد في سير أوربا بالمسألة
الشرقية مذهب التفكيك وتحليل العناصر، وهذا المذهب خير لدول أوربا وأسهل
طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتوح والتغلب؛ لأن هذا يعوزه الاتفاق على ما
يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة، وسفك دماء عزيزة هو خير
للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر ينحل من عناصر بلادهم
وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم كيف يحفظ الباقي فإذا لم
يتعلموا بتكرار النُّذر وأنواع العبر، وكانوا يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا
يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، فهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّان يبعثون!
مسألة مكدونية مسألة عشواء والحكم فيها غامض لما تقدم؛ ولأن النصارى فيها
وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوربا وما يدانيها كبلاد الأرمن قد
توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوربا نصيرة لهم وأن الذريعة الوحيدة
لإثارة نعرتها عليهم وتصدِّيها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي تضطر
الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم ولعل أوربا في مجموعها وروسيا
حاضنة جراثيم فكر الاستقلال في البلقان في خاصتها تعجز عن ضبط حركة هذه
الثورة التي تولدت وتأصلت ورسخت واندفعت عن بصيرة أو غير بصيرة.
هذا ما يُخشى على تقدير إرادة روسيا إطفاء الثورة والاكتفاء بما طلبت من
الإصلاح فكيف إذا كانت تريد شيئًا آخر؟ !
وماذا يجب على الدولة أن تفعله في هذه الفتنة وماذا يجب عليها أن تفعله في
نفسها لأجل مستقبلها؟
أما الأول: فالظاهر أن الذي تعمله الآن من إجابة طلب روسيا والنمسا إلى
الإصلاح الذي طلبتاه بدون تحوير ولا تأخير ومن اختيار الموظفين الأوربيين
للإصلاح من الأمم الأوربية الضعيفة ومن الاستعداد للكفاح إذا طرأ ما هو أعظم من
ذلك هو الواجب الذي لا يمكن غيره.
وأما الثاني: فإن الجواب عنه لا يفهم ويقبل إلا بعد العلم بأمور كثيرة أهمها
(مالية الدولة) وإن لدينا رسالة مطولة أو كتابًا صغيرًا في ذلك لأحد الكُتاب
العثمانيين مستقًى من الينابيع الرسمية وإننا ننشره تِبَاعًا في أجزاء المنار ليصح
للقارئين معرفة الدولة وما يجب أن تعمله لتنجو من الخطر.
وإن فهم حقيقة الدولة مما لا بد منه للمشتغلين بمسألة الإصلاح الإسلامي لما
لهذه الدولة من المكانة في الوجود ومن المكانة في نفوس المسلمين في جميع أقطار
الأرض. ولهذا أخذنا على أنفسنا أن نكتب في كل جزء من منار هذه السنة شيئًا
عن الدولة العلية من بيان حقيقة وجودية ورأي معقول نرجو الانتفاع به. ونتجنب
في ذلك المدح والذم للأشخاص المعينين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سلطان زنجبار والأمير العربي
نحمد الله تعالى أن حفظ البلاد المقدسة في هذه السنة من الوباء والأمراض، وقد
كتب إلينا من مكة المكرمة بأن صديقنا الأمير العربي الكريم محمد باشا عبد الوهاب
شيخ دارين قد كان له من الحفاوة والاحترام عن سيادة الشريف ودولة والي الحجاز ما
يليق بمقامه، وأنه قد وُفِّقَ إلى توزيع ألف وخمسمائة جنيه على علماء الحرم الشريف
وخدمته وغمر بصدقاته الفقراء والمعوزين، وأنه تبرع بمئة جنيه وعشرة جنيهات
إعانة لسكة حديد الحجاز وأن سلطان زنجبار تبرع لهذه السكة أيضًا بمئة جنيه وخمسة
جنيهات ووزع على المجاورين والمستخدمين في الحرم الشريف ست مئة ريال
(بوم) .
(تنبيه)
كل مَن قبل هذا الجزء من المنار فهو مشترك إلى آخر السنة ويجب عليه دفع
القيمة المعينة على غلاف المجلة. ونستثني عمال البريد خاصة، فنقبل منهم نصف
القيمة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة التاسعة
فيما ينبغي عليه التعويل
علم مما تقدم أن الأمور الغريبة التي تسمى خوارق عادات وعجائب منقولة
عن جميع الأمم فهي واقعة حتمًا، ومنقولة بالتواتر اللفظي وبالتواتر المعنوي، وإن
ادعاها كثيرون من الناس كذبًا وتعمَّلوا للاشتهار بها تعملاً. ثم إن هذه الأمور على
ضربين: ضرب عرف عن أهله أنه صناعي يتوصل إليه بالعلم والعمل كالسحر
والشعوذة، فهو من الخوارق بالنسبة إلى الذين لا يعرفون طريقه ولم يقفوا على عِلَله
قال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة: 102) وقال عز وجل: {يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) أي: والحقيقة خلاف ذلك التخيل وقال:
{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ} (الأعراف: 116) وقال - حكاية عن
فرعون -: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (طه: 71) وضرْبٌ عُرِفَ عن
أهله أنه ليس له طريق صناعي يوصل إليه العلم، وإنما هو وراء الأسباب والثابت
القطعي من هذا القسم آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدم الكلام عليها في
المقالة الأولى وفي الأمالي الدينية ومنه ما يدعيه أو يُدَّعى لكبار رجال الدين من أهل
الملل والكلام فيه، والمقصود منه بالذات ما عندنا معشر المسلمين وقد ذكرنا حجج
مثبتي الكرامات وحجج منكريها وأوردنا ما رواه المثبتون من الكرامات المأثورة
عن الصحابة والتابعين، وبينا ما صح منها وما لم يصح فليراجع كله في المجلد الثاني
من المنار.
وإننا نختم القول في مبحث الكرامات بمسائل أكثرها مستفاد من المقالات
السابقة، وهذه المسائل هي خلاصة رأينا في الموضوع فمن أنكر علينا منها شيئًا
فليكتب إلينا مدليًا بحجته، ونعده بأننا ننشر ما يكتب بمعناه أو بلفظه إذا كان صحيحًا
ومختصرًا وغير خارج عن محل النزاع استطرادًا إلى مسائل أخرى. فإن كانت
الحجة ناهضة سلمنا وإن كانت داحضة بيَّنَّا. ولا ينبغي لأحد أن يرد علينا في
الموضوع إلا بعد الاطلاع على المقالات التسع؛ لئلا يبحث في شيء سبق بيانه
فيُهمَل كلامه:
(المسألة الأولى) إن الأصل في كل ما يحدث في الكون أن يكون له سبب
وأن يجري على سنة من سنن الله تعالى في الخلق، وهذه الأسباب مطردة متى تمت
شروطها (كما قال الغزالي) وتلك السنن ثابتة لا تبدل ولا تحول كما علم بالمشاهدة
والاختبار وبنص القرآن، فهي مسألة اتفق فيها الحس والعقل مع نصوص الشرع،
فهي قطعية.
(المسألة الثانية) إن من قضايا العقول - التي نصها علماء الأصول - أن
الظن الراجح لا يعارض العلم اليقين وأيد هذا القرآن أيضًا بمثل قوله تعالى: {إِن
يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وقوله عز وجل:
{وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) وغير ذلك من الآيات
الواردة في إبطال عقائد أهل الزيغ والجحود.
(المسألة الثالثة) أجمع العلماء من الأصوليين والمحدثين على أن روايات
الآحاد العدول الثقات كالصحابة وأئمة التابعين المعروفين ومن عُرف بالصدق
وحسن السيرة مثلهم لا يفيد أكثر من الظن، وأجمعوا على أنه إذا روي عنهم ما
يخالف المعقول القطعي والمنقول القطعي كنص القرآن فإنه لا يعتد بالرواية ولا
يعول عليها إلا أن يوفق بينها وبين القطعي منقولاً كان أو معقولاً فقط.
(المسألة الرابعة) إن العجائب والخوارق قد نقلت عن جميع الأمم فليس من
الصواب التفاضل بينها وادعاء أن بعضها على حق وبعضها على باطل بسبب ذلك
وإنما يجب تمحيص النقول وتحريرها فإن الناس مولعون أشد الولع بالغرائب،
وأكثر ما يتحدثون به منها كاذب.
(المسألة الخامسة) كما يجب تمحيص النقل والرواية يجب تمحيص المرويّ
المنقول من الغرائب؛ ليعلم أنه واقع حقيقة ولم يكن تخييلاً للأنظار أو خداعًا
للأبصار أو الأفكار.
(المسألة السادسة) قد كشف العلم أسبابًا لأمور كثيرة كانت تسمى خوارق
وكرامات، فإذا علم بعد تمحيص الرواية والمروي أن شيئًا من هذه الغرائب وقع لا
محالة، فينبغي الرجوع لالتماس الأسباب من مظانها في العلم الطبيعي وعلم النفس
فإن لم يظهر له سبب يحمل عليه، ولا وجه يمكن أن يؤوَّل إليه فهو الذي يصح
أن يسمى خارقة أو أعجوبة والنظر فيه من وجهين: حال مَن ظهر على يده، وإمكان
قياسه على غيره.
(المسألة السابعة) لثبوت الخارقة - على ما ذُكر - طريقان: الحسّ السليم
والتواتر الصحيح وكلاهما عسر جدًّا؛ لأن الحواس تُخدع حتى تكذب صاحبها فيما
ترى وتسمع، وأمر التواتر أبعد في العسر وصعوبة التحقق فإن من شرطه أن
ينتهي إلى حس محقق باليقين، وقد علمت أن الحس يخدع في هذا المقام.
ومنها أن يكون الناقلون لذلك الخبر المحسوس جمعًا يستحيل في العقل السليم
تواطؤهم على الكذب وانخداعهم بما أدركوه بحسهم وأن ينقل عنهم مثلهم في كل
طبقة من الطبقات وإنك ترى أكثر الناس يسمون الأمور المشهورة بينهم متواترة، لا
سيما إذا كثر تحدث الناس بها فإذا استقريت حلقات سلاسل الروايات وجدتها كلها
معلقة في آخرها بحلقة واحدة أو حلقتين أو ثلاث مثلاً.
وما انتهى إلى واحد أو آحاد فهو خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، وربما
رجحتَ الكذب في أكثر الغرائب المشهورة التي يسمونها متواترة.
الحق أن الإنسان متهم طبعًا بإذاعة كل غريب لا سيما إذا صادف هوى في
النفس أو طابق التقاليد والاعتقادات المسلّمة. فالحمد لله الذي جعل آية نبينا بينة
قائمة على وجه الدهر محفوظة من المعارضة والنقض مادامت السموات والأرض.
(المسألة الثامنة) إنك إذا بحثت في حال الذين يدعون الخوارق تجدهم
طلاب مال، وطلاب جاه وأنهم يقصدون بما يأتون استرهاب الناس بما يوهمونهم من
قدرتهم على إيذائهم متى شاءوا أو تعليق آمالهم بهم وإيهامهم أن بأيديهم مقاليد الرزق
ومفاتح الخير، أو الجمع بين الأمرين حتى إنهم جعلوا إرادة الله تابعة لإرادتهم! كما
قالوا في الكلمة المأثورة عن الربانيين منهم وهي:
(إن لله عبادْ، إذا أرادوا أرادْ) ! (هكذا يقولونها بالوقف على العباد على لغة
ربيعة) .
وينقلون عنهم من مثل هذه الجرأة على الله تعالى كلمات كبيرة وأشعارًا
وأغانٍ تختلب قلوب العامة. وفي كتب العقائد التي تُقرأ في الأزهر وغيره من
المدارس الدينية (كحواشي الباجوري على الجوهرة والسنوسية) أن خوارق
العادات تظهر على أيدي جميع أصناف الناس حتى الكفار والفساق، وتسمى إذا
صدرت من هؤلاء على نحو ما يحبون (استدراجًا) ؛ لأنها تغرهم بما هم فيه من
الباطل فيسترسلون فيه حتى لا مطمع في هدايتهم، وإذا ظهرت على يد مستور الحال
تسمى (معونة) . ويخصون اسم الكرامة بالخارقة التي تكون للمتمسك بالشريعة
اعتقادًا وتخلقًا وعملاً في الظاهر والباطن.
وإننا نقول لمن يأخذون أقوال هؤلاء العلماء بالتسليم: إذا كانت الخوارق تقع
على أيدي جميع طبقات الناس فلا يجوز الاستدلال بها على أن من تظهر على يديه
محق في اعتقاده أو مرضي عند ربه، وإنما يعرف ولي الله تعالى والصالح من عباده
بأمر واحد وهو مطابقة اعتقاده للحق المؤيد بالبراهين الصحيحة، وموافقته في أخلاقه
وسجاياه وأعماله السرية والجهرية لما أرشد إليه الدين والعقل من الفضائل والمنافع
العامة والخاصة بقدر الاستطاعة.
ونحن نرى العامة يبيحون لمن يجري على يديه شيء من الغرائب جميع
المنكرات، فهم يحكّمون خوارقه في حاله من الاعتقاد والعمل، والعلماء يحكّمون
حاله في خوارقه، فقد تناقض اعتقاد العامة مع اعتقاد العلماء ولا نرى أحدًا منهم
ينكر على الآخر ولا يجذبه إليه؛ لأن حرية الإسلام قد انقلبت إلى فوضى بعد
ذهاب منصب الخلافة وتولية الجاهلين بالدين أمور المسلمين!
(المسألة التاسعة) مَن رأى بعينه خارقة للعادة أو نُقلت إليه بطريقة التواتر
الصحيح وعرف أنها لم تكن خداعًا ولا تخييلاً وعلم أن من ظهرت على يديه ليس
من أهل التلبيس والشعوذة، ولا من طلاب المال والجاه واستمالة القلوب إلى الاعتقاد
به، وصعب عليه أن يحملها على وجه من وجوه التأويل الآتية - فإن له أن يقيسها
على ما عرف تأويله بأن يقول: إن كثيرًا من الغرائب وخوارق العادات المألوفة قد
كان يظن أنها خارجة عن نظام الخليقة وسنن الكون ومنتثرة من سمط الأسباب التي
تنتظم بها المسببات ثم ظهر أنها لم تكن شاذة عن تلك السنن الإلهية، ولا نادَّة من
دائرة الأسباب الكونية، وهذا الذي أراه الآن هو مثل تلك في ذاك الزمان، فيجوز
أن يظهر له مثل ما ظهر لها من السبب، وتزول الغرابة ويبطل العجب، وهذا
الرأي هو الذي عليه جميع العقلاء والحكماء في هذا العصر وإنهم ليتوقعون ظهور
علل جميع الغرائب التي حدثت في العالم حتى معجزات الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام.
(المسألة العاشرة) إذا فرضنا أن العلم أظهر لما يُؤثَر من المعجزات عللاً
روحانية وأسبابًا خفية فلا يَهِمَنَّ واهِمٌ أن ذلك قدح في النبوة، أو ظهور لبطلانها. كلا، إنه إن تحقق فلا يبعد أن يكون تحققه مظهرًا لحقية النبوة؛ كأن يتبين أن
الأرواح العالية تتصل بالعالم الأعلى وتستمد من عالمه الذي يسمى الملائكة قوة العلم
والهداية وقوة الأعمال الغريبة كإحياء الموتى وقلب العصا حية. فإن لم يتبين به
صدقها فلا وجه لظهور عدمه؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يدَّعون أن
الآيات التي يؤيدهم الله تعالى بها خارجة من سننه الظاهرة والخفية، وما كانوا
يدعون أن لهم سلطانًا في ملك الله تعالى يتصرفون فيه بمشيئتهم وإرادتهم متى
شاءوا وكيفما شاءوا وإنما كانوا يتبرؤون من حولهم وقوتهم ويسندون ما يؤيدهم الله
سبحانه به إليه، ويقولون: إنه واقع بإذنه، وقد كان اعتمادهم في دعوتهم
إلى الله على البرهان وكانوا لا يُعطون الآيات إلا بعد معاندة ومجاحدة من قومهم
وإلحاح في طلب آية لا يعرف مثلها عن البشر في أفعالهم السببية، وكان الله تعالى
يقيم عليهم الحجة التي يطلبونها، ولم تكن هي العمدة في إثبات الدعوة إلى الله وبيان
وحدانيته وقدرته وعلمه ووحيه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي
أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ
رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9 - 11) .
فهذه هي سنة الله في الأنبياء والأمم، يدعو النبي قومه إلى الله بالبينة وهي
كل ما يتبين به الحق من برهان عقلي ودليل إقناعي فيطلبون منه آية كونية فيتبرأ
من حوله وقوته إلى حول الله وقوته فيعطيه آية يخوفهم بها فيخضع له المستعد
لقبول ذلك ويعاند الآخرون فتحق عليهم كلمة العذاب قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ
بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59) فإذا فرضنا أن العلم أظهر سببًا معقولاً لآيات
موسى عليه السلام فهل ينافي ذلك أنها كانت تخويفًا لفرعون وقومه، وجاذبة لبني
إسرائيل إلى طاعة موسى بالإرهاب اللائق بأمثالهم في بلادتهم وجفوتهم؟
نعم، إن ما يتوقع كشفه بالعلم سيكون القاضي على بقايا دين لا يُحْتَج على
صحته إلا بالعجائب وليس لأصحابه برهان على عقائدهم، ولا سند متواتر في
صحة كتابهم، أولئك الذين ينعقون في كل بلاد إسلامية: إن القرآن لم يُثبت لمحمد
(عليه أفضل الصلاة والسلام) العجائب والخوارق فهو ليس بنبي ودعوته ليست
صحيحة، فالعلم الإلهي والشرائع الدينية والمدنية والحربية والسياسية وتكوين الأمم
وتربيتها من رجل أمي تربى يتيمًا في جاهلية جهلاء وأمة أمية لا يرونه تأييدًا إلهيًا،
وبرهانًا على صدقه قطعيًا، وإنما البرهان عندهم تلك الحكايات التي ينقلونها في
عجائب مقدسيهم وينقل الوثنيون عن كهنتهم أعظم منها.
(المسألة الحادية عشرة) يؤيد ما ذكرناه في معني آيات الأنبياء، وكونها لم
تكن براهين لإثبات الدين ما جاء في الباب الثالث عشر من تثنية الاشتراع آخر
أسفار التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهو:
(1)
إذا قام في وسطك نبي أو حالم حُلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة.
(2)
ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً لنذهب وراء آلهة
أخرى لم تعرفها ونعبدها.
(3)
فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم؛ لأن الرب إلهكم يمتحنكم
لكي يعلم هل تحبون الرب من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم.
وما جاء في الباب السابع من إنجيل متى وهو: (كثيرون سيقولون لي في
ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك
صنعنا قوات كثيرة (23) فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا
فاعلي الإثم) .
وفي الباب (24) منه: (لأنه سيقوم مُسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات
عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا) .
فعلم من هذا أن اليهود والنصارى يجب أن يوافقوا علماء الكلام من المسلمين
على أن الخوارق الكونية ليست دلائل برهانية قطعية على أصول الدين وعقائده
وصدق دعاته كما أوضحنا ذلك في الدرسين 29 و30 من الأمالي الدينية (راجع
ص371 و688، م4) وقد اختلف المتكلمون في دلالة المعجزة على النبوة هل هي
عادية أو عقلية أو وضعية؟ وقد رجح الأخير بناءً على أنها بمعنى تصديق الله لهم
بالقول.
(المسألة الثانية عشرة) سبق في المقالات الأولى أن أصحابنا فرقوا بين
معجزة النبي وكرامة الولي بأن الأولى لا بد أن تكون مقرونة بدعوى النبوة، وطلب
المعارضة الذي يسمونه التحدي. والثانية لا تكون كذلك وبأن الأولى يجب إظهارها
لإقامة الحجة، والثانية يجب إخفاؤها خوف الفتنة، وزاد بعضهم كالقشيري من
أئمة الصوفية والسبكي في الطبقات الكبرى أن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة
كإحياء الموتى، وإنما تكون فيما دون ذلك كشفاء مرض ومكاشفة خلافًا للقول
المشهور (ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي) ! ، ولقائل أن
يقول جمعًا بين القولين: إذا جاز ذلك في تصور العقل فإنه ما وقع ولا يقع بالفعل.
(المسألة الثالثة عشرة) قال الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية
إن خارق العادة لا يتكرر فإن كل ما يتكرر يكون معتادًا سواء عرف سببه أو لم
يعرف. وهذا القول معقول وهو يقضي القضاء المبرم على تلك الزحوف والفيالق
من حكايات الكرامات التي يحارب بها العامة عقلاء الناس الذين لا يستخذون
ويخنعون لأولئك الجهال الذين يدعون الولاية بحجة أنهم في كل يوم يخبرون الناس
بالمغيبات ويبرؤون المرضى من الأسقام ببركاتهم ونحو ذلك. ويسمون هذا على
تكراره كل يوم كرامة وما هو بكرامة وإنما بعضه كذب واختلاق وبعضه واقع
بالأسباب التي سننبه عليها؛ ولكنه أسند إلى غيرها أو ادَّعى فيه الكرامة.
…
...
…
... (للمسائل بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوى صلب المسيح
(1)
جاء في الجزء الأخير من الجريدة البروتستنتية نبذتان في الطعن بالإسلام:
إحداهما محاورة في صلب المسيح، والثانية طعن في القرآن وقيح، وقد كانت هذه
المجلة تطعن في الإسلام وكتابه ونبيه مع شيء من الأدب ونراها في هذه المدة
هتكت ستار الأدب وتجاوزت حدوده، مع أننا كنا نرجو أن تزيد في تحريه بعدما
أسند تحريرها إلى نقولا أفندي روفائيل الذي نعرفه دمثًا لطيف الشمائل، ولكنها نشوة
الحرية في مصر، والشعور بضعف نفوس المسلمين في هذا القطر فَعَلا في
نفوس هؤلاء الدعاة إلى النصرانية ما لا تفعل الخمر، فصار الواحد منهم إذا نسب
الافتراء إلى سيد الأنبياء بالتصريح وكتبه ونشره يرى نفسه كأنه قد جلس على
كرسي ميناس الأول أو رعمسيس الأكبر.
ونحن نقول: إن الحرية تنفع الحق ولا تضره، وإن سوء الأدب يضر صاحبه
ولا ينفعه وإن الشعب الضعيف قد يقوى بشدة الضغط المعنوي عليه فيتنبه إلى
التمسك بحقه والدفاع دونه وعند ذلك تزهق الأباطيل. وإننا لم نطلع على ما ذكر
إلا بعد تهيئة أكثر مواد هذا الجزء من المنار فاختصرنا مقالة الخوارق والكرامات
وكتبنا بدل تتمتها هذه الكلمات، ونرجئ تفنيد أقوالهم في القرآن إلى الجزء الثالث
من المنار، ونخص كُليماتنا هذه في مغامز ذلك الحوار.
ذكرت المجلة أن الحوار كان في مكتبة البروتستان في السويس بين محررها
وبعض المسلمين، وأن المسلم احتج بالقرآن على نفي الصلب فأجابه المحرر:
هبْ أنك كنت معاصرًا للمسيح وممن يعرفونه شخصيًّا وحضرت في مشهد
الصلب خارج أورشليم فماذا كنت ترى؟ قال: كنت أرى - ولا شك - المسيح
مصلوبًا كما رآه الجمهور، قلت: وماذا يكون إيمانك ويقينك حينئذ؟ قال: كنت
أوقن وأؤمن وأشهد أنه صُلب حقًّا كما أبصرت بعيني وأبصر الجمهور في رائعة النهار.
قلت: افرض أنك فيما أنت مؤكد بهذا التأكيد عن صلب المسيح وإذا برجل
أمي من العرب - أولئك القوم المشركين - يقول لك: أنت المؤمن وقد مضى على
حادثة الصلب نحو سبعمائة سنة عبارة القرآن هذه: (وما صلبوه وما قتلوه)(كذا)
فهل تستطيع أن تكذب عيانك وعيان الجمهور وتصدق خبر هذا الأمي؟ وهل الخبر
أصدق من العيان؟ قال: إذا كنت أعلم أن هذا الأمي المكذب للصلب رسول الله
فأصدق خبره وأكذب عياني وعيان الجمهور؛ لأن الله أعلم منا بحقائق الأمور.
قلت: وهل علمت أنه رسول الله وأن هذه العبارة من وحي الرحمن لا من
تلقين الشيطان؟ قال: نعم علمت ذلك بدون شك، أجبت: كيف علمته؟ قال: إن
محمدًا صلى الله عليه وسلم لما بعث رسولاً أيده الله بالمعجزات الباهرة.
قلت: ليس لمحمد معجزة بدليل قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن
كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولكن هب أن له معجزة وأنت رأيتها فبأي
حق تُرجح حكم حسك في رؤية معجزات محمد على حكمه في رؤية صلب المسيح
أَوَ لست تعلم أنه إذا أرى اللهُ الناسَ شيئًا على خلاف حقيقته ثم كذَّب ما أراهم إياه لا
يعود الناس يصدقونه إذا أراهم شيئًا على حقيقته! تعالى الله عن ذلك التلاعب، وهل
هذا هو الدليل القرآني الذي تحاول أن تنفي به حقيقة شهدت لها الكتب المقدسة من
قبل ومن بعد، وأثبتها التاريخ والآثار وعاينها جمهور عظيم من كل أمة تحت
السماء؟ !
وعند سماعه حجتي لم يكن عنده رد عليها وأمسك عن الكلام وخرج هو
وأصحابه!
وعدا ذلك اعلم - أيها القارئ العزيز - أن عبارة القرآن: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) منقولة عن بقايا فرقة صغيرة من النصارى قد مرقت عن الحق
يقال لها (الدوسيتيين) الذين اعتقدوا بلاهوت المسيح تمامًا كما تعتقد النصارى
اليوم ومن البدء؛ ولكنهم أنكروا ناسوته وزعموا أن الجسد الذي ظهر به المسيح إنما
كان صورة فقط لا حقيقة له أشبه بالظل والخيال وأوَّلوا الآيات الإنجيلية التي تثبت
كون جسده كسائر الأجساد ما عدا الخطيَّة فقالوا عن نموه في القامة: ما كان ينمو
ولكن شبه لهم وعن تناوله الطعام قالوا: ما كان يأكل ولا يشرب؛ ولكن شبه لهم،
وعن نومه وسائر أعماله الجسدية المشار إليها في الإنجيل قالوا: لم تكن حقيقية بل
شبهت لهم وعن صلبه وموته قالوا: (ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم) فمحمد
إذ سمع مقالتهم بصلب المسيح صورة دون الحقيقة ولم يكن يعلم المبدأ الذي ترتب
عليه هذا القول بادر بالمصادقة عليه رغبة في تنزيه المسيح عن الموت المهين
ونكاية في اليهود، والدليل على ذلك أن مقالة التشبيه هذه لا يمكن أن تخطر مباشرة
على بال عاقل ما لم يكن لها مبدأ كالذي ذكرناه اهـ.
هذه هي المحاورة التي أوردها بحروفها ونقول له في الجواب:
إن الإسلام سيهدم الوثنية التي غشيت جميع الأديان السماوية حتى يرجع
الناس إلى الدين القيم دين التوحيد القائم على أساس الفطرة المطابق للعقل حتى
يعترف الناس أن الوثنية السفلى كعبادة الحجر والشجر مثل الوثنية العليا، وهي عبادة
البشر، فهو يهدم كل دين بالبراهين الراجحة، فكيف تقوى عليه هذه السفسطة
الفاضحة؟ !
إذا فرضنا أن أجوبة المسلم له كانت قاصرة في معناها على ما كتبه فلا شك
أن ذلك المسلم عامي غِرٌّ، والظاهر أنه زاد في القول ما شاء وحرَّف فيه ما شاء
كما هي عادتهم، وكما تدل عليه المبالغة في تأكيد الصلب من المسلم بناءً على ذلك
الفرض ككلمة (كنت أرى ولا شك) وكلمة (كما رآه الجمهور) وكلمة (كنت
أوقن وأؤمن وأشهد) ومن عادة المنكِر إذا أقر بشيء على سبيل التسليم الجدلي
الفرضي أنه لا يؤكده بمؤكد ما فكيف نصدق أن ذلك المسلم انسلَّ من هذه العادة
الطبيعية العامة وغلا كل هذا الغلو في تأكيد الصلب ثم انقطع عن المناظرة وتوهم
أنه رأى المسيح مصلوبًا حقيقة وحار في التطبيق بين مشاهدته، وقول مَن قام
البرهان على عصمته؟ ! ونحن نذكر للكاتب البارع جواب المسلم العالم بدينه عن
هذه المسائل.
أما الجواب عن السؤال الأول: فكل من يعرف الإسلام يقول فيه: إنني لو
كنت في زمن المسيح وكنت أعرف شخصه لجاز أن يشتبه عليَّ أمر تلك الإشاعة
كما اشتبه على غيري، فالنصارى أنفسهم لا ينكرون أنه وقع خلاف في الصلب، وأن
بعض الأناجيل التي حذفتها المجامع بعد المسيح بقرون كانت تنفي الصلب ومنها
إنجيل برنابا الذي لا يزال موجودًا رغمًا عن اجتهاد النصارى في محوه من الأرض
كما محوا غيره. وإذا كانت المسألة خلافية وكان الذين اختلفوا فيه ما لهم به من
علم إلا اتباع الظن فما علينا الآن إلا أن نأخذ بما قاله عالِم الغيب والشهادة في كتابه
المنزل على نبيه المرسل. وبهذا الجواب سقط السؤال الثاني وجوابه وكذلك السؤال
الثالث. ومع هذا نقول: إن السؤال الثالث غير وارد بحال فإنه ليس عندنا مسألة
مشاهَدة وجاءنا رجل أمي من المشركين يكذبها ولو وقع هذا لكذبنا المشرك الأمي
وصدقنا بصرنا.
وإنما عندنا مسألة تاريخية اختلف فيها الناس وظهر فينا نبي أمي باتفاق جميع
الأمم؛ ولكنه علمنا الكتاب والحكمة وهدم الشرك والوثنية من معظم الممالك بقوة إلهية
أعطاه الله إياها. ومما جاء به حل عُقد الخلاف بين الملل الكبيرة ومنها هذه العقدة
فوجب اتباعه في ذلك.
وعجيب من نصراني يبني دينه على التسليم بأقوال مناقضة للحس والعقل في
كتب ليس له فيها سند متصل ثم يحاول هدم كتاب سماوي منقول بالتواتر الصحيح
حفظًا في الصدور والسطور بمعول وهمي، وهو فرض أننا رأينا المسيح مصلوبًا وما
رأيناه مصلوبًا، والفرض الموهوم لا يمس الثابت المعلوم، يقول هذا النصراني: إن
التوراة التي يحملها هي كتاب موحى من الله تعالى وكله حق. وفي هذه التوراة
مسائل كثيرة مخالفة للحس والبرهان العلمي فكيف يؤمن بها؟ كيف يؤمن بقولها إن
الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) وهذه العبارة تفيد بتقديم المفعول
أنها لا تأكل غير التراب وقد ثبت بالمشاهدة أنها تأكل غير التراب كالحشرات
والبيض ولا تأكل التراب مطلقًا، وكيف يؤمن بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن
كلاً من هذه الوحدة وهذا التعدد حقيقي؟ وأمثال ذلك كثير في الكتابين.
وأما السؤال الرابع فجوابه أننا علمنا أن محمدًا رسول الله، وأن ما جاء به
وحي من الله بالبراهين القطعية، ومنها ما أشرنا إليه آنفًا في مقالات الكرامات
والخوارق (راجع المسألة العاشرة) ، وقررناه بالتفصيل في مقالات سابقة، وأثبتنا
آنفًا من نص توراتكم وإنجيلكم أن الآيات والعجائب الكونية لا تدل على النبوة وأنها
تصدر على أيدي الكذبة والمضلين.
هذا إذا سلمنا أن النبي e لم يؤتَ إلا آيات الكتاب العلمية، وما كان على يديه
من الهداية العملية وكلاهما يدل على نبوته كما تدل المؤلفات النفيسة في علم الطب
والمعالجات الناجعة النافعة على أن صاحبها طبيب بخلاف عمل العجائب، إذا جعل
دليلاً على أن صاحبه طبيب؛ لأنه لا ينخدع به إلا الجاهلون؛ لأنه لا علاقة بين
معرفة الطب وبين عمل الأعجوبة وللمسلم أن يقول: إن النبي الأعظم e قد أُوتي
آيات كونية كثيرة ولكنه لم يجعلها هو ولا أتباعه من بعده عمدة في الدعوة إلى دينه؛
لأن دلالة هذا النوع من الآيات أضعف ولأن خاتم النبيين جاء يخاطب العقول ويؤيد
العلم ويحدد الأسباب ويبطل السحر والكهانة والعرافة والدجل؛ ليرتقي الإنسان بعلمه
وعمله ولا يستخذي لعبد من عبيد الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) فهو مخصوص بالآيات التي تقترحها الأمة، فتعريف الآيات فيه
للعهد بدليل ما رواه أحمد والنسائي والحاكم والطبراني وغيرهم في سبب نزوله وهو
أن قريشًا اقترحت على النبي e أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن ينحّي عنهم الجبال
فيزرعوا! ولا يخفى أن هذه أسئلة تعنت وعناد وإلا فالآية أو الآيات التي أيده الله
تعالى بها بينة لم يقدروا على معارضتها ولا نقضها. ولما طلبوا آية غير معينة كما
هنا نزل قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) .
وأما قول النصراني: إن محمدًا أخذ إنكار الصلب عن الدوستيين. فهو من اللغو
الذي يعرض عنه المسلم؛ ولكننا نذكر بمناسبته خليقة من خلائق هؤلاء المعتدين من
دعاة النصارى وطريقتهم في الاعتراض على القرآن وهي أنهم يقولون فيما ورد
فيه عن الأنبياء والأمم مما هو معروف ويعترف به أهل مذهبهم: إنه أخذه عنا
وليس وحيًا من الله. وفيما هو معروف عند غيرهم ولم يوافق أهواءهم: إنه مأخوذ
عن الطائفة الفلانية الكاذبة الضالة المبتدعة وليس وحيًا! وفيما لا يعرف عندهم ولا
عند غيرهم كالأمور التي جهل تاريخها واندرست رسومها: إنه غير صحيح ولا
وحي؛ لأنه لا يعرفه أحد، ولا يخلو الكلام في الأمم من هذه الأقسام، والنبي الأمي
لم يتعلم من أحد مذاهب الأمم وآراء الفرق المختلفة؛ لأنه لم يكن في بلاده من
يعرفها؛ ولأنه لم يكن يعرف غير لغة قومه الأميين الجاهلين؛ ولأنه لم يوافق طائفة
في كل ما تقول وتَدين بل اتبع الوحي المنزل عليه من الله والله علام الغيوب.
وإن لنا في هذا المقام تنبيهًا آخر: وهو أن اعتداء هؤلاء المعتدين على الإسلام
وتصدينا للرد على أباطيلهم عقبة في طريق الدعوة إلى الاتفاق، وإزالة الضغن
والشقاق والتعاون على عمارة البلاد؛ فإن المسلمين يعلمون أن هؤلاء الطاعنين في
الإسلام مستأجَرون من قِبل الجمعيات الدينية؛ لتشكيك عامة المسلمين في دينهم
وإهانة كتابهم ونبيهم، وأن هذه الجمعيات تنفق على دعاتها في كل سنة أكثر من
ثلاثة ملايين جنيه لأجل هذا الغرض، ونتيجة هذا أن النصارى بمجموعهم لا يمكن
أن يرضوا عن الأمة الإسلامية حتى تتبع ملتهم؛ فالذنب في كل عداوة وشقاق على
النصارى دون المسلمين.
وأما ردنا عليهم وتصدينا لبيان أباطيلهم فلا ينبغي أن يكون له تأثير سيئ في
النصارى؛ لأنه دفاع لا اعتداء فإن رد الشبهات الواردة على الدين فريضة دينية على
جميع المسلمين إذا لم يقم بها أحد كانوا جميعًا عصاة لله تعالى فاسقين عن أمره،
فنحن ندفع الحرج عن نفسنا وعن جميع المسلمين في هذه البلاد بحكم الاعتقاد
المالك لروحنا والمتصرف في إرادتنا وهم ليسوا كذلك.
ومن البلاء أن هؤلاء الطاعنين لا يؤثر فيهم البرهان؛ لأنهم لا يطلبون الحق
وإنما يطلبون المال فإذا استطعنا إسكات غيرهم ممن يكتب لمنفعة شخصه فلا يتيسر
لنا إسكاتهم لأن منفعتهم الشخصية مرتبطة بهذا الطعن؛ ولذلك نضطر إلى الرد
عليهم دائمًا عملاً بالواجب المحتم علينا في الدين فلا يلومنا عقلاء النصارى الذين
عرفوا مضرة التعصب الذميم بل يجب عليهم أن يساعدونا عليهم بتخطئتهم في
سيرهم. وإن كانوا راضين منهم فهم أنصارهم وأولياؤهم. والله وليّ المؤمنين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
معجزات نبينا عليه السلام
(س) علي أفندي مهيب بتفتيش عموم التلغرافات بمصر: أرجو أن تبينوا
لنا كل المعجزات الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن الشريف؛ لأن
الناس في اختلاف كثير فيما جاء عن معجزاته عليه الصلاة والسلام وسيكون قولكم
هو الفصل في هذا الموضوع. جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
(ج) إن آيات النبوة أعم من المعجزات، فمن آيات نبوته بشائر الأنبياء
السابقة وهي لا تسمى معجزات، وإن في مكتبة الفاتكان برومية إنجيلاً مكتوبًا بالقلم
الحِمْيَري قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه هذه العبارة بحروفها:
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6) ، ثم إن معجزة القرآن
تتضمن معجزات كثيرة، كما علم من مباحث المنار السابقة، وسنبين ذلك في
الأمالي الدينية والرد على شبهات النصارى.
والظاهر أنكم تسألون عن المعجزات الكونية لا العلمية والأدبية، وهذه كثيرة
جدًّا ومستفيضة؛ ولكنها لم تُجعل عمدة في الدعوة إلى الإسلام وطريق إثباته للحكمة
التي بيناها في مقالات متعددة آخرها المقالتان الثامنة والتاسعة من الكرامات
والخوارق وأوضحها مقالة (الآيات البينات على صدق النبوات) في المجلد الرابع
ولهذا لم يعتنِ بنقلها الصحابة والتابعون لتنقل عنهم بالتواتر، وإنما اشتهرت ثم
تواترت من بعدهم وتنتهي أسانيدها إلى أفراد فنقْلها شبيه بنقل معجزات المسيح
عليه الصلاة والسلام من حيث استفاضت على ألسنة المتأخرين ولم تؤْثر إلا عن
أفراد من أهل القرآن الأول.
إلا أن نقل معجزات نبينا الكونية أضبط وأصح من نقل معجزات المسيح
عليهما السلام لأن لها أسانيد متصلة، أشخاصها معروفون؛ إذ وضع لهم كتب
مخصوصة في تاريخهم؛ ولذلك ترى المحدثين يقولون: إن سند هذه المعجزة صحيح
وسند هذه ضعيف وهذه ثابتة وهذه مكذوبة أو واهية؛ لأن في سندها فلانًا الذي كان
يكذب في بعض الأحيان، أو فلان الذي كان كثير النسيان، وليس للنصارى مثل
هذه الأسانيد المتصلة، أما استقصاء ما كان سنده صحيحًا أو حسنًا وما كان مختلفًا
فيه لترجيح أحد الوجهين فليس جواب السؤال بمحل له على أنه غير ضروري
ويتوقف على مراجعة جميع ما نقل بأسانيده وتاريخ رجالها، وهو كثير جدًّا حتى إن
بعض المتأخرين ألَّف في المعجزات كتابًا يدخل في ثمان مائة صفحة ونيف.
ومن المروي في الصحيحين خبر انشقاق القمر روياه كغيرهم عن جماعة من
الصحابة، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق ونقلوه
بالتواتر، وإن لم يذكروا سببه بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم وأن القمر لا
يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع، وإن بعض المشركين لما
قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفَّار وانتظروهم جاؤوا فأخبروا بأنهم
رأوا القمر من ليلتهم تلك قد انشق ثم التأم وبأنه يجوز أن يكون رآه غيرهم وأخبر
به فكذبه من أخبرهم أو خشي أن يكذبوه فلم يخبر، وليس بضروري أن يراه في تلك
اللحظة علماء الفلك على قِلتهم في الجهة التي رؤي فيها. ولكنني لا أذكر أن أحدًا
أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم لم يعطِ الآيات المقترحة؛ لأنها سبب نزول العذاب بالأمم إذا لم يؤمنوا.
وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب بكفار قريش ولا أذكر لهم أيضًا جمعًا
بين آية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ، وآية {وَمَا مَنَعَنَا أَن
نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولا بد من تأويل
إحداهما وقد أوّل بعضهم الأولى فقط وليس هذا المقام مقام التطويل في هذه المباحث.
ومن المعجزات الواردة في الصحيح أيضًا إطعامه عليه السلام النفر القليل من
الطعام القليل جدًّا رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر ومن حديث أنس وقد وقع
ذلك مرات كثيرة. ومنها نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى كفى
الجيش وقد تكرر هذا أيضًا وبعض رواياته في الصحيحين. وقالوا: إن هذه المعجزة
أعظم من انفجار الماء من الحجر على يد موسى عليه السلام فإن من شأن المياه أن
تنبع من الأحجار، ومنها الإخبار بالغيوب في وقائع كثيرة جدًّا وبعضها في
الصحيحين وغيرهما كقوله: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) قال السيوطي في
الخصائص: هذا متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر وقد قتلته فئة معاوية عند
خروجها على علي أمير المؤمنين عليه السلام ولما ذكر لهم الحديث لم ينكروه؛
لأن منهم مَن كان يرويه قبل هذه الفتنة كعمرو بن العاص، وإنما أوَّلوه بتأويل
سخيف فقالوا: إنما قتله مَن أخرجه ويلزم من هذا أن يكون النبي عليه الصلاة
والسلام هو القاتل لعمه حمزة ولسائر أصحابه الذين دافعوا معه عن الدين، وتُروى
هذه الحجة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
ومن اللطائف في هذا الباب ما رواه ابن سعد في الطبقات من طريق عمارة
بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة الجمل وهو لا يسل سيفًا، وشهد صفين وقال:
أنا لا أضل أبدًا حتى يقتل عمار، فأنظر مَن يقتله؛ فإني سمعت رسول الله e
يقول: (تقتله الفئة الباغية)، قال: فلما قتل عمّار، قال خزيمة: قد بانت لي
الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتى قُتل.
ومن قبيل حديث عمّار قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن عليه السلام:
(ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) رواه أحمد
والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني عن أبي بكرة عن الحسن
ومع هذا قد بحث بعضهم في سماع أبي بكرة عن الحسن؛ لأن بعض المحدثين
أنكره، والصحيح أنه سمع والمثبت مقدم على النافي.
ومنها حنين الجذع الذي كان يخطب عليه رواه البخاري وغيره، وقال التاج
السبكي: إنه متواتر كانشقاق القمر، روي عن نحو عشرين صحابيًّا من طرق
صحيحة وتفصيل للوقائع التي كانت فيها هذه الآيات يطول فليطلب من مواضعه
ومنها إبراء كثير من العاهات والأمراض باللمس أو التفل.
ولو أردنا أن نذكر طعن المحدثين في بعض أسانيد المعجزات التي لم تصح -
كقول ابن كثير في حديث إحياء البنت الميتة: إنه منكر جدًّا. وقول ابن الجوزي في
حديث نطق الحمار: إنه موضوع. وقول المُزني في حديث نطق الضب: لا
يصح لا سندًا ولا متنًا.. إلخ - لكانت عبرة للموافق والمخالف في تحري المسلمين
وتثبُّتهم في نقل معجزات نبيهم.
فليأتنا المخالفون بضبط كهذا الضبط وأسانيد كهذه الأسانيد فيما يروون عن
رسلهم ومقدسيهم ثم ليتبجحوا على عامتنا بعجائبهم وغرائبهم.
وفرق أكبر من هذا بيننا وبينهم، وهو أنهم إذا عجزوا عن إثبات عجائبهم لا
يبقى لهم شيء ونحن عندنا آيات الله الكبرى (القرآن) والعلم الأعلى من الأمي وما
يتبع ذلك وبهذا القدر كفاية.
_________
الكاتب: مؤرخ عثماني
الدولة العلية وماليتها
بقلم المؤرخ العثماني صاحب التوقيع الرمزي
إن بالمال قوام الدول وعزها وقد كثر الكلام في إصلاح الدولة العلية ما كان
منه وما يجب أن يكون، وأكثر المتكلمين في ذلك على جهل بحقيقة الحال فرأينا أن
نكتب في مالية الدولة وأحوالها كتابًا نستقي مسائله من الموارد الرسمية.
لا يظن ظانٌّ أن الخلل في مالية الدولة حديث بل هو قديم يصعد تاريخه إلى
أواسط حكم السلطان عبد العزيز، وإنما زاد في الأدوار الأخيرة الإسراف والترف من
جهة وسوء سلوك المستخدمين بتحصيل الأموال من جهة أخرى، فسرى داء الخلل
في سائر فروع الحكومة حتى استعصى الداء وعز الدواء.
وأضحت الخزينة العثمانية يضرب بها المثل في الإفلاس، وصارت تؤخر دفع
رواتب المستخدمين أشهرًا متصلة فكان لذلك ضرر عظيم حتى على سياسة
السلطنة؛ إذ لو كانت الحكومة تدفع رواتب المستخدمين في أوقاتها كباقي
الحكومات المنظمة لما كان الظلم وصل إلى هذا الحد، ولما كان ظهر هذا التألم
العام والشكوى من الحكومة وأعمالها ولما كان للأجانب منفذ للتداخل في شؤون الدولة
الداخلية ويا ليتهم يتداخلون لمصلحة جميع رعايا الدولة بدون تفريق بين الملل
والأجناس إنما يتداخلون انتصارًا لفئة دون أخرى، فإذا كان المستخدم لا يقبض
راتبه في السنة سوى شهرين أو ثلاثة شهور فلا بد أن يظلم العباد لسلب أموالهم حتى
يسد رمقه ورمق عياله وأولاده، على أن أكثر صغار المستخدمين في الحكومة
العثمانية هم من أفقر الناس لا يملكون شروى نقير سوى الراتب الرسمي الذي
تجده قليلاً جدًّا بالنسبة إلى الوظيفة.
وكثيرًا ما نسمع بأن الحكومة ألفت لجنة لإيجاد طريقة تعطي بها الرواتب
لأربابها، وبعد أن تعقد تلك اللجنة بضع جلسات وتنشر بعض شذرات عن أعمالها
في الجرائد يختفي أثرها ولا نعود نسمع لها ذكرًا حتى تنقضي شهور فتزف الجرائد
حينئذ إلينا بشرى تأليف لجنة أخرى بناءً على إرادة سنية ولم نَرَ حتى الآن نتيجة
تلك اللجان الكثيرة العدد.
تقسم دواوين الحكومة من حيث دفع الرواتب في عاصمة الدولة إلى ثلاثة
أقسام:
قسم تغطي رواتب مستخدميه كل شهر بصورة منظمة مثل نظارة البوستة
والتلغراف وأمانة الرسومات (الجمارك) وما يتبعها من الفروع ونظارة الدفتر
الخاقاني وصندوق الدين العثماني والبنك الزراعي؛ ولهذا السبب يتهافت طلاب
الاستخدام على الدواوين المذكورة تهافت الجياع على القصاع.
وقسم يقبض ثمانية أو تسعة شهور في السنة ومن هذا القسم وزارة المعارف
ووزارة العدلية (الحقانية) وأمانة الشهر (مشيخة المدينة) .
والقسم الثالث لا يقبض إلا أربعة شهور أو أقل مثل وزارة المالية والخارجية
والداخلية ويستثنى من هذه مصلحة النفوس ذات الريع؛ لأنها تدخل في القسم الأول
وشورى الدولة ونظارة الضبطية ومستخدمي المابين الهمايوني ووزارتي البحرية
والحربية، وهذه الأخيرة هي أسوأ حالاً من جميع الوزارات لكثرة المطالب عليها
واتساع نفقاتها وكثرة عدد الضباط العظام.
أما الحالة المالية في الولايات، فهي أسوأ منهما بالعاصمة؛ لأن الولاة
يضطرون إلى امتثال الأوامر التي تصدر دائمًا من الآستانة قاضية بإرسال كل ما
جمع عندهم من الدراهم قليلاً كان أو كثيرًا إلى الآستانة، وإذا لم يتمكن الوالي من
سرعة الامتثال يأتيه التوبيخ وراء التوبيخ حتى يعزل من وظيفته شر عزلة؛ فلذا
ترى الولاة يتسابقون إلى إرسال الدراهم إلى العاصمة ولا يبقون عندهم لدفع
الرواتب أو للمشروعات المفيدة شيئًا.
وقد كانت الحكومة في السنين الأخيرة اتخذت طريقة زعمت أنها ترضي
الناس فما كان منها اتساع دائرة الخلل اتساعًا عظيمًا واشتداد الأزمة المالية وهذه
الطريقة هي إرضاء كل من يشكو أو يتألم من شيء أو ينتسب إلى أحد العظماء
بوظيفة عضو في أحد المجالس أو بإعطائه راتبًا كبيرًا يقبضه وهو جالس في منزله
والإنعام بالرتب ذات الرواتب الكبيرة جزافًا بدون تفريق بين المستحق وغير
المستحق. والجدول الآتي المستخرج من سجلات الحكومة العثمانية الرسمية لسنة
1218 هجرية يظهر صدق ما نقول.
* * *
شورى الدولة
هذا المجلس ينقسم إلى ثلاثة فروع: الأول دائرة الملكية، والثاني دائرة
التنظيمات، والثالث دائرة المحاكمات.
ودائرة المحاكمات هذه تنقسم إلى محاكم ابتدائية استئنافية ويحاكَم فيهما أكابر
المستخدمين الذين يرتكبون ما يحط بقدر وظيفتهم، أو يخل بمواد القانون.
وكان الأعضاء في مجالس شورى الدولة الثلاثة قبلاً لا يتجاوزون الأربعين
أما الآن فإن عددهم يزيد على مئة وخمسين بينهم 7 برتبة وزير و5 برتبة بالا
وواحد برتبة صدر روم إيلى وواحد برتبة صدر أناطولي و20 برتبة أولى من
الصنف الأول و12 برتبة روم إيلي بكلر بكي و20 برتبة أولى من الصنف الثاني
والباقون من أصحاب رتبة المتمايز فما دونها.
ولا يخفى أن عضو شورى الدولة الذي هو أعظم مجالس الدولة الحائز لرتبة
وزير أو بالا أو روم إيلي بكلر بكي لا يمكن أن يكون راتبه أقل من مائة
وخمسين جنيهًا في الشهر وليس بين أعضاء هذا المجلس من يقبض أقل من
عشرين جنيهًا في الشهر فإذا فرضنا لكل عضو في المجلس - ومنهم أصحاب
الرتب السامية وهم الأكثرون - 40 جنيهًا شهريًّا يكون المجموع 6000 جنيه، هذا
أقل ما يمكن تصوره للأعضاء ويزيد عليه رواتب المستخدمين من الرؤساء والكُتَّاب
وغيرهم.
* * *
وزارة المعارف
يوجد في وزارة المعارف مجلسان يقال لأحدهما مجلس المعارف والآخر
يسمى (أنجمن تفتيش) وكان هذا قبل أن تعطى الوظائف جزافًا يتألف من بضعة
أعضاء مقتدرين ذوي أهلية واستعداد لإدارة معارف السلطنة بخلاف ما نرى عليه
أعضاءهما الآن، ولا نخوض غمار هذا الباب؛ لأنه ليس من خصائص رسالتنا هذه
وربما عدنا إليه في رسالة أخرى.
أعضاء المجلسين اليوم هم خمسة وستون ماعدا الرؤساء وكتبة أقلامهما
وراتب كل منهم لا يقل عن 15 ج ولا يزيد عن 50 ج في الشهر فإذا فرضنا لكل
منهم 10 جنيهات يكون المجموع 650 ج شهريًّا ولا يدخل في هذا الحساب رواتب
الكتبة والرؤساء.
والمدارس التابعة لوزارة المعارف كثيرة جدًّا وأغلبها مجانية وهذا هو سبب
الإقبال عليها. ويوجد في الآستانة وحدها 42 مدرسة تتبع الوزارة المذكورة منها
ست عالية، وهي المكتب الملكي ومكتب الحقوق ومكتب الطب الملكي ودار الشفقة
ودار المعلمين ومدرسة الفنون الجميلة وخمس تجهيزية، واحدة منهن خاصة
بالتجارة. وللبنات ثلاث عشرة مدرسة واحدة منها عالية وهي مدرسة المعلمات
وثلاث للصنائع وتسع ابتدائية.
أما مدرسة الصنائع للذكور فإنها تتبع ديوان الأشغال كما أن كثيرًا من
المدارس عالية وتجهيزية وابتدائية تتبع ديوان المعارف العسكري التابع لوزارة
الحرب، وسيجيء بيانه في الكلام على الوزارة المذكورة. ولهذه الوزارة في أغلب
عواصم الولايات وبعض حواضر الألوية (اللواء في الولايات كالمديرية في مصر)
مدرسة تجهيزية ماعدا بعض الولايات الآسيوية ومدارس ابتدائية وأما مراكز
القضاء فقلما يوجد فيها مدارس.
والتعليم في المملكة العثمانية إجباري قانونًا لا عملاً وكل من لا يعلم ابنه أو
بنته يعاقَب حسب المادة الواردة في نظام المدارس فيجب - والحالة هذه - على
الدولة أن تعتني اعتناءً تامًّا بإدارة هذه المدارس المهمل أمرها وتختار لها أساتذة
مقتدرين ذوي كفاءة تامة، وتحور بروجراماتها وتجعلها على أساس متين كمدارس
أوربا مع العناية بالعلوم الدينية والعقائد وتنفذ أحكام القانون القاضي بإجبار الناس
على تعليم أولادهم وتنشئ مدارس ابتدائية في كل مركز قضاء ومدارس تجهيزية
في حواضر الألوية وتكثر من مدارس الصنائع والتجارة في عواصم الولايات ولا
بأس من فرض مبلغ جزئي على تلميذ نظير أجرة التعليم ليساعد على نفقات
المعارف.
ولهذه الوزارة حصة معلومة من أعشار الدولة قدرها اثنان في المئة غير
إيراداتها الخاصة بها. فلو أُنفقت هذه الأموال في الوجوه الموضوعة لها لعادت
على الأمة بالنفع العظيم.
…
...
…
...
…
...
…
... (العثماني)(م. ق.)
…
(لها بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب من صديق إلى صديق في هذه الديار
يصف له فيه حال بعض الأقطار
سيدي الأخ.. إذا تذكرت مصر فلا أذكرها إلا بك، وإذا جنحت إليها فلا أجنح
إلا إليك، قلبي يهواك، ولساني يذكرك؛ لأنك مطلب الروح ومبتغى النفس. فإن
كرمك وحلمك وفضلك وعلمك ونبلك وفخرك - تلك نياشين المجد - جعلت لك سناءً
يخطف أبصار عشاق الخلال الكاملة وإن لم يروك فما بالك مولاي وأنا ذاك الذي مَلَّكك
قلبه على بينة بعد درس جدك ونشاطك وعزمك وحزمك وعفتك ونزاهتك وغيرتك
على دينك، وشدتك في الحق ونزوعك إلى نصرته خلال تفوق عدد رمال الدهناء،
وتربو على نجوم السماء، فكيف أتبين منك هذه الخلال العظيمة وأستطيع مع البعد
سلوًا؟
هذا وإنني بين قوم تتعالى نفوسهم عن الحق، وتتجافى جنوبهم عن مضاجع
الصدق، لا هم ماتوا فاستراحوا، ولا هم انتبهوا فأراحوا، غشيهم طائف من
الجهل جعلهم يخبطون في بعضهم بعض [1] كالذي يتخبطه الشيطان من المس حتى
اضطررت أن أعتصم بحبل العزلة وأنزوي في ركن بيتي على خلاف عادتي التي
تعرفها. أستقذر - والله - مخاطبة واحد من هؤلاء القوم لما هم عليه من الغباوة
الزائدة والجهل المطبق والحمق الشديد والعياذ بالله تعالى فلا بلاهة المصري، ولا
غباوة السوري ولا استبداد التركي ولا جهل الأعجمي [2] ولا غطرسة الأفغاني بأشد
على نفوس العقلاء من تمخرق هؤلاء.. [3] فإن أولئك القوم مع ما هم عليه قد
نجب فيهم أحرار أبرار يفرد واحدهم بأمة كاملة فحيا الله بلادًا وسقيًا لها ورعيًا
تنجب أمثال عبده وعثمان [4] والكواكبي ورفيق ورشيد وكمال ومدحت
وعالي وفؤاد والباب وقرة العين وجمال الدين وسحقًا لأمة
…
[5] .
مولاي: لا يستطيع القلم أن يصف لك ولو شيئًا قليلاً مما رُزئتْ به هذه البلاد
من نكد الطالع وجهل بأمر وطيش حلم وافن رأي بهذه الورقة الصغيرة؛ ولكن لا
أظنه ينحل عليك ببيان رؤوس منها ومنها تعلم البقية.
(لنا علماء) ولكنهم جاهلون متكبرون متغابنون متغابون وهم آلهتنا (يريد
أنهم عبَّدوا الناس باستعلائهم) ، حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثهم خاصة بعجائب
التكايا وكرامات القبور، وعلمهم كعلم آلهة الآشوريين لا يزيد ولا ينقص ولا يتجدد
ولا ينعدم وهو محصور في تصريف: أكل يأكل أكلاً! وفي إعراب هذه الجملة:
ليت لي قنطارًا من الذهب فأحجَّ به، وهو عندهم من تمني ما لا طمع فيه أو ما فيه
عسر، وفي اكتشاف متعلق الجار والمجرور في إعراب البسملة، وفي فرض وجه
للحكم في عدة زوج الممسوخ هل تعتد عدة طلاق أو عدة وفاة، وفي جواز تزوج
الجني بالإنسية والإنسي بالجنية أو عدمه، وفي اختراع نكت في التفسير في معنى
تفاخر فرعون بجريان الأنهار من تحته في حكاية القرآن فغاصت أفكارهم في النهر
ولم يوقف لهم فيه على أثر! !
إذا قلت لهم: إن هذه أوهام في أوهام زمجروا واستكبروا ومزقوا ثيابهم
وطمبروا [6] وصخبوا ونعبوا وبكوا وانتحبوا وقالوا: هذا آخر الزمان، ووشوا
عنك أنك كافر، لا تؤمن باليوم الآخر، واستعانوا عليك بخلطاء العامة فيسكتونك
إما طوعًا وإما كرهًا - طوعًا إذا وثقت بعجزك عنهم وكرهًا إذا وثقوا بقدرتك عليهم
فاستعملوا معك سلطة الحكومة [7] التي لا ينحل بها عليهم الدخلاء - وربما كان ذلك
من مقتضى سياستهم؛ لأنهم لا يودون أن يتبصر الناس ولا أن يرفعوا رؤوسهم من
شبكة الاستبداد. وهناك يتحكم القضاء. ويجري البلاء. وأين الصابرون الذين
يوفون أجرهم بغير حساب؟ !
(لنا حكام) ولكنهم أميون جبناء متخاذلون إرادتهم شريعة قاهرة، وحكمهم
سلطان نافذ، لا رادّ لقولهم ولا ممانع لحكمهم، فالحاكم منهم يجمع في شخصه
ثلاث سلطات فهو مشرع منفذ مراقب كأنه المسيح عند النصارى يجمع في شخصه
ثلاثة أقانيم. أستغفر الله من أين للمسيح المقهور أن ينال سلطة من السلطتين
الأخيرتين ولو نالها لتمكن بها على الأقل من تخفيف وطأة أكليروس اليهود. آهٍ!
دعني أنفث الآهات حتى يفرغ الصدر فإن الناس عندنا أرقاء وأسواق المحاكم
أسواق الاسترقاق، فلا قانون يزَع ولا مسؤولية تردع.
حكامنا إما قضاة شرعيون، وإما حكام سياسيون فالقضاة الشرعيون يتولون
الخطة بعد دراسة تلك الكتب القديمة التي أخنى عليها الذي أخنى على لبد فيعطي
أحدهم راتبًا قليلاً فيمد يده بسائق الضرورة إلى الرشوة ويستعمل الغبن في وظيفته
ويجور، ويعبد الدرهم والدينار لا يكتفي بأحدهم فلا يمر عليه زمن قليل حتى تتعدد
مركباته بعدد أنواعها وتكثر قصوره بعد مواقعها ويكثر خدمه وحشمه وعبيده
وجواريه فلا الخديوي في مركبه، ولا السلطان في موكبه، بأعظم من قاضٍ شرعي
في بلاد إذا تمشَّّى في الأسواق أو دخل المحكمة. هذا والعامة والخاصة يعتقدون أنهم
سجادة الرسول وشرع المصطفى، وأن ما يحكمون به في الأرض يبرم في السماء
وإذا تظلم منهم مظلوم تقوم على رأسه القيامة، وتأتي عليه الآخرة بعذابها. أولئك
يشيعون أنه مارق من الدين لا يرضى بالشرع ولا يقبل حكم الله فيه فتكفره العامة -
وأنت أدرى بعاقبة هذا التكفير -. على أن أهل الحل والعقد لا يجدونه نفعًا [8]
ابتغاء مرضاة القضاة حتى يفشو الاختلال في الشريعة وتأنف الأمة من نفسها التقاضي
لدي حكامها وتطلب استبدال الشريعة بالقانون [9] .
وليس رجال محاكمنا الأهلية بأقل خطرًا على الأمة من قضاة الشريعة؛ لأن
مصدر تربيتهم واحدة.. فأعمالهم بالطبع تكون متقاربة متشابهة ولا يكون هناك
فرق بينهم اللهم إلا في الشكل فإن القاضي الشرعي يتردى بأردية الإهمال والكسل،
والآخر يلبَس لبوس النشاط والعمل، وهذه غاية الفرق بينهم.
أما الأحكام: فالقاضي الشرعي يرجع فيها إلى قواعد مشتتة متضاربة متخالفة
يطبقها على القضايا بحسب ما يراه، والقاضي الأهلي يعتمد فيها العادات
والاصطلاحات التي جرت عليها السياسة السالفة بدون أن يكون لديه قانون يرجع
إليه، أو دستور يعول عليه، فالطريقة الأولى كسيت صبغة الشرع اسمًا، وهذه
أعطيت لقب القانون رسمًا، وفي الواقع لا شرع ولا قانون.
(أحداثنا) هم مطمح آمالنا وزهرة حياتنا وهم ينقسمون إلى قسمين: قسم
عامة وهم لا كلام عليهم. وقسم خاصة وعددهم لا يزيد على رُبع! عُشر! تسع!
ثمن! سدس! خمس! معشار الأربعين من مجموع الأمة وهم ينقسمون على أنفسهم
إلى قسمين: قسم تربى في المعهد الديني.. وأهل هذا القسم عبارة عن مختصر
أزهري فهذا أيضًا لا كلام عليه. بقي الكلام على القسم الثاني وهو المراد من قولنا:
(أحداثنا هم مطمح آمالنا) : فإن هذا القسم مع قلة عدده وضعف مدده ليس بكامل
التربية، هذا إن لم نقل إنه لا تربية له؛ لأنه لم يتعلم شيئًا يرقي ذهنه عن أفراد قومه
وغاية ما تلقنه من التربية قشور عارية عن اللب كدرس اللغة الأجنبية ومبادئ تقويم
البلدان وقواعد من الطبيعة وشيءٍ من الحساب، وكل ذلك لا يخرج عن درس الأشياء
التي يتلقاها تلامذة المدارس الابتدائية في البلاد المتمدنة ولا حظ له من تعلم اللغة
العربية مطلقًا حتى يعرف أن لديه لغة وافرة المواد كثيرة المصادر لديها من ألفاظ
موسعات العلوم ما يكفي لتلقيح نهضة جديدة إذا أفرغت في قوالبها الحقائق المكتشفة
والاختراعات المتجددة. وعلى فرض وجود من درس هذه اللغة فإن معلوماته لم
تتجاوز الحلقة الضيقة من التعليم الابتدائي فضلاً عن الثانوي والعالي فهل معرفته
لها والحالة هذه تجدى نفعًا؟ !
فهذا القسم الذي نظن فيه خيرًا ونعلق عليه آمالاً هو من العامة ولا شك (وأي
نفع من العامة؟ !) وإن ضرره أكبر من نفعه. ما ظنك بشاب دخل المدرسة ولا
يدري أبواه ما سيتعلمه فيها، وما سيكون من أمره فخرج منها متعودًا التأنق في
الملبس والمأكل والمشرب وحب الرياضة مع العوانس والأبكار والجلوس في
المحلات العمومية للمقامرة والتسلي بالمشروبات الغولية، وذلك بلا ريب يستلزم
كثرة الأموال واتساع نطاق المكاسب فإن كان غنيًّا بعثر المال واستنزف الدينار
استنزافًا، وإن كان فقيرًا أهراق ماء الحياء وعبث بشرفه واستهان بناموسه وراء
دريهمات يسد بها حاجات تربيته الجديدة الناقصة. ومن يهُن عليه العبث
بشرف نفسه فشرف أمته لديه أهون ولا شك.
وهذا لا يعزب عنك أن هذه المفقِدات لجامعة الأمة والمحللات لعناصرها إذا
كانت تدفعها يد ماهرة كيد الدخلاء فإنها تلم بها من طرق مجهولة كثيرة الشعاب
وخطرها متوقع لا محالة. وهذه الأخطار الحافة بهؤلاء القوم المساكين ليست بنت
زمن ولا منشأ سبب بل هي نتيجة اشتركت في تربية مقدماتها الأزمان والأسباب
وصعب على عاجز مثلي أن يُفهم هؤلاء القوم خطر موقفهم مادامت النفس غير
قابلة والقلوب واهنة والبصائر مطموسة والحواس مغشوشة وثائرة الجهل قائمة،
فعبثًا أحاول إصلاح ما فسد من أخلاقهم وتجديد ما اخلولق من خلائقهم.
ما يجدي الإصلاح في قوم يعتقدون أن كل كلمة طيبة (هرتقة) وكل كلمة
حادة زندقة، وكل خلق جدير كفر، وكل سعي إلى الأمام خطوة من خطوات
الشيطان، ماذا يجدي الإصلاح في قوم ينتظرون خروج الدابة وقيام الدجال وظهور
المهدي، ونزول المسيح وطلوع الشمس من مغربها ونفخة إسرافيل، وهذه
أشراط الساعة والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق! ماذا يجدي الإصلاح في قوم
خلقوا أشرارًا فجارًا فساقًا ضُلالاً كتب الله عليهم أن يكونوا عائثين في الأرض مفسدين
في السماءلإنشاء دولة وتكوين أمة أهون على نفوس العانين بالإصلاح من
إصلاح أمة من الإسلام!
عفوًا يا مولاي فإني قد أطلت عليك وحمَّلتك همًّا على همّك وزدتك غمًّا على
غمك فلا تلُمني فصدري ضاق على اتساعه وحمل همومًا ناءت أمة كاملة بحملها
فكيف يستطيع حملها ذلك الشكل الصنوبري؟ فسل لأخيك قرب المخرج من هذه
الديار فإن العيش على شوك السيال في منقطع العمران لأهون عليَّ من معاشرة
قومي ما تنكر شخص قومه كما تنكرتهم وما بئس ساعٍ لرشد كما يئست. قوم لو
حاولت أن أحصي لك العقلاء فيهم لما أكملت شناتر اليد عدًّا. أليس هذا من بواعث
اليأس ودواعي البأس؟ اهـ. المراد منه.
(المنار)
هذا كتاب رجل كنا نَصفُه أيام كان بيننا بأكثر مما وصف به نفسه من سعة
الصدر. كنا نصفه بأنه لو تفطَّرت السموات وانشقت الأرض وخرت الجبال هدًّا
لما بالى ولا اهتم وها هو يشكو هذه الشكوى المُرة من حال بلاده.
أليس في هذا عبر لمن يعقل، أليس دالاًّ على الفرق بين هذه البلاد وغيرها
فأين شكر النعمة من المنعَم عليهم؟ وأين الاعتبار بالبلاء ممن حل بهم؟ !
وقد ختم الكتاب بأن الرأي الوحيد في تحريك أذهان قومه نشر المجلات
والجرائد النافعة والكتب المفيدة.
نجَّح الله مقاصده وهيأ له من المصطفَيْن الأخيار مَن يشد عضده.
_________
(1)
كان الصواب أن يقول: يخبط بعضهم في بعض.
(2)
يريد بالأعجمي: العجمي وهو من جنسه العجم ويراد منهم الفرس وأما الأعجمي فهو نسبة من الأعجم وهو مَن لا يفصح في القول وإن كان عربيًّا وينسب إلى نفسه مبالغة وظاهر أن هذه الأوصاف لا تنطبق كلها على الموصوفين بها.
(3)
ورد: مخرق الرجل: أي موه وكذب واختلف في أصالته في العربية ولم أجد تمخرق ولكنه مستعمل في الكلام العرفي الذي قلما تخلو منه الرسائل الشخصية الآن.
(4)
ظاهر أنه يعني بعبده الأستاذ الإمام وأما عثمان فهو الدكتور عثمان بك غالب العالم الطبيعي المشهور وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالعطف على العامل في الثاني.
(5)
ذكر هنا حادثة رأينا السكوت عنها على فظاعتها إخفاءً لتلك الأمة.
(6)
لا أعرف هذه الكلمة إلا في كلام العامة ومعناها: انتفخوا.
(7)
كان ينبغي أن يقول: فاستعانوا عليك بسلطة الحكومة.
(8)
المعروف: (ما يجدي عنه) .
(9)
الصواب: استبدال القانون بالشريعة: أي جعل القانون بدلاً عنها وهذا مما يغلط فيه أكثر الكُتاب تبعًا للجرائد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الدولة العلية والحرب)
تستعد الدولة العلية للحرب؛ لأن الفتنة في بلادها لا تزال تزداد وقد كنا في
خوف عظيم من روسيا حتى أعطتنا الجوائب الأوربية بعض الاطمئنان من جهة
روسيا نفسها ومن جهة الدول العظمى. أما روسيا فقد قررت ترك منشوريا بسبب
العسر المالي والمعسر لا يضرم نارًا للحرب مختارًا لا سيما إذا كان خصمه من
أقرانه في ميادين الكفاح. وأما أوربا فإننا نرى إنكلترا تتقرب من فرنسا، وفرنسا
تقبل تقربها بقبول حسن ولا نرى سببًا لزيارة ملك الإنكليز للجمهورية الفرنسية إلا
إقناعها بعدم إعانة روسيا على حرب تركيا؛ بل عدم إجازتها على الحرب لما في ذلك
من الخطر العظيم على أوربا كلها. أما الحركات العسكرية التي تجريها روسيا
فليست أكبر مما يعتاد في أيام السلم من الاستعداد والتمرين ولله في غيبه شؤون.
فإذا كان استمرار بغاة مكدونية على بغيهم وتماديهم في ثورتهم اتكالاً على
البلغار والصرب فلا خطر على الدولة من ذلك، وهي قادرة على تدويخهم وإن لم
تستفد من ذلك شيئًا لما علمناه من تعصب أوربا عليها، واتفاق الدول الكبرى على
منع المسلمين من الانتفاع من النصارى أو التسلط عليهم ولو بحق، والناس يوجسون
خيفة من تألب الألبانيين وخروجهم لعدم الرضى بمطالب أوربا. وروسيا والنمسا
تلحان على الدولة بوجوب كبحهم وإخضاعهم دون المكدونيين؛ لأنهم مسلمون،
ولعل حكمة مولانا السلطان تكفي الدولة مغبتهم بالتي هي أحسن.
***
(ثورة مراكش)
لا يزال أمر الخارج على سلطان مراكش في استفحال وقد طمع في الملك
وتجرأ على خطاب بعض الدول بالاعتراف بكونه السلطان الرسمي لمراكش ويقال
إنه سيزحف على فاس وهذه عواقب الجهل والإهمال، وسننشر في جزء تالٍ
شروط الصلح بين صاحب مراكش ولويس السادس عشر ملك فرنسا؛ ليعلم مَن لم
يقرأ التاريخ أن عهد مراكش بالعزة والقوة غير بعيد.
***
(فرنسا والجزائر)
كنا كتبنا مقالة عنوانها (فرنسا والإسلام) ، نصحنا فيها لهذه الدولة العظيمة
بأن تعامل مسلمي مستعمراتها بالحسنى لتملك قلوبهم وتأمن غائلتهم.
ونحن نعلم أن فرنسا لم تكن مرتاحة إلى تلك المعاملة القاسية التي كانت تعامل
بها مسلمي الجزائر ولكنها كانت ترى أنها هي الطريقة المتعينة، وأنه يجوز أن
يظهر لها خير منها. وفي هذه الأيام قد زار الجزائر رئيس الجمهورية وبشر
الأهلين بأن هذه الزيارة مبدأ معاملة جديدة مرضية وبالغ في استمالة القلوب وطلب
الائتلاف، ولولا العزم على حسن الفعل لما صدر عنه مثل هذا القول وما جزاء
الإحسان إلا الإحسان!
***
(المدرسة القضائية في السودان)
علمنا أن حكومة السودان قد قررت إنشاء مدرسة لتخريج القضاة الشرعيين
واشترطت في تلامذتها أن يكونوا قبل الدخول فيها معروفين بالاستمساك بالدين
تخلقًا وعملاً، وأن يكونوا عارفين ما تجب معرفته من العقائد الإسلامية والعبادات
وصاحِبِِي إلمام بأحكام المعاملات. ومدة الدراسة أربع سنين والعلوم التي تعلم فيها
هي الخط والإملاء والحساب والهندسة وتقويم البلدان والتجويد والتوحيد والمنطق
والحديث والتفسير والفقه وأصوله، والنحو والصرف والبلاغة والإنشاء وتاريخ
الإسلام والآداب الدينية، وحكمة التشريع والتمرينات القضائية والتوثيقات ونظام
المحاكم، ومما يدرس فيها كتاب إحياء العلوم وكتاب حجة الله البالغة.
وإننا نتمنى لو يبادر أولياء الأمر في مصر إلى مثل العمل الذي كنا اقترحناه
على مشيخة الأزهر من نحو أربع سنين، فإن داء المحاكم الشرعية في مصر لا
يمكن برؤه إلا بتربية القضاة تربية تؤهلهم للقيام بأعبائه كما صرح به اللورد
كرومر في تقريره وكما يعلمه كل عاقل بصير. وهذه الدولة العلية لها مدرسة
مخصوصة لتخريج القضاة (مكتب النواب) وهي غير مدرسة الحقوق فالواجب
على أولي الأمر في مصر العمل بما كنا اقترحناه من انتخاب طائفة من نابغي
الأزهر يعلمون فيه التعليم القضائي ليكون قضاة فإن كان هناك مانع من تعصب
المشيخة فالمتعين إنشاء مدرسة مخصوصة لذلك.
وإننا لنتنسم من حكومة السودان أنها ستحمي الإسلام في تلك الأقطار وتقيم
أحكامه فإن هي فعلت فلا شك أنها تمتلك جميع ما بقي مستقبلاً من الممالك السودانية؛
لأن المسلمين في تلك الأقطار شديدو التمسك بدينهم والتعصب له كأهل الجزائر فإذا
قيدوا به سلسوا للانقياد. وإلا أصروا على العدوان والعناد. وإن لدينا نبأ من تقرير
قاضي قضاة السودان عن المحاكم الشرعية يبشر بسير حسن وعاقبة حميدة، ونية
للحكومة سليمة وسننشره في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
***
(تنبيه)
ضاق هذا الجزء عن باب التقريظ ومنه تتمة الكلام في انتقاد رسالة الشيخ
محمد بخيت ولدينا انتقاد على عبارة في التفسير وموعدنا في ذلك الجزء الآتي إن
شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النبأ العظيم
آثار جديدة. هدم دين أو دينين. ملك أم إله. مذهب جديد في النصرانية،
قيصران أم نبيان. خطوة من أوربا. وثبة إلى الإسلام. ظهور آية من آيات
القرآن.
حيَّا الله التاريخ والمؤرخين فكم كَشَفا من خفايا الأكوان، وأظهرا من خبايا
الأزمان، وكم أضل الجهل بالتاريخ من إمام كبير، وعالم نحرير، فانحرف عن
سبيل، وأخطأ محجة تأويل، فقد كان مثل الإمام فخر الدين الرازي يتوهم أن
التوراة منقولة بالتواتر، ويحيل لذلك أن يكون وقع في ألفاظها التحريف والتبديل
ويصرف الآيات الواردة في ذلك إلى التحريف المعنوي، وسبقه إلى هذا الرأي مثل
الحافظ البخاري قياسًا على نقل المسلمين لكتابهم وما كان ينبغي لأمثال هؤلاء أن
يضعوا الأقيسة النظرية، حيث يجب أن تكون البراهين اليقينية؛ ولذلك خالفهم
الأكثرون. وإننا لنسمع في كل يوم ناعقًا من دعاة النصرانية يصيح محتجًّا على
عوام المسلمين بقول فلان وفلان من علمائهم أن التوراة التي بين الأيدي سالمة من
التحريف اللفظي محفوظة من التبديل. وكيف نقبل قول أحد في أمر عندنا فيه
الحكم العدل، والقول الفصل، وهو كتاب الله تعالى. ولسان الوجود أفصح مفسر
لكتاب الله تعالى.
كان علماء المسلمين يحكمون على التوراة والإنجيل ولا يطلعون عليهما فلما
اطلعوا سددوا وقاربوا؛ ولكن لم يتجلَّ حكم القرآن إلا بعلم علماء أوربا وبحثهم عن
آثار الأولين، ووقوفهم على تاريخ الأقدمين.
بيَّن هؤلاء العلماء أن كلام التوراة في الخليقة مخالف لما أثبته العلم في مسائل
كثيرة فقام أهل التأويل يقولون: إن العلم غير الدين، وإن كتب الدين إذا تكلمت عن
الخليقة فإنما تتكلم بما هو معروف عند الناس؛ لأنه ليس من غرضها بيان حقائق
الموجودات وإنما غرضها إصلاح القلوب، وهذا الكلام صحيح ولكنه ليس عذرًا
مقبولاً عند العلماء عن ذكر أمور مخالفة للواقع لا حاجة إليها في إصلاح القلوب
وإذا سكتوا لهم على هذا فبأي تأويل يدفعون ما أظهرته الاكتشافات الأثرية من
مخالفة تاريخ التوراة للآثارات التي حفظها بطن الأرض للأمم؟ ! أم كيف يدفعون تلك
القوارع التي تظهر من علماء الألمان قارعة بعد قارعة؟ ! وبها استبان أن التوراة
مقتبسة من البابليين بعد السبي حتى شرائعها وأحكامها.
كتب بعض هؤلاء العلماء كتابًا حديثًا أودعه جداول أحصى فيها ما وقف عليه
من الكلمات البابلية في كتب العهد القديم التي يطلق على مجموعها لفظ (التوراة)
وبيَّن أن تلك الكلمات التي مازجت لغة هذه الكتب العبرية لم تكن معروفة على عهد
موسى عليه السلام واستنتج من مباحثه أن هذه الكتب أُلفت بعد أن سبى البابليون
بني إسرائيل بأزمنة مختلفة؛ ولعل هذا الكتاب النفيس يُنقل إلى العربية في زمن
قريب فإن اعتداء دعاة البروتستانت قد أعد النفوس للعناية بمثل هذه الكتب فكانوا
نافعين للإسلام والمسلمين، خلافًا لما يتوهم بعض الغافلين!
بعد هذا ظهر من علماء الألمان نبأ أخص من هذا وهو أنه وُجد في الآثار
التي اكتشفت من عهد قريب في خرائب سوس من بلاد بابل شريعة (حمورابي) أو
(ملكي صادق) منقوشة على عمود من صم الصفا (الصوان) فإذا هي متفقة مع
شريعة التوراة في أكثر الأحكام فجزم الباحثون بأن الإسرائيليين قد اقتبسوا شريعتهم
التي يسمونها التوراة من هذه الشريعة أيام كانوا في أسر البابليين. وكانت النتيجة
عند هؤلاء العلماء أن موسى لم يكن نبيًّا وشريعة قومه لم تكن وحيًا! ! اشتبه عليهم
الباطل بالحق والحق بالباطل وإننا نجلِّي الحقيقة في هذا المقال بما هو لب اللباب،
والعجب العُجاب.
حمورابي أو ملكي صادق
يقول علماء ألمانيا الأعلام كغيرهم: إن حمورابي هذا هو أمرافل المذكور في
الفصل الرابع عشر من سفر التكوين في قصة لا تنطبق تمامًا على الاكتشافات
الحديثة وهو هو (ملكي صادق) ؛ لأن معنى هذه الكلمة العبرانية (ملك البر أو
ملك السلام) وهو يلقب نفسه بهذا اللقب في شريعته المذكورة آنفًا، ومما جاء في
الفصل الرابع عشر من سفر التكوين أن ملكي صادق هذا قد بارك على إبراهيم
عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام) وأن إبراهيم أعطاه العشور. قال بعد ذكر
محاربة إبراهيم لكدر لعومر واسترجاعه الأسرى ومنهم لوط أخوه: (17 فخرج
ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه إلى عمق
شوى الذي هو عمق الملك 18 وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزًا وخمرًا وكان
كاهنًا لله العلي 19 وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي مالك السموات
والأرض 20 ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك، فأعطاه عشرًا من كل
شيء) .
وقال بولس زعيم الديانة النصرانية المعروفة لهذا العهد في آخر الفصل
السادس وأول الفصل السابع من الرسالة إلى العبرانيين ما نصه: (19 حيث دخل
يسوع كسابق لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد (1) لأن
ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك
وباركه (2) الذي قسم له إبراهيم عشرًا من كل شيء. المترجم أولاً ملك البر ثم
أيضًا ملك ساليم أي ملك السلام (3) بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداءة أيام له ولا
نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله. هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد (4) ثم انظروا ما
أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء عشرًا أيضًا من رأس الغنائم) .
هذا هو ملكي صادق بشهادة العهدين العتيق والجديد فإذا كان الله - تبارك
وتعالى - يحل في الأجسام كما يقول النصارى فمَن أجدر بهذا الحلول من ملكي
صادق وهو يمتاز على المسيح بكونه من غير أم ولا أب وكونه بلا بداية ولا
نهاية؟ ! وهو الذي بارك إبراهيم أبا الأنبياء وهو واضع الشرائع التي اقتبست
منها التوراة والنتيجة أنه بشهادة العهدين أعظم من إبراهيم وموسى وعيسى وإن
شئت فقل: إن بولس نزهه عن البشرية، ووصفه بأخص صفات الألوهية، والتاريخ
يشهد أنه وثني أفليست هذه الكتب أيضًا كتبًا وثنية؟ !
***
هذه التوراة
لا خلاف ولا نزاع بين أهل الكتاب في أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام
قد فُقدت. ثم وجد عندهم غيرها وفقد ثم وجد غيره. والأخبار عندهم في ذلك معمَّاة
وطرقها مشتبهة الأعلام، حالكة الظلام، جاء في الفصل الرابع والثلاثين من
أخبار الأيام الثاني: (14 وعند إخراجهم الفضة المدخلة إلى بيت الرب وجد
(حلقيا) الكاهن سِفر شريعة الرب بيد موسى 15 فأجاب حلقيا وقال لشافان
الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب وسلم حلقيا السفر إلى شافان 16
فجاء شافان بالسفر إلى الملك..) إلخ.
وفي دائرة المعارف أنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجده حلقيا هو الذي كتبه
موسى (قال) : ولا دليل لهم على ذلك.
وأقول: إن ادعاء شخص بمثل هذه الدعوى لا يوثق به فإنه مهما كان عادلاً لا
يزيد خبره عن كونه مظنون الصدق محتمل الكذب. ثم إن هذه النسخة التي وجدوها
قد فُقدت أيضًا، والمعتمد عليه عندهم أخيرًا هو ما كتبه عزرا كما فصلناه من قبل في
المجلد الرابع من المنار. ففي الفصل السابع من سفر عزرا ما نصه: (وبعد هذه
الأمور في ملك أرتحشستا ملك فارس عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا 2 بن
شلوم بن صادوق بن أخيطوب 3 بن أمريا بن عزريا بن مرايوث 4 بن زرحيا بن
عزي بن يقي 5 بن أبيشوع بن فينحاس بن العازار بن هرون الكاهن الرأس 6
عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله
إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه كل سؤاله - إلى أن قال - (8
وجاء إلى أورشليم في الشهر الخامس في السنة السابعة للملك 9 لأنه في الشهر
الأول ابتدأ يصعد من بابل وفي أول الشهر الخامس جاء إلى أورشليم حسب يد الله
الصالحة عليه 10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعلم بها وليعلم إسرائيل
فريضة وقضاءً) .
وذكر بعد هذا صورة الكتاب الذي كتبه هذا الملك لعزرا الكاهن بالإذن لبني
إسرائيل بالعودة إلى أورشليم معه من شاء منهم وفيه ما نصه: (25 أما أنت يا
عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب..)
- إلى أن قال - (16 وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقضَ عليه
عاجلاً إما بالموت..) إلخ.
بهذه العبارة يستدلون على أن عزرا كتب التوراة بعد فقدها وهو لا يدل على
زعمهم وأنَّى له أن يكتب التوراة كما أنزلت وقد مضت القرون عليها وهي مفقودة
ولم ينقل أن أحدًا حفظها كما يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم. نعم، لا يعقل
أن أمة تُؤْتَى شريعة وتعمل بها وتساس بأحكامها ثم تنساها بالترك كلها بحيث لا
تحفظ منها شيئًا بل المعقول أن العمل من أسباب الحفظ فالإسرائيليون - وإن طال
عليهم أمد السبي وحُكموا زمنًا طويلاً بغير شريعتهم - لا بد أن يكون أهل الفهم
والبصيرة منهم قد ظلوا يذكرون كثيرًا من تلك الأحكام الإلهية فلما رحمهم أرتحشستا
ملك بابل وأذن لهم بالعودة إلى بلادهم وأمر كاهنهم عزرا بأن يضع لهم قضاة
وحكامًا يعملون بشريعة إلههم وشريعة الملك كتب لهم عزرا هذه التوراة الحاضرة
وأودعها ما كان لا يزال يحفظه من وصايا الرب وأضاف إليه ما حفظه من شريعة
الملك فجاءت هذه التوراة الحاضرة وأضاف إليه ما حفظه من شريعة الملك فجاءت
هذه التوراة مزيجًا من الشريعتين كما تبين بالاكتشافات الجديدة. وكتب العهد العتيق
التي يسمون مجموعها التوراة تؤكد كون الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه
السلام قد كُتبت بعده بزمن طويل كما بيناه في الجزء التاسع عشر من المجلد الرابع،
ومن ذلك ما جاء في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ونصه: (24
فعندما كمل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين
حاملي تابوت عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد
الرب..) إلخ.
ومنه ذكر وفاة موسى في الفصل الأخير من هذا السفر المنسوب إليه، وقول
كاتبه بعد ذلك (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (ثم قوله) ولم يقم بعدُ نبي في
إسرائيل مثل موسى) وهاتان الجملتان تدلان على أن هذه التوراة قد كتبت بعد موت
موسى واندراس قبره بزمن طويل.
وقد ذكرنا في ذلك الجزء أن علماء بروتستانت لم يسعهم إلا الاعتراف بفقد
توراة موسى وأن صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة
المسيحية) صرح بفقدها وانقطاع عبادة الله الحقيقية بين الإسرائيليين في مدة ملك
منسا وأمون وأنه قال بعد ذلك (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في
الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها. والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما
خرب بختنصَّر الهيكل وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن
الكتب المقدسة فُقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ المتفرقة من الكتب
المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية) هذا نص عبارته
بالحرف. وقد علمت أن ليس في سفر عزرا ذكر نسخ ولا كتب وإنما قصارى ما
يفهم منه أن الملك البابلي أمره بتعيين حكام لإسرائيل يحكمون بما يعرف من شريعة
إلهه وشريعة الملك.
ونتيجة ما تقدم كله أن أسفار التوراة الحاضرة نفسها تؤيد الاكتشافات الحديثة
وأنه ثبت بمجموع الأمرين أن التوراة الحاضرة ليست توراة موسى وإنما فيها شيء
منها لاستحالة أن تكون نسيت كلها وذلك كافٍ في هدم الديانة اليهودية والديانة
المسيحية المبنية على كتبها.
* * *
زلزال النصرانية في أوربا
أنس النصارى واليهود بما في كتبهم من الدلائل على عدم الثقة بنقل التوراة
والإنجيل وكابروا أنفسهم والناس بدعوى تواترهما، إن شرط التواتر أن ينتهي سند
الرواة الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب لكثرتهم إلى من جاء بالكتاب كأن ينتهي
تواتر التوراة إلى موسى نفسه لا إلى عزرا الذي لا يعلم أحد من أين جاء بما جاء
به هل هو من البابليين أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته
البابليين؟ ! أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته البابليين. ولكن
القيامة اليوم قائمة في أوربا لاكتشاف شريعة حمورابي (ملكي صادق) وبيان أنها
توافق هذه التوراة في أحكامها وتخالفها بعض المخالفة في تاريخها؛ لأنهم لم يروا
مجالاً في هذا للمكابرة والمواربة.
وقد حكم العلماء بأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي حمل نسخة
هذه الشريعة من بابل إلى فلسطين عند قدومه إليها وأن موسى (عليه الصلاة
والسلام) قد اقتبس منها كل ما رآه يصلح لسياسة بني إسرائيل كما اقتبس بعض
ذلك من الشريعة المصرية التي تربى في بيت ملكها وبذلك تكون هذه الشريعة التي
يفتخر اليهود والنصارى بأنها إلهية مقتبسة من الشرائع الوثنية ويكون موسى مزورًا
بادعاء أنها أوحيت إليه من الله! (حاشاه حاشاه) .
خطب العلامة اللاهوتي الأثري (دليتش) أحد أعضاء (جمعية الشرق) في
هذا الموضوع خطبة مطولة في برلين حضرها قيصر الألمان والقيصرة وجماهير
العلماء والكبراء وقال في خطبته على رؤوس الأشهاد: إن شرائع التوراة منقولة
عن الشرائع البابلية وليست وحيًا من الله واستنتج من ذلك أنه لا حاجة إلى دين
وراء وجدان الخير المغروس في الفطرة؛ وذلك أنه ختم الخطابة بقوله: إننا نضع
أيدينا على قلوبنا ولا نحتاج إلى وحي غير الوحي الذي يصدر عنها! .
قرع هذا العالِم النصرانية بهذا القارعة في ذلك الملأ العظيم فتزلزلت هي ولم
تزلزل مكانته من نفوس القوم وإن كان فيهم مَن استاء منه؛ لأن تقاليد الدين مطبوعة
في وجدانه فهو يأنس بانطباعها، ويتألم لانتزاعها، أو لأن السياسة تقضي
بالمحافظة على الدين وإن زلزله العقل، وزعزعه النقل، فقد نقلت الجرائد أنه بعد
خطابه جلس إلى القيصر والقيصرة يحادثهما ويحادثانه بكل طلاقة وقبول. وقد
عجب بعض الناس أن رأوا غليوم الثاني الذي أقام أوربا وأقعدها ثم دعاها إلى
محاربة الصين دعا أن أهانت بعض دعاة الدين يلاطف عالمًا لاهوتيًّا أثريًّا بعد
أن قضى على هذا الدين القضاء المبرم. ولا عجب فإن الدين عند هذا القيصر
وأمثاله من آلات السياسة ولا يصح أن تكون السياسة عدوة للعلم الذي هو أقوى
آلاتها.
* * *
المذهب الجديد
بعد هذا اجتمع القيصر بهذا الخطيب مرة أخرى ثم أعلن رأيه في المسألة
فلاح لذهنه الوقاد أن يضع للنصرانية مذهبًا جديدًا يستبقي به كونها آلة سياسية
تنتفع بها أوربا في مقاومة الشرق ويقطع به لسان العلم عن المحاجة والمجادلة فكتب
إلى صديقه الأميرال (هولمن) كتابًا يقول فيه ما تعريبه باختصار قليل جدًّا:
(إن الأستاذ دليتش دخل مع القيصرة والوكيل العام (درياندر) في بحث
استمر عدة ساعات وما كنت أنا إلا من السامعين. ومن سوء الحظ أن الأستاذ انتقل
من البحث التاريخي في المسائل الدستورية إلى مسائل دينية لا محل لها فلبثت
مصغيًا حتى إذا ما انتهى إلى الخوض في العهد الجديد عرفت رأيه فإنه قال في
مخلِّصنا أقوالاً شاذة مناقضة لما أرى وأعتقد؛ ذلك أنه لا يعتقد بلاهوت المسيح
ويرى أن ليس في التوراة شيء من الوحي والنبوة عن يسوع بأنه المسيح.
فهنا يفنى الأستاذ دليتش المؤرخ الأثري في الأستاذ دليتش اللاهوتي فيبقى
هذا اللاهوتي ماثلاً بما فيه من النور والظلام معًا. إنني أنصح له بأن يخطو في
هذه السبيل خطوة بعد خطوة لائذًا بجانب التأني والحذر وأن يختص بهذه الآراء
الدينية رصفاءه اللاهوتيين ويودعها كتبهم وأن يكفينا الخارجين عن هذه الدائرة مثلنا
مؤنة البحث في هذه المسائل ولا سيما (جمعية الشرق) التي لم تنشأ لتكون ندوة
للبحث في جميع الآراء وإنما نبعثر الأرض [1] ونقرأ ما كتب على الآثار
المستخرجة منها لمساعدة العلم والتاريخ لا لتأييد الآراء الدينية أو تفنيدها. ويا ليت
دليتش لم يتجاوز في هذا العام الحد الذي وقف عنده في العام الماضي وهو
الاستدلال بما تستخرجه جمعيتنا من الآثار الشرقية على ما كان للمدينة البابلية
القديمة من التأثير في مدنية الإسرائيليين لنعرف العادات والأخلاق والشرائع التي
أخذوها من البابليين ونرى هل يوجد فيها ما يزكي البابليين مما تصفهم به التوراة
من الأوصاف التي لا شك في كونها شنيعة وغير عادلة، هذا هو حد شرطه الأول
وكان غرضه منه كبيرًا يجب علينا أن نشكره له؛ ولكنه من سوء الحظ قد تجاوزه في
هذه المرة.
(ولو أنه شرح المسألة وترك للسامعين استخراج النتائج الدينية منها لنالت
خطبته استحسان جميع السامعين؛ ولكنه طفق يناقش في مسألة الوحي فأنكرها
بالجملة والتفصيل ثم ظن أنه قادر على إثبات كون أصلها بشريًّا محضًا فارتكب
خطأً عظيمًا بما دمر على النفس [2] في باطنها وعبث بهيكلها المقدس في غير واحد
من سامعيه الذين تختلف عقولهم باختلاف طبقاتهم. سواء كان مخطئًا أو مصيبًا في
الواقع ونفس الأمر فإنه قد نكس في نفوس كثيرين أنفس الصور والاعتقادات
المقدسة عندهم وزلزل أساس إيمانهم إن لم نقل إنه نسفه في اليم نسفًا. وهذا عمل لا
يجسر عليه إلا أصحاب القرائح الملتهبة والعقول الكبيرة) .
***
أقيصران أم نبيان؟ !
(أما الوحي فهو في اعتقادي الذي كاشفتك به أنت وغيرك من قبل نوعان:
أحدهما تاريخي، وهو مستمر لا ينقطع. وثانيهما ديني خاصّ وكان تمهيدًا
لمجيء المسيح. أما الوحي الأول فهو أن الله يظهر دائمًا في الجنس البشري الذي هو
خليقته وصنيعته فإن نفخ في الإنسان من روحه أعني منحه شيئًا من ذاته [3] إذ أعطاه
نَفْسًا حية. وهو يراقب نمو الجنس البشري بعناية الأب ليحسن أحواله فيظهر تارة في
رجل عظيم هنا، وتارة في رجل آخر هناك سواء كان ذلك الرجل كاهنًا أو ملكًا
وسواء كان بين الوثنيين أو اليهود أو النصارى [4] وقد كان (حمورابي) من هؤلاء
الرجال كما كان موسى وإبراهيم وهوميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوته
وقَنْت والإمبراطور غليوم الكبير.
فإن الله اختار هؤلاء ورآهم أهلاً لأن يعملوا بحسب إرادته أعمالاً عظيمة
دائمة خدمة لأممهم، سواء كان ذلك العمل روحانيًّا أو عالميًّا، وكثيرًا ما كان جدي
يقول: إنه لم يكن إلا آلة بيد الله. ولا شك في أن ظهور الله تعالى في الأشخاص
يكون على حسب استعداد أممهم ودرجتها في الحضارة، ولا يزال يظهر هذا الظهور
حتى في عصرنا هذا (كأنه يومئ إلى أنه ظهر فيه الآن كما ظهر في جده من
قبل) .
(أما النوع الثاني من الوحي وهو الديني الروحاني الخالص فقد ابتدأ من
زمن إبراهيم ببطء وحكمة ولولاه لقضي على النوع البشري وقد نما وتسلسل نسل
إبراهيم على الاعتقاد بإله واحد وقد حفظته عناية الله تعالى بحفظه هذا الإيمان حتى
ختم هذا الوحي وانتهى بظهور المسيح الذي كان أعظم مظهر لله تعالى في هذا
العالم. ذلك أن الله ظهر يومئذ في شخص الابن بصورة بشرية (تعالى الله عن هذه
الوثنية) وهو مخلصنا الذي يملأنا حماسة ويدعونا إلى اتباعه وإننا لنشعر بناره
تأجج في أحشائنا، وبرحمته تعزينا. وإننا باتباع وصاياه نقتحم كل شيء لا نبالي
بالتعب ولا بالازدراء ولا بالحزن ولا بالفقر ولا بالموت؛ لأننا واثقون بالنصر
لسماعنا منه الوحي الإلهي الذي يصدق دائمًا.
(هذا هو رأيي في المسألة فإن (الكلمة) عندنا معشر البروتستنت بمنزلة
كل شيء وذلك بفضل (لوثر) علينا. وكان على (دليتش) أن لا ينسى ما كان
يعلمنا إياه لوثرنا العظيم وهو: (يجب عليكم أن تبقوا على الكلمة) .
(ومن البديهي عندنا أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من
البشر لا وحي الله. ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله اعتبر تلك الشريعة
موحى بها من الله إلا اعتبارًا شعريًّا رمزيًّا؛ لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن
شرائع أقدم منها على الأرجح وربما كان أصلها مأخوذًا من شرائع (حمورابي)
ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالاً بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل وبين
شرائع بني إسرائيل باللفظ والفحوى وذلك لا يمنع قطعيًّا من الاعتقاد بوحي الله
لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته. وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي:
(1)
إنني أومن بإله واحد.
(2)
إننا معاشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله إلى شيء يمثل إرادته
وأولادنا أشد احتياجًا منا إلى ذلك.
(3)
إن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا
بالتقليد.
وإذا فندت الاكتشافات الأثرية بعض رواياتها وذهبت بشيء من رونق تاريخ
الشعب المختار - شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك لأن روح التوراة يبقى سليمًا
مهما طرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال وهذا الروح هو الله وأعماله!
(إن الدين لم يكن من محدثات العلم فيختلف باختلاف العلم والتاريخ وإنما
هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله.
هذا وإنني مع الشكر والثناء أظل دائمًا صديقك المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
غليوم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إمبراطور وملك
(المنار)
هذا هو كتاب عظيم الألمان وهو على ما فيه من التمويه والمواربة والتعارض
والتناقض والميل مع ريح السياسة يدل على فهم ثاقب وفكرة وقادة وينبّئ عن بُعد
غور. ومجمل ما يقال فيه: إنه مذهب جديد أو دين جديد ويظهر أن هذا القيصر
يعتقد أو يدَّعي بأن الله جل وعلا قد ظهر فيه كما ظهر في جده غليوم الأول فكانا
نبيَّين أرسل أحدهما لتكوين الوحدة الألمانية، وثانيهما لحفظ مجدها وإطلاع كوكب
سعدها، وقد غمط حق من كان أحق منه ومن جده بهذا الظهور الإلهي المدعى وهو
البرنس بسمرك الذي كان آلة في يد الله وكان جده غليوم الأول آلة بيده. ولئن
غمط حق بسمرك فقد غمط حق من هو أعظم منه ومن إبراهيم وموسى وعيسى
وهو (محمد) عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام فهو الذي جاء عن الله
تعالى بعلوم وعمل بعناية الله تعالى أعمالاً لم يسبق ما يقاربها لغيره ولن يلحقه بما
يقاربها غيره، فشريعته أعدل من شريعة التوراة ولا يمكن أن يوجد اكتشاف يظهر
أنها مستفادة من شريعة أخرى والوحدة التي كونها بنفسه أحوج إلى المعونة الإلهية
المحضة من الوحدة التي كونها بسمرك وغليوم الأول؛ لأن تفرق قبائل العرب
وشعبها كان أشد ولم يكن عندهم من العلوم والمعارف والمدنية التي تقرب بعضهم
من بعض مثلما كان عند الولايات الجرمانية. ثم إن الوحدة العربية قد استتبعت من
الفتوحات ونشر العلم والمدنية في الممالك ما لم يكن مثله أو ما يقاربه للوحدة
الألمانية على أن تبرير هذه الأمة في العلوم غير مجهول؛ ولكن الفرق بين الأمتين أن
ظهور هذه كان في عصر العلوم والاكتشافات والاختراعات وظهور تلك كان في
بداوة وجاهلية وأمة أمية. فأيهما كان بالأسباب العادية، وأيهما كان بمحض العناية
الإلهية؟ !
* * *
الحكم العدل في الكلام
وخطوة أوربا أو وثبتها إلى الإسلام
في كتاب القيصر أفلاذ من الذهب النضار، وفيه كثير من الحصا وقطع
الفخار، وقد كاد يصل بذكائه إلى الحق ولكن بقي دونه حجاب نكشفه بعد بيان
نتائج كتابه وهي:
(1)
أن للعالم إلهًا واحدًا يدبره بقدرته، ويخص بعض العباد بمزيد معونته.
(2)
أن البشر في حاجة شديدة إلى معرفة الله تعالى بأن يكون بينهم وبينه
عهد وصلة ليعرفوا بذلك ما يريد بهم وما يرضاه منهم.
(3)
أن الله تعالى قد وهب البشر هذه الحاجة بالوحي الديني.
(4)
أن حقيقة الوحي هي ظهور الله تعالى في البشر بأن ينفخ فيهم من
روحه - أي يعطيهم شيئًا من ذاته - وهو قسمان: ديني محض، وغير ديني
محض.
هذه أربع نتائج عامة كلها مستفادة من كلامه وهي صحيحة إلا الأخيرة منها
فإنه قارب فيها الحق ولكنه لم يصل إليه. والصواب أن فاطر السموات والأرض لا
تتجزأ ذاته وأن البشر - وإن كانوا مكرمين ومفضلين على كثير من المخلوقات - لا
يخرجون عن كونهم جندًا صغيرًا من جنوده التي لا تحصى فليس من العقل ولا من
الحكمة أن نغتر بأنفسنا حتى نحصر الذات الإلهية في أفراد منا دون هذا العالم
الكبير الذي تعد أرضنا كتلة صغيرة منه، وجميع ما فيها من الأحياء كالذرات
الصغيرة التي نراها تعيش في كتلة من هذه الأرض.
ولكن هذا العالم العظيم الذي يدهش الواقفين على بعض أسراره بنظامه
وإحكامه لم يكن هذا النظام العام فيه بفعل هذه الأجسام التي نعرفها بحواسنا؛ ولكن
الله تعالى بث فيه عالمًا روحانيًّا غير منظور جعله علة لهذا الإحكام والنظام. وقد
لمحت عقول البشر هذا العالم في طور وثنيتهم فسموه عالم الآلهة، وزعموا أن لكل
أمر عام إلهًا خاصًّا يدبره. ولكن الأنبياء سموه عالم الملائكة. وقولهم هو الحق
لأنهم عرفوا ذلك بالوحي.
والوحي عبارة عن اتصال روح النبي بروح من هذه الأرواح واستفادته نوعًا
من العلم منه.
الروح الذي يفيض العلم على الأنبياء يسمى بلسان الدين الروح الأمين وروح
القدس عبر عن اتصاله بروح النبي لإفادة العلم بلفظ النزول قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52) وأما العلم الذي يستفيدونه من هذا الوحي
فأهمه معرفة الله تعالى على الوجه الصحيح ومعرفة الحياة الآخرة، ويلي ذلك بيان
الأعمال النفسية والبدنية التي تؤيد هذا الاعتقاد وتقويه وترقي النفس الإنسانية.
والفرق بين علم الأنبياء الذي يسمي وحيًا وبين علم هوميروس وشارلمان ولوثر
وشكسبير وبسمرك وغليوم الأول وغليوم الثاني وأمثالهم أن علم الأنبياء لم يكن
مكتسبًا وإنما كان يقع لهم بواسطة الروح الذي ينزل على قلوبهم، وأن موضوعه ما
ذكرنا من أمر الإيمان وحفظ الصلة بين العبد وربه.
وأما علم أولئك الملوك والشعراء فقد كان كسبيًّا وموضوعه ليس متعينًا فهو
خيالات وتصورات وحكايات وسياسات منها الحق والباطل، ومنها الحالي والعاطل،
ولا معنى للقول بأن كل نابغ في شيء من الأشياء يسمى نبيًّا وعلمه وعمله وحيًا
إلا إذا أردنا أن نجعل الوحي أمرًا عاديًّا كما يقول الذين أنكروا الوحي في أوربا
لسقوط ثقتهم بالكتب المنسوبة للأنبياء والقيصر أرقى عقلاً أن يقول بذلك وما قلناه
قريب من قوله ولعله لو وقف عليه لقال به.
وأما النتائج الجزئية في كلامه فهي:
(1)
أن الوحي الديني الروحاني المحض قد بدئ بإبراهيم وانتهى بالمسيح.
(2)
أن ظهور الله في المسيح كان أعظم ظهور له في هذا العالم.
(3)
أن اتّباع وصاياه كافية لاقتحام كل شيء ثقة بالنصر.
(4)
أن ما في التوراة من التاريخ والشرائع والأحكام بشري مستفاد من
البشر وليس وحيًا من الله ولا يمنع ذلك كون موسى نبيًّا.
(5)
أنه ليس عندنا شيء نتخذه عهدًا بيننا وبين الله تعالى فنعرف به مراده
بنا وما يرضاه لنا إلا هذه التوراة. وإن ما فيها من الكذب على الله تعالى بنسبة
الشرائع إليه ومن الكذب في التاريخ المقدس لا يحول دون ذلك!
وهذه النتائج كلها غير صحيحة فإن التوحيد قد عرف عند الأمم قبل إبراهيم
وبعث قبله أنبياء دعوا إلى مثل ما دعا إليه هو والأنبياء من ذريته؛ ولكنهم انقرضوا
وعفت آثارهم، وإن ظهور الله - عنايته ووحيه - في المسيح كان دون ظهوره في
موسى فإنه كان متبعًا شريعته مع إصلاح قليل؛ ولذلك قال: (ما جئت لأنقض
الناموس) وإن ظهوره في محمد كان أعظم من ظهوره في إبراهيم وموسى والمسيح
فمَن دونهم من البشر؛ لأنه هو الذي صدق عليه وحده القول المأثور عن المسيح عليه
السلام:
(12 أن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا
الآن 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم
من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية 14 ذاك يمجدني لأنه يأخذ
مما لي ويخبركم) (16 يو) .
فقد صرح بأن الناس لم يكونوا مستعدين في ذلك العصر لمعرفة كل الحقائق
الدينية، وقد علّم محمدٌ الناسَ جميع الحق في العقائد المبنية على البرهان والعبادات
المؤثرة في الروح والأخلاق المبنية على الاعتدال والأحكام المبنية على العدل.
وأسس دينًا - هو وإن ضعف زعماؤه - أرسخ الأديان وأقواها، وشريعة هي - وإن
قل أنصارها - أعدل الشرائع وأعلاها، وأمة كانت باتباعه أعز الأمم وأنماها، نعم،
إنها الآن مريضة ولكنها ستبل إبلالاً، وتعود لها السيادة الأولى إن شاء الله تعالى.
هذه إشارة إلى بطلان النتيجة الأولى والثانية.
وأما الثالثة فبطلانها أظهر؛ لأن هذا القيصر وأمته أبعد الناس عن وصايا
المسيح التي تدور على الزهد المطلق والذل وترك الانتصار للنفس ولو اتبعوا
وصايا الإنجيل لضربتهم فرنسا عن الخد الأيمن (الإلزاس) فأداروا لها الخد
الأيسر (اللورين) .
وأما الرابعة فقد جمعت بين النقيضين، وهما كون موسى يدعي أن شريعته
وحي من الله وما هي بوحي من الله، وإنما نقلها عن شرائع الأمم الوثنية وكونه مع
ذلك نبيًّا موحًى إليه من الله! ولا ندري ما هو هذا الوحي المبهم إذا لم تكن الشريعة
وحيًا ثم لا ندري ما هو الدليل على هذا الوحي؟ ! . هذا رأي يمكن أن يُقبل في
حيز السياسة لا في حيز الدين، ويمكن أن يقال باللسان، ولا يمكن أن يستقر في
الجَنان.
ومن العجائب أن البابا وافق على رأي قيصر الألمان في كون شريعة التوراة
وتاريخها من وضع البشر لا من وحي الله كما جاء في بعض الصحف؛ ولكن ماذا
يصنع البابا إذا لم يجد منفْذًا لدفع الشبهة ولا طريقة لحل الإشكال؟
ماذا يصنع وقد أقنعه بذلك العلم والاكتشافات التي لا يكاد يخفى عليه شيء
منها وهو في الدرجة العليا علمًا وعقلاً وسياسةً؟ لعله لا يوجد في الأرض مَن هو
أحرص من البابا ومن غليوم الثاني على المحافظة على التوراة وتقديسها ولا من هو
مثلهما علمًا، وقد أعياهما حل هذا الإشكال مع طول باعهما وسعة اطلاعهما وكثرة
أتباعهما من العلماء والحكماء.
* * *
آية جديدة للقرآن
وإن تعجب فأعجب العجائب أن القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا قد نطق بما أثبته
العلم وأيدته الاكتشافات في هذا العصر، وحل الإشكال حلاًّ لا بد أن يرجع إليه جميع
العلماء في وقت قريب. وهذه معجزة ظاهرة، أو نبوة باهرة - كما يقولون - ولا
غرو فالقرآن لا تنتهي عجائبه، وهو حجة الله على العالمين منذ أُنزل إلى يوم
الدين، حكم القرآن بأن بني إسرائيل نسوا حظًّا من الوحي الذي ذكرهم الله تعالى به
على لسان موسى عليه الصلاة والسلام وحفظوا حظًّا آخر وقع فيه شيء من
التحريف والكذب. قال تعالى (في سورة آل عمران 23) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم
مُّعْرِضُونَ} (آل عمران: 23) وقال في (سورة النساء) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن
مَّوَاضِعِهِ} (النساء: 44-46) إلخ. وقال بعد آيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: 51) ، وقال تعالى (في سورة المائدة 13) بعد
ذكر أخذ الميثاق على بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًًا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (المائدة: 13) .
وهذا الحكم هو المعقول وإنما ظهر صدقه وكونه معقولاً في هذا العصر فصح
قول المسلمين في القرآن (لا تنقضي عجائبه، ولا تتناهى غرائبه) فيا له من
معجزة تفيض بالمعجزات الكبيرة، ويا له من آية بينة تنطوي على آيات كثيرة،
أنَّى لأمي نبت في أرض جاهلية، وتربى في أمة أمية أن يحكم على شريعة كانت
أم الشرائع، وتاريخ أمة كانت أشرف الأمم حكمًا لم يعرف عن علماء
الشرائع والقوانين، ولا عن مدوني القصص والتواريخ، فيحز في المفصل،
ويقول القول الفصل، ويأتي بكلمتين ثنتين لا تبلغ مساحتهما في الكتابة سطرًا
واحدًا: {فَنَسُوا حَظًًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) ، {.. أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ
الكِتَاب} (آل عمران: 23) ؟ تتمخض الأيام والسنون، وتمر الأجيال والقرون،
ثم لا تظهر حقيقة تأويلهما إلا بعد أن تنبث دفائن الأرضين، وتستخرج منها آثار
الغابرين، ليتم قول الكتاب أيضًا:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وقوله:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:
53) . {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا
كَثِيرًا} (النساء: 82) أفلا يتأملون في قوله للنبي الأمي الذي أنزل عليه: {وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
فإلامَ الشك والارتياب، وقد ظهرت آياته لأولي الألباب؟ !
بهذا الحل يتبرأ موسى عليه السلام من شبهة الكذب على الله تعالى وتتبرأ
شريعته من شبهة الاقتباس من الشرائع البشرية لأن هذه الشريعة لو كانت موجودة
بالنص الذي كتبه موسى عن الوحي الإلهي لظهر الفرق بينها وبين شريعة
(حمورابي) وتبين أن المشابهة بينهما قليلة لا تصلح شبهة على اقتباس المتأخرة
من المتقدمة. على أن التوافق بين الشرائع في بعض المسائل أمر طبيعي سواء
كانت سماوية أو بشرية أو بعضها سماوي وبعضها بشري؛ لأن الوفاق في الطبائع
وحال الاجتماع يقضي بالوفاق في الأحكام. ومازالت تتوارد خواطر العلماء
والشعراء على بُعد الدار، واختلاف الأعصار، وإذا كنا لا نرى دليلاً أو أمارة
على أن أحدهما أخذ عن الآخر فلا يجوز لنا أن نحكم بهذا الأخذ. والدليل على أن
التوراة الحاضرة قد اقتبس بعضها من البابليين واضح مما في سفر عزرا ومما
أظهرته الاكتشافات. ويدل سفر عزرا وغيره أيضًا على ما يقضي به العقل من عدم
نسيان بني إسرائيل شريعة الرب فتعين أن يكون الحاضر مزيجًا. فقد اتفق في
المسألة العقل ونقل كتب العهد العتيق والتاريخ والآثار على تصديق القرآن في
حكمه على بني إسرائيل وشريعتهم.
فعلى عظيم الألمان ومقدس الكاثوليك (البابا) أن يرجعا إلى حكم الله تعالى
في المسألة فهو أفضل من حكمهما الذي يزيل ثقة جميع النصارى بالوحي وكتبه
ويجعلهم إباحيين مفسدين للعمران. وليعلم الزعيمان العظيمان أن دين الله تعالى
واحد، وأن تلك الأديان قد نسي بعضها ونسخ الباقي؛ لأن الله تعالى أراد أن يعطي
البشر ما هو أكمل منها كما قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) فعليهما أن يتركا
التعصب لقومهما وأن يكونا زعيمين للبشر كافة لا للألمان والكاثوليك أو النصارى
خاصة، وذلك بأن يأخذا بجوهر الدين الخالص الذي بيَّنه القرآن وهو الكتاب
المحفوظ الذي لا ريب فيه الذي جاء بالحق وصدق المرسلين وإذا تأملاه بإخلاص
فلا شك أن نور الحق يشرق عليهما كما أشرق على كثير من أهل العلم في أوربا.
جاء في كتاب (ديانات الأمم وعقائدهم) للأستاذ ليننز ما خلاصته:
(إن دين الإسلام دين يوافق الناس كافة ويجعلهم أمة واحدة وإنني أؤمل أن
أرى النصارى بعد حين آخذين بدرس هذا الدين والتدين به وموالاة محمد - عليه
الصلاة والسلام -؛ لأن دينه الدين القويم المبين) (راجع 5 الصفحة 292-300
من هذا الكتاب المطبوع في لندن سنة 1901 ومثل هذا القول أقوال كثيرة) .
وقد بينا في مقالة (مسير الأنام ومصير الإسلام) بعض المبشرات التي تدل
على خطوات أوربا إلى الإسلام من حيث تدري ولا تدري وإننا نعد هذا الاكتشاف
الجديد الذي أيد القرآن وما قاله عظيم الألمان وحبر أحبار الرومان فيه خطوة من
تلك الخطوات، بل وثبة من الوثبات.
…
...
…
والعاقبة للمتقين، والله ولي المؤمنين.
_________
(1)
بعثر الشيء: استخرجه فكشفه وبعثره أثار ما فيه وهو استخراج نحو المدفون والخفي وإظهاره لمعرفة حقيقته ومنه قوله تعالى: [وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ](الانفطار: 4) .
(2)
دمر: دخل بدون استئذان و (ما) مصدرية.
(3)
يتوهم أهل الحلول مثل هذا منشأ وثنيتهم وذات الله تعالى لا تتجزأ وإنما هي عنايته يمنحها من شاء من عباده.
(4)
انظر كيف لم يعد المسلمون أمة منفردة وما كان ذلك جهلاً ولكنه التعصب.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة العاشرة
(فيما ينبغي عليه التعويل)
(المسألة الرابعة عشرة) استدل منكرو الكرامات من المعتزلة وبعض علماء
السنة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي ومن على رأيهم بسبع حجج على
نفي الجواز، وتقدم بسطها وما قالوه في الجواب عن بعضها في المقالة الثالثة
(449-2) واستدل المثبتون بأربع حجج كما ذكر السبكي في الطبقات الكبرى
وهي ترجع إلى شيء واحد هو أنها وقعت بالفعل كما يعلم من بعض قصص القرآن
والآثار المروية عن الصحابة.
وتقدم في المقالة الرابعة بيان أن تلك القصص لا دليل فيها يصلح حجة في
هذا المقام إلا على ما يسمونه الإلهام وما في معناه من مكالمة الملائكة، وكان ذلك لأم
موسى وأم عيسى عليهما السلام (راجع 481-2) وفي المقالة الخامسة والسادسة
أنه لم يثبت بسند صحيح من الكرامات المأثورة عن الصدر الأول إلا مثل ذلك
الإلهام أيضًا، واستجابة الدعاء والبركة في الطعام (راجع 545-2و657-2) .
(المسألة الخامسة عشرة) أن ما يقال عن الصحابة (عليهم الرضوان) من
هذه الكرامات - ما صح سنده منه وما لم يصح - يعد على الأنامل لقلته وصار
المسلمون كلما بَعُد الزمان وقل العلم وكثر الفسوق والعصيان يكثر فيهم القول بهذه
الكرامات حتى إنهم يعدون لبعض الشيوخ المتأخرين ما يكاد يتجاوز عقد المئين. وهم
متفقون على أن الصحابة أفضل ممن بعدهم من الأولياء بلا قيد ولا استثناء. وقد
أجاب بعضهم عن هذا بأن المسلمين كانوا في عصر الصحابة وما يقاربه أقوياء
الإيمان فلم يكونوا محتاجين إلى كرامات وخوارق تقوي إيمانهم. وهذا الجواب مبني
على قاعدتهم التي ذكرها السبكي وغيره وهي أنه لا يجوز إظهار الكرامة إلا عند
ضرورة شديدة كتقوية إيمان شاك، وصواب القول في الجواب أن أهل الصدر الأول
من الصحابة والتابعين كانوا لقوة إيمانهم ويقينهم لا يكذبون ولا يخادعون الناس
بالوهم ولذلك لم يدَّعوا هذه الخوارق التي ربما كانوا أحوج إليها ممن بعدهم لإقامة
الحجة على المشركين والكافرين الذين كانوا مشتغلين بدعوتهم ومجاهدتهم. ولكنهم
لرسوخهم في معرفة مقاصد الإسلام كانوا يكتفون بالحجج المعقولة ولا يعتمدون على
شيء من الخوارق الكونية التي يضل فيها الفهم، ولا يهتدي فيها الوهم، وهذه
المسألة كنا وعدنا ببيانها في المقالة السادسة.
(المسألة السادسة عشرة) أن ما يصح أن يسمى كرامة من هذه الغرائب التي
تظهر على أيدي الناس هو ما كان ثمرة لارتقاء الروح، وصفاء النفس؛ بل هذا هو
معنى ما ذكروه في كتب العقائد كما تقدم في المسألة الثامنة. وإذا كان الأمر كذلك
فالواجب أن تبقى هذه الثمرة معلقة بهذه الشجرة أي: يجب أن لا تتجاوز هذه
الخصوصية أهلها الخواص. فإذا تجاوزتهم إلى من لا يعرف منشأها كانت فتنة له
وضارة به؛ ولذلك قال كبار الصوفية والمتكلمين المثبتين للكرامات بوجوب إخفائها
لأنها فتنة للناس وضارة بهم ومن مبالغتهم في ذلك القول المأثور عن الشيخ أحمد
الرفاعي: إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض! .
(المسألة السابعة عشرة) أكبر ضرر وأعظم فتنة في فشو الاعتقاد
بالكرامات بين العامة وكونها عند الصالحين صناعة من الصناعات، وأنها زلزلت
قاعدة العقائد الكبرى وهي توحيد الله تعالى وأوقعت الناس في ضروب من الشرك
الأصغر والأكبر. وليس زلزال التوحيد محصورًا في اعتقاد تعدد الخالقين
للسموات والأرض المشتركين في الإيجاد والتكوين وإنما الشرك في التماس المنافع
أو دفع المضرات من غير الله تعالى، وبواسطة غير سننه التي أقام بها نظام الكون
وجعل الانتفاع بها عامًّا لجميع خلقه.
بل ورد في الأحاديث تسمية الرياء في العبادة شركًا فكيف لا يكون دعاء
غير الله تعالى شركًا. روى أحمد وابن ماجه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وصححه من حديث شداد بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي
فقلت: ما يبكيك؟ ! فقال: (إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون
صنمًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولكنهم يراؤون بأعمالهم) ! وإنما سمي الرياء
شركًا؛ لأن المرائي يطلب منفعة من المرائَى والمنافع لا تطلب إلا من الله تعالى ومن
الطرق والأسباب التي سنها لها. والغرض من العبادة طبع ملكة الاعتماد على الله
تعالى في القلب لتقوية التوحيد فإذا لوحظ بها الناس وفعلت رئاءهم فقد قطعت
طريق التوحيد ودلت على عدم تمكنه من النفس. فما بالك بمن يعتمد على غير الله
تعالى ابتداءً ويجعله حجابًا بينه وبين الله يزعم أنه يقربه إليه زلفى.
ولو كان الشرك عبارة عن تعدد الخالقين لما كان فيه ما هو أخفى من دبيب
النمل.
روى ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد والطبراني من حديث أبي موسى
الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (أيها الناس
اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل) فقالوا: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب
النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه
ونستغفرك لما لا نعلمه) وروى غيرهم عن غيره أحاديث بمعناه منها حديث ابن
عباس عند الحكيم الترمذي: (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا) .
إذا عدت عيناك عما تشاهد كل يوم من العامة لا سيما في أضرحة
الصالحين. ونبا سمعك عما تسمع منهم من دعاء غير الله، والاستغاثة والاستعانة
بغير الله، وطلب الحوائج ورد البلاء من غير الله والتماس الصدقات (على قبول
فلان وفلانة) من دون الله، وقلت كما قال بعض علماء الأزهر: إن هؤلاء العامة
لا يعقلون التوحيد وإن الإمام محمدًا صاحب أبي حنيفة قال في عامة زمنه وهم خير
منهم: (لو كانوا عبيدى لأعتقتهم وأسقطت حق الولاء) فهل تعدو عينك عما ترى
في الكتب المنتشرة كانتشار الجهل في العبارات الشركية التي تقشعر منه جلود
الموحدين، كقولهم في كتاب ترياق المحبين وكتاب طبقات الوتري وغيرهما من كتب
الرفاعية: (إن عبد الرحيم الرفاعي كان يميت ويحيي ويفقر ويغني ويسعد ويشقي)
وقولهم إن أحمد الرفاعي وصل إلى مرتبة صارت السموات السبع في رِجْله
كالخلخال! . ولهم في هذين وغيرهما أقوال أخرى يتبرأ منها حتى دين بولس ودين
بوذا!
وقد ذكرنا في المسألة الثامنة كلمتهم التي يجعلون إرادة الله تعالى فيها تابعة
لإرادتهم. وإنك لتجد من حَمَلَة العمائم من يصحح مثل هذه الأقوال ويحرف كلام
القرآن عن مواضعه للتوفيق بينه وبينها.
وإذا بحثت عن سبب هذا الغلو كله تجده الاعتقاد بالكرامات بغير قيد ولا حد
ولا حساب. قالوا: يجوز إظهار الكرامة لتقوية الإيمان؛ ولكننا نرى إظهارها كان
أكبر جناية على أساس الإيمان. وأما هؤلاء العامة الذين قوي إيمانهم بأصحاب
القبور المشرفة (خلافًا لنهي الشارع عن تشريفها) فلو لم يعلموا بشيء من هذه
الكرامات لما كان إذعانهم وتسليمهم بالدين ينقص ذرة؛ لأن الدين عندهم تقليدي في
أحكامه وفروعه، وجداني فطري في أصله.
(المسألة الثامنة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بالكرامات إباحة
الموبقات وتحريم الواجبات، وذلك أنه استقر عند العامة وأكثر الذين يعدون من
الخاصة أنه لا يجوز الإنكار على الأولياء وما الأولياء عندهم إلا من تظهر على
أيديهم العجائب والخوارق؛ لأن المعصية التي تشاهد منهم لا بد أن تكون صورية لا
حقيقية ولذلك يجب تأويلها. فإذا رأيت أحدهم يشرب الخمر فاعتقد أنها انقلبت
عينها كرامة له فصارت لبنًا أو عسلاً أو شربًا آخر من الأشربة المباحة، وإذا رأيته
يترك الصلاة فاعتقد أنه يصلي بمكة أخذًا من قول السيد البدوي في الرد على الذين
اتهموه بذلك:
وفي طندتا قالوا صلاتي تركتها
…
ولم يعلموا أني أصلي بمكة
أصلي صلاة الخمس في البيت دائمًا
…
مع السادة الأقطاب أهل الطريقة
ولهم في هذه التأويلات حكايات غريبة يسخر العقلاء من بعض المستفيض
منها، كزعمهم أن بعضه رؤي يأتي الفاحشة ثم تبين أن سفينة كانت خرقت في البحر
وأشرفت على الغرق فبادر ذلك الولي إلى سد الخرق بما كان منه!
(المسألة التاسعة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بهذه الكرامات عدم ثقة
جماهير المعتقدين بها بالعقل وقضاياه ونظام الكون وسننه فهم دائمًا أسرى الأوهام،
وعبيد الخيالات والأحلام، فضعفت بذلك المدارك، وانقلبت في التصور الحقائق،
وصار معظم الناس يخضع للدجالين، ويؤمن بالمشعوذين والعرافين، ومن أنكر
عليهم شيئًا من ذلك اتهموه بالفلسفة ورموه بفساد العقيدة؛ فالعرافة والكهانة عندهم
إيمان، والحكمة (الفلسفة) كفر أو عصيان، والله تعالى يذكر في كتابه أنه بعث
رسوله ليعلم الناس الحكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:
269) ، ويقول نبيه فيما علّمنا من الحكمة: (مَن أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما
يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة. وروى
أحمد ومسلم في صحيحه عن بعض أمهات المؤمنين أن النبي e قال: (من أتى
عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين يومًا) نعم، إنهم لا يسمون هؤلاء
المخبرين عما وقع وعما يتوقع كهانًا وعرافين لما كان من الخلل في اللغة، والعبرة
بالحقائق لا بالأسماء. فإذا كان العراف يخرج عن كونه عرافًا بتسميته وليًّا مكاشفًا
فالخمر تخرج عن كونها خمرًا بتسمية بعض أصنافها كونياك أو شمبانية. ومثل
هذا يقال في تسميتهم الاستعانة بغير الله توسلاً وما أشبه ذلك.
وإن وراء الخضوع للدجالين والعرافين الذين يدعون الكرامات مفاسد لا يكتنه
كنهها ولا تحصي أنواعها وأفرادها فمن الناس من يبذل لهم المال، ومنهم من
يحكمهم في النساء والعيال، وإننا لنعرف أشخاصًا من هؤلاء الدجالين قد اشتهر أن
النساء يتجردن لهم فيكتبون من طلاسمهم وحروفهم على بطونهن ما يزعمون أنه
ينفع لحبل العاقر، أو يحبب البغيض منهن إلى زوجها أو غيره ممن تهوى. ومنهم
من يخلو بالنساء متى شاء من ليل أو نهار برضى أزواجهن الذين يعتقدون أن
هؤلاء من المقربين عند الله تعالى فلا يمكن أن تقع منهم الفاحشة فالرجل يكون ديوثًا
وصاحب الكرامة فاجرًا أو قَوَّادًا وكل ذلك ببركة الاعتقاد بالخوارق والكرامات
ولولاها لما كان شيء من ذلك بهذه الصور.
(المسألة العشرون) من مضرات الاعتقاد بهذه الكرامات ترك مجموع الأمة
الاهتمام بأمورها العامة اعتقادًا بأن هذه الأمور قد وكلها الله تعالى إلى رجال الغيب
فلا يجري في الأمة شيء إلا ما قرروه في الديوان الأعلى، وما قرروه قضاء لا مرد
له إلا أن يكون بتصرفهم. وفي كتب الصوفية كلام كثير عن هذا الديوان ومحله
ورياسته وأعضائه ولغتهم وأعمالهم. وقد كان من أسباب خضوع بعض البلاد
الإسلامية المعروف عن أهلها الشجاعة والأنفة للأجانب قول بعض المعتقدين من
أهل الطريق: إنه علم من أهل الله أن الله قد سلط الأجانب على تلك البلاد عقوبة
لها!
وينقلون أن أهل الشام رغبوا إلى ولي كبير كان عندهم أن يدفع عنهم إغارة
تيمور لنك فخرج فوجد الخضر على مقدمة جيشه، فقال: أنت معه؟ فقال: نعم
أنا وربك! فعلموا أن مقاومته عبث؛ لأنها محاربة لله تعالى!
وقد أشيع في إثر الاحتلال الإنكليزي في هذه البلاد أن بعض الصالحين
استغاث بأهل البيت وبالسيد البدوي لإخراجهم، فكشف عنه الحجاب فرآهم مقيدين
بسلاسل وقيل له: إنهم حاولوا إخراجهم فقُيدوا؛ لأن الله تعالى أراد هذا الاحتلال!
أمثال هذه الحكايات تسري في الأمة سريان الأوبئة، تظهر الحكاية اليوم في
بلد فيسمعها في اليوم التالي أهالي مئة بلد ولا يمر أسبوع إلا وتراها قد عمت
الديار، وجابت الأقطار وقال الأول للآخر: إنها منقولة بالتواتر!
(المسألة الحادية والعشرون) من مضار الاعتقاد بهذه الكرامات أنها حجاب
دون العلوم الكونية في نظر الدهماء وذلك أنهم يرون الذين يأخذون بهذه العلوم
يحتقرون الدجاجلة الذين يدَّعون هذه الكرامات ويحتقرون الذين يخضعون لهم
ويعتقدون بهم فينسبون ذلك إلى العلم ويعدونه من ثماره وهو شر الثمار عندهم،
ويمقتون العلم ومنهم من يجعله يريد الكفر؛ لأجل ذلك وكفى بذلك ضررًا لا سيما في
هذا الزمن الذي بُنيت فيه السيادة والسلطة على العلم.
(المسألة الثانية والعشرون) من مضار الاعتقاد بالكرامات على الوجه
المعروف ومشايعة العلماء للعامة على جميع مظاهرها وما يتعلق بها ولهجهم
بحكاياتها واحترامهم لدعاتها وأدعيائها أنها نزلت منزلة العقائد الدينية والقواعد
الأساسية للدين، وصار غير الراسخ في العلم يعتقد أن منكر هذا الحكايات فيها كافر
وكانت نتيجة هذا أن الذين تعلموا على الطريقة الأوربية وعقلوا فعلموا أن هذه
الحكايات إما دجل وشعوذة، وإما أكاذيب ملفقة صاروا يشكُّون في الدين من أصله
لاعتقادهم التقليدي أن الدين مبني عليها، وما بُني على الفاسد فهو فاسد وقد صرّح
غير واحد من علماء الاجتماع وطبائع الملل بأن العقبة الكبرى في طريق الإيمان
لهذا العهد هي عقيدة كون الخوارق أصل الدين الأساسي. وقد تقدم في المسألة الحادية
عشرة أن ذلك غير صحيح حتى في أديان الشعوب المنحطَّة التي كانت تمهيدًا لدين
الارتقاء (الإسلام) فكيف تكون أصلاً له؟ !
(المسألة الثالثة والعشرون) لا نعرف شعبًا من الشعوب دخل في الإسلام
بسبب هذه الكرامات، وإذا كان وجد في الناس مرتابون أزال ريبهم مشاهدة الكرامات
فلا نظن أنهم يبلغون عشر معشار الذين فسدت عقائدهم بسبب جعل هذه الغرائب
من الدين. وإذا فرضنا التساوي فلنا أن نقول: مصلحة بمفسدة وتبقي مفاسد أخرى
ليس بإزائها مصالح وقد ذكرنا أهمها آنفًا فتكون النتيجة أن إثم هذه الاعتقاد أكبر من
نفعه!
(المسألة الرابعة والعشرون) أن الذي ينبغي أن يعول عليه هو تحكيم قاعدة
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وتعلم الأمة عدم الثقة بهذه الخوارق وعدم
تصديق المنتحلين لها والمبالاة بهم. فإن كانوا من أولياء الله وأصفيائه فحسبهم
عناية الله بهم وكفايته لهم فمن كان وليًّا لله فالله ولي له ومن لم يكتفِ بولاية الله
تعالى عن التعرض للناس فهو ولي الشيطان:
من عرف الله فلم تغنه
…
معرفة الله فذاك الشقي
وإذا كان لهؤلاء الأصفياء مزايا روحانية أكرمهم الله تعالى بها فالواجب كما
قال أئمتهم أن لا يفشوا سر الربوبية وعلى غيرهم من المسلمين أن يعتقد فيهم ذلك
فينكر خلافه.
وهنا نرجع إلى مذهب جمهور أهل السنة فنقول: إن الكرامة جائزة ولكن لا
يجب على أحد أن يعتقد بكرامة معينة لأحد معين، وهذا المذهب موافق لقاعدة
كتمان الكرامة. ونتيجته أن هذه الحكايات التي تُثبت لأشخاص معينين كرامات لا
نهاية لها لا يوثق بها ولا يعول عليها والصواب أن تقاس على أمثالها عند أهل الملل
الأخرى فإن سنة الله فيهم وفينا واحدة. فإن صحت عنده رواية شيء منها بعد
التحري الذي أشرنا إليه في المقالة السابقة فليعرضه على وجوه التأويل في المقالات
اللاحقة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوى صلب المسيح
(2)
تكلمنا في الجزء الماضي عن تمويه محرر مجلة البروتستانت على بعض
عوام المسلمين في هذه المسألة وأقوى ما يخادعون به أنه لا يعقل أن رجلاً مشهورًا
كالمسيح يشتبه على اليهود وشرطة الرومان فلا يميزونه من غيره. وفاتنا أن نذكر
أن في الأناجيل عبارات كثيرة تدل على أن الاشتباه حصل بالفعل. وقد كتب إلينا
من السويس كاتب في ذلك فرأينا أن ننقل عبارته بنصها وهي:
(قد اطَّلعت على ما جاء في المنار ردًّا على بشائر السلام في مسألة صلب
المسيح) .
ولما كنت قد كتبت على المجلة المرسلة إليَّ من نقولا كتابة في هذا الشأن
ورددتها إليه رأيت أن أطلع حضرتكم على مضمون ما كتبت فلعلك تجد فيه ما
يناسب المنار، وإن كان ما كتبته موجزًا فعلى المنار الإيضاح والمراجعة والتفصيل.
قلت عند قوله: (قال المفسرون إن الله ألقى شبهه.. إلخ) إن المفسرين
قسمان قسم يفسر من طريق الإيمان على سنة المسيحية وهم الذين نقلت قولهم، وقسم
يفسر من طريق العلم والعقل على سنة الإسلام وقد فسروا هذه الآية بما لا يبعد عما
ورد في أناجيلكم التي تقرؤونها ولا تفهمونها، ورد في الإنجيل أن المسيح قال
لتلامذته: إنكم ستنكرونني قبل أن يصيح الديك.. إلخ (أنكرت الشيء لم أعرفه)
وورد أيضًا فيه أن المسيح خرج من البستان فوجد أعداءه فقال لهم: مَن تطلبون؟
فقالوا: المسيح. فقال: هو أنا ذا فقالوا: إنما أنت بستاني ولست بالمسيح وهكذا
كانوا كلما وجدوه أنكروه وخانتهم أبصارهم في رؤيته وعمي عليهم واشتبه منظره
(وخيانة النظر ثابتة قطعًا) فلما أعيتهم الحيل استأجروا يهوذا الإسخريوطي بثلاثين
درهمًا ليدلهم عليه لتمكُّّّنه منه فلا يشتبه عليهم، وهذا في الإنجيل أيضًا فهذه الحيرة
المفضية إلى استئجار دليل يدل عليه مع ملاحظة أنه رُبِّيَ في وسطهم وكانوا
يعجبون بفصاحته وحكمته كما هو وارد في الإنجيل أيضًا تدل بأجلى بيان وأوضحه
على أنهم كانوا في شك منه، وكان يشبه لهم بغيره فكلما اجتمعوا عليه اشتبه عليهم
وعمي في نظرهم وخانتهم أبصارهم وظنوه غيره وما حصل لهم حصل لدليلهم
(يهوذا) وقد ورد في الإنجيل أنهم حينما ساقوه للصلب كانوا يستحلفونه: هل أنت
المسيح؟ فكان يقول: هذا ذا فمنه يعلم أنهم كانوا لم يزالوا في شكهم حتى بعد
الاستئجار ووجود المرشد والدليل، فلما أعياهم الأمر عمدوا إلى مَن غلب على ظنهم
أنه هو المسيح والمسيح في السحابة البيضاء مع موسى كما في الإنجيل أيضًا ثم
صلبوا ذلك الرجل الذي كانوا يستحلفونه، وغلب على ظنهم أنه هو المسيح فهل كل
هذا كان لظهور المسيح واضحًا لهم أو لأنهم كلما طلبوه شُبه لهم وألقى شبه غيره
عليه وعمي عليهم وخانتهم أبصارهم فعمدوا إلى يهوذا واستأجروه ليدلهم عليه، فما
كان بأمثل منهم في ذلك وأدتهم خاتمة المطاف إلى أخذ من غلب على ظنهم أنه هو
وصلبوه، وما هو منه بشيء بل المسيح ساخر منهم ضاحك عليهم يقول: أنا المسيح!
فيقولون: لست هو، حتى قتلوا غيره وصلبوه وهو محجوب عن أنظارهم
مشتبه عليهم قد شُبه لهم بالبستاني مرة وبغيره أخرى وبذلك نجَّاه الله من كيدهم فما
نالوه بسوء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّن} (النساء: 157) المبني على إرشاد يهوذا
المشكوك فيه كما علمت من نص الإنجيل {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (النساء: 157) .
هل فهمت يا حضرة المبشر الآية وكيف كانت عبارات الإنجيل حجة للإسلام
لا عليه؟ . فاقرؤوا الأناجيل وافهموها؛ فقد وسع الله لكم على يد البروتستانت ولا
تكونوا كالذي يحمل أسفارًا اهـ.
أركان الدين الصحيح
ضاق هذا الجزء عن رد شبهات النصارى على القرآن وغير ذلك مما كنا
وعدنا به لطول مقالة (النبأ العظيم) أكثر مما كنا نتوقع، وقد صدر الجزء الخامس
من المجلة البروتستنتية قبل صدور هذا المنار قرأنا فيها نبذة في أركان الدين
الصحيح يقول فيه الكاتب الذي ينتمي إلى المسيح ما نصه:
وإن المذهب الذي يجب على كل فرد أن يختاره لنفسه هو أكثر المذاهب
مشابهة لروح الآلهة وأقربها لصفاتهم.. إلى آخر ما قاله وكرر فيه لفظ (الآلهة)
ثم فسر هذا المذهب بقوله: (ذلك المذهب الذي ينادي: أن يا قوم أحسنوا إلى مَن
أساء إليكم فتلك صفات الله، ذلك المذهب إنما هو مذهب إلهي بلا مراء) ، ثم ذكر
أن المذهب إذا قال لتابعيه جاهدوا في سبيل الله ودافعوا عن أنفسكم في سبيل الله
يكون بريئًا من الله والله بريئًا منه؛ لأن العزة الإلهية لا تأمر بالقتال مهما كان
الغرض شريفًا. وأجاب عن أمر التوراة بني إسرائيل بإبادة بعض الأمم
المجاورين لهم (بأنه) كان أمرًا وقتيًّا لازمًا للتوصل إلى المسيحية ديانة السلام
والمحبة) ! .
ثم ذكر اعتراض الناس على هذا المذهب بكون محبة الأعداء وترك المدافعة
عن النفس مستحيل، واعترف بأن هذا صحيح بالنسبة إلى معارف البشر الآن وقال:
إن معارفهم سترتقي في المستقبل إلى فهمه.
فملخص هذا الدين الإلهي:
(1)
أنه يوجد آلهة متعددة وأن أخلاقهم متفقة على محبة أعدائهم ولا شك
أن أعداءهم هم الذين لا يؤمنون بهم، ولا معنى لمحبتهم إلا عدم مؤاخذتهم على الكفر
فالنتيجة أن هذا الدين دين إباحة ومبطل لنفسه ولغيره.
(2)
أنه يأمر بمحبة الأعداء وترك المدافعة وذلك مستحيل بحسب ما
وصلت إليه معارف البشر إلى القرن العشرين من ظهوره؛ ونتيجة هذا أنه لم يتبعه
أحد حتى الآن.
و (3) أن هذا المذهب يخالف قول المسيح: (وهذه هي الحياة الحقيقية أن
يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته) (يوحنا 17)
وقوله: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا؛ بل
سيفًا؛ فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها
وأعداء الإنسان أهل بيته) (متّى 10-34و35) وقوله: (جئت لألقي نارًا على
الأرض) (لوقا 13-94) وقوله: (إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه
وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا)
(لوقا 14-26) وقوله: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا
بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-27) وأمثال ذلك.
فأي الدينين دين المسيح عليه السلام؟ !
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قتل بني إسرائيل أنفسهم
وبعثهم بعد موتهم
جاءنا من حضرة المحامي الشهير صاحب الإمضاء ما يأتي:
رأينا فيما أوردتموه بأحد أعداد المجلة في تفسير قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُم..} (البقرة: 54) إلى قوله جل شأنه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 56) أن سيدنا موسى دعا من يرجع إلى
الرب من قومه، فأجابه بعضهم فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضًا
ففعلوا، وقتل منهم نحو ثلاثة آلاف. وإن البعث بعد الموت عبارة عن كثرة نسلهم
والبركة في أحفادهم تعويضًا لهم عن قتل آبائهم، على أننا لو أعدنا التأمل نرى أن
الأمر والإرشاد للتوبة لا يستلزمه قتل نفوس التائبين وكذلك البعث بعد الموت لا
يكون معناه زيادة النسل.
وحينئذٍ يكون الأقرب هو أن قتل النفس معناه إماتتها عن الفساد والمعصية
بسيف التوبة والندم ليبعثها الله بعد هذا الموت المعنوي إلى عالم الفلاح والتقوى، وأن
البعث هنا معناه هو الوصول إلى الحقيقة بعد ذلك الضلال الذي ماتت عنه عواطفهم.
فأرجوك أيها الصديق الفاضل إنعام النظر في ما أوضحته وإرشادي إلى
الحقيقة. ودمتم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إسماعيل عاصم
(المنار)
تقدم في تفسير الآيات أن سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى الذي عوقبوا
عليه بالصاعقة كان في واقعة مستقلة غير واقعة اتخاذ العجل الذي عوقبوا بالقتل
وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56) وارد على غير الذين
قتلوا أنفسهم بالتوبة، فإذا اعتبر الخطاب لمجموع الأمة فلا فصل فهي التي قتلت
وهي التي صعقت، وهي التي بعثت وهذا ما عليه الأستاذ الإمام في إسناد الله تعالى
أعمال سلف بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل الذين كانوا
في زمن التنزيل، وعليه لا إشكال في إسناد] بَعَثْنَاكُم [إلى الذين ماتوا بالصاعقة أو
غيرها ولا بعد في تفسير هذا البعث بعد الموت بكثرة النسل لا سيما مع ملاحظة أن
المخاطَبين بهذا كله هم اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما قتل بعضهم بعضًا في التوبة فهو المنقول في كتبهم المقدسة والذي يتناقلونه
خلفًا عن سلف، وبه قال جماهير المفسرين، وذهب القاضي عبد الجبار من المعتزلة
إلى أن القتل هنا مجاز وما كان الله ليكلف الناس بالقتل؛ لأن التكليف لمصلحة العبد
ولا مصلحة في القتل لمن يقتل. ووجه الآية توجيهًا مقبولاً في اللغة وأساليبها وهو
نحو ما في السؤال لم يحصل بالفعل وإن كان يجوز التكليف به.
قال الآلوسي: ومن الناس من جوَّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال (معنى
اقتلوا: ذللوا) ومن ذلك قوله:
إن التي عاطيتني فشربتها
…
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرًا، ونقل عن قتادة أنه قرأ
(فاقتلوا أنفسكم) والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل
العظيم الذي تعاطيتموه وقد هلكت فاقتلوها بالتوبة والتزام الطاعة وأزيلوا آثار تلك
المعاصي بإظهار الطاعات اهـ.
وقال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56)
بعدما أورد القول المشهور: ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانًا وهمودًا لا
موتًا حقيقة كما في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: 17) ومنهم من حمل الموت مجازًا كما في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) وقد شاع ذلك نثرًا ونظمًا ومنه قوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته
…
وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى
…
يظن من الأحياء وهو عديم
ومعنى البعث على هذا التعليم أي: ثم علمناكم بعد موتكم اهـ.
فما ورد في السؤال معقول وجيه ولم أذكره في تفسير الآيات؛ لأنني لم أتذكر
أن الأستاذ الإمام أورده على أنه ما كان ليغفل مثل هذه الوجوه المعقولة ولعلي نسيت
وسبحان مَن لا ينسى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استدراك
ذكرنا في هامش صفحة 123 أننا لا نتذكر في أي موضع من التوراة ذُكر
ذلك الحكم الذي أشار إليه الأستاذ الإمام في تفسير الآية ثم ذكرنا أنه في أول الفصل
الحادي والثلاثين من سفر تثينة الاشتراع ونصه:
(إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعًا في الحفل
لا يعلم مَن قتله 2 يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل 3
فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث فيه ولم
يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي 5 ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي؛ لأنه إياهم
اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون لك خصومة
وكل ضربة 6 ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على
العجلة المكسورة العنق في الوادي 7 ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم
وأعيننا لم تبصر 8 اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بريء
في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم) اهـ. وقد ذكر معنى ذلك الأستاذ الإمام
في الدرس؛ ولكن جاءت عبارتنا عنه غير كافية، فأوضحناها بهذا الاستدراك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإنجيل الصحيح
(مقدمة كتاب الفيلسوف تولستوي الروسي الذي سماه الأناجيل)
(تمهيد)
ينعق دعاة النصرانية فينا دائمًا: أن القرآن شهد بأن الإنجيل كتاب الله المنزل
على المسيح وأنه حق، فإذا لم تكن هذه الأناجيل الأربعة التي في أيدينا هي كتاب
المسيح فأين هو كتابه؟ وقد سبق لنا في المنار الجواب عن هذا السؤال وبيان أن
إنجيل المسيح - في اعتقاد المسلمين - هو مجموع المواعظ والحكم والأحكام التي
جاء بها المسيح وعلمها بني إسرائيل مع تصديقه للتوراة وأن ذلك لم يحفظ كله، وإنما
حفظ منه شيء ونسيت أشياء كما قال تعالى في أهله {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظُّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) وما كانوا يعترفون
بهذا ولكن الله عرف نبيه الأمي به فعلم الناس ما لم يكونوا يعلمون.
كانت تعاليم الدين محسوبة في هذه الأمة عند الرؤساء؛ ولكن ما أحدثه
البروتستنت من حرية البحث فيه وما كتبه مؤرخو أوربا الأحرار في التاريخ العام
قد أظهر لنا تفسير قول الله في الإنجيل فكان ذلك من دلائل نبوة نبينا صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم؛ لأنه ضرب من ضروب إعجاز القرآن وآية من آياته
البينات. فإن التواريخ الكنيسية وغير الكنيسية أظهرت لنا أن أتباع المسيح في
زمنه كانوا من العوام الجاهلين، وأنهم مُزِّقوا من بعده في الأرض كل ممزق وكانوا
مُضطهَدين من اليهود والرومان جميعًا حتى قضت السياسة على الملك قسطنطين
بالدخول في النصرانية واتخاذ عصبة جديدة منها. فلما صار لهذه الديانة سلطة
طفقت تنشئ المجامع وتجمع الآثار فظهر عندها أناجيل كثيرة تحكَّم فيها الرؤساء
كما شاءوا وأقروا منها أربعة وحكموا ببطلان ما عداها. وإن كانت هذه الأربعة إلا
تواريخ للمسيح فيها بعض كلامه المأثور عنه منقولاً عن آحاد لا يجزم العقل بصحة
روايتهم كلها ولا بكذبها كلها؛ فالذي يمكن الوثوق به في الجملة أن فيها حظًّا من كلام
المسيح وبقي حظ آخر هو الذي نسوه وليس فيها كلمة تدل على أن أحد مؤلفيها
يدعي أنه جمع فأوعى كل ما قال المسيح؛ بل كانت آخر جملة في الرابع منها قول
يوحنا مؤلفه: (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن
أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة) اهـ.
وإننا بغض الطرف عن الغلو في العبارة نقول: إن الأفعال الكثيرة المرادة لا بد
أن تكون مصحوبة بأقوال وتعاليم تُركت كتابتها كما تركت كتابة الأفعال، ولعلنا في
جزء آخر نورد بعض أقوال مؤرخي أوربا في ذلك. ونقول الآن: إن العقول المطلقة
من أسر تقليد الكنيسة قد اهتدت إلى ما حكم به الإسلام في الجملة. ومن أكبر هذه
العقول عقل الفيلسوف تولستوى الروسي الشهير فقد ألف كتابًا أرجع فيه الأناجيل
الأربعة إلى إنجيل واحد وحذف منها ما لا يوثق به من الأقوال التاريخية والخوارق
الكونية، وإن كان بعضه صحيحًا. وإننا ننشر في المنار مقدمة كتابه هذا معربة عن
الفرنسية لتكون عبرة للعقلاء وإن كنا لا نسلم بكل ما فيها تسليمًا.
ذكر في أول المقدمة أن كتابه هذا (واسمه الأناجيل) ملخص ارتقائه في
الفكر الذي أعانه على معرفة الحق والصواب في التعاليم المسيحية كما يعتقد الآن.
وثانيها في خلاصة المذهب المسيحي المعروف عند الكنائس لخصه مما يؤثر
عن الحواريين والمجامع وجمهور القسيسين وأضاف إليه شرحًا (يوضح فساد تلك
التعاليم الكنائسية) وثالثها في خلاصة الأناجيل الأربعة وجعلها إنجيلاً واحدًا يحتوي
على التعاليم المسيحية الصحيحة - بحسب ما وصل إليه اجتهاده - ورابعها خلاصة
عامة للمعنى الحقيقي الذي تدل عليه التعاليم النصرانية وللأسباب التي أوجدتها
والنتائج التي تستلزمها.
(قال) : وهذا الكتاب الذي أنشره الآن على رؤوس الأشهاد هو خلاصة
القسم الثالث. ثم قال: (ولقد حاولت في القسم الثالث من مؤلَّفي الكبير الذي سبقت
إليه الإشارة أن أترجم وأنشر الأناجيل الأربعة جملة جملة لا أغفل منها سطرًا واحدًا؛
ولكن رأيت من الواجب أن أتعمد في هذه الخلاصة حذف كل العبارات التي ترتبط
بهذه الموضوعات وهي: الحمل بالمسيح وميلاد القديس يوحنا المعمدان وسجنه
وقطع رقبته وميلاد المسيح ونسبه وهروبه إلى مصر، والمعجزات التي حصلت في
كانا وكفر ناحوم والعزائم لإخراج الجن من أجساد الناس والسير على سطح البحر
ولعن شجرة التين والقيامة وكل ما يشير إلى النبوات التي جاء مصداقها في حياة
المسيح) .
طويت كشحًا عن هذه العبارات لأنها لا تحتوي على شيء مما يتعلق بالتعاليم
المسيحية وإنما لها علاقة ببيان الحوادث التي حصلت قبل تصدر المسيح للتعليم
وفي أثنائه وبعده فليس فيها فائدة في إيضاح حقيقة التعاليم التي جاء بها المسيح بل
يسوغ لنا أن نقول: إنها موجبة للتشويش في فهمها والارتباك في إدراكها ومهما كانت
الوسيلة في ترتيب المعاني على هذه الموضوعات فإنها لا تغير تعاليم المسيح نقضًا
ولا إثباتًا وإنما الغرض منها إقناع الذين لا يعتقدون بألوهية عيسى المسيح ولذلك لم
يكن فيها أقل فائدة لرجل لا يؤثر حكايات الخوارق والعجائب في إقناعه فضلاً عن
كون في نفس تعاليم المسيح الدلائل الكافية على ثبوت ألوهيته) .
(ثم قال) : (وأقول بوجه العموم فيما يتعلق بمخالفة ترجمتي في بعض
المواضع للنص الرسمي المعتمد في الكنيسة: إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أنه من
الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال: إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في
جميع آياتها وفي جميع مقاطع كلماتها وإنها مقدسة بحيث يحرم تبديل شيء منها فلا
يصح للقارئ أن ينسى أن عيسى لم يؤلف كتابًا قط كما فعل أفلاطون وفيلون
ومارك أوريل، وأنه لم يلقِ تعاليمه مثل سقراط على رجال من أهل العلم والأدب
وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم، كان يصادفهم في طريقه.
وإنما جاء بعد مماته بزمان يقارب المئة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر ببالهم
أن يدونوها بالكتابة ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن مثل هذه المدونات كانت كثيرة وقد
ضاع معظمها وإن منها ما كان محشوًّا بالخطأ والغلط وأن النصارى قد استخدموا كل
هذه المدونات في أول الأمر حتى اختاروا منها مع توالي الأيام ما ظهر لهم أنه أقرب
للكمال وللصواب - وإن الكنائس حينما اختارت أحسن الأناجيل بين مئات الألوف
من المصنفات التي جادت بها قرائح المشتغلين بالعلم في أوائل النصرانية وقعت
فيما يقوله المثل الروسي: (لا يخلو القضيب من العقد) فأخذت عقدًا كثيرًا من هذه المجامع وأن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل
المهملة لاعتبارها محلاًّ للشك والارتياب. وإن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل على
أشياء جميلة قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية! . لا ينبغي للقارئ أنه ينسى
أن تعاليم المسيح هي المقدسة وأن ذلك التقديس لا يتعدى إلى عبارات مسطورة
وكلمات مرقومة وأن اعتبار بعض الكتب مقدسة لا يكفي في إحاطة التقديس بكل ما
جاء فيها إلى آخر سطر منها. فليس الآن في عالم المدنية من يجهل أعمال النقد
التاريخي منذ مئة عام سوى جمهور الناس في بلادنا الروسية فإنهم لا يزالون يعتقدون
بهذا الرأي الساذج وهو أن أناجيل متّى ومرقس وبولس قد كُتبت كما هي الآن وأن
المؤلفين المنسوبة إليهم قد كتب كل واحد منهم ما كتبه على حدته دفعة واحدة.
لا ينبغي للقارئ أن ينسى أن هذا الرأي المبني على الجهل بالمباحث العلمية
إنما تعادل قيمته اليوم قول أسلافنا في القرن الماضي: إن الشمس تدور حول
الأرض.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل المجملة المندمجة في بعضها إنما هي
ثمرة المباحث الطويلة ونتيجة سلسلة من أعمال الحذف والزيادة وأنها أثر من
آثار ما أوحاه الخيال على آلاف من الرجال وأنها ليست بنتيجة ما نطق به الروح
القدس على لسان الإنجيليين كما يزعمون.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل بشكلها الحاضر لا تتضمن ألبتة شهادة
الحواريين وتلامذة عيسى مباشرة وأن القول بذلك من الخرافات التي لا تصبر على
محك الانتقاد فضلاً عن عدم بنائها على أدنى أساس سوى رغبة نفوس أرباب
التقوى والورع في أن تكون كذلك. فقد توالت القرون والناس يدونون الأناجيل
ويهذبون موضوعاتها، ويتوسعون في عباراتها، ويشرحون أقوالها، فإن أقدم
النسخ التي وصلت إلينا قد تمت كتابتها في القرن الرابع للميلاد وهي مكتوبة على
نسق واحد من أولها إلى آخرها أي بلا فواصل ولا غير ذلك من الإشارات التي
تستعمل لإيضاح الكلمات وبيان الجمل؛ ولذلك دعت الضرورة حتى بعد القرنين
الرابع والخامس إلى تفسيرها بطرائق متخالفة من كل الوجوه وصارت نسخ هذه
الأناجيل تقارب الخمسين ألفًا!
بل يجب على القارئ أن يستحضر في ذهنه كل هاتيك الاعتبارات حتى لا
يعول على هذا الرأي السائد فيما بيننا وهو أن الأناجيل وصلت إلينا صادرة مباشرة
عن الروح القدس بشكلها الحاضر ويجب عليه أيضًا أن يسلم معنا بأنه ليس من
المحرم علينا أن نحذف من الأناجيل العبارات التي لا فائدة فيها وأن نستعين ببعض
معانيها على بيان معاني البعض الآخر بل إن الحرام والكفر كل الكفر هو عدم
التجاسر على فعل ذلك! ! ! وأن نعتقد بتقديس بعض العبارات، وطائفة من
الكلمات، بحيث نرى أنه لا يجوز مساسها على الإطلاق.
هذا، وإنني أسال القارئ الكريم أن يتذكر أنني إذا كنت لا أعتبر الأناجيل
كتبًا مقدسة قد نزلت علينا من السماء مباشرة بوحي من الروح القدس الذي جعلها لنا
عهدًا ووصية، فإنني لا أذهب أيضًا إلى أن هذه الأناجيل ليست إلا آثارًا تاريخية
تدل على حالة التأليف في العلوم الدينية بل إنني مصدق بما حوته من التصور
الديني والتاريخي؛ ولكنني أتصورها بطريقة أخرى ولذلك أرجو من القارئ الكريم
الذي يمعن نظره في ترجمتي بأن لا يترك نفسه في أثناء تلاوتها تسير في طريق
الضلال من حيث الوجهة الدينية أو من حيث الوجهة التاريخية اللتين أقر عليهما
أرباب الآداب وعنوا بهما في هذه الأيام فلست أذهب إلى واحدة منهما دون الأخرى،
فكلاهما في نظري سواء.
لا جرم أنه يستحيل عليَّ أن أعتبر النصرانية وحيًا لا يشوبه شيء أو مظهرًا
مجردًا من مظاهر التاريخ في هذا الوجود؛ ولكنني أذهب إلى أن النصرانية هي
النحْلَة الوحيدة التي تجعل معنى لهذه الحياة ولم يدفعني اللاهوت ولا التاريخ إلى
اعتناق النصرانية! ولكن الأسباب التي حملتني على قبول هذا المذهب هي ما
يأتي:
…
...
…
...
…
(لها بقية)
…
...
…
...
((يتبع بمقال تالٍ))
…
...
…
...
…
...
…
...
…
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة تقريظ رسالة الشيخ محمد بخيت
قال المؤلف بعد ما تقدم: ومن هذا القبيل بلا شبهة الاجتماع للصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم لأنها جماع الخير ومفتاح البركات بإجماع المسلمين.
أقول: إن الصلاة على النبي والدعاء له مشروع ولكن لم يقل أحد من السلف
ومن ينظر إلى قوله من الخلف بمشروعية الاجتماع لها وكونها شعارًا دينيًّا يُعيَّن له
وقت مخصوص وصيغ مخصوصة واجتماع مخصوص. وإذا كان الشعار لا يثبت
إلا بشرع كما تقدم فعلى المصلين أن يتحاموا ذلك وليصلوا ويدعوا مجتمعين وفرادى
ما تحاموا جعل ذلك شعارًا. ولا معنى لهذا الإجماع الذي ذكره. فالذين ينعقد بهم
الإجماع لم يُنقَل عنهم هذا القول: (إنها جماع الخير ومفتاح البركات) وإن أراد
أنهم قالوا ما هو بمعناه قلنا: إن معناه غير محدد متعين وما ذاك الذي قالوه بمعناه ومن
الذي نقله بالإجماع؟ الذي يقوله كل مسلم إنها مشروعة وكل مشروع خير نافع
ومفيد وبهذا القدر كفاية.
بدع المواسم:
ثم قال: ومن هذا القبيل الاجتماع لقراءة وسماع نحو قصة المعراج وفضائل
ليلة النصف من شعبان وليلة القدر في لياليها المشهورة؛ لأن الأولى سيرة النبي
وأحاديثه الصحيحة والثانية والثالثة آيات قرآنية وأحاديث نبوية جاءت في فضل
الليلتين وبيان معاني ذلك مما يرغّب في العمل الصالح.
ونقول: الاجتماع لهذه القصص صار له كيفية مخصوصة، ووقت مخصوص
ويكون في المساجد ويقتضي نفقات كثيرة تؤخذ من أوقاف المسلمين بغير حق
فيكثرون فيه إضاءة القناديل والشموع في المساجد والمنائر وتدار في بعض المساجد
أقداح الشراب الحلو على الحاضرين وقد تكون هذه الأقداح من الذهب أو الفضة
وذلك حيث يكون الأمراء ومن يتبعهم من الحكام والعلماء وبعض القصص التي تقرأ
فيها تشتمل على الأحاديث المكذوبة والواهية، لا سيّما قصة المولد التي تدخل في
كلامه بمقتضى كلمة (نحو) .
ثم إن هذا الشعار المبتدع يستتبع بدعًا أخرى كاجتماع أهل اللهو الباطل
المصبوغ بصبغة الدين بطبولهم ومزاميرهم في المسجد يعزفون ويغنون ويصفقون
ويهزأون بأسماء الله تعالى إذ يذكرونها في لهوهم هذا ويجتمع عليهم في بعض
المساجد (كمسجد القلعة) الغوغاء والإفرنج نساءً ورجالاً فيكونون في نظر هؤلاء
سخرية وآية على أن دين الإسلام دين المجانين والحمقى (حاشاه) .
هذا بعض وصف هذه الاجتماعات التي جعلت شعائر إسلامية تقام في بيوت
الله تعالى، ومن يقرأ رسالة المؤلف لا يفهم منها إلا كون هذا الاجتماع المعروف
مشروعًا في الإسلام ومن القرائن أن الناس يرون العلماء يحضرون هذه الاحتفالات،
نعم، إنه قال في جملة أخرى: لا يجوز التكلف في تغيير الصوت في الذكر
والصلاة على النبي e كما يفعله العوام فيمنع، ثم قال: وكذا يمنع كل منكر وكل
شيء اشتمل عليه مجلس الذكر والخير دون نفس الذكر والخير، وهذا القول يشبه
أن يكون احتراسًا من الانتقاد فإن الاجتماعات التي ذكرها معظمها بدع ومنكرات
حتى صار الأقرب أن يؤمر بتكريم ذكر الله أن يكون فيها احترامًا له فإن هذه
الاجتماعات قد تكونت هكذا من المنكرات فلا سبيل إلى إجازتها وجعلها مشروعة
واعتبار المنكرات عرضًا لاحقًا بها يخص بالإنكار دونها. وهذه الآيات وتفسيرها
والأحاديث وشرحها تقرأ في مجالس العلم ولا يخطر في بال أحد أن يقول إنها منكرة.
بل نقول: إن مجالس العلم في نحو الأزهر لا تخلو من منكر في الغالب ولكن ذلك
هو المنكر العارض والأصل في المجلس والاجتماع إفادة العلم واستفادته.
بدع الجنائز:
وقد أحسن المصنف عقيب ذلك في الجزم بحظر ما يكون في الجنائز من
(رفع أصوات المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر أو قصيدة بردة أو يمانية) وعده
ذلك من البدع المذمومة وعلل ذلك بأن النبي e تركه مع قيام المقتضى لفعله قال:
(فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة) كما هو الحكم في مثله بل نقل حديثًا رواه
أبو داود مرفوعًا وهو: (لا تتبع الجنائز بصوت ولا نار) . ثم ذكر أن بعض
المتأخرين جوز رفع الصوت بالذكر (مخالفة لأهل الكتاب؛ لأنهم يمشون في الجنائز
ساكتين) رد عليه هذا القول بوجهين: أحدهما اتباع النص الناهي عنه والنافي أن
العلة ممنوعة فإن أهل الكتاب يرفعون أصواتهم في الجنائز لهذا العهد ونزيد عليه
أن هذه العادات سرت إلى المسلمين منهم. ثم قال ما نصه: (وأما ما يفعل في
زماننا أمام الجنائز من الأغاني ورفع الصوت بالبردة واليمانية على الوجه الذي
يفعل في هذا الزمان والمشي بالمباخر فلا يقول بجوازه أحد) ثم بيَّن أن عرف
الناس لا يعتبر في هذا الزمان كما صرح به فقهاؤهم.
أقول قد أحسن في القول بحظر هذه البدع ومثل هذا الذي ذكره في كونه مبتدعًا
مذمومًا ما تقدم الكلام فيه من الاجتماع لقصة المعراج وليلة النصف وليلة القدر وليلة
المولد. وأما العرف المحكم شرعًا فلا معين لاشتراط كونه جرى في عهد الصحابة
وإلحاقه بالإجماع كما قال، وإنما هو العرف الذي يجري في المعاملات الدنيوية
ويتواطأ الناس عليه لموافقته لمصلحتهم وهو لا يخالف نص الكتاب والسنة ولا
يتعلق بالأمور الدينية المحضة.
لا عبرة بسكوت العلماء على المنكر:
وأحسن أيضًا كل الإحسان في قوله بعد إبطال عرفهم فيما ذكر: (وكذا ما
تعارفوه من التغني أي بمدح السلاطين والترضي وغير ذلك وقت الخطبة فإن كل
ذلك ممنوع اتفاقًا يثاب من منعه أو أمر بمنعه كما أن فعل شيء مما علم أنه بدعة
مذمومة شرعًا في بعض المواضع التي يكون بها العلماء كالجامع الأزهر مع
سكوتهم عليه لا يصلح دليلاً على الحل؛ لأن المعول عليه في الأحكام الشرعية هو ما
ذكرنا من الأدلة الأربعة) ، فليتأمل قول هذا العالم الأزهري أولئك العوام الذين
يحتجون على المنار في إنكار بدع الموالد والمساجد بأن العلماء يشاهدونها ولا
ينكرونها بل يقرون الناس عليها. وهذا آخر ما أردنا كتابته في تقريظ هذه الرسالة
الوجيزة انتقادًا واستحسانًا وذلك عناية منا بمؤلفها فما كل مَن كتب يبالى بكلامه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(مختصر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله)
كنا نسمع بكتاب العلم لحافظ المغرب الإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر
ونرى النقل عنه في كتب الحديث والأثر فنشتهي أن نراه ونتمنى لو يطبع. وقد
أعطانا الله ما نتمنى، إذ أظفر الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي الأزهري
المعروف بحسن اختيار الكتب بنسخة من هذا الكتاب ووفقه لاختصارها وطبعها.
وما كان اختصاره إلا حذف الأسانيد والمكرر. وقد ذيّله بهوامش فسر بها الغريب
من الكلم، ونوه ببعض الفوائد والحكم وجعل في آخره فهرسًا للأعلام ذكر فيه جميع
أسماء الصحابة والعلماء الذين جاء ذكرهم فيه مبينًا مواضعها من الصفحات
والأسطر، وقد بلغت صفحات الكتاب 232 وهو بشكل المنار وطبع بحروف
كحروفه الصغيرة ولا أجد قولاً أقرظه بعد شهرته وبعد صيت مؤلفه إلا أن أتحف
القراء ببعض فوائده وسيكون ذلك في غير هذا الجزء؛ ولكنني أعجل بالنصيحة لأهل
العلم الإسلامي ومحبيه بأن يقرؤوا هذا الكتاب ويقتنوه وثمن النسخة منه خمسة
قروش صحيحة وهو يطلب من مؤلفه بالأزهر ومن إدارة مجلة المنار. ومن جميع
المكاتب الشهيرة في مصر وغيرها.
***
(إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان
وطريق الهجرتين وباب السعادتين)
كتابان جليلان للإمام الحجة شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف
بابن قيّم الجوزية، موضوعهما النهي عن البدع والمحرمات والكلام في الأخلاق
والآداب الدينية والمواعظ والرقاق والاعتصام بالكتاب والسنة، ومثل هذا الإمام
الحافظ هو الجدير بالتأليف في ذلك؛ فقد كان هو وشيخه؛ بل شيخ الإسلام وعلم
الأعلام أحمد ابن تيمية أعلم أهل الأرض بالكتاب والسنة وعندي أنه لا يستغني أحد
يطلب علم الدين عن الاطِّلاع على كتبهما وأن هذين الكتابين يصلحان لإفادة العوام
وإن كان لا يستغني عنهما الخواص. وقد طبع الثاني منهما في هامش الأول وبلغت
صفحات المجلد الذي جمعهما 423 من القطع الكامل وهو يطلب من مطبعة
ومكتبة الحلبي بمصر.
***
(غنية المؤدبين في الطرق الحديثة للتربية والتعليم)
كان حديث الوضع والطبع ألفه الشيخ عبد العزيز شاويش أحد مفتشي نظارة
المعارف العمومية بدأه بمقدمة في تاريخ التربية وجاء فيه بفصول في علم النفس
وفصول في التربية على اختلاف ضروبها، وفصول في أساليب التعليم ونظام
المدارس وفي هذه الفصول فوائد ومسائل لا تكاد توجد في كتاب عربي؛ لأنها
مقبوسة من علوم العرب - وقد تربى المؤلف في أحسن مدرسة لهم وهي مدرسة دار
العلوم بمصر - ومن علوم الإفرنج - وقد تخرج في مدرسة من أحسن مدارس
الإنكليز - وقد تصفحنا صفحات من الكتاب فاستحسنا وضعه ورجونا نفعه ولم ننتقد
فيه شيئًا يضع لذاك الوضع أو يحول دون هذا النفع، وإنما هي كلمات نبت عن
مواضعها، وقضايا لا تؤخذ على إطلاقها.
أما الكلمات فبعضها من تحريف الطبع وبعضها من استعمال المدارس ككلمة
(تخته) فإنها فارسية معناها (الخشب) وتعريبها (تخت) وهو وعاء تصان فيه
الثياب وسرير من خشب أو غيره غلبت في عرش السلطان، واستعمال المؤلف في
اللوح الذي يكتب عليه ومنها ضرب من ضروب التجوز أو التوسع في الكلام بنحو
التعدية والتقديم والتأخير كقوله: (كفى لهم معلم واحد) وقوله في ابتداء كلام:
(كانت تعلم اليهود القراءة) يريد كانت اليهود تعلم. ونحو ذلك من الجمل التي تنكر
بعضها البلاغة وإن عرفها النحو، ومثلها كثير في كلام المعاصرين من الكتاب
والمؤلفين الذين يغفر لهم ما لا يغفر لمعلمهم فن التربية والتعليم مثل صديقنا مؤلف
كتاب (غنية المؤدبين) .
وأما القضايا التي يتنقد إطلاقها فمثل ما حكاه في أول الكتاب عن التربية عند
اليهود وعند العرب فقد ذكر أن التربية كانت عند الإسرائيليين إلى سنة 64 قبل
الميلاد منزلة دينية قال: (فيربو الطفل وليس في قلبه شيء غير الله وجلاله)
وهذه نتيجة فيها مبالغة عظيمة ولا بد أن يكون المؤلف نقلها عن كتاب أوربي
يطري اليهود، والتاريخ يدل على أنهم لم يكونوا في عصر من الأعصار آخذين
بروح الدين بمثل هذه العناية. ومثل ما حكاه عن طريق التعليم عند العرب فإنه إنما
ذكر رأي ابن خلدون في ذلك ولم يذكر ما يذكر ما كان عليه العرب في نفس الأمر.
ومثل هذا لا ينافي كون الكتاب لا نظير له في بابه وأنه ينبغي للمعلمين
والمربين الاستعانة به والاستفادة منه. ويا ليت أهل الأزهر يقرأونه ويطلعون على
ما كتبه واحد كان منهم ثم تعلم بعد علومهم ما لم يتعلموا وقد قال بعض أفاضل
المشتغلين بتعليم فن التربية والتعليم في تقريظ هذا الكتاب كلمة ينبغي أن تكون
فصل الخطاب وهي: إنني كنت إذا أردت إلقاء الدرس في هذا الفن لا أجد ما أقول
إلا بعد بحث واستقصاء وجهد وعناء فلما طبع هذا الكتاب نظرت فيه فأصبت في
كل فصل من فصوله ما ينبغي أن يلقى في الدرس الذي يبحث ذلك الفصل في
مسائله مع زيادات لا يستغنى عنها، ولا بد للمعلم منها، والكتاب يطلب من مكتبة
المؤيد ومكتبة الشعب بمصر.
* * *
(المنتحل للإمام أبي منصور الثعالبي)
الثعالبي من أئمة اللغة والأدب المعروفين وله الكتب النافعة فيهما ومنها هذا
الكتاب الذي أودعه مفردات ومقاطيع من مختار الشعر في ضروب الكلام وشجونه
مما يحسن إيراده في الرسائل والفصول الأدبية والأخلاقية والاجتماعية. ولقد كان
سرًّا مضمرًا في خاطر الدهر حتى وقعت نسخة منه للشيخ أحمد أبي علي أمين
مكتبة البلدية في الإسكندرية وهو من أهل العلم والأدب، وعشاق الفنون فأذاعه بما
حرص على نشرها بالطبع بعد عناء في تصحيحها وتعليق شرح وجيز عليها جعله
كالطراز على مطارف بعض الصحائف.
* * *
(المنتخل في تراجم شعراء المنتحل)
كتاب لطيف لشارح المنتحل وطابعه رتب فيه أسماء الشعراء الذين ألف
المنتحل من مختار كلامهم على حروف المعجم وذكر سيرهم مختصرة مفيدة فكانت
صفحات الكتابين معًا 360 والكتاب طِلْبة المتأدبين وقد طبع على ورق جيد وضبط
ما يستحق الضبط من كلِمه بالشكل وثمن النسخة منه 20 قرشًا صحيحًا وأجرة
البريد قرشان وهو يطلب من طابعه ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وإننا نذكر
نموذجًا منه ونبدأ بباب الأمثال والحكم والآداب.
قال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
الله أنجح ما طلبت به
…
والبر خير حقيبة الرحل
* * *
لقد طوقت في الآفاق حتى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
* * *
فإنك لم يفخر عليك كفاخر
…
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
* * *
وجرح اللسان كجرح اليد
…
* * *
وقال طَرَفَة بن العبد:
كفى واعظًا للمرء أيام دهره
…
تروح له بالواعظات وتغتدي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً
…
على المرء من وقع الحسام المهندِ
إذا ما رأيت الشر يعقب أهله
…
وقام جناة للشر فاقعدِ
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
***
يا راقد الليل مسرور بأوله
…
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
***
كلهم أروغ من ثعلب
…
ما أشبه الليلة بالبارحة
***
لنا يوم وللكروان يوم
…
تطير البائسات ولا تطير
***
وأعلم علمًا ليس بالظن أنه
…
إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
***
وقال الأفوه الأودي واسمه صلاة بن عمرو:
تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت
…
وإن تولت فبالأشرار تنقادُ
والبيت لا يُبتنى إلا على عَمَد
…
ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ
فإن تجمع أوتاد وأعمدة
…
وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا [1]
***
وقال محمد بن مناذر:
يا عجبًا من حاله كيف لا
…
يخطئ فينا مرة بالصواب
***
وقال أبو نواس:
كفى حزنًا أن الجواد مقتر
…
عليه ولا معروف عند بخيل
***
وأوبة مشتاق بغير دراهم
…
إلى قومه من أعظم الحدثان
***
وقال محمود الوراق:
وإذا غلا شيء عليَّ تركته
…
فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
***
ولم أر بعد الدين خيرًا من الغنى
…
ولم أر بعد الكفر شرًّا من الفقر
وقال علي بن الجهم:
وعاقبة الصبر الجميل جميلة
…
وأفضل أخلاق الرجال التفضل
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة
…
ولكن عارًا أن يزول التجمل
***
وقال أبو تمام:
ومن لم يسلم للنوائب أصبحت
…
خلائقه طرًّا عليه نوائبا
***
وقال أبو الطيب المتنبي:
أهمّ بشيء والليالي كأنما
…
تطاردني عن كونه وأطارد
وحيد من الخلان في كل بلدة
…
إذا عظم المطلوب قل المساعد
***
إنا لفي زمن ترك القبيح به
…
من أكثر الناس إحسان وإجمال
***
وقال آخر:
فيا نفس صبرًا إنما عفة الفتى
…
إذا عفَّ عن لذاته وهو قادر
دع الوطن المألوف رابك أهله
…
وعد عن الأهل الذين تكاشر
فأهلك من أصغى وعيشك ما صفا
…
وإن نزحت دار وقلت عشائر
وكيف يُنال المجد والجسم وادع
…
وكيف يحاز الحمد والوفر وافر
وهل تحجب الشمس المنيرة ضوءها
…
ويستر نور البدر والبدر زاهر
***
وقال آخر:
وكنت إذا خاصمت خصمًا كببته
…
على الوجه حتى خاصمتني الدراهم
فلما تنازعنا الخصومة غلبت
…
عليَّ وقالوا قم فإنك ظالم
ولما التقينا لجلجت في حديثها
…
ومن آية الشر الحديث الملجلج
***
إن الأمير هو الذي
…
يضحَى أميرًا بعد عزله
إن زال سلطان الولا
…
ية فهو في سلطان فضله
***
شعار الفتى ذم الزمان الذي أتى
…
ومن شأنه مدح الزمان الذي مضى
***
(مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب لمؤلفه جُرجي أفندي زيدان منشئ مجلة
الهلال الشهيرة وهو خاص بتراجم رجال العلم والأدب والشعر ومنهم كُتَّاب الجرائد،
وطريقة المؤلف في التأليف وذوقه في تحرير التاريخ مما لا يحتاج إلى تنويه. ولا
يكاد يوجد قارئ بالعربية إلا ويجب أن يطلع فيه على ترجمة فيلسوف الشرق السيد
جمال الدين الأفغاني وغيره من رجال العلم والأدب كالدكتور فانديك والسيد أحمد
خان وبطرس البستاني والشيخ أحمد أفندي فارس وكمال بك نامق ومحمود باشا
الفلكي وأمثالهم.
نعم، قد انتقد عليه أنه ذكر بعض الأدباء الذين لا يعدون من رجال النهضة
والذين يوجد لهم نظائر وأمثال كثيرون.
والكتاب يطلب من مكتبة الهلال وثمنه 15 قرشًا صحيحًا.
***
(ديوان الرافعي)
لم ينسَ القراء أننا نشرنا مقدمة هذا الديوان في الجزء الأول وقد تم طبع
الديوان مذيلاً بشرح وجيز لشقيق الناظم محمد كامل أفندي الرافعي. ومَن أراد أن
يعرف مكانة هذا الديوان في دواوين الشعر والأدب فلينظر ما قرظه به فرسان هذا
الميدان كمحمود باشا سامي البارودي والشيخ عبد المحسن البغدادي وحافظ أفندي
إبراهيم وغيرهم وإننا ننشر تقريظ هذا الأخير لاختصاره قال:
قد قرأنا نظيمكم فقرأنا
…
حكمة كهلة وشعرًا فتيّا
وتلونا نثيركم فشهدنا
…
كاتبًا بارع اليراع سريّا
خاطر يسبق العيون إلى القلـ
…
ب ويطوي منازل البرق طيّا
ومعانٍ كأنها الروح في الصـ
…
يف تهز النفوس هز الحميّا
من بنات المحار يصبو إليها
…
تاج كسرى وتشتهيها الثريّا
إيه يا رافعي أحسنت حتى
…
لا أرى محسنًا بجنبك شيّا
أنت والله كاتب بدوي
…
إن عددناك شاعرًا بدويا
ولا غَرْوَ، فهذا الشاعر في بدايته قد فاق كثيرًا من شيوخ الشعراء في نهايتهم
فنتمنى لو يقبل الناس على ديوانه تنشيطًا للأدب وأهله.
(ورقة الآس)
هي القصة الرابعة عشرة من قصص (مسامرات الشعب) الشهرية كتبها
أحمد بك شوقي شاعر الأمير وقد قرأتها فألفيتها أحسن ما قرأت من هذه القصص
عبارةً وأسلوبًا وتأثيرًا حتى كدت أقول: إنها هي القصة الأولى والأخيرة من هذه
المسامرات. وقد صدر بعدها قصة مصارع الشهوات وقصة الفتاة اليابانية وهي
الأخيرة ومؤلفها حسن أفندي رياض وقد نظرت في التي قبلها فلم أحمد أوائلها وربما
كان ختامها مسكًا.
***
جرائد ومجلات جديدة
(المغرب)
جريدة سياسة اقتصادية علمية أدبية تصدر في مدينة الجزائر باللغة العربية
مرتين في الأسبوع صاحب امتيازها موسيو بيير فونطانا وقيمة الاشتراك فيها
عشرة فرنكات في الجزائر و15 في غيرها وهي على قبح ورقها وسوء طبعها
نافعة للجزائريين المحرومين من الصحف الوطنية العربية التي تعرّفهم بعض
أحوال العالم وشؤون الاجتماع. فنتمنى لها دوام الاعتدال والقصد والرواج في تلك
البلاد.
(الأفكار)
جريدة وطنية إخبارية صحية أسبوعية أنشأها في سان باولو بالبرازيل
الدكتور سعيد أبو جمره صاحب كتابي (حياتنا التناسلية) و (وقاية الشبان) وقيمة
الاشتراك فيها 200 قرش برازيلي في البرازيل وعشرون فرنكًا في سائر الممالك.
وهي جريدة ترجى فائدتها، فعسى أن يتحقق الرجاء.
(الفضيلة)
مجلة أدبية تصدر في مصر آخر كل شهر شمسي لمنشئها سليم أفندي العضم
وقيمة الاشتراك فيها أربعون قرشًا في القطر المصري وثلاثة عشر فرنكًا في غيره
وثلاثون قرشًا لرجال وطلاب العلم. وقد صدر منها جزآن، ثانيهما في شهر أبريل.
(حب العلوم)
مجلة علمية دينية تاريخية انتقادية تصدر بزفتى مرتين في كل شهر لمنشئها
الشيخ عبد الفتاح جاب الله (هكذا) وقيمة الاشتراك فيها خمسة عشر قرشًا ولطلبة
الأزهر وأساتذة المدارس عشرة قروش، وقد أنشئت في أول المحرم من
هذه السنة.
(الصيحة)
جريدة أسبوعية تصدر في طنطا صاحبها محمود أفندي الشاذلي وقيمة
الاشتراك فيها مئة قرش (جنيه مصري) .
(القاهرة)
جريدة تصدر في مصر لصاحبها بشير أفندي يوسف، قيمة الاشتراك فيها
ثلاثون قرشًا وهي تصدر في الشهر مرتين.
(السياسة)
جريدة أسبوعية تصدر في مصر لصاحبها يوسف أفندي كسّاب وقيمة
الاشتراك فيها 60 قرشًا في القطر المصري 25 فرنكًا في سائر الأقطار.
_________
(1)
المنار: كاد الأمر: حاول طلبه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(شرف العرب وفضلهم على الأمم)
صدر الجزء الصادر في هذا الشهر من المقتطف بمقالة في عمران العراق
أورد الكاتب فيها ملخص مقالة لجريدة التيمس في شريعة حمورابي (وضبطه
همورابي) جاء فيها أن هذا الملك الشارع العظيم الذي يرى العلماء في أوربا أن
معظم التوراة مستمدة من شريعته - هو من أسرة عربية الأصل. قال: (فالعرب هم
الذين وضعوا تلك الشريعة) ، فحسب العرب فخرًا وشرفًا أن أقدم شريعة عُرفت
في الأرض إلى هذا العهد هي منهم وآخر شريعة وجدت في الأرض وهم ساسة
الأمم ومهذبوها في القديم والحديث.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
نعم، إنهم قد هضموا أنفسهم منذ قرون فهضمت حقوقهم الأمم حتى صار
يلغط المتطفلون على موائد العلم والكتابة بذمهم والقول بأنهم لا استعداد فيهم للسياسة ،
ولا للحضارة فصدق عليهم قول شاعرهم:
ومَن لم يكرم نفسَه لا يُكرم
ولا طريق لتكريم النفس إلا بالعلم والتهذيب، فأما التهذيب فأهل البداوة منهم
أرسخ الناس عرقًا في أصول الفضائل وهي الشجاعة والشهامة والمروءة والنجدة
والسخاء والوفاء والنصفة. وأهل الحضارة منهم أقوى الناس استعدادًا له. وأما
العلم فآلته الذكاء والعقل، والعرب أذكى الناس أفئدة وأكبرهم حلومًا، ولكن للعلم في
كل زمن طريقًا، فلا بد للعرب كغيرهم من التوصل إلى العلم الدنيوي من الطريق
الذي سار عليه الإفرنج قبلهم فسادوا واعتزوا. وأما علم الدين فهو منهم على طرف
الثمام، فإذا عقل سراتهم هذا فلا يعدون وسيلة لإشراع هذا الطريق وبالله
التوفيق.
***
(البيوت)
المحبة الزوجية
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) وقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: 228) ،
وهي السيادة، فالرجل والمرأة زوجان من نفس واحدة، سعادتهما في سكون كل
منهما إلى الآخر، وشقاؤهما في نفور أحدهما من الآخر. هذا السكون فطري في
البشر والحيوان وإن شئت قلت في الأكوان؛ ولكن البشر أُعطوا علمًا واختيارًا في
التصرف بالفطرة فتارة يكون تصرفهم جاريًا على سننها ونظامها فيرقيها. وتارة
يكون منحرفًا عنه فيفسدها ويدليها، فكل ما تراه من الشقاء في البيوت فسببه فساد
التربية وسوء الاختيار. وقد يصحب هذا الفساد شيء من العلم فيموهه، وقد يكون
مع الجهل فيشوهه، وقد ينتهي الجهل إلى قلب الطباع، وتغيير الأوضاع.
الرجل يسكن إلى الأنثى سكونًا فطريًّا لأنها أنثى وهي تسكن إليه لأنه رجل
وللرجولية صفات تتبعها أعمال كلما قويت في الرجل كان جديرًا بزيادة ميل المرأة
إليه، وللأنوثة صفات تتبعها أعمال كلما قويت في المرأة كانت خليقة بزيادة ميل
الرجل إليها.
فصفات الرجولية الشجاعة والنجدة والسيادة ومن أعمالها الحماية والمدافعة
والكفالة ونحو ذلك، وصفات الأنوثة اللطف والرقة والحياء والدماثة ومن أعمالها
التربية والخدمة كتربية الأطفال وتمريض المرضى؛ ولذلك قلنا في مقالة عقدناها
لبيان مضار تربية النساء الاستقلالية: إن هذه التربية تقرب المرأة من صفات
الرجولية فتفسد فطرتها وتضعف وساطتها بين الأطفال والرجال في نقل الطفل
بالتدريج من طفوليته وإعداده للرجولية؛ وبذلك يقل ميل الرجل وسكونه إليها لأن
الرجل لا يسكن هذا النوع من السكون إلى الأنثى من حيث هي أنثى تمتاز بصفات
مخصوصة تمثل الأنوثة بما يفصلها عن الرجولية.
سكون كل من الصنفين إلى الآخر طبيعي لا يزول ولكن الصفات الطبيعية
المذكورة تزيده قوة وتحفظه برسوخها وتفسده أو تضعفه بضعفها. وقد صارت
الخشونة والزينة من عادة الشبان في المدن التي لا تربية فيها كمصر، فصار
النساء يملن إلى ذلك في الرجال ولو بصرت المرأة التي تحب شابًّا مخنثًا متورنًا
(كثير الزينة والطيب) شابًّا شهم الجَنان شجاع القلب مفردس الصدر ضخم
الكراديس شثن الكفين، سبط الزندين لفضَّلته على حبيبها المخنَّث تفضيلاً! . (هذا
وما، فكيف لو) ولو تربت تربية صحيحة لظهر هذا الميل فيها أقوى فقد جاء في
المقتطف المفيد ما نصه:
ما تستحسنه المرأة في الرجل
(ألقي هذا الموضوع على كثيرات من نخبة الكاتبات الإنكليزيات، فكتبت
سارة يولي تقول: إن المرأة تُعجب بشجاعة الرجل واستقلاله وتود أن يكون زوجها
متسلطًا عليها، ولقد كان ذلك شأنها منذ العصور الغابرة، وإن كان العمران
الحاضر قد ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق؛ لكن الإعجاب بقوة الرجل لا
يزال ديدن المرأة؛ ولذلك تراها تعجب بالجنود لأنهم يمثلون القوة البدنية، وبخَدَمَة
الدين؛ لأن لهم سلطة أدبية ودينية.
وكتبت للياس داندصن: إن المرأة ضعيفة، فتعجب بقوة الرجل سواء كانت
جسدية أو عقلية أو أدبية وهي تطلب رجلاً يسود عليها، فإذا وجدته خضعت له،
وقد غُرس هذا الخلق في فطرتها؛ ولذلك تصف الرجال بما ينقصها، وتعبدهم
ولا يعبأ النساء بالوجه الجميل، ولا ينفرن منه إذا لم يكن جميلاً؛ لأن ليس فيهن
ذوق خاص بالجمال كما في الرجل، وقد خصت الطبيعة الرجل بحب الجمال
وخصت المرأة بالجمال؛ لكي يكون جاذبًا له إليها، وكذلك خص الرجال بالقوة،
فصارت قوتهم جاذبًا للنساء إليهم وهن يُعجبن بالشجاعة والقوة والصبر على
المكاره، هذه هي الفضائل التي تود المرأة أن يكون زوجها متصفًا بها، وهي لا
تسامحه إذا فقد هذه المزايا؛ ولكنها تسامحه إذا فقد غيرها.
وكتبت إدلين سرجنت: إن القوة الجسدية تجذب المرأة والقوة العقلية تسحرها،
والقوة الروحية تتسلط عليها، وسبب ذلك واضح وهو ضعف المرأة، فلا شيء
يستولي على قلبها مثل الاعتقاد بأن زوجها قوي الإرادة أو قوي الذراع.
وكتبت سارة دودني: إن المرأة تعجب بقوة الرجل، ونظرة واحدة إلى رجل
قوي تنسينا مائة وجه جميل، وخطاب فصيح، إلا إذا كانت لنا عيون لا تبصر!
وأقول بالاختصار: إن الشيء الذي تعجب به أكثر من غيره هو القوة والعظمة
مع الميل إلى الحِلم.
وكتبت ماري كنور ليتن: إنه إذا كان في رجل دليل على أنه يفعل فعل
الجبابرة حينما تدعو الحال إلى ذلك فهو الذي تعجب به المرأة أكثر من غيره
وتفضله على غيره، وما من امرأة تعجب بجبان أو تحبه، وليس لجمال المنظر
شأن كبير في عيون النساء.
وكتبت مس إليصابات بنكس: إن الشجاعة والحلم أسمى مناقب الرجال في
عيون النساء، وكل امرأة تحب أن يكون زوجها سيدًا عليها.
وكتبت السيدة ميد: إن المرأة تتبع الرجل إذا كان قويًّا، وتعبده إذا كان مع
قوته كريم الأخلاق.
وكتبت مس أثل هدل: إن كرم الأخلاق خير الصفات التي يتصف بها الرجل.
والكاتبات خمس عشرة من أشهر كاتبات الإنكليز، وقد كدن يتفقن كلهن على
أن المرأة تفضل الشجاعة على غيرها من أوصاف الرجال) اهـ.
وقد سُر القراء بما كتب المقتطف، وكتب إلينا صاحب الإمضاء ما يأتي:
حضرة العلامة المِفضال منشي المنار الزاهر
طالعت في الأخبار العلمية من (مقتطف) شهر مايو الجاري سؤالاً وجهه أحد
علماء الإنكليز لجماعة النساء عن ما تستحسنه المرأة في الرجل، فأجاب عن هذا
السؤال خمس عشرة كاتبة من فُضليات نسائهن، وقد كدن أن يتفقن على أن المرأة
تفضل الشجاعة والقوة على غيرهما من أوصاف الرجل، وقد ذهب بعضهن إلى
ذكر أوصاف لا تخلو من حقيقة، وهو بحث يحق للإنكليزيات أن يفتخرن به؛ إذ
طابق ما جاء في كتابنا الحكيم حكاية عن موسى وابنتي شعيب عليهما السلام في
سورة القصص {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} (القصص: 26) ؛ ذلك بعد أن سألهما موسى عليه السلام عند الماء عن سبب
ذود غنمهما، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
* فَسَقَى لَهُمَا..} (القصص: 23-24) برفْعه الصخرة عن فُوَّهَة البئر
بذراعيه القويتين، وهذا مما يدل على ما كان عليه موسى عليه السلام من القوة
والشجاعة؛ ولذلك أُعجبت إحداهما به، وأرادته زوجًا لها على فقره، وعدم
معرفتها أصله ونسبه، وهذا مما يثبت لنا أن قرآننا الحكيم لم يترك صغيرة ولا
كبيرة إلا أحصاها من أمر هذا الكون العظيم من أخلاق وعادات بني الإنسان، وما
تجري عليه سنن جميع المخلوقات، فسبحان الله العلي العظيم!
ومن موجبات الأسف أنه يوجد بين أيدينا هذا الكتاب الكريم شاملاً لجميع
المطالب، ونحن المسلمين في لهو عنه، وعن محكم آياته، وغيرنا يبحث وينقب
عن الحقائق حتى يجدها، ولو اشتغلنا بما في كتابنا لوجدنا فيه من الفوائد الجليلة
المنافع ما به رفع شأننا دنيا وأخرى، وما كان لأحد أن يسبقنا في مضمار العلوم
والمعارف مادمنا عاكفين عليه؛ ولكن هو الكسل والتقليد الأعمى قد ألقيا على
بصائرنا غشاوة كثيفة لا يزيلها إلا الحض على التعليم الصحيح، دون التفات إلى
ما في المجلدات الضخمة، بل العمل بمقتضى الحال ومجاراة الأمم الراقية بعقول
أفرادها، فإذا نحن جاريناهم في مباحثهم ومطالبهم - وبين أيدينا هذا المرشد
الصادق - فلا شك أننا نصبح على درجة عالية لا يصلها إلا مَن اتبعنا، وعمل
بمقتضى شريعتنا، والسلام.
…
...
…
...
…
... (حسين العقاد)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاحتفال بمدرسة الشوربجي في كفر الزيات
احتفل في يوم الجمعة الماضي بافتتاح مدرسة مصطفى بك الشوربجي التي
أنشأها في كفر الزيات احتفالاً حضره الجم الغفير من وجهاء العاصمة في مقدمتهم
مفتي الديار المصرية وبعض العلماء وعدلي باشا يكن محافظ مصر وبعض
الأعيان، ومن أصحاب الجرائد صاحب المؤيد وصاحب الوطن وصاحب الجوائب
المصرية وصاحب الرائد المصري وبعض وجهاء الإسكندرية وطنطا وغيرهما من
مدن القطر. وقد سبق لنا ذكر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة في شعبان الماضي
وقد تم بناؤها في نحو ستة أشهر لما للمنشئ - حيَّاه الله تعالى - من الهمة العالية
والعناية الصحيحة في هذا العمل العظيم.
بُدئ الاحتفال بتلاوة آيات شريفة من سورة الفتح وبإنشاد التلميذات والتلامذة
بعض الأناشيد والخطب في فضل العلم والتعليم، ومنهم حفيد وحفيدة لصاحب
المدرسة فخرًا بجدهما وحَقَّ لهما الفخر به.
ثم بعد ذلك دُعي كاتب هذه السطور إلى الخطابة، فقمت، وقلت - بعد
البسملة والحمدلة والتصلية - ما خلاصته:
كنت حضرت الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة ودعيت إلى الخطابة فقلت كلمة
شكر وكلمة ترغيب وقد دعيت الآن لقول كلمة أخرى إلا أني أراني في موقفي هذا
غيري في موقفي الأول، أراني في حاجة إلى الاعتذار وما كنت معتذرًا، أعتذر
عن ذنب التقصير قبل ملابسته فإنني أتوقعه؛ لأنه يتنازعني الآن شعوران ملكا
على نفسي أمرها شعور السرور والابتهاج بسماع الكلام العربي الفصيح من
التلميذات، على حين أننا نرى العجائز لا يصححن قراءة الفاتحة، هذا الشعور قد
أبكاني من حيث كان ينبغي أن يضحكني سرورًا ولكن الجو الذي نعيش فيه مملوء
بالمبكيات ولكن تكسرت النصال على النصال، فجفَّت العيون بعد ما كانت تبكي
وصارت لا تجود بالدمع إلا في موقف السرور. والشعور النافي هو أن في هذا
المجلس روحًا عالية تفيض العلم والعرفان في هذه البلاد، وأنا ممن يستمد منها؛
لذلك الخجل أن أعرض شيئًا من العلم في مجلس تحضره هذه الروح العالية.
أعود إلى ذكر الشعور الأول فأقول: إنه منبعث عن روح البر والخير التي
أنشأت هذه المدرسة لإفادة العلم وهي روح مصطفى بك الشوربجي الزكية قد كنت
قلت في كلمتي الأولى: إن إنشاء المدارس أفضل من إنشاء المساجد من حيث إن
المصلي في المسجد إذا كان جاهلاً تكون عبادته فاسدة، وذلك ذنب يستحق العقاب
وفي المدارس يزاح الجهل وتصح أعمال الدين وأعمال وصاحبها يستحق أفضل
الثناء والشكر فيجب أن نشكر لهذا الرجل الجليل عمله والله تعالى يشكره له ويجزيه
عليه أفضل الجزاء.
ثم انتقلت إلى حث الأغنياء على إنشاء المدارس ونشر العلم فقلت: لا أدري
أي فضل وأي فائدة للمال إذا كان صاحبه لا ينفق من فضل ماله في هذا السبيل
وهي أفضل السبل. ثم بينت فساد رأي من يجمع المال لأجل اللذات الحسية وقلت:
لا أرى مثلاً لمن يجمع المال لكنزه في الصناديق أظهر مما ضربه به الإمام
الغزالي للمرابي الذي يجعل المال مقصودًا لذاته في العمل والكسب؛ إذ قال: إنه مثله
مثل من يحبس القاضي العادل الذي يفصل في الخصومات وينصف المظلوم من
الظالم ويترك الناس فوضى يتناهبون ويتواثبون. وإن الذي يقدر على نشر العلم ثم
يقصر فيه أجدر بهذا المثل فإن أهل التعدي ومرتكبي الجرائم إنما يجترحون
السيئات بإغواء الجهل وفساد التربية فإن المربي العالم بما لغيره عليه من الحقوق لا
يسرق ولا يعتدي فإثم جميع الجرائم التي تقع في البلاد على عاتق الأغنياء بل
عليهم تبعة جميع ما نحن فيه من التأخر في العلم والكسب والشئون الاجتماعية.
وإذا كانوا يجمعون المال لأجل الشرف وارتفاع المكانة فقد زال ذلك الزمان
الذي كان يعد فيه التوسع في الإنفاق على احتفالات الأفراح والمآتم والموالد من
الشرف وصارت هذه النفقات منتقَدة ومنظورة بعين السخط من العقلاء والفضلاء.
وأما الإنفاق في طريق العلم فقد كان ولا يزال هو الشرف الأعلى وصاحبه هو
المحمود عند الله وعند الناس بل هو أفضل الناس إذا قام بحقوق المال مع سائر
الحقوق وهو الذي يسمى الغني الشاكر.
يتوهم قوم أن الزهد - الذي يستحبه الدين - عبارة عن اختيار الفقر وتفضيله
والرغبة عن الكسب وهو توهم باطل فإن النبي e فضَّل الأخ المكتسب على الأخ
المنقطع للعبادة. أزيد على هذا أن الحديث الذي استدل به بعض العلماء على أن
الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر قد استدل به نفسه آخرون على أن الغني
الشاكر أفضل، الحديث هو أن بعض الفقراء شكوا للنبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم سبق الأغنياء لهم بالخير والأجر؛ لأنهم يصلون مثلهم ويتصدقون بفضول
أموالهم فأمرهم بالذكر والتسبيح والتحميد فرضوا ثم عادوا وقالوا إنهم يفعلون ذلك
فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} (المائدة: 54) ، والمتبادر أن الإشارة
إلى المال الذي ينفق في سبيل الله - وسبيل الله هو كل ما فيه فائدة ومنفعة للناس -
وإنما الزهد المحبوب هو أن لا يكون الإنسان عبدًا للمال، وهو زهد النفس.
هذا هو الغني الذي يجمع للإنسان بين خيري الدنيا والآخرة. ويظن بعض
الناس أن عمل الخير لأجل الشرف والمحمدة مذموم في نظر الدين ولا ثواب
لصاحبه عند الله تعالى بل هو مؤاخَذ كما يؤخذ من كتب الصوفية. إن هذا الظن
غير صحيح وما كان الله ليؤاخذ الإنسان على شيء أودعه في فطرته وجعله سائقًا
له إلى كماله وهو حب المحمدة الحقة. وأما المذموم عند الله تعالى وعند الناس هو
حب المحمدة الباطلة والثناء الكاذب ما توعد الله الذين يحبون أن يحمدوا بما فعلوا،
وإنما توعد الذين {وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (آل عمران: 188) ،
كيف يكره الله تعالى للعاملين حب الثناء بالحق ورفعة الذكر، وقد امتنَّ بذلك على
أفضل العاملين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى في خطاب خاتم النبيين:
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) ، وقال تعالى في كل من إبراهيم وموسى
وهارون وغيرهم من الأنبياء: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} (الصافات: 78) ،
أي: تركنا عليه الثناء الحسن.
حب المحمدة الحقة لا ينافي كون العمل الصالح لوجه الله تعالى بل هو معنى
من معانيه. وإننا لن نبلغ نفع الله فننفعه ولن نبلغ ضره فنضره كما ورد وإنما كُلفنا
بعمل الخير لأجلنا لا لأجله؛ فابتغاء وجه الله في العمل هو إرادة المنفعة الباقية به
فإن لكل شيء في هذه الدنيا وجهين: وجهًا إلى الحظوظ الجزئية الفانية ووجهًا إلى
المنافع الكلية الباقية وهذا هو وجه الله تعالى والذي يرضيه ويثيب عليه. والثناء
عليه حق. {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
إذا عرف الناس للعامل المحسن فضله وشكروا له علمه يكون ذلك باعثًا للهمم
إلى المباراة والمسابقة في ميادين الأعمال النافعة، وإن تقدم الأمم وارتقاءها على قدر
مباراة أفرادها في الأعمال النافعة ومسابقتهم في ميادينها. وإذا كان الملوك والأمراء
هم الذين يحفلون بما يكون من أفراد رعاياهم ويقدرون المحسنين قدرهم فلا تسلْ
عن مبلغ تأثير ذلك في تقدم الأمة وارتقائها. أذكر أن السلطان ملكشاه السلجوقي قد
احتفل بعالم نبغ في عصره لا أذكر اسمه الآن وكان من عاداتهم أن يقودوا في
موكب الاحتفال الخيل المسوّمة أمام المحتفَل به وعليها المياثر المونقة. وكان من
عناية السلطان أن مشى في الموكب مشيًا ووضع على عاتقه وظهره ميثرة من
المياثر التي توضع على الخيل، فلامه وزيره نظام الملك في نفسه على هذه
المبالغة في التواضع، وسأله عن السر في ذلك فقال له: سأجيبك عن هذا السؤال
بعد بضع سنين، فلم تمر السنون المعينة إلا وقد نبغ في تلك البلاد عدد عظيم من
العلماء الأعلام، فقال السلطان للوزير: هذا هو جواب سؤالك.
قلت: وأجدر أمراء المسلمين بالعناية بأمر العلم في هذا العصر أمير هذه
البلاد فإنه أعرفهم بقيمة العلم؛ لأنه قد تربى في المدارس العالية وأخذ من العلوم
حظًّا لا نعرف أميرًا مسلمًا يساهمه فيه. فإذا هو أظهر رضاه واغتباطه بمثل هذا
العمل الجليل فلا نلبث أن نرى الأغنياء والوجهاء يتبارون في مثله (قلت هذا
وأمامي مندوب من الأمير يحمل الوسام العثماني من الدرجة الثالثة لمصطفى بك
الشوربجي كما يأتي) .
ثم بعد ختم الكلام بالحث والترغيب دُعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي
فقام واعتذر بمثل ما اعتذرت به وزاد عذرًا ثالثًا وهو أنه لم يكن يتوقع الخطابة ثم
قال إنه يوافق الخطيب الأول في قوله إلا أنه لا يرى حوله إلا ما يسر من الإقبال
على العلم وافتتاح المدارس وذكر حال البلاد قبل ثلاثين سنة وما كانت عليه من
الرغبة عن العلم والتعليم، لا سيما تعليم البنات وقال: إن الأهالي كانوا يعتقدون أن
تعليم العلوم إذا لم يكن مذمومًا بلسان الدين فإنه ليس محمودًا وإن حال العلماء كان
يقوي هذا الاعتقاد فيهم وإن من تحوُّل الحال أن صرنا نرى كبار العلماء تؤسس
المدارس وتحضر احتفالاً وأن أكثرهم يرسلون أولادهم إلى المدارس لابسي
الطرابيش والسراويل الضيقة كسائر أبناء العصر الجديد وخص بالذكر مفتي الديار
المصرية ركن العلم الركين ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية التي تدير عدة
مدارس منتظمة في تأسيسها. وكذلك مدارس جمعية العروة الوثقى. واستطرد من
ذكر الجمعيات إلى الثناء على صاحب الاحتفال مصطفى بك الشوربجي وقال: إنه
صار فينا الفرد يعمل عمل الجمعية كهذا الرجل الفاضل الذي وجه عنايته إلى
تأسيس المدارس المتعددة.
ثم قام بعده جندي أفندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن الغراء خطيبًا وقال في
فاتحة كلامه: إن الخطيبين السابقين اعتذرا بما اعتذرا به عن التقصير الذي تقتضيه
مهابة روح العلم الحاضرة وإنه أجدر بالاعتذار لولا أن جرَّأه اعتقاده بحلم العلماء
وإغضائهم ثم قال: إن الخطيبين تكلما في فضل العلم والحث عليه وإنه اختار أن
يجعل معظم كلامه في مكارم الأخلاق فإن العلم لا يفيد بدون مكارم الأخلاق شيئًا
وأطنب في ذلك ما شاء وأثنى على المحتفل بما هو أهله.
ثم رغب مدير الاحتفال إلى الأستاذ الإمام بأن يشنّف الأذان بدُرَر كَلِمه ويحلي
العقول بعقود الجوهر من حِكَمه، فقام واقفًا ولما وقف اضطرب الجمع وطفقوا
يقتربون حتى كادوا يكونون عليه لِبدًا. ولما تكلم امتدت الأعناق، وشخصت
الأبصار. وأصاخت الآذان وخشعت الأصوات، وأمر العازفون بالموسيقى بالكف
عن عزفهم. ولكن الأستاذ كان - لسوء الحظ - قد عرض له شبه بحّة منعته من
رفع الصوت والاسترسال في الكلام حتى ترك لها الدرس في الجامع الأزهر فلم
يُطل القول كما كان يحب هو ويحب الناس وساوى في الاعتذار الخطباء الذين
اعتذروا بمهابته وإجلاله عن الاسترسال في القول والإجادة في الخطابة.
اعتذر بما ذكر وقال إن هذا العذر كاد يمنعه حضور الاحتفال بالمرة كما منعه
الإجابة إلى حضور الاحتفال التأسيسي؛ ولكنه تحمل المشقة للترغيب والتنشيط في
إنشاء بيوت العلم ورؤية هذا الرجل الموفق للخير المسوق إليه بوازع الفطرة
السليمة.
قال: إنني من زمن بعيد كنت أشتهي أن أرى الخير الفطري البسيط في
الإنسان وما كنت أظفر به، رأيت كثيرًا من الأخيار ولكنني كنت أرى الخير فيهم
مركبًا من الاستعداد الطبيعي والتأديب الصناعي لا بسيطًا ساذجًا حتى إذا رأيت
اليوم هذا الرجل مصطفى الشوربجي، رأيت جمال الفطرة الإنسانية في بساطتها
وسذاجتها، رأيت هذا الرجل مسوقًا إلى عمل الخير بسائق حب الخير لا ينبغي به
حمدًا ولا شكرًا إلا وجه الله ومرضاته وإنني أراه مدفوعًا إلى مثل الاحتفال.
ولولا ذلك لم يكن يخطر له ببال على أني موافق على ما قال الخطيب الأول
في حب المحمدة الحقة ولكن هذه مرتبة أخرى لا تكاد توجد إلا في الفطرة السليمة.
رُزق هذا الرجل مالاً فاهتدى إلى إنفاقه في أفضل وجوهه ووضعه في أشرف
مواضعه وليس هذا بالأمر الصغير فقد قال علماء الاقتصاد: إن الدراية والعناية التي
يحتاج إليها في إنفاق المال تزيدان عما يحتاج إليه في جمعه عشرة أضعاف فقلما
يحسن إنفاق المال مَن لم يتعلم هذا العلم في المدارس العالية. ولكننا نرى أكثر
الذين تقلبوا في المدارس وتوسعوا في درس علم الاقتصاد السياسي من أهل بلادنا
هم أشد الناس إسرافًا في المال وتبذيرًا له وقلما يضعون منه شيئًا في موضعه ونرى
هذا الرجل العامي البحت - الذي تربى في الغيطان والمزارع لا في المدارس، فلم
يسمع بهذا العلم - قد وُفق إلى عمل العلماء الراسخين فيه ثم قام يعلم المتعلمين
بحاله كيف ينفقون ويعلم غير المتعلمين بما ينشئ لهم من المدارس كيف يعملون!
ثم قال: أما العلم وفضله والترغيب في نشره فقد تكلم فيه الخطباء وأنا موافق
لهم فيما قالوا لا خلاف بينهم في الواقع فإن الأول تأسف لتأخرنا في العلم بالنسبة
إلى ما نحن في أشد الحاجة إليه واعتبار أن ما عندنا لا يقع أدنى موقع من حاجتنا.
والثاني أظهر السرور والاستبشار من حالنا العلمية بالنسبة إلى ما كنا فيه ولا شك
أنه يوجد فينا حركة نحمد الله عليها (أي إن الخطيب الأول نظر إلى الحال مع
المستقبل والخطيب الثاني نظر إلى الحال مع الماضي وهذا هو الواقع منا حقيقة)
وأما الثالث فقد تكلم عن مكارم الأخلاق وكون العلم لا يفيد بدونها شيئًا. ولا شك أن
مكارم الأخلاق من لوازم العلم الصحيح الذي مدحه الخطباء. ويمدحه جميع العقلاء،
فإنهم يعنَوْن بالعلم ما كان ملكة في النفس والملكة من مادة الملك فمعناها أن يكون
العلم مالكًا للنفس مصرفًا لها في شؤونها.
ولا معنى لمكارم الأخلاق إلا أن تكون إرادة الإنسان تابعة للعلم الصحيح
بوجوه المصالح والمنافع.
فالعلم ومكارم الأخلاق متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. ومن أطلق العلم
على غير هذا المعنى الذي قلته وقال إنه لا تأثير له في الأعمال ولا في النفس فهو
متجوز أي منتقل عن الحقيقة إلى نقيضها وإن شئت قلت إنه كاذب ولم يفهم معنى
العلم.
ثم ذكر الأستاذ أن الجناب الخديوي قد أرسل مندوبًا من قِبَله لحضور هذا
الاحتفال عناية بصاحبه وإن عنايته بمثل هذا الأمر لها من التأثير في الناس ما
يساوي عناية أمة كاملة به.
قال: وسيكون كلامه هو خاتمة الكلام.
وعند ذلك نهض المندوب وقال الناس وذكر أن مولاه أرسله ليحضر هذا
الاحتفال ويبلِّّّغ صاحبه مصطفى بك الشوربجي أنه مسرور ومغبوط بهذه الخدمة
الجليلة للبلاد ويقلده الوسام العثماني من الدرجة الثالثة وكان الوسام في يده
ومصطفى بك الشوربجي واقف فأعطاه إياه فأخذه ووضعه في جيبه. ولو قلده إياه
تقليدًا لكان أجمل وأكمل. والمزيَّة في هذا الوسام من وجه واحد وهو أن الأمير
أرسله مع مندوب من قبله حضر الاحتفال باسمه فكان كما قال الناس بمثابة حضور
الأمير بنفسه ولولا ذلك لما كان له كبير شأن؛ فإن الرتب والوسامات في مصر
صارت أكثر ابتذالاً منها في الآستانة.
ثم ختم الاحتفال بقراءة آيات من الكتاب العزيز وكان ذلك قبل الظهر، ثم
نُصبت بعده الموائد، فتغدَّى الجموع، وانصرفوا حامدين شاكرين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإصلاح الشرعي في السودان المصري
يتمشى الإصلاح في السودان كتمشي البُرء في السقم ومن فضل الله تعالى
على هذه البلاد أن كان الشيخ محمد شاكر هو قاضي القضاة فيها وحسبك أنه موضع
إعجاب اللورد كرومر فمن دونه من رجال السياسة والإدارة والقضاء الإنكليز الذين
قلما يشهدون لشرقي في هذا الزمن، ولا شك عندي أن رضاء اللورد كرومر وحاكم
السودان العام من هذا الرجل وثناءهما عليه والعناية بإجابة اقتراحاته وتنفيذ
مشروعاته - ولو بالتدريج - من دلائل حسن النية في عمران السودان وإقامة
الشرع الإسلامي فيه إقامة لا نظير لها في بلاد إسلامية في عصرنا هذا.
ذكرنا في الجزء الثاني أن الحكومة السودانية قررت إنشاء مدرسة قضائية
لتخريج القضاة الشرعيين وما ذلك إلا مشروع من مشروعات قاضي القضاة ثم إننا
علمنا مما وصل إلينا من أنباء تقريراته التي رفعها إلى الحكومة آراءً سديدة في
إصلاح المحاكم بجميع فروعها وأعمالها الإدارية والشرعية والمالية. ولم يكتفِ
بهذا حتى اقترح على الحكومة نشر العلم الإسلامي، وعمارة المساجد، وإقامة الشعائر
الدينية.
وقال: إن البلاد السودانية الآن في حاجة إلى بناء خمسين مسجدًا وأن للحكومة
أن تستعين على بنائها بديوان الأوقاف العمومية في مصر. واقترح تعيين رواتب
للعلماء الذين تفلَّتوا من الفتنة السودانية وإعانة تلامذتهم المشتغلين بطلب العلوم
الدينية لتنفخ في الأمة روح الميل إلى العلوم الحقيقة؛ وليكون من هؤلاء التلامذة
طائفة تصلح في المستقبل للوعظ والإرشاد وتعليم العامة وقال في بيان فوائد ذلك ما
معناه:
إن من يتتبع الحوادث المشؤومة الماضية ويسندها إلى عللها وأسبابها الحقيقية
يعلم أن مثارها الأكبر خلط التعاليم الدينية بالتلبيس على العامة والشعوذة والدجل
وإيهام البسطاء بذلك أن أولئك الدجالين المحتالين أولياء الله وأن اتِّّّباعهم واجب
وطاعتهم مفروضة، فعلى الحكومة أن تستأصل جراثيم هذه الخرافات بالتعليم
الإسلامي الصحيح الذي يطهر القول منها تطهيرًا.
ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان - ونرجو أن تلحقها فيه محاكم
مصر - الطلاق على الغائب والمعسر؛ فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر
المحاكم منشورًا تأذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه .
وقد جاء في تقرير لقاضي القضاة بيان فائدة هذا الحكم، وهو إنقاذ النساء
الضعيفات اللاتي يتركهن أزواجهن بلا نفقة ولا عائل حتى يلجأن إلى خدمة دنيئة
أو تكفف الناس أو ما هو شر من ذلك وهو الكسب بأعراضهن. وفيه أن القضاة قد
طلقوا على الغائبين والمعسرين في مائتي قضية أو أكثر؛ ولكن بعضهم لجهله
وغباوته لم يتحرَّ في الأمر كما يجب فطلقوا في وقائع يعرف فيها مكان الزوج
ويسهل على الحكومة إخباره (إعلانه) بالمحاكمة. وذكر أن مثل هذا الخطأ كثير
في كل فروع القضايا لجهل القضاة ووعد بأن سيتبع المنشور الأول بمنشور آخر
يعلم القضاة فيه الغرض من هذا الطلاق ليسهل عليهم الوقوف عند حدود الحق فيه.
وقال - في مقدمة التقرير الذي قدّمه إلى الحاكم العام وطلب فيه تعميم
المحاكم - ما مثاله: إنني أوجه نظر سعادتكم أولاً إلى أن القضاء عند الأمم الحية
لا يعد من موارد الكسب كغيره من مصالح الحكومة التي يقصد أن يكون ريعها أكثر
مما ينفق فيها، وإنما هو من المصالح الكمالية الضرورية؛ لأنه عبارة عن
إقامة العدل في الأمة ولولا اعتبارات خاصة لما ساغ لحكومة أن تضرب على
إقامة العدل في الرعية ضريبة تحت ستائر الرسوم القضائية؛ فوظيفة المحاكم
الحقيقية هي إقامة العدل وفصل الخصومات لا جباية الأموال وتحصيل الضرائب،
ثم قال: (وإنه ليسرني أن سعادتكم أول من نظر إلى القضاء بعين الرعاية
والعناية، ولا أزال أكرر بمزيد السرور تلك الكلمة التي سمعتها من سعادتكم وهي:
أن الدين الإسلامي غير مقام في البلاد بسبب قلة الدوائر القضائية) ، ثم اقترح
تعميم المحاكم.
وربما عدنا إلى الكلام في ذلك بعد حين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المنار
كتب إلينا محسن الملك سيد مهدي خان ناظم مدرسة العلوم في عليكره وأحد
أركان النهضة الإسلامية في الهند كتابًا، ذكر فيه المنار بما يقتضيه الحب وتنظره
عين الرضى فقال ما نصه:
(قرأنا خاتمة المنار للسنة الخامسة بفرحة وامتنان لا مزيد عليهما. وقد
سرَّنا ما علمنا من أن المنار الإسلامي قد ازداد شهرة وقبولاً في جميع أنحاء الكرة
الأرضية، وصار موضع ثقة العلماء والفضلاء في البلاد العجمية والعربية. ولا
غَرْوَ، فإننا نقطع قطعًا أن مجلتكم هي المجلة الوحيدة التي تخدم الأمة المحمدية
والديانة الإسلامية بجد ونشاط وعزم وثبات وعقل وتدبر وإن مقالاتها الطنانة الرنانة
البالغة حد الإعجاز ما كتب مثلها على ما نعلم عرب ولا عجمي. ولا يستطيع كاتب
هندي أن يصف المجلة حق وصفها مهما أوتي من الفصاحة وحسن البيان فغاية ما
نقول: جزاكم الله خير الجزاء. ومَن قال ذلك فقد أبلغ بالدعاء وبلغ غاية الثناء.
لا شك أن المنار في هذه السنة قد نما نموًّا عجيبًا وانتشر انتشارًا غريبًا في
البلاد المصرية، غير أن شهرته وانتشاره في البلاد الهندية لا يقل عن شهرته
وانتشاره في مصر؛ فإن مئات من مقالاته الحكمية والإسلامية نقلناها في لغتنا
الهندية ونشرناها في جريدتنا الأسبوعية (على كدة أنسيثيوت كزت) ، ثم تناقلتها
الجرائد الإسلامية؛ فقرأها ألوف من قرائنا وقراء سائر الجرائد وحازت رضى
العلماء والفضلاء في المدارس والجوامع والمساجد. ومن غريب الاتفاق أن مترجم
مقالاتكم لجريدتنا هو أيضًا سمي حضرتكم اسمه رشيد أحمد الأنصاري وهو من
محرري جريدتنا ومن مشاهير الكُتاب والمترجمين المجيدين في الهند.
يسرنا أن الحرية التي حلت في ربوع مصر بواسطة الاحتلال لا شك أنكم
تعرفون قيمتها وتقدرونها حق قدرها لاقتصاركم على المباحث الدينية الإسلامية
والمقالات العلمية والفضائل الأخلاقية، واجتنابكم المسائل السياسية، وإننا تجزم
جزمًا أن هذه الخطة التي رسمتموها للمنار هي أسلم له وأضمن للوصول إلى
الغرض المقصود وأوفق وأفيد للمسلمين من الخطة التي سار عليها بعض كُتاب
الجرائد المصرية. الإسلام يأمرنا بالمسالمة والمجاملة وحسن القصد مهما كانت
الظروف والأحوال. فلا ينبغي لمسلم أن يكون عليه سلطان (لعفريت الوطنية
الكاذبة) ، وينبذ بها أوامر دينه ومصالح أمته وراء ظهره. وفق المسلمين لما يحب
ويرضى.
_________
(تنبيه) : لم ننشر في هذا الجزء شيئًا من الكرامات وشبهات المسيحيين؛ لأنه صدر مما قبله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
العقائد من الأمالي الدينية [*]
الدرس (37)
في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام
(المسألة ال103) حكمة ظهور الإسلام في العرب:
نذكر هنا كلمة من مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي كتبناها في الجزء الرابع
من المجلد الثالث هي:
كان العالم الإنساني قبل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة وظلمات
من الفتن وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة وصدع بنيانها فأراد الحي
القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ويقيم بناء مدنيته على أساس من الحكمة ليثبت
ويبقى إلى ما شاء الله تعالى، ويبلغ به الإنسان كماله المستعد هو له في أصل الفطرة
القويمة، فأظهر له - جل ثناؤه - الإسلام في الأمة العربية فحملته وطافت به العالم
المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية فما كان إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى
عم نوره المشرق والمغرب، ودخل الإنسان في طور جديد وأقام أركان مدنيته على
أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل مادامت الأرض أرضًا والسماء سماءً.
وكيف تتزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن الخليقة وقد أخبر مبدعها الحكيم
الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل.
لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟
اختارهم وهو أعلم لأسباب ووجوه:
(أحدها) أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي أقيم
فيها من قبل بناء الحضارة وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق وفارس،
حيث كان التمدن الكلداني والآشورى والبابلي والفارسي والفينيقي والمصري
واليوناني والروماني فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في الأرض القابلة
وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة.
(ثانيها) أنها كانت - ولا مدنية لها سابقة (معروفة) - أشد استعدادًا من
تلك الأمم التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه
الأول، وهو استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي؛ لأنه لم يكن لها رؤساء في
الدين والسياسة يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم، وتتلاشى
آراء أفرادها في آرائهم، فلا يرجع إليهم أحد قولاً، ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا
ولا نفعًا، وأما تلك الأمم فقد كان المرؤوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا
حتى لم تبق لهم إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ إرادة الرؤساء ويمثل أفكارهم
وآراءهم (ومن هنا نفهم حكمة ظهور الإسلام بمظهر السيادة وعناية خلفائه بالفتح
والاستيلاء وهي إزالة ذلك السلطان الغاشم والاستبداد القاهر ليكون الناس أحرارًا
فيما يعتقدون ولهم بعد ذلك الخيار في الإسلام وعدمه إذ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: 256) وزال المانع من طريق الإدراك والفهم) .
(ثالثها) أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة الكمال
بمجرد سلامة الفطرة، وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي جاء يخاطب
العقل والوجدان معًا ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى ويطمس رسومه، وتكون
أسرع انفعالاً بالمؤثرات، وأشد تمسكًا بالمعتقدات.
(رابعها) أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة
والحرية الشخصية وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا
والاستماتة في المدافعة عنه على حين أمات نفوس الأمم الأخرى وذهب بإرادتها -
ما تواتر عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة - حتى سهل عليها مشايعة الظالمين
على خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا
العهد. وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني.
(خامسها) أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه على
وحي سماوي على سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به الإسلام
أو يزاحمه. وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان، على
وجه يقبله العقل وينفعل له الوجدان، إذا وجد استقلال الفكر والرأي وكذلك كان اهـ.
ونزيد الآن سببًا سادسًا هو السبب الأظهر، والوجه الأنور، ونذكره على
النسق السابق فنقول:
(سادسها) كون العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولم تمارس الأحكام
السياسية والمدنية والقضائية. وبيان هذا من وجهين:
(أحدهما) ما فهم من الأسباب السابقة وهو وجوب كون الإصلاح الجديد
الذي احتاجته الأمم كلها غير مشوب بشيء من أمشاج الأديان والمدنيات السابقة؛
لأن تلك الأديان قد انطمست وجوهها وتلك المدنيات قد انقلبت إلى ترف مفسد
وبهيمية محضة. فلو ظهر الإصلاح في أهلها لصدهم عنه ما هم فيه ولضاع الزمن
الطويل في مكافحة الجديد للقديم وكانت الأقوام قد تقيدت بما هي فيه حتى لا طريق
لخروجها منه إلا قارعة من دونهم تحل بهم فتزلزل ما هم فيه زلزالاً!
كانت تلك الأمم تقيم بناء مدنيتها على أركان الدين والعلم والسياسة المنتظمة
وأحكامها، وهذه هي أركان السعادة البشرية في هذه الحياة ولكنها أساءت استعمالها
فلفحها هجير الشقاوة فكانت من تلك الأركان في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا
يغني من اللهب، بل كان كل ما حل بها من الشقاء هو من دخان ذلك الظل الذي
ذهب بكل نور، فالأديان كانت قد انقلبت وثنية تضل العقول، وتذل النفوس،
والعلوم كانت وسائل الترف، وذرائع السرف، والأحكام كانت سوط البغي والعتو،
وسيف القهر والعلو، فكانت جميع آلات الرقي آلات للتدلي والهويّ.
وكانت العرب في إبان ذلك خلوًا من كل ذلك ولكنها كانت على جهلها وفساد
أخلاقها ترتقي في بداوتها ارتقاءً فطريًّا، وتستعد لقبول الهداية استعدادًا طبيعيًّا،
حتى إذا جاءها العلم والإصلاح كانت كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
(والوجه الثاني) وهو أوجه الوجوه وأظهر الأسباب والحكم، ظهور الآية
الكبرى والحجة العظمى، ظهور العلم الأعلى، والتعليم الأجلى، على يد أمي نشأ
في الأميين، وتربى بين الجاهلين، ولو نشأ في أمة من تلك الأمم لقيل إنه عالم
نقح العلوم وهذبها، وحرر الشرائع وشذبها، وحكيم نظر في تاريخ البشر فاستخرج
منها الحكم والعبر: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا
لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
(م 104) حال النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته:
لم يكتب الكاتبون في هذا المقام مثل ما كتبه في رسالته الأستاذ الإمام ذلك أنه
بيَّن ما كانت عليه الأمم قبل البعثة من الفساد والشرور ثم قال:
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجل منهم يوحي إليه رسالته،
ويمنحه عنايته، ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم، التي أظلت
رءوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك ولله الأمر من قبل ومن بعد.
في الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول عام الفيل (20 أبريل سنة 571 من
ميلاد المسيح عليه السلام ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي
بمكة. ولد يتيمًا توفي والده قبل أن يولد، ولم يترك له من المال إلا خمسة جمال
وبعض نعاج [1] وجارية ويروى أقل من ذلك، وفي السنة السادسة من عمره فقد
والدته أيضًا فاحتضنه جده عبد المطلب وبعد سنتين من كفالته توفي جده فكفله من
بعده عمه أبو طالب وكان شهمًا كريمًا غير أنه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف
أهله. وكان صلى الله عليه وسلم من بني عمه وصبية قومه كأحدهم على ما به من
يُتم فقد فيه الأبوين معًا وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ولم يقم على تربيته مهذِّب،
ولم يُعنَ بتثقيفه مؤدب، بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من حلفاء الوثنية،
وأولياء من عبدة الأوهام، وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنه مع ذلك كان ينمو
ويتكامل بدنًا وعقلاً وفضيلةً وأدبًا حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه
بالأمين، أدب إلهي لم تجرِ العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصًا
مع فقر القَوَّام. فاكتهل e كاملاً والقوم ناقصون، رفيعًا والناس منحطون، موحدًا
وهم وثنيون، سلمًا وهم شاغبون [2] ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعًا
على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.
ومن السنن المعروفة أن يتيمًا فقيرًا أميًّا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول
نشأته إلى زمن كهولته ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه لا سيّما إن كان من ذوي
قرابته وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم
يؤيده فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم. وأخذ بمذاهبهم إلى
أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له
الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده [3] ولكن الأمر
لم يجرِ على سنته بل بُغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة،
كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} (الضحى: 7) ، لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد أو على
غير السبيل القويم قبل الخُلق العظيم، حاش لله؛ إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما
هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب
السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه
إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير
شريعته.
وجد شيئًا من المال يسد حاجته - وقد كان له في الاستزادة منه ما يرفه
معيشته - بما عمل لخديجة رضي الله عنها في تجارتها وبما اختارته بعد ذلك زوجًا
لها وكان فيما يجتنيه من ثمرة عمله غناءً له وعونًا على بلوغه ما كان عليه أعاظم
قومه؛ لكن لم ترقه الدنيا ولم تُغْرِهِ زخارفها، ولم يسلك ما كان يسلكه مثله في
الوصول إلى ما ترغبه الأنفس من نعيمها، بل كلما تقدم به السن زادت فيه الرغبة
عما كان عليه الناس كافة ونما فيه حب الانفراد والانقطاع إلى الفكر والمراقبة
والتحنث بمناجاة الله تعالى والتوسل إليه في طلب المخرج من همه الأعظم في
تخليص قومه ونجاة العالم من الشر الذي تولاه، إلى أن انفتق له الحجاب عن عالم
كان يحثه إليه الإلهام الإلهي، وتجلي عليه النور القدسي، وهبط عليه الوحي من
المقام العلي، في تفصيل ليس هذا موضعه.
لم يكن من آبائه ملك فيطالب بما سلب من ملكه وكانت نفوس قومه في
انصراف تام عن طلب مناصب السلطان، وفي قناعة بما وجدوه من شرف النسبة
إلى المكان، دل عليهما ما فعل جده عبد المطلب عند زحف أبرهة الحبشي على
ديارهم. جاء الحبشي لينتقم من العرب بهدم معبدهم العام، وبيتهم الحرام، ومنتجع
حجيجهم ومستوى العلية من آلهتهم، ومنتهى حجة القرشيين في مفاخرتهم لبني
قومهم، وتقدم بعض جنده فاستاق عددًا من الإبل فيها لعبد المطلب مئتا بعير وخرج
عبد المطلب في بعض قريش لمقابلة الملك فاستدناه وسأله حاجته فقال: هي أن ترد
إليَّ مئتي بعير أصبتها لي، فلامه الملك على المطلب الحقير، وقت الخطب
الخطير، فأجابه: أنا رب الإبل أما البيت فله رب يحميه، هذا غاية ما ينتهي إليه
الاستسلام وعبد المطلب في مكانه من الرياسة على قريش فأين من تلك المكانة
محمد صلى الله عليه وسلم في حالة من الفقر ومقامه في الوسط من طبقات أهله
حتى ينتجع ملكًا أو يطلب سلطانًا؟ ، لا مال، لا جاه، لا جند، لا أعوان، لا
سليقة في الشعر، لا براعة في الكتاب، ولا شهرة في الخطاب، لا شيء كان عنده
مما يُكسب المكانةَ في نفوس العامة، أو يرقى به إلى مقامٍ ما بين الخاصة.
ما هذا الذي رفع نفسه فوق النفوس، ما الذي أعلى رأسه على الرؤوس، ما
الذي سما بهمته على الهمم، حتى انتدب لإرشاد الأمم وكفالته لهم كشف الغمم بل
وإحياء الرمم؟ ما كان ذلك إلا ما ألقى الله في روعه من حاجة العالم إلى مقوم لما
زاغ من عقائدهم، ومصلح لما فسد من أخلاقهم وعوائدهم، ما كان ذلك إلا وجدانه
ريح العناية الإلهية ينصره في عمله، ويمده في الانتهاء إلى أمله، قبل بلوغ أجله،
ما هو إلا الوحي الإلهي يسعى نوره بين يديه فيضيء له السبيل، ويكفيه مؤنة الدليل،
ما هو إلا الوعد السماوي، قام لديه مقام القائد والجندي، أرأيت كيف نهض
وحيدًا فريدًا يدعو الناس كافة إلى التوحيد، والاعتقاد بالعلي المجيد والكل ما بين
وثنية مفرقة ودهرية وزندقة.
نادى في الوثنيين بترك أوثانهم ونبذ معبوداتهم وفي المشبهين المنغمسين في
الخلط بين اللاهوت الأقدس وبين الجسمانيات بالتطهر من تشبيههم وفي الثنوية
بإفراد إله واحد بالتصرف في الأكوان ورد كل شيء في الوجود إليه، أهاب
بالطبيعين ليمدوا بصائرهم إلى ما وراء حجاب الطبيعة فيتنورا سر الوجود الذي
قامت به، صاح بذوي الزعامة ليهبطوا إلى مصاف العامة في الاستكانة إلى سلطان
معبود واحد هو فاطر السموات والأرض والقابض على أرواحهم في هياكل كل
أجسادهم. تناول المنتحلين منهم لمرتبة التوسط بين العباد وبين ربهم الأعلى فبين
لهم بالدليل وكشف لهم بنور الوحي أن نسبة أكبرهم إلى الله كنسبة أصغر المعتقدين
بهم وطالبهم بالنزول عما انتحلوه لأنفسهم من المكانات الربانية إلى أدني سلم من
العبودية، والاشتراك مع كل ذي نفس إنسانية في الاستعانة برب واحد يستوي
جميع الخلق في النسبة إليه لا يتفاوتون إلا فيما فضل به بعضهم على بعض من علم
أو فضيلة.
وخز بوعظه عبيد العادات وأُسراء التقليد ليعتقوا أرواحهم ما استعبدوا له،
ويحلوا أغلالهم التي أخذت بأيديهم عن العمل، وقطعتهم دون الأمل، مال على
قراء الكتب السماوية والقائمين على ما أودعته من الشرائع الإلهية فبكّت الواقفين
عند حروفها بغباوتهم، وشدد النكير على المحرفين لها الصارفين لألفاظها إلى غير ما
قصد من وحيها اتباعًا لشهواتهم. ودعاهم إلى فهمها، والتحقق بسر علمها، حتى
يكونوا على نور من ربهم. ولفت كل إنسان إلى ما أودع فيه من المواهب الإلهية
ودعا الناس أجمعين ذكورًا وإناثًا عامة وسادات إلى عرفان أنفسهم وأنهم من نوع
خصه الله بالعقل وميزه بالفكر وشرفه بهما وبحرية الإرادة فيما يرشده إليه عقله
وفكره، وأن الله عرض عليهم جميع ما بين أيديهم من الأكوان وسلطهم على فهمها
والانتفاع بها بدون شرط ولا قيد إلا الاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة العادلة
والفضيلة الكاملة. أقدرهم بذلك على أن يصلوا إلى معرفة خالقهم بعقولهم وأفكارهم
بدون واسطة أحد إلا مَن خصهم الله بوحيه. وقد وكل إليهم معرفتهم بالدليل كما كان
الشأن في معرفتهم لمبدع الكائنات أجمع والحاجة إلى أولئك المصطفَين إنما هي في
معرفة الصفات التي أذن الله أن تعلم منه، وليست في الاعتقاد بوجوده.
وقرر أن لا سلطان لأحد من البشر على آخر منه إلا ما رسمته الشريعة
وفرضه العدل ثم الإنسان بعد ذلك يذهب بإرادته إلى ما سخرت له بمقتضى الفطرة،
دعا الإنسان إلى معرفة أنه جسم وروح وأنه بذلك من عالمين متخالفين وإن كانا
ممتزجين وأنه مطالَب بخدمتهما جميعًا وإيفاء كل منهما ما قررت له الحكمة الإلهية
من الحق. دعا الناس كافة إلا الاستعداد في هذه الحياة لما سيلاقون في الحياة
الأخرى وبيّن لهم أن خير زاد يتزوده العامل هو الإخلاص لله في العبادة والإخلاص
للعباد في العدل والنصيحة والإرشاد.
قام بهذه الدعوة العظمى وحده ولا حول له ولا قوة، كل هذا كأنه منه والناس
أحباء ما ألفوا وإن كان خسران الدنيا وحرمان الآخرة أعداء ما جهلوا وإن كان
رغد العيش وعز السيادة ومنتهى السعادة. كل هذا والقوم حواليه أعداء أنفسهم
وعبيد شهواتهم لا يفقهون دعوته. ولا يعقلون رسالته. عقدت أهداب بصائر العامة
منهم بأهواء الخاصة. وحجبت عقول الخاصة بغرور العزة عن النظر في دعوى
فقير أمي مثله لا يرون فيه ما يرفعه إلى نصيحتهم والتطاول إلى مقاماتهم الرفيعة
باللوم والتعنيف.
لكنه في فقره وضعفه كان يقارعهم بالحجة ويناضلهم بالدليل ويأخذهم
بالنصيحة ويزعجهم بالزجر وينبههم للعبر ويحوطهم مع ذلك بالموعظة الحسنة كأنما
هو سلطان قاهر في حكمه، عادل في أمره ونهيه أو أب حكيم في تربية أبنائه شديد
الحرص على مصالحهم رؤوف بهم في شدته رحيم في سلطته.
ما هذه القوة في ذلك الضعف؟ ما هذا السلطان في مظنة العجز؟ ما هذا العلم
في تلك الأمية؟ ما هذا الرشاد في غمرات الجاهلية؟
إن هو إلا خطاب الجبروت الأعلى، قارعة القدرة العظمى نداء العناية العليا.
ذلك خطاب الله القادر على كل شيء الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، ذلك نداء
أمر الله الصادع يقرع الآذان ويشق الحجب ويمزق الغلف، وينفذ إلى القلوب على
لسان من اختاره لينطق به واختصه به وهو أضعف قومه ليقيم من هذا الاختصاص
برهانًا عليه بعيدًا عن الظنة بريئًا من التهمة؛ لإتيانه على غير المعتاد بين خلقه.
أي برهان على النبوة أعظم من هذا؟ أمي قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما
يكتبون وما يقرءون، بعيد عن مدارس العلم، صاح بالعلماء ليمحّصوا ما كانوا
يعلمون، في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء، ناشئ بين الواهمين هب
لتقويم عوج الحكماء. غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة وأبعدها عن
فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة أخذ يقرر للعالم أجمع أصول الشريعة
ويخط للسعادة طرقًا، لن يهلك سالكها ولن يخلص تاركها.
ما هذا الخطاب المفحم؟ ما ذلك الدليل الملجم؟ أأقول: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ
هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31) لا، لا أقول ذلك؛ ولكن أقول كما أمره الله
أن يصف نفسه: إِن هو بشر مثلكم يوحى إِلَيه: نبي صدّق الأنبياء، ولكن لم يأتِ
في الإقناع برسالته بما يلهي الأبصار أو يحير الحواس أو يدهش المشاعر؛ ولكن
طالب كل قوة العمل فيما أعدت له واختص العقل بالخطاب، وحاكم إليه الخطأ
والصواب، وجعل في قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل مبلغ الحجة وآية
الحق الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) . ا. هـ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نشر الدرس السادس والثلاثون في الكراسة 42 من المجلد الخامس (ص331) وشُغلنا بعد ذلك بمقالات الإسلام والنصرانية - وأم القرى مع التفسير - عن تتابع مقالات العقائد وكان ذلك الدرس في نبوة خاتم النبيين والحاجة إلى عمومها والاستعداد العام لها، ووعدنا فيه ببيان حكمة كونه من العرب وبيان ارتقاء الدين من كلام الأستاذ الإمام، وهذا الثاني قد ذكرناه في غير الأمالي؛ فلا نعيده.
(1)
قيل: خمس وقيل تسع.
(2)
استشهد له بقصة اختلاف القبائل أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه يوم بناء الكعبة، وكادوا يقتتلون لولا أن أصلح بينهم بما أرضاهم جميعًا.
(3)
كأمية بن أبي الصلت وعمرو بن نفيل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
تتمة المقالة العاشرة
(المسألة الخامسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أن الكرامة
على قسمين: كرامة حسية كالمشي على الماء، وكرامة معنوية وهي التوفيق لكمال
المحافظة على حدود الشريعة ظاهرًا وباطنًا وما ينشأ عن ذلك من العلوم والمعارف
الإلهية. وذكر أن الأكابر لا يحفلون بالكرامات الحسية وأن أعظم كرامة عندهم
العلم بالله تعالى والدار الآخرة وما تستحقه الدار الدنيا وما خُلقت له ولأي شيء
وُضعت حتى يكون الإنسان من أمره على بصيرة من حيث كان فلا يجهل من نفسه
ولا من حركاته شيئًا. بل قال: إن الكرامة ليست إلا العلم. أما المعنوية فظاهر أن
العلم بمداها وثمرتها وأما الحسية فإنه يشترط أن تكون بتعريف إلهي وهو عين العلم.
ونقول: إن هذه الكرامة المعنوية لا ينكرها أحد وكلها نفع وليس فيها ضرر ولا
خداع فإن العلم نور لا ظلمة فيه. والولي المحمدي لا يليق به التعويل على غير
هذه الكرامة فإن آية نبيه الكبرى معنوية والكرامة قبس من نور المعجزة كما يقولون.
(المسألة السادسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أيضًا أن
الخوارق التي تحصل على أيدي الصالحين قد يكون فيها مكر خفي واستدراج،
وشرط لصحة كونها كرامة أكرم الله بها العبد لا مكرًا به ولا استدراجًا له أن تكون
ناتجة عن استقامة أو منتجة لاستقامة وأن تكون بتعريف إلهي. هذا ما اشترطه
شيخ الصوفية الأكبر، وهو مخالف لما في كتب علماء الظاهر من كون الكرامة هي
الأمر الخارق للعادة الذي يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح. ولو اعتبر بهذا وما
قبله الذين يعتدون المصادفات الغريبة كرامات وإن ظهرت على أيدي المستورين أو
الفاسقين لكفوا من غلوائهم.
(المسألة السابعة والعشرون) أن الكرامة في عرف العامة هي الفصل الذي
يميز طائفة من الناس يسمونهم الأولياء والولي في اللغة الناصر والمتولي للأمور
وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من دونه أولياء وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 257) ، وأولياء الله هم أنصار دينه والمميز لهم كمال الاتباع المعبر عنه
بالتقوى، فكل مؤمن تقي ولي وليس عمل الغرائب ولا صدور الخوارق دليلاً على
التقوى ولا على الولاية؛ قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) ، وفي الباب السادس
والثمانين بعد المئة من الفتوحات المكية أن تارك الكرامات هو المتحقق باتخاذ الحق
وكيلاً له امتثالاً لقوله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} (المزمل: 9) .
(المسألة الثامنة والعشرون) يستدل العامة على ثبوت وقوع الكرامات
للأولياء بقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} (الزمر: 34) وهي جراءة
على تحريف القرآن فاشية فيهم، وإنما الآية في أهل الجنة في الجنة وقد اختزلوا
منها هذه الجملة فكان استدلالهم بها على أن الأولياء يعطيهم الله في الدنيا ما يشاؤون
من الخوارق كاستدلال بعض المتلاعبين على تحريم الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
…
} (النساء: 43) وترك القيد وهو قوله: {
…
وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: 43) ، وأكثر الذين رأيناهم يستدلون على الكرامة بما
ذُكر جاهلون بما عدا تلك الكلمة من الآية؛ ولهذا نكتبها لهم بتمامها، وهي {تَرَى
الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي
رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ
…
} (الشورى
: 22) ، ثم قال بعدها: {
…
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} (الشورى: 23)
…
إلخ، فأنت تراها بشارة للمؤمنين العاملين بما سيكون لهم من الجزاء في الآخرة،
فهي كقوله تعالى - بعد ذكر الجنة ودخول المتقين فيها -: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق: 35) ، فأين ذلك من حديث الخوارق في الدنيا؟ !
(المسألة التاسعة والعشرون) أن الاعتقاد بالكرامة ليس من أصول الإيمان،
التي يكلف المؤمن باعتقادها كما تقدم وإنما ذكروها في كتب الدين؛ لما تقدم من
الاستدلال على وقوعها بالكتاب في قصة أم موسى وأم عيسى عليهما السلام. وقد
علم من المقالة الرابعة أن قصارى ما يدل عليه الكتاب هو الإلهام الصحيح للأولى
وتمثل الملك الروح الثانية ومكالمتها وذلك من مقدمات نبوة ولديهما كحبل مريم بنفخ
الروح فيها. فمثل هذا لا يقاس عليه لأنه آية لم تأتِ على قياس؛ لأن زمن النبوة قد
انقطع فلم يبق إلا تحكيم العلم في مسألة الخوارق فما أثبته فهو الثابت وما نفاه فهو
المنفي وما توقف فيه فالوقف حتم إلى أن يتجلى فيه شيء.
(المسألة الثلاثون) لنا أن نجعل الدين معينًا للعلم في البحث عن الخوارق
التي تحقق وقوعها وذلك أن الدين علمنا أن وراء العالم المحسوس عالمًا غيبيًّا لا
تستقل الحواس بإدراكه. ومن حكم الدين في الأخبار بهذا توجيه همة الإنسان إلى
شيء أرقى من هذه المحسوسات التي تشاركه فيها البهائم والحشرات حتى لا يقف
باستعداده غير المحدد عند هذه الحدود القريبة. وإن للعالم الغيبي اتصالاً بعالم
الشهادة المحسوس ومنها أرواحنا التي بها نحيا وندرك.
وهذه المسألة تنفعنا في تعليل كثير من الوقائع التي تسمى خوارق وهي
خوارق عادات حقيقة؛ ولكنها ليست خوارق للسنن الإلهية فإذا لم تظهر لها سنة
حسية جليلة فإن لها سنة معنوية خفية. وهذه التعليلات والتأويلات الآتية من قبيل
تعليل علماء المادة كثيرًا من الظواهر الطبيعية بالأثير يسندون إليه الآثار وإن لم
تدركه الأبصار بل هي أظهر منها وإننا نجعل هذه المسألة آخر المسائل التي نجلي
بها مبحث الخوارق والكرامات. فعلم من هذا أنه ليس في الدين دليل على وقوع
الخوارق لغير الأنبياء إلا في وقائع متصلة بهم ومتعلقة بظهورهم وأن المعول عليه
فيما وراء ذلك هو العلم والاختبار.
وسترى أنواع الخوارق في المقالات التالية وحكم العلم والاختبار فيها.
* * *
المقالة الحادية عشرة
في أنواع الكرامات وضروب التأويل
ما رأيت أحدًا توسع في الكلام على الكرامات كالتاج السبكي في الطبقات
الكبرى؛ ولذلك جعلنا كلامنا في المقالات الأولى معه. وقد تكلم في أنواع الكرامات
وقال: إن بعض المتأخرين عدد أنواع الواقعات من الكرامات فجعلها عشرة وهي
أكثر من ذلك وأنا أذكر ما عندي فيها، ثم ذكر خمسة وعشرين نوعًا لا تخلو من
تكرار وتداخل ثم قال: وأظن أن أنواع كراماتهم تبلغ المئة، وقد زدت عليه في
خاتمة كتاب (الحكمة الشريعة في محاكمة القادرية والأحمدية) أنواعًا مشهورة
عنهم. وإننا نسرد هذه الأنواع المشهورة ونحرر القول فيها. ونشير إلى وجوه
التأويل التي تعتريها فنقول:
(النوع الأول: إحياء الموتى)
ذكر السبكي فيه حكايات في إحياء نحو دابة ودجاجة وحدأة وطفل صغير وقع
من سطح فمات ثم قال: لا يثبت عندي أن وليًّا حيي له ميت مات من أزمان كثيرة
بعد ما صار عظمًا رميمًا ثم عاش بعدما حيي زمانًا كثيرًا، هذا القدر لم يبلغنا ولا
أعتقده وقع لأحد من الأولياء ولا شك في وقوع مثله للأنبياء عليهم السلام. فمثل هذا
يكون معجزة ولا تنتهي إليه الكرامة فيجوز أن يجيء نبي قبل اختتام النبوة بإحياء أمم
انقضت قبله بدهور ثم إذا عاشوا استمروا في قيد الحياة أزمانًا. ولا أعتقد الآن أن
وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمنًا طويلاً كما عمّرا قبل الوفاة
ولا زمانًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء كما خالطاهم قبل الوفاة. اهـ كلامه.
أقول: إذا كان يعترف بأن الشيخ عبد القادر الجيلي أحيا الدجاجة بعد أكلها
مطبوخة! ، فلماذا يستنكر على مثله إحياء الشافعي وأبي حنيفة وبماذا يفرق بين
الإحياءين؟ ! إن كان الكلام في الجواز وعدمه فهو حكم عقلي لا يختلف باختلاف
الأشخاص، وإن كان الكلام في الوقوع فهو يتوقف على المشاهدة أو السماع من
المعصوم أو النقل بالتواتر الصحيح عن أحدهما ولا شيء من ذلك بثابت إلا ما حكى
الله تعالى من قول عيسى عليه السلام: {وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران
: 49) ، ولم يقل إنه أحيا ميتًا أو أمواتًا مضى على موتهم من الزمن الطويل؛
حتى صاروا رممًا بالية ثم عاشوا بين الناس وحدثوهم بما كان من أمرهم بعد الموت،
ولو فعل هذا لما بقي أحد إلا وآمن به.
ولسنا نريد أن عدم النص والتصريح بأنه أحيا الموتى بالفعل يقتضي أنه لم يقع
منه إحياء حقيقي بالفعل أو أن المراد بالموتى موتى الجهل والكفر وبالإحياء الهداية
إلى الإيمان والحق كما قال المأوِّلون وإنما نريد أن السبكي لا يجد نصًّا يؤيد به
دعواه وأنه متحكم، وإن كان مصيبًا في قوله وِفاقًا للقشيري: إن الكرامة لا تبلغ
مبلغ المعجزة ويظهر أن الميزان الذي يزن به هذه الأحكام هو عظمة الأشخاص أو
الأصناف في نفسه فلما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم الناس قدرًا أعطاهم
إحياء العظام الرميم وكون من يحيونه يعيش الزمن الطويل، وأعطى الأولياء إذا
كانوا دونهم إحياء الطيور والأطفال!
كان للنصارى غرام بنقل الآيات والخوارق والأمر الغريب إذا اشتهر بين
الناس لا ينسى وإن كان سنده واهيًا أو موضوعًا. ولم ينقل القوم عن المسيح أنه أحيا
العظام الرميم بل روى لوقا في آخر الفصل الثامن من إنجيله أن ابنة رئيس المجمع
ماتت وأن المسيح قال: (لا تبكوا لم تمُت لكنها نائمة 53 فضحكوا عليه عارفين
أنها ماتت 54 فأخرج الجميع خارجًا وأمسك بيدها ونادى قائلاً: يا صبية قومي،
فرجعت روحها وقامت في الحال) اهـ. وروى يوحنا في الفصل الحادي عشر
من إنجيله قصة إحياء (لعازر) أخي مريم ومرثا وكان المسيح يحبه ويحبهما
وكان مرض فأخبر المسيح تلاميذه بأنه نام وأنه يريد إيقاظه ويعني أنه مات فجاء
معهم من أورشليم إلى قرية بيت عينا، حيث كان لعازر وأختاه وكان قد مات
ووضع في مغارة منذ أربعة أيام فجاءها وأمر برفع الحجر ورفع هو عينيه إلى فوق
وقال: أيها الأب أشكرك؛ لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي
ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني، ولما قال هذا صرخ
بصوت عظيم لعازر هلم خارجًا فخرج الميت
…
إلخ.
هذا ما رووه وهو على انقطاع إسناده ليس في شيء مما قال السبكي. أما حكاية
البنت فيحتمل أنها كانت في نوم حقيقي كما هو ظاهر قوله. وأما الحكاية الثانية
فإننا معشر المؤمنين نسلم بها إذا صح نقلها بالتواتر وإن كان ملاحدة النصارى قالوا
فيها باحتمال المواطأة بين المسيح ولعازر على ما كان (نعوذ بالله من كفرهم)
وباحتمال أن يكون ذلك من قبيل النوم الطويل فقد ثبت أن من الناس من ينام عدة
أسابيع أو عدة أشهر ثم يستيقظ بسبب أو بدون سبب، ولولا ما ثبت في القرآن من
نبوة المسيح وتأييد الله تعالى له بإحياء الموتى لكان التأويل متعينًا فليس عندنا نقل
متواتر يعتد به.
هذا، وإننا خرجنا عن الموضوع بإدخال المعجزة في البحث. والذي نقوله
في هذا النوع من حيث عدُّه في الكرامات إنه لم يثبت والأصل عدمه. وإن ما أورده
السبكي من الحكايات ينطبق على القاعدة التي قررها في طبقاته وهي عدم جواز
إظهار الكرامة إلا لأمر عظيم يضطر إليها حتى إنه انتحل تطبيق ما أورده من
الكرامات المأثورة عليها. وكان ينبغي له أن يطبقها على قاعدته الأخرى وهي عدم
بلوغ الكرامة مبلغ المعجزة فيقول: إن إحياء الموتى لا يكون من الكرامات ولا عبرة
بتلك القصص والحكايات.
هذا، وإن المشعوذين في أوربا وغيرها يخيلون للناس أنهم يذبحون الإنسان
فيبينون رأسه عن جثته ثم يحيونه ويطمع العلماء بأن يرتقي العلم بالناس إلى
مستوى يهتدون فيه إلى إعادة الحياة لمن تفارقه بعد زمن قريب! ومنهم طائفة من
الروحيين تشتغل بالبحث عن طريق مناجاة أرواح الموتى ولا يبعد أن يجيء يوم
يظهر لهم فيه أن ما روي من إحياء سيدنا عيسي للبنت ولعازر.
وإحياء سيدنا محمد لابن جابر قد كان بسُنة إلهية خفية وهو إمداد الأرواح
القوية العلوية للأرواح الضعيفة السفلية حتى تعود بإذن الله إلى التصرف بالجسد
وإذا لم يطل على مفارقته الأمد. وقد سبق الإلماع إلى أن آيات الأنبياء عليهم السلام
إذا كانت جارية على سنن إلهية روحانية يكون ذلك أليق بكمال الله عز وجل مما إذا
كانت بمحض القدرة لما فيه من اتفاق القدرة على النظام والحكمة وذلك كمال في
القدرة لا نقص فيها.
* * *
(النوع الثاني: تكليم الموتى ورؤية الأرواح)
قال السبكي: هو أكثر من النوع الذي قبله وروى مثله عن أبي سعيد الخزاز
رضي الله تعالى عنه ثم عن الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه وعن جماعة
من آخرهم بعض مشايخ الشيخ الإمام الوالد ولست أسميه.
ونقلت في كتاب (الحكمة الشرعية) عن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي
ما حكاه عن نفسه في الفتوحات المكية (باب 311) وهذا نصه: (ولقد كنت
انقطعت في القبور مدة منفردًا بنفسي فبلغني أن شيخنا يوسف بن يخلف الكرمي قال:
إن فلانًا وسماني ترك مجالسة الأحياء وراح يجالس الموتى، فبعثت إليه وقلت: لو
جئتني لرأيت من أجالس، فصلى الضحى وأقبل إليَّ وحده ما معه أحد، فطلب علي
فوجدني بين القبور قاعدًا مطرقًا وأنا أتكلم على من حضرنى من الأرواح فجلس إلى
جانبي بأدب قليلاً قليلاً فنظرت إليه فرأيته قد تغير لونه وضاق نفسه وكان لا يقدر
يرفع رأسه من الثقل الذي عليه وأنا أنظر إليه وأتبسم، فلا يقدر أن يتبسم لما هو فيه
من الكرب فلما فرغت من الكلام وصدر الوارد خفف عن الشيخ واستراح ورد وجهه
إليَّ فقبل بين عيني فقلت له: يا أستاذ مَن يجالس الموتى أنا أو أنت؟ ! قال: لا
والله بل أنا أجالس الموتى والله لو تمادى علي الحال فطست. وانصرف وتركني
فكان يقول: من أراد أن يعتزل عن الناس فليعتزل مثل فلان) اهـ.
وأقول الآن: إن مثل هذه الحكاية منقول عن الصوفية بكثرة وهو من
خوارق العادات المألوفة المعروفة؛ ولكنه ليس خارجًا عن السنن الإلهية، ولا
خارقًا للنواميس الكونية. ولا علاقة له بالأمور الدينية، وإنما الروح الإنساني مستعد
في أصل الفطرة لإدراك عالمه؛ ولكنه يشغل عنه بعالم الجسد الذي يكون كل شغله
به من أول النشأة وهذا الاستعداد يكون قويًّا في بعض الناس فإذا اهتدى من يكون
قويًّا فيه إلى استعماله يزداد قوة حتى يتمكن من رؤية الأرواح المجردة أي: التي
تفارق الأجساد ويقوى على خطابها وللإفرنج في هذه السنين عناية بهذا الأمر
واشتغال به كبير، ويروى عنهم في استحضار الأرواح ومكالمة الموتى أضعاف ما
روي عن الصوفية من الوقائع؛ ولكنهم مع ذلك لم يبلغوا فيه مبلغ الصوفية فيما أظن
ولا يبعد أن يسبقوهم في يوم من الأيام؛ لأن جد هؤلاء الإفرنج ومثابرتهم على
الأعمال التي يهتدون إلى طريقها من الغرابة بمكان.
هذا ما يقال في التأويل لمن صحت عنده الروايات عن الأولين والآخرين. ومن
الناس من يقول: إن كل ما يروى في هذا المقام غير حقيقي وإنما هو من ضروب
الشعوذة والسيمياء يخيلون فيه للناس ما لا حقيقة له في الواقع وقد ذكر الصوفية أن
بعض المشاهد الروحية يكون في عالم الخيال، وبعضها يكون في عالم المثال، وقد
أطلنا هذا البحث في كتاب (الحكمة الشرعية) فكتبنا فيه 35 صفحة، ومنه: قال
حجة الإسلام الغزالي (رحمه الله تعالى) في كتابه (المنقذ من الضلال) في الثناء
على الصوفية: (حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون
منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد) وفي المواهب اللدنية للقسطلاني أن الغزالي قال
في تفسير حديث: (مَن رآني في المنام فقد رآني حقًّا) وحديث: (مَن رآني في
المنام فسيراني في اليقظة) ، ليس معنى قوله:(فقد رآني) أنه رأى جسمي
وبدني وإنما المراد أنه رأى مثالاً صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في
نفسي إليه. وكذلك قوله (فسيراني في اليقظة) ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني
(قال) : والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل،
فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل
هو مثاله على التحقيق، فعلم بهذا أن الغزالي يريد برؤية الأرواح رؤية مثل
متخيلة لها؛ ولكنه قال في المنقذ بعد ما تقدم: ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور
والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق الناطق.
وذكر الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر) جماعة كانوا يرون النبي e
في اليقظة منهم الشيخ قاسم المغربي، ونقل عن الشيخ قاسم المذكور أنه قال:
وأكثر ما تقع رؤية النبي e يقظة بالقلب ثم تترقى إلى رؤية البصر (قال) :
وليست رؤية النبي e كرؤية بعضنا بعضًا وإنما هي جمعية خيالية وحالة برزخية
وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من به باشره اهـ.
ففهم أن الإنسان لا يزال يفكر في الميت الذي تتوجه إليه نفسه ويعمل في
إخطاره على قلبه حتى يتخيل أنه يراه معه؛ لأنه يغيب عن عالم الحس ويستغرق في
عالم الخيال.
وذكر الشعراني في ميزانه عن شيخه علي الخواص أن الأئمة المجتهدين كانوا
يرون النبي e يقظة ويسألونه عن الأحكام المشكلة. ولو كانت هذه الرؤية حقيقة
مطردة لما اختلفوا؛ إذ لا يمكن أن يجيبهم بأجوبة مختلفة في المسألة الواحدة؛ ولما
توقفوا في بعض المسائل، فإن صح قوله فهي الجمعية الخيالية وهي لا تزيد
الإنسان على ما في نفسه على أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ادعى ذلك.
وفي الذهب الأبرز (ص44 و45) من النسخة المطبوعة بمصر سنة
(1292)
أن ابن المبارك سأل الشيخ عبد العزيز الدباغ عن استحضار صورة النبي
e في ذهن المؤمن هل هي من عالم الروح أو من عالم المثال أو من عالم الخيال؟
قال: فأجاب رضي الله عنه بأن ذلك الاستحضار من روح الشخص وعقله فمن
توجه بفكره إليه صلى الله عليه وسلم ووقعت صورته في ذهنه فإن كان ممن يعلم
صورته الكريمة لكونه صحابيًّا أو من العلماء الذين عنوا بالبحث عنها ثم حصلوها
فإنها تقع في فكره على ما هي عليه في الخارج. وإن كان من غير هذين فإنه
يستحضره في صورة آدمي في غاية الكمال في خلقه وخلقه فقد توافق الصورة التي
في فكره ما في الخارج وقد تخالفه، والحاضر في الفكر هو صورة ذاته صلى الله
تعالى عليه وسلم لا صورة روحه عليه الصلاة والسلام فإن الذي شاهده الصحابة
رضي الله تعالى عنهم وأخبر عنه العلماء هو الذات لا الروح الشريفة ولا يجول
الفكر إلا فيما يعلمه الشخص ويعرفه. فقولكم: هل هو من عالم الروح؟ إن أردتم
به الاستحضار فهو من عالم الروح أي: من روح المتفكر. وإن أردتم به الحاضر
أي: فهل الحاضر في أفكارنا روحه صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقد سبق أنه ليس إياها، وأما المحادثة والمكالمة إذا حصلت لهذا المتفكر فإن كانت ذاته طاهرة
وتحبها روحه ولم تحجب عنه أسرارها وكانت معه كالخليل مع خليله فالمحادثة
معصومة وهي حق وإن كانت الذات على العكس فالأمر على العكس والله الموافق
اهـ.
وما ذكره أخيرًا من الحكم في المحادثة فيه غموض ولا أقول هنا كما قلت في
الحكمة الشرعية: إن فيه وقفة ظاهرة.
ثم قال ابن المبارك: إنه ذكر لشيخه رجلاً من الصالحين كان يذكر الله مع
جماعة من أصحابه فما كان من أحدهم إلا أن تبدل لونه وتغير حاله وبدل جلسته هل
هذه المشاهدة التي وقعت لهذا الرجل مشاهدة فتح أو مشاهدة فكر؟ فقال: مشاهدة
فكر لا مشاهدة فتح ومشاهدة الفكر وإن كانت دون مشاهدة الفتح إلا أنها لا تقع إلا
لأهل الإيمان الخالص والمحبة الصافية والنية الصادقة. وبالجملة فهي لا تقع إلا
لمن كمل تعلقه بالنبي e وكم واحد تقع له هذه المشاهدة فيظنها مشاهدة فتح وإنما
هي مشاهدة فكر. وهذا القسم الذي يقع له هذه المشاهدة وهو غير مفتوح عليه إذا
قيس مع عامة المؤمنين كانوا بالنسبة إليه كالعدم ويكون إيمانهم بالنسبة إليه كلا
شيء والله أعلم.
قال ابن المبارك: ومما يؤكد هذه المشاهدة الفكرية وأنها تقع لغير المفتوح
عليه كونها تقع لمن كملت محبته في شخص، وإن كان غير النبي e ولقد أخبرني
بعض الجزارين أنه مات له ولد كان يحبه كثيرًا وأنه لم يزل شخصه في فكره حتى
أن عقله وجوارحه كلها معه فكان هذا دأبه ليلاً ونهارًا إلى أن خرج ذات يوم إلى
باب الفتوح أحد أبواب (فاس) حرسها الله تعالى لشراء الغنم على عادة الجزارين
فجال فكره في أمر ولده الميت فبينما هو يجول فكره إذ رآه عيانًا وهو قادم إليه
حتى وقف إلى جنبه. قال: فكلمته وقلت له: يا ولدي خذ هذه الشاة - لشاة اشتريتها
-حتى أشتري أخرى، وقد حصلت غيبة قليلة عن حسي فلما سمعني مَن كان قريبًا
أتكلم مع الولد قالوا: مع مَن تتكلم أنت؟ فلما كلموني رجعت إلى حسي وغاب الولد
عن بصري فلا يدري ما حصل في باطني من الوجد عليه إلا الله تبارك وتعالى اهـ.
وقلت بعد إيراد هذا في (الحكمة الشرعية) : وظاهر أن هذا الرجل قد
انطبعت صورة ولده في خياله ، ولشدة اشتغاله به وضعف شأن المحسوس الذي هو
آخذ به بالنسبة إليه غاب عن حسه وتلاشى تحت قوة سلطان خياله فتمثلت له صورة
ولده المطبوعة في خياله بشرًا سويًّا فحدثه وهْمُه بأنه يراه حقيقة فخاطبه بما خاطبه
به حتى إذا تنبه بتنبيه آخر لم يَرَ شيئًا. وهذه الرؤية من قبيل الأحلام المنامية.
وقد رأيت امرأة مخبولة تخاطب الأموات وتخبر عن حالهم عند ما يمرون في خيالها:
هذا فلان يقول كذا هذا فلان يقول كذا، وكثيرًا ما تكون الغيبة عن الحس للعشاق
باستحواذ الخيالات والأوهام عليهم حتى إن أحدهم لفرط شغفه واشتغال فكره
بمعشوقه يمثله له خياله فيتوهم أنه موجود أمامه حقيقة فيقابله بما يليق به من الآداب،
ويرفع إلى أعتاب جنابه ما شاء من العتاب وفي ذلك قال قائلهم:
يمثلك الشوق الشديد لناظري
…
فأطرق إجلالاً كأنك حاضر
ومنه الحكاية عن عاشقة تقول:
فليس نومًا خفض رأسي إنما
…
أسجد للطيف الذي قد سلّما
…
فإنني استزرته توهما
…
فزارني ورقّ لي ترحما
…
لما رأى في الجفن فعل السهدِ
وقال لي بالله ما أضناكي
…
قد كلّ عنك نظر الإدراكِ
…
نامي بجفني فاقصدي مناكي
…
كما تريه أنت أو يراكي
…
فليس لي بغير ذا من جهدِ
ومثل هذا في كلامهم كثير وفيه يقال: الجنون فنون، وكل حزب بما لديهم
فرحون!
(النتيجة)
إن ما نقل عن كثير من عباد المسلمين والنصارى وغيرهم من رؤية الأنبياء
والأولياء والرؤساء الروحيين صحيح فإن حال الأشخاص في الرائين والناقلين في
بعض الوقائع ليس فيها شائبة الكذب؛ ولكن هذا ليس من الخوارق الحقيقية ولا تلك
المشاهدات دليل على أن صاحبها على الحق وإنما هو تأثير الحب والشغف وكثرة
الفكر والتخيل في الشيء مع تأثير الوجدان به يضعف الحواس، ويقوي الوسواس،
فيغيب صاحبه عن حاله، ويحضر مع خياله. ومن الناس من كان يستعين على
إثارة رواكد الخيال بما يضعف الحواس والعقل من المخدرات كالحشيشة المعروفة
فقد كان أول من استعملها الباطنية والمتصوفة ولذلك كانت تسمى حشيشة الفقراء
كان شيوخهم يشغلون فكر المريد ببعض الأموات المعتقدين أو بالجنة مثلاً ويناولونه
شيئًا من الحشيشة فتخدر حواسه فيتجسم ما في خياله من الصورة التي كان وجَّهه
الشيخ إليها فتتمثل له في صورة بديعة وما كان المريدون يعلمون بأن لما تناولوه من
الحشيشة تأثيرًا فيما رأوه وإنما كانوا يعتقدون أنه تصرف روح الشيخ في عوالم
الملكوت وإدناء بعض ما فيها من عالم الملك.
وأنت ترى أن هذا الذي قلناه في تفسير رؤية الأرواح ومكالمتها مأخوذ من
كلام كبار الصوفية ولم نفتحره افتحارًا. وإنني أعترف بأن ما قاله الشيخ عبد
العزيز الدباغ فيه هو كرامة من كراماته المعنوية فإنه كان رجلاً أميًّا وفتح الله عليه
بالمعارف العالية وأكرمه بحل كثير من المشكلات الفلسفية كهذه المسألة والمشكلات
الدينية أيضًا على أنني لا أسلم بكل ما نقل عنه ولا أقول إنه معصوم أو محفوظ من
الخطأ. وما قاله في إيمان من يرى النبي e رؤية فكرية خيالية لا ينافي ما قلناه
آنفًا من كون هذه المشاهدات لا تدل على حقية اعتقاد صاحبها فصاحب الإيمان
الصحيح في الأصل تجعل إيمانه إيمانًا وجدانيًّا فيكون أقوى من إيمان غيره.
وكذلك صاحب الاعتقاد الباطل فهي تقوى في نفس صاحبها ما هو فيها حقًّا كان أو
باطلاً كما فعلت بإيمان الذين تمثلت لهم السيدة مريم عليها السلام وهم يعتقدون أنها
أم الله - تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا - فثبت بهذا أن هذا النوع ليس من الخوارق في
شيء.
ورأيت أن كلام الصوفية الذي حل الإشكال يشير أو يصرح بأن وراء هذه
المشاهدات الخيالية والمكالمات الوهمية شيئًا آخر أعلى منه وهو إدراك الأرواح
إدراكًا صحيحًا، والاستفادة منها استفادة حقيقية لم يكن يعلمها المرء من قبل وهذا
شيء لا يمكن أن يعرفه إلا مَن ذاقه وهو جائز، وإن لنا من الثقة بصدق بعض
المخبرين به أكثر مما لأهل هذا العصر من الثقة بأهل أوربا إذ يصدقونهم بكل
شيء غريب يقطعون بثبوته وإن لم يعرف دليلهم هؤلاء المصدقون.
وإذا ثبت هذا النوع لبعض الأولياء والأصفياء لاستعداد فيهم قوَّاه استعماله
وسمي كرامة لهم فلا ينبغي أن تعتقد أنه جاء مخالفًا للسنن الإلهية في الخلق ولا أن
تصدق أحدًا من الناس بخصوصه يدعيه؛ لأنه مما لا يمكن إثباته لغير من ذاقه ومن
ادعى ما لا يمكن إثباته فهو أحمق أو مجنون لا يبالَى به وهذا الذي قررناه حجاب
دون اغترار العامة ببعض الدجَّالين وهو غرضنا الأول من كل ما كتبناه في
الخوارق والكرامات.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اليهود والماسونية وحَدَثُ الوطنية
اليهود
لا يوجد شعب في الدنيا كشعب إسرائيل في تمسكه بالرابطة الملِّية، والعصبية
الجنسية، فهم يحبون ويحاولون أن يحولوا جميع منافع الشعوب الذين يعيشون
معهم إليهم. ولولا أنهم يعتقدون أن دينهم خاص بهم لا يجب عليهم الدعوة إليه
لحاولوا إرجاع جميع الأديان إليه بالهمة التي يحاولون بها تحويل قوى الشعوب كلها
إلى منفعة بني إسرائيل وكل هذا - لولا غلو فيه - من الفضائل التي يحمد صاحبها
عليها؛ ولكن الغلو في حب الذات كالتقصير فيه كلاهما من الأمور الضارة بصاحبها؛
لهذا نرى هذا الشعب مضطهَدًا من جميع الشعوب والأمم لا يتسع له صدر إلا
صدر المسلمين، ألم تَرَ أن الذين تطردهم الممالك وتخرجهم من أرضها لا يجدون في
الغالب ملجأً إلا بلاد الدولة العلية حتى بلاد فلسطين التي يطمعون أن يستقلوا بها
ويحدثوا فيها ملكًا جديدًا.
* * *
الماسونية
جمعية سياسية سرية تكونت في أوربا - خلافًا لما يزعمون من قدمها -
لمقاومة استبداد رؤساء الدنيا من الملوك والأمراء ورؤساء الدين من البابوات
والقسيسين الذين كانوا متضافرين على استعباد الناس وحرمانهم من نور العلم
والحرية، وقد اتفق على تكوينها اليهود والنصارى؛ ولذلك جعلوا
رموزها وإشاراتها منتزعة من الكتاب المشترك الذي يسمى الكتاب المقدس وأسندوها
إلى بناة الهيكل المقدس هيكل سليمان عليه السلام وهو المسجد الأقصى. وقد قامت
هذه الجمعية بعملها على أحسن وجه ولم يعد لها الآن عمل في تلك البلاد وإذ كان
منشئوها والمنشأة لهم من غير المسلمين كان فيها أمور متعددة تخالف الإسلام، وكان
الداخل فيها عرضة لمخالفة دينه إلا أن يكون عالمًا متمكنًا!
ثم إن الإفرنج عندما تغلغلوا في الشرق ورأوا مزاج السيادة الإسلامية لا يقبل
مشاركًا له في حكمه فهو يجيش انفعال جميع المسلمين لنبذ سلطة كل من يحاول
السيادة عليهم استعانوا بالماسونية على إضعاف هذا المزاج وتوسلوا إلى بعض
كبراء المسلمين وأغنيائهم بما توسلوا واستعانوا عليهم بنصارى بلادهم ويهودها
فأدخلوا طائفة منهم وبقي أكثر المسلمين إلى اليوم يعد الماسونية نزغة من نزغات
الكفر أو وسيلة إليه، إلا أن الشعب المصري سريع الانقياد إلى التقليد؛ ولذلك كثر
الداخلون في هذه الجمعية من أهله على أن أهلها يتنصلون من الأديان ويدعون عدم
التعرض لها بحال.
ولما هاجر السيد جمال الدين حكيم الشرق وموقظه إلى هذه البلاد رأى من
استبداد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق ما يزيد على ما كان في أوربا من الاستبداد
ورأى أن الجمعية الماسونية تجر هذه البلاد إلى أوربا بخيوط سياسية خفية؛ ولكنها
متينة قوية فهي كالخيوط التي يربط بها المشعوذ التماثيل التي يلعب بها وراء الستار
فيحسب الصبيان أنها هي التي تلعب بنفسها، وكذلك كانت مصر ألعوبة في أيدي
الأوربيين. فأراد السيد رحمه الله أن يربي فيها رجالاً يعرفون كيف يحفظون بلادهم
وأنفسهم فوجَّه همته إلى استخدام الماسونية في تعليم تلامذته ما لا يمكن التصريح به
إلا في جمعية سرية فدخل في الماسونية ودخل معه تلامذته النابغون فجعل بهم قوة
للمصريين وصار رئيس محفلهم، ولكنه كان غاليًا في مضادة الإنكليز لما كان من
زحفهم على بلاده ولما كان يعتقد من طمعهم في مصر وقد صرّح به كتابةً فقاوموه
حتى اضطروه إلى ترك الماسونية مع كبار حزبه ولم يكن للماسونية عمل في مصر
لمصر إلا في تلك المدة، ثم إن الماسونية صارت في مصر آلة لبعض زعمائها في
جلب المنافع ثم كثر فيها الغوغاء حتى قلّ احترامها وانطلقت الألسنة بالطعن فيها
وليس هذا مما يعنينا الآن.
* * *
حدث الوطنية
شاب يعرف قراء المنار أنه يلغط بالوطنية على غير هدى وإن له جريدة
أنشأها لتعظيم شخصه باسم الوطنية وللانتقام لشخصه بكل اسم. يمقت كل مَن ليس
مصري الأصل لأجل مصر، ويمقت من المصريين الأصلاء من ليس مسلمًا
لأجل المسلمين، ويمقت كل مصالح المسلمين لأجل شخصه فهو لنفسه علة
العلل. في كل قول له وعمل، وإليك هذا الشاهد العادل:
مفتي الديار المصرية مصري الموطن ويشغل في مصر أكبر الوظائف الدينية
ويرأس جمعية خيرية ليس لها ثانية لخدمة مسلمي مصر وهو في علوم الدين والدنيا
وفي كبر العقل وقوة الإرادة مفخر المسلمين ومفزعهم يرجعون إليه في الدفاع عن
دينهم وفي قضاء حوائجهم ويرون أكبر خدمة قام بها للإسلام تفسير القرآن الشريف
على طريقة روحية عمرانية تظهر أن القرآن الحكيم ينبوع السعادة الدينية والمدنية
في كل عصر.
ولكن هذا الرجل خلق من طينة الجد فهو لا يقيم وزنًا للأحداث المتنفجين
فينزلهم منزلة العدم، لا يحترمهم ولا يحتقرهم. وحدث الوطنية يحب أن يدهن له
كل عظيم فهو لا يحب مفتي الديار المصرية. وكان ينبغي أن يعامله بالمثل لا
يعظمه ولا يتطاول ويتسلق ويتعالى لغمط حقه فإذا لم يستطع صبرًا فلينتظر له هفوة
يتيسر له التلبيس بها على العامة بأنها تضر بالوطن الذي يدعي حبه أو الإسلام
الذي يتألف حزبه؛ ولكن من الناس من يبلغ من نفسه مبلغًا لا يصل أحد إليه إلا
بخذلان من الله! ! !
انظر الفرص التي ينتهز مثلها حدث الوطنية: كان مفتي الإسلام في جماعة
من (كبار الوطن العزيز) قد ركبوا مركبة مما أعدته الحكومة للمدعوين لحضور
احتفال خزان أسوان فحاول أحد الخَدَمة من الإفرنج إنزالهم منها ليركب فيها نساء
من قومه فانتهره المفتي فعاد خائبًا. ولما علم بذلك زعيم الوطنية بزعمه بادر إلى
إرسال رسالة برقية إلى جريدته جعل عنوانها (إهانة المفتي) وحكى القصة على
غير وجهها، فهذه هي الوطنية الحقة التي يتنفج بها يفتخر بأن خادمًا أجنبيًا أهان
أكبر رجال (الوطن المحبوب) وما أهانهم ولكنه يفتخر بما يفتجر ويفتحر.
وإن تعجب فاعجب مما قصصناه من فرصة هذا الوطني التي اغتنمها لخدمة
الوطن ما نقصّه الآن من فرصة هذا المسلم التي اغتنمها لخدمة الإسلام بل لتأييد
بعض ماسون اليهود في الاحتجاج على تفسير القرآن:
إن نبذة التفسير التي نشرناها في الجزء الثاني من منار هذه السنة هي مأخوذة
من الدرس الذي ألقاه المفتي في 6 ذي القعدة سنة 1317 أي منذ ثلاث سنين
وشهور وقد نقلتها عنا جريدة الرائد العثماني التي قامت تندد في هذه السنة بسيئات
اليهود حتى أنهم حاكموا صاحبها وحكم عليه بشدة علم بها أن الحكومة انتصرت لهم
وما كانوا مهضومين ولا مظلومين. توهم بعضهم أن مفتي الديار المصرية صاحب
النفوذين الديني والأدبي كتب الآن يساعد تلك الجريدة بقلمه المؤثر فوجلوا ووجموا
ولجأوا إلى جمعيتهم الماسونية وكتبوا بقلم الطيش والعجلة احتجاجًا باسم الماسونية
على مفتي الديار المصرية الذي يفسر القرآن العزيز في الأزهر باسم الله الرحمن
الرحيم وطلبوا إيقافه عند حده. وأرسلوا نسخًا من احتجاجهم إلى أمير البلاد وإلى
اللورد كرومر وإلى رئيس النظار وإلى جميع الجرائد اليومية فلم يحفل أحد
باحتجاج هذا المحفل إلا رئيس الماسونية العام في هذه الديار (عطوفتلو) إدريس
بك راغب فإنه كتب محتجًّا على الاحتجاج مبينًا للمحفل أنه خالف قانون الجمعية.
ولكن حدث الوطنية نشر صورة الاحتجاج في جريدته وقام ينتصر لعثرة
عثرها بعض يهود الماسون على مفتي الإسلام من حيث هو مفسر للقرآن وسوَّل
إليه غروره أن ذلك انتقام من المفتي فما كان إلا زيادة في إجلاله وتعظيمه حضر
رئيس ذلك المحفل الماسوني من الإسكندرية مخصوصًا لزيارة المفتي في الأزهر
والاعتذار له ثم كتب هذا الرئيس رسالة نشرها في الجرائد المشهورة في ذلك أثنى
فيها بما أثنى وزاره في الأزهر أيضًا الرئيس الأعظم للمحافل الإفريقية إدريس بك
راغب وكتب بعض أدباء اليهود في الجرائد يبين خطأ الاحتجاج ونشره وأثنى على
المفتي بما أثنى وكتبت الجرائد المعتبرة مقالات في ذلك بأقلام كتابها وأقلام غيرهم
من الفضلاء سفهوا فيها منشور الاحتجاج والجريدة التي نشرته وفي مقدمة هذه
الجرائد المؤيد والأهرام والمقطم والبيراميد ولولا أن كان جميع الكاتبين متفقين على
الاعتذار عن المحتجين بسوء الفهم والاعتراف بأن مفتي الديار المصرية لهذا العهد
هو روح الوفاق والوئام وداعية الاتحاد والالتئام وأنه لا يرضيه أن يهضم حق فرد
من الأفراد ولا طائفة من الطوائف لأن الشريعة التي هو أحد أئمتها - قضت بالعدل
والمساواة حتى كان خلفاؤها الراشدون يساوون آحاد اليهود بأكبر كبرائهم - لولا هذا
لأحدث ذلك المنشور ثورة فكرية قلمية على اليهود سيئة المغبة وكان إثم ذلك على
من كتب المنشور بسوء الفهم. ومن نشره بسوء القصد.
{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى} (الروم: 10) وأي شيء أسوأ ممن
أرضى نفسه وأغضب اليهود الذين انتصر لهم بما كاد يوقعهم فيه من الفتنة
وأغضب المسلمين؛ لأنه انتصر لليهود عليهم في أمر ديني محض، وأغضب الله
تعالى؛ لأنه انتصر لأفراد من اليهود على كتابه العزيز وأراد أن يساعدهم على
إيقاف من يبينه للناس عند حده وما هو إلا منعه من بيانه للناس ونقض ميثاق الله
الذي أخذه على العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) .
وههنا نكته لطيفة وهي أن اليهود قد كتبوا ما كتبوا معتزين بالحرية التي في
مصر الآن كما صرحوا بذلك في منشورهم، وحدث الوطنية يتبجح دائمًا بذم هذه
الحرية؛ لأن منبعها الاحتلال الإنكليزي فهل كانت هذه الحرية جديرة بالمقت والذم
من حيث رفعت أثقال الظلم عن كاهل الأمة المصرية وصارت جديرة بالرضى
والمدح من حيث يراد بها منع تفسير القرآن من الجامع الأزهر؟ ! كلا، إن تلك
الحرية ما كانت مذمومة عنده من جهة الأحكام إلا لأنه لم يقدر أن يكون فيها حاكمًا
وصارت ممدوحة عند الاستعانة بها على منع كتاب الله إلا لأن مفسره لا يدهن له
ولا يعتبره زعيمًا للوطن فثبت بهذا أن حدث الوطنية لا يخدم إلا شخصه مباشرة
واسم الوطنية والإسلام إنما يُذكران إذا صلحا للاستخدام!
فعلم مما تقدم أنه لم يكن من مصلحة اليهود أن يطرقوا هذا الباب - دعوى
تحامل المسلمين عليهم وكراهتهم لهم - لئلا يُفتح فيعجزوا عن إغلاقه هم والحرية
التي استنجدوا بها وهي العون عليهم ما لم يخالف أحد القانون في اعتدائه.
والمسلمون أقرب الناس إلى مسالمتهم بما يرشد إليه الإسلام والتاريخ شاهد عدل في
الماضي والحاضر؛ ولكن أهل هذه البلاد يؤثر فيهم القول والوهم فإذا صدقوا أن مفتي
الإسلام قد برى قلمه للنيل منهم يعتقدون أنهم خطر كبير على المسلمين أو
المصريين. ومن يقدر على إزالة اعتقاد العامة بعد رسوخه؟ قدر بعض الأحداث
على تحريك أضغان المصريين على السوريين بكلمات هذوا بها فكان من أثرها أن
الألوف من الناس يعتقدون أن السوري بلاء على مصر، على أن السوريين
موافقون لهم في اللغة والجنسية العثمانية ومنهم من هم على دينهم وليس لهم امتياز
يثقل عليهم كامتياز الأجانب. ثم إنهم أقل الشعوب التي هاجرت إلى هذه البلاد كسبًا
فاليهود والأرمن واليونان وجميع الشعوب الأوربية تفوقهم ثروة ومن هؤلاء من
أفسدوا البلاد بالخمور ولا ترى مع هذا جريدة مصرية تذكر أحدًا منهم بما تذكر به
السوريين مما لا يرضي. والسوريون هم الذين خدموا العلم والأدب خدمة لم يدركهم
بها المصريون إلى الآن، نعم، إن فيهم بعض السفهاء وفاسدي الآداب والجنسية.
وأي شعب ليس منه الصالح والطالح والمصلح والمفسد؟ ! فإذا كان أولئك الأحداث قد
أثروا هذا التأثير بمعونة الاستعداد للشر فما بالك بهذا الإمام الكبير؟ !
كان من حظ اليهود أنهم طرقوا الباب فلم يفتح؛ لأن المفتي وجميع ما يتصل
به من حملة الأقلام لا يحبون فتحه ولو فتح لما أغنت عن اليهود الماسونية شيئًا،
أما كون الماسونية خرجت في هذه المسألة عن حدها فلا نزاع فيه بعدما علمنا من
احتجاج أستاذها الأعظم على كاتبي المنشور. وكل مخطئ قد رجع عن خطئه إلا
حدث الوطنية فعلم أنه هو الذي كان سيء القصد دون اليهود وغيرهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
باب العقائد من الأمالي الدينية
(الدرس 37)
آية الله الكبرى (القرآن)
نبدأ هذا البحث الجليل بما كتبه القاضي عياض في الشفاء من وجوه الإعجاز
وبعد ذلك نذكر ما هو أقوى منها أو أوضح، قال رحمه الله تعالى:
(فصل في إعجاز القرآن)
اعلم - وفقنا الله وإياك - أن كتاب الله العزيز منطوٍ على وجوه من الإعجاز
كثيرة، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه:
م 105: (أولها) حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته
الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام، قد
خُصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم. وأوتوا من ذرابة
اللسان ما لم يؤت إنسان. ومن فصل الخطاب ما يفيد الألباب، جعل الله لهم ذلك
طبعًا وخلقة وفيهم (غريزة) وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى
كل سبب. فيخطبون بديهًا في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن
والضرب، ويمدحون ويقدحون ويتوسلون ويتوصلون ويرفعون ويضعون، فيأتون
من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سَمْط اللآل. فيخدعون
الألباب، ويذللون الصعاب. ويذهبون الإحن ويهيجون الدمن. ويجرّئون الجبان
ويبسطون يد الجعد البنان ويصيرون الناقص كاملاً. ويتركون النبيه خاملاً. منهم
البدوى ذو اللفظ الجزل والقول الفصل والكلام الفخم، والطبع الجوهري والمنزع
القوى ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة والألفاظ الناصعة والكلمات الجامعة،
والطبع السهل. والتصرف في القول القليل الكلفة الكثير الرونق الرقيق الحاشية.
وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة. والقوة الدامغة والقدح الفالج والمهيع
الناهج، لا يشكُّون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم. قد حووا فنونها.
واستنبطوا عيونها. ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحًا لبلوغ أسبابها.
فقالوا في الخطير والمهين. وتفننوا في الغث والسمين، وتقاولوا في القل والكثر.
وتساجلوا في النظم والنثر. فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) ، أُحكمت آياته
وفصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول. وظهرت فصاحته على كل مقول.
وتضافر إيجازه وإعجازه وتظاهرت حقيقته ومجازه. وتبارت في الحسن مطالعه
ومقاطعه وحَوَت كل البيان جوامعه وبدائعه. واعتدل مع إيجازه حسن نظمه
وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه. وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالاً
وأشهر في الخطابة رجالاً وأكثر في السجع والشعر سجالاً، وأوسع في الغريب
واللغة مقالاً، بلُغتهم التي بها يتحاورون ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخًا
بهم في كل حين، ومُقرعًا لهم بضعًا وعشرين عامًا على رؤوس الملأ أجمعين
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} (يونس: 38) ، {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِّن مِّثْلِه
…
} (البقرة: 23) إلى قوله: {.. وَلَن تَفْعَلُوا
…
} (البقرة: 24) ،
و {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ
…
} (الإسراء:
88) الآية [1] و {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (هود: 13) ، وذلك أن
المفترَى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب. واللفظ إذا تبع المعنى
الصحيح كان أصعب، ولهذا قيل: فلان يكتب كما يقال له وفلان يكتب كما يريد
وللأول على الثاني فضل وبينهما شأوٌ بعيد.
فلم يزل يقرعهم صلى الله عليه وسلم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ
ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم ويشتت نظامهم ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح
أرضهم وديارهم وأموالهم [2] وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون
عن مماثلته ويخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء وقولهم:
{
…
إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر: 24)، و {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر:
2) ، و {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} (الفرقان: 4) ، و {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأنعام: 25)
والمباهتة والرضا بالدنيئة، كقولهم:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: 88) ، و [3] {فِي
أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت: 5) ،
و {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ، والادعاء مع
العجز بقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (الأنفال: 31)، وقد قال لهم الله:
{
…
وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) فما فعلوا ولا قدروا. ومن تعاطى ذلك
من سُخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم،
وإلا فلم يخفَ على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم
بل ولوا عنه مدبرين وأتوا مذعنين من بين مهتدٍ وبين مفتون؛ ولهذا لما سمع الوليد
ابن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
…
} (النحل: 90) الآية قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق،
وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر. وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلاً يقرأ:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) ؛ فسجد، وقال: سجدت لفصاحته، وسمع
آخر رجلاً يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًا} (يوسف: 80) ؛ فقال:
(أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام) وحكي أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كان يومًا نائمًا في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه، يتشهد شهادة الحق،
فاستخبره فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها، وأنه سمع
رجلاً من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم، فتأملتها، فإذا قد جُمع فيها ما
أُنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهي قوله: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} (النور: 52) الآية، وحكى الأصمعي أنه سمع كلام
جارية، فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك! فقالت: أوَ يُعد هذا فصاحة بعد قول الله
تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية [4] ، فجمع
في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق
والصحيح من القولين، وكون القرآن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أتى به
معلوم ضرورة وكونه صلى الله عليه وسلم متحديًا به معلوم ضرورة وعجز العرب
عن الإتيان به معلوم ضرورة وكونه في فصاحته خارقًا للعادة معلوم ضرورة للعالمين
بالفصاحة ووجوه البلاغة.
وسبيل من ليس في أهلها علم ذلك بعجز المنكرين من أهلها عند
معارضته واعتراف المفترين بإعجاز بلاغته. وأنت إذا تأملت قوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا
فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (سبأ: 51)، وقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34)، وقوله: {وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (هود: 44) الآية، وقوله: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ
فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً000} (العنكبوت: 40) الآية وأشباهها من الآي،
بل أكثر القرآن حققت ما بينه في إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عبارتها
وحسن تأليف حروفها وتلاؤم كَلِمها وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة وفصولاً جمة
وعلومًا زواخر مُلئت الدواوين من بعض ما استفيد منها وكثرت المقالات في
المستنبطات عنها.
ثم هو في سرد القصص الطوال وأخبار القرون السوالف التي يضعف في
عادة الفصحاء عندها الكلام ويذهب ماء البيان - آية لمتأمله من ربط الكلام بعضه
ببعض والتئام سرده وتناصف وجوهه كقصة يوسف على طولها. ثم إذا ترددت
قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تُنسي في
البيان صاحبتها وتناصف في الحسن وجه مقابلها، ولا نفور للنفوس في ترديدها،
ولا معادة لمعادها.
* * *
فصل
م 106 (الوجه الثاني من إعجازه) صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب
المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليها ووقفت مقاطع
آيه وانتهت فواصل كلماته إليه. ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد
مماثلة شيء منه بل حارت فيه عقولهم، وتدلهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله
في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر. ولما سمع كلامه صلى الله
عليه وسلم الوليد بن المغيرة وقرأ عليه القرآن رق فجاءه أبو جهل منكرًا عليه قال:
والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا. وفي خبره
الآخر حين جمع قريشًا عند حضور المواسم وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه
رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا. فقالوا: (نقول كاهن) قال: والله ما هو بكاهن ما هو
بزمزمته ولا سجعه. قالوا: (مجنون) قال: وما هو بمجنون ولا بخنقه ولا
وسوسته. قالوا: (فنقول شاعر) قال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه
وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر. قالوا: (فنقول: ساحر)
قال: وما هو بساحر ولا نفثه ولا عُقده. قالوا: (فما نقول؟) قال: وما أنتم بقائلين
في هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل وإن أقرب القول أنه ساحر فإنه سحرٌ
يفرق به بين المرء وابنه [5] والمرء وأخيه والمرء وزوجه والمرء وعشيرته.
فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس فأنزل الله تعالى في الوليد: {ذَرْنِي
وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً 000} (المدثر: 11) الآيات.
وقال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن: (يا قومي قد علمتم أني لم أترك
شيئًا إلا وقد علمته وقرأته والله لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ما هو
بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة) وقال النضر بن الحرث نحوه. وفي حديث إسلام
أبي ذر ووصف أخاه أنيسًا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس لقد ناقض
اثني عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم، وأنه انطلق إلى مكة وجاء إلى أبي ذر
بخبر النبي صلى الله عليه وسلم قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن
ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم
على لسان أحد بعدى [6] أنه شعر وإنه لصادق وإنهم لكاذبون.
والأخبار في هذا صحيحة وكثيرة والإعجاز بكل واحد من النوعين الإيجاز
والبلاغة بذاتهما والأسلوب الغريب بذاته كل واحد منهما نوع إعجاز على التحقيق
لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرتها مباين
لفصاحتها وكلامها وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين. وذهب بعض
المقتدى بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب وأتى على ذلك بقول
تمجه الأسماع. وتنفر منه القلوب. والصحيح ما قدمناه والعلم بهذا كله ضرورة
وقطعًا. ومن تفنن في علوم البلاغة وأرهف خاطره ولسانه أدب هذه الصناعة لم
يخْفَ عليه ما قلناه.
وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه فأكثرهم يقول: إنه ما جمع
في قوة جزالته ونصاعة ألفاظه وحسن نظمه وإيجازه وبديع تأليفه وأسلوبه لا يصح
أن يكون في مقدور البشر، وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها
كإحياء الموتى وقلب العصا وتسبيح الحصا، وذهب الشيخ أبو الحسن إلى أنه مما
يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ويقدرهم الله عليه، ولكنه لم يكن هذا ولا
يكون، فمنعهم الله هذا وعجزهم عنه. وقال به جماعة من أصحابه. وعلى الطريقين
فعجز العرب عنه ثابت، وإقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر
وتحديهم بأن يأتوا بمثله قاطع، وهو أبلغ في التعجيز وأحرى بالتقريع، والاحتجاج
بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم، وهو أبهر آية وأقمع دلالة.
وعلى كل حال فما أتوا في ذلك بمقال بل صبروا على الجلاء والقتل وتجرعوا
كاسات الصغار والذل. وكانوا من شموخ الأنف وإباء الضيم بحيث لا يؤثرون
ذلك اختيارًا ولا يرضونه إلا اضطرارًا. وإلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم والشغل
بها أهون عليهم وأسرع بالنجح وقطع العذر وإفحام الخصم لديهم وهم ممن لهم قدرة
على الكلام وقدوة في المعرفة به لجميع الأنام وما منهم إلا من جهد جهده واستنفد ما
عنده في إخفاء ظهوره وإطفاء نوره، فما جلوا في ذلك خبيئة من بنات شفاههم ولا
أتوا بنطفة من معين مياههم مع طول الأمد وكثرة العدد وتظاهر الوالد وما ولد، بل
أبلسوا فما نبسوا ومنعوا فانقطعوا، فهذان النوعان من إعجازه.
* * *
فصل
م 107 (الوجه الثالث من الإعجاز) ما انطوى عليه من الأخبار المغيبات
وما لم يكن ولم يقع فوجد كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر كقوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ
المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الفتح: 27)، وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (الروم: 3) وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33)
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55)، الآية. وقوله:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر: 1)
…
إلى آخرها، فكان جميع هذا كما قال، فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل
الناس في الإسلام أفواجًا، فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها
موضع لم يدخله الإسلام واستخلف المؤمنين في الأرض ومكن فيها دينهم وملّكهم
إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب كما قال صلى الله عليه وسلم:
(زُويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي
منها) .
وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فكان
كذلك، لا يكاد يعد من سعى في تغييره وتبديل محكمه من الملحدة والمعطلة، لا سيّما
القرامطة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم إلى اليوم نيفًا على خمس مئة عام فما
قدروا على إطفاء شئ من نوره ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في
حرف من حروفه والحمد لله.
ومنه قوله: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45)، وقوله:
{قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة: 14) الآية. وقوله: {هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} (التوبة: 33) الآية، {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَاّ أَذًى وَإِن
يُقَاتِلُوكُمْ..} (آل عمران: 111) الآية فكان كل ذلك.
وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود ومقالهم وكذبهم في حلفهم وتقريعهم
بذلك، كقوله:{وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة: 8) ،
وقوله {يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ} (آل عمران: 154) ، الآية.
وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} (المائدة: 41) الآية وقوله: {مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} (النساء: 46) ، وقد قال مبديًا ما قدَّره
الله واعتقده المؤمنون يوم بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال: 7)، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ
المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95) ، ولما نزلت بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
أصحابه بأن الله كفاه إياهم، وكان المستهزؤن نفرًا بمكة ينفرون الناس عنه ويؤذونه
فهلكوا. وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) فكان كذلك على كثرة
من رام ضره وقصد قتله، والأخبار بذلك معروفة صحيحة.
* * *
فصل
م 108 (الوجه الرابع) : ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة
والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب
الذي قطع عمره في تعلُّم ذلك، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه ويأتي به
على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه. وأن مثله لم ينله بتعليم وقد علموا
أنه صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا اشتغل بمدارسة ولا مثافنة ولم يغب
عنهم. ولا جهل حاله أحد منهم، وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه صلى الله عليه
وسلم عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرًا كقصص الأنبياء مع
قومهم وخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان
وابنه وأشباه ذلك من الأنباء، وبدء الخلق وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف
إبراهيم وموسى مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل
أذعنوا لذلك، فمن موفق آمن بما سبق له من خير ومن شقي معاند حاسد. ومع هذا
لم يحكَ عن واحد من النصارى واليهود على شدة عداوتهم له وحرصهم على
تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم، وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم،
وكثرة سؤالهم له صلى الله عليه وسلم وتعنيهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم،
ومستودعات سيرهم، وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم، ومضمنات كتبهم مثل سؤالهم
عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وعيسى وحكم الرجم وما حرم إسرائيل
على نفسه وما حُرم عليهم من الأنعام ومن طيبات كانت أُحلت لهم، فحُرمت عليهم
ببغيهم، وقوله:{مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ} (الفتح: 29) وغير ذلك
من أمورهم التي نزل فيها القرآن، فأجابهم وعرفهم بما أوحي إليه من ذلك أنه أنكر
ذلك أو كذبه، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته وصدق مقالته، واعترف بعناده وحسده
إياه، كأهل نجران وابن صوريا وابني أخطب وغيرهم. ومن باهت في ذلك
بعض المباهتة، وادعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفة دُعي إلى إقامة
حجته، وكشف دعوته، فقيل له:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) - إلى قوله: (الظالمون) ، فقرّع ووبخ، ودعا إلى إحضار
ممكن غير ممتنع، فمن معترف بما جحده، ومتواقح يلقي على فضيحته من كتابة
يده، ولم يؤثر أن واحدًا منهم أظهر بخلاف قوله من كتبه، ولا أبدى صحيحًا ولا
سقيمًا من صحفه، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة: 15)(الآيتين) .
(المنار)
بقي لقول القاضي في شفائه بقية تُذكر في الدرس التالي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تتمَّتها: [لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا](الإسراء: 88) .
(2)
أي يفعل ذلك بهم بعد ما فعلوا أشد منه به وبمن تبعه، من القتل والنفي والتمثيل، حتى إنه لم يبدأهم بعدوان وإنما كان مدافعًا، حتى أظفره الله تعالى.
(3)
أي: [وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ](فصلت: 5) .
(4)
تتمتها: [فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ](القصص: 7) .
(5)
في نسخة: (وأبيه) .
(6)
لعل الصواب: (يدَّعي) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
باب
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
طعنهم في القرآن العزيز
قل للذين لا يرون الجذوع في عيونهم ويعيبون الكحل (بالتحريك) في عيون
الناس: إذا كان كتاب دينكم لم يُكتب في عهد نبيكم، وإذا كان الذين كتبوا تاريخه من
بعده بأزمنة مختلفة يروون عنه روايات مختلفة لا سند لها بالمرة، وإذا كانت
مجامعكم قد تحكمت بذلك المكتوب بأهوائها وأهواء الرؤساء السياسيين، فحذفت ما
شاءت وشاؤوا وأبقت ما شاءت وشاؤوا ونقحت ما شاءت وشاؤوا، وأنتم تقبلون ذلك
وتعدُّونه أصلاً للدين! فما بالكم لا تخجلون من الكلام في كتاب لم يوجد في العالم
إلى اليوم كتاب مثله، نُقل عن صاحبه بالتواتر الصحيح حفظًا وكتابةً وروايةً ودرايةً
وأداءً، وهو القرآن العزيز: {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .
نرى العالم الشهير والفيلسوف الكبير يؤلف كتابًا في عاصمة من عواصم
أوربا، فتطبع منه مئات الألوف من النسخ ويثق الناس بإسناده إلى صاحبه، وإنما
يكون صاحبه أعطاه إلى صاحب مطبعة أو ملتزم طبع في خلوته، فأخذه وطبعه،
فيكون رواية واحد عن المؤلف، وقد كان الصحابة لا يقبلون رواية الواحد عن
النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من القرآن، وإن كان في نواصيهم علمًا وعدالة
وحفظًا ودراية، وبعد هذا كله تتكلمون في نقل القرآن وجمعه ولا تخجلون من
أنفسكم ولا من الناس. ولا تعلمون أن هذا يزيد المؤمنين إيمانًا بكتابهم، وبحثًا عن
كتابكم، وهذه هي الفضيحة الكبرى!
نشرت مجلة (البروتستنت) المصرية في الجزء الرابع من المجلد الثالث -
نبذة في الطعن بالقرآن نقلتها عن كتاب لهم يقال أن للشيخ إبراهيم اليازجي يدًا في
تصحيحه أو تأليفه أو ترجمته والزيادة فيه، وهو عندهم أقوى طعن في الإسلام على
ما فيه من الكذب والسخافة والتحريف. وإننا نستقصي شبهاته ونبين بطلانها.
قال الكاتب: زعم أهل السنة والجماعة - متابعة لنبيهم - أن القرآن كلام
الله نفسه لفظًا ومعنى وأنه معجز في الفصاحة والبلاغة، إلا أن ذلك باطل
ولنا على بطلانه أدلة متعددة، ثم طفق يسرد تلك الأدلة، وإننا نذكرها ونجيب
عنها بالاختصار اكتفاءً بما نكتبه في دروس الأمالي. وقد بدأ بالطعن في
طريقة كتابته وجمعه، فذكر أمورًا نأتي عليها واحدًا واحدًا، فنقول:
اعلم أولاً أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يُلقِي ما ينزل عليه من
الوحي إلى المؤمنين، فيحفظه الجم الغفير من الرجال والنساء، ويأمر بكتابته،
فيكتبه الكاتبون. وقد حفظ القرآن كله جماعة من الصحابة وقرءوه على النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، إلا أنهم لم يجمعوه في مصحف واحد إلا على عهد أبي بكر
رضي الله تعالى عنه؛ وذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه أشار على أبي بكر
بجمْعه في مصحف يأخذ عنه الناس، لما خشي أن يستحرّ القتل بالقراء في قتال
الردة فيقل عدد من يلقن الناس القرآن، فجمعوا ما كان كتبه الكاتبون وهم يعرفونه؛
لئلا يقع شيء من الغلط باستقلال فرد أو أفراد منهم بإملائه. وكانوا يعرفون ما
يوجد عند كل واحد من أولئك الكاتبين حتى الآية والآيتين من السورة، يقولون إن
آية كذا عند فلان فاطلبوها منه، فيطلبونها وإن كانوا حافظين لها؛ زيادة في التثبت
ومنعًا لما عساه يحدث بعدُ من إبراز منافق آية أو سورة فيها زيادة أو نقص يشكك
به الناس، ومع هذا كله كانوا يطالبون مَن يأتي بشيء منه بالشهود؛ يشهدون أنه
كتبه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد في كل هذا الذي ذكرناه
روايات مسندة، ربما نذكرها مَعْزُوَّة إلى مخرجيها بعد.
إذا علمت هذا فاسمع ما قاله ذلك الكاتب النصراني في الاستدلال على طعنه
بجمع القرآن وحفظه:
(الدليل الأول) : حديث: (رحم الله فلانًا؛ لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت
أسقطتهن) ، ويُروى (أُنسِيتهن) . عزاه إلى (الشفاء) ، وهو فيه غير مسنَد ولا
مخرَّج.
والذي أعرفه أن هذا الإسقاط أو النسيان كان في الصلاة، وربما تعدد، وهو
أنه كان يقرأ سورة فلا يتمها فيسأله بعض الصحابة عن ذلك فيقول نحوه. وقد
يكون الإسقاط عمدًا؛ إذ ليس بواجب على مَن بدأ بسورة في الصلاة أو غير الصلاة
أن يتمها، فإذا ترك من السورة آية أو آيات عمدًا للاختصار، أو لاختبار حفظ
السامعين، أو نسيانًا لمثل هذه الحكمة، أو لما يعرض للبشر عادة، فأي حرج في
ذلك وتلك الآيات قد بُلِّغت وحُفظت في الصدور والسطور؟ وأي دليل في ذلك على
ترك شيء من القرآن الذي بلغه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحفظه عنه
الجماهير في الصدور والمصاحف؟
نعم، إن نسيان التبليغ غير جائز على الأنبياء عليهم السلام، ولكن مثل هذا
النسيان الذي يعرض أحيانًا لما هو محفوظ ومقرر - لا يخل بالتبليغ، وقد أطال
القاضي في (الشفاء) القول في تقرير عصمة الأنبياء من النسيان في التبليغ وفي
حفظ القرآن وعدم ضياع كلمة أو حرف منه، ولكن طلاب الباطل يعمون عن الحق،
ويأخذون بأقل شبهة على تقرير باطلهم.
(الدليل الثاني) قال: (وكذلك ثبت أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما
رأوا المصلحة في حذفه) ، وعزا هذا إلى مقدمة الشاطبية.
والشاطبية قصيدة في القراءات ليس فيها شيء من هذا البهتان. ومَن علم أن
أفسق المسلمين لا يتجرأ على حذف حرف من القرآن لاعتقاده أن متعمد ذلك يخرج
من الدين، ويعد من شرار الكافرين - يتيسر له أن يعرف مكان هذه الفِرْية.
روى مسدّد عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (أي سماء
تُظلُّنِي وأي أرضي تُقلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أسمع) ، وروى نحوه البيهقي
عنه، ورُوي مثل ذلك عن علي كرَّم الله وجهه. ونحن نعلم من التاريخ أنه لم
يُعرف في الناس أشد إيمانًا من الصحابة لا سيما السابقين الأولين، فهؤلاء أصحاب
موسى لم تُغْنِ عنهم مشاهدة آياته عن الميل إلى الوثنية، وإعناته في قبول الشريعة
السماوية، حتى إنهم اتخذوا العجل بأيديهم وعبدوه وهو حي يناجي الله تعالى.
وهؤلاء أصحاب عيسى عليه السلام تشهد عليهم أناجيلهم بأنهم خانوه في وقت
الضيق، حتى إنه طرد أكبرهم وأفضلهم وسمّاه شيطانًا. وأما أصحاب محمد عليه
السلام فقد عرَّضوا أنفسهم للقتل، ورضوا بالنفي والذل. ولم يزحزحهم ذلك شبرًا
عنه، فكيف يصدق مع هذا قول كافر بدينهم يجيء في آخر الزمان، ويدعي أنهم
حذفوا ما شاءوا من القرآن، ولا بينة له ولا برهان؟ !
ولقد نعلم أن الذي ذكَّره بأن يفتري هذه الفرية - هو ما رواه الكثيرون من أن
الصحابة قد تحاموا أن يكتبوا في المصاحف ما ليس قرآنًا كأسماء السور وكلمة
(آمين) في آخر الفاتحة، وكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في أولها،
وكالتفسير المأثور عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، روى ابن أبي شيبة
عن عامر الشعبي، قال: كتب رجل مصحفًا وكتب عند كل آية تفسيرها، فدعا به
عمر، فقرضه بالمقراضين. وإنما فعلوا هذا خشية أن يشتبه بعض التفسير بالقرآن
على بعض الناس، وقد كان هذا التشديد سببًا في قلة ما رُوي صحيحًا من التفسير.
فهذا معنى حذفهم ما رأوا المصلحة في حذفه من القرآن، إن صح أن أحدًا عبر بمثل
هذا التعبير.
وقد نقل الكاتب عن عبد المسيح الكندي أن عليًا عليه السلام حذف من
القرآن آية المتعة وكان يضرب مَن يقرؤها، وأن عائشة رضي الله عنها كانت
تشنع عليه بها وقالت: إنه بدَّل القرآن وحرَّفه. وأن منه ما كان يرويه أُبيّ بن كعب
وهو قوله: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك..... إلخ الوتر) .
ونقول: إن عبد المسيح لم يتقن الأكذوبة الأولى، ولم يقدر على تمويهها،
كما موَّه غيرها من أباطيله؛ فإن أتباع علي وآل بيته (الشيعة) هم الذين يقولون
بالمتعة دون سائر المسلمين، ولو كان علي هو المشدد في منعها وعائشة هي المثبتة
لها لما كانوا إلا أبعد الناس عنها، وإن الآية التي يستدلون بها على المتعة هي قوله
تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: 24) ، وهي
لم تُحذف، ولكن يُروى أن أُبيًّا كان يزيد فيها: (
…
إلى أجل مسمى) ولم يثبت
هذا بالتواتر، فعُدَّ من قبيل التفسير، وهو مثبَت في كتب التفسير والحديث لم يسقط،
ولو تواتر لأُثبت في المصحف، وكان نصًّا في المسألة. وأما صيغة القنوت التي
أولُها: (اللهم إنا نستعينك
…
) فقد روي عن أبيٍّ أنه كان يعدها قرآنًا، وكأن هذا
جاءه من قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لها في الصلاة، ولكن سائر
الصحابة علموا منه عليه السلام أنها ليست بقرآن، وهي لم تسقط ولم تحذف، بل هي
موجودة يحفظها الصبيان، ويقرؤها في الصلاة الملايين من الناس.
(الدليل الثالث) قال: (إن كثيرًا من آيات القرآن لم يكن لها من قيد
سوى تحفظ الصحابة لها، وكان بعضهم قد قُتلوا في مغازي محمد وحروب خلفائه
الأولين وذهب معهم ما كانوا يتحفظونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت
بجمعه؛ فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يتحفظه الأحياء) .
ونقول: إن هذه دعوى باطلة، أقامها مقام الدليل على دعوى أخرى وهي
متهافتة بنفسها كأنها من كلام الصبيان؛ فإن خلفاء محمد عليه الصلاة والسلام هم
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والأول منهم هو الذي جمع في أول خلافته القرآن
في مصحف واحد، وكان مكتوبًا كله في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم،
ومحفوظًا لكثيرين ممن قُتلوا في يوم اليمامة، وممن كانوا في المدينة وفي غيرها
من البلاد، ولم يخرجوا إلى تلك الحرب. روى ابن أبي شيبة عن محمد بن كعب
القرظي قال: (جمع القرآن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة نفر
من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء
وأبو أيوب) وروى ابن سعد ويعقوب بن سفيان والطبراني والحاكم عن الشعبي
مرسلاً أن ممن جمعه من الأنصار أيضًا زيد بن ثابت وسعيد بن عبيد وأبو زيد،
وأكثر هؤلاء قد عاشوا بعده، وبعد جمع أبي بكر وكتابة عثمان زمنًا طويلاً. وقد
وجه عمر ثلاثة منهم إلى بلاد الشام، يعلّمون الناس القرآن، كما سنفصله بعد،
وروى هؤلاء أيضًا أن مجمع بن جارية كان قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثًا. وإنما
يعنون بالجمع الجمع بالكتابة، وأما الحفظ فأهله كثيرون جدًّا، وإنما قالوا إن أبا
بكر جمعه، يعنون بين اللوحين، وقد كان جمع مَن ذكرنا من الأنصار، ومن لم
نذكر من المهاجرين في صحف منشرة. وقد روى ابن الأنباري في (المصاحف) من
عدة طرق أن الذين قتلوا من قراء القرآن يوم اليمامة أربعمائة رجل، فهل يجد
النصارى عندهم رواية عن واحد فقط حفظ إنجيل المسيح كله أو أكثره أو ما هو
دون ذلك؟ !
(الدليل الرابع) : قال: (أما ما كان مكتوبًا منه على العظام وغيرها فإنه
كان مكتوبًا بلا نظام ولا ضبط، وقد ضاع بعضها، وهذا ما حدا بالعلماء إلى الزعم
بأن فيه آيات قد نُسخت حرفًا لا حكمًا، وهو من غريب المزاعم) .
ونقول: إن هذه دعوى مفتراة أيضًا وقد عُلم كذبها مما تقدم. ويا ليت شعري
هل اطَّلع هذا النصراني على تلك العظام وغيرها، فرآها بغير نظام؟ ! وهل كان
عدَّها في أيدي كتاب الوحي في زمنه، ثم عدها في زمن أبي بكر فوجدها قد
نقصت؟ وهل يفقه أن ضياع بعضها لا يضر مع تعدد الكاتبين والحافظين؟ إلا إذا
ثبت أن سورة أو آية بخصوصها قد أضاعها كل مَن كتبها ومن حفظها؟ وأنَّى يثبت
هذا؟
رُوي بأسانيد صحيحة أن المكتوب وافق المحفوظ، ولم يفقدوا منه شيئًا إلا آية
آخر التوبة وجدوها مكتوبة عند واحد فقط، على أنها كانت محفوظة مقروءة في
الصلاة، وأما النَّسْخ الذي قاله فقد أنكره قوم، ومَن أثبته لم يعلله بما ذكر.
(الدليل الخامس) قال: (ولما قام الحجاج بنصرة بني أمية لم يُبقِ
مصحفًا إلا جمعه، وأسقط منه أشياء كثيرة كانت قد نزلت فيهم، وزاد فيه أشياء
ليست منه، وكتب ستة مصاحف جديدة بتأليف ما أراده، ووجه بها إلى مصر
والشام ومكة والمدينة والبصرة والكوفة، وهي القرآن المتداول اليوم) ، ثم زعم
أنه أتلف سائر المصاحف تزلُّفًا إلى بني أمية؛ حتى لا يبقي في القرآن ما يسوءهم!
ونقول: إننا نتخذ مثل هذا الكذب فرصة لتعليم الناس ما كان من عناية هذه
الأمة بحفظ كتابها، ولولا ذلك لكان من اللغو الكلام مع مَن لا يستحي من الكذب.
إن الحجاج لم يكن حاكمًا عامًّا له سلطان على جميع البلاد الإسلامية، فيحاول جمع
القرآن منها وتبديله، على حين يعتقد أهلها أن التصرف بحرف واحد منه كفر
صريح، ولو فرضنا أنه كان حاكمًا عامًّا، فهل كان يستطيع أن يجمع المصاحف
التي لا عدد لها ولا يمكن أن يعرف مواضعها؟ ولو فرضنا أنه قدر، فهل يقدر
على محوه من الصدور، كما يمحوه من السطور؟ لقد حفظ القرآن الألوف،
وانتشروا في الأرض قبل ملك بني أمية، فلماذا لم يوجد إلى اليوم حافظ يخالف
حافظًا في هذا المصحف المروي بالتواتر من كل وجه كما قدمنا. حفظه أولئك
الألوف بباعث الإيمان واليقين، ورغبة في الأجر الذي كتبه الله تعالى لحَفَظَة
القرآن وحَمَلته، كما ورد في الأحاديث الصحيحة. ثم إن الخلفاء كانوا فوق هذا
يرغِّبون الناس في الحفظ. روى أبو عبيد عن سعد بن إبراهيم أن عمر كتب إلى
بعض عماله أن أعطِ الناس على تعلم القرآن، فكتب إليه: إنك كتبتَ أن أعطِ الناس
على تعلم القرآن، فتعلمه مَن ليست له رغبة إلا رغبة الجند، فكتب إليه: أن أعطِ
الناس على المودة والصحابة. وروى البيهقي عن علي قال: مَن وُلد في الإسلام،
فقرأ القرآن، فله في بيت المال في كل سنة مائتا دينار، إن أخذها في الدنيا وإلا
أخذها في الآخرة، وروى أيضًا عن سالم بن أبي الجعد أن عليًا فرض لمَن قرأ
القرآن ألفين ألفين، أرأيت هذا الترغيب في الأجر الدنيوي فوق الأجر عند الله
تعالى، هل يبقي معه أحد لا يحفظ القرآن إلا القليل النادر؟ !
وكتب عمر إلى عامله في بعض البلاد يسأله عن عدد مَن يحفظ القرآن عنده،
فأجاب أنهم ثلثمائة، وقد نسيت اسم البلد، وأراني لم أنسَ العدد. فإذا كان العاقل
يتصور أن يقع - مع هذه العناية التي أشرنا إليها - تحريف أو تصحيف أو نقص
أو زيادة، فبأي كتاب أو بأي شئ يمكن أن يثق؟ ! مثل هذه العناية لم تتفق ولن
تتفق.
(الدليل السادس) أو الفِرية السادسة - وهي كالثانية - قوله: (إن
الخلفاء تصرفوا فيما دعوه كتاب الله تصرف المالك في ملكه) ، وذكر هنا في
الهامش أن ابن عباس أنكر كون المعوذتين من القرآن، ثم ختم لغوه بذم القرآن ذمًّا
شعريًّا، بأنه مبتور؛ لا نظام له، ولا تأليف، ولا معنى يتسق.
فأما دعواه في الخلفاء فلا أرى إلا النصارى واليهود والمجوس والذين أشركوا
يسخرون منها. وأما زعمه أن ابن عباس أنكر كون المعوذتين منه فهو كذب،
وإنما روي هذا عن ابن مسعود وحده، ولكن الجم الغفير من الصحابة رووها
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرآنًا، فعدم رواية ابن مسعود لها لا ينافي
التواتر عن غيره، كما رواه أحمد والحميدي والبخاري ومسلم والنسائي وابن حبان،
وأما ما قاله في النظم والتأليف فإننا - بعد الثقة بأن سيكون سخرية لكل مَن شم
رائحة البلاغة العربية - نحيل القارئ على ما تقدم نقله عن القاضي عياض، ونتمثَّل
بقول شاعرنا الحكيم:
إذا وصف الطائي بالبخل مادر
…
وعير قسًّا بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت خفية
…
وقال الدجى للصبح لونك حائل
فيا موت زُر إن الحياة ذميمة
…
ويا نفس جدّي إن دهرك هازل
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أي الفريقين المتعصب: المسلمون أم النصارى
؟!
نشرت إحدى الجرائد السورية التي تصدر في نيويورك مقالة في أخلاق
(الألبان) وعوائدهم، جاء فيها ما نصه:
(ومن أشد متاعس البلقان وجود الأرناؤوط من النصارى والمسلمين في أرض
واحدة تجمع بينهم لغة واحدة ووطن واحد ونسب يرجع إلى أصل واحد وهم - مع
ذلك - منقسمون على بعضهم بعضًا متطرفون في التعصب الديني وأولئك
المتعصبون من المسلمين هم نصارى من الأصل انقلبوا عن النصرانية ودخلوا في
دين محمد فخلعوا عنهم بذلك الانتقال رداء اللين المسيحي وتقمصوا بقميص القساوة
التركية! وذلك لأن الحياة التي اعتنقوها حديثًا هي ديانة قامت بالسيف مبنية على
أساس الجهاد ولا ثبوت لها إلا بالقوة القاهرة. ومن الغريب أننا نرى أشد المسلمين
تعصبًا وقساوة هم المتحدرون من سلالة نصرانية، فإن أشد الأكراد ضراوة وهمجية
وتعصبًا بين إخوانهم الأكراد القائمين على حدود بلاد العجم هم الأولى تحدَّروا من
نسل نصارى الأرمن وأضرى مسلمي البلغار المقيمين في جبال رودوب هم
المتحدرون من نسل النصارى وكذلك نرى أن مسلمي القراوطين والسرب وأهل
البشناق من المتسلسلين من عيال نصرانية أشد مسلمي تلك البلاد تعصبًا وشرًّا.ا. هـ
بحروفه.
(المنار)
من عجائب تأثير التقليد أنه يجعل نتيجة الدليل الموجبة سالبة والسالبة موجبة
ويجمع لصاحبه بين النقيضين، فيستدل على إقبال الليل بطلوع الشمس وعلى
إقبال النهار بغروبها. شاع بين الناس أن دين الإسلام قام بالسيف وهي قضية
بديهية البطلان، فإن الداعي إلى هذا الدين قام يدعو إليه وحده ولا سيف معه
ولو كان معه سيف لكان من المُحال أن يغلب به سيوف العالمين الذين جاء
لدعوتهم إلى دينه، ثم إنه بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته هاجر مستخفيًا من بلده وليس
معه إلا رجل واحد وذلك لأنه كان على خطر من قومه، ولولا حفظ الله وعنايته
لقتلوه هو وتلك الفئة القليلة التي آمنت به وهربت من مكة مهاجرة إلى الحبشة
لنجاة أرواحها.
ثم إنه لما صار له في مهاجره أتباع يتيسر لهم المدافعة كانوا يدافعون
المشركين ولم يعتدوا عليهم في قتال قط اتباعًا لقوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) ، ولا سعة
في هذا الرد لتطويل في شيء سبق القول فيه، ونرجو أن نوضحه بعدُ أتم الإيضاح
وإنما نقول: إن الناس قلد بعضهم بعضًا في تلك القضية الكاذبة حتى المسلمين، كما
قلد بعضهم بعضًا في أن الدين المسيحي انتشر بالدعوة، مع أن التاريخ يشهد أنه لم
ينتشر لا سيما في أوربا إلا بالقوة القاهرة. كان من تأثير هذا التقليد أن تشاهد القسوة
وشدة التعصب في النصارى أضعاف ما هي في المسلمين حتى أن الجنس الواحد يوجد
فيه العريق في الإسلام والحديث العهد به فيكون الثاني أشد تعصبًا من الأول ويلاحظ
هذا أهل البحث والذكاء ويثبتونه بالكتابة ثم يقرنون به القول بأن شدة التعصب قد
لابست نفوس هؤلاء الداخلين في الإسلام بتأثير الإسلام وكونه دين قسوة وجهاد! ألم
يكن الأقرب إلى الإنصاف أن يقال إن هؤلاء المرتقين إلى الإسلام عن النصرانية قد
حملوا ما كان عندهم من شدة التعصب في دينهم القديم إلى دينهم الجديد وبذلك امتازوا
في التعصب على الأصلاء فيه الذين ورثوا التساهل وتربوا على الدين القاضي باللين
والمجاملة، فلم يكن عندهم شيء من ذلك التعصب الذميم؟ ولكن التقليد يحول دون
هذا الحكم العادل.
_________
الكاتب: بعض الأفاضل
سؤال في التثليث
لبعض الأفاضل
سؤال للمسيحيين أرجو
…
إجابتهم عليه مع اليقين
هل التثليث في المولى قديم
…
أم الأقنوم أُحدث بعد حين
وليس على الحدوث يقر قوم
…
وعن قدم القديم تجاوبوني
أموسى كان يجهل أم بمين
…
أتى أم غيروا أركان دين
وليس بجهله أحد مقرًّا
…
ولا بالمين يرمى والمجون
فقولوا قومه نقصو وزادوا
…
بذلك صح قرآن الأمين
وأما كون موسى قد دعاهم
…
على قدر العقول فسامحوني
وإن الحق يغلب كل ظن
…
دعوا تثليثكم أو جاوبوني
شرح السؤال
أرجو قبل كل شيء من المسيحيين عمومًا - وأخص ذوي العقول السامية
والأفكار الراقية خصوصًا - أن يجاوبوا بما يطمئن إليه فؤادهم وترتاح إليه
ضمائرهم، ويسكن إليه خاطرهم، ولمنع سوء التفاهم أو التجاهل سأشرح السؤال
شرحًا كافيًا، وهو:
هل التثليث في ذات الله سبحانه مع الأقانيم حادث أو قديم؟ فإن كان حادثًا
لزم الغِيَر في ذات الله، وهو مُحال باتفاق، وإن كان قديمًا فمن المعلوم أن الله
أرسل قبل المسيح عليه السلام رسلاً أو آباء - كما تسمون - بشرائع مخصوصة،
نخص من بينهم موسى عليه السلام؛ لوجود بقية من أتباعه، ولاعتراف المسيح
بناموسه وإقراره بأصل شريعته، وأنه مكمل لها فقط، ولو سألنا قومه عن
أصل شريعتهم وعن اعتقادهم في الله المبني على دعوة موسى - لأجابوا
بالتوحيد المطلق المجرد عن التثليث والأقانيم أحد من كتبهم. فهنا نقول: هل
هذه هي دعوة موسى، وأنها كانت للتوحيد المطلق أو أن قومه غيروها وكانت
بالتثليث؟ فإن قالوا بالأخير صدق القرآن في أنهم يغيرون ويبدلون، ويحرفون
الكلم عن مواضعه، وما صدق على أحد المثلين يصدق على الآخر، فلا ثقة إذا في
الديانة المسيحية وكتبها ولا داعي لاعتقاد صحتها، بل يجب أن تكون الثقة
في الموثوق به وهو القرآن المجيد. وإذا أجابوا بالأول وأن دعوة موسى كانت
للتوحيد قلنا: هل كان موسى يجهل ما يجب اعتقاده في مولاه الذي أرسله واصطفاه
من بني إسرائيل المصطفين على العالمين؟ أو كان يكذب على قومه
فيدعوهم إلى أن الله واحد فقط وهو يعلم أنه ثلاثة في واحد أو واحد في ثلاثة أقانيم
؟ أو كان يستعمل التورية في أساس الرسالة؛ إذ معرفة الله أصل كل دين وأساس
كل رسالة وشريعة سماوية، سيقولون: إنه كان يعلم أنه واحد في ثلاثة (أي يعلم
التثليث) ولكن لم يؤمر بتبليغه؛ لأن الشرائع تأتي علي قدر العقول.
ولكن نقول لهؤلاء: إن المعهود في تاريخ البشر هو ميلهم إلي الوثنية والتعدد
وهؤلاء قدماء المصريين ووارثوهم اليونان وبعدهم الرومانيون الذين بنيت دولتهم
بأنقاض دولة اليونان كان تعدد الآلهة فيها وقبلها آخذًا حده - ولعل سر التثليث جاء من
هنا - فلو أتي موسى قومه ودعاهم علي قدر العقول لكان الأليق به أن يدعوهم إلى
التثليث ويقلل تعدد الآلهة نوعًا ما خصوصًا وقد كان ظهوره في مدة مجد المصريين،
وتعدد الآلهة عندهم أشهر من أن يذكر - فهذا قول لا يقوله عاقل.
وإن قالوا: إن قضية التثليث غير معقولة فيجب الإيمان بها اتباعًا للوحي
نقول: فلِمَ لَمْ يدعُ إليها موسى والأنبياء وهي لا يشترط فيها العقل ولا الاستعداد؟ !
والنتيجة أن التثليث ليس بحادث ولا قديم وكل ما كان كذلك فهو باطل، فالتثليث باطل
لأنه لو كان حادثًا للزم التغير في ذات الله وهو باطل، فالتثليث ليس بحادث ولو كان
قديمًا لقال به موسى عليه السلام والأنبياء ولكنهم لم يقولوا به فهو ليس بقديم. ولا
يعقل أن موسى عليه السلام كان جاهلاً أو كاذبًا أو مورِّيًا في أصل الدعوة والمعقول
أنه لم يكن تثليث فثبت ما تقدم من نفيه.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(س ن. ان)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإنجيل الصحيح
(النبذة الثانية من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي)
قال: لما قضيت الخمسين من عمري سألت الحكماء الذين عرفتهم عن كوني
الخاص وعن معنى حياتي. فكان الجواب أنني عبارة عن ذرات اجتمعت ببعضها
وأن حياتي خلو من المعنى بل إنها رديئة. فداخلني اليأس من هذا الجواب وكاد
يحملني على الانتحار ولكنني ذكرت حالتي في عهد الطفولية حينما كان الإيمان
راسخًا في قلبي وكان للحياة معنى عندي، ثم نظرت فرأيت جمهور الناس حولي
راضين بالإيمان ولم يبطرهم المال فيجرهم إلى الفساد؛ فلذلك يعيشون عيشة حقيقية
مملوءة بالمعاني فكان بعد ذلك كله أنني بدأت أرتاب في الجواب الذي أوحت به إلي
حكمتي وحكمة أمثالي وعاودت النظر كرّة أخرى عساني أدرك الجواب الذي تجيب
به النصرانية أولئك القوم الذين كنت أراهم عائشين عيشة حقيقية.
فطفقت حينئذٍ أدرس النصرانية كما كنت أراها في حياة الناس وشرعت في
مقابلة هذه النصرانية المعمول بها على الأصول المنبعثة عنها. وهذه الأصول إنما
هي الأناجيل، وقد وجدت فيها هذا المعنى الذي يسمح للناس أن يعيشوا عيشة
حقيقية. ولكني رأيت فيما آلت إليه النصرانية في هذه الأيام كما يرى الناظر في
الينبوع. رأيت ماءً صافيًا مشوبًا بالأكدار والأوحال، وهذه الشوائب هي التي حالت
بيني وبين رؤية صفاء هذا الماء إلى الآن. رأيت حينئذ أنني خلطت بين سمو
العقيدة النصرانية وبين العقيدة العبرانية والعقيدة الكنائسية وأن كلتا هاتين العقيدتين
أجنبيتان عنها بل مخالفتان لها. فشعرت بما يجده الرجل الذي يعطونه كيسًا من
التراب ولكنه بعد الكد والكدح والتعب والنصب يعثر فيه على بضع لآلئ تعلو
قيمتها الوصف والتقدير، فمثل هذا الإنسان لا يرى أنه قد أذنب في نفوره من التراب
وكذلك الذين جمعوا تلك اللآلي مع بقية ما حواه والكيس وحفظوه بما فيه من ثمين
ومبتذل ليسوا أيضًا بمذنبين، بل يستحقون الإجلال في محل الإكرام والإجلال. ثم
هو يتساءل بعد ذلك عما يجب عليه فعله بهذه الدراري الغالية التي وجدها مختلطة
بالأوحال والرمال. وهذا لعمري موقف حرج. ولقد لبثت فيه إلى أن أدركت في
أحد الأيام أن هذه الأحجار الكريمة لم تكن دائمًا مختلطة بما يشوبها من الأكدار وأنه
يتسنى تخليصها منها وتمييزها عنها.
لم يكن لي علم بماهية النور وكان يخطر ببالي أن هذه الحياة ليس فيها أدنى
حقيقة على الإطلاق ولكنني لما أدركت أن النور وحده هو حياة الناس طفقت أبحث
عن مطالع النور وقد عثرت عليها في الأناجيل بالرغم مما أدخلته الكنائس فيها من
شوائب التوفيق والتطبيق. فلما وصلت إلى هذه المشارق التي ينبعث منها النور
انبهرت من شدة ضيائها ثم وجدت فيها بعد ذلك الجواب السديد عن المسائل التي
كانت تخالج فؤادي فيما يتعلق بمعنى حياتي وحياة سائر الناس، وقد ألفيت هذا
الجواب مطابقًا من كل الوجوه للجواب الذي نالته الأمم الأخرى بل هو في نظري
يزيد عليه زيادة عظيمة، ولقد كنت أبحث عن ماهية الحياة وعن حل مسألة لاهوتية
أو تاريخية ولذلك لم يكن يعنيني العلم بالذي كتب الأناجيل ولا بوقت تسطيرها ولا
بما إذا كانت هذه الأسطورة أو تلك الأمثولة صادرة عن المسيح نفسه أم لا. وإنما
الأمر المهم عندي هو ذلك النور الذي أرسل شعاعه على الناس منذ ألف وثمان مئة
عام والذي استضأت به ولا أزال أستضيء به أيضًا. أما الاسم الذي يليق بمطلع
هذا النور والعناصر التي يتألف منها موجده، فكل هذه أمور لم يكن لها نصيب من
عنايتي على الإطلاق.
ثم أخذت أنظر إلى هذا النور وأراقب وأدرس كل ما يستضيء به، فكنت كلما
تقدمت في هذا السبيل تتضح لي زيادة الفرق المتعاظم على التوالي بين الحق
والكذب، وفي مبادئ عملي كان الشك لا يزال عالقًا بنفسي وكنت أحاول فنونًا من
التأويلات الصناعية، ولكنني كلما واليت البحث كانت الحقيقة تتراءى لي في ثوبها
الناصع الجميل.
وكان مثلي حينئذ كمن يجمع قطع التمثال المتكسر، فإنه في أول الأمر يتشكك
ويسائل نفسه: هل هذه القطعة مما يجب وضعه في الساق أو في الذراع؟ ولكنه متى
تسنى له إعادة الساق تامة كاملة يتحقق أن تلك القطعة ليست من الساق في شيء
ومتى وجد في الذراع نقصًا تنطبق عليه تلك القطعة تمام الانطباق فإنه لا يتردد
لحظة واحدة في تعيين المكان الذي كان مخصصًا في أول الأمر لهذه القطعة من
التمثال. فكنت كلما تقدمت في عملي يزداد هذا الشعور تمكنًا في نفسي. وإذا لم
يكن الجنون قد استولى على عقلي فلا شك أن القارئ يجد في نفسه أيضًا مثل هذا
الوجدان حينما يقرأ ترجمتي الكبيرة للأناجيل، فإن كل نظرية من نظرياتي مشفوعة
بالدليل اللغوي وبمقارنة النصوص المختلفة ببعضها وبانطباقها تمام الانطباق على
الفكرة الأساسية التي بني عليها تعليم المسيح.
وربما ساغ لي الوقوف عند هذا الحد واختتام المقدمة بما أوردته إلى الآن إذا
كانت الأناجيل من الكتب التي عثر عليها الباحثون حديثًا أو كانت التعاليم المسيحية
لم تصادفها على الدوام من ألف وثمان مائة عام سلسلة متوالية من الأباطيل في
التأويل.
ولكي يفهم الناس في هذه الأيام حقيقة دين المسيح كما كان يدركها هو نفسه
أرى من الواجب التنبيه على الأسباب الجوهرية التي أوجبت تلك التأويلات الفاسدة
وتلك التصورات الكاذبة التي جرتها على أثرها. إن السبب الأصلي لهذه التأويلات
الباطلة التي يصعب علينا معها اليوم العثور على حقيقة دين المسيح هو أن هذا
الدين قد اختلط بمقالات وطقوس الفارسيانيين وبما جاء في العهد القديم من الآراء
والمذاهب وكان ذلك منذ أيام بولس الذي لم يدرك قط حقيقة دين المسيح [1] والذي
لم تخطر على باله أيضًا بصيغتها التي عرفها الناس بها من بعده على مقتضى
إنجيل متى، فقد جرت العادة على اعتبار بولس كرسول الوثنيين وكالرسول القائم
بالاحتجاج (البروتستانتي) ولقد كان كذلك في الواقع ونفس الأمر ولكن فيما يتعلق
بالصيغ الخارجية فقط كالختان وغيره. بل هو الذي أدخل في النصرانية تعاليم
اليهود وسننهم بضمّه العهد القديم إلى العهد الجديد وقد كانت هذه التعاليم المشوبة
بسنن اليهود السبب الأساسي في تشويه العقيدة المسيحية وتأويلها على غير وجه
الحق.
فمن عصر بولس كان ابتداء ذلك التلمود المسيحي الذي هو اليوم عبارة عن
تعاليم الكنيسة، ومن ذلك الوقت أصبح دين المسيح لا يعتبر واحدًا وكاملاً وإلهيًّا، بل
مجرد حلقة من حلقات سلسلة الوحي العظيمة التي تبتدئ من يوم الخليقة وتمتد حتى
تصل إلى الكنيسة في أيامنا هذه.
وبنى على هذا التأويل الباطل تسمية المسيح بالإله ولكن الاعتراف بألوهية
المسيح لا يلزم (كما يظهر) على تعليق أدنى أهمية على كلمته الإلهية أكثر من
اهتمامه بكلمات التوراة والمزامير وأعمال الرسل ورسائلهم والرؤيا، بل بقرارات
المجامع وكتابات الآباء [2] .
وهذا التأويل الباطل لا يسوغ مع تصور العقيدة المسيحية إلا إذا كانت موافقة
لكل ما جاء به الوحي قبل المسيح وبعده بحيث يكون الغرض من هذا التأويل هو
التوفيق بقدر الإمكان بين كتب مختلفة يناقض بعضها بعضًا مثل التوراة والمزامير
والأناجيل والرسائل والأعمال وسائر الكتب المعتبرة مقدسة.
ومن البديهي أنه إذا كان المبدأ بهذه الصفة لا يجوز لإنسان أن يطمع في
إدراك تعليم المسيح كما ينبغي. وهذا المبدأ الفاسد هو الذي أوجب تعدد الآراء
واختلافها الكثير في حقيقة معنى الأناجيل. إذ لا يخفى أنه يمكن حدوث عدد غير
محدود من أمثال هذه التأويلات التي لا يقصد منها البحث عن الحقيقة، بل توفيق
النقيضين اللذين لا يتفقان وهما العهد القديم والعهد الجديد. وفي الحقيقة أن هذه
التفاسير لا تدخل تحت حصر ولأجل إظهار هذه التفاسير في مظهر يشابه الحقيقة
اضطر أصحابها إلى الالتجاء إلى وسائل خارجية مثل الخوارق ونزول الروح
القدس عليهم ونحو ذلك.
وقد اجتهد كل واحد منهم - ولا يزال يجتهد - في التوفيق على ما يراه ثم ترى
كلاً منهم يدعي بأن توفيقه هو آخر وحي صادر عن الروح القدس. مثال ذلك ما جاء
في رسائل بولس وفي قرارات المجامع التي تبتدئ بهذه العبارة: (قد وافقنا ووافق
الروح القدس) ومثال ذلك أيضًا الأوامر الصادرة عن الباباوات وعن المجامع
المقدسة للأرثوذكسيين والبولسيين وكل هؤلاء المفسرين الكاذبين في دعوى بيان فكر
المسيح. فكلهم يلتجئون إلى هذه الرسائل الشاذة المستنكرة لتأييد صحة ما يذهبون
إليه من التوفيق، فهم يجزمون بأن هذا التوفيق ليس من نتائج أفكارهم الشخصية
وإنما هو شهادة صادرة عن الروح القدس مباشرة.
ولسنا نحاول البحث والتنقيب في هذه الديانات المتنوعة التي يزعم أصحاب
كل واحدة منها أنها هي الحق دون سواها ولكننا نقول بأننا نرى مع ذلك أنها كلها
تبتدئ بتقديس الكتب الكثيرة التي تضمنها العهد القديم والعهد الجديد وأنها توجب
بنفسها على نفسها حدوث عقبة لا تزول في فهم الدين المسيحي الحقيقي ويترتب
على ذلك حتمًا تعدد الشيع المتناقضة تعددًا لا يدخل تحت حصر.
ولكن هذا التعدد الذي لا يتناهى إنما نشأ عن التزام القوم التوفيق بين عدد
عظيم من آثار الوحي المتعدد فإن تفسير مذهب الشخص الواحد الذي يعتبرونه كإله
لا يمكن أن يستوجب اختلاف النِّحل والشيع مطلقًا إذ لا يصح القول بتفسير التعليم
الذي جاء به إله قد نزل على الأرض ويكون هذا التفسير بطرق مختلفة.
فإذا كان الله نزل على الأرض لإظهار الحق للناس فأقل ما كان يصنعه أنه
يبين لهم هذا الحق بطريقة يفهمها الجميع بلا التباس ولا اشتباه، فإذا لم يكن قد صنع
هذا فذلك دليل على أنه لم يكن إلهًا!!!
وإذا كانت الحقائق الربانية هي بحيث لم يقدر الإله نفسه على إبرازها في
صورة يدركها الناس، فمن الطبيعي أن الناس لا يتمكنون أيضًا من الوصول إلى
هذا الغرض.
ومن جهة أخرى نقول: إذا كان المسيح ليس هو الله وإنما هو من عظماء
الرجال ونوابغهم فإن تعليمه لا يترتب عليه أيضًا كثرة الشيع المتناقضة؛ لأن مذهب
الرجل العظيم لا يكون عظيمًا إلا لكونه أوضح بصفة صريحة واضحة ما قاله غيره
بطريقة مبهمة بعيدة عن الإدراك. وكل ما كان غير مفهوم في خطاب الرجل
العظيم لا يمكن أن يكون عظيمًا فإن مذهب الرجل العظيم ينبغي أن يجمع الناس
كلهم على حقيقة واحدة يشتركون فيها على السواء وإنما التأويل الذي يزعم صاحبه
أنه صادر عن وحي من الروح القدس وأن فيه الحق وحده - هو الذي يثير البغضاء
في النفوس ويوجب اختلاف الشيع والمذاهب ولا عبرة بما يقوله أصحاب بعض
المذاهب من أنهم لا يحكمون بالضلال على من يخالفهم وأنهم لا يودون لهم السوء
وليس في أنفسهم حفيظة عليهم، فإن ذلك مما لا يمكن أن يكون له نصيب من
الحقيقة. فمنذ عهد آريوس لم يوجد مذهب واحد ولدته غير الرغبة في معارضة
المذهب الذي يناقضه! وأقصى درجات الغرور والجنون أن يقال بأن هذه العقيدة هي
صادرة عن الوحي ومقتبسة من الروح القدس ومن منتهى الغرور أن يقول
الإنسان بأن ما يصدر عنه من الآراء إنما هو من قول الله نفسه على لسانه. ولا
أرى أكذب من ذلك الذي يجيب مثل هذا الإنسان بقوله: (كلا، إن الله لم يتكلم
بلسانك، بل بلساني وإنه يقول ما يناقض ما نسبته إليه على خط مستقيم) وهذه
لعمري طريقة المجامع كلها والكنائس بلا استثناء والشيع على اختلاف مقالاتها
وآرائها، وهذا هو الذي أوجب ويوجب الشرور في العالم باسم الدين، هذا هو
العيب الخارجي العظيم، والشيع كلها تتألم من عيب آخر داخلي. يمنعها أن تكون
لها صبغة واضحة مضمونة معينة.
وهذا العيب يتولد من قيام هذه الشيع بإثبات تأويلاتها الفاسدة والقول بأنها
منتهى ما جاء به الوحي عن الروح القدس وهي مع ذلك لا تُعنَى ببيان جوهر هذا
الوحي ولا معناه بطريقة صريحة حاسمة لكل جدال مع أنها تدعي بأنها تلقته عن
الروح القدس وأنها متممة لهذا الروح وهي تسمي هذه التأويلات بالدين المسيحي.
فالمؤمنون الذين يسلمون بصدور الوحي عن الروح القدس إنما يسلمون في
الحقيقة ونفس الأمر بثلاث جهات للوحي، ومثلهم في ذلك مثل المسلمين؛ فإنهم
يعتقدون بالوحي إلى موسى وعيسى ومحمد. والمؤمنون من المسيحيين يعتقدون
بالوحي إلى موسى والمسيح والروح القدس. ولكن الديانة الإسلامية تقول بأن
محمدًا هو آخر الأنبياء وأنه وحده قد فسر بطريقة نهائية الوحي الذي جاء به موسى
وعيسي وقد توَّجهما بإضافة الوحي الذي تلقاه. أما حالة الكنائس المسيحية فهي
على نقيض ذلك بالمرة، فإنها بدلاً من أن تسمي دينها باسم الوحي الأخير الصادر لها
أعني (دين الروح القدس) فإنها تقول وتؤكد بأن دينها هو دين المسيح وأنه مبني
على تعليم المسيح بحيث إنها في الحقيقة ونفس الأمر تقدم لنا تعاليمها الخاصة بها
وتزعم أنها تؤيدها باسم المسيح وبشهادته!
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: هذا هو ما كنا نعتقده، وصرَّحنا به مرارًا، وقد سبق أن سمينا الديانة النصرانية المعروفة بالديانة البولُسية، ولا غَرْوَ فالذين يطلبون الحق كثيرًا ما تتلاقى أفكارهم، وما آفة الحق إلا التقليد.
(2)
هكذا جاءت هذه الجملة في الترجمة، فلتُنظر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الباب وقرة العين
يرى بعض الفضلاء أن من حقوق قراء المنار علينا إذا نحن نشرنا شيئًا من
كلام غيرنا أن ننتقد ما نراه فيه منتقدًا في اللفظ أو الفحوى، سواء كان ذلك مرسلاً
إلينا أو منقولاً من الكتب أو الجرائد والمجلات. ولم نَرَ أحدًا التزم مثل هذا ونظن
أن أكثر الناس لا يقول به إلا في موضوع يقصد صاحب المجلة إلى إثباته فيجيء في
الكلام المنقول ما ينفيه، فينبغي له حينئذٍ أن يحتج لرأيه ولكن لا يجب عليه أن
يصل كل ما ينشره لغيره بمقال ينتقده فيه مطلقًا إذا هو وجد ما يصح أن ينتقد.
ومما انتقد علينا بالنص سكوتنا على ما جاء في ذلك المكتوب المنشور في
الجزء الثاني من ذكر الباب وقرة العين في النابغين الذين يُعَد واحدهم بألف، قال
المنتقد: إن الباب رجل مبتدع دجال لم يأتِ بشيء يرفعه إلى مصاف النابغين وأما
قرة العين فهي بَغي أباحت نفسها للناس وفتنتهم بجمالها وقد عاقبتها الحكومة
الإيرانية بأن ربطتها في أذناب الخيل فعدَتْ بها حتى مزقتها كل ممزق.
ونحن نوافق المنتقد ونظن أن عذر الكاتب عدم الوقوف على كل ما يعرفه
أمثاله؛ فإن هذا إيراني وذلك مغربي، يسمع أن الباب أنشأ مذهبًا تبِعه فيه خلق
كثير وأن قرة العين كانت من دعاة مذهبه وكانت عالمة خطيبة مؤثرة وهذا هو ما
كنا نسمعه قبل الاختبار وتمام الاطلاع. ولا أقول أن الكاتب يعتقد صحة مذهب
الباب، بل أنا أعتقد أنه لا يشك في بطلانه. ومن قدر على إنشاء مذهب باطل
يتبعه فيه ناس كثيرون فهو نابغ في استعداده الفطرى ولكنه وجه استعداده إلى الباطل،
ولو وجهه إلى الحق لنفع نفعًا عظيمًا؛ لأن قوة استعداده تؤيَّد بقوة الحق.
ونعيد هنا ما كنا قلناه من قبل وهو أن البابية أو البهائية لم يأتوا بمذهب جديد
في الإسلام، وإنما أحدثوا دينًا جديدًا كالنصرانية سواء، وأن أتباعهم ليسوا من
الكثرة كما يدعون. وإنما هم قوم يوهمون ويموهون.
_________
الكاتب: أحمد علي ضيف
الطلاق على الغائب والمعسر في السودان
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامي:
اطلعت في المنار الأخير على مدحكم خطة قاضي قضاة السودان وما أدخله
من الإصلاح في المحاكم الشرعية وغيرها، فكنت أشارككم في الشكر له حتى انتهيت
إلى عبارة استوقفت نظري، فكنت محتاجًا لشرحها منكم بأجلى بيان وهي قولكم:
(ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان ونرجو أن تلحقها فيه محاكم مصر
الطلاق على الغائب والمعسر فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر المحاكم
منشورًا تؤذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك) ولقد أردت فهم هذه الجملة
على وجه الوضوح فلم أتمكن وذلك لأن قاضي قضاة السودان مأذون من قاضي مصر
النائب عن الإمام في الحكم على مذهبه فهو حينئذٍ ملزم بأن يحكم ويأمر بالحكم على
مذهب الإمام وأيضًا كثير من هؤلاء القضاة من هو حنفي المذهب فيكون مضطرًّا
لأن يحكم على غير مذهبه ومن المقرر في الفقه أنه إذا قضي القاضي بغير مذهب
الإمام وقد اشترط عليه أن يحكم به يكون حكمه لاغيًا وهو معزولاً من منصبه وكذلك
إذا حكم غير المجتهد بغير مذهب يكون أيضًا حكمه لاغيًا. فكيف يكون حكم هؤلاء
القضاة وهم مأذونون من قاضي مصر النائب عن الإمام وفيهم من هو حنفي
المذهب وليسوا بمجتهدين؟ الرجا توضيح هذه المسألة؛ ليكون لكم الفضل وعظيم الأجر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... كتبه أحمدعلي ضيف
…
...
…
...
…
...
…
... بالأزهر
(المنار)
إن ما قاله الفقهاء من اشتراط كون القاضي الذي ينفذ حكمه منصوبًا من قبل
الإمام أو السلطان ليس أمرًا تعبديًّا فرضه الله تعالى علينا في كتابه أو على لسان
رسوله لنعبده به، وإنما هو أمر لا بد منه لأجل وحدة الأحكام وتنفيذها. والسلطان أو
الإمام عندهم هو من ينفذ الأحكام الشرعية فإذا كان عاجزًا عن ذلك بالفعل فهو ليس
بسلطان ولا إمام. وأنتم تعلمون أن السلطان الذي نصب قاضي القضاة في مصر لا
يقدر على تنفيذ الأحكام الشرعية في السودان بالفعل، وأنتم تعرفون الذي يقدر على
ذلك. وإنما للسلطان العثماني حق الحكم في السودان بالتبعية لمصر، والإنكليز قد
احتلوا مصر بإذنه لمنع الفتن التي كانت فيها فلا يصح لهم أن يتغلبوا على جزء من
أملاكها باسم الفتح لأن يدهم على البلاد يد أمانة. وهذه مسألة سياسية تتبعها رسوم
معروفة، فإذا لم تقل: إن الأحكام في السودان كالأحكام في الهند، فقل: إنها تشبه
الأحكام في الجزائر أو تونس التي تعتبرها الدولة العلية من بلادها إلى الآن أو في
كريد.
الحق أنه ليس للمسلمين الآن إمام قادر على تنفيذ الأحكام الشرعية في بلادهم
كلها حتى البلاد التي ليس فيها أعلام أجنبية. فهذه مصر تحكم محاكمها الشرعية
ببعض الأحكام فلا تنفذ والخديو وقاضي مصر نائبا السلطان صاحب السيادة
(الاسمية الرسمية) على مصر يعلمان ذلك. لأجل هذا نرى بعض المعتقدين
بصحة قول الحنفية أنه يشترط في صلاة الجمعة أن تكون في بلاد تنفذ فيها الأحكام
الشرعية - لا يصلون الجمعة في بلاد مصر ولكنهم يصلون الظهر. وكان الواجب
على كل المعتقدين بهذا المذهب أن يسعوا في تنفيذ الأحكام الشرعية في مصر كحكم
قاضي (أبي كبير) وغيره بإلحاق زوجات الداخلين في الإسلام من القبط بأزواجهم
وأن لا يصلوا الجمعة حتى يتم لهم ذلك.
نرى السائل قد اضطرنا إلى ذكر أمور يجهلها الأكثرون ويستنكرها
المغرورون، وإنما ذكرناها لنذكره أين هو وأين السودان من السلطان. وإننا نرجع
بعد هذا إلى الحجة البيضاء الناصعة وهي أن جميع أئمة المسلمين قد اشترطوا أن
يكون القاضي مجتهدًا يحكم بما يرى فيه المصلحة، ولم يقل بجواز كونه مقلدًا إلا
بعض المقلدين الذين لا يعتد بأقوالهم، ونذكر هنا ما كتبناه في مقدمة طبع (تقرير
مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية) وهو:
(الأمر الثالث) أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما الأحكام التي
هي من خصائص المحاكم الشرعية يكون سهل العبارة لا خلاف فيه كما عملت
الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية. ولا يكون هذا الكتاب وافيًا بالغرض واقيًا
للمصالح إلا إذا أخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة ليكون اختلافهم
رحمة للأمة. ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور ببطلانه كما لا يخفى. وقد
أشير في صفحتي 38و40 من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي وتوهم بعض
الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة وأن الأحكام بغير مذهب الحنفية لا تصح
ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور:
(1)
جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه (فلو شرط المولي وهو حنفي
أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا
على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام، فهو شرط باطل
سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا
فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب
الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه
النهي - كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن
يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك
قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحًا إن جهل، لكن لا يصح مع
الجهل أن يكون موليًّا ولا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال:
قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت
الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل
الشرط اهـ المراد منه.
(2)
لا يعدل عن مذهب الحنفية إلا في الأحكام التي لا تنطبق على مصلحة
الناس في هذا العصر إذا حكم فيها بمذهبهم وهذه حالة ضرورة أو حاجة تنزل منزلة
الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم لأن الحكم الذي تمس إليه الحاجة أو
يضطر إليه يصير متفقًا عليه. اهـ المراد هنا، ومنه يعلم الجواب والاجتهاد يتجزأ
على الراجح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
الاجتهاد والتقليد
(س1) : م. غ. بالأزهر: طالعت في مجلتكم الغراء (م4) بحث
الوحدة الإسلامية والاجتهاد والتقليد والرجوع إلى بساطة الدين الأولى بأخذ الأحكام
الدينية من الكتاب والسنة اللذين من تمسك بهما نجا ومن حاد عنهما هلك. وقد عثرت
على كتاب (كشف الغمة) للشيخ الشعراني، فإذا هو كتاب في الحديث مرتب
كترتيب كتب الفقه ذكر فيه أدلة الأئمة كلهم ولم يتعصب لمذهب من المذاهب وإذا
تعارض حديثان صحيحان من جهة التخفيف والتشديد حمل أحدهما على الرخصة
والآخر على العزيمة ولا يحكم بنسخ حديث إلا بحديث آخر مصرح بنسخ الأول
كقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا في كل
وعاء ولا تشربوا مسكرًا) فهل أحاديث هذا الكتاب صحيحة، فنعتمد عليه في
العمل؟ وإذا عرض لنا حكم لم نجده فيه ولا في غيره من كتب السنة الصحيحة
كالكتب الستة ومسانيد الأئمة الأربعة فهل يجوز لنا أن نأخذ هذا الحكم من مذهب
أي إمام غلب على ظننا صحة قوله أم يجب علينا أن نجتهد لنأخذ ذلك الحكم؟
أفيدوا تؤجروا.
(ج) هذا الكتاب أحسن ما كتب الشعراني والخلط فيه قليل جدًّا وليست
أحاديثه كلها صحيحة ولا حسنة بل فيها ما لا يصح الاستدلال به. وأحسن منه
في هذا الباب كتاب (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار) فإن مؤلفه الإمام
الشوكاني يخرج أحاديث المنتقى ويأتي بما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها
وباستنباط الأئمة منها، فهو أفضل كتاب يهدي إلى فهم السنة في أحكام العبادات
والمعاملات. أما ما يعرض للإنسان من المسائل التي لا ذكر لها في الكتاب
والمعروف من السنة فالواجب عدم البحث عنها عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:
(وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وإنما يأتي هذا في أحكام
العبادات خاصة التي تمت على عهده صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى في ذلك
قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ؛ فالعبادات لا اجتهاد فيها ولا
استنباط إلا الاجتهاد في التمييز بين الصحيح وغيره من الأخبار وفي تحصيل مَلَكَة
العربية لفهم ذلك والاجتهاد الحقيقي إنما يكون في الأحكام الدنيوية التي يتنازع فيها
الناس ولا تنازع في عبادة الله تعالى. وعندنا أن من يعرف الحق في هذه باقتداره
على الاستنباط يعمل به ومن لم يعرفه أو عرفه وكان له خصم لا يقبل حكمه،
فالواجب عليه رده إلى أولي الأمر، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وأما السؤال عن الأخذ
بقول من يغلب على الظن صحة قوله ففيه أن غلبة الظن لا تأتي إلا من الاطلاع
على الدليل والوقوف على وجه ترجيحه على مخالفه، إن كان هنالك مخالف وهذا لا
نزاع فيه، وصاحبه لا يسمى مقلدًا.
***
مأتم عاشوراء
(س2) ر. ع. بمصر: كنا نتوقع منكم أن تكتبوا في شهر المحرم شيئًا
في انتقاد ما يفعله إخواننا الشيعة من المنكرات في عاشوراء كضرب رؤوسهم
بالسلاح حتى تسيل منها الدماء على وجوههم وثيابهم وما يتبع ذلك مما هو مشاهَد.
وليس المنار خاصًّا بأهل السنة حتى تنتقدوا كل المنكرات الفاشية فيهم وتتركوا
إخوانهم من أهل الشيعة، وإنما هو منار عام. فإن كنتم تجدون لهم وجهًا يسوغ ما
يفعلون فتفضلوا بإعلامنا به.
(ج) لقد صدق السائل في حكمه بأن المنار عام وقد جاءنا بعد ورود هذا
السؤال كتاب من بعض الفضلاء في (تبريز) يقول فيه: إن الأمة الإسلامية أحوج
إلى مثل هذا (المنار) منها إلى سائر المعارف وأنه ينبغي أن يكتب فيها ما يرشد أهل إيران والهند ولا يصح أن يكون خطابه مع أهل مصر خاصة.
ونقول: إن مباحث المنار كلها عامة إلا ما يتعلق ببعض المسائل الجزئية
وأحوال المسلمين فيها متشابهة فالعبرة فيها عامة. وما منعنا أن نتكلم في شؤون
البلاد الإسلامية البعيدة إلا قلة الوقوف على تفصيلها وتأثيرها، وزِد على ذلك قلة
القراء في البلاد الإيرانية على أن قليلهم لا يقال له قليل لأنهم من كبار العلماء
والأمراء أصحاب النفوذ الروحي والاجتماعي. أما ما يفعلونه في عاشوراء من
ضرب أنفسهم وجرحها بالسيوف فهو منكر تقشعرّ منه الجلود ويجعل المسلمين في
نظر الأجانب كالوحوش أو المجانين على أنه لا فائدة فيه مطلقًا. نعم، كان يتصور
أن يفيد لو كان لأولئك الذين قاتلوا آل البيت عليهم السلام عصبية موجودة وشوكة
نافذة وهم على ظلمهم وهضمهم؛ لأن مثل هذه الأعمال تحيي في النفوس شعور
العداوة والانتقام وتوطّنها على سفك دماء أولئك الأعداء، ولكن أولئك الظالمين قد
خضدت شوكتهم، وذهبت سلطتهم؛ بل مُحي اسمهم من لوح الوجود حتى لا نكاد
نرى من ينتسب إليهم. فكان ينبغي الاكتفاء في عاشوراء بمثل ما كنا ارتأيناه في
المولد النبوي والمولد الحسيني وهو أن يخطب الخطباء في سيرة صاحب المولد وما
كان عليه من الخلق العظيم وما وفقه الله تعالى له من العمل النافع مع توجيه النفوس
للتأسي والاقتداء به فإذا كنا لسنا في حاجة إلى الانتقام، وإذا كنا قد ذقنا فعرفنا جناية
سلّ الحسام، وإذا كنا مهددين في كل أرض لأن ديننا الإسلام وإذا كنا - كما نعلم -
على خطر لا ينجي منه إلا الاتحاد والالتئام، وإذا كان هذا الاتحاد متعذرًا من جهة
وحدة السلطة والأحكام - أفلا يجب علينا أن نلتمسه من جهة الوحدة الدينية في العقائد
المتفق عليها والأخلاق التي لا خلاف فيها. والأخوة التي دعانا القرآن إليها؟
أفلا ينبغي أن تتخذ هذه المواسم مذكرات بأفضل ما كان من سلفنا، وأنفع ما
كان من أئمتنا، ونجتهد في أن نجعل شعورنا واحدًا حتى يصدق علينا قول نبينا
صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه الشيخان عن النعمان
بن بشير وفي رواية عنه لمسلم: (المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى
كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) .
***
حبس النساء بالجوع والعري
(س3) أ. ع. بالأزهر: يذكر بعض الناس حديثًا أوله: (أجيعوا المرأة)
ويظهر أنه غير صحيح وإن استشهد به بعض مَن كتب في النساء فالمرجو بيان
ذلك.
(ج) جاء في آخر كتاب النكاح من كتاب (اللآلى المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة) للحافظ السيوطي ما نصه:
(ابن عدي) : حدثنا محمد بن داود بن دينار حدثنا أحمد بن يونس حدثنا
سعدان بن عبدة حدثنا عبيد الله بن عبد الله العتكي عن أنس مرفوعًا: (أجيعوا
النساء جوعًا غير مضر وأعروهن عريًا غير مبرح؛ لأنهن إذا سمنَّ واكتسين
فليس شئ أحب إليهن من الخروج وإن هن أصابهن طرف من العري والجوع فليس
شئ أحب إليهن من البيوت وليس شيء خيرًا لهن من البيوت) لا يصح. العتكي
عنده مناكير، قال ابن عدي: وسعدان مجهول وشيخنا محمد بن داود يكذب. وقال
الشوكانى في فوائده: لا أصل له وكذا (أعروا النساء يلزمن الحجال) لا أصل له،
وكذا: (استعينوا على النساء بالعري) .
أقول: ومثل هذه الأحاديث المفتراة حديث: (لا تسكنوهن الغرف ولا
تعلموهن الكتابة وعلموهن المغزلة وسورة النور) رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا
وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي كان يضع الحديث. وقد أخرجه الحاكم من
غير طريقه وقال: إنه صحيح الإسناد. وما أسرع الحاكم في الحكم بالتصحيح،
وتعقبه الحافظ ابن حجر في أطراقه فقال: إن في إسناد الحاكم عبد الوهاب بن
الضحاك وهو متروك.
***
الاقتداء بالمخالف وطهارة الكلب
(س4) السيد محمد طه في بربر: ما قولكم دام فضلكم في رجل شافعي
المذهب اقتدى بإمام مالكي توضأ بماء دون القلتين ولغ فيه كلب فهل هذه القدوة
صحيحة؟ وما حكم هذا الماء المنجس بفم الكلب؟
(ج) إن المسائل الاجتهادية يعذر فيها كل مجتهد بما يراه ولا يجوز أن
يكون اختلاف الرأي سببًا في التفريق بين المسلمين، فإن كنت تتصور أن الإمام
الشافعي يحرم الاقتداء بشيخه الإمام مالك فحرم أنت الاقتداء بمن يتبع مالكًا اتباعًا
للشافعي، ومعاذ الله أن يظن مسلم ذلك في الأئمة بعد قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، نعم، إن
للفقهاء في هذه المسألة قولين مصححين: أحدهما الذي قلنا، والثاني أن القدوة غير
صحيحة ورجحه بعض المتأخرين سامحهم الله تعالى والحق ما قلنا.
وأما الماء الذي ولغ فيه كلب فقد ذهب الشافعي إلى نجاسته لما ورد من الأمر
بغسل الإناء وتتريبه وغيره يقول بأن الأمر بالغسل سبع مرات مع التتريب ليس
لأجل النجاسة؛ إذ المقصود من غسل النجاسة إزالتها وليس للولوغ تأثير تتوقف
إزالته على التسبيع والتتريب، ومال بعضهم إلى أن الأمر تعبدي وذهب بعض
الصوفية إلى أن له سببًا معنويًّا وهو أن شراب سؤره يقسي القلب، ولا يبعد أن
يكون السبب هو التوقّي من داء الكلب القتّال. ومهما كان السبب فلا يجب على
المسلم أكثر مما ورد في الحديث؛ لأنه إذا لم يظهر السبب يكون الأمر تعبّديًّا لا
يقاس عليه وإن ظهر السبب وقفنا عنده لا نتعداه.
***
أجرة التعدية
(س5) ومنه: إذا كان الحاكم مستوليًا على البحر أو النهر وأذن للناس
بالعبور على المراكب ونحوها من ناحية إلى أخرى وجعل على أصحاب المراكب
ضريبة فهل يجوز للمسلم أن يتخذ له مركبًا يعبر الناس عليه والبهائم بالأجرة؟
(ج) : نعم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مأثرة للمنشاوي
أحمد باشا المنشاوي من أكبر المصريين ثروة ووجاهة وقد وجه في هذه
الأيام نفسه إلى التبرع وحبس الأراضي على معاهد العلم فأوقف على مدرسة محمد
علي الصناعية مائتي فدان، اشترط أن تسلم إليها بعد إنشائها بالفعل. وأوقف ثمانين
فدانًا على طلاب العلم في الجامع الأحمدي بطنطا وتبرع بالقسم السفلي من دار له
فسيحة في طنطا لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فيها. ويقال أنه عزم على
إنشاء مدرسة للبنات في القسم العلوي ويا حبّذا لو أنفذ هذا وعهد بإدارتها إلى
الجمعية الخيرية.
بل يتحدثون عنه بما هو أعظم من هذا يتحدثون عنه بأنه عازم على إنشاء
مدرسة كلية وهذا هو العمل العظيم الذي نحلم به في الليل ونتمناه في النهار ونرى
أن سعادة هذا القطر متوقفة عليه وأن الأمة الإسلامية بمجموعها لم تستعد في مصر
للقيام به تمام الاستعداد. فإذا وفق الله هذا المثري الكبير لإنفاذه فلنا أن نسميه محيي
مصر وعظيمها وصاحب الفضل الكبير عليها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
العقائد من الأمالي الدينية
(الدرس 39)
آية الله الكبرى (القرآن)
فصل [*]
(م109) : (هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها ولا مرية
ومن الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في
قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك، كقوله لليهود: {قُلْ إِن
كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً} (البقرة: 94) ، الآية قال أبو إسحاق
الزجَّاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة لأنه قال:
(فتمنوا الموت) وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدًا فلم يتمنه واحد منهم، وعن النبي صلى
الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يقوله رجل منهم إلا غص بريقه) يعني
يموت مكانه، فصرفهم الله عن تمنيه وجزعهم ليظهر صدق رسوله وصحة ما أوحي
إليه إذ لم يتمنه أحد منهم، وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ولكن الله يفعل ما
يريد، فظهرت بذلك معجزته، وبانت حجته.
قال أبو محمد الأصيلي: من أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ولا واحد
من يوم أمر الله بذلك نبيه يقدم عليه ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد
أن يمتحنه منهم.
وكذلك آية المباهلة من هذا المعني حيث وفد عليه أساقفة نجران وأَبَوا الإسلام
فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ 000} (آل عمران: 61)
الآية فامتنعوا منها ورضوا بأداء الجزية وذلك أن (العاقب) عظيمهم قال لهم: قد
علمتم أنه نبي وأنه ما لاعن قومًا نبي قط فبقي كبيرهم ولا صغيرهم، ومثله قوله:
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: 23) إلى قوله: {فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) ، فأخبرهم أنهم لا يفعلون كما كان [1] وهذه
الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ولكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها.
* * *
فصل
(م110) : ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه
والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره، وهي على المكذبين به
أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا - كما قال تعالى - ويودون
انقطاعه لكراهتهم له، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن صعب مستصعب
على من كره وهو الحكم) وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إيَّاه مع تلاوته
تُولِّيه انجذابًا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23) ،
وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ 000} (الحشر: 21) الآية، ويدل على
أن هذا شيء خص به أنه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره، كما روي عن
نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي فقيل له: مِمَّ بكيت؟ قال: للشجا والنظم،
وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة
وآمن به ومنهم من كفر. فحكي في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ 000} (الطور: 35) إلى قوله {000 المُسَيْطِرُونَ} (الطور: 37) كاد قلبي أن يطير للإسلام. وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإسلام
في قلبي. وعن عتبة بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من
خلاف قومه فتلى عليه (حم فصلت) إلى قوله: {000 صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ
عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت: 13) فأمسك عتبة بيده على فِي النبي صلى الله عليه وسلم
وناشده الرحم أن يكف. وفي رواية: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وعتبة
مُصغٍ مُلقٍ يديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد النبي صلى الله
عليه وسلم وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى
أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما
دريت ما أقول له.
وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة وهيبة كف بها
عن ذلك فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه وشرع فيه فمر بصبي يقرأ: {وَقِيلَ
يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (هود: 44)، فرجع فمحا ما عمل وقال: (أشهد أن هذا لا
يعارَض وما هو من كلام البشر) ، وكان من أفصح أهل وقته. وكان يحيى بن حكم
الغزال بليغ الأندلس في زمنه فحكي أنه رام شيئًا من هذا فنظر في سورة الإخلاص
ليحذو على مثالها وينسج بزعمه على منوالها (قال) : فاعترته خشية ورقّة حملته
على التوبة والإنابة.
* * *
فصل
(م111) : ومن وجوه إعجازه المعدود كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا
مع تكفل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:
9) وقال {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) ، الآية
وسائر معجزات الأنبياء قد انقضت بانقضاء أوقاتها فلم يبقَ إلا خبرها. والقرآن
العزيز الباهرة آياته الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم مدة خمس مائة عام
وخمس وثلاثين سنة لأول نزوله إلى وقتنا هذا حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة
والأعصار كلها طافحة بأهل البيان حملة علم اللسان وأئمة البلاغة وفرسان الكلام
وجهابذة البراعة، والملحد فيهم كثير، والمعادي للشرع عتيد. فما منهم من أتى
بشيء يؤثر في معارضته. ولا ألف كلمتين في مناقضته ولا قدر فيه على مطعن
صحيح. ولا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح بل المأثور عن كل من
رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه.
* * *
فصل
(م112) : وقد عد جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة في إعجازه وجوهًا
كثيرة منها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة
وترديده يوجب له محبة. لا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن
والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد ويعادَى إذا أعيد، وكتابنا يُستلذ به في الخلوات
ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث
أصحابها لحونًا وطرقًا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف
رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي
عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل ولا يشبع منه العلماء ولا تزيغ
به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا:
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ 000} (الجن: 1-2) .
(م 113) : ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد
صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها ولا القيام بها ولا يحيط بها أحد من
علماء الأمم. ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع
والتنبيه على طريق الحجج العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة بينة
سهلة الألفاظ موجزه المقاصد. رام المتحذلقون بعده أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا
عليها. كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ
مِثْلَهُم} (يس: 81)، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 79) ،
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) إلى ما حواه من علوم السير،
وأنباء الأمم، والمواعظ والحكم. وأخبار الدار الآخرة. ومحاسن الآداب والشيم.
قال الله جل اسمه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) ، {وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ 000} (النحل: 89) ، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} (الروم: 58) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله
أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا وسنة خالية ومثلاً مضروبًا، فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم،
ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرد. ولا تنقضي عجائبه، هو
الحق ليس بالهزل، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن
قسم به أقسط ومن عمل به أجر ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن
طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم
والنور المبين والصراط المستقيم وحبل الله المتين والشفاء النافع، عصمة لمن
تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي
عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد) ونحوه عن ابن مسعود وقال فيه: (ولا يختلف
ولا يتشانأ [2] فيه نبأ الأولين والآخرين) وفي الحديث قال الله تعالى لمحمد صلى
الله عليه وسلم: (إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا،
وقلوبًا غلفًا، فيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة وربيع القلوب) وعن كعب: عليكم
بالقرآن فإنه فهم العقول ونور الحكمة، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) وقال: {هَذَا بَيَانٌ
لِّلنَّاسِ وَهُدًى} (آل عمران: 138) الآية فجمع فيه مع وجازة ألفاظه وجوامع
كلمه أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضِّعف منه مرات.
(م114) : ومنها جمعه فيه بين الدليل ومدلوله وذلك أنه احتج بنظم القرآن
وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده،
فالتالي له يفهم موضع الحجة والتكليف معًا من كلام واحد وسورة منفردة.
(م115) : ومنها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ولم يكن في حيز
المنثور؛ لأن المنظوم أسهل على النفوس وأوعى للقلوب وأسمح في الآذان وأحلى
على الأفهام. فالناس إليه أميل والأهواء إليه أسرع.
(م116) : ومنها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه وتقريبه على متحفظيه. قال
الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلْذِكْرِ} (القمر: 17) وسائر الأمم لا يحفظ
كتبها الواحد منهم فكيف الجماعة على مرور السنين عليهم والقرآن ميسر حفظه
للغلمان في أقرب مدة [3] .
(م117) : ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضًا وحسن ائتلاف أنواعه والتئام
أقسامها. وحسن التخلص من قصة إلى أخرى والخروج من باب إلى غيره على
اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد
وإثبات نبوة وتوحيد وتفريد وترغيب وترهيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل
يتخلل فصوله. والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته. ولانت جزالته.
وقل رونقه وتقلقلت ألفاظه. فتأمل أول سورة (ص) وما جمع فيها من أخبار الكفار
وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم وما ذكر من تكذيبهم بمحمد صلى الله
عليه وسلم وتعجبهم مما أتى به، والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر، وما ظهر
من الحسد في كلامهم، وتعجيزهم وتوهينهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة. وتكذيب
الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم ووعيد هؤلاء مثل مصابهم، وتصبير النبي صلى الله
عليه وسلم على أذاهم. وتسليته بكل ما تقدم ذكره، ثم أخذ في ذكر داود وقصص
الأنبياء، كل هذا في أوجز كلام وأحسن نظام.
ومنه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة وهذا كله وكثير مما
ذكرنا، أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة لم نذكرها إذ أكثرها داخل في باب
بلاغته فلا نحب أن يعد فنًّا منفردًا في إعجازه إلا في باب تفصيل فنون البلاغة.
وكذلك كثير مما قدمنا ذكره عنه يعد في خواصه وفضائله لا إعجازه. وحقيقة
الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا فليعتمد عليها وما بعدها من خواص القرآن
وعجائبه التي لا تنقضي، والله ولي التوفيق. اهـ كلام القاضي عياض رحمه الله
تعالى.
_________
(*) تتمة كلام القاضي عياض في الشفا.
(1)
لعل الأصل: فكان كما قال.
(2)
المنار: تشانؤوا: تباغضوا، ولا يظهر هنا. والذي أعرفه في الرواية (يتشانّ) من تشان الجلد: إذا يبس وتشنج، أي أنه يبقى على جدته وبهائه ورونقه دائمًا.
(3)
الإعجاز في إلهام المسلمين حفظه، حتى حفظ به الدين، وهذا لم يُعهد في العالمين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
الشبهة الثانية على القرآن
زعمهم التعارض في كلامه
استشهد ذلك الكاتب على سخافته هذه بأمور نأتي عليها واحدة واحدة ونبين
الصواب كما فعلنا في الشبهة الأولى:
(الشاهد الأول) زعم أن وجود الآيات المتشابهات فيه ينافي كونه مبينًا.
وهذا دليل على أنه لم يفهم معنى المتشابهات ولا معنى البيان فهذا المسيح عليه
السلام يزعم المنتقد أنه إله وقد كان الكثير من كلامه مع تلاميذه وهم الراسخون في
دينه - غير مفهوم لهم فهل يرى هذا دليلاً على عجز مقام الألوهية عن البيان أم
يستدل بالشيء في مكان ويترك الاستدلال به في مكان؟ ولم ينقل عن الراسخين من
الصحابة شئ من الاشتباه في القرآن كما ينقل النصارى عن تلاميذ المسيح
(رضي الله عن الجميع) .
المتشابهات في القرآن آيات تشابهت وجوه دلالتها على معانيها القريبة
والبعيدة حتى ليتسنى لأصحاب الزيغ تأويلها بالباطل وصرفها إلى غير الصواب،
وهذا أمر لا مندوحة عنه؛ لأنه ضروري في ذاته وذلك أن أهم ما يجيء به
الوحي هو العلم بالله تعالى وبعالم الغيب لترتفع بذلك مدارك العقول وتعلو همم
النفوس، ومن المعلوم أن الناس وضعوا ألفاظ اللغات لما يعرفون من المعاني في
هذا العالم فيتعين على من يريد إخبارهم بشيء مما لا يعرفون أن يستعير بعض
ألفاظهم الموضوعة لما يعرفون وينصب القرائن لمنع الاشتباه، ولا شك أن أفهام
الناس تختلف في فهم القرائن وأن الذي يريد الفتنة يسهل عليه أن يتبع ما تشابه من
القول لأن له معنى يدل على ما وضع له في الأصل ومعنى آخر تناوله بالكناية أو
الاستعارة وغيرها من ضروب التجوز وهو المراد فيحمله على غير المراد ويضل
به الناس فإذا أطلق النبي على الله تعالى لفظ (الأب) في مقام بيان الرحمة والعناية
حمله أهل الزيغ على الأبوة الحقيقية وقالوا: إنه أبوه الذي ولده، ويصرفون من
يفتنونهم عن القرائن العقلية التي تحيل الأبوة الحقيقية على الله تعالى، والقرائن
القولية التي تطلق لفظ الأب على غير النبي كقول المسيح عليه السلام إن صح
النقل -: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) وكذلك يقال في لفظ الابن إذا أطلقه النبي
على نفسه يحمله أهل الزيغ على البنوة الحقيقية مع قيام القرائن العقلية واللفظية
على إحالته كسابقه، ومن ذلك إطلاقه على صانعي السلام فيما ينقلونه عن المسيح
عليه السلام.
وإذا أراد المعترض أن يعرف الفرق بين بيان القرآن وبيان الإنجيل وبين
أتباعهما، فلينظر إلى أثر المتشابهات في الأمتين، يجد أن قومه (النصارى) كلهم
قد اتبعوا ما تشابه مما حفظوا من كتابهم ابتغاءَ تأويله. وأن المسلمين قد اتبعوا
المحكم وردوا المتشابه إليه فجمعوا بين العقل والنقل إلا فريقًا منهم لا يقام له وزن
كالباطنية والمجسمة.
(الشاهد الثاني) زعم أن قوله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: 28)، وقوله: عز وجل في سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَن
لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) يناقضان قوله
جل شأنه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) قال: لأنه أثبت فيها الأمر بالفسق وهو أمر
بالفحشاء، وإهلاك أهل قرية لأن مترفيهم فسقوا فيها كما أمروا ظلم.
لا أقول إن صاحب هذا القول سيئ الفهم إلى هذه الدرجة ولكنني أرجح أنه
متعمد للتحريف فإن من له أدنى شمة من فهم اللغة والعقل لا يستجيز أن يعمد إلى
قول سيد في عبده: إنني أمرت عبدي فخرج عن طاعتي فعاقبته، فيفسره بأنه أمره
بالخروج عن طاعته فخرج فعاقبه على الامتثال. الفسوق في اللغة: الخروج عن
الشيء يقال: فسقت الرطبة عن قشرها وفسقت الفأرة عن جحرها، والفسوق عن
أمر الله هو الخروج عنه وعدم امتثاله. أما حذف معمول (أمرنا) فهو ما تقتضيه
البلاغة هنا؛ لأن المقام مقام بيان جزاء الفسوق عن أمر الله تعالى أيًّا كان، لا بيان
ضروب التكليفات الشرعية، وما يأمر الله تعالى به معروف بالإجمال. ولا يخطر
على بال عاقل أن يقدِّر أحد هذا المعمول بنقيض ما تقضي به الضرورة فيقول: إن
الله قال أنه أمر هؤلاء الناس ولم يقل بماذا أمرهم، ونقول نحن: إنه أمرهم
بالفسوق! ! هذا غير معقول في نفسه ثم إن العبارة تنافيه بذاتها فإن الفسوق يقتضي
أن يكون هناك شئ يفسق عنه، فإذا كان الأمر متعلقًا بالفسوق نفسه يكون أمرًا بلا
شيء، مثاله أن تقول لرجل: أمرتك بأن تخرج، ولم يكن في شيء يخرج عنه
حين أمرته لا حسي كبيت ولا معنوي كعمل.
فإن قيل: إن الأمر في الآية ينصرف إلى الفسوق عما هم فيه مما يختص بهم
في الجملة، نقول إن ما كانوا فيه هو الترف فيكون معنى قوله في الآية (ففسقوا
فيها) أنهم خرجوا من الترف ورجعوا إلى القصد وهذا نقيض ما تدل عليه الآية
بالبداهة وهو أن الاستمرار على الترف بعد الأمر بما جرت عادة الله تعالى أن ينزل
وحيه به من الأمر بالقصد والاعتدال في الأخلاق والأعمال هو الذي يكون سبب
التدمير، وينتهي بالآثم إلى شر مصير.
هذا الذي قلناه متبادر إذا تجلى لأي عامي في لغته يتيسر له أن يفهمه بلا
توقف، وليس هو من المتشابهات التي تبتغى بها الفتنة بالتأويل والتحريف. وللآيات
وراء هذا معانٍ عالية، وفيها معارف سامية، وهي أرفع من أن يدركها ذلك
الطرف الحسير، أو يتطاول إليها ذلك الفهم القصير، ذلك أن آية (الأنعام) وآية
(الإسراء) تهديان إلى أنفع سنن الله في نظام نوع الإنسان ونواميس الاجتماع
البشري. تدل آية (الأنعام) على أن الأمم لا تهلك بمجرد التلبس بظلم تكون
عليه مادام أهلها غافلين عما يجب عليهم الأخذ به من ضده، لا ينذرهم به منذر ولا يدعوهم إلى الحق داعٍ. فإذا جاء النذير وقذف بحقه على باطلهم وبعدله على
ظلمهم يدمغه؛ فإذا هو زاهق وإذا بالأمة في عداد الهالكين وفي آية أخرى:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ؛ والمراد
بالظلم: الشرك، كما روي من حديث ابن مسعود مرفوعًا عن أحمد والبخاري
ومسلم والترمذي في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام: 82) يعني أن الأمم لا تهلك وإن كانت مشركة
بالله تعالى مادامت مُصلحة في أعمالها وأحكامها. ويطابق هذا قوله تعالى:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً 0000} (الإسراء: 16) الآية، فهذه الآيات
تعلمنا أن سعادة الأمم أو شقاءها في هذه الحياة إنما هو نتيجة سيرتها في أعمالها.
لا أن السعادة هبة إلهية على ما لا يُعلم سره والشقاوة نقمة إلهية على ما جُهل أمره،
وتعلمنا أيضًا أن الباطل إنما يطول أمده وتُبطئ نتيجته في الإهلاك، إذا لم يكن هنالك
حق يصادمه. ومن هنا أخذ الأستاذ الإمام كلمته الحكيمة: إنما بقاء الباطل في غفلة
الحق عنه، ومن هنا نفهم السر في استيلاء الإفرنج على الأمم الشرقية وهو أنهم
مصلحون في أعمالهم، وقد أوضحنا هذه المسائل من قبل في مقالات متعددة. وحسبنا
هذا في الرد على شبهة المحرفين.
(الشاهد الثالث) زعم أن قوله تعالى في فرعون {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ
جَمِيعاً} (الإسراء: 103) يناقض قوله عز وجل فيه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ، وقد شنع هنا على المسلمين أنهم أوَّلوا
الآية وهو يزعم أنه نجا ببدنه وروحه وإن كانت الآية ناطقة بأن بدنه هو الذي
ينجو. ومحل الشبهة عنده في لفظ (ننجيك) فإن ظهور الجثة بعد الموت بالغرق لا
يسمى تنجية، وفاته أن هذا التعبير للتهكم على حد {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: 21) ومن تتبع ضروب التجوز في كلام البلغاء وحاول حملها على
الحقيقة - وهي لا تصح عليها - يمكنه أن يموه بأن أكثر الكلام البليغ كذب، على أن
الذي ينجو من الغرق يطلق عليه اسم الغريق فلو فرضنا أن الله تعالى نجى فرعون من
الغرق الذي ألمَّ به وبقومه لما كان قوله (أغرقناه) مناقضًا لقوله (ننجيك) فقد
يغرق إنسان إنسانًا ويريه خطر الهلاك ثم ينتشله وينجيه، ولكن هذا ليس مرادًا هنا.
الحكمة في ظهور بدن فرعون موسى بعد الغرق ظاهرة فإنه استعبد الناس
وادعى الألوهية بما موّه على الجاهلين بسحره. ولو لم يظهر بدنه لادعى
المغرورون فيه ما يدعي عبَدَة الحاكم العُبَيدي إلى اليوم - من أنه قد عرج إلى عالم
أعلى. وارتقى إلى مقام أسمى. فهذا هو معنى قوله تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ولو نجا بروحه وبدنه لما كان في ذلك
آية على انتقام الله منه لكفره بنبيه وإيذائه لقومه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الثالثة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل
(النوع الثالث: انفلاق البحر وجفافه والمشي على الماء)
قال السبكي: وكل ذلك كثير وقد اتفق مثله لشيخ الإسلام وسيد المتأخرين تقي
الدين بن دقيق العيد، وأقول: يا ليت لنا من هذا الكثير الذي يدعيه واقعة واحدة
منقولة بالتواتر الصحيح المستوفي الشروط التي يذكرها السبكي في جمع الجوامع
الذي ألفه لكد الأفهام، لا لتُراعَى أحكامه في مثل هذا المقام. وفي خاتمة الفتاوى لابن
حجر الهيتمي قال في الرسالة عن بعضهم: كنا في مركب فمات رجل منا فأخذنا في
جهازه فلما أردنا أن نلقيه في البحر جف، فحفرنا له قبرًا ودفناه فارتفع الماء
والمركب وسرنا.
وكل ما في المباحث حكايات عن مثل هذا البعض المجهول وأصحاب المراكب
المجهولين. ولو حكَّمنا فيها أصول المسلمين لعددناها من الموضوعات أو الواهيات،
وإن رويت على أنها من المعجزات لانقطاع أسانيدها، وجهالة رواتها، وأضف إلى
ذلك هنا شبهة الهوى ومخالفة شروطهم في الكرامة، فقد علمت ما قاله السبكي من
اشتراط الضرورة والخفاء وأين هما مما نحن فيه؟ نعم، إن قبول هذه الحكايات
يليق بأهل دين لا سند لهم في أصوله ولا في فروعه، وإنما هي الثقة العمياء بأن
روح القدس حل في رؤسائهم وقدّيسيهم فعملوا العجائب، ووجب قبول كل ما يؤثر
عنهم وإن تناقضت قضاياه، واستحال مغزاه.
إذا ثبت انفلاق البحر ثبوتًا قطعيًّا فلا شك أنه يكون من الخوارق التي يتعذر
تأويلها وتعليلها. وأما المشي على الماء فيحتمل التلبيس والتأويل بحسب الأشخاص
والمواقع والأزمنة، ففي بعض البلاد يجمد ماء النهر لشدة البرد مدة ثم يسيل، ويقال
أن الإفرنج اخترعوا أحذية يمشون بها على الماء. بل الذي يعول عليه حقيقة في
تعليل المشي على الماء إذا فرضنا أنه ثبت ثبوتًا قطعيًّا لا يحتمل التأويل هو
غلبة الروحانية التي يخف معها الجسد خفة عجيبة على نحو ما يحكونه عن
المشتغلين باستحضار الأرواح في أوربا، فإن لهم في ذلك حكايات تقرب من بعض
حكايات الصوفية، على أن هؤلاء إنما يوجهون نفوسهم إلى الأرواح يكلمونها
ويرونها ولم يعنوا بأن يكونوا هم روحانيين كما يفعل الصوفية في رياضاتهم. نعم،
إن من الناس من لا يصدق ما ينقل عن هؤلاء وعن أولئك ومن الناس من يصدق لأن
تشابه الحوادث وتصور العلة العامة لها يقربها من العقل.
وما نبغي إثبات ما ينقل ولا نفيه وإنما نبغي إقناع من يصدق لثقته بالناقلين أو
من يشاهد شيئًا من أعمال الحاضرين بأن ذلك غير خارج عن سنن الله تعالى في
الخلق وأنه ليس من الخوارق الحقيقية وإنما هو من الخوارق الإضافية أي التي تعد
خوارق بالإضافة إلى من لا يعرف طريقها كالأعمال الصناعية التي لا يعرفها إلا
بعض الناس. أرأيت إذا تعلم بعض الناس التخاطب (بتلغراف ماركوني) الذي
يكون التخاطب به بدون واسطة الأسلاك وذهبوا إلى بلد أو مملكة وجعلوا يتخاطبون
به على البعد الشاسع، ألا يعد ذلك الناس منهم أكبر الخوارق؟
وقد ذكروا أن الواسطة الذي يحضر الروح يخف وزنه مدة حضور الروح إلى
نصف ما كان ومن كان بهذه الخفة يمشي على الماء بسهولة، وسيأتي أن بعضهم
كان يطير في الهواء، ونقل مثل هذا أيضًا عن بعض الفلاسفة وسنوسع القول في
الأمور الروحية في موضع آخر.
(النوع الرابع: انقلاب الأعيان)
قال السبكي: حكي أن الشيخ عيسي الهتار اليمني أرسل إليه شخص مستهزئ
إناءين ممتلئين خمرًا فصب أحدهما في الآخر وقال (بسم الله كلوا) فإذا هو سمن لم
يُر مثل لونه وريحه (قال) وقد أكثروا في ذكر نظير هذه الحكايات.
أقول: لا يوجد نوع من الأنواع يأتي فيه التلبيس والشعوذة مثل هذا النوع ولذلك
ترى أكثر أعمال المشعوذين منه، وهو على ضربين: أحدهما الخفة والمهارة في
إخفاء شيء وإحضار غيره. وثانيهما: الاستعانة بالأعمال الكيماوية. فمن غرائبهم
في الضرب الأول أن أحدهم يأخذ ماءً من البحر في كوب ويعطيه آخر فيشربه، فإذا
هو شراب سكري. والحيلة فيه أن يكون تحت إبط المشعوذ أو الدجال (مدعي
الولاية) إناء من الجلد أو الكاوتشتك له أنبوبة دقيقة تصل إلى يده فإذا غمس الكوب
في البحر يوهم الرائي أنه ملأه ماءً - وما ملأه - ويفرغ فيه الشراب من الأنبوبة
بلطف، وقد أخبرني بعض الناس أن رجلاً من المعتقدين تناول كوبًا من زيت
البترول وسقاه فإذا هو ماء فيه سخونة وما جاءت السخونة إلا من حرارة إبطه حيث
كان الماء.
ومن الضرب الثاني أن بعض الدجاجلة الفسّاق الذين يخدعون الناس بانتحال
الكرامات أخذ أمام بعض العامة كوبًا زجاجيًّا فيه شيء من الخمر فوضعه على فيه،
فإذا هو في أعينهم لبن أبيض. والحيلة فيه أن الخمر التي كانت فيه هي من النوع
الذي يسمونه (عرقي الزبيب) ولونها كالماء حتى إذا مزجت بالماء ابيضت وصار
لونها كلون اللبن الممزوج وقد كان الماء في فم الدجال فمجه في الكأس بلطف. ولو
أردنا أن نملأ المنار بمثل هذه الوقائع التي تستغرب قبل كشف الستار عن وجه
التلبيس فيها لفعلنا، فنقل أمثالها إذا صح سنده فهناك ما يمنع من التصديق بمتنه
لاحتمال دخول الغش والتلبيس فيه على الناقلين، وأنت ترى أن هذا النوع كان من
أبواب الفسق والدجل والشعوذة والحيل.
(النوع الخامس: انزواء الأرض أو طيّها)
قال السبكي: حكوا أن بعض الأولياء كان في جامع طرسوس فاشتاق إلى
زيارة الحرم فأدخل رأسه في جيبه ثم أخرجه وهو في الحرم (قال) : والقدر
المشترك من الحكايات في هذا النوع بالغ مبلغ التواتر ولا ينكره إلا مباهت. أقول:
إن السبكي تحمس هنا فرجع إلى كتابه جمع الجوامع وتقلد حججه في الاستدلال
فزعم أن الحكايات في انزواء الأرض متواترة تواترًا معنويًّا، أي أن كثرتها تدل على
أن لها أصلاً وإن كانت كل حكاية منها لم تثبت بخصوصها وستعلم ما فيه، واعلم
أنهم لا يقصدون بانزواء الأرض وطيها أن أطرافها تجتمع وتطوى كالثوب، وإنما
يعنون بذلك قطع المسافة في زمن قصير وهو مجاز صحيح واستعمله الشعراء
وغيرهم قال:
وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها
…
أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها
وما ذكره السبكي من حكاية ولي جامع طرسوس ليس من هذا النوع وإنما تلك
زيارة خيالية أو روحانية لأنه لم يكن فيها مسير وإنما قبع ذلك الولي في مكانه
كالقنفذ فرأى نفسه في الحرم كما يرى ذلك في الحلم، فإذا كان مثل صاحب جمع
الجوامع قد اشتبه عليه الأمر فعدَّ في هذا النوع ما ليس منه فكيف تثق بسائر الناقلين
لهذه الحكايات وهم في العادة الغالبة من جهلة العوام؟ ! وإذا لم تكن الوقائع
صحيحة بالمرة فكيف يتألف من غير الصحيح دليل صحيح فنقول: إن في مجموع
الحكايات تواترًا معنويًّا؟ !
ثم إن في أنباء قطع المسافات البعيدة في الزمن القريب مواضع للتلبيس
والإيهام؛ فإن الحكايات في ذلك تؤْثر عن السائحين المتجردين، وأكثر هؤلاء خفاف
سراع أهون سيرهم الوجيف، فإذا مر أحدهم بمكان ثم رؤي في مكان آخر لا يكفي
الزمن لبلوغه إياه في السير المعتاد يتناقل الناس هذا ويعدونه كرامة ويبالغون فيه
ويغلون وينتشر الخبر لغرام الناس بنقل مثله. وعلى هذا النحو تكثر هذه الأخبار
حتى يدعي مثل التاج السبكي أنها كرامة متواترة تواترًا معنويًّا. ويدعي من لا يفهم
مثله معنى التواتر أنها متواترة تواترًا حقيقيًّا، وينسى هؤلاء أنه يوجد في البوادي
من يسابق عتاق الخيل وعشار النياق فيسبقها. والناس يعلمون أن هذا النوع من
المعاول التي هدمت الدين، فإن كثيرًا من الدجالين الذين يدعون الولاية يتركون
الصلاة ويزعمون أنهم لا يصلون إلا في حرم مكة فيصدقهم الجاهلون المخدوعون.
هذه إشارة إلى طريق التأويل والتلبيس التي تقل معها الثقة بالنقل. وأما
التعليل بعد الاختبار الصحيح والثقة التامة بأن إنسانًا انتقل بجسمه من قطر إلى آخر
في زمن قصير لا يكفي لبلوغه إياه وإن كان أسرع من العتاق السبق، والجياد القرّح
فهو أن يقال: إن ذلك المنتقل من الروحانيين الذين تحمل أرواحهم أبدانهم فتمر بها مر
النسيم، وذلك داخل في السنن الروحية. وربما تكون في يوم من الأيام مشهورة جلية
فيعذر من كان في غير هذه الأوقات ينظمها في سمط الخوارق والكرامات ويظهر
فضل الدين بأن الروح والنفس لها وجود مستقل وسنن غير سنن الحس.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإنجيل الصحيح
(النبذة الثالثة من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي)
على هذا المنوال جرت تلك الديانات الصادرة عن الروح القدس وكل واحدة
منها تؤكد لنا أن ختام الوحي ونسخ الديانات السابقة بطريقة حاسمة قاطعة مما
تقضي بهما كتابة الرسول بولس أو قرارات بعض المجامع أو أوامر الباباوات أو
الإلهام الشخصي لبعض الناس، وكلها تحاول بلا طائل الاستناد في آخر الأمر على
الوحي الهابط على آباء الكنيسة أو على (الكاتشزم) الذي ألفه لوثير أو فيلارتيوس
وتأبى أن تعنون نِحلتها باسم أولئك المشيدين لدعائمها وتعاند في القول بأن المسيح
هو الذي أوحى إليهم بهذه التعاليم وتصر على ذلك إصرارًا لو صدقناها فيه لذهبنا
معها إلى أن المسيح نفسه هو الذي أوحي إلى أصحابها بأنه افتدى بني الإنسان بعد
سقوطهم بسبب خطيئة آدم وأن الله يتألف من ثلاثة أشخاص وأن الروح القدس هبط
على الحواريين وأن المسح باليد (في تناول الأسرار) نقله إلى القسيسين وأن
تقديس الأرواح سبع مرات مما لابد منه للحياة المسيحية وغير ذلك. وهم يحملوننا
على الظن بأن هذه الأمور كلها من تعاليم المسيح، على أننا إذا بحثنا في تعاليم
المسيح لا نجد فيها أقل إشارة إليها ولا إلى بعضها. لا جرم أن الكنائس التي تقول
بهذه الأشياء ينبغي لها أن تجهر بأنها من تعاليم الروح القدس وليست من تعليم
المسيح، فإنما المسيحيون هم الذين يعتبرون الوحي الأخير الذي جاء به المسيح كما
هو وارد في الأناجيل طبقًا لما قاله المسيح: لن يكون لكم أستاذ غيري [1] .
ربما ظن بعض الناس أن هذه المسألة ليست بذات بال وأنها من الأمور التي
لا تستحق البحث فيها ولكن مما لا مراء فيه أن القوم قد أهملوا النظر إليها بعين
الاعتبار إلى يومنا هذا، وبدلاً من بذل نهاية المجهود في تنقية تعليم المسيح من
شوائب علاقته الصناعية بالعهد القديم التي لا ترى ما يزكيها ويؤيدها، وتصفيته
من تلك الإضافات التي ألصقتها به الأهواء باسم الروح القدس - لا يزال القوم حتى
يومنا هذا يوجهون همتهم كلها إلى تقوية هذه الروابط التي لا أصل لها. ومن
غرائب المشاهدات أننا نرى الاتفاق سائدًا في هذه المسألة بين الخصمين المتعاندين
وأعني بهما المتحزبين للكنائس وأرباب الأفكار الحرة من أصحاب التاريخ.
فأما أحزاب الكنائس الذين يقولون بأن المسيح هو ثاني شخص في الثالوث
فلا يريدون أن يفهموا تعليمه إلا تطبيقه على الوحي الموضوع على لسان ثالث
الثلاثة (أي الروح القدس الذي نطق بلسان الرؤساء) كما هو وارد بالعهد القديم
وفي أوامر المجامع وقرارات آباء الكنيسة. وتراهم ينادون ويبشرون بأمور هي
منتهى الحماقة ويؤكدون مع ذلك بأنها من دين المسيح.
وأما الآخرون - أي أولئك الذين يمتنعون من اعتبار المسيح إلهًا - فهم أيضًا
يدركون عقيدته، لا كما أتى هو نفسه بها ولكن على الوجه الذي صوّرها فيه بولس
وغيره من المفسرين، فأولئك العلماء مع اعتبارهم المسيح فردًا من أفراد البشر لا إلهًا
يحرمونه من الحق الطبيعي الذي لكل واحد من الناس، ألا وهو أن يكون مسؤولاً عن
أقواله فقط وغير مؤاخَذ بما يقوله عنه غيره.
وحينما حاولوا إيضاح تعليم المسيح نسبوا إليه أفكارًا لم تخطر قط على باله
وهو في قيد الحياة. فإن القائمين بهذا المذهب وفي مقدمتهم (رنان) المحبوب عند
الجمهور لم يروا وجهًا لإجهاد أنفسهم في التمييز بين ما قال به المسيح وبين ما
نسبه إليه مفسرو كلامه زورًا وبهتانًا. ولعدم زيادتهم على الكنائس في الاهتمام
بالتعمق في فهم تعليم المسيح الصحيح انساقوا إلى البحث في حوادث حياته وفي
الحوادث التاريخية التي وقعت في عصره لمعرفة أسباب نفوذه وشيوع أفكاره. على
أن هذا المبحث هو كما يظهر آخر خطأ يجوز للمؤرخين ارتكابه فإن المسألة التي كان
عليهم السعي في حلها هي ما يأتي:
منذ ثماني عشرة مائة من السنين كان رجل فقير يعيش في بعض الجهات
وكان يصدر عنه بعض الأقوال، فاضطهده الناس وشنقوه ثم نسيه العالم كله كما
نسي آلافًا من الحوادث المماثلة لأمره، فلم يذكره أحد من العالمين ولكن يظهر أن
بعضهم بقيت في ذاكرته كلمات هذا الإنسان، فأعادها على مسمع من ثانٍ فثالت،
ومازالت آخذة في الشيوع والانتشار، حتى أن ألوف الألوف من الناس سواء
فيهم العقلاء والمجانين والعالمون والجاهلون اعتقدوا اعتقادًا مطلقًا بأنه هو الله
وحده! [2] وهذا من غرائب مظاهر الكون فكيف يكون تفسير ذلك؟ !
قالت الكنائس: إن هذا الرجل - أي المسيح - هو الله حقيقة. والأمر واضح
في هذه الحال لا يحتاج إلى بيان؛ ولكنه إذا لم يكن هذا الإنسان هو الله فكيف نفسر
اعتبار الناس له إلهًا دون سواه؟ !
أما علماء المذاهب التاريخية فقد عنوا عناية بالغة بجمع الخصائص المتعلقة
بحياة ذلك الإنسان، وهم في الحقيقة لم يجمعوا منها ولا واحدة سوى ما وجدوه في
الأناجيل وفي تاريخ (فلافيوس يوسيفوس) ولم يتفطنوا إلى أنهم لو توصلوا إلى
الوقوف على هذه الخصائص كلها، ووفقوا إلى إعادة حياة المسيح تامة بأصغر
تفاصيلها بحيث عرفوا ما أكله في يوم كذا ويوم كذا وعرفوا في أي منزل أمضى
تلك الليلة - لكان هذا السؤال الجوهري يبقى قائمًا ولا جواب عليه وهو: لماذا كان
لعيسى لا لغيره هذا التأثير في الناس أجمعين؟ ! [3] . الجواب المطلوب لا يأتي
من العلم بالطريقة التي ولد بها عيسى أو كانت تربيته على مقتضاها أو غير ذلك
ولا يستنبط من العلم بالحوادث التي وقعت في رومية في ذلك العصر وكانت داعية
الأمم إلى الاعتقاد بالخرافات والأضاليل ونحو ذلك. وإنما يُنال الجواب بالبحث في
أمر واحد وهو معرفة التعليم الذي جاء به المسيح علمًا مؤكدًا يقينيًّا ومعرفة كُنه هذا
التعليم الذي حمل كثيرًا من الناس على جعل الرجل فوق سائر الناس واعتباره إلهًا
منذ ثماني عشرة مائة من الأعوام.
الباحث الذي يريد حل هذه المعضلة يجب عليه قبل كل شيء أن يجتهد في
إدراك تعليم المسيح وأعني به تعليمه الصحيح دون تلك التفاسير الغامضة الشاذة
التي ذهب إليها بعض الناس، وهو أمر أهمله الباحثون إلى الآن، فإن علماء التاريخ
من أهل النصرانية فرحون بما ذهبوا إليه من أن المسيح ليس هو الله ولذلك تراهم
لا ينفكُّون يسردون الدلائل على أنه لم يكن فيه شيء من الألوهية ولكن لا يتفكرون
في أمر بسيط لا يصح أن يغيب عن الأذهان وهو أن الاحتجاج على كون المسيح
واحدًا من الناس مجردًا من كل صفات الألوهية يزيد المسألة غموضًا وبعدًا عن
الأفهام. [4] مثل ذلك صاحبنا رنان أو الموسيو (هافيت) فقد لاحظ بسذاجة لطيفة أن
المسيح لم يكن فيه قط شيء (مسيحي) ! أما الموسيو سوري فقد أظهر ما ليس
فوقه شئ من الابتهاج والارتياح حينما ذهب إلى أن المسيح (كان رجلاً بغير تثقيف
وأنه كان من ذوي العقول الساذجة) !
ليس الأمر الجوهري هو إثبات عدم ألوهية المسيح ولا أن تعليمه ليس إلهيًّا
ولا إيراد الدلائل على أن المسيح لم يكن كاثوليكيًّا وإنما هو فهم عناصر هذا التعليم
الذي ظهر للناس في أسنى المظاهر وأجلاها وأعلاها وأغلاها حتى قالوا ولا يزالون
يقولون بأن الرجل الذي قال به إنما هو الله. هذا هو الأمر الذي حاولت البحث فيه
والذي نجحت في الوصول إليه والوقوف عليه وذلك بالنسبة إلى شخصي على الأقل،
وهو ما أريد إبلاغه إلى إخواني.
يخيل إليَّ أن القارئ لهذا الكتاب إنما هو فرد من ذلك المجتمع العظيم الذي
يتألف منه فريق المتمدنين الذين تهذبوا ودرجوا على الاعتقاد بقول إحدى الكنائس
ومنعوا أنفسهم على الدوام من الجهر بالانفصال عنها مع ما ثبت لهم من مناقضة
تلك العقائد لما أرشدتهم إليه عقولهم. وأوحت به ضمائرهم. سواء كان ذلك مبنيًّا
على صبابة باقية من الحب والاحترام لذلك التعليم المسيحي أو لاعتبارهم النصرانية
كلها خرافة، فهم لا يرتبطون بها إلا في الظاهر. إذا كانت هذه حال القارئ فإني
أرجوه أن يعمل بالمثل السائر: (ألقِ بالخلعة في النار إذ صارت مباءة للقُمَّل) !
ولكنني أرجوه من باب أولى أن يتفكر أن الذي نفر منه طبعه وسمعه وظهر له بمظهر
الخرافات ليس هو التعليم الصادر عن المسيح، وأنه من الظلم مؤاخذة المسيح
بالحماقات التي علقها الناس بعده على تعليمه. وغرضي الوحيد إنما هو تحديد تعليم
المسيح في شكله الخاص به كما وصل إلينا أي بواسطة الأقوال والأفعال التي بلغنا
بطريق التواتر أنها أقوال المسيح وأفعاله [5] ومن كان من القراء من الصنف الذي
سبق لي وصفه فإن كتابي يريه أن النصرانية ليست مزيجًا من الأمور العالية
والأمور المبتذلة وأنها ليست من الخرافات بل إنها عبارة عن التعليم بما وراء
الطبيعة الذي توصلت إليه الإنسانية إلى الآن بطريقة أخلاقية تهذيبية وطيدة الأركان
ثابتة البنيان صافية من الشوائب مكملة من كل جانب، وأنها التعليم الذي ترتكز
عليه بغير إدراك جميع مظاهر الإنسانية العالية في السياسة والعلم والشعر والفلسفة.
أما إذا كان القارئ من تلك الفرقة القليلة التي لا تزال في كل يوم آخذة في
الاضمحلال وأعني بها أولئك المتمدنين الذين ما لبثوا مرتبطين بتعاليم الكنيسة
ويقبلون الدين لراحتهم الداخلية لا لغرض خارجي فإنني أرجو هذا القارئ أن يسائل
نفسه عن أعز الأمرين لديه: أراحته أم الحقيقة؟ فإن اختار الراحة سألته أن يقفل
هذا الكتاب، وأما إذا جنح إلى الحقيقة فإنني أسأله أن يعتبر تعليم المسيح المبسوط في
هذا الكتاب يناقض كل ما علَّمه إياه الناس وأنه بإزاء هذا التعليم في موقف المسلم
بإزاء النصرانية، فليس عليه بعد ذلك أن تكون العقيدة المشروحة في هذا الكتاب
توافق عقيدته أو تخالفها بل أن يعلم أيهما أكثر انطباقًا على عقله وقلبه، أعقيدة
كنيسته أم عقيدة المسيح الممحضة؟ وعليه بعد ذلك أن يختار لنفسه أحد الأمرين:
الرضى بقبول العقيدة الجديدة أو البقاء على عقيدة كنيسته.
وأما إذا كان القارئ من أولئك الذين يذهبون إلى احترام عقيدة إحدى الكنائس
والتسليم بها في الظاهر لا لصحة هذه العقيدة ولكن بالنظر إلى اعتبار المنافع التي
يجدونها فيها، فهذا القارئ يجب عليه أن يقول لنفسه بأنه ليس من المتهِمين (بكسر
الهاء) بل من المتهَمين (بفتحها) مهما كان عدد الذين يماثلونه في الرأي ومهما
كانت سطوتهم ومهما كانت تيجان الملوك معهم، وشهادات الأكابر منهم مصدِّقة لما
بين أيديهم، وليس يكون ذلك القارئ من الذي تقع عليهم التهمة أمامي بل أمام
المسيح، وينبغي لهذا القارئ أن يقول لنفسه إنه لن يطالَب (بفتح اللام) بأي
برهان مما يمكنه الإتيان به من الدلائل، فقد جاء بها السابقون عليه بزمان طويل وأنه
لو أتى بألف حجة على براءته لما كان في موقف يضطره إلى تزكية نفسه.
نعم، إنه يبقى عليه أن يزكي نفسه أولاً من وصمة الكفر والتدنيس اللذين
ارتكبهما بجعل عقيدة المسيح الذي هو الله (تعالى الله عن هذا الزعم) كعقيدة
اسدراس والمجامع وثاوفليكتس وإفراغه كل قواه العقلية لتبديل كلمات الله حتى
يجعلها موافقة لكلمات البشر. ثم يجب عليه أن يزكي نفسه ثانيًا من التجديف الذي
ارتكبه بحمل كل ما في قلبه من الخرافات على (حساب) المسيح الذي هو الله
(سبحان الله) ثم يبقى عليه في آخر الأمر أن يزكي نفسه أيضًا من الخيانة التي
ارتكبها بإخفائه عن الناس دين الله الذي جاء إلى الدنيا ليأتي لنا بالخلاص والسلام
وبدسّه دين الروح القدس بدل هذا الدين وحرمانه ألوف الألوف من الناس من
الخلاص الذي جاء به المسيح لأجل الناس وبإيجاده الخلاف في الشيع والمقالات
وبحكم بعضها على بعض وغير ذلك من ألوف الشناعات التي يسترها بالاسم
المقدس اسم المسيح.
لذلك أقول ليس للقراء الذين من هذا الفريق إلا أن يختاروا أحد أمرين: إما أن
يتوبوا بخضوع وخنوع توبة نصوحًا ويرجعوا عن أكاذيبهم. وإما أن يضطهدوا ذلك
الذي جاء ليلقي عليهم التهمة بما كسبوه من السيئات التي لا يزالون سببًا في وقوعها،
إذا لم يعدلوا عن أكاذيبهم فليس لهم سوى أمر واحد هو اضطهادي أنا، وهذا هو ما
أنتظره بنشر كتابي هذا. وإنني لأنتظره بفرح عظيم لا يخالجه سوى مكنون
الخوف من ضعفي لأنني فرد من بني الإنسان. اهـ
(المنار)
لقد أظهرت لنا هذه المقدمة قوة كاتبها في أعلى درجها كما أظهرت لنا ضعفه
في أسفل دركه. أما قوته فهي أنه أدرك بذهنه الوقاد وعقله المطلق من أسر التقليد
والاستعباد أن إنجيل المسيح لم ينقل نقلاً صحيحًا ولم يحفظ كله وأن الأهواء
تلاعبت أيضًا بتفسير ما نقل فأفسدت ما بقي فيه من ذماء الإصلاح والحق وأن أشد
الناس عبثًا في تعليم المسيح بولس زعيم النصرانية.. إلخ ما قرأت في المقدمة.
وأما ضعفه فهو أنه نظر في سن الكبر وطور الزهد واليأس إلى تلك المواعظ
التي قارع بها المسيح مترفي اليهود ومتنطِّعيهم وتأمل في غلو النصارى في المسيح
وادعاء الألوهية له بإغراء بولس ومن دخل فيه من الوثنيين فرأى في المواعظ قوة
إلهية وهي قوة الوحي ورأى الناس فُتنوا بالمسيح فاستدل بذلك على أنه هو الله! !
(تعالى الله عن ذلك) .
هذا، وقد وقع في س8، ص229 لفظ:(الفارسيانيين) وصوابه
(الفِرِّيسيين) وفي س21، ص229 جملة:(لا يلزم - كما يظهر - على تعليق) ،
وصوابها: (لا يلزمه - كما يظهر - تعليق) .
_________
(1)
المنار: الخطاب خاص بتلاميذه الذين تنقل الكنائس عنهم أن تلقوا تعليمًا آخر من الروح القدس، ولهم أن يردوا على الفيلسوف بأن الروح القدس ليس غيره؛ لأنه على اصطلاحهم عينه؛ لأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة عين الآخرين.
(2)
المنار: إن الناس لم يقولوا هو الله لأجل الكلمات التي ينقلونها عنه؛ فقد نقل أحسن منها عن سليمان ولم يقولوا إنه إله ومنهم من لم يقل إنه نبي وإنما ذلك بولس وأمثاله قالوا هذا القول وادعوا أن روح القدس يملي عليهم والخوارق تؤيدهم فصدقهم الناس لاستحواذ الوثنية عليهم وشاع ذلك والفيلسوف ينكر عليهم إملاء روح القدس ويجحد خوارقهم ولكن إعجابه بكلمات المسيح عليه السلام أنسته أكبر سيئاتهم؛ فوقع في الأوهام! .
(3)
المنار: إنه لم يكن للمسيح تأثير في الناس أجمعين كما زعم، وإن المعتقدين ببوذا أكثر من المعتقدين بالمسيح على الوجه المعروف عند النصارى.
(4)
قضى الله أن تكون السخافة حليفة لكل مَن يتكلم في الدين من غير طريق الإسلام وإن ارتقى بعلمه إلى درجة الفلاسفة العظام، فهذه المسألة محلولة بمثل قوله تعالى:[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ](الكهف: 110) ، فالمسيح بشر كسائر الناس إلا أنه امتاز بأن الله تعالى أوحى إليه والوحي لا يرتقي بالموحَى إليه إلى مقام الألوهية ولا يعطيه شعبة منها على أنها ليست متشعبة بل هي الوحدة الحقيقية.
(5)
المنار: إن أقوال الفيلسوف السابقة في هذه المقدمة تنفي هذا التواتر؛ فإنه قال: إن أقوال المسيح لم تنقل في عهده برمتها بالكتابة ولا بالحفظ، وإنما كان يحفظ بعضها الواحد فيلقيه إلى ثانٍ ثم يشتهر بعد زمن، وإنما يتحقق التواتر بنقل العدد الكثير عن المسيح نفسه ونقل مثلهم عنهم طبقة بعد طبقة بلا انقطاع.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة والأجوبة
صخرة بيت المقدس
(س1) : السيد أحمد منصور الباز بطوخ القراموص:
ما رأي سيادتكم في الصخرة الموجودة ببيت المقدس هل هي مرفوعة في
الهواء كما يزعم بعضهم وهل رفْعها كان معجزة للنبي؟ نرجوكم إظهار الحقيقة
ورفع الّلبس.
(ج) : إننا قد زرنا المسجد الأقصى ورأينا الصخرة وعرفنا منشأ الشبهة في
أقاويل الناس فيها، على أنها ليست مرفوعة في الهواء. ذلك أن الداخل في الحرم
يرى في صحنه الفسيح بناءً مرتفعًا يصعد إليه بالسلالم وسطح هذا البناء الواسع
مرصوف بالبلاط وفيه قباب أعظمها وأكبرها وأكثرها زخرفا قبة الصخرة وبالقرب
منها قبة يسمونها قبة المعراج يقولون إن النبي e عرج منها، والصخرة موضوعة
في قبتها وقد جعلت سقفًا لمغارة صناعية تحتها لها باب ينزل إليه بسلم قصير. فهم
يقولون إن الصخرة كانت في الهواء حيث هي الآن، وإن الناس بنوا تحتها هذا
البناء ووصلوه بها، وشبهتهم أن الصخرة مرتفعة عن أرض الحرم التي هي الآن
سطح الحرم الأصلي الذي تحت الأرض. وفاتهم أن رفع الصخرة من أرض الحرم
الذي في الأرض أو سطحه الذي هو صحن المسجد لهذا العهد متيسر للإنسان ويوجد
له نظائر في مباني الغابرين والحاضرين.
***
حجارة الوقود بجوار الكليم
(س2) : ومنه هل في الحجارة التي بجوار سيدنا موسى معجزة له أن تكون
وقودًا في تلك الأرض وإذا نقلت منها تكون كسائر الحجارة لا تشتعل؟
(ج) : إنه لا يوجد في الدنيا حجارة تشتعل تكون وقودًا إلا بسبب طبيعي
ولا معنى لهذه المعجزة الآن والناس متَّهَمون جميعًا بنقل الغرائب فيجب التحري
التام فيما ينقلون منها فمن تحرى عَلِمَ ومن لم يتحرَّ وهم.
***
شمهورش قاضي الجن
(س3) السيد حسين السبلجي بمصر: يزعمون أنه كان للجن قاضٍ يقال له
شمهورش وأنه كان يتلقى العلوم بالأزهر وكان يحضر دروس الشيخ الباجوري
ويسأله عن بعض المسائل التي تشكل عليه على مرأى من الناس ومسمع، وقد
حضرت مناظرة في ذلك بين فريقين منكر ومصدق، فأبى المصدق أن يرجع إلا
بفتوى دينية وهي ما ننتظره من المنار الأنور.
(ج) : إن الجن من العوالم الغيبية واسمهم يدل على خفائهم واستتارهم وقال
الله في إبليس وهو من الجن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) وقد نقل عن الإمام الشافعي تشديد عظيم على من يدعي رؤيتهم
حتى قيل أنه أفتى بكفره لهذه الآية. وقد اختلف النقل عن الصحابة في رؤية النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فروي عن ابن مسعود أنه رآهم، وروي عن ابن
عباس أنه لم يرهم، وأنه لو رآهم لما قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) وقال بعض العلماء: إن ابن عباس قال بما يدل عليه
القرآن وابن مسعود قال بما ثبت عنده ولا منافاة بينهما.
وادَّعى بعضهم أن رؤيتهم تكون كرامة للأولياء وسيأتي البحث فيه في موضعه
من مقالات الخوارق والكرامات ولكن لم يقل أحد من المسلمين ولا من غيرهم: إن
الجن يظهرون ويسألون العلماء على مرأى من الناس ومسمع. وإن للناس من
الحكايات عن الجن في كل قطر وكل شعب ما يكاد يصل بهم إلى حد الجنون. والله
يعلم إنهم لكاذبون.
***
الدليل على وجود الجن
(س4) بكير بن سماية بالجزائر: هل يوجد دليل على وجود الجن؟
(ج) إن وجود أي شيء من الموجدات لا يعرف بالأدلة العقلية وإنما يعرف
بالحس أو بالخبر الصادق، فإننا نعتقد بوجود كثير من الحيوانات والنباتات والمعادن
ولم نرها. أما العقل فإنه يدلنا مع الاختبار بأن في هذا الكون موجودات كثيرة لا
نعرفها وترون في أصغر الكتب الطبيعية (كالنقش في الحجر) للدكتور فانديك أن في
هذا الكون عوالم لا نعرفها لأنها لا تدرَك بحواسنا هذه ولو خلق لنا حواس غيرها
لأدركنا ما لا ندركه الآن.
الجن عالم خفي أو غيبي أخبرنا بوجوده الأنبياء المؤيدون من خالق الكون
بالوحي والإلهام فوجب التصديق بذلك. وإننا نرى الاعتقاد بوجودهم فاشيًا في جميع
الأمم والشعوب الهمجية والممدنة الوثنية والموحدة والملحدة. وإننا نعد من نوع الجن
هذه الأحياء الصغيرة التي لا ترى إلا بالنظارات المكبرة فاللفظ اللغوي (جن)
يتناولها وفي الحديث القائل بأن الطاعون من وخز الجن ما يدل على ذلك والله أعلم.
***
الإيمان بخاتم النبيين
(س5) عبد الحميد أفندي نجيب بنيابة الزقازيق: هل يكون إيمان المسلم
صحيحًا إذا اعتقد أن رحمة الله تعالى لا تسع مَن لا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه
وسلم ومات على ذلك وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156) .
(ج) إن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء حتى المشركين فإنهم إنما يعيشون
برحمته ويتمتعون بفضله ومن رحمته بالعالمين أن أرسل إليهم خاتم النبيين يعلمهم
الكتاب والحكمة ويزكيهم. ولا توجد طريقة لترقية الروح وتزكيتها تزكية تستوجب
بها الرحمة الخاصة في الآخرة إلا شريعته وملته ولذلك قال عز وجل بعد بيان أن
رحمته وسعت كل شيء -: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ} (الأعراف: 156-157) الآية.
فمن بلغته دعوة هذا النبي الكريم على وجهها وأعرض عنها فلا يعتد بإيمانه.
ولكن إذا بلغته على غير وجهها أو نظر بإخلاص وبحث فلم يظهر له صدقها فهو
معذور وتقدَّم بسط هذا المعنى في (المنار) غير مرة.
***
ترجمة القرآن
(س6) رضاء الدين أفندي قاضي وعضو الجمعية الشرعية في أوفا
(الروسية) : نشكر لكم بما لا مزيد عليه ما كتبتم في المنار جوابًا عن سؤالي في
مسألة حدوث العالم فإنا طالعناه مع الأحباب والعلماء الكرام بمزيد الشوق وعجبنا من
سعة اطلاعكم وبتبحركم في الفنون. ثم إني أعرض على حضرتكم سؤالاً آخر وهو:
هل يجوز ترجمة القرآن الشريف إلى اللغات الأعجمية كالفارسية والتركية
وغيرهما؟ ونسمع أن بعض الهند نقله إلى لغة الأوردو فهل ذلك صحيح وما حكم
الشريعة في ذلك؟ نرجو من حضرتكم الجواب في أحد أعداد المنار لتكون الفائدة
عامة لنا ولغيرنا.
(ج) إن هذا القرآن عربي {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) ومن مقاصد الإسلام العالية جمع البشر
على دين واحد ولغة واحدة لتكمل وحدتهم. وتتحقق أخوتهم. وقد بينا هذه الحكمة
من قبل ولا سبيل إليها إلا بتحتيم بقائه عربيًّا. وأن بقاءه عربيًّا داخل في معنى حفظ
الله له. فترجمته غير جائزة وغير متيسرة فإنه معجز في بلاغته وتأديته للمعاني
ولن يستطيع أن يترجمه إلا من يصل إلى درجة الإعجاز في اللغة التي يحاول نقله
إليها ويكون مع هذا في فهم الأساليب العربية منقطع القرين، وفي فهم الإسلام
ومعرفة حقائقه آية في العالمين، كلا إنني موقن بأن ترجمة القرآن مستحيلة ولا
يوجد في البشر من يستطيع أن ينقله إلى لغة أخرى بحيث يَفهم قارئ الترجمة كل ما
يمكن أن يفهم من القرآن العربي المبين، وإن من أكبر الجرائم والجناية على
الدين أن يحاول المسلمون هذا الأمر فيكون عند التركي قرآن تركي وعند الفارسي
قرآن فارسي وهلم جرّا. وقد عثر بعض العلماء فقال بجواز القراءة بالفارسية لمن
عجز عن العربية ولكن طبيعة الإسلام لفظت هذا القول وتركته كالشيء اللقا، ولم
يعمل به أحد من المسلمين، مع احترام قائله؛ لأنه لم يكن سيئ القصد. ولو أخذ
الناس بهذا القول لما انتشرت اللغة العربية في الأقطار الإسلامية ولصدم الإسلام
صدمة أرجعته إلى جزيرة العرب وحبسته فيها.
أقول هذا على تقدير أن المراد من السؤال ترجمة القرآن وحسبان الترجمة
قرآنًا باعتبار أن العبرة بالمعاني كما قال بعض العلماء والاكتفاء بذلك. وأما إذا
ترجم شيء من القرآن بقصد جعله وسيلة للدعوة إلى الإسلام فلا بأس بذلك، لا سيما
إذا كان من تُراد دعوتهم كالإفرنج الذين يبحثون عن أصول الأديان ولا يكتفون
بعرض آراء علمائها عليهم لأنهم يعتقدون أن علماء كل دين تصرفوا فيه باجتهادهم
أو بأهوائهم. ومن يترجم القرآن بعضه أو كله لهذا الغرض فعليه أن يبين في مقدمة
الترجمة أنه نقل إلى لغة كذا ما فهمه هو من القرآن إن كان يعتمد على فهمه أو ما
فهمه فلان المفسر ويذكر من اعتمد على تفسيره، وإذا اعتمد على غير واحد من
المفسرين فليذكر أسماءهم وإذا أشار في هامش الترجمة إلى عزو كل قول إلى قائله
فذلك أفضل وأكمل.
وحسب المسلمين من الأعجمين تقصيرًا في حق القرآن أن فسروه بلغاتهم وكان
الواجب عليهم أن يجتهدوا في تعميم اللغة العربية ويفهموه بالعبارة العربية التي أنزل
بها. ولولا الصدمات السياسية التي صدمت الإسلام لظل أهل فارس ومن يجاورهم
إلى هذا الزمن ينطقون بالعربية كما كانوا في القرون الأولى للإسلام، بل لكانت بلاد
الهند والأفغان والترك وجزء عظيم من بلاد الصين كبلاد سوريا ومصر لهذا العهد
ولكان في ذلك للإسلام سياج من الوحدة لا يخرق. وإذا لم يسع المصلحون في تلك
البلاد وأمثالها بتعميم اللغة العربية فما هم بمصلحين ولا عاملين للإسلام. وليعلموا
أن اعتصامهم بالجنسية اللغوية لا يمنعهم من ابتلاع أوربا لهم في يوم من الأيام، أما
ترجمة أحد علماء الهند القرآن بلسان الأوردو فلم نسمع به ونرجو من قراء المنار
في الهند إعلامنا بالحقيقة.
_________
الكاتب: للعالم العالم ع. ز.
نظام الحب والبغض
رسالة في علم النفس وفلسفة الأخلاق
للعالم العامل ع. ز.
(تمهيد)
(1)
إن للشرور أسبابًا معظمها ناتج من أوهام باطلة. فيجب إحياء الحقائق
وإزهاق الأوهام.
(2)
إن للأوهام أبوابًا معظمها ناشئ من الجهل - البسيط والمركب -
فيفرض تنوير الأذهان بقدر العلم وإن كان قليلاً.
(3)
إن للجهل أسبابًا معظمها آتٍ من قلة القراءة والكتابة الصحيحتين.
فيلزم السعي في تكثير القراء الذين يفقهون ما يكتب - كتابة صحيحة - والكُتاب
الذين يعرفون كيف يكتبون.
(4)
إن لقلة القراءة والكتابة - الصحيحتين - أسبابًا، معظمها صادر عن
رداءة أصول التعليم. فيتحتم الدلالة على الأصول النافعة وتعويد الناس عليها.
(5)
إن لرداءة أصول التعليم أسبابًا جُلها من التقليد الأعمى وإهمال الفكر
فلا بد من النصح والتناصح بالتفكر.
(6)
إن للتقليد الأعمى أسبابًا أكثرها ناجم عن اختلال شئون النفوس في
حبها وبغضها فيتعين وصف علاجات تشفي من هذا الاختلال ولو قليلاً.
هذه الفرائض المشروحة لا يشك في وجوبها عاقل ولكن مَن هم المكلفون بها؟
أنتم يا علماء النفس مكلفون بهذه الفرائض. ومنذ كلفت نفسي أن تتشرف بالدخول
في زمرتكم طفقت أطالع صفحات كتاب الوجود بعين البصيرة وأقيد النتائج في دفتر
الذاكرة. فهذا ما شجعني اليوم على أن أشارككم في أعمالكم. ومن أجل هذه
المشاركة حررت فصولاً لتأدية بعض هذه الفرائض، أكثرت فيها من التوضيح
وأقللت الفضول وتوخيت أسهل العبارات وأجمل الإشارات وراعيت فيها فهم
الصغير (من حيث القراءة لا من حيث السن) والكبير. ووهم الجليل والحقير،
وعدلت عن قيل زيد وعبيد واستمسكت بما أرسل الله لأبصارنا وبصائرنا من
الأمثال.
وإليكم يا قراء المنار الزاهر أقدم هديتي هذه (نظام الحب والبغض) بمساعدة
منشئه العلّامة المرشد، أعلى الله مناره وأيَّده بعنايته.
قطبان في الإنسان عليهما تدور أحوال نفسه هما: الحب والبغض. فهل
يمكن إدخالهما تحت أحكام نظام؟
(الجواب)
في هاتين القوتين المتنافرتين تكلم الأنبياء والمرسلون. والحكماء المتبعون،
والعلماء المعلمون، والشعراء الواصفون والأدباء المحاضرون، وبهما تقارب الناس
وتباعدوا، وتحازبوا وتحاربوا، واجتمعوا وتفرّقوا، وتعاونوا وتخاذلوا؛ ومن
أجلهما طغوا واعتدلوا، وأنصفوا وجاروا.
تكلم الناس كلهم في الحب والبغض ولكن اختلفت الاصطلاحات، وتنوعت
المقاصد، واختلفت المشارب، فتعددت الأسماء، وكثرت الكلمات، وتوفرت
المعارضات والمجادلات.
فكلام الناس فيهما الدائر على ما يجب أن يُحب وما يجب أن يُبغض يلوح
ويصرح بأنه من الممكن إدخال هذين المؤثرين تحت حكم (نظام) .
وعلى هذا نكون سالمين من الخطأ في تعبيرنا عن علم النفس وأخلاقها بنظام
الحب والبغض. بل نكون قد أصبنا عبارة هي أوضح من أخواتها في الدلالة على
هذا العلم النفيس المفيد.
هذا - أي إمكان دخول الحب والبغض تحت نظام - رأي طوائف العالم
على اختلافهم، به تشهد الأديان والعقول، وله تؤيد المشاهدة والتجربة. ولآخرين
قليلين رأي آخر هو عدم الإمكان.
وسيرى الذين يخالفون بيانًا شافيًا في هذا المقال. وسيذّكر فيه الموافقون.
(ما هو الحب وما هو البغض؟)
إن لحياة الإنسان (كسائر الحيوانات) نظامًا عرف بعد وجوده ولم يعرف
مبتدأ وجوده. وقد عرف أن هذا النظام شبيه بنظام مملكة كثيرة الأجزاء بعض
أفرادها مهم جدًّا، خلوها منه يوجب خللاً كبيرًا فيها. وبعضها من قبيل الخدم
والأعوان لا يوجب خلوها منه خللاً يذكر. وقد احتاج الناس من قديم الزمان لأجل
التعريف بمعروفاتهم إلى تسمية الأشياء بأسماء يتواضعون عليها. فأما التي يشيع
عرفها بين الناس فتصير أسماؤها من قبيل مفردات اللغة التي يتكلمون بها، بمعنى أن
استعمالها العام لمعناها المشهور يجعل معناها اللغوي المشهور عامًّا. وأما التي لا
يشيع عرفها إلا بين العلماء منهم فتصير أسماؤها من قبيل مفردات العلوم التي
يتداولونها، بمعنى أن استعمالها الخاص يجعل معناها المقصود عند العلماء خاصًّا.
مثاله: (1) كلمة (المبتدأ) معناها العام (الأول) ومعناها الخاص عند علماء
النحو: الكلمة المسند إليها حكم من الأحكام. ومثاله: (2) كلمة (المجاز) معناها
العام (الممر) ومعناها الخاص عند علماء البيان: العدول في كلمة عن معناها
الأصلي.
والأجزاء التي يتكون منها نظام الحياة قد سمي كل منها باسم وجرى على كل
منها الاستعمال العام، أما مجموع ما به نظام الحياة فسماه القدماء من أهل لغتنا
(النفس) لكن هذه الكلمة لدلالتها على مدلول عظيم شأنه قد اتخذه العلماء لمعنى
غير الذي يفقهه منها العامة من الناس. ومن ثمة كانت جديرة أن نقول (إنها كلمة
علمية) بمعنى أن لها معنى خاصًّا عند العلماء بخواصها وأحوالها.
(والحب والبغض) من هذا القبيل أي أنهما في اعتبار العامة كلمتان من
جملة ما هو مشهور المعنى من مفردات لغتهم. وفي اعتبار العلماء - علماء النفس -
هما كلمتان مدلولاهما تحت النظر والبحث يتساءلون فيما بينهم عن تعريفهما.
على أنه يجب أن نصرح بأن العلماء من حيث الجملة كثيرًا ما يعرفون
المعروفات ويوضحون الواضحات. وكثيرًا ما ينتج من كثرة كلماتهم واصطلاحاتهم
في توضيح الواضحات إيهامات يشغلون بها أذهان القارئين على غير جدوى. هذه
حقيقة يجب أن لا نتغافل عنها. وأن لا نغفل ذكرها. وهي تفرض علينا أن لا
نقلدهم في كل أبحاثهم وأن لا نشاركهم في الكلمات التي ابتدعوها في أكثر المواضع
لا لشيء إلا حب توسيع مسافة الفرق بينهم وبين العامة.
ولكن لهذا الأمر مستثنيات هي التي تفتح لحسن الظن بنيَّاتهم بابًا كبيرًا،
وهذان الحرفان اللذان نحن بصددهما من مستثنيات هذا الأمر. فكلنا نحب ونبغض
ولكن في الحقيقة ما كل واحد منا يعرف ما هو الحب وما هو البغض. ومن ثم
اختلفت تعاريفهما أيضًا بلسان العلم.
والتعريف الموافق هو أن الحب اعتقاد خير، راجع أو مناسب للنفس المحبة من
الجهة المحبوبة [*] والبغض ضده فهو اعتقاد شر - إلى آخر التعريف وبهذا
التعريف يمكننا بغاية السهولة أن نعرف العلة ونجيب عن هذا السؤال: (لماذا نحب
ونبغض؟ !)
وهذا التعريف الحقيقي هو الذي سهل لنا الحكم بأن دخولهما تحت حكم (نظام)
ممكن لأن الاعتقاد قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً شأن كل اعتقاد، فكما أمكن
بواسطة العلم إرجاع كثير من الناس عن خطأهم في أشياء كثيرة يمكن إرجاع معتقد
الخير والملاءمة أو الشر والمباينة في جهة من الجهات عن ذلك الاعتقاد، فبينما
المرء يحب إذا هو يبغض. وإذا سلمنا التعسر أحيانًا لا نقول بالتعذر وسيوضح هذا
أمثلة كثيرة.
حب الذات
وعلى حسب التعريف السابق للحب وضده، وعلى حسب التعليل المتقدم
(لماذا نحب - لماذا نبغض) يظهر أن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، فهو
بهذا الحب لم يخرج عن حب ذاته إلا بحسب الصورة فقط، فهل هذا صحيح؟ وما
الدليل عليه؟ وهل محبة الذات أمر نافع أم أمر ضار؟
نعم، إن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، وهذه الحقيقة دقيقة جدّا
يدركها البعض بالبداهة ولا يدركها البعض إلا بالإيضاح، ونحن نجمل الكلام ونذكر
رؤوس المباحث التي تتعلق بأذيالها، ونشرحها قضية قضية موجزين:
1-
الإنسان يحب ذاته.
2-
حب الذات في أصله طبيعي نافع.
3-
ذات غيرنا كذاتنا فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا، فحب الذات له
حدود.
4-
إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا.
5-
إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود.
6-
إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا.
7-
بغض الذات مرض.
8-
قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور.
9-
متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) المنار: إدراك النفس قسمان: فكر ووجدان. والاعتقاد من الأول والحب من الثاني وكذلك البغض، فالحب شعور وجداني بأمر يلائم النفس؛ لأنه خير لها في نظرها والخير هو النافع واللذيذ، والنفع يعرف بالفكر واللذة تعرف بالوجدان، فوجدان الحب معلول لأحدهما أو كليهما.
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية
كتب بعض المسلمين في الترنسفال إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لتعرضها
على بعض علماء الأزهر، فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت
الجريدة أجوبته. أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة وجوابه معروف وهو أنه
لا يحرم على الرجل إلا مَن رضعت هي وإياه من امرأة وأما أخت الرضيعة فلا
تحرم. والسؤال الثاني يتعلق بالاقتداء بالمخالف وبينَّا الراجح فيه عندنا في آخر
الجزء الماضي وأن في المسألة قولين مصححين، ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف
ما رجحناه وهو المذكور في كتب الفقه وهم أسرى تلك الكتب.
وأما السؤال المهم فهو ما جعلناه عنوانًا لهذه النبذة وقد أجاب عنه الشيخ
بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال ثم نبين رأينا فيه وهو:
سؤال: ما قولكم علماء الإسلام ومصابيح الظلام أدام الله وجودكم: هل
يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والإفرنسية مع أن الحروف
الإنكليرية ناقصة عن الحروف العربية ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان
قريش فالإنكليزي مثلاً إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تُقرأ (مسر) أو أحمد
تكتب (أهمد) ويكتب (شيك) بمعنى شيخ لا سيّما وإخواننا المسلمون في مصر
يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها والبعض من المسلمين في جنوبي إفريقيَّة في جدال
عنيف، منهم من يجوّز ومنهم من يقول غير جائز.
أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى.
جواب:
اعلم أن القرآن هو النظم، أي اللفظ الدال على المعنى لأنه الموصوف بالإنزال
والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ. وأما المعنى وحده فليس
بقرآن حقيقة. وقيل: إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازًا. والحق
هو الأول، وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها وتجوز القراءة
والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى، فقد كان تاج
المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه
باللغة العربية. وفي (النهاية والدراية) أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن
يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت
ألسنتهم. وقد عرض ذلك على النبي e ولم ينكر عليه. وفي (النفحة القدسية في
أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية) ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية
إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته، ويحرم مسه لغير الطاهر
اتفاقًا، وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن بل يعتبر تفسيرًا له.
وفي (الإتقان) للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلامًا لعلماء مذهبه في كتابة القرآن
بالقلم الأعجمي وأنه يحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية. والأقرب المنع،
كما تحرم قراءته بغير العربية ولقولهم: القلم أحد اللسانين. والعرب لا تعرف قلمًا
غير العربي وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) .
فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير
العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ثم يكتب
تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية. اهـ.
(المنار)
عندنا مسألتان: إحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية، أي التعبير عن معانيه
بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي وهذه هي التي سأَلَنا عنها الفاضل
الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء. والثانية كتابة القرآن العربي
بحروف غير عربية، وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنسفالي. وقد رأى
القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة، لذلك رأينا
أن ننقله ونحرر القول في المسألة تحريرًا.
المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة فإذا كانت الحروف الأعجمية
التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة
الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها لما فيها من تحريف كَلِمه ومن رضي
بتغيير كلام القرآن اختيارًا فهو كافر. وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا
يستقيم لسانه بلفظ محمد فنطق بها (مهمد) وبلفظ خاتم النبيين فيقول (كاتم النبيين)
فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات
بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه طول عمره. ولو أجاز المسلمون
هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في
الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة ولكان كل شعب من
المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر.
وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة
على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلاً، ففي المسألة
تفصيل والذي نقطع به أن الكتابة بخطها لا تكون إخلالاً بأصل الدين ولا تلاعبًا به
وإن هو خالف الخط العربي، فالفرق بين الخط العربي والخط الكوفي أبعد من الفرق
بين الخطين العربي والفارسي ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها
ولكنهم يعتدونها عربية. وإذا قيل: إنها مختلفة اختلافًا لا يكفي لمتعلم أحدها أن يقرأ
الآخر كالكوفي والفارسي - نقول: قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز
بشرطه، ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق علي خط واحد. فهم المسلمون
هذا من روح الإسلام فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد
يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان. ذلك
من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب فإن القرآن هو الصلة العامة بين
المسلمين والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين. ومن التفريط فيه أن
يفد المسلم القارئ على مصر قادمًا من الصين فلا يستطيع القراءة في مصاحفها،
وكذا يقال في سائر الشعوب وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي
وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه.
ولقائل أن يقول: إن في هذا الرأي تضييقًا على نشر القرآن وتوسيع دائرة
الدعوة إلى الإسلام، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة. وكتبوها
بكل قلم، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة. فما بال المسلمين يضيقون
وغيرهم يتوسعون؟ ولنا أن نقول في الجواب: إننا جوَّزنا ترجمة القرآن لأجل
الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها؛ ولكن
المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة
واحدة وهي تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في
الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية.
وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا
بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات وكونها تتقدر بقدرها. فإذا رأوا أنه لا
ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم
الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه به ماداموا في حاجة إليه ثم
ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر
المسلمين.
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم
على لغاتهم وخطوطهم. اللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذًا في كلمها وخطها ونرى
أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة
والأمور الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا؟ !
وفي جواب الشيخ محمد بخيت مباحث ليس من غرضنا الإحفاء فيها، ونكتفي
بأن نقول إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف، فأثر سلمان إن
أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم،
وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم؟ ! وإن أريد به أنه كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي
قريب من العربي ولا دخل له أيضًا بلين الألسنة، والصواب أن الأثر غير صحيح.
وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد
الفرس الحنفية، ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله؟ على أن فيه ما في الذي قبله
وهو أن القراءة بالفارسية لا يلين بها اللسان للعربية إلا أن يقال: كان يقرأ الترجمة
حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب البؤساء
هو أشهر ما كتبه شاعر فرنسا الحكيم وأديبها العظيم (فيكتورهيجو) وهو هو
الكتاب الذي رفع به ذكره، وعلا في عالم المدنية قدره، حتى صارت فرنسا تفاخر
به العالمين. وتحتفل لشيخوخته ولوفاته احتفالات لا يعهد مثلها للملوك والسلاطين،
وقد نقلت جميع الأمم الحية هذا الكتاب إلى لغاتها وهمّ به بعض المشتغلين بالتعريب
فما أطاقوه وكأنهم هابوا بلاغته في لغته؛ لأنه في الذروة العليا مما كتب بالفرنسية
حتى أقدم عليها محمد حافظ أفندي إبراهيم المشهور برسوخ العرق في العربية
وآدابها وطول الباع في التنقيح والتحرير، والإجادة في المنظوم والمنثور، فشرع
فيه وسلخ في تعريب الجزء الأول منه اثني عشر شهرًا - كما قال في المقدمة -
وهو نحو 150 صفحة. وقد قدّم الكتاب إلى الأستاذ الإمام وحكيم الإسلام، فشكر
له الأستاذ ذلك بكتاب بليغ نستغني بنشره عن الكلام في مكانة التعريب من البلاغة،
ومحله من الفائدة. ونبدأ بما كتبه حافظ أفندي في أول النسخة المطبوعة وهو:
إلى الأستاذ الإمام..
إنك موئل البائس ومرجع اليائس وهذا الكتاب - أيدك الله - قد ألمَّ بعيش
البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور وسماه كتاب البؤساء
وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة وتلك الحكمة البالغة (الرحمة فوق العدل) .
وقد عنيت بتعريبه لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب.
وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار ورأيت أن أرفعه إلى
مقامك الأسنى. ورأيك الأعلى لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث: أولها التيمن باسمك
والتشرف بالانتماء إليك. وثانيها ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى
الرجل الذي يعرف مهر الكلام ومقدار كد الأفهام. وثالثها امتداد الصلة بين الحكمة
الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق.
فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله والله المسؤول أن يحفظه للدنيا والدين وأن
يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين اهـ.
فأجابه الأستاذ الإمام بهذا التقريظ وهو:
لو كان بي أن أشكرك لظنٍّ بالغت في تحسينه أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت
في تزيينه - لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري في الشكر
إلى الغاية مما يطلبه فضلك، لكنك لم تقف بعرفك عندنا بل عممت به مَن حولنا،
وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.
زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية سحرت قومها،
وملكت فيهم يومها. ولا تزال تنبه منهم خامدًا وتهز فيهم جامدًا؛ بل لا تنفك تحيي
من قلوبهم ما أماتته القسوة وتقوّم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة أفاضها
الله على رجل منهم فهدى إلى التقاطها رجلاً منا فجردها من ثوبها الغريب وكساها
حلة من نسج الأديب وجلاها للناظر وحلاها للطالب بعد ما أصلح من خلقها وزان
من معارفها حتى ظهرت محببة إلى القلوب شيقة إلى مؤانسة البصائر تهش للفهم
وتبش للطف الذوق وتسابق الفكر إلى مواطن العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي
من النفس في مكان الإلهام.
حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك فوقف العجز بأغلبهم
عند مبتدأ الطريق ووصل منهم فريق إلى ما يحب من مقصده ولكنه لم يعنَ بأن يعيد
إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها ويرد إليها ما سلبه المعتدون عليها من متانة
التأليف وحسن الصياغة وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه. أما أنت فقد وفيت من
ذلك ما لا غاية لمريد بعده ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده. ولو كنت ممن يقول
بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح فظهرت لك اليوم
في صورة أبدع ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في التعريب سُنة يعمل عليها
من يحاوله بعد ظهور كتابك ويحملها الزمان إلى أبناء ما يستقبل منه فتكون قد
أحسنت إلى الأبناء كما أجملت في الصنع مع الآباء وحكمت للغة العربية أن لا
يدخلها بعدُ من العجمة سوى ما هو في الأسماء - أسماء الأماكن والأشخاص لا
أسماء المعاني والأجناس - ومثلي مَن يعرف قدر الإحسان إذا عم ويعلي مكان
المعروف إذا شمل ويتمثل في رأيه بقول الحكيم العربي:
ولو أني حييت الخلد فردًا
…
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي
…
سحائب ليس تنتظم البلادا
فما أعجز قلمي عن الشكر لك وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.
تقول: إن الذي وصل سببك بسر صاحب الكتاب ووقف بك على دقائق من
معانيه اشتراكك معه في البؤس ونزولك منزلته من سوء الحال، وربما كان فيما تقول
شيء من الحقيقة، فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه بتلك الحكمة ثم كان سببًا في
امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة - سألت الله أن يزيد وفرك من هذا البؤس حتى
يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ وأن يجعلك في بؤسك أغنى من أهل الثراء في
نعيمهم. والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
(محمد عبده)
وقد طبع الكتاب بمطبعة التمدن على نفقة صاحب السعادة أحمد حشمت باشا
مدير الدقهلية وهي أريحية لا يعرفها أهل العربية في أنفسهم إلا ما كان أيام سلفهم
وثمن النسخة من الكتاب عشرة قروش أميرية وأجرة البريد قرش واحد وهو يطلب
من إدارة المؤيد ومن مطبعة التمدن بمصر، فنحث أهل العلم والأدب على اقتنائه
ونعدهم بنشر نموذج منه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إعانة سكة الحديد الحجازية
نتذكر أننا ذاكرنا صاحب الدولة مختار باشا الغازي في مسألة إعانة هذه السكة
عندما بدؤوا بجمعها فقال: كان من رأيي أن يفرض على كل مسلم مبلغ قليل في
كل سنة من سني العمل فيكون ذلك مع الموارد الأخرى المخصصة لنفقات السكة
ريعًا ثابتًا مقدرًا، ويمكن معه تقدير الأعمال ولا يثقل على أحد من الناس. وكنت
استحسنت هذا الرأي وقد ظهر لنا الآن أن مولانا السلطان لم يكن غافلاً عنه ولكنه
أطلق عنان الإعانة أولاً ليظهر كرم المسلمين في أول نشأة العمل ثم رجع إلى هذا
الآن فأصدر أمره بتعيين مبلغ أقله خمسة قروش على كل مسلم، وأي مسلم يعسر
عليه دفع خمسة قروش في السنة؟ ! ويسرنا أن مسلمي مصر قد اندفعوا إلى تأليف
اللجان وجمع الإعانات ونرجو أن يسبقوا غيرهم في هذا المضمار وإن كره لهم ذلك
أصحاب السعادة النظار، فإن كراهتهم لا أثر لها في جلب منفعة ولا دفع مضرة
{وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72) وليعلموا أنهم أكثر مسلمي الأرض
رخاءً وهناءً وسعة إلا أن يكون في الصين من يفضلهم في ذلك من حيث لا ندري، ثم
إنهم قد ذاقوا مرارة صدهم عن بيت الله وإقامة العقبات في وجوه مريدي الحج إليه
ولا يدرون ما هو مخبَّأ لهم في المستقبل، فليبادروا إلى تسهيل سبيل بيت الله.
وأجرهم على الله وهو لا يضيع أجر المحسنين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الرابعة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل
(النوع السادس: كلام الجمادات والحيوانات)
قال السبكي: ولا شك فيه وفي كثرته ومنه ما حكي أن إبراهيم بن أدهم جلس
في طريق المقدس تحت شجرة رمان فقالت له: (يا أبا إسحاق أكرمني بأن تأكل
مني شيئًا) قالت ذلك ثلاثًا وكانت شجرة قصيرة ورمانها حامضًا فأكل منها رمانة
فطالت وحلا رمانها وحملت في العام مرتين وسميت رمانة العابدين! ! ! وقال
الشبلي: عقدت أن لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البراري فرأيت شجرة تين
فمددت يدي لآكل منها فنادتني الشجرة: (احفظ عليك عقدك ولا تأكل مني فإنني
ليهودي) فكففت يدي. هذه حكايات السبكي التي بنى عليها نفي الشك في هذا النوع
وإن لم تتفق مع أصله وشروطه ولم تروَ بطرق صحيحة وأسانيد معروفة. وإذا
صح أن ابن أدهم والشبلي قد قالا ما نقل عنهم في ذلك، فالأقرب أنهما كانا يعنيان
القول بلسان الحال، فحمله بعض الناقلين على لسان المقال حبًّا في الإغراب أو غلوًّا
في تعظيم الصالحين، على أن من الصوفية من يقول بأن صفة الحياة سارية في جميع
المخلوقات حتى الأحجار والمعادن ويمرون قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44)، على ظاهره فيقولون: إنه تسبيح حقيقي قولي، لا لسان
حال ودلالة على أثر مؤثر، والقضية ممكنة في ذاتها ولا يبعد أن يكون لكل صنف
من المخلوقات حياة تليق به بل هذا هو اللائق بالإبداع الإلهي والنظام العام. ولكن
البعيد أن يكون الجماد والنبات عالمين بسائر الشؤون وناطقين بجميع اللغات فيكلمان
هذا بلسانه ويفصحان لذاك عن بعض شأنه، وأبعد من هذا البعيد أن لا يكون ذلك
الكلام المزعوم سنة عامة بأن يكون خروجًا عن السنن الإلهية لتحقق لابن أدهم
شهوته وللشبلي عزيمته، ومثل هذه الخارقة مما نقل عن عُباد النصارى
(كاسبيريدون العجائبي) وحكاياتهم فيها شبيهة بحكاياتنا، وكل حزب بما لديهم
فرحون!
* * *
(النوع السابع: إبراء العلل)
أشار السبكي في الكلام على هذا النوع إلى حكاية الرجل الذي لقيه السرِي
السَّقَطي ببعض الجبال يبرئ الزمنى والعميان والمرضى. وإلى ما روي عن الشيخ
عبد القادر الجيلي من أنه قال لصبي مقعد مفلوج أعمى مجذوم: قم بإذن الله، فقام
معافى لا عاهة به. أقول وقد ذكر الشيخ علي القاري هذه الحكاية مفصلة في كتابه
(نزهة الخاطر الفاتر في مناقب السيد عبد القادر) وأوردتها في كتاب (الحكمة
الشرعية) وقفّيت من بعدها بحكاية أخرى لصاحب هذا الكتاب. وأمثال هذه
الحكايات كثير عن الصالحين جدًّا، ولا شك عندي في أن الكثير منها صحيح لا شبهة
فيه، وينقل مثله أيضًا عن رجال الدين المعتقدين من النصارى والوثنيين وقد وقع
على يدي شيء من ذلك في بعض الأمراض العادية، وليس في ذلك شذوذ عن
السنن الطبيعية.
إن الوهم يفعل في شفاء الأمراض العصبية ما لا يفعل العلاج، ولا يوجد
مثار للوهم أقوى من اعتقاد المعتقدين بالسلطة الروحانية والقوى الغيبية يؤتاها
بعض رجال الدين. ويكفي في توثيق عرى هذا الاعتقاد في المستعدين له ما ينقل
إليهم بلسان زيد وعمرو، وهند ودَعْد. من الحكايات الغريبة، والوقائع العجيبة،
وإذا رأى أحدهم بعينه واقعة منها أو بعض واقعة أو شبهة على واقعة كأن يرى
فلانًا الذي كان مريضًا قد شفي بعد رقية رقي بها، أو تميمة علقت عليه. فهناك
الجزم بأن كون الشيخ فلان يشفي المرض بالسر. ويبرئ العلل بالبركة من القضايا
اليقينية الأولية، لا يتسرب إليه الشك. ولا يحوم حوله الريب. وأن من ينكره فهو
مريض الاعتقاد، أو من أهل الجحود والإلحاد.
عرف هذا الأطباء والعقلاء فاستعانوا بالإيهام على معالجة الأمراض العصبية
فنجحوا نجاحًا عظيمًا، وهم يتفننون في تصوير الوهم بالصور المناسبة لحال
المرضى في اعتقاداتهم، بل يخلقون لهم اعتقادات ببعض الأشخاص أو ببعض
الأدوية ويبالغون في تعظيم شأنها حتى يشغلوا خيال المريض بها ثم يسلطونها على
مرضه. وإنك لترى حكيمًا من الحكماء يدعو إلى منزله دجالاً من الدجاجلة الذين
يدَّعون التصرف في الجان والسلطة على العفاريت الذين يمَسُّون الأناسي - يدعوه
ليعالج بإيهاماته الدجلية امرأة عنده مصابة بمرض عصبي مما يسميه الأطباء
(الهستريا) بعد أن يعجز عنها الأطباء. ويخيب فيها كل دواء فتشفى برؤية زيّه
وبزته وشم بخوره وسماع رقيته، ويعترف له ذلك الحكيم بأنه يفعل بكلماته
وعزائمه ما لا يفعل الطبيب بأدويته ومراهمه. أتقول: إن هذا الحكيم يعتقد بحقية
هذا الخرافات، ويَدين بأن ذلك الدجال من أهل الخوارق والكرامات، أم تقول: إنه
سلط الوهم على الوهم. كما يدفع في الجدل الرأي الفاسد بالدليل الفاسد، وأنه يرى
المريض في عصبه كالمريض في عقله. ذلك يتأثر بأوهام الدجل وهذا يقتنع
بمغالطات الجدل؟
الأمراض العصبية التي تفعل فيها الأوهام ضروب مختلفة، منها بعض فنون
الجنون ومنها مقدماته، ومن المصابين بها من يعتقد بالشيطان يخالط روح الإنسان
ويعتقد بأن لبعض الناس سلطانًا على الشياطين بطريقة صناعية كالبدعة الذميمة
التي يسمونها (الزار) ، وهي منبع المآثم والأوزار أو بطريقة روحانية كبركات
الشيوخ ورُقاهم وعزائمهم.
وتجد الذين ينتحلون هذا الأمر بسلوك كل من الطريقتين يعيشون في مثل هذه
البلاد بأكل أموال الناس بالباطل، فكثيرًا ما يوهمون من يرونه مستعدًّا لهذه الأمراض
من النساء والرجال بأنه مصاب بها وما هو بمصاب فيؤثر قولهم في نفسه فيمرض
ويحكِّمهم في نفسه يعالجونها كيف شاؤوا؛ بل يحكمهم في حاله وشرفه أحيانًا. وكثيرًا
ما يزيدون الداء إعضالاً بحمقهم وسوء سلوكهم.
جاءتني جريدة (المؤيد) وأنا أكتب في هذا النوع فرأيت في رسالة الإسكندرية
منها كلامًا في انتشار وباء الزار في تلك المدينة وفعله في النفوس والأعراض ما لم
يفعل الطاعون في الأجسام. وفي الأموال والعروض ما لم يفعل القمار والمدام.
وقد رأيت أن أنقل ما كتب الكاتب بنصه فاقرأه تحت عنوان (بدعة الزار) .
* * *
(مضار بدعة الزار)
أصدرت محافظة ثغرنا في الأسبوع الماضي أمرها إلى أقسام المدينة بمراقبة
النسوة المشتغلات بالزار لأن جمعياتهن كثرت برواج خزعبلاتهن فألحقن بربات
البيوت أضرارًا أدبية ومادية لا يحسن التغاضي عنها وعهدت المحافظة أمر تجسس
هذه المحرمات إلى مشايخ الحارات ظنًّا منها أنها تستفيد من دقة مراقبتهم وتضرب
بواسطة نفوذهم على أيدي أولئك النساء الشريرات.
أما نحن فنقول: إن أوامر نظارة الداخلية الصادرة من عشر سنين ونيف
والمصدق عليها من مجلس علماء الأزهر الشريف وإفتائه بتحريم استعمال بدعة
الزار الشنيعة لم تكن في حاجة إلى أوامر جديدة وهمة حديثة ليقال معها أن حكومتنا
اليوم التفتت إلى ضرر لتلافيه، ونظرت إلى محرم فلاحقته بعدلها بل يجب أن
تصرح بأنها أغضت زمنًا عن واجب مقدس ثم تنبهت إلى نظام موضوع من أجله
فهبت الآن لتلافي الشر ووقاية هاته العيلات وثروتها وآدابها بها من نتائجه الكثيرة
التي منها الإملاق والجنون والطلاق والمروق عن جادة الاستقامة والعفاف وغير
ذلك من الأضرار الظاهرة التي لا تحتاج إلى استطلاع وفلسفة.
أما الإملاق والجنون فيكفي أن نشير إليهما بحادثة امرأة أشفقت على ابنتها
المصابة بمرض عصبي (هستيريا) فلجأت إلى الزار فصارت تبذل لهن مطالبهن
الكثيرة من ذهب وطعام وغنم ودجاج حتى احتاجت إلى المال فباعت (كنها)
الوحيد الذي يستظلون به ويلجأون إليه وكانت النتيجة جنون الفتاة وموت أمها غمًّا
وقهرًا؛ لأن ألعاب الزار وأوهامه من شأنها أن تثير العواطف وتنبَّه الأعصاب إلى
ما كمن من الداء فيظهر بشدة حينئذٍ ويصبح على التوالي ملكة لا يرضيها غير هذه
الأعمال الخيالية النفسانية فبدلاً من تسكين لاعجه يزداد شرًّا على شر ويكون من
نتائجه الجنون وكفى بالفقر مُذهبًا للرشاد ومضيعًا للعقول.
وكم من زوج طلق عروسه لتبذيرها ونبذها طاعته في سبيل هذا الزار الذي
استحكم فصار عادة بين النساء وموضع افتخار بعضهن. وقليل من العقل والروية
يكفي لنبذ الرجل زوجته إن والت معاندته والعمل على إساءته وهي لا تدري أنه
البر الرؤوف بها في منعها عن الانغماس في حمأة هذه الأوضار؛ بل تظن به الشح
والوسواس والكفر والكراهة إلى غير ذلك من الظنون السخيفة التي تزرعها نساء
الزار في رؤوس البسيطات من هؤلاء الأمهات والفتيات، فيقضين على راحتهن
ومستقبلهن قضاءً مبرمًا بالتفرقة والخراب وكفى بهذه النتائج المحزنة داعيًا إلى
التفات الحكومة ومطاردتها للمشتغلات بهذه الدنايا والرزايا.
أما المروق عن جادة الاستقامة والعفاف فهذا كثير، فإن لقهرمانات الزار فنونًا
وحيلاً ينفر منها إبليس ويستعيذ بسلبها منهن بالله لأنها فوق قدرته لو أبنَّاها في هذه
العجالة وقليلها يكفي للإشارة إلى سوء الحال وشر المآل.
حُكي أن امرأة تعشَّقها سفيه دنيء فاحتال للوصول إليها كثيرًا حتى لجأ إلى
نساء الزار فلعبن دورهن مع المرأة حتى أثَّّرن عليها بأنها ملموسة بروح شريرة مما
يعبرن عنه (بأن عليها شيخ) وعندما ملكنها بهذه الخزعبلة قلن لها: إن شيخك
يحب شابًّا صفته كذا وكذا.. إلخ إلخ. ولا سبيل لسكون هذا القادر إلا
باجتماعهما.
وما زلن بها حتى رضيت بالشاب فكان من اجتماعهما ما كان من سكون
لواعج النفس بطرد حركة الشيخين وكثيرًا ما يجمع النسوة الشريرات مدبرات الزار
الرجال بالنساء ويمهدن سبل الدنايا والموبقات على أشكال وضروب لا يليق بيانها
وبذلك تتقوض أسس المحبة الزوجية فتكون العواقب أشد وخامة على الذرية التي لم
تجنِ ما جناه الأبوان من جهلهما وتساهلهما.
والغاية من رسالتي هي أني أريد إفهام الحكومة أن تكليفها مشايخ الحارات
بمراقبة المشتغلات بالزار ومنازل طلابهن ومريديهن لا خير فيه ولا فائدة لأنها
تفتح لهؤلاء المشايخ المراقبين باب رزق وسيع، فإنهم يسعون الآن باحثين منقبين
على من يحيي ليالي الزار وأيامه ليستفيدوا أتاوة الصمت والتغاضي وهو ربح حسن
يفضل الأرباح العائدة عليهم من المخافر والضمانات وغيرها، وبذلك يزيد الزار
انتشارًا وضررًا. اهـ بنصه.
(المنار)
إن ما رآه الكاتب في مشايخ الحارات صحيح، فإنهم قوم لا خلاق لهم. وإذا كان
وجهاء الناس والذين يظن فيهم العقل والأدب والدين ينخدعون للنساء المنتحلات
لبدعة الزار الضارة ويعتقدون نفعها فماذا عسى ينتظر من مشايخ الحارات
وأكثرهم من التحوت والغوغاء الذين يشترون بالآداب والأعراض ثمنًا قليلاً؟ ولو
جعلت الحكومة لمن يدلها على ذلك جُعْلاً ولو قليلاً لما خفي عليها شيء، ولتيسر لها
أن تستأصل هذه البدعة الضارة استئصالاً.
ومن العجائب أن الرجال يسمعون بآذانهم ويقرؤون بألسنتهم ويشاهدون
بأعينهم مفاسد الزار وفتكه بالأموال والأعراض وإفساده للأخلاق والعقائد، وهم مع
ذلك يسمحون لنسائهم بعمله وبحضوره فأيُّ شرفٍ وأي نخوة بقي عند هؤلاء
الرجال السفهاء الأحلام الميتي الإرادة؟ والله لو صلح الرجال لما فسد النساء، ووالله
ما أفسد النساء إلا الرجال، فلعن الله مَن لا غيرة له، ولعن الله من لا نخوة له،
ولعن الله من لا شرف له.
***
لكل قوم نصيب من الوهم يليق بحالهم واعتقادهم، وقد ألمعنا إلى بعض شأن
الذين يعتقدون بالأرواح الخيرة والشريرة، وأما الماديون والروحيون الذين يعتقدون
أن الأرواح أمور غيبية لا سلطان لها إلا في أبدانها التي تحيا بها، وأن لجميع
الأمراض أدوية يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها (كما ورد في الحديث) فإن
للوهم منافذ أخرى إلى نفوس المصابين بالأمراض العصبية منهم كالاعتقاد
ببراعة الأطباء واكتشافاتهم واختراعاتهم، وبأخبار الذين شفوا بمعالجاتهم، وأن
كثيرًا من أطباء أوربا وأمريكا ليعالجون أمثال هؤلاء المرضى بالأدوية الوهمية.
حكي أن امرأة منهم أعضل داؤها، وعز شفاؤها، فجاء بعض الأطباء الذين كانوا
يعالجونها وقال: إن كل تلك الأدوية التي كانت تداوَى بها من المسكنات وإنه لم
يبق إلا علاج سام خطر هو الشافي قطعًا ولكن لا يمكنني أن أعطيها منه إلا
بشروط منها أن لا تزيد عن المقدار الذي أعينه نقطة من السائل ولا مقدار ذرة من
الجامد، ومنها أن تأخذه في المواقيت المعينة لا تتقدم دقيقة ولا تتأخر دقيقة ومنها
أن نكتب كتابة ونسجلها في المحكمة بأنه لا تبعة عليّ ولا مطالبة إذا هي ماتت
مسمومة؛ لأنني لا آمن من مخالفتها في المواقيت أو المقادير. وقد تردد أهل
المريضة في قبول الشروط ولكنها هي قبلت بها؛ لأن المرض كان منعها المنام
والراحة فما زالت تلح عليهم حتى قبلوا وكان شفاؤها في ذلك الدواء، ولم يكن إلا
الدقيق والسكر والماء!
عرف الناس تأثير قوة الاعتقاد الوهمي فضربوا لها المثل: (لو اعتقد أحدكم
بحجر لنفعه!) ويظن بعض العامة أن هذا حديث لأنه مؤدٍّ للمعنى العام بعبارة
وجيزة، وبذلك امتازت الأحاديث النبوية.
ثم إن الجهل بأمور الدين والدنيا معًا فسره لأهل هذا العصر بغير معناه وإن
شئت قلت بنقيضه. فهم يزعمون أن فيما يعتقد - وإن حجرًا - نفعًا حقيقيًّا ثابتًا له لا
ينفكّ عنه، فهم يتمسحون ببعض الأحجار، ويتعلقون ببعض الأشجار، ويتبركون
بمياه بعض الآبار، ويعتقدون أن فيها خواص تشفى الأمراض، وتقضى الحوائج
والأغراض، ثم إنهم يلصقون ذلك بالدين ورجالاته، ويعدونه من دلائل صدقه
وآياته، ويغفل أهل كل ملة عن مشاركة أهل الملل الأخرى لهم فيما يدعون،
واستدلالهم بمثل ما يستدلون.
كتبنا غير مرة في مفاسد الاعتقاد بهذه الجمادات والأشجار كعمود الرخام في
المسجد الحسيني وباب المتولي وشجرة الحنفي ونعل الكلشني وغير ذلك، ولم ينس
قراء المنار - بل أهل مصر كلهم - ما كان منذ سنتين ونيف في المسجد الحسيني
من الجلبة والضوضاء في آخر الدرس الذي كنا نلقيه هناك، إذ نهينا الناس عن
التمسح بالعمود الذي يسمونه عمود السيد استشفاءً به وطلبًا للبركات منه، فاحتج
علينا بعضهم بالمثل الذي جعله الجهل حديثًا نبويًّا، ولما بينا لهم معنى المثل وكونه
غير حديث وأنه لو كان حديثًا وكان معناه كما زعموا لكان حجة على نفع عبادة الأصنام قبل ذلك الجماهير. وكان في الصفوف البعيدة من حاضري الدرس من لم
يفهم القول فطفقوا يتساءلون: ماذا قال في الحديث ماذا قال في الحديث؟ فأجاب
بعض الذين وعوا القول بالصواب ودس بعض المرجفين أقوالاً كانت مثار اللغط
والضوضاء كقولهم: إنه أنكر حديث رسول الله (بمعنى كذَّبه) وقولهم: إنه قال:
إن سيدنا الحسين صنم لا ينفع ولا يضر وأمثال ذلك.
أليست هذه الفتن والبدع والعقائد الفاسدة المفسدة للعقول والأرواح ناشئة كلها
عن الاعتقاد بهذا النوع من الخوارق الوهمية التي دخلت في الدين من تلك الأقاويل
التي أثبتها مثل التاج السبكي من غير بينة ولا بيان، ولا حجة ولا برهان، إلا
زعم فلان ودعوى فلان؟ بلى، هذا وجه من وجوه تعليل ما نقل في هذا النوع
وهو معقول مقبول وعليه أكثر العقلاء.
وبقي وجه آخر يقول به بعض الناس في بعض الوقائع، ونعني بالناس أهل
العلم والبحث وهو تأثير النفس في النفس ويعبر عنه الصوفية بتأثير الهمة ويثبتونه
لغير المسلمين حتى الوثنيين وهو ثابت عند حكماء اليونان والعرب وغيرهم وحكى
ابن خلدون وقائع منه.
معهود عند جميع الناس رؤية أشخاص يرفعون قنطارًا (مصريًّا) عن
الأرض وقل من رأى بعينه أشخاصًا يرفعون عدة قناطير. فإذا قيل لهؤلاء: إن
قيصر روسيا السابق كان يأخذ كرتين من الحديد كل منهما عدة قناطير ويقذفهما في
الجو واحدة بعد أخرى ثم يتلقى كل واحدة بيدٍ قاذفًا إياها في الجو ويعيد ذلك المرة
بعد المرة زمنًا طويلاً - ينكر أكثر المعروفين بالعقل والروية هذه الرواية؛ لأن في
الناس المولع بإنكار الغرائب التي لا يعهد مثلها كما أن منهم المولع بنقل الغرائب التي
لا يعهد لها نظير.
ويعهد جميع الناس أن يروا حزينًا فتؤثر فيهم حالته حتى يمتعضوا وربما بكى
فأبكى، ويعهد قليل من الناس من تأثير بعض الوعاظ ما توجل له القلوب وتذرف منه
العيون ويحمل كثيرًا من الناس على الرجوع عن حال إلى حال، وعلى الخروج
من العقار والمال، وليس هذا تأثير الكلام خاصة وإنما العمدة فيه على تأثير النفس،
وقد كان بعض الوعاظ الصالحين يعظ فيتوب قوم ويبكي ناس ويموت آخرون
فقيل له: إن فلانًا أفصح منك في التذكير لسانًا، وأوضح بيانًا فما بال كلامه لا
يؤثر، ولا يستتيب ولا يستعبر؟ ! فقال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة!
يريد أن التأثير بالحال، لا بزخرف المقال، وإذا قلت لهؤلاء الناس: إن في الناس
أفرادًا لهم قوة نفسية، وهمة روحانية، إذا وجهوها إلى نفس أخرى فإنها تؤثر فيها
التأثير الذي يريدونه متى صح التوجه - ينغضون رؤوسهم، وينكر أكثر أهل البحث
والروية هذه الرواية، وإذا دام أهل العلم في الغرب على بحثهم في الأمور الروحية
فإن هذه المسألة ثبتت عندهم بالتجرِبة التامة. وكما يكون هذا التأثير في شفاء
المرضى يكون في إحداث الأمراض ولبعض الناس في كل أمة استعداد قوي له إذا
استعملوه زاد قوةً وتأثيرًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
(تتمة الكلام في الشبهة الثانية على القرآن)
(الشاهد الرابع) زعم المعترض أن ما في سورة (المؤمن) من أن موسى
أرسل إلى فرعون وهامان وقارون يدل على أن قارون من قوم فرعون فهو
مناقض لقوله تعالى في سورة القصص: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى
عَلَيْهِمْ} (القصص: 76) .
ونقول في الجواب: إن كون قارون من قوم موسى مجمع عليه عند المسلمين
سلفهم وخلفهم كما قال ابن عطية، وقالوا: إنه من ذوي القربى لموسى عليه السلام
ولكنهم اختلفوا في جهة القرابة، فنقل عن ابن عباس وغيره أنه كان ابن خالته، وقيل
غير ذلك مما لا يعنينا. ولم يفهم أحد من العرب ولا ممن بعدهم من أهل اللغة ما فهم
هذا النصراني في آخر الزمان.
قال تعالى في سورة (القصص) أن رجلاً اسمه قارون كان من قوم موسى
وكان طاغيًا بطرًا بماله، فبغى على قومه بني إسرائيل فأنذروه عاقبة البغي ونصحوا
له بأن يبتغي بماله الدار الآخرة إلى ما يتمتع به من الدنيا فلم يقبل، وكل هذا يدل
على أنه كان كافرًا طاغيًا جاحدًا من قوم سبق لهم إيمان وكتاب.
وقال في سورة (المؤمن) أنه أرسل موسى إلى فرعون وهامان وقارون فذهب
بعض المفسرين إلى أن قارون هذا كان مصريًّا وكان قائدًا لجند فرعون، وذهب
بعض إلى أنه قارون الإسرائيلي، ولكنه ذكره مع فرعون ووزيره هامان لأنه كان
رئيسًا باغيًا مثلهما وهؤلاء الرؤساء الطغاة البغاة هم الذين يحُولون بين الرسل
والأمم، وإنما أرسل الله تعالى موسى لهداية بني إسرائيل كما علم من النص ومن
الواقع، ولما كان بنو إسرائيل مستعبَدين مقهورين لفرعون وكبار أعوانه كهامان
وقارون ابتدأ موسى بدعوة هؤلاء بأمر الله تعالى حتى أراهم آياته وكانت العاقبة
إخراج بني إسرائيل من مصر وإيتاءهم الشريعة.
لا دليل بل لا شبهة على التناقض في قول من القولين. أي مانع يمنع أن يكون
هناك قارونان في زمن واحد أو زمنين مختلفين، فإن قارون قوم موسى ذكر ولم يذكر
في قصته أن موسى نصح له أو دعاه إلى شيء، بل جاء فيها أن قومه هم الذين
نصحوا له: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ} (القصص: 76) ، إلى آخر الآيات
فيجوز بل يقرب أنه كان بعد موسى. ثم أي مانع يمنع أن يتخذ فرعون لنفسه رجلاً
إسرائيليًّا باغيًا فسق عن تقاليد قومه وصار لا يهمه إلا بيع مصالحهم بما ينفع
شخصه، ويجعله عونًا له على الإسرائيليين ويحكمه فيهم لأنه أعلم بدخائلهم، وأدرى
بمقاتلهم؟ أليس من المعهود في كل زمان أن يستعين الذين يحكمون أقوامًا غير قومهم
بأفراد أولئك الأقوام يبيعون مصالح قومهم للحكام الأجانب بالمال والجاه لأشخاصهم؟
فلماذا يستنكر أن يصطنع فرعون لنفسه طاغية من الإسرائيليين يكون واسطة بينه
وبينهم فيما يريد من ضروب الاستبداد والاستعباد؟ ثم إذا فرضنا أنه لم يكن عاملاً
لفرعون ولا صنيعة له وإنما كان أغنى بني إسرائيل وأقواهم سلطانًا وأنفذهم شوكةً
كما تدل عليه سورة (القصص) أفليس هذا مسوغًا لأن يذكر مع فرعون وهامان
وقد استنَّ بسنتهما وجرى على طريقتهما؟ بلى ولكن الذي يتلمس التناقض في القرآن لا يظفر إلا بمثل هذا الخذلان! .
(الشاهد الخامس) زعم أن قوله تعالى في موسى: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ
عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} (غافر: 25) يناقض
قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ} (طه: 38-39) فإن هذا القذف لم يكن إلا هروبًا من أن يقتله قوم فرعون
فدل ذلك على أنهم كانوا يقتلون الأطفال قبل بعثته.
ونقول في الجواب:
أولاً: إن هذه الآية لم تعلل بهذا التعليل، وإنما ذكرت غايتها المقصودة منها
بالنص، وهي قوله تعالى:{يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} (طه: 39) أي
أن الغاية من قذفه في اليم أن يأخذه فرعون ويربيه فيكون من أمره بعد ذلك ما يكون.
وثانيًا: إن الأمر بقتل الأبناء أولاً لا ينافي إعادته ثانيًا لأجل التأكيد والتشديد
عند وجود المقتضي. ومثال هذا حاضر بين أيدينا - نُظار الحكومة المصرية كانوا
نهوا جميع المستخدمين في الحكومة أن يجمعوا مالاً لإعانة سكة الحديد الحجازية أو
يساعدوا الجامعين، وكان ذلك من عدة سنين ثم أعادوا هذا النهي الآن بمناسبة توجه
الناس إلى الإعانة بعد أن أمر السلطان بمطالبة المسلمين كافة بإعانة اختيارية،
أقلها خمسة قروش على الشخص، وأكثرها غير محدود، وقد ذكرت الجرائد هذا
وذاك، فهل يقال: إن النهي الثاني مناقض للنهي الأول؟ كذلك كان فرعون قد أمر
القوابل بأن يقتلن أبناء بني إسرائيل ليقل نسلهم، فلما ظهر موسى ودعاه إلى اتباعه
وإلى إرسال بني إسرائيل معه - أكد الأمر الأول وأعاده وأمر بما هو أشد منه وهو
أن يُقتل الأبناء جهرًا. هذا الأمر موافق لذلك لا مناقض له، فإن التناقض أن تكون
إحدى القضيتين موجبة والأخرى سالبة، كقول يوحنا في الفصل الخامس من إنجيله
حكاية عن المسيح عليه السلام: (31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا)
مع قوله في الفصل الثامن: (14 أجاب يسوع وقال لهم: وإن كنت أشهد لنفسي
فشهادتي حق) ! أرأيت أيها القارئ المنصف لو كان يوجد في القرآن أمثال هذا
التناقض ماذا كان يقول ويكتب هؤلاء الجاحدون الذين يسمون الحكاية عن الأمر
بمعنى الأمر تناقضًا ويسمون اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب توافقًا يدل
على الألوهية؟ !
(الشاهد السادس) زعم المعترض أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) وقوله عز وجل:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) مناقضان لقوله
تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) . وقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (التوبة: 73) وقوله تبارك اسمه: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَاّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193) .
ونقول في الجواب: إن للمعترض بعض العذر إن لم يفهم هذه الآيات حتى توهَّّم أنها متناقضة، وإن كانوا يقولون: إن الذي كتبها أو صححها هو
أعلم النصارى بالعربية (الشيخ إبراهيم اليازجي) ، فإن هؤلاء ينظرون في كتاب
الله ليعترضوا لا ليفهموا ولو ابتغوا الفهم لفهموا، على أن منهم من يفهم ويكابر
نفسه ويماري الناس، فيقول غير ما يعتقد.
معنى الآيات ظاهر، وإن كان للمفسرين في فهم بعضها وجهان، فأمّا الآية
الأولى فمعناها أن كل أمة من الأمم المؤمنة بالوحي والأنبياء لا تكون آمنة ناجية
بمجرد انتمائها إلى دين النبي الذي بُعث فيها ولكن الناجين منها هم الذين يصح
إيمانهم بالله وباليوم الآخر ويكون على وجه الحق ويعملون الصالحات. وهذا حكم
لا يعارض كون الدين اختياريًّا لا إكراه فيه ولا إلزام، ولا يعارض الإذن بمحاربة
المعتدين من الكافرين والمنافقين ولا البغاة من المؤمنين، فإن الله تعالى أمر بقتال
الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.
وأما الآية الثانية فمعناها أن الدين يقوم بالدعوة، والدعوة تؤيد بالحجة وبيان
الرشد في الإيمان من الغي في الكفر.
وأما الآية الثالثة فمعناها أن الإسلام هو دين الأنبياء الذي كان عليه إبراهيم
وموسى وعيسى وغيرهم ولا يقبل الله تعالى دينًا غيره في الآخرة، ولم يكن يعني من
الإسلام الذي دعي إليه الناس في القرآن ما سيكون عليه الطوائف الذين يسمون
أنفسهم مسلمين كيفما كانت عقائدهم وتقاليدهم حتى المجسمة والباطنية والنُّصَيرية،
وإنما معناه الدين الذي روحه إسلام الوجه (القلب) إلى الله تعالى والإخلاص له في
العبادة والطاعة كما قال: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} (آل عمران:
20) وقال: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ} (الحج: 78)، وقال:
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 132) ، فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن المراد بالإسلام
دين الأنبياء من إبراهيم إلى محمد عليهم السلام. ولقد كان الأنبياء من قبل إبراهيم
على دينه ولكن إبراهيم أقدم الأنبياء الذين لم يمت ذكرهم ولم ينقطع التوحيد من
ذريته، وهذا المعنى مطابق لمعنى الآية الأولى مطابقة تامة.
وأما الآية الرابعة الآمرة بجهاد الكفار والمنافقين فليس فيها كلمة تومئ إلى أن
الجهاد لأجل الإكراه على الدين، كيف والمنافقون كانوا متلبِّسين بالدين في الظاهر
وكان النبي يعاملهم معاملة المسلمين، حتى إن المفسرين قالوا: إن الجهاد لا يصح هنا
إلا إذا كان بمعنى المحاجّة بالبرهان، فإن الجهاد في اللغة ليس بمعنى القتال وإنما هو
بذْلُك الجهد في مقاومة شيء، ولذلك أُمرنا بجهاد أنفسنا أي بذل الجهد في مقاومة
شهواتها. ويصح أن يكون الأمر بجهاد الكافرين والمنافقين معًا بمعنى مقاتلتهم إذا
كانت الآية نزلت في مثل غزوة الأحزاب التي اتحد فيها طوائف المشركين مع
اليهود والمنافقين من الفريقين على استئصال المسلمين، وفيها هدد الله المنافقين
بقوله: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب: 60) .
نعم، إن القتال شرع في الإسلام لمقاومة المعتدين وتأمين المؤمنين الذين كانوا
يُفتنون عن دينهم في أنفسهم وأهليهم ويدل على كونه مأذونًا فيه للضرورة الآيات
الواردة فيه. أول هذه الآيات نزولاً آية السيف وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) ولا تنس قوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .
وأما الآية الخامسة وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) فهي مطابقة لهذه الآيات والمعنى الذي قلناه في حكمة
الإذن بالقتال، أي قاتلوا هؤلاء المعتدين عليكم لأنكم مؤمنون، والذين يفتنونكم عن
دينكم ليردوكم إلى دينهم إن استطاعوا حتى تزول هذه الفتنة والاعتداء لأجل الدين
ويكون الدين خالصًا لله لا يكره عليه أحد ولا يفتن عنه أحد، أي لا ينتفي الإكراه
بالإلزام به والإرجاع عنه وتكون الدعوة إليه أمينة لتظهر الحجة. هذا هو معنى
الآيات لا يقبل تأويلاً وهي ملتئمة يؤيد بعضها بعضًا.
(الشاهد السابع) زعم المعترض أن قوله تعالى حكاية عن المسيح:
{وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياًّ} (مريم: 33) مناقض
لقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النساء: 157) إلى قوله: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ} (النساء: 158) والجواب أن الله تعالى ذكر في آية أخرى أن الرفع
يكون بعد الموت وهي قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) فنفي القتل والصلب لا يستلزم نفي الموت؛ بل جرى عرف
اللغة على أن لا يعبر بالوفاة والموت عن القتل والصلب بل عمن يموت
حتف أنفه.
وبهذا وما قبله تبين أن شواهد المعترض على تعارض القرآن وتناقضه
ظاهرة البطلان ويبعد أن يكون مثل ذلك المؤلف (الإنكليزي) والمصحح
(الشامي) والناقل (القبطي البروتستنتي) معتقدين بها وإنما هم سيئو القصد
يحبون أن يشككوا عامة المسلمين في دينهم ليجذبوهم بحبال الأوهام الدنيوية إلى
ذلك الدين الذي يضم الشاكّين والملحدين، ويؤلف منهم عصبية لمقاومة المسلمين!
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
(1)
الإنسان يحب ذاته - قضية يؤيدها الحس وبها تعلل كل أعماله وكل
محباته، ومن محبته لذاته تحمُّله الأتعاب العظيمة والآلام الشديدة في العاجل لأمله أن
تبقى ذاته وتنال خيرًا في الآجل، وهذا أعظم الأمثلة لمحبة الإنسان ذاته.
(2)
حب الذات في أصله طبيعي ونافع - هذه المحبة تخلق مع الإنسان من
قبل أن يعرف نفسه وغيره، ومن قبل أن يعرف النافع والضار، والدليل على ذلك
أنه منذ يبدأ أن يعرف النافع والضار من طريق الحس يبدأ أن يحب مرضعته قبل
سواها. وهل يقتدر أحد أن يعلل محبة الطفل لمرضعته بشيء غير طبيعي؟ وهل
ذلك الشيء الطبيعي أمر غير محبة الإنسان ذاته بحسب الجبلة؟ ولا ريب في أن
هذا الشيء الطبيعي نافع لازم. أما كونه لازمًا فقد يدلنا عليه كونه طبيعيًّا؛ لأنه
من المجرب عند قراء سنن الوجود أن الشيء متى كان وجوده لازمًا من اللوازم
العامة كان طبيعيًّا. وأما كونه نافعًا فلأنه الأساس الأعظم في حفظ الشخص وبقاء
النوع. وستأتون على تفصيل هذا الإجمال مرات كثيرة. ومن المجرب المحقق أن
محبة المرء ذاته تنمو فيه على التدريج منذ طفوليته إلى أن تكمل رجوليته. ونفعها
ينمو على هذا الوجه وأعظم آثارها شيئان طبيعيان متضادان تنشأ عنهما آثار
متضادة أيضًا، هما: شهوة تجذب، وغضب يدفع.
(3)
ذات غيرنا كذاتنا، فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا - فحب
الذات له حدود قل أن نجد قضية مستغنية في ذاتها عن قيود وشروط فقولنا (محبة
الذات نافعة) قضية لا تسلم من الجرح إلا إذا ساعدناها وقيدناها بقيد. وهذا الشرط
مشروح بكلمة (ذات غيرنا كذاتنا) وتوضيحه أننا إذا لم نضع لذاتنا حدًّا لا يضع
غيرنا لذاته حدًّا. فما نطلبه لذاتنا يطلبه غيرنا لذاته. ويظهر من هذا أن محبة
الذات لا تكون نافعة إلا إذا كانت تابعة لنظام وواقفة عند حد وينتج ذلك ما ترى.
(4)
إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا. كيف لا وجميع ما
نسميها شرورًا إنما منشؤها مجاوزة الحدود في محبة الذات؛ لأنه لا معنى للشر إلا
الاعتداء على الحقوق، وهل هذا الاعتداء شيء غير مجاوزة الحدود؟ ولا فرق
بين أن تكون أنت المعتدي على غيرك لأجل ذاتك وأن تكون يعتدي عليك غيرك
لأجل ذاته، فالأول شر لأنك لا تسلم فيه من جزاء ما، وقد يكون الجزاء طبيعيًّا
كجزاء الشرِه، والثاني شر لأنك فقدت حقك لأجل شره غيرك فيه.
الصنعة بديعة كاملة أتقنها حكيم عليم قد جعل لكل شيء سنة، ناموسًا،
طبيعة خاصة، نظامًا (قل ما شئت أن تقول وسمِّ ما أردت أن تسمي، لا تناقش
باحثًا في لفظ يؤدي إلى معنى يؤديه لفظك أو قريبًا منه) مزج ما تبتغيه النفس بما
تنفر منه، وعلمها السبل في الوصول إلى المبتغَى، وجعل للسبل حدودًا عن يمين
وشمال. فمن تعدَّى الحدود فاته المقصود. وربما وقع في المكروه. ومن لم يتعدها
فاز ونجا، وتم له الرضى. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) .
(5)
إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود. إذا كان لكل داء دواء
فلا علاج لداء الشرور إلا محبة الناس محبة تابعة لنظام. وهذا العلاج لا يتخلف
نفعه أي أنه متى استعمل ينفع، فنحن نستطيع أن نقول: إن هذا العلاج يستأصل
الداء لمن استعمله ولكن لا نستطيع أن نقول: إنه يعم استعماله وتستأصل الشرور
كلها. وليس فيها مستحيلاً عقلاً ولكن التجربة تجعلنا لا نطمع فيه على أننا إذا لم
نرجُ أن تستأصل الشرور نرجو أن تخف ونجتهد في أن نعلّم الناس محبة الناس؛
كذلك كان الناس من قبل فهدى العلم بعضًا ببعض، كما أضل الجهل بعضًا ببعض،
ولا يزال العلم يجاهد الجهل إلى أن ينصره الملك القدوس السلام على أيدي رجاله
الأعلام.
(6)
إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا. من لطف العناية الأزلية أن
كان استعمال هذا العلاج سهلاً إذ ثبت في الفطرة أن من لوازم محبة الذات محبة
الغير، فلا جناح علينا أن كان حب غيرنا لأجل ذاتنا؛ لأن هذا هو العلاج في
محبة الغير وهذا الثاني هو العلاج في تخفيف داء الشرور، ولكن الجناح علينا إذا
لم نتبع نظامًا في محبة الذات ومحبة الغير، وهنالك الشر.
(7)
بغض الذات مرض. يظهر مما تقدم أن لمحبة الذات نفعين: أحدهما
يرجع إلى الذات والآخر يرجع إلى الغير. وينتج أن لبغض الذات ضررين:
أحدهما للذات والآخر للغير. وإذا ثبت هذا فلا شك في أن بغض الذات مرض
مشوه للفطرة السليمة. وشائن لصاحبه يؤديه إلى نوع رديء من أنواع الرذائل وإثم
كبير من الآثام التي يناقش عليها المجتمع.
مبغض ذاته بالطبع يبغض غيره، وتكثر حيرته، يعترض على الصانع
الحكيم في صنعته، وعلى الإنسان العليم في علمه، عاطل معطل، طائش مطيش،
غر مغرر، مخبول مخبل، ناقم على الأحياء، متأفف من الحياة، جانٍ على
الاجتماع، قليل الرغبة، قليل الرهبة، قليل الحياء، قليل المروءة، قليل الغيرة،
عديم الهمة، عديم النشاط، عديم الفلاح، عديم السعادة. وإن شئت أن تعرف
مبغضي ذواتهم فأولئك هم مخالفو الفطرة التي فطرت عليها النفوس، وأذعنت
لحكمتها العقول، أقول هذا ولا أزيدكم شرحًا لتقدحوا زند ذكائكم، وتعلموا من
أشرنا إليهم بصفاتهم متى رأيتموها في إنسان. وزيدوا عليهم طوائف المستعبدين.
هذا وقد نسأل ويقال لنا: لماذا نرى بعض الحكماء قد يوصون ببغض الذات
ويأمرون بمنابذة اللذات المشروعة وإيثار الآلام؟ فالجواب:
(8)
قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور، كما إذا
كان امرؤ لا يملك أن يتزوج ويريد أن يستعمل قوة باهه في غير ما خلق لأجله
كوطء بهيمة أو دبر أو استمناء بيد أو تسلط على عِرض فيه حق الغير - يؤمر في
هذه الحالات أن يجوّع نفسه لتضعف قوة باهه. فإن فسرت تجويع نفسه ببغض ذاته
وسميت هذا البغض المتعمد لحكمة مرضًا، قلنا: إن هذا المرض لمثل هذه النفس نافع
* وربما صحت الأجسادُ بالعللِ *
وإن سميت هذا التجويع حمية أو علاجًا فلا إشكال، وكما إذا كان يكنز النقود
الكثيرة لا يتاجر بها ولا ينفق منها على نفسه، يؤمر أن ينفقها على غيره ولو افتقر؛
لأن حاله قبل الإنفاق على غيره هي عين حال الفقراء فالفقر بعد الإنفاق قد تسلم
به نفسه من شر عظيم مؤلف من الجهل وبغض الغير وهو كنز تلك الحجارة التي لا
معنى لها إلا المبادلة وتسهيل معاملات الناس. وكما إذا كان كثير الاعتداء على
النفوس بقتلها ويؤذيها، يؤمر بالتوبة وتسليم النفس للقصاص. وهل من معنى لتسليم
النفس للقصاص غير بغض الذات؟ وليس يرتاب أحد بأن من كان كثير الاعتداء
على النفوس إذا مرض ببغض الذات إلى درجة يسلم بها نفسه للقصاص كان مرضه
نافعًا له ولغيره. وأمثلة هذا كثيرة قيسوا على ما ذكرت ما يظهر لكم.
(تنبيه مهم) إذا قلنا: إن الله أحب إلينا من أنفسنا، يجب علينا أن نفهم
معنى هذا الكلام حتى نكون على بينة وصدق مما نقول، وإلا كان كلامًا يراد به
تزكية النفس بمجرد إيراد حروفه. وسيأتي نحوه من تفسير هذا الكلام أو تفسيره،
ولكن أحببت ههنا أن أبادر إلى كلمة واحدة من تفسيره قد تغني الأذكياء. وما هذه
المبادرة إلا لأن هذه الكلمة من علائق الصدد: إن معنى محبة الله اتباع الحدود
ورعاية حقوق الغير وبذل وسع النفس في هذا الشأن وكل فروعه. وليس من
بغض الذات تجريعها الصبر في هذه السبيل الحميدة البالغة بها أسنى المقامات
وأسمى السعادات. بل هو من محبتها فإذا أحببت معلمك أكثر من محبتك لنفسك لا
تكون أبغضت ذاتك بل أحببتها حبًّا جعلك تحب كل ما يرقيها ويصلح شأنها حبًّا
شديدًا.
(9)
متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة.
هذه المسألة كنتيجة لما تقدم وكفاتحة لما يأتي لأن كل علوم الناس وأعمالهم
وأقوالهم مقصود بها تحصيل السعادة التي هي فائدة هذه الحياة عند القائلين بوجود
السعادة. وعلم النفس في انفرادها واجتماعها هو العلم الوحيد الذي يهدي الحائر في
هذه المهامه.
وعندنا أن السعادة موجودة ممكن تحصيلها، ومن السعادة اعتقاد وجودها وهذا
المبحث المهم يحتاج فضل بيان، أما ههنا فأكتفى بتقرير هذه القاعدة لتحفظ في الذهن
وتتوجه النفس إلى شرحها وهي: (متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم
كانت السعادة) لأن سعادة النفس في أحوال ثلاث (تصورها وطلبها وفوزها)
فمتى كان التصور صافيًا سليمًا قويًّا التذت النفس وانبعثت للطلب ومتى كان الطلب
مشروعًا نظاميًّا التذت النفس وأشرفت على الفوز، فإن فازت فذاك هو وإن لم تفز
فسعادتها أنها لم تقصر في الطلب، على أن الطلب في نفسه لذيذ وفي الأكثر يفيد
فائدة ما مما تبتغيه النفس إذا جدَّت وثبتت.
وقلّ مَن جدّ في أمر يحاوله
…
ولازم الصبر إلا فاز بالظفر
هذا والفكر السليم هو الذي يميز بين الخير والشر والنفع والضر.
…
...
…
...
…
...
…
... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أحد طلبة الطب بمصر
تحريم الخنزير ونجاسة الكلب
حضرة الأستاذ الفاضل / صاحب مجلة المنار الأغر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(وبعد) فإني أتيت بهذه المقالة راجيًا نشرها في مجلتكم الغراء، حتى
تتبين للناس الحكمة في اعتبار الشريعة الإسلامية أن الكلب نجس وفي تحريمها
لحم الخنزير معتمدًا فيما أقول على المباحث العلمية الطبية الحديثة التي أثبتتها
التجارب الحسية حتى لا يبقى عند أحد ريب في صحة ما أتت به هذه الشريعة
الغراء والعمل بموجبه، فإنها أحكم من أن تضع حكمًا عبثًا وأجلُّ من أن تسن قانونًا
لا فائدة للناس فيه، ومهما خفي سببه في بادئ الأمر فلا بد أن تتجلى فائدته عاجلاً أو
آجلاً، فأقول:
لتحريم لحم الخنزير أسباب كثيرة أجلها ثلاثة قبل أن أتكلم على هذا السبب
الأول يجب أن أقدم مقدمة في (علم الديدان) حتى لا يعسر على أحد فهم ما أقول.
(الأول ومقدمته)
قد يوجد في أمعاء الإنسان عدة أنواع من الديدان قلّ أن يخلو منها أحد، ومضار
هذه الديدان متفاوتة فمنها ما ضرره عظيم ومنها ما ضرره حقير ومن هذه الأنواع
ما يسمى بالديدان الشريطية. أذكر منها الدودة الوحيدة بتفصيل يسير لأن لها صلة
بموضوعنا وأشير إلى غيرها فيما بعد. تسمى هذه الدودة (تينيا سوليم) وهي كلمة
يونانية ومعناها (الشريط الوحيد) سماها الواضع بهذا الاسم لظنه أنه لا يوجد منها
في الأمعاء إلا واحدة فقط وهذا خطأ فقد يوجد منها أحيانًا اثنتان أو ثلاث، وطولها
يختلف من 7 أقدام إلى عشرة أقدام وهي مقسمة إلى عدة أقسام تبلغ 850 وفي
الأقسام الخلفية توجد أعضاء التناسل فتجد أن كل قسم منها فيه أعضاء الذكر
والأنثى، فإذا تممت هذه الأعضاء وظيفتها وتكونت البويضات في داخل الرحم
انمحت الأعضاء إلا الرحم فتبقى البويضات محفوظة فيه فإذا سقطت هذه الأقسام
المشتملة على البويضات من دبر الإنسان وقت التخلي كما يحصل كثيرًا لمن كان
مصابًا بها ووصلت هذه البويضات إلى معدة الخنزير أثناء تقممه القاذورات وأكلها
ذاب قشرها بواسطة العصير المعدي وخرجت الأجنة فتثقب الغشاء المخاطي للمعدة
وتصل إلى أوعية الدم الذي يحملها إلى العضلات وغيرها وهناك تنتقل إلى طور
جديد تصل به إلى تمام نموها. وهذا الطور هو أن تكوّن هذه الأجنّة حويصلات
صغيرة واحدها قدر حجم الحمصة في داخل اللحم وبعد ذلك يبرز في داخل هذه
الحويصلات هنات مخروطية الشكل، كل هنة منها رأس لدودة جديدة فإذا أكل
إنسان هذا اللحم خرجت هذه الرؤوس من حويصلاتها وعلقت بالغشاء المخاطي
للأمعاء وكونت كل واحدة دودة طويلة تامة النمو وتسبب من وجودها في الأمعاء
أعراض كثيرة فيحصل للمصاب بها مغص أو قيء وربما صار نَفَسه كريه الرائحة
ويصاب بالإقهاء (فقد شهوة الطعام) أو النهم الشديد وقد يصاب بآلام في رأسه أو
دوار أو إغماء ويشعر بضعف عام في جسمه وتضطرب أفكاره وأحيانًا تنتابه
نوبات صرعية وتشنجات عصبية قوية. وليس هذا كل الضرر الذي ينشأ عن هذه
الدودة، بل هناك خطر آخر عظيم وذلك أن بعض الأقسام قد يتلف وهو في الأمعاء
فيجرح البويضات مع البراز، فإذا أصابت ملابسه أو يده أو غير ذلك ووصلت إلى
معدته أثناء أكله أذاب العصير المعدي قشورها وخرجت الأجنة وتطورت بذلك
الطور الذي ذكرناه في الخنزير فتتكون الحويصلات المذكورة سابقًا في أعضائه،
وكثيرًا ما تصيب عينه فتتلفها أو بعض أجزاء مخه فتفسدها وتبطل عملها،
فيحصل له شلل في بعض أعضائه أو غير ذلك مما يتسبب عن إصابات جوهر المخ
وقد تصيب أعضاءً أخرى فتعمل فيها ما عملته في العين والمخ ويصير الإنسان منبعًا
لعدوى غيره فإذا صافح آخر وانتقلت إليه البويضة تعمل فيه ما عملته في الأول.
وكثيرًا ما يتخلى أهل الأرياف وغيرهم في المزارع أو في مياه الشرب فتنقل بسبب
ذلك الحويصلات إلى أناس كثيرين، ولولا الخنزير لما أصاب الإنسان شيء من
ذلك فإنها لا توجد في حيوان يؤكل سوى الخنزير، وقد توجد في الكلب أيضًا
والقرد.
واعلم أنه لا توجد دودة تتم طور الحويصلات في الإنسان سوى هذه وأخرى
نذكرها فيما بعد وحويصلات هذه الدودة تقاوم الحرارة في درجة 60 سنتجراد نحو
نصف ساعة على الأقل إذا كانت توجد في داخل لحم الخنزير وهو موصل رديء
للحرارة فإذا غلي الماء الذي حوله أثناء الطبخ حتى صارت درجته 100 فلا تصير
درجة ما في داخل اللحم 60 أو 70 إلا بعد زمن ثم ترتفع شيئًا فشيئًا حتى تصير
100 ولهذا تجد أن كثيرًا من الأوربيين مصابون بها وذلك لصعوبة قتلها بالحرارة
وكلما ازداد الإنضاج للثقة بقتلها عسر هضم اللحم لتجمد المواد الزلالية.
هذا ولما كان اختيار أخف الضررين هو الواجب عند الاحتياج إلى ارتكاب
أحدهما - ولا يخلو لحم من مضار - وجب أن نختار ما هو أخف أذى، قلت ذلك
لأن الحيوانات الأخرى المأكولة كالضأن أو غيره لا تخلو من ديدان أخرى شريطية
كالسابقة. من ذلك دودة (تينيا ساجنيتا) التي توجد حويصلاتها في البهائم التي تؤكل
ولكن هناك فرقًا بين هذه وتلك لأن الحويصلات في هذه إذا وصلت إلى معدة
الإنسان وتكونت منها الدودة التامة وفيها البويضات فلا يمكن إذا ازدرد الإنسان
البويضات ثانيًا أن تكوّن طور الحويصلات فيه مطلقًا؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا دودة
الخنزير وبذلك يكون الإنسان مطمئنًا على عينه وعلى مخه وغير ذلك من الأعضاء
الرئيسة ولا يكون منبعًا لعدوى غيره وذلك لأن هذه البويضات يلزم لها حيوان آخر
غير الإنسان حتى تتم طور الحويصلات فيه وبعد ذلك تنتقل منه إلى الإنسان فتكون
في أمعائه الدودة التامة البالغة النمو.
وفي الحقيقة إن أعظم الأخطار هو تكوّن الحويصلات في أعضاء الإنسان
الرئيسة وأما في الأمعاء فربما لا ينشأ عنه شيء مضر به وإذا حصل بعض
الأعراض التي ذكرت كالقيء والإسهال والصداع فإزالة الدودة بكثير من الأدوية
سهل جدًّا، ولكن إزالتها وهي في طور الحويصلات من المخ وغيره عسير بل
مستحيل. ويا ليت هذا هو ضرر الخنزير الوحيد؛ بل هناك مضار أخرى فاسمع
الغرائب الآتية:
(الثاني)
كثيرًا ما يأكل الخنزير الفيران الميتة التي كثيرًا ما تكون عضلاتها محلاًّ لأجنة
دودة تسمى (تريكينا اسبايرالس) أي الشعرة الحلزوينة؛ لأنها دقيقة جدًّا وملتوية
على شكل حلزوني فإذا وصل هذا اللحم إلى معدة الخنزير هضم وخرجت
الأجنة من أغشية الأمعاء المخاطية وتصل إلى عضلات الخنزير فإذا أكلها إنسان ولم
يكن قد عرضها بالطبخ لحرارة كافية لإماتتها نمت في أمعائه إلى أن تلد أجنة كثيرة
تنفذ إلى عضلات الإنسان وخصوصًا عضلات التنفس وكذلك القلب، وحينئذ
يصاب بمرض شديد فترتفع حرارته ويعتريه إسهال وقيء وتلتهب جميع عضلاته
فلا يقدر على تحريكها ويصير لمسها مؤلمًا فلا يمكنه أن يمضغ أكله فيمتنع عنه
ويصعب عليه أن يتنفس لالتهاب عضلاته، ولا يقوى على تحريك عينيه وبعد ذلك
يحصل له ارتشاح في جميع جسمه فيرم وتسرع حركات نبضه وحركات تنفسه
بطيئة جدًا حتى يموت! وهذه الأعراض لا يمكن علاجها مطلقًا؛ إذ لا يمكن إزالة
هذه الديدان من عضلاته بعد تحصنها فيها.
وهذا المرض كثيرًا ما يحصل في البلاد الأوروبية بسبب أكل هذا اللحم
المشئوم ولا يتسبب عن أكل لحم سواه كالضأن وغيره لأنها لا تأكل الفيران الميتة
إلا إذا أُلقي في غذائها أو وقع فيه بالاتفاق وأكلته بالتبع له، فحينئذ تصاب بما
يصاب به الخنزير، ولكن هذا نادر جدًّا، والنادر لا حكم له، بخلاف الخنزير؛
فإن حبه للفيران الميتة يوقعه في ذلك مرارًا عديدة، ولعل هذا السبب أيضًا هو أحد
الحِكَم في تحريم لحوم الحيوانات التي تأكل اللحم لأنه عرضة للإصابة بهذا المرض
كثيرًا.
(الثالث)
لحم الخنزير هو أعسر اللحوم هضمًا باتفاق، وذلك لأن أليافه العضلية
محاطة بخلايا شحمية عديدة أكثر من الحيوانات الأخرى المباح أكلها وهذه الأنسجة
الدهنية تحول دون العصير المعدي فلا تسهل عليه هضم المواد الزلالية للعضلات
فتتعب المعدة ويعسر الهضم ويحس الإنسان بثقل في بطنه ويضطرب القلب؛ فإن
ذرع الآكل القيء وإلا تهيجت الأمعاء وانطلق البطن بالإسهال فمن لم يتعود أكله
تعب منه كثيرًا ومن تعوده وكان قوي المعدة كان الأولى له صرف قوتها في الأغذية
الجيدة النافعة وإن لم يكن قوي المعدة ناله من شر هذا اللحم ما يستحق.
والخلاصة:
أن من ابتعد عن أكله أمن من الإصابة بالدودة الوحيدة أو حويصلاتها ولم
يكن سببًا في عدوى غيره وسلم من الإصابة بمرض دودة الشعرة الحلزونية، الذي
ربما فاق الحمى التيفودية، فإنه من أصابه لا يرجى شفاؤه ولا بد من موته - وحفظ
معدته من التعب وعسر الهضم وأسباب القيء والإسهال وضعف تغذية الجسم إلى
غير ذلك من المضار التي سبق شرحها.
أما اللحوم الأخرى فإنها أسهل هضمًا ولا يتسبب عنها عادة مرض الشعرة
الحلزونية ولا حويصلات في أعضائه الرئيسة يتلفها وإن نشأ عنه دودة شريطية
فعلاجها سهل ولا تحدث أعراضًا مهمة. فعلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين يجب
أن نقول: لا تأكلوا لحم الخنزير فإنه رجس وكلوا غيره مما أبيح شرعًا.
الدين الإسلامي لم يأتِ لإصلاح الروح فقط بل لإصلاح الروح والجسم معًا
فأتى بما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا وأنفسنا وأبداننا ولم يترك ضارًّا لأحدهما إلا ونبه
عليه تصريحًا أو إجمالاً على حسب شيوعه وعدمه بين الناس، فلو ترك التكلم في
المأكولات ونحوها لما كان مرشدًا للأنام في جميع أحوالهم الضرورية، فلو لم يحرم
لحم الخنزير مثلاً لمضى زمن طويل حتى يهتدي الناس إلى ضرره. ولو اهتدى
إليه بعض الأمم لما علمه فيها إلا الخاصة فقط ويمضي الزمن الطويل حتى تعلمه
العامة ولو علمته العامة لما قويت على ترك ما اعتادته وعهدت اللذة فيه بخلاف
الأمر الديني فإن كل الأمم المؤمنة به تخضع له في أقرب وقت، تخضع له العامة
كما تحترمه الخاصة ويعمل في نفوس الجميع ما لا يعمله قول الخطباء ولا نصح
النصحاء؛ ولذلك تجد أن شرب الخمر في أوروبا شائع بين سائر الطبقات وكلٌّ
يعلم ضرره ومع ذلك لا يمتنعون عنه لا بقول خطيب ولا بقول عالم، فكم خطبت
الخطباء ونصحت العلماء ولكن أين مَن يسمع؟ ! فلو لم يكن للدين التأثير الأقوى
في أهل الشرق لفاقوا أهل الغرب في الشرب وسبقوهم في تربية الخنزير وأكله
ولولا أنهم أخذوا يقلدونهم الآن لما وجدت بينهم شارب خمر ولا آكل خنزير إلا
نادرًا ولَمَا سمعت بمرض مما ينشأ عنهما فيهم. فأي إنسان يمكنه الآن أن يعترض
على الدين ويقول: (ما له يتكلم في المأكول والمشروب؟ !) وفاته أنه لم يأتِ إلا
للإصلاح العام في كل ما يمكن إصلاحه. فلم يتكلم في العقائد فقط بل في المعاملات
أيضًا وكما أمر بإصلاح القلب وطهارته أمر بحفظ صحة الجسم ونظافته، فأنعِمْ به
من دين جمع فأوعى وأحكِمْ به من صراط سوي مستقيم.
بقي علينا أن نتكلم في نجاسة الكلب، لا نقول: إن السبب في ذلك هو أنه
عرضة للإصابة بداء الكلب فإن هذا الداء لا يصاب به الكلب وحده بل قد تصاب به
الهرة والبقرة والحصان وغيرها، ومتى أصيب الكلب به عرفه الناس وقتلوه فإنه
متى أصيب به شل سريعًا عن الحركة وسهل قتله ومجرد لمسه في هذه الحالة لا
يعدي بل لا بد من العض ودخول لعابه في جلد الإنسان. فلماذا يعتبر الكلب نجسًا في
جميع أحواله ولا تعتبر البقرة والحصان كذلك؟
السبب في ذلك ما يأتي: في أمعاء أكثر الكلاب دودة شريطية صغيرة جدًّا
طولها 4 ملليمترات تسمى (تينيا إيكينوكوكس) فإذا راث الكلب خرجت البويضات
بكثرة في الروث فيلصق كثير منها بالشعر الذي بالقرب من دبره فإذا أراد الكلب أن
ينظف نفسه بلسانه كما هي عادته تلوث لسانه وفمه بها وانتشرت في بقية شعره
بواسطة لسانه أو غيره، وهذا ما يحصل في كل نوبة وبتكراره يصير جميع سطح
جسمه ملوثًا بهذه البويضات كما شوهد ذلك بالنظارات المكبرة.
فإذا ولغ الكلب في إناء أو شرب ماءً أو قبَّله إنسان كما يفعل الإفرنج أو لمس
جسده بيده أو بلباسه علقت بعض هذه البويضات بتلك الأشياء وسهل وصولها إلى
فمه أثناء أكله أو شربه فتصل إلى معدته، وتخرج منها الأجنة فتثقب جدر المعدة
وتصل إلى أوعية الدم فتصل إلى أعضاء الجسم الرئيسة وغيرها وهناك تتم طور
الحويصلات، ولكن هذه الحويصلات كبيرة فتسمى هنا أكياسًا وهي تصيب الكبد
كثيرًا وأحيانًا تصيب الأعضاء الأخرى كالمخ والقلب والرئة، ووجود هذه الأكياس
يُحدث أعراضًا عديدة فما يصيب منها الكبد قد يولد استسقاءً زقيًّا بضغطها على
الوريد البابي أو يرقانًا وقد يتقيح السائل الذي في قلب الكيس ويولد خراجًا في الكبد
وربما انفتح هذا الخراج في تجويف البريتون فينشأ عنه التهاب بريتوني حاد
فيموت الشخص بسببه وإذا انفتح في تجويف البلوري تسبب عنه التهاب مع
انسكاب. إلى غيره ذلك من المضار، وإذا حصل هذا الكيس في المخ نشأ عنه صداع
شديد وقيء متوالٍ وفقد شعور وإحساس وتشنجات وشلل بعض الأعضاء على
حسب موضعه من المخ وإذا أصاب القلب ربما كان سببًا في تمزقه فيموت الشخص
في الحال.
كل ما قلناه ليس تخيلات شعرية ولا تصورات وهمية؛ بل هي أشياء شاهدها
أطباء أوربا في بلادهم وعلموا سببها بالحس والمشاهدة. ونصحوا للناس بالابتعاد
عن الكلب ولكن أين مَن يسمع ولا أمراً دينيًّا يعتقد عندهم، فينهاهم؟
هذا ولما كان تمييز الكلب المصاب بهذه الدودة من غيره عسير جدًّا لأنه
يحتاج إلى زمن وبحث دقيق بالمنظار المكبر الذي لا يعرف استعماله إلا قليل من
الناس - كان اعتبار الشارع إياه نجسًا هو عين الحكمة والصواب، فتبتعد الناس عنه
وتأمن من شره.
فالحمد لله الذي جعل ديننا هاديًا لنا في جميع أمورنا وأيده ويؤيده كل يوم
بالبراهين الحسية حتى يتضح للناس أن الدين عند الله الإسلام ويظهر تأويل قوله
تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
…
...
…
...
…
...
…
... م. ت. ص
…
...
…
...
…
...
…
... أحد طلبة الطب بمصر
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(ميزان الأفكار)
كتاب في مهمات القوانين المنطقية وضعه (أحمد أفندي الهادي المقصودي)
أحد علماء قزان (روسيا) بأسلوب جديد في اللغة العربية، وترتيب وتبويب لم يعهد
في كتبها المنطقية، وأدخل فيه فوائد ومسائل ليست من هذا الفن ولكنها تتصل بنسبه،
وتدلي بسببه، وترغب فيه الباحثين، وتزيد نشاط المشتغلين. فقد أصبح المنطق في
العلوم العربية شبيهًا بالأعضاء الأثرية، تُقرأ مسائله، وتهمل في العمل تعاريفه
ودلائله؛ لأن العلوم العقلية التي وضع لها قد انطوى بساطها وتقلص ظلها.
بدأ المؤلف كتابه بتمهيد عنوانه (علم الروح وعلم المنطق) وبين بعده فائدة
المنطق وكونه فطريًّا في الإنسان، ووجه الحاجة إلى تعميمه وذكر أشهر علمائه
القدماء من اليونان والعرب والمتأخرين من الإفرنج، ثم تكلم في مقدمة الكتاب عن
الوجود والعدم والواجب والممتنع والممكن والجوهر والعَرَض ومقولات الأعراض
والعناصر والمواليد والحواس الظاهرة والباطنة والعلم وتحصيله بالتفكر والاستدلال
ثم انتقل إلى الدلالات، ومباحث الألفاظ ثم إلى سائر المباحث وجاء فيها بضروب
من التقسيم والبحث غير معهودة إلا في كتب الإفرنج. فالكتاب جامع بين المنطق
القديم والمنطق الحديث.
وقد طبع المؤلف كتابه وجعله ذكرى لمرور عشرين سنة على خدمة (إسماعيل
بك الغصفري) محرر جريدة (ترجمان) في بلدة (باغجه سراي) الروسية. فنثني
على المؤلف ونهنئ رصيفنا الكامل (إسماعيل بك) بلسان المنار (كما هنأناه بلسان
البرق) على خدمته للمسلمين بجريدته ومطبوعاته وبما وفق له من إنشاء المدارس
حتى كان ركن النهضة الإسلامية، في بلاد القِرْم بل في البلاد الروسية، ونسأل الله
تعالى أن يكثر في المسلمين من أمثاله.
***
(القصائد الهاشميات)
الكُميت بن يزيد الأسدي الكوفي أحد الشعراء والأدباء الأولين ولد سنة 60
ومات سنة ست وعشرين ومئة وأحسن شعره (القصائد الهاشميات) التي سارت
بها الركبان. وقد عني في هذه الأيام الشيخ محمد شاكر الخياط النابلسي أحد مجاوري
الأزهر المجدين بطبعها بعد ما صححها على إمام أهل الأدب في هذا العصر الشيخ
محمد محمود الشنقيطي. ومن سوء الحظ أن عاثت المطبعة في ذلك التصحيح
فأفسدت فيه ما شاءت، ولكنه عاد فأصلح بعض غلط الطبع بالقلم فجزاه الله خير
الجزاء. أما الذي طبعه على نفقته فهو الشيخ محمد توفيق الخياط النابلسي أحد
المجاورين المجتهدين فنشكر للطابع وللمصحح عنايتهما بهذا الأثر النافع ويا ليتهما
يعيدان طبعه مصححًا. ونحث طلاب آداب العربية على حفظ هذه القصائد أو كثرة
قراءتها.
***
(هناك وهنا)
كان أحمد حافظ أفندي عوض قد كتب في جريدة المؤيد بعض مقالات عنوانها
(هناك وهنا) شرح فيها تاريخ استيلاء إنكلترا على الهند وسياستها فيها وعلاقة
مسلمي الهند ونهضتهم الأخيرة بالطوائف الأخرى ومن ذلك الكلام في المجاعات
وفي التجارة وفي النفقات الحربية والتعليم. وقد طبعت هذه المقالات على حدتها
بمطبعة الشعب فبلغت 76 صفحة من القطع الصغير وهي جديرة بالمطالعة.
***
(القول السديد في حرب الدولة العلية مع اليونان)
كتاب جديد ألفه علي بك شاكر نجل المرحوم محمد شاكر باشا الفريق
الطوبجي، صفحاته زهاء مائتين وهو مزين برسوم القواد والمواقع الحربية، ولم
نوفق لمطالعة شيء منه ولكننا نظن أن الروح التي تجول فيه هي تعظيم شأن
الدولة العلية وتوجيه القلوب إلى حبها لأننا نرى المؤلف مغرمًا بدولته لاهجًا
دائمًا بمحاسنها ومدح مولانا السلطان عبد الحميد أيد الله دولته ووفقه لخدمة الإسلام.
وثمن الكتاب 30 قرشًا صحيحًا إلا للجنود فثمنه لهم 20 قرشًا، وهو يطلب من
مطبعة الموسوعات بمصر.
هذا ما كنا كتبناه لجزء مضى ولم يتيسر نشره إلا في هذا الجزء ثم رأينا في
بعض الجرائد أن المؤلف جعل الثمن 20 قرشًا لجميع الناس ووعد بجعله إعانة
لسكة الحديد الحجازية، فصار يطلب لذاته وللإعانة معًا وكفى بذلك ترغيبًا.
***
(ألف ليلة وليلة)
أتمت مطبعة الهلال الجزء الثالث من هذا الكتاب مزينًا كسابقيه بالصور
والرسوم، منزهًا عن الفحش والمجون، وصفحاته 216 وثمنه 10 قروش وأجرة
البريد قرشان وهو يطلب من مكتبة الهلال بمصر.
***
(كتاب الخدمة المدرسية في تسهيل قواعد العربية)
ألف هذا الكتاب جرجس أفندي الخوري المقدسي (ب. ع) مدرس اللغة
العربية في المدرسة الأميركية بطرابلس الشام وطبع هناك وقد سلك فيه مسلك
السهولة وأكثر فيه من الأمثلة، فعسى أن يلتفت إليه نظار المدارس ويختاروه للتعليم
في مدارسهم إذا رأوه أمثل من الكتب التي فيها وأسهل.
***
(ارتياح الفكرة من جهة الكُلَره)
كتيب وضعه أحمد أفندي رفعت في الفيوم أيام وباء الهيضة من العام الماضي
وطبعه بعد ذلك، وعبارة الكتاب أقرب إلى العامية وإننا لم نقرأه ولكننا نذكر المسائل
التي يبحث فيها بعبارته لعل أحدًا يريد أن يعرف رأيه فيها وليعذرنا القراء في
حكمنا على عبارته قال: قد جئت بالبحث والإيضاح عن السبعة أوجه التي يهم كل
إنسان الوقوف على حقيقتها وهي:
أولاً: هل يوجد كلرا حقيقة كما يقولون؟ البعض بالإثبات والبعض بالنفي.
ثانيًا: هل ينفع فيها العلاج واستشارة الأطباء لتدارك الشفاء أم لا؟
ثالثًا: هل الاحتياطات الصحية في ذلك مما يجب مراعاته والأخذ به أم
طرحه ظهريًّا؟
رابعًا: هل مسألة الإصابة بالعدوى صحيحة أم غير صحيحة؟
خامسًا: هل سير رجال الصحة في عمل الاحتياطات موافق للشرع الشريف
أم مخالف له؟
سادسًا: هل ما يشاع من وجود من يقصدون تعمد وضع أشياء مسممة
للناس في الأطعمة والمياه حق أم باطل لا أصل له؟
سابعًا: هل أصدق بقولي إن الكلرا الثانية الآتي بيانها هي أشد وطئًا وأعبأ
ثقلاً على الناس أم لا؟ اهـ. بحروفه، وصفحات الكتيب 72 ويطلب من أكثر
المكتبات الشهيرة.
***
(مسامرات الشعب)
صدرت القصة السابعة عشرة واسمها (اليتيم) ومؤلفها حافظ أفندي عوض
وقد كان طبعها الطبعة الأولى من نحو خمس سنين وقرأناها فحمدنا التأثير، وانتقدنا
التقصير في التحرير، وصدرت القصة الثامنة واسمها (شهداء الآباء) ومؤلفها
مصطفى أفندي إبراهيم وهي تمثل سوء عاقبة ما عليه أولاد الأغنياء في مصر من
فساد الأخلاق واتباع الشهوات. وفاتنا أن نذكر من قبل قصة (الفتاة اليابانية)
وهي قصة موضوعها مفيد قرأناه بارتياح وودنا لو يطالعها تلامذة المدارس
المصرية عسى أن يميزوا بين التعليم الحي وتعليم المحاكاة التقليدية، ومؤلفها حسن
أفندي رياض وهي القصة السادسة عشرة من المسامرات.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجمعية الخيرية الإسلامية
الاحتفال بمدرستها في القاهرة
احتفلت الجمعية الخيرية الإسلامية في يوم الأربعاء الأسبق بمدرستها في
القاهرة احتفالاً رأسه مفتي الديار المصرية وحضره كبار العلماء والوجهاء وفي
مقدمتهم شيخ الأزهر ومدير الأوقاف. وقد كان الاحتفال على نحو الاحتفالات
السابقة حسنًا ونظامًا وموضع إعجاب بما امتاز به تلامذة الجمعية على سائر
المتعلمين من أمثالهم، وهو أنهم لا يحفظون شيئًا بدون فهم ولذلك كان رئيس الجمعية
والاحتفال يناقش التلامذة في كل ما يسألون عنه فيحسنون الجواب. ولما أراد
الرئيس توزيع الجائزة التي باسم المرحوم علي باشا مبارك ذكر من خدمته للمعارف
ثلاثة أمور عظيمة: أحدها تعميم المدارس في المديريات وثانيها إبطال الضرب من
المدارس وكان الضرب فيها مفروضًا رسميًّا، فالتأديب فيها كان (بالكرباج) كتأديب
المذنبين والمجرمين في شريعة محمد علي باشا وقوانينه. وقد قال الأستاذ الرئيس
في هذا المقام كلمة جليلة وهي: إن علي باشا مبارك أبطل بمنع ضرب التلامذة
التربية بالإهانة والقسوة وجعل التعليم مقرونًا بكرامة النفس وهي قوام التربية، فإن
المعاقبة على الذنب بالإهانة والقسوة لا تؤدب النفس؛ لأنها تخفي الأخلاق الذميمة
ولكنها لا تمحوها بل تزيدها وتقويها فتكون كامنة حتى إذا تسنى لها الظهور تظهر
في أقبح الصور. وأمّا الذي يمحو الأخلاق الذميمة فهو الإقناع بقبحها وضررها
وحسن المعاملة وتكريم النفس حتى تتكرم عن الشوائن وتأنف من كل ما ينافي
الشرف.
وأما الأمر الثالث فهو إنشاء مدرسة دار العلوم التي تسمى الآن (مدرسة
المعلمين الناصرية) قال: إن تلامذة هذه المدرسة يؤخذون من طلاب العلم في
الأزهر فيضمون إلى العلوم الأزهرية جملة صالحة من العلوم الكونية التي تقرأ في
المدارس.
وقد تخرج في هذه المدرسة كثيرون خدموا المعارف في مصر خدمة نافعة،
فمنهم معلمو العربية في جميع مدارس الحكومة وبعض المدارس الأخرى ومنهم
المشتغلون في المعارف بالتفتيش في المدارس والكتاتيب وهم محافظون على زيهم
المصري زي أهل العلم الديني، ولهذه المحافظة تأثير عظيم في التربية العربية.
وبعد ذلك وزعت المكافأة السنوية التي يتبرع بها الشيخ عبد الرحيم الدمرداش
للنابغين من تلامذة مدرسة الجمعية في القاهرة وهي ألف قرش. ثم انفض القوم
بختم الاحتفال داعين للمدرسة بزيادة النجاح وللجمعية ببلوغ الكمال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المحسن المصري العظيم منشاوي باشا
ذكرنا في جزء مضى أن صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي الشهير تبرع
بمائة فدان من أطيانه لمدرسة الصنائع التى تنشئها جمعية العروة الوثقى في
الإسكندرية.
وقد كتب رئيس الاكتتاب لإعانة المدرسة صاحب الدولة مصطفى رياض باشا
كتاب شكر إلى هذا المحسن العظيم وأرسلت الجمعية طائفة من أعضائها إلى داره
في الشرقية يشكرون له بأنفسهم هذا الإحسان. ولما كان الشكر مدعاة المزيد هزته
أريحية الكرم فتبرع بوقف ثلاث مائة فدان على هذه الجمعية الخيرية فكتب إليه
رياض باشا كتاب شكر آخر ترغيبًا في الإحسان وإسعادًا على الترغيب فيه وهو:
سعادتلو أفندم أحمد منشاوي باشا حضرتلري:
سلام وثناء عليك يا مَن عرفت كيف تصرف الأموال وكيف تخدم الأوطان
وكيف تتقدم البلاد، إنني كثيرًا ما تمنيت الخير وكثيرًا ما حببت فيه وكثيرًا ما ناديت
الأمة المصرية إلى جمع الأموال لتأسيس المدارس العلمية والصناعية وبعد أن
أوشك اليأس أن يستولي عليَّ رأيتك أيها الشهم الكريم وقفت مائة فدان على مدرسة
محمد علي الصناعية. فعملك هذا جدد فيَّ الآمال وحببني في الأمة المصرية
بأجمعها لوجود مثلك وجعلني أعتقد بأن أغنياء الأمة سيقتدون بك في هذا العمل
الجليل الذي قمت به لتعلمهم ما يجب على الأغنياء نحو وطنهم وكتبت لسعادتكم من
آيات الشكر ما تستحقه من الله والأمة ثم جاءني كتاب من سعادتك ينبئني بأنك أيها
البار بوطنك وقفت ثلاث مائة فدان على جمعية العروة الوثقى، فالحق يقال. إن حبك
لبلادك وكرم نفسك وسخاء يدك أدهشني إعجابًا بهمتك العالية وحسن عاطفتك للخير
نحو أمتك لأنني لم أر مصريًّا جاد بما جدت به وستشكرك الأجيال المستقبلة على
فضلك هذا كما شكرتك الأمة بأسرها. وأهلاً بزيارتك التي وعدت بها في خطابك.
نسأل الله أن يمد في أجلك لإحياء بلادك ولتكون قدوة حسنة لغيرك. والسلام
عليك أيها المفضال.
(رياض)
في 3 ربيع آخر سنة 1321
فحق علينا أن نعترف الآن بأن أحمد باشا المنشاوي هو أول غني يفتخر
المصريون بكرمه الحميد وإحسانه النافع بل هو مفخرة لجميع المسلمين الذين صار
أغنياؤهم في هذه القرون يبخلون بالدرهم في طريق المعارف وما دون المعارف من
الخير ويبذلون القناطير المقنطرة في الإسراف والمخيلة والتمتع بالشهوات التي
تفسد الأخلاق والآداب وتضعف الأمة بذهاب ثروتها والإدلاء بها إلى الأجانب.
وإننا لننتظر من محسننا العظيم نفحة من هذه النفحات لأخت جمعية العروة
الوثقى وشقيقتها الكبرى وهي الجمعية الخيرية الإسلامية، ولعله يخبئ لها إنشاء
المدرسة الكلية التي لا تتحقق أمنيتها إلا بكرمه وجوده ومما لهجت به الجرائد في
هذه الأيام أن محسننا العظيم تبرع بألفي ليرة عثمانية إعانة لسكة الحديد الحجازية
وبخمس مائة ليرة باسم قرينته، فجزاه الله أفضل الجزاء بمنّه وكرمه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
جمعية الفضائل الإسلامية
ألَّف نفر من ذوي الغيرة الملّية في الفيوم جمعية سموها بهذا الاسم وفرضوا على
كل داخل فيها خمسة قروش في الشهر على أن يشتروا بما يجتمع في كل شهر نسخًا
من المنار وبعض مؤلفات الأستاذ ويوزعوها على الناس. وهؤلاء النفر الكرام:
محمد رمزي وإبراهيم أبوعيشة وأحمد نصار وحسن ناصر وعبد الجواد حسن
وإبراهيم الصعيدي. فحيَّاهم الله ونمَّاهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قراء الصحف المنشرَّة
يقرأ هذه الصحف التي تسمى المجلات والجرائد جميع أصناف الناس في
جميع البلاد، فأصحاب الصحف الرائجة المشهورة أجدر الناس بمعرفة حال الناس
في المعاملة مطلاً ووفاءً. وقد علمنا بالاختبار أن لكل صنف خلقًا ولأهل كل قطر
خلقًا فمسلمو بلاد روسيا أحسن خلق الله وفاءً. أكثرهم يرسل مع طلب الاشتراك
أوراقًا مالية بقيمته وأوراقًا مطبوعًا عليها عنوانه ثم يرسلون القيمة في أول كل سنة
ومن أرجأ الإرسال عن أول السنة فلا يرجئه إلا قليلاً، ويليهم أهل جزيرة العرب.
وأسوأهم معاملة وأكثرهم مطلاً وإهمالاً مسلمو الهند ويليهم أهل الجزائر، فإن كثيرًا
من المشتركين في هذين القطرين لَيقرأ المجلة أو الجريدة عدة سنين ولا يخطر بباله
أن يرسل إلى صاحبها شيئًا. ومن العجيب أن السلائل العربية في كل بلاد يتبوأونها
يحافظون على أكثر أخلاق العرب الفاضلة، فتجار العرب في الهند وجاوه
وسنغافوره هم الذين يرسلون قيم الاشتراك من غير مطالبة ولا تذكير، وأهل
المغرب الأقصى كأهل الجزائر إلا أفرادًا في مدينة فاس يشبهون مسلمي روسيا في
الوفاء. والحق أنه ليس لنا أن نحكم على أهل تلك البلاد لأن القراء فيهم قليلون
وأصلهم في الغالب مجهول، وأما أهل تونس فهم وسط، أكثرهم إذا طولب يدفع
وإذا سُكت عنه يسكت وقليل منهم يرسل وإن لم يطالب، ولا أعرف أحدًا منهم إلى
اليوم طولب فمطل حتى لا يرجونه، إلا أن الوكيل طلب منع المنار عن نفر قليل؛
لأن الحق لا يخرج منهم إلا نكدًا وأظن أنهم دفعوا وليس عندهم شيء وسيتبين هذا
بعد قليل، لأن المحصل لا يزال يشتغل بالتحصيل، فإن قيل إن علي بن زنين
الذي كان وكيلاً للمنار قد جمع طائفة من الاشتراكات وثمن كتب أرسلتموها إليه
بطلبه كتقرير مفتي الديار المصرية وكتاب الدروس الحكمية وماطلكم في ذلك عدة
سنين، نقول: إننا لا نزال نرجوه وقد كان بعض الناس يكتب إلينا يحذرنا منه فلم
نحفل بذلك والذي تحققناه أنه ماطل ولا نقول إنه لا ذمة له ولا أمانة إلا إذا كتب
إلينا الوكيل الذي كلفناه بمحاسبته ومطالبته - أنه لا يدفع مختارًا أو تقاضاه في
المحكمة. هذا وإن الوكيل هناك يشكو من عناء التحصيل ولعل ذلك لكرم نفسه
وعدم اختباره الناس في حرصهم على المال.
هذا إيماء إلى ما كان من اختبارنا، فإذا أردنا أن نعلل ذلك بتأثير الحكومات
بأن نقول: إن الأمة التي تظلمها حكومتها تتعلم والأمة التي تحكم بالعدل تجري على
العدل - خاننا التعليل وإن كان له وجه وجيه؛ إذ يصعب علينا أن نفضل حكومة
روسيا على حكومة الهند. والصواب أن حسن المعاملة تابع لحسن الخلق والأخلاق
آثار الوراثة والتربية في النفس إذا رسخت وانطبعت. ولا شك أن الأمم المحكومة
تؤثر كيفية الحكم في أخلاقها ولكن أخلاق الأمم تنطبع في الزمن الطويل ولا تتغير
إلا في الزمن الطويل، ولذلك لا يصح الحكم على أخلاق الأمة بحال حكومتها
الحاضرة الحادثة فإن الذين يفعل الاستبداد والاستذلال في نفوسهم عدة قرون لا
يتطهرون من تلك الآثار الخبيثة في عشرات من السنين لا سيما إذا انتقلوا من
عبودية ذلك إلى حرية مجون وخلاعة. ومسلمو روسيا لم يكونوا أذلاء ولا مُجَّانًا من
قبل حكمها وهي لم تظلمهم إلا بالتضييق على المعارف زمنًا ثم أعطتهم حرية ما في
التعليم والتربية فهم يجدُّون فيها ويجتهدون على بصيرة يفضلون فيها سائر
المسلمين، وأهل الهند كانوا أذلاء بالاستبداد ثم كانت لهم حرية فاسقة مع تضييق
في أمور المعارف ثم صارت لهم حرية تامة لم تؤثر فيهم تأثيرها لقصر
الزمن.
وأما أهل المغرب الأقصى فهم على بداوتهم في ظلمات من الفوضى والجهل
لا يبصرون ولذلك قلنا إن الحكم عليهم غير صحيح، ونظن أن الأخلاق في الجزائر
لم تفسد بالمرة وأنها هناك خير منها في تونس لأن الجزائريين أبعد من التونسيين
عن الخلاعة والترف وقد كانوا من قبل حكم فرنسا أقرب في حضرهم إلى
البداوة ولم يؤثر حكمها في أخلاقهم إلا قوة الاعتصام برابطة الدين والجنس لأنها
أزالت منهم السلطة الإسلامية، ولا يستطيع إفساد المسلمين إلا الحكام الطغاة من
المسلمين؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد. والبلاد العثمانية نزلت عليها آية الحجاب
فلا كلام فيها.
بقي الكلام على بلاد مصر، كانت هذه البلاد ولا تزال أم العجائب وفيها من
المماطلين والخائنين والهاضمين للحقوق ما لا يوجد في غيرها، كما أن فيها من
الفضلاء وأهل الكرم والوفاء نفرًا يعز وجود أمثالهم في سواها. في هذه البلاد رأينا
من الفروق بين الأصناف كما يرى الراؤون بين الأشخاص، وأظن أن غير العالم
المختبر يحسب أن أحسن الناس وفاءً، وأسهلهم قضاءً علماء الدين أو قضاة
الشرع أو القضاة عامة؛ لأنهم هم الذين يعملون لإقامة العدل وأداء الحقوق إلى
أهلها وهم أعلم الناس بآثار الليِّ في الحقوق ومضراته؛ لأنها ممثلة كل يوم أمام
أعينهم في أقبح صورها وأشكالها. وليس هذا الحسبان بصحيح ولعل القارئ لا
يتوقع أن أقول أحسن الناس وفاءً وأطهرهم ذمة المهندسون. ولعل السبب في ذلك
تأثير العلوم الرياضية في نفوسهم كما تؤثر في عقولهم فإنها هي العلوم التي ليس
فها أوهام ولا ظنون فاسدة ولا خرافات ولا مسائل تؤخذ بالتقليد الأعمى.
أما المُطل فهو على أشده في أهل البطالة ثم في كتاب الدواوين وغيرها لأن
أكثرهم لا همّ له من حياته إلا أن يكون له رزق مضمون يتمتع به وإن كان قليلاً،
أعني أنهم لا تهمهم الأمور العامة وليس لهم مقاصد عالية وإنما يذكرون لفظ الملة أو
الوطن حكاية للألفاظ التي تكثر في الجرائد. ومن يشترك في الجرائد منهم فإنما
يشترك تشبهًا بالوجهاء والرؤساء. هذا كلامنا في الأكثرين، ومنهم أفراد من أرباب
البيوت التي لها سلف في حسن الأخلاق أو التي لها قرب من سذاجة الفلاحين الفطرية
التي لم يطغَ عليها طوفان فساد ما يسمونه (التمدن) فأولئك يشتركون ليستفيدوا
وليكونوا عونًا للصحيفة التي يعتقدون نفعها، وقليل ما هم.
ومن العجيب أن يكثر المطل والليُّ وهضم حقوق العلم والأدب في رجال
القضاء وأعوانهم من رجال (النيابة) فإن في قضاة الاستئناف الذين يرون أنفسهم
فوق جميع رجال الحكومة عدلاً وعدالة وعفة واستقامة مَن يدافعون محصل الجريدة
من شهر إلى شهر حتى تصير هذه الشهور سنين فما بالك بمَن دونهم؟ !
أما أهل العلم الديني ومنهم قضاة الشرع ومعلمو المدارس فهم أحرص على
المال وأضن من جميع الناس إلا أنهم قلما يشتركون في الجرائد ولكن يطلبها
الوجهاء منهم على أن تكون هدية ومن أراد الاشتراك من غير الوجهاء، فإنه يجتهد
في أن ينقص من قيمة الاشتراك المعينة شيئًا، النصف فما دونه، ويلحّ في ذلك
إلحاحًا ثم إنهم بعد ذلك لا يتنزهون عن المطل والتسويف ولكنهم قلما يستحلون أكل
قيمة الاشتراك وهضمها بالمرة كما يفعل بعض كتاب الدواوين وبعض التجار
والفلاحين والعُمَد.
هؤلاء العمد يحبون الجرائد ويكرهون المجلات، يحبون الجرائد لما يتوقعون
من مدحها إياهم ودفعها عنهم فيما يتهمون به؛ ولذلك يدفعون لها الاشتراك،
ويزيدونها عطاءً ومساعدةً، ويكرهون المجلات لأنهم لا يتوقعون منها ذلك ولا
يفهمونها وليس عندهم روح حب العلم والأدب وقد اعتاد أكثرهم على الظلم وهضم
الحقوق حتى إن الأستاذ الإمام يضرب المثل في الدرس ببلادتهم. وليس هذا الحكم
عامًّا فإنني أعرف نفرًا منهم يحبون العلم والأدب منهم المتعلم في المدارس النظامية
ومنهم من له حسب عريق وأخلاق موروثة. وإنما قلت ما قلت في العمد عن سماع
لا عن اختبار فإن المشتركين منهم في المنار قليلون وإنني شاكر لهم لا شاكٍ منهم
ولا أستثني إلا اثنين لا أذكرهما بالاسم ولا بالوسم؛ لأن هذا ليس من شأن المنار
تجرَّءا على هضم حقه.
ومن الناس من يحتال على قراءة الصحف المنشرة بالانتداب لخدمتها بالمكاتبة
أو الدعوة إليها وتكثير سواد قرائها وقد عانينا من هؤلاء المحتالين ما عانى غيرنا
ولم يبق لأحد يعرف المنار مطمع في مكاتبته؛ لأن مائدته لا تقبل المتطفلين ولكننا
نتلقى في كل حين كتابًا ممن يصفون أنفسهم بالغيرة على العلم والدين، والرغبة في
إسعاد الكتاب والمنشئين، وبعد إطرائنا وإطراء أنفسهم يطلبون أن يكونوا وكلاء.
وقد أجبنا طلب كثير منهم بإرسال المجلة إليهم وحثهم على نشرها فلم يصدُق أحد
منهم وإنما كانوا يخادعوننا في أول الأمر بطلب المجلة لواحد أو اثنين ويشهدون
لمن يطلبون له الأمانة والاستقامة ويعدون بأخذ قيمة الاشتراك منه في أثناء السنة
فتمر السنة ولا يفي أحدهم بوعده ومن يدري أأخذ من المشترك أم لا. وقد كان لنا
من أرجى هؤلاء العاضدين للأدب بالوكالة أن حبانا مشتركًا في أول العهد بوكالته
(في السنة الماضية) ثم إن ذلك المشترك كتب إلينا بأنه لم يرضَ أن يكون عونًا
للمجلة بالاشتراك فقط وإنما هو مستعد لنشرها وطلب وصولات لأجل التحصيل
ممن يدعوهم إلى الاشتراك فكتبنا إليه نطالبه فلم يرسل إلينا مالاً. ولم يرجع إلينا
قولاً، فرجعنا إلى الوكيل الذي أمر بإرسال المجلة إليه فكتب أنه طالبه فادعى أن
المجلة ترسل إليه على أنه وكيل لها، لا أنه مشترك فيها! ! ثم طلبها لمشترك
جديد
…
فكتبنا إليه: إنك كنت وكيلاً على مشترك واحد فلما صار هو وكيلاً
صرتما وكيلين على لا شيء! وأنت الآن تطلب المجلة لآخر، ونخشى أن يصير
في آخر السنة وكيلاً، فيكون لنا ثلاثة وكلاء على لا شيء ثم يتجدد هذا في كل عام
وما يدرينا أننا إذا أطعنا هذا الوكيل يصير خبره إلى جميع المشتركين
فيختارون أن يكونوا وكلاء، يتحكم كل منهم بإرسال المجلة إلى مَن شاء! ! !
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نحن واليازجي
الشيخ إبراهيم اليازجي في الطبقة الأولى من أدباء نصارى بلاد الشام، وقد
اشتهر بالعناية والبحث في اللغة العربية وانتقاد ما يكتب بها وإن قومه ليجلون قدره.
ولكننا كنا نراهم على فخرهم به يشكون من عجبه وصلفه، ويألمون من غروره
وتنفجه، ويقولون: إن هذه الخلال حالت دون انتفاعه بعلمه وانتفاع الناس به،
وأنها تحمله على أن يغمط العلماء والفضلاء الذين لا يدانيهم في علمهم
(كمنشئ المقتطف) لما قد يقع في كلامهم أحيانًا من كلمة دخيلة أو عامية، أو
عبارة تخالف بعض قواعد العربية، على أن كلامه لا يسلم من مثل ذلك، ولكنه
لانصرافه بكل همته إلى التنقيح يقل في كلامه الغلط والشذوذ، وللقوم شغل بالعلوم
يأخذ من همتهم حظًّا هو أشرف ما تصرف إليه الهمم، ومما سمعناه عنه في بلاد
الشام وفي هذه البلاد أن غروره بنفسه في فهم اللغة جرَّأه على الطعن في القرآن
العظيم الذي خضعت له أعناق البلغاء وسجدت له جباه الفصحاء، أيام كانت
البلاغة في أوج سلطانها، والفصاحة في ريعان شبابها، فكان لهذا الرجل في خيالنا
صورة منتزعة من سيرته المسموعة غير جميلة لذلك لم تتوجه النفس إلى طلب
معرفته؛ لأننا من قوم يفضلون الأخلاق الكريمة على العلوم العقلية والكونية، بله
الفنون اللغوية، ثم إن كلاً منا يشتغل بالصحافة؛ ولكن ليس بيننا وبينه مبادلة، فلا
نحن نطَّلع على مجلته ولا هو يطَّلع على مجلتنا إلا أن يكون ذلك مصادفةً واتفاقًا.
ثم كان في العام الماضي أن جمعية الكتاب المصرية ضمتنا في بعض جلساتها
فرأينا صورة أجمل من تلك الصورة الخيالية رأينا لطافة ودماثة وأدبًا كدنا نكذب به
كل ما سمعنا مما لا يرضى، لولا أن هذا اللقاء لا يصح أن يسمى اختبارًا يحكم به
على الأخلاق. على أن اعتقادنا فيه حسن ورجحنا أن في قول الناس فيه مبالغة
حتى اتفق لنا ما كشف الستار، من حيث لا نحتسب.
رأى القراء أننا حين شرعنا في رد شبهات النصارى على القرآن قلنا أن
المجلة البروتستنتية نقلت هذه الشبهات من كتاب لهم يقال أن للشيخ إبراهيم
اليازجي يدًا في تصحيحه أو تأليفه أو الزيادة فيه وهو عندهم أقوى طعن في القرآن.
معتقدين صدق الذين قالوا لنا ذلك لنبين لصاحب تلك المجلة وغيره أن آخر سهم في
كنانتهم طائش وأن ما ارتضاه أعلمهم باللغة وعدّه طعنًا في القرآن ليس بأمثل مما
يهذي به أجهلهم، فهو دليل على سوء قصده وإلا فعلى جهله، ولكنني حفظت
لليازجي حق ذلك الاجتماع القليل، فأوردت الرواية بصيغة المجهول التي تُشعر
بالشك (يقال) ثم إنني لم أكن راضيًا عن نفسي تمام الرضى بما نشرته وأنا أشبَه
بالمضطر مني بالمختار لأن مدافعة المشاغبين الذين يطعنون في الدين من الفروض
الإسلامية الكفائية إذا لم يقم بها أحد يكون جميع المسلمين العارفين عاصين لله تعالى
وقد لقيت بعد أيام من صدور المنار صاحبًا لي وللشيخ إبراهيم فأخبرني بأنه استاء
مما كتبت وأنكر ما نُسب إليه. فقلت له إن أحب شيء إليَّ أن أجد سندًا لإعلان
براءته وحسبي في ذلك ما نقلت أنت عنه وإنني سأبرِّئه في أول جزء يصدر من
المنار فقال: لا تعجل حتى ترى ما يكتب فإن الذي أطلعه على المنار أغراه بالرد
عليه والإغلاظ له ثم جاءني صاحب آخر بما كتبه فإذا هو قد أعاد لي تلك الصورة
التي صوَّرها الناقلون الأولون.
أكبر الرصيف أمر تلك الكلمة (يقال
…
) إكبارًا حتى مثّلها لقارئ كلامه
بصورة جبل عظيم يريد أن ينقضّ على العالم فتنقض معه المعاقل والصياصي،
وتشيب لهوله النواصي. وعدها من (الفوضى القلمية في هذا القطر وانقطاع كل
عقال فيه حتى أصبح كل شيء مباحًا وصار الكاتب إذا هجس في صدره خاطر
متخرص (كذا) أو مر بسمعه قول مرجف لا يلبث أن ينشره بغير تثبت ولا
فحص، يشوش به الأفكار ويجعله مصدرًا للقيل والقال) . كأنه يرى أن ما كتبه
أصحاب الجرائد الأسبوعية في الأئمة الأعلام، وفي كبار الأمراء والحكام لا يُذكر
في جانب تلك الكلمة في مقامه ولا تصل به الحرية إلى حال الفوضى القلمية وكأنه
يتوهم أن أبناء الملتين الكبيرتين (الإسلامية والنصرانية) ينتظرون سماع اسمه
ونقل كلمة عنه حتى إذا ما قيل إن الشيخ إبراهيم قال كذا تضطرب الأفكار،
وتجيش الصدور، وتستعر نيران الجدال، وتكون كلمته موضوع القيل والقال؛
ولكن الكلمة قد قيلت ولم يحفل بها أحد. وأما المنار فإنما رد عليه كما رد من قبل
على ما كتبه ذلك القبطي الذي لا يُعرف اسمه إلا مكتوبًا على غلاف تلك المجلة فلا
هو من العلماء ولا من الكتاب ولكنه من المشاغبين الذين ينشرون شبهات المشككين.
وقال بعد نقل الكلمة أنه وقف يقلب الطرف في هذا الكلام ويتمثل أيامه
وأحلامه الماضية ليتذكر عهد اشتغاله بالمناقشات الدينية. ثم استدل من الكلمة على
شدة حرصنا على إلصاق التهمة به وعلى أنه مأخوذ بها إما من جهة التأليف أو من
ناحية التصحيح أو من جانب الزيادة. ثم قال أننا بينا هذا الحرص وهذا الحكم
بالأخذ على شهادة (يقال) وهي شهادة ما أنزل الله بها من سلطان. وكتب ما شاء
أدبه من الطعن والهجو.
ولعمري إن استنباط هذه المعاني كلها من كلمة (يقال) ثم ادعاء أنها هي
نفسها إنما جعلت شاهدًا على المستنبطات ثم الاعتراف بأنها شهادة لا تدل على
شيء من ذلك - كل ذلك يناسب فهم ذلك المنتقد على القرآن الذي عمد إلى الآيات
المتناسبة الواردة في تأييد حقيقة واحدة فجعلها متعارضة مناقضة. سبحان الله! إننا
لم نكتب عنك - يا عَلَاّمة اللغة - إلا تلك الكلمة (يقال
…
) فإذا كانت لا تدل
على ثبوت شيء فمن أين استنبطت كل هذه المعاني؟ لعلك استنبطتها من الطريقة
التي فسرت بها القرآن بهواك. فسبحان مَن أعطاك. أو من التمرن على مجادلة
(الجزويت) . فلله أنت ولله ما أوتيت.
ثم قال أننا كنا نستطيع أن نستثبت ذلك منه مشافهة وأنه كان يعتقد إلى الساعة
التي علم فيها بالكلمة أننا من أصدقائه - وإن لم تثبت مع التعصب صداقة - وأن
ذلك يكفينا إعنات النفس في الاستخبار والاستطلاع أو كدّ المخيلة في الحدس
والتكهن (كذا) .
ما أشبه هذه الأقوال بتلك في الخطل والعسلطة. أيظن الرصيف اللغوي أن
تلك الكلمة (يقال
…
) لم تأتِ إلا من إعنات النفس في سؤال الكثير من الناس: هل
كان لليازجي يد في كتاب كذا أم لا؟ أو من كدّ المخيلة في التكهن؟ إن هذا الظن
من أعجب وحي الغرور. وأعجب منه أن يظن رجل مثله شاخ في اختبار الناس
أن فلانًا صديقه وهو لم يختبره في شيء وإنما رآه مرتين أو ثلاثًا ولم يتحدث معه
إلا بعض دقائق!
أما قوله بأنه كان ينبغي لنا الاستثبات منه فهو صواب لكنه محتفٍ بغروره إذ
كلفنا أن نجيئه وهو يعلم أننا لا نعلم في أي ناحية من مصر يقيم وأن أوقاتنا لا
تسمح لنا بزيارة جميع أصدقائنا الذين يزوروننا، فضلاً عن إضاعة الأوقات في
السؤال عن غيرهم، ولعمر الحق أنه لو خطر في بالنا ذلك عند الكتابة لكتبنا إليه
وإن كان الوقت قصيرًا وأنه لو كتب بعد ذلك رقعة يبرئ بها نفسه لبادرنا إلى
تبرئته ولكن هذا الغيظ الذي استولى عليه حتى كتب ما كتب مما كنا نجله عنه يدل
على أن ما قيل عنه صحيح وإن بالغ في تنزيه نفسه عن المناقشة في الأديان فإن
الإنسان لا يتألم مثل هذا الألم إلا إذا كان ما قيل فيه حقًّا.
أما الصداقة فنؤكد له القول بأنه قلما يوجد في بلاد سوريا ومصر مَن له
أصدقاء يخلص لهم ويخلصون له مثلنا، وأن أصدقاءنا من فضلاء النصارى
يعرفون حرصنا الحقيقي على الوفاق بين المِلَل وأن مدافعتنا ما يفتريه أو يموه به
القسيسون والمبشرون وأعوانهم على الإسلام مما يعيننا على الدعوة إلى الوفاق
والوئام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخوارق والكرامات
المقالة الخامسة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(التنويم المغناطيسي)
بقية بحث إبراء العلل
قلنا إن من وجوه التعليل في إبراء العلل تأثير النفس الذي يعبر عنه الصوفية
بتأثير الهمة، وقد كان هذا فاشيًا فيهم؛ لأنهم كانوا يعرفون تربية الهمة النفسية أي: تربية الإرادة والعزيمة، وقلنا: إنهم لم يكونوا يقصرون هذا على أنفسهم بل
كانوا يعترفون بوقوعه للوثنيين كالهنود وغيرهم، وإنما سرى هذا إلى المسلمين من
الهنود، ونقول الآن: إن هذا التأثير قد ظهر في هذا العصر - عصر
الصناعات والعلوم الطبيعية - بشكل صناعي يعبرون عنه بالتنويم المغناطيسي الذي
شاع ذكره واشتهر أمره وكثرت فيه الدعاوي ومن أغربها أن المنوم إذا سأل المنوم
عن شيء من الأمور الغيبية التي لم يسبق له بها علم يجيبه عنه لأن روحه بغيبتها
عن الحس تطلع على ما وراءه، ومنه أن المنوم إذا قال للمنوم: إنك قد برئت من
علتك وشفيت من مرضك، وهو مريض - فإنه يبرأ حالاً وإذا قال: إن الجو بارد
ينتابه البرد حالاً ويقفقف وإن كان الحر شديدًا وكذلك إذا قال له إن الحر شديد في
إبان البرد القارس فإنه يسرع إليه العرق مما يجد من الحر!
ومن العلماء من ينكر هذه الدعاوي ويعد منتحليها من المشعوذين. والمحققون
من الأطباء الطبيعيين يقولون: إن الذي يثبت بهذا التنويم شيء واحد وهو تأثير
النفس في النفس وحكم الإرادة القوية على الإرادة الضعيفة، وهذا هو الذي كان
معروفًا عند القدماء من الصوفية وغيرهم على ما علمت من الجزء الماضي. وقد
جاءنا بعد صدوره العدد 22 من جريدة (الأفكار) التي يصدرها في سان باولو
البرازيل (أمريكا الجنوبية) الدكتور سعيد أبو جمرة، فرأينا فيه مقالة في ذلك رأينا
أن ننشرها هنا لما نعلم من تشوف أكثر القراء إلى الوقوف على آراء العلماء
المحققين في هذه المسألة قال بعد العنوان ما نصه:
كانت أمامنا مجلة نيويورك الطبية عدد 18 نيسان الماضي وبها مقالة بديعة
عن التنويم المغنطيسي تتضمن أحدث الآراء وأدق المعاني عن مسألة هامة
شغلت عقول العلماء والأطباء مدة طويلة، وإلا ورد علينا سؤال من صديق عزيز
علينا يسألنا إبداء رأينا في استعمال التنويم طبيًّا في إحدى الحالات المرضية فاخترنا
إذ ذاك تلخيص هذه المقالة حبًّا بإفادة القراء، وهي خطاب لأشهر طبيب أمركاني
(الدكتور هاورد) ألقاه أمام عمدة مدرسة الأطباء والجراحين في مدينة بلتيمور.
وهاك فحواه مع بعض التصرف والاختصار:
أيها السادة. كثر الدجالون القائلون الآن باستعمال التنويم المغنطيسي في كل
الأمراض تقريبًا، وكثر الناس الذين - لسوء الحظ - يصدقون بأقوالهم
المزخرفة وبراهينهم السطحية السفسطية حتى صار صبيان الأزقة عندنا
يقولون: (المغنطيس الحيواني والهستيريا والمغنطيس) وهلم جرّا. وإننا لسوء الحظ
نقول: إن بعض هؤلاء الدجالين هم أطباء قانونيون مثلنا. ولكنهم يستعملون هذا
السلاح الحاد بدون معرفة وبلا تمييز حتى صِرْتُ أَوَدّ من كل قلبي أن تختفي المعرفة
عن التنويم فإني أرى أضرارها أكثر من منافعها في يدي هؤلاء المشعوذين والسحرة.
وإني لا أخفي عليكم رأي شَارْكو شيخ الأطباء الحاليين في كل العالم من هذا
القبيل، أعني قوله لي في وسط مكتبه وعلى مسمع من عشرات من أطباء الأرض
يقصدون باريس سنويًّا للاستفادة من شَارْكو ذلك البحر الزاخر قال لي: إن التنويم
والهستيريا فرعان لأصل واحد! أي: إن المريض المهستر يقبل التنويم، والذي يقبل
التنويم يكون مهسترًا أو ضعيف العقل والإرادة والعكس بالعكس. وهذا هو عين
الواقع أيها الرصفاء.
وعلى هذا قد صادق الدكاترة برنهاين وليبول في أوروبا وأنا في أمريكا بعد
إحصاءات عديدة حسية في المستشفيات هنا وفي مكتبي الخاص أيضًا. ولما كان
هذا الخطاب لأجل الحقائق لا لأجل تقديم الآراء فإني أنتقل بغتة إلى التجارب
الحسية أمامكم لإقناعكم بصحة قول شاركو وقولي. انظروا هذه الدجاجة على
الطاولة أمامي ها إني الآن أنومها (فَنَوَّمها فمدت ساقيها وذبلت جفنيها ونامت
مغنطيسيًّا حالاً) بإشارة صغيرة. وعلى الطرف الآخر انظروا هذه الحمامة. ها قد
نامت أيضًا. والآن تقدمي يا مس.. . (ونادى سيدة كهلة عزباء مصابة بمرض
تتطبب عنده) فترون أيها السادة الرصفاء أن كلمة صغيرة إلى مس.. تجعلها تحت
تسلط إرادتي. نامي.. أقول لك: أنت الآن نائمة. لا تشعرين. لا تنظرين. لا
تسمعين.. فها قد نامت هذه السيدة مثل الدجاجة والحمامة حالاً. ولكنكم إذا أتيتم
بشاركو وكل أطباء الأرض وعلمائها فإنهم لا يقدرون أن ينوموني.
(ضحك واستحسان (
…
وهذا يأتي بنا طبعًا إلى هذا السؤال المهم وهو: مَن هم الناس الذين ينامون
وما هي ماهية التنويم؟ فعن الأول أجيب: إن الناس الذين ينامون هم كل الذين
يشكون من ضعف ما في مراكز العقل والإرادة، وهؤلاء كثار العدد خلاف ما
تتصورون. وعلى ما أظن أنهم 30 بالمائة في العالم المتمدن وأكثر من نصف
الناس في غيره. ولكن أنواع التنويم وهيئاته مختلفة. فإني إذا نومت زيدًا وقلت له
لا تشعر بالألم فإنه لا يشعر وإذ ذاك فأقدر أن أعمل عملية جراحية صغيرة عليه
وهو كأنه تحت البنج. ولكني إذا فعلت ذلك مع عمرو لا أنجح بل أنجح إذا قلت
مثلاً إنك لا تسمع أو لا تبصر أو لا تبرد مع أن الماء المثلج يسقط على بدنه العاري.
أما عن الثاني أي: ماهية التنويم فأقول بالاختصار: إنها غير معروفة تمامًا.
سوى أن المظنون هو حكم إرادة قوية على إرادة ضعيفة بمظهر كبير. وعلى هذا
القياس نقدر أن نقول: إن من يستولي على عقول الناس وأميالهم وأفكارهم ليس سوى
منوم وما الناس الذين يقادون له إلا مصابون بنوع من أنواع الضعف العقلي (أو
الدماغي) حتى أصبحوا عرضة لأن يُنَوَّموا بالتنويم المغنطيسي ولو بمظهر بسيط
وبهيئة دارجة عادية قلما يعلق عليها الناس كبير أهمية.
ولهذا السبب لا تعجبوا إذا قلت لكم: إن نصف العالم عرضة للتنويم المغنطيسي
بأحد أنواعه هذا إذا لم أقل نصف المتمدنين (استغراب وهمس في الحضور) .
استعماله طبيًا:
أما دائرة استعماله العلمي فضيقة لكنها مفيدة للغاية في يد منوم شريف عفيف
عالم. ومضرة للغاية أيضًا في يد المحتال محب المال الدجال الساحر الغاشم الكافر.
ورأي شاركو في استعمال التنويم هو: يحسن (أي لا يجب) بنا أن نستعمله إلا في
أمرين فقط وهما: (1) عند وجوب تحقيق أو تشخيص أمراض الدماغ والعصب
للتمييز بين الأمراض العقلية منها وبين أمراض مادة الدماغ ذاتها أي: للتمييز بين
الأمراض الوظائفية والأمراض الآلية. مثلاً إذا جن زيد فيجب علينا تحقيق سبب
الجنون هل هو ناتج عن خلل في إحدى وظائف الدماغ أم عن مرض أصاب الدماغ
ذاته كنزيف أو احتقان أو ضغط عظم جمجمة مكسورة وهلم جرا. و (2) عند
تخفيف الآلام ومعالجة الأرق أو قلة النوم التي تضنك الجسم وتسبب له الضعف
الشديد والتعرض للجنون بأحد أنواعه، وعلى هذا فاستعملوه في آلام الحمى
الروماتزمية (داء المفاصل الحاد) . في الأرق المستديم. في الأمراض العصبية
التي تأتي بالألم الشديد ليلاً. في بعض أنواع الفالج وما أشبه من الحالات. أما في
الهستيريا وهو المرض الذي يكثر به احتيال الدجالين فاستعملوه نادرًا وبحذر تام؛
أي أنه يحسن بنا أن نستعمله في الهستيريا إذا كانت المهسترة أو المهستر متألمًا جدًّا
من ارتجاف الأعضاء أو تقلصها أو انكماشها أو شللها أو التوقف عن عمل وظائفها
الطبيعية كحبس البول، أو الامتناع عن الأكل والشرب والنوم وما شاكل ذلك من
العوارض التي إذا دامت مع العليل تؤذيه، وتأتي له بأمراض ثانوية مضنكة. ولا
بأس من استعماله في حالات السُّكر إذا كان السكران عرضة لأن يضر ذاته أو
غيره، وكذلك في حالات المانيا (نوع من الجنون) الحادة أو الملانخوليا التي تجعل
المصاب عرضة للانتحار ، وفي كل هذه الظروف فليكن استعماله بحذر تام
وباعتدال لحد الإمساك.
…
...
…
انتهى باختصار وتصرف. ا. هـ
(المنار)
نكتفي بهذا البحث في هذا الجزء وسنعود في الأجزاء الآتية إلى الكلام في بقية
أنواع الخوارق وتعليلها المعقول إن شاء الله تعالى. وقد نقلنا عبارة الأفكار بحروفها
وفيها من النقد في اللغة والأسلوب ما يعذرنا القراء على عدم التعرض له.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
النبذة الثالثة في رد شبهاتهم على القرآن
(الشاهد التاسع على تناقض القرآن بزعمهم) قوله تعالى في سورة الأنعام:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ *
ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَاّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 22-24) مع قوله تعالى في
سورة النساء: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلَا
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42)، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن لفظ
(يوم) له إطلاقان إطلاق بمعنى مدة بياض النهار أو مجموع ليل ونهار، وإطلاق
بمعنى الوقت مطلقًا، وإذا أضيف إلى حادثة وقعت أو قدر وقوعها في المستقبل يراد
به الإطلاق الثاني، ومنه أيام العرب المشهورة لا يريدون باليوم منها بياض نهار ولا
مجموع نهار وليل وإنما يريدون الوقت، وإن كان ساعة واحدة أو أيامًا طويلة بحسب
الإطلاق الأول.
ومنه أيضًا ما عبَّر عنه في القرآن الكريم بكلمة يومئذ أو يوم يكون كذا كقوله:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} (الأنعام: 22) ، وقوله {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
000} (النساء: 42) ، إلخ. ومثلهما كثير جدًّا لا سيّما في سياق الكلام على
الآخرة التي ليس فيها أيام تتعاقب مع الليالي فمعنى (يوم) في كل آية: وقت
يحدده الفعل الذي تعلق هو به في آية أو المضاف إليه كيوم الحسرة.
إذا تمهد هذا فاعلم أن الآيتين اللتين زعم النصراني تناقضهما تنبئان بأمرين
يكونان في يومين أي: وقعتين مختلفتين أحدهما حشر المشركين وسؤالهم عن الشرك
وقد أخبر أنهم يومئذ ينكرون كما في آية الأنعام، وثانيهما: إتيان الله بعد ذلك
الإنكار بالشهداء يشهدون عليهم وفي ذلك الوقت (أو اليوم) يضطرون إلى
الاعتراف فيعترفون ولا يكتمون كما في آية النساء. وقد حذف المعترض الآية التي
قبل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا 000} (النساء: 42) إلخ، وهي التي
تدل على أن عدم الكتمان إنما يكون بعد شهادة الشهداء، وهي قوله عز وجل {فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} (النساء: 41) ،
ومجموع الآيات يمثل لنا محاكمة في الحساب الأخروي ينكر فيها الخصم جريمته
أولاً ثم يضطر إلى الاعتراف بعد شهادة الشهداء وإقامة البينة كما يعهد في الدنيا،
والحكمة في هذا ردع العصاة وإنذارهم عاقبة الفضيحة في تلك المحاكمة التي لا
يظلم فيها أحد، فالآيات متوافقة متطابقة وما أظن أن ذلك العلَاّمة اللغوي الذي حرر
الاعتراض يجهل ذلك، وإنما هو مكابر ومشاغب. هذا هو الوجه الأول في الجواب.
وأما الوجه الثاني فهو ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الواو في قوله:
{000 وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42) ، واو الحال وليست واو العطف
فتدل على عدم الكتمان ومعنى الآية حينئذ: أن أولئك الكافرين العاصين تأخذهم
الرهبة ويحيط بهم الوجل فلا يتجرأون على الكذب على الله تعالى وإنكار ما كان
منهم، بل يودون أن يكونوا ترابًا فتسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا، يعلمون
أنه محيط به وأنه لا يعزب عن علمه، كما تقول: أود أن أُقتل ولا أغشك، أي
أنني أستحب الموت وأفضله على غشك. وبهذا التفسير تكون هذه الآية بمعنى
الأولى، وهو لا يأباه النظم ولا ينبذه الإعراب ولا ترفضه البلاغة والفصاحة، وما
هو بتأويل. ولا انحراف عن السبيل، ولو شاء المجيب أن يُكثِر من الوجوه لفعل فإنه
يشترط في تحقق التناقض الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان والمكان، إلى
آخر ما يسمونه الواحدات الثَّمان فكما أن الجواب الأول أَبَانَ عدم التناقض لعدم الاتفاق
في الزمان (والجواب الثاني في الخلاف بالمرة) فلنا أن نجيب جوابًا ثالثًا باختلاف
الموضوع فنقول: إن التناقض غير متحقق لاختلاف القضيتين في الموضوع فإن
إحداهما تحكي عن المشركين والأخرى عن الذين كفروا وعصوا الرسول، وتشمل
الموحدين الذين لم يشركوا ولكن كان كفرهم برفض الإيمان بالنبي عليه الصلاة
والسلام كما تشمل الذين آمنوا برسالته، ولكن عصوه في هدايته، وهذه آيات القرآن
تصف اليهود بالكفر دون الشرك، ثم إن لنا أن نجيب جوابًا رابعًا بمنع التناقض
لاختلاف المكان، فإن ليوم القيامة مواقف كما ورد فيحتمل أن ينكر المشركون
والكافرون جميعًا في بعضها، ويعترفوا في بعض آخر، والجواب الأول هو العمدة
ويليه في القوة الثاني.
(الشاهد العاشر) قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9)(إلى قوله) : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن
فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 10-12) زعم المعترض أن هذا
الكلام يفيد أمرين: أحدهما أن خلق الأرض والسموات في ثمانية أيام والآخر أنه
خلق السماء بعد الأرض لا قبلها، لكن الأول منقوض في سبعة مواضع من
القرآن بما معناه أن خلقهما وما بينهما في ستة أيام لا في ثمانية، والثاني منقوض
بقوله في سورة النازعات: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 27-
30) ، ونقول في الجواب عن الأمر الأول: إن من المستعمل الشائع عند العرب
أن يقال مثلاً: سرت من القاهرة إلى طنطا في يومين وإلى الإسكندرية في أربعة
أيام، ويراد في يومين آخرين كانا مع ما قبلهما أربعة أيام ولذلك لم يتوقف أحد من
الصحابة في فهم الآية، ولم ير مفسروهم كابن عباس وغيره أن هذه الآية تحتاج إلى
بيان، وإنما اختلف في إعرابها وإعراب أمثالها النحاة فقدر بعضهم مضافًا
محذوفًا للقرينة فقال المعنى: (في تتمة أربعة أيام) كما قدروا في مثل (واسأل
القرية) كلمة (أهل) أي: اسأل أهل القرية، وذهب الزمخشري إلى أن
الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يفيد أن العمل أو السفر كان في أربعة أيام على
طريق الفذلكة ولما كان المعترض مطلعًا على هذا ومقتنعًا بحسنه في قلبه لم ير
سبيلاً لصرف الوجوه عنه إلا شتم قائليه بتسمية ذلك تأولاً من عبث الولدان، وقد
زين له تعصبه أن يقول: إنه لو صح هذا (للزم منه أن يقول بعد ذلك عن السموات
فقضاهن سبع سموات في ستة أيام لا في يومين كما قال) واحتج على ذلك بزعمه
فقال: إن موضع الفذلكة آخر الكلام لا أوله.
وقد تجاهل أن الآية التي تنطق بخلق الأرض قد تمت وجاءت الفذلكة في آخرها
وأن الكلام في خلق السموات جاء في آية أخرى ابتدأت بثم التي تستعمل في
التراخي في الزمن، أو في رتبة العمل ونوعه بصرف النظر عن زمنه كما في قوله:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف: 189) ، وهكذا
شأن أهل العنت والبهت والتعصب الذميم.
وأما الأمر الثاني فقد أخذه المعترض من اختلاف المفسرين في خلق السموات
والأرض أيهما أسبق لاختلاف فهمهم في الآيتين وله بعض العذر - وهو ينظر بعين
السخط والنقد - إذا آنس فيهما خلافًا أو شبهة خلاف فتشبث بها وصرف ذهنه عن
الجمع بينهما بما جمع به المفسرون. وإنني أقول: إن جميع المفسرين قد قصروا في
تفسير أمثال هذه الآيات التي تتكلم في أمور المبدأ والمعاد، وغير ذلك من الأمور
الغيبية ولهم العذر فإن هذه الأمور لم تذكر في الكتب المنزلة لشرح حقائقها وبيان
كنهها بالتفصيل ولا لبيان تاريخها، وإنما يذكر الخلق والتكوين للاستدلال على قدرة
الله وعلمه وحكمته، ولتوجيه الأنظار إلى الاعتبار بما في المخلوقات والمكونات
من العلوم والحِكَم ووجوه المنافع. وقد أجاز بعض علماء اللاهوت من النصارى أن
يجيء في الكتب المقدسة من العبر والدلائل الصحيحة ما يُبنى على اعتقاد الأمم
المخاطَبة بها، وإن خالف الحقيقة لأن شرح الحقائق الكونية ليس من موضوع الدين
وإنما موضوعه الهداية إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وإنما أجازوه
لأنه كثير في كتبهم.
ومن عجائب القرآن وضروب إعجازه أن يصوغ الحقائق في قوالب العبر
فترى العبرة بادية يستفيد منها العوام والخواص، والحقائق كامنة فيها يستخرج منها
أصحاب القرائح والفهوم ما ينتهي إليه استعدادهم في كل زمن بحسب ارتقاء العقول
وتقدم العلوم فيه. كان الناس يتلون فيه آيات التكوين منذ ثلاثة عشر قرنًا فيهتدون
بدلائلها ويتعظون بعبرها، ولا يرون فيها شيئًا مخالفًا للحقائق الكونية التي كشفها
العلم. ثم ارتقى العلم الكوني في آخر هذه المدة وقرر أهله أشياء في أمور الخلق
والتكوين تؤيد القرآن من حيث لا يعلمون. قالوا إن السموات والأرض قد خُلقتا من
مادة تشبه الضباب سماها بعضهم (سديمًا) كانت مادة واحدة فانفطرت أو انفتقت
فكان منها أجسام كرية الشكل، انفصل منها كرات أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك
في القرآن بمثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت:
11) وقوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30)، وقوله:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: 14) .
وقالوا: إن هذه الأرض لم تخلق هكذا ابتداءً وإنما خلقت أطوارًا فكانت نارية ثم
مائعة ثم يابسة ليس فيها نبات ولا حيوان، ثم صار فيها الحيوان والنبات، وما حدثت
هذه الأطوار إلا بالتدريج الطويل، كل طور في زمن يليق به. وهذا التفصيل الذي
قالوه يفسر الإجمال في قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9)، والمعنى: أن أصل التكوين تم في زمنين (ولا تنس ما
تقدَّم شرحه من استعمال كلمة) يوم (في مطلق الزمان) ، ولا يأبى ذلك أن تكون في
أحدهما كرة نارية، وفي الثاني مائعة، ثم قال: إنه بارك فيها وقدر فيها الأقوات
حتى صارت صالحة للسكنى وارتفاق الأحياء في يومين تتمة أربعة أيام وذلك صريح
أو كالصريح في طور اليابسة التي ظهرت في الماء وطور الأحياء التي ظهرت في
اليابسة. ثم انتقل بعد هذا البيان إلى ذكر خلق السماء فذكر أنها كانت دخانًا وأنه
خلقها في يومين أي: في زمنين كل منهما تم فيه طور خاص، فكان خلق
السماء وتكوينها كخلق الأرض ولم يخبرنا بما قدر فيها بعد ذلك ولا بعدد الأزمنة التي
تدل على عدد الأطوار؛ لأن العبرة والاستدلال المقصودين من ذكر التكوين لا يتمان
إلا فيما للإنسان فيه علم ما وإن لنا علمًا بوجود السموات والأرض فذكر لنا خلقهما
وعلمًا بما في الأرض من الأقوات والخيرات فذكر لنا خلق ذلك.
فأنت ترى أنه لا يراد بالأيام التي خلقت فيها السموات والأرض أزمان
متعاقبة بينهما، ولا غير متعاقبة، وإنما يراد بها الإشارة إلى الأطوار، ومن
شأن الأطوار أن تتعاقب في كل شيء بحسبه {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) ،
فلو فرضنا أن الزمنين اللذين خلقت فيهما الأرض هما الزمنان اللذان خلقت فيهما
السماء بعينهما كما أن الطورين متحدان لما لزم من ذلك شيء يعترض به على
التعبير، إذ ليس المراد بيان التقديم والتأخير، ومن هنا تعلم أن قوله بعد ذكر خلق
الأرض {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (البقرة: 29) لم يقصد به الترتيب في الزمن بل
الترتيب في الذكر كأنه قال: إننا سقنا لكم هذه الآية من آيات قدرتنا وحكمتنا، ثم إننا
نسوق لكم آية أخرى، واستعمال (ثم) في الترتيب الذكري كثير في القرآن وفي كلام
العرب والمولدين.
وأما قوله تعالى بعد ذكر السماء في سورة النازعات: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
دَحَاهَا} (النازعات: 30) فلا يدل على أن خلق الأرض كان بعد خلق السماء ولا
قبله؛ إذ ليس معنى الدحو الخلق والتكوين وإنما معناه تمهيدها للسكنى في نهاية الطور
الرابع ولذلك وصل كلمة (دحاها) بتفسيرها، فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا
وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (النازعات: 31 -33) ،
ولا شك أن هذا كله كان بعد خلق السماء ووجود الليل والنهار الذي عبر عنه
بقوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} (النازعات: 29) ، فظهر
أنه لا تناقض ولا تنافي ولا تخالف بين آيات (فصلت) وآية النازعات. وثَمَّ
وجوه أخرى ذكرها المفسرون تنطبق على اللغة وإنما ذكرنا ما هو الراجح عندنا
بحسب ما وصل إليه علمنا وفوق كل ذي علم عليم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
ما هو الخير والشر؟
هاتان الكلمتان (الخير والشر) وما رادفهما يرد ذكرهما كثيرًا في العلم
الباحث عن أحوال النفس ومعاملاتها، بل عليهما مدار هذا العلم في أوامره ونواهيه؛
لأن الإنسان في محبته طالب خير وفي بغضه هارب من شر. وهذا هو ديدن
الإنسان مدة حياته. وكل واحد يعتقد في الجهة التي يطلبها الخير لنفسه وفي الجهة
التي يهرب منها الشر (اللهم إلا مبغضي ذواتهم!) ، وكل واحد ينبسط للخير
وينقبض من الشر. ولكن هل كل واحد يعرف ما هو الخير وما هو الشر، وهل كل
من اعتقد في جهة من الجهات الخير أو الشر مصيب؟ لو كان كل واحد عارفًا بهما
لكان كل واحد مصيبًا في طلبه وهربه، ولو كان كل واحد مصيبًا لتضاءل الشر
وتبارك الخير.
هذه القضايا مسلمة، وبناءً عليها نسأل ويقال لنا: من ذا الذي يتولى للناس
تعريف هاتين الكلمتين؟ فنقول: هم الباحثون في أحوال النفس. فنسأل مرة أخرى
ويقال لنا: من هم أولئك الباحثون؟ هل هم إلا أناس أمثالنا؟ وفي هذا السؤال
رائحة الإباء والاستنكاف فيجب أن يكون في الجواب رائحة الرفق والأناة فنقول:
الباحثون في علم النفس أناس أمثال غيرهم من حيث الصور الجسدية، وكذلك
الباحثون في كل علم.
ولكن لكل امرئ في هذه الحياة عمل تتفق له فيه إجادة لا تتفق لغيره سيما إن
كان ذلك الغير ليس من أرباب ذلك العمل. مثاله الشاعر هو رجل وأنت يا أيها
الفلاح رجل فلِمَ أنت عاجز عما يعلمه ويعمله هو؟ أليس لأنك لم تعانِ الشعر؟
(بلى) وإني أبشرك بأنه هو عاجز أيضًا عما تعلمه وتعمله أنت؛ لأنه لم يعانِ ما
عانيته. كذلكم قولوا في الصائغ هو عاجز عما يعلمه ويعمله الخياط، والثاني عاجز
عما يعلمه الأول.
وكذلكم قولوا في أرباب العلوم والصنائع كلها. ويومئذ لا يصعب عليكم أن
تقولوا: إن الذي يعانيه علماء النفس من التفكر والتذكر واختبار الأحوال وتجربة
الأمور ربما لا يتفق لغيرهم أن يعانوه. فإذا كانوا أمثالهم من جهة صورة الجسد لا
يلزم أن يكونوا أمثالهم من جهة صورة الفكر. ولعمركم إن ابن خلدون والغزالي
لا يحصى مشابهوهما في الخلقة، ولكن مشابهوهما ومقاربوهما في صنعتيهما يعدون
على الأصابع، وربما لا يبلغون عدد أصابع الكفين.
فإذا علم السائل هذا وسهل عليه أن يعرّف له علماء النفس (في انفرادها
واجتماعها) الخير والشر، فليصغِ إلى ما اقتبسناه منهم بفكر خالص من الوهم
والتقليد، وليتأمله بعقله المستفاد لا بعقله المستعار.
(الخير هو استعمال الإنسان ما خلق الله له من القوى والاستعدادات فيما
خلقت لأجله استعمالاً مشروعًا (أي: تابعًا لشرع) يراعى فيه حق الغير) ، والشر
ضده أي: عدم الاستعمال مطلقًا أو الاستعمال في غير ما خلقت لأجله أو الاستعمال
الذي ليس بتابع لشيء.
هذا التعريف وافٍ جامع لكن التعاريف في الحقيقة لا يستغني بها الناس عن
الشروح والإيضاحات والأمثلة (اللهم إلا أذكى الأذكياء) ، فكأنها إنما تسطر لتكون
قاعدة وأصلاً للشروح، ولتحفظ عبارتها الجامعة بعد أن يحيط الناس خبرًا بالمسألة
من الإيضاحات والأمثلة.
إن الله جل ثناؤه قد خلق في الإنسان قوى واستعدادات بعضها نصيبها مباشرة
المحسوس، وبعضها نصيبها ملاحظة المعقولات فكل ما يستعمل فيه الإنسان قواه
ويناله يلتذ به، وكل ما يلتذ به الإنسان خير إلا لذة تؤدي إلى ألم، أو لذة يغصب فيها
حق الغير. وكل ما يمنع الإنسان عن استعمال القوى فهو شر.
(مثال أول) أنت إذا أكلت فمعناه:
(1)
أنك تمكنت من أن تأكل وهو دليل عدم مرضك وعدم حرمانك من
حصول الطعم.
و (2) أنك استعملت القوة المخلوقة لك لأجل الأكل لحكمة حياتك، وهو دليل
محبتك لذاتك؛ لأنك لو لم تستعملها لم تحي. ودليل أنك وافقت الفطرة التي فطرك
الله عليها.
و (3) أنك تلذذت في أكلك وهو دليل سلامة حواسك، وكل هذه الأشياء في
كونها خيرًا. أما إذا أكلت فوق الشبع فإنك سوف تتألم إما عاجلاً وإما آجلاً. وقد
عطلت في هذا الأكل القوة التي تستطيع بها أن تأكل. وقللت لذلك فيما بعد.
وخالفت الأدب، وكل هذه شر، وكذلك إذا تعديت في أكلك على حق الغير كأن
غصبت الذي أكلته من غيرك فإن هذا يؤدي إلى أن يشاجرك عليه، وقد يقوى عليك
بقوته، أو القوة المؤلفة لحفظ الحقوق (قوة الحكومات) وإذا قوي عليك، فقد يغصب
منك ما تحتاج إليه، وقد يعمل فيك أعمالاً تمنعك عن الالتذاذ بالأكل، وكذلك إذا
استعملت القوة في غير ما خلقت لأجله كما إذا أكلت سمًّا أو ترابًا. أو لم تستعملها
ألبتة كبعض الذين يعملون ذلك، ويجوعون أيامًا عمدًا، فكل هذه المذكورات شر.
(مثال ثانٍ) وأنت إذا واقعت فمعناه: (1) أنك تمكنت من الوقاع ولم
يمنعك مانع، و (2) أنك استعملت القوة المخلوقة فيك لأجل الوقاع لحكمة بقاء
النوع، و (3) أنك وافقت الفطرة، و (4) أنك أحببت غيرك ، و (5) أنك
تلذذت.
وكل هذه المذكورات دليل سلامة حواسك وسلامة فطرتك وسلامة عقلك ودليل
أمنك في الموانع الغيرية كالموانع الذاتية، وكلها خير إذا كان وقاعك تابعًا لنظام،
أما إذا أفرطت في الوقاع إفراطًا يعطل القوة، أو استعملت القوة في غير ما خُلقت
لأجله، كأن واقعت بهيمة أو دبرًا أو أهملت الوقاع المشروع من غير مانع، فإن
هذه الأشياء عين الشر.
(مثال ثالث) وأنت إذا اكتسيت فمعناه: (1) أنك حصلت ما تتقي به
الحر والبرد، و (2) أنه أحبك الغير إذ عمل لك ما تلبس، وأحببت الغير إذ سترت
عن عينه ما ربما يكره أن يراه، و (3) أنك أحببت ذاتك إذ وقيتها أو زينتها، وكل
هذه خير. أما إذا لبِست ما لا عدل فيه كلبس ما لا يلائم عملك كديباج وأنت تعمل
في الطين، أو قنب غليظ وأنت حاكم أو بزاز، وكلبس شيء يليق بالإناث دون
الرجال وكالتزين بشيء يحتاجه الناس للمبادلة أشد الاحتياج. أو أبغضت ذاتك فلم
تلبَس، أو لبِست ما يلائم عملك، أو لبست ما لا يلائم الزمان، كلبس أخف الثياب
في أشد الأيام بردًا وبالعكس. فكل هذه وما أشبهها من الأشياء التي لا عدل
فيها شر.
(مثال رابع) وأنت إذا أويت إلى مبيت وبت في أمان فمعناه: (1) أنك
نلت حاجة لا يعلو فيها عليك الملوك إلا بالزخرف. و (2) أنك نلت من فوائد
اشتراكك مع الهيئة المجتمعة؛ لأنك ما وجدت هذا المبيت إلا بفضل اجتماعهم، ولا
وجدت هذا الأمان إلا بفضل التكافل المشروط طبعًا ووضعًا وشرعًا، ولولا ما ذكرنا
لما كان مبيتك أفضل من جحر الوحش، ولا كنت بآمن من حمام بين صقور. ولا
آنس من حي بين موتى القبور، فقدر هذا الخير بنظرك لتعلم فضل غيرك على
ذاتك، ولتعلم أن لذاتك فضلاً على غيرك به استوجبت فضله عليك. ولتعلم من هذا
أن الأمر تكافؤ وتكافل. لا تطول وتفضل. وأن الفضل كله لله وحده. وأن
الخيرات لا تعدونا طرفة عين، ولكننا غافلون نجلب الشر على أنفسنا بأنفسنا حنينًا
منا إلى جهالات سبقت، ونحن لها متوارثون إلى أن يأذن الله بتقشعها رويدًا رويدًا.
أما إذا استوحشت نفسك وتشبهت بالوحوش في مساكنها ومعايشها فمعناه أنك
أهملت الاستعداد الذي فيك وخالفت الفطرة، وأبغضت ذاتك فلا شك بأن هذه الحالة
من الشر.
(مثال خامس) وأنت إذا تفكرت في خواصّ المحسوسات وعجائب
المعقولات فأنت يومئذ الخَيِّر العظيم يوم يُنْتِجُ تفكرك علمًا، وعلمك عملاً، وعملك
نفعًا عميمًا وشرفًا للنوع عظيمًا. بربكم قولوا لنا: إذا استثنينا من هذا النوع أُولي
الألباب من الأنبياء، وذوي الأفكار من الحكماء والمخترعين والمعلمين فأية مزية
تبقى في الباقين وأي شرف لهم؟ أولئك هم مفاتح أبواب الخير ومصادر الشرف الأعلى لهذا النوع. أما من أساء استعمال التفكر كأن تفكر بالعدوان وأساليبه فهو
الشرير العظيم. ومثله أو قريب منه من أهمل الفكر؛ لأنه يصعب علينا أن نفرق بين
عامل بالشر، وحامل عليه؛ لأنه تفكر وبين واقع في الشر، ومحمول عليه؛
لأنه لم يتفكر.
نسأل الله السلامة لأفكارنا من أن نهملها، ومن أن نعملها في باطل، ومن أن
نعميها بالتقليد.
هذا ويرى القارئ أننا تساهلنا أو سهلنا العبارة، وتنازلنا بالتمثيل إلى أمور ليس
إدراكها بالصعب، فربما ظن أننا نكتب كتابًا لقراءة المبتدئين. وهذا الظن قد ينشأ
من أمرين: الأول الأسلوب الذي التزمناه لزيادة التوضيح وعدلنا به عن سرد الكلام،
والثاني استصغار هذه الأمور التي مثلنا بها. ولما كان الواقع يكبر هذه الأمور التي
سَبَكْنَا نضار حقائقها بقالب سهل المأخذ وجب أن نزيدها تبيانًا ونزيد الخير والشر
تعريفًا.
إن الإنسان هذا المخلوق العظيم، صاحب العقل المنير، صاحب الرأي
والتدبير، صاحب السلطان على مخلوقات الأرض، والإشراف على مصنوعات
السماء، صاحب التمدين والاجتماع، صاحب الإبداع والاختراع، صاحب المنطق
المفيد، والعزم الشديد. صاحب الصورة التامة، والروح العالية، صاحب المآثر
والآثار، كاشف الخواص والأسرار، هذا السائد بالفكر الممتاز به لم يخرج في كل
مزاياه التي عددناها وغيرها مما يعجز القلم عن تصويرها تصويرًا شعريًّا خياليًّا أو
حقيقيًّا عن كونه حيوانًا محتاجًا كالحيوانات إلى طعام وشراب ومأوى مسوقًا من
طبيعة خلقته إلى الوقاع ومعالجة ألم البأة. فهب أننا سميناه قطب هذا الوجود،
وصفوة السر من كل موجود، وهب أننا رفعنا علومه فوق الشمس مقامًا وضياءً.
وأحللنا فضائله فوق التصور درجة واستقصاءً، ونوهنا بمنزلته عند خالقه،
وعظمنا الاعتبار للطبيعي من خلائقه، أفنستطيع أن نقول: إنه مقدس عن المطعم
والمأوى والمنكح، بعدما اختبرناه دهورًا دهارير، وبلوناه فذًا وفي العير والنفير.
هل علمنا منه غير كونه هلوعًا، إذا مسه الخير مما يغذوه ويكسوه كان منوعًا،
وإذا مسه الشر من جوع وعري كان جزوعًا، هل عهدنا به إلا التقاتل من طمع
أفراده وحبهم الاستئثار؟
هذا هو الإنسان الذي يعرفون ماضيه وما أنتم عن حاضره بغافلين. هذا هو
المخلوق الذي فطره خالقه محتاجًا ويسّر له ما يحتاج إليه، وخلق فيه سائقًا يسوقه
نحوه وجاذبًا يجذبه ودافعًا يدفع ما يرى استغناءه عنه. أفتسمي هذا التركيب الذي
ركّبه الصانع شرًّا. أم عمل المخلوق بحسب التركيب. أم تيسر الحاجة التي لا بد
منها. أم اللذة الطبيعية في نيل هذه الحاجة؟ وإذا لم تكن هذه شرًّا فهل بقي إلا
الخير؟
سيقول قائلون: إن هذا الاحتياج لا يدفعه الإنسان عن نفسه بتحصيل الحاجة
إلا بكد ونصب، وقصارى الأمر في حصول الحاجة أنها تسكن ألمًا تقدم الحصول،
فهب أننا سمينا تلك الأمور خيرًا، أفليس الشر قبلها وبعدها؟
هذا كلام له وجه ظاهر ولكن ههنا اعتقادان في حياة الإنسان، أحدهما أن
الإنسان يستفيد منها، والآخر أنه لا يستفيد، فإن كان السائل ممن يعتقدون
استفادة الإنسان من الحياة فجوابنا له أن الألم السابق الذي يسكنه نيل الحاجة وتعقبه
بهذا النيل اللذة ليس شرًّا، بل هو لتعرف به اللذة ويشعر بها، ولو كانت دائمة لما
أحس بها المرء، وهذا كسبق العدم على الوجود، والجهل على العلم، والضعف في
الطفولية على القوة في الرجولية ونظائر ما ذكرنا.
على أنه إذا سمينا تلك الآلام وما يتبعها من لزوم الكد والنَّصَبِ والمجاهدة
شرورًا فلا ضير فيها إذا كانت الخيرات تدفعها وتهونها، ويدلنا على ذلك استعذاب
الحياة مع كل المرارات التي تصادف في سبيلها، وما ذلك إلا لأن الخيرات لا يطول
احتجابها، كالشمس إذا حجبها الدجى واستأنف النهار يشرق بضيائها. وإن كان
السائل ممن لا يقولون باستفادة الإنسان من الحياة فجوابنا له: إذا كانت الحياة من
أصلها حملاً ثقيلاً، والأحوال فيها متضادة ومتعاقبة يعقب الضِّدُّ فيها الضِّدُّ فمهما
صادفنا الضد الذي نرتاح به زمنًا من الأزمان كان جديرًا بنا أن نفضله على ضده
الذي يتعبنا. وهذا هو معنى الخير والشر اللذين هما ضدان. على أنك يا منكر
الاستفادة من الحياة يشم منك رائحة اتباع الخيالات الفاسدة، ويتفرس فيك أنك
مبغض أو ستبغض ذاتك، ويتوقع بك كل شر فدعني منك.
إن هذا الإنسان البديع خلقه لم يخلقه الخالق عبثًا وأنه خلق لأمر عظيم. وأنه
سائر إلى كمال بديع. وأنه شاء أو أبى يحيا في هذه الدار محبًّا للحياة. ويكد فيها
غير مالٍّ من الكَدِّ. وأن الصانع خلق له ما في الأرض جميعًا، وقسم بين أفراده
الأعمال. وخصَّ كل عامل بما يناسب عمله من طعام ولباس ومبيت. وأعان كل
عامل على عمله. وعلَّمه ما لم يعلم. وأتحفه بهذا الفكر العجيب. الذي به امتيازه
العالي. فانقسم الإنسان بحسب جسده وفكره بين جهتين تتعاور عليه فيهما الخيرات
والشرور التي جعلها الصانع ممتزجة ببعضها. وجعل للجسد من الخيرات لذات
المطاعم والمشارب والمناكح والمساكن. وللفكر من الخيرات لذات الإدراك للأمور
البعيدة والاختراعات العجيبة والتأثيرات المعنوية الغريبة. وجعل الخيرات متيسرة،
ولكن تجاوز الحدود هو الذي يوفر الشرور. وتجاوز الحدود أكثر ما ينشأ من قلة
التفكر وعدم العلم بنظام الحب والبغض أي: بأحوال النفوس في انفرادها واجتماعها.
ومن أحب ذاته حق المحبة هيهات أن يظلمها. ومن أراد أن يظلم نفسه فليحازب من
لا يظلمون غيرهم وليحارب من يظلمون. فلا جناح علينا أن نبيع الحياة وهي أغلى
شيء في جهاد الذين يظلمون غيرهم لعلنا نحيا لا نظلم ولا نُظلم. أو يحيا أبناؤنا
من بعدنا على هذه الشاكلة. لعلنا نحيا عالمين أن ذوات غيرنا كذاتنا فنأخذ ما لنا
وندع لهم ما لهم. لعلنا نحيا متعاونين، فنحن كلنا إخوة سواء بالحياة والممات سواء
بالحاجة للأكل والشرب والنكاح، سواء بالتكلم والتفكر اللذين يميزانِنَا عن العجماوات
سواء بالفرح والألم إذا فزنا أو خبنا، سواء بالخوف والرجاء في يومنا وغدنا.
ونحن سواء بالتفكر والعنا
…
بتحصيل ما نحتاج في كل معمل
ترى أعجزنا إن نسالم بعضنا
…
لنسلم من عدواننا والتقلقل
نرى أعجزنا أن نعاف رذائلا
…
ونهجر أوهامًا رمتنا بأحبل
اللهم ألهمنا رشدنا وأعنا في استثمار الخيرات الموهوبة لأفكارنا، إنك مفيض
الخير، وأنت المستغني وحدَك عن الغير.
…
...
…
...
(ثمة بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من دلائل الإعجاز [*]
تمتاز كتب الإمام عبد القاهر الجرجاني واضع فنون البلاغة رحمه الله
تعالى) - على سائر الكتب التي أُلفت من بعده بعدة مزايا: منها أَنَّ عبارتها بليغة
وأساليبها رشيقة، ومنها تصوير المعاني شخوصًا تامة سوية، حتى كأن العقولات
ملموسة مرئية، ومنها كثرة إيراد الشواهد والأمثلة على الوجه الذي اختاره
الأوربيون ومقلدوهم في كتب التعليم لهذا العهد. وإننا نورد هنا نموذجًا من كتاب
دلائل الإعجاز في علم المعاني، وذلك من حيث انتهينا في الطبع بمطبعتنا
(الكراسة أو الملزمة 44) . بيَّن رحمه الله في فصول متعددة فساد رأي الذين
ذهبوا إلى أن الفصاحة والبلاغة صفة للفظ دون النظْم والأسلوب، باعتبار تصوير
المعنى، ثم ختم ذلك بفصل في الموازنة بين المذهبين، فقال:
* * *
فصل
قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم، وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم
كل مبلغ، وانتهينا إلى كل غاية، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسفون فيها
إلى السَّنن اللاحب، ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النمير الذي يشفي غليل
الشارب، ولم ندَع لباطلهم عِرقًا ينبض إلا كويناه، ولا للخلاف لسانًا ينطق إلا
أخرسناه. ولم نترك غطاءً كان على بصر ذي عقل إلا حسرناه، فيا أيها السامع لما
قلناه، والناظر فيما كتبناه، والمتصفح لما دوَّنَّاه، إن كنت سمعت سماع صادق
الرغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة، ونظرت نظر تام العناية في أن يورد
ويصدر عن معرفة، وتصفحت تصفح مَن إذا مارس بابًا من العلم لم يقنعه إلا أن
يكون على ذروة السنام، ويضرب بالمعلى من السهام، فقد هُديت لضالتك، وفتح
لك الطريق إلى بُغيتك، وهيئ لك الأداة التي بها تبلغ، وأوتيت الآلة التي معها
تصل، فخذ لنفسك بالتي هي أملأ ليديك، وأعْوَد بالحظ عليك، ووازن بين حالك
الآن - وقد تنبهت من رقدتك، وأفقت من غفلتك، وصرت تعلم (إذا أنت خضتَ
في أمر اللفظ والنظم) معنى ما تذكر، وتعلم كيف تورد وتصدر - وبينها [1] وأنت
من أمرها في عمياء، وخابط خبْط عَشْواء. قصاراك أن تكرر ألفاظًا لا تعرف
لشيء منها تفسيرًا. وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع
لها تبيينًا، فإنك تراك تطيل التعجب من غفلتك، وتُكثر الاعتذار إلى عقلك من
الذي كنت عليه طول مدتك، ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده
وننتحيه، لوجهه خالصًا، وإلى رضاه عز وجل مؤديًا، ولثوابه مقتضيًا، وللزلفى
عنده موجبًا بمنَّه وفضله ورحمته.
ثم عقد فصلاً لكشف شبهة الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة للألفاظ، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي
يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن - وجب أن يتوخَّى دائبًا فيهم ما يتوخاه
الطبيب في الناقِه، من تعهده بما يزيد في مُنَّته، ويُبقيه على صحته، ويؤمنه
النكس في علته، وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن
المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون،
فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا
هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف، وغيرهما من أصناف الحلي. فإن جهلهم
بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم، وورَّطهم فيما تورطوا فيه من
الجهالات، وأداهم إلى التعليق بالمُحالات؛ وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة
وضعوا لأنفسهم أساسًا، وبنوا على قاعدة، فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا
ثالث، وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم
كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه - أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى
اللفظ خاصة، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى، من حيث إن ذلك - زعموا -
يؤدي إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايرًا وغير متغاير معًا.
ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى
اللفظ على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى
اللفظ، مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا نابٍ به موضعه، إلى سائر ما ذكرناه
قبل، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللسان
وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم
يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي
عناه الجاحظ، حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني
مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدوي، وإنما
الشعر صياغة [2] وضرب من التصوير، وما يعنونه إذا قالوا: إنه يأخذ الحديث
فيشنفه ويقرطه، ويأخذ المعنى خرزة، فيرده جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة،
ويأخذه عاطلاً فيرده حاليًا، وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا
الخفاء، ويشتبه هذا الاشتباه، ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر
غير البصير به - أُعضل الداء، واشتد البلاء، ولو لم يكن من الدليل على أنهم
لم ينحلوا اللفظ الفضيلة، وهم يريدونه نفسه، وعلى الحقيقة إلا واحد، وهو
وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنه حلي له -لكان فيه الكفاية؛ وذاك أن الألفاظ
أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأما أن
يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يتصور
في وهم.
ثم ذكر الأخذ والسرقة وبيَّن أن التفاضل يكون بالأسلوب لا بالألفاظ، ثم أورد
الأمثلة فقال:
ثم إن أردت مثالاً في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع أبو تمام في بيت
أبي نُخَيْلَة، وذلك أن أبا نخيلة قال - في مَسلمة بن عبد الملك -:
أمسلم إني يا ابن كل خليفة
…
ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرضِ
شكرتك إن الشكر حبل من التقى
…
وما كل مَن أوليته صالحا يقضي
وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً
…
ولكن بعض الذكر أنبه من بعضِ [3]
فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير، فقال:
لقد زدت أوضاحي امتدادًا ولم أكن بهيمًا ولا أرضي من الأرض مجهلا [4]
ولكن أياد صادفتني جسامها أغرّ فأوفت بي أغر محجَّلا
وفي كتاب الشعر والشعراء للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن، قال:
ومن الأمثال القديمة قولهم: (حرًّا أخاف على جاني كمأة لا قُرًّا) يضرب مثلاً للذي
يخاف من شيء، فيسلم منه، ويصيبه غيره مما لم يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض
الشعراء، فقال:[5]
وحذرت من أمر فمرَّ بجانبي
…
لم يَنْكِنِي ولقيت ما لم أحذر
وقال لبيد:
أخشى على أربد الحتوف ولا
…
أرهب نوء السماك والأسد [6]
قال: وأخذه البحتري، فأحسن وطغى اقتدارًا على العبارة، واتساعًا في
المعنى، فقال:
لو أنني أُوفي التجارب حقها
…
فيما أرت لرجوت ما أخشاه
وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب [7] أيضًا، أُنشد [8] لإبراهيم بن
المهدي:
يا مَن لقلب صِيغَ من صخرة
…
في جسد من لؤلوء رطبِ
جرحت خديه بلحظي فما
…
برحت حتى اقتصَّ من قلبي
ثم قال: قال علي بن هارون أخذه أحمد بن أبي فنن معنًى ولفظًا، فقال:[9]
أدميت باللحظات وجنته
…
فاقتص ناظره من القلب
قال: ولكنه بنقاء عبارته، وحسن مأخذه قد صار أولى به، ففي هذا دليل لمَن
عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ، ولكن صورة وصفه وخصوصية
تحدث في المعنى، وشيئًا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنه على
كل حال لم يقل في البحتري: إنه أحسن، فطغى اقتدارًا على العبارة من أجل
حروف: (لو أنني أوفي التجارب حقها) ، وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء
العبارة من أجل حروف: (أدميت باللحظات وجنته) .
* * *
ثم عقد فصلاً للموازنة بين نظم المعنى المتحد
في اللفظ المتعدد
فقال: وقد أردت إن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد
قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى
بالمعنى غفلاً ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب، وقسم
أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوَّر.
وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غُفْلاً، وفي الآخر
مصوّرًا مصنوعًا، ويكون ذلك إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم، وإما لأن هدي
متأخر لشيء لم يهتدِ إليه المتقدم، ومثال ذلك قول المتنبي:
بئس الليالي سهرتُ من طربي
…
شوقًا إلى مَن يَبيت يرقدها
مع قول البحتري:
ليلٌ يصادفني ومرهفة الحشا
…
ضدين أسهره لها وتنامُهُ
وقول البحتري:
ولو ملكت زَمَاعًا ظل يجذبني
…
قَوْدًا لَكَانَ نَدَى كفَّيْك من عُقُلي [10]
مع قول المتنبي:
وقيدت نفسي في ذُراك محبة
…
ومَن وجد الإحسان قيدًا تقيَّدا
وقول المتنبي:
إذا اعتلَّ سيف الدولة اعتلت الأرضُ
…
ومَن فوقها والبأس والكرم المحضُ
مع قول البحتري:
ظللنا نعود الجود من وعكك الذي
…
وجدت وقلنا اعتلَّ عضو من المجدِ
وقول المتنبي:
يعطيك مبتدِئًا فإن أعجلته
…
أعطاك معتذرًا كمَن قد أجرما
مع قول أبي تمام:
أخو عَزَمَات فعلُه فعلُ محسنِ
…
إلينا ولكن عذرُه عذرُ مذنبِ
وقول المتنبي:
كريمٌ متى استوهبت ما أنت راكبٌ
…
وقد لقحتْ حربٌ فإنك نازلُ [11]
مع قول البحتري:
ماضٍ على عزمه في الجود لو وهب الشَّـ ـم باب يوم لقاء البيض ما ندما [12]
وقول المتنبي:
والذي يشهدُ الوغى ساكنُ القلـ
…
ـبِ كأن القتالَ فيها ذِمامُ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) إن هذا النموذج نموذج للطبع أيضًا؛ فالكتاب يُطبع بهذه الحروف.
(1)
قوله: (وبينها) عطف على قوله: (بين حالك الآن) .
(2)
أي: كلامنا الآن في أنهم إلخ مبتدأ وخبر.
(3)
وفي رواية: (ونوهت لي باسمي) .
(4)
الأوضاح: جمع وضح وهو البياض.
(5)
وقيل في هذا المعنى:
نرى الشيء مما يُتَّقَى فنهابه
…
وما لا نرى مما يقي الله أكثر.
(6)
أربد هو أخو لبيد، قتلته الصاعقة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع عامر بن الطفيل يريدان قتله عليه الصلاة والسلام.
(7)
يريد كتاب المرزباني.
(8)
أي المرزباني.
(9)
قد أكثر الشعراء تجاذب هذا المعنى، وحسَّنه بعضهم بالاقتباس، فقال:
إلى الله أشكو عشق ظبي مهفهف
…
رماني وما لي من يديه خلاص
جرحت بعيني خده وهو جارح
…
بعينيه قلبي والجروح قصاص
وأوردته - في مورد الاحتجاج - إحدى الحسان، فقالت:
ألحاظنا تجرحكم في الحشا
…
ولحظكم يجرحنا في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا
…
فما الذي أوجب جرح الصدود
(10)
أراد من الزماع: العزم على الرجوع إلى أهله.
(11)
لقحت الحرب: هاجت بعد سكون، ويقال لقحت العداوة بمعناه.
(12)
الظاهر أنه يريد بالبيض: النساء الحسان، وإن تخيل هبة الشباب في ذلك اليوم لأبعد شوط، وآخر غاية ينتهي إليها خيال الشاعر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
البابا لاون الثالث عشر - ترجمته
في يوم الإثنين الماضي (20 يوليو) توفي عظيم النصرانية ورئيس الطائفة
الكبرى فيها بابا رومية عن ثلاث وتسعين سنة، قضى جُلها في خدمة مذهبه
الكاثوليكي منها خمس وعشرون سنة، أو ربع قرن في منصب البابوية، وقد كان
لسياسته من التأثير في عالم النصرانية والمدنية ما لم يكن في حسبان أحد من
العالمين، وكاتب هذه السطور يعتقد أنه كان أعقل رجال أوربا وأعلاهم كعبًا
في السياسة. وإننا نذكر من ترجمته ما فيه العبرة للمسلمين كما يليق بمجلة
إسلامية مثل المنار، فلا تقل - أيها المسلم - ما لهذه المجلة الإسلامية ولزعماء
النصرانية؟ !
الكاثوليك أكثر فرق النصارى عددًا، واعتقادهم في البابا كاعتقاد أكثر المسلمين
في الخليفة أو أمير المؤمنين من حيث الرياسة الدينية والدنيوية في الجملة، وكاعتقاد
بعض الفرق الإسلامية في وجوب عصمة الإمام الحق، ثم إنه يُنتخب من طائفة
مخصوصة ولا يأخذ هذا المنصب بالوراثة، وتلك سنة الإسلام في انتخاب الإمام من
طائفة مخصوصة.
قال ياقوت في معجمه: (والبابا رئيس الفرنج هو عندهم نائب المسيح كما
هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم) ،
وقال الشريف الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق: (وفي مدينة رومة قصر الملك
المسمى البابة، وليس فوق البابة فوق في القدر والملوك دونه، ويقيمونه مقام الباري
جل وعز! !) إلى أن قال: (وحكمه نافذ ماضٍ على جميع ملوك الروم، ولا يقدر
أحد منهم يرد عليه) وقال أبو الفداء في كتاب تقويم البلدان عن أهل بيزة: (وليس
لهم ملك، وإنما مرجعهم إلى الباب خليفة النصارى) وقال عن رومية: (وهي مدينة
مشهورة ومقر خليفة النصارى المسمى بالباب) ، وقد تكلم ابن خلدون عن هذه
الرياسة وصاحبها بإيضاح تام؛ ولهذا كله قال بعض علماء أوربا: إن البابوية
أو النصرانية مقتبسة من الإسلام!
جلس لاون الثالث عشر على كرسي هذه الخلافة (سنة 1778م) ، وأوربا
بقضّها وقضيضها وعلومها وصنائعها ومدنيتها معادية للكاثوليك أشد من معاداتها
للإسلام؛ لأنها تعتقد أن الكاثوليك والبابوية من الأمراض الباطنية التي أصابت
الوطن في القلب والكبد والرئتين، فهي تفتأ تفتك به، حتى تبيده، فالكثلكة خطر في
الباطن تحارب خوفًا وحذرًا من شرها، وأما الإسلام فهو عدو على البعد يحارب طمعًا
في أرضه ودياره. ولكن البابا لاون الثالث عشر حول بسياسته ودهائه ذلك العداء إلى
ولاء، وذلك الاستخفاف والاحتقار واعتبار، والفضل في ذلك لحسن الانتخاب
والاختيار، إذ لو كان هذا المنصب وراثيًّا لما ارتقى إليه مثل هذا الرجل.
ولد ليون الثالث عشر (وكان اسمه قبل البابوية بتشي) في 2 مارث سنة
1810م في بلدة كاربنتو من إيطاليا، وتعلم التعليم الابتدائي في مدرسة للجزويت
ببلدة فيترب، وجاء رومية سنة 1824 وأتم دروسه بمدرسة الجزويت فيها،
ثم بمدرسة رومية الجامعة، وعني أولاً بالعلوم الطبيعية والكيمياء حتى نبغ فيها،
ثم اشتغل بآداب اللغة اللاتينية حتى عد من الكتاب البلغاء والشعراء المجيدين، ثم
درس علوم الفلسفة واللاهوت فأتقنها ومنح لقب (دكتور) في الفلسفة. ثم وجه
عنايته إلى علم الحقوق فبرع حتى أخذ الشهادة العالية فيه من مدرسة رومية
الجامعة.
وفي سنة 1837 عين قسًا ونائبًا عن البابا في بعض البلاد، وفي سنة 1843
عين رئيسًا لأساقفة دمياط، ثم وكيلاً للبابا في بروكسل عاصمة بلجيكا فأقام في تلك
البلاد ثلاث سنين منحه ملكها في آخرها وسام (ليوبولد) من الدرجة الأولى وهو
من أعلى الوسامات عنده، وفي سنة 1846 عين رئيسًا لأساقفة بيروز. وقد لبث في
منصب الأسقفية 32 سنة كان فيها حسن السلوك يستتيب اللصوص والبغاة المعتدين
حتى خلت منهم السجون التي كانت ممتلئة بهم قبل عهده. وفي سنة 1877 صار
كردينالا ومديرا في الفاتيكان والكنيسة الرومانية، وفي سنة 1878 توفي البابا بيوس
التاسع فانتخب خلفًا له.
وقد ذكرنا هذه النبذة الوجيزة في تعليمه وتقلبه في الأعمال الدينية لأجل
المقابلة بين تربية رؤسائهم ورؤسائنا حتى لا يعجب أحد من تقدمهم وتأخرنا.
إذا سأل المسلم عن كيفية تربية رئيس أمته العام من أمير وسلطان أو ولي
عهدهما أو الرئيس الخاص كشيخ الإسلام في الآستانة وشيخ الأزهر في مصر،
وسأل: ماذا تعلم هؤلاء من العلوم التي لا بد منها للأمة التي يرأسونها، وما
هي الأعمال والمناصب التي تقلبوا فيها فظهر استعدادهم لخدمة الأمة فرشحوا لها
بسببها فماذا يكون جواب هذا السائل؟ لعل الأكثرين يجيبونه بأن الواجب علينا أن
نقبل رياستهم من غير سؤال عن استعدادهم، وعن علومهم وأعمالهم، ومن تحدث
بشيء من ذلك فهو عدو للملة والدين. وفتنة لجميع المسلمين، وذلك أن الأمة في
طور الضعف لا يرضيها إلا أن يمدح منها كل شيء، وذلك أنها تشعر بفقد مقومات
السعادة بالفعل فتحب أن تخادع نفسها بالمدح كما يتكبر الوضيع ويتنفج ليظهر في
مظهر الكبراء.
فقد الكاثوليك السلطة الدنيوية، سلبها الملوك من البابا الذي كان يفيضها عليهم
ولو تسنى لهم في أي يوم من الأيام إرجاعها لوجدوا في الفاتيكان رجالاً يديرونها
أحسن مما يديرها ملك إيطاليا، وحكومته في جميع أصولها الإدارية والمالية
والقضائية والعسكرية؛ لأن رجال الدين عندهم يتعلمون كل شيء.
أرأيتك هؤلاء الذين يسمون رجال الدين في الإسلام إذا قيل لهم - وهم يشكون
من خروج الأحكام عن الشرع إلا ما يسمونه الأمور الشخصية ومحاكمها على
خطر -: تعالَوْا فأديروا أعمال الحكومة الكلية من إدارية ومالية وحربية
وقضائية وسياسية (خارجية) وغير ذلك، أيجدون في الأزهر من يحسن عملاً
من هذه الأعمال كما يجد الكاثوليك في الفاتيكان؟ أنَّى وهم إلى اليوم يتنازعون
بينهم: هل علم تقويم البلدان يقطع على الطالب طريق الدين أم لا؟ الجمهور على
أنه يقطع وأنه ينبغي أن لا يُقرأ في الأزهر. وهل الحساب العملي والهندسة العملية
يفسدان العقل حتى يضعف استعداده لفهم العلوم الدينية أم لا؟ الجمهور على أنه يفسد
العقل وينبغي أن لا يدرس في الأزهر كما صرح بذلك الشيخ (ثابت بن منصور)
والشيخ محمد راضي البحراوي من كبار المدرسين هنالك في مقالاتهما المنشورة في
المؤيد. ثم أَنَّى يجدون في الأزهر مَن يحسن عملاً ما وليس فيه من يعد لعمل
ما إلا القضاء الشرعي، وهؤلاء القضاة الخارجون منه تبكي من سيرة أكثرهم
السماء والأرض وتستغيث العدالة بلسان المظلومين المهضومين بأن ينقذها الله منهم
ويرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون! !
ولقد كان رجال الكاثوليك في يوم مضى مثل رجال الأزهر يعدون كل علوم
العمران حجابًا دون الدين حتى كأن الدين آلة الخراب والدمار، وكان أكثر عامتهم
على رأي رجال الدين كما هو الشأن عندنا حتى اليوم، ولكنهم لم يلبثوا أن علموا
على أن بقاء الدين محال ما لم تجعل علوم العمران نصيرة له فعكفوا على العلوم حتى
برعوا في جميع فنونها، فمدارسهم جامعة تفوق غيرها نظامًا وإحكامًا،
وعلماؤهم من القسيسين وغير القسيسين مستعدون لكل عمل يرتقي فيه العمران.
فمتى يعود قومنا إلى هذا وهم أحق به من كل أحد؟
أنت يا رب مسئول بتوفيق العقلاء للسعي وإليك وحدك المشتكى.
قلنا: إن لاون الثالث عشر قد ولي البابوية والأخطار محدقة بها من كل جانب
فقد كان في عهد سلفه بيوس التاسع ما كان من الثورات والانقلاب حتى نشر على
عهده في باريس (إعلان) في تحريض بلاد إيطاليا على إنشاء جمهورية إيطالية، لا
يكون فيها بابا ولا دين بالمرة. وأصابت البلاد سَنة فذهب الجماهير إلى أن المحل
والقحط من شؤم السلطة البابوية، وقد أشاع المرجفون على عهده بأن النمسا تعضد
مؤامرة سرية على خلع البابا، وإقامة حكومة عسكرية في البلاد البابوية كلها
فاضطربت رومية، وكثر فيها الهرج، وعجزت الحكومة عن ضبط النظام؛ إذ كانت
المدينة غاصة بجماهير المسلحين من الأهلين. ثم فتح مجلس الشورى فطلب إناطة
الأعمال الإدارية بالعوام (يطلق لفظ العوام في مقابل لفظ (الأكليروس) في
اصطلاحهم) وحرية المطابع وطرد اليسوعيين (الجزويت) وإعتاق اليهود، وكان
الشعب الثائر يؤيد طلب المجلس. ثم عم الهياج بلاد إيطاليا من شمالها إلى جنوبها،
وكان على أشده في رومية، وتوقع الناس سقوط الدولة البابوبة من الأرض، وقلّ
احترام البابا في البلاد الأجنبية حتى ما كان يجد نصيرًا.
ونقول بالاختصار: إنه لم يستقر للسلطة البابوية قرار من بعد ثورة فرنسا سنة
1848، بل كانت الفتن تتفاقم يومًا بعد يوم، وقد أظهر البابا بيوس التاسع من حب
الإصلاح وإرادة الخير للشعب ما لا مزيد عليه، ولم ينقص ذلك من قوة الحزب
الجمهوري شيئًا. ولقد بلغ من الاستهانة بالبابا أن كتب إلى إمبراطور النمسا يلتمس
إخراج عساكره من إيطاليا فكان كتابه سخرية في فينا بعد أن كان لا مرد لأمره، ولا
معقب لحكمه. وحدث في هذه السنة من الأحداث ما زعزع الكرسي البابوي من
الشعب الذي كان يقول: إن هذا الكرسي هو كرسي بطرس الرسول نائب المسيح.
ومن ذلك اتفاق الشعب والحرس المدني والعساكر المنظمة والجيش الروماني على
محاصرة الكويرنال وقتل أمين أسرار البابا، وإكراهه بعد ذلك على قبول وزارة
إصلاحية وجعْله كالأسير في قصره تاركًا الأحكام الدينية والمدنية جميعًا، حتى
اضطر إلى الفرار متنكرًا بهيئة قسيس إلى غايتا. ثم اشتعلت نيران الفتن والثورات
في جميع البلاد التابعة له كما أشرنا إليه آنفًا؛ حتى خسر سلطته في تلك البلاد،
وسنذكر نبذة من سلوك لاون الثالث عشر في مقاومة الأخطار، وصرف التيار،
وما في ذلك من العظة والاعتبار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخديو وجمعية المسلمين في لوندره
زار عزيز مصر في هذا الصيف عاصمة الإنكليز بصفة غير رسمية، فلقي من
حفاوة ملك الإنكليز وكبار أسرته ورجال حكومته ما كان فوق الحسبان. وقد زار
سموه في تلك العاصمة وفد من جمعية الاتحاد الإسلامي فيها رئيسه السيد علي
البلجرامي الهندي الشهير، فخطب خطبة بلسان الوفد رحب فيها بالعزيز، وذكر
مقصد الجمعية وسعيها في ترقية المسلمين والتأليف بين شعوبهم، ووصف الأمير
بتأييد العلم وافتخر بالأزهر، وذكر ما سمع من عود الحركة العلمية إليه بعد سكونها.
فأجابه الأمير بأنه قد سرَّه أن تكون هذه الجمعية جامعة لأفراد من طوائف
المسلمين المتفرقة على الاتحاد، وقال كلمة كبيرة وهي: (إن الإسلام دين اشتراكي
يأمر بالمساواة بين الغني والفقير، والكبير والصغير) ، ثم ذكر استياءه من قلة عدد
المجاورين الهنديين في الأزهر، وأنه يرجو أن يزيدوا في مستقبل الأيام، ثم ذكر
الحج والحجاج، وقال: إنه يحب أن يسهل الحج على مسلمي كل الأقطار؛ لأنه من
أركان الدين (فإذا أهمل المسلمون فريضته حلت بهم الأرزاء لإهمال دين قويم
يعتقده 300 مليون من الناس) .
وعندنا أن اجتماع أمرائنا برجال هذه الجمعيات مفيد جدًّا للمسلمين. وعسى أن
يعتبر بكلمة الأمير بعض الأحداث من رعيته الذين يكتبون ويخطبون للتفريق بين
المسلمين باسم الوطنية، ويسمون المسلم السوري في مصر دخيلاً. وأما إقبال الهنود
وغيرهم على الأزهر فهو موقوف على ترقية التعليم فيه، وذلك بيد الأمير وفقه الله
تعالى. وإلا فإننا لا نأمن أن ينفر المصريون منه بعد حين إلا فارًّا من العسكرية، أو
عاجزًا عن الكسب فيتخذه له تكية!
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(لائم مليم)
تألم مما كتبناه عن قراء الصحف رجل هضم حقوق المنار سنتين أو ثلاثًا كان
يعد ويمطل، ثم صرح بأنه لا يجوز أخذ قيمة الاشتراك منه؛ لأنه كاتب وأديب ولم
نعرف عن غيره أن تعريف الأديب أو خاصته هضم حقوق خدمة العلم والدين
والآداب. تألم فكان طول ليله يحسو كؤوس المُدام، ويسدد إلينا سهام الملام،
ويحرض سمَّاره (الأدبا) ، على اتباع سنة صاحب اللواء، في معاداة الذين
يسميهم الدخلاء، بأن ينفروا عن المنار وصاحبه؛ لأنه ذكر المصريين في مقال يذكر
فيه معاملة الأمم وأصناف الناس لقراء الصحف فضَّل فيه بعض البلاد على بعض،
وبعض الأصناف على بعض، وقال: إن هذا يعد شتمًا للمصريين.
ونعيد بهذه المناسبة ما كنا كتبناه من قبل، وهو أن أكثر المشتركين في المنار
من أهل الفضل والدين، والكثيرون منهم يدفعون قيمة الاشتراك من غير مطالبة حتى
أنه لا يكاد توجد جريدة أو مجلة منتشرة مثل المنار ليس لها وكلاء إلا في بلدين أو
ثلاثة بلاد. ولم نكتب ما كتبناه تألمًا منهم، ولكن عظة وذكرى، وإنا لنحن المقصرون
إذ تمر السنة بعد السنة ولا نطالب الواحد منهم بشيء. نعم إن فيهم من يمطل
ولكن لا يكاد يوجد فيهم من يهضم إلا تسعة رهط، نحن منهم في شك وعسى أن
يصلح الله حالهم.
***
(جريدة المناظر، إبطالها)
سبق أن نوهنا بهذه الجريدة التي يصدرها في سان باولو (البرازيل) نعوم
أفندي لبكي السوري، وسبق أن افتخرنا بنهضة السوريين المهاجرين إلى أمريكا في
الآداب لأجلها؛ فإننا كنا معجبين بحرية هذا الجريدة وإنصافها وشدة غيرة منشئها
على قومه وحبه لجنسه ولوطنه، وحسن اختياره فيما يكتب وتوخيه النفع فيه. ومن
دلائل طفولية الشعوب الشرقية (حاشا اليابان) أن يضطر صاحب هذه الجريدة
النافعة إلى إبطالها بعد جهاد بضع سنين. أقول الحق ولا أستحي من رصفائي
الفضلاء: إنه إذا صح الاستدلال بفحوى الكلام ولحنه على قصد المتكلم وغرضه،
فإن صاحب المناظر في مقدمة المخلصين في قصدهم الذين يقدمون نفع قومهم حتى
على مصلحة أنفسهم. ويظهر أن أكثر قراء العربية هناك يجهلون أقدار أهل الإخلاص
وأصحاب الوجدان الشريف، ولا همّ لهم من الجرائد إلا أن يتلذذوا بمدح أنفسهم أو ذم
أعدائهم.
كتب صاحب المناظر نشرة يودع بها الصحافة ووزعها على قراء جريدته.
قال في أولها: (غدًا تنضب دمعة وتذرف دمعة، تنضب دمعة هذا القلم، وتذرف
دمعة هذا الكاتب، غدًا يودع الصاحبان بعضهما بعضًا، لا يرجوان التقاءً حيث
اجتمعا على مكتب الصحافة) وأقول: إن كل ذي شعور بقيمة أهل الوجدان الشريف
يشارك هذا الكاتب في ذرف الدموع، ولكن ما أقل الذين يشعرون!
وقال: إنه دخل باب الصحافة لثلاثة أغراض: مقاومة فساد الأمة حيث الكلمة
حرة، وترقية المهاجرين السوريين، وتمكين علاقتهم بوطنهم لئلا تبتلعهم الأمة
التي هاجروا إليها. وأنا أعتقد أنه صادق في دعواه وأحترم أغراضه، وأحترمه على
البُعد؛ لأني أعتقد أنه يريد نفع الناس، ولكن أكثر رجالنا كالأطفال يحبون من يسعى
في لذتهم، لا من يسعى في منفعتهم، ولقد كان يجل كل كلام جليل نافع للناس، وإن
لم يكونوا ممن أنشأ لهم جريدته. ومن آية هذا أنه كان ينقل عن المنار مثل مباحث
جمعية أم القرى ومقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) نعم إنه نشر
ردًّا لبعض الكتاب على الثانية في شيء من التحامل، ولكن لا أقول إنه هو كان
متحاملاً.
وقال في سبب إبطال الصحيفة: إنه كان يعلم أن من يكتب لتلك الأغراض لا
يكون موضوعًا للإقبال، ولكنه لم يكن يحسب أنه يهمل ويقاوم حتى يعجز عن النفقة
عليها؛ لأنه يقصر في مدح الذين يتجنسون بغير جنسيتهم (السورية) وفي ذكر
حركات المشتركين، وتقلبهم في البلاد. وقد لقي ما لم يكن في الحسبان.
وبالجملة: إن إبطال هذه الجريدة خسارة على السوريين لا عوض عنها،
فعسى أن يوجد من أهل الغيرة والنجدة من يسعى في إعادتها من حيث يجدّون في
مساعدتها.
***
(كتاب دلائل الإعجاز)
نشرنا نموذجًا من هذا الكتاب الجليل في البلاغة بالحروف والهوامش التي
نطبعه فيها ومنه يرى القراء أن المطبعة قد استكملت أنواع الحروف حتى الشكل،
وصارت مستعدة لطبع الكتب وغيرها. أما الاشتراك في الكتاب فهو 15 على كبره
وحسن ورقه وطبعه، وسيكون ثمنه بعد تمام الطبعة عشرين قرشًا.
***
(كيفية جمع إعانة سكة حديد الحجاز)
أخبرَنا شاهدا عدلٍ أن أحد مختاري القرى في سوريا جمع من كل رجل من
قريته ريالاً للإعانة، ولكنه لم يدفع مما جمعه إلا نحو ثلثيه، فإذا كان المتصرف
يأخذ ثلث الباقي أيضًا ويرسل إلى الولاية ثلثيه، وكان الوالي يفعل هكذا فيما يرسله
إلى الآستانة فإن الذي يبقى للآستانة نحو الخمس، حتى كأن المال غنيمة لا يصل إلى
بيت المال منه إلا خُمسه. والسبب في وقوع هذه الخيانة من مثل ذلك المختار -
الذي لا ذمة له ولا أمانة - هو عدم نشر كل ما يدفعه الناس هناك في الجرائد، وعدم
طبع وصولات مسلسلة الأعداد يحاسب بها الجامعون للإعانة. فعسى أن تتنبه
الحكومة العثمانية في جميع الولايات لتلافي ذلك، وأن تأمر بإصدار صحف تابعة
للجرائد الرسمية في كل ولاية يبين فيها كل ما يدفعه الناس، وترسل كل صحيفة إلى
الجهة التي ذكر أسماء أهلها فيها. وأن لا يجمع شيء من الإعانة التي يأمر بها
السلطان أخيرًا إلا بوصولات مختومة مسلسلة الأعداد.
هذا وقد كثر الذين يجمعون الإعانة في هذه البلاد، ومنهم من لا يوثق بأمانته
فيجب على كل أحد أن يحتاط فيما يتبرع به فلا يضعه إلا في يد أمين كإدارة المؤيد
في مصر، واللجنة الكبرى التي يرأسها أحمد باشا المنشاوي في الغربية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عود إلى سرد الأحاديث الموضوعة
مناقب الصديق
(1)
حديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال: (يا أبا بكر ألا
أبشرك؟ قال: بلى فداك أبي وأمي، قال: إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم
القيامة عامة ويتجلى لك خاصة) رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا، وقال: لا أصل له
وضعه محمد بن عبد بن عامر، وله طرق منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال
لأبي بكر: (أعطاك الله الرضوان الأكبر) فقال بعض القوم: يا رسول الله وما
الرضوان الأكبر؟ قال: (يتجلى الله في الآخرة لعباده المؤمنين عامة ويتجلى لأبي
بكر خاصة) رواه أبو نُعيم عن جابر مرفوعًا، وفي إسناده محمد بن خالد الختلي وهو
كذاب، ولا يَغُرنك ذِكْر الحاكم له في مستدركه فكم في المستدرك في الأحاديث
الموضوعة والواهية.
(2)
حديث إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني كنت معك في
الصف الأول فكبرت وكبرت فاستفتحت بالحمد فقرأتها فوسوس إليَّ شيء من
الطهور، فخرجت إلى باب المسجد فإذا أنا بهاتف يهتف بي وهو يقول: وراءك،
فالتفت فإذا أنا بقدس من ذهب مملوء ماء، أبيض من الثلج وأعذب من الشهد
وألين من الزبد عليه منديل أخضر مكتوب عليه: لا إله إلا الله. الصديق أبو بكر،
فأخذت المنديل فوضعته على منكبي وتوضأت للصلاة وأسبغت الوضوء ورددت
المنديل على القدس، ولحقتك وأنت في ربع الركعة الأولى فتممت صلاتي معك
يا رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر الذي وضأك
للصلاة جبريل، والذي مندلك ميكائيل، والذي مسك ركبتي حتى لحقت للصلاة
إسرافيل. هو موضوع ومحمد بن زياد المذكور في إسناده كذاب، وقد روى نحو هذا
لعلي بن أبي طالب، وفيه ذكر المنطل والمنديل، والكل كذب موضوع.
ونقول: يا ليت عزرائيل انتقم من واضع هذا الحديث؛ لأنه لم يجعل له حظًّا
في هذه الخدمة فأخذ روحه الخبيثة قبل أن تصل أكاذيبه إلى الناس. وإن الممارس
للسنة الفقيه في الدين ليعرف فيه الكذب وإن لم يطلع على نقلنا عن المحدثين في
وضعه وكذب مخترعه، ولكن جهلة العامة يُفتنون بمثله وينظمونه في سلك الكرامات
والخوارق.
(3)
حديث إن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين
الأرواح، فجعل ترابها من الجنة، وماءها من الحيوان، وجعل له قصرًا في الجنة
من درة بيضاء
…
إلخ رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا، وقال: لا يثبت وقد اتهم
به هارون بن أحمد العلاف المعروف بالقطان. وقد جزم الذهبي في ترجمته
من الميزان بأن هذا باطل، وفي معناه أحاديث نترك ذكرها، فلتقس عليه.
(4)
حديث أن يهوديًّا قال لأبي بكر: والذي بعث موسى وكلمه تكليمًا إني
أحبك، فلم يرفع أبو بكر له رأسًا تهاونًا به فهبط جبريل وقال: (يا محمد إن العلي
الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: قل لليهودي الذي قال لأبي بكر: إني أحبك - إن
الله قد أحاد عنه في النار خلتين: لا توضع الأنكال في عنقه ولا الأغلال في عنقه
لحبه أبا بكر
…
)
…
إلخ رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع في
إسناده وضَّاعان.
(5)
حديث: (إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا
له تفلحوا وأطيعوه ترشدوا) رواه الخطيب عن ابن عباس مرفوعًا، وهو موضوع
للاحتجاج به على الشيعة، بل كل هذه الأحاديث قد وضعت لمثل هذا الغرض فقد
كانت سوق الرواية رائجة في أيام الفتن والخلاف، فوضع الكذابون من كل قوم
من الأحاديث ما شاءوا، ينصرون بها مذهبهم فما كان أشأم تلك المذاهب على
الإسلام! ! !
(6)
حديث: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جبريل إذ مرَّ أبو بكر
فقال: (هذا أبو بكر) قال: (أتعرفه يا جبريل؟) قال: (نعم، إنه لفي السماء
أشهر منه في الأرض وإن الملائكة لتسميه حليم قريش، وإنه وزيرك في حياتك
وخليفتك بعد موتك) رواه ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده إسماعيل
ابن محمد بن يوسف كذاب. وذكر له صاحب (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة) طريقًا أخرى فيها وضاع. وقال الذهبي: إسناده مظلم، وتعقبه ابن
حجر في لسان الميزان بأن رجاله معروفون بالثقة، وليس فيهم من ينظر في حاله إلا
المعلَّى بن الوليد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. قال في الفوائد المجموعة مستدركًا
على ابن حجر: بل في إسناده إسماعيل بن محمد وهو كذاب، وقد قال الحاكم: إنه
يروي الموضوعات. فلينظر القارئ كيف يشتبه في مثل هذا الحديث الحافظ ابن
حجر، وينسى إسماعيل الذي حكم عليه بالوضع الحاكم على تساهله ووقوعه في
رواية الموضوعات بحسن ظنه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
البيوت
منكراتها وعاداتها
تهتك النساء
تبتدع نساء المسلمين في مصر كل يوم زيًّا جديدًا من أزياء الخلاعة والتهتك،
فلم يكتفين عند الخروج بإظهار بعض الرأس ومعظم الوجه وصفحتي العنق والنحر
حتى جعلن في هذه الأيام أكمامهن قصيرة واسعة فهن يمشين في الأسواق،
وسواعدهن بارزة من وراء معاصمهن المطوقة بالأَسْوِرة، فلم يبق من الزينة شيء إلا
وقد أبدينه حتى وقعن في مخالفة نص القرآن الذي لا خلاف فيه وهن مع هذا كله
معدودات من أهل الحجاب. فأين أهل الغيرة؟ أين أهل الصيانة؟ أين الذين ملؤوا
أرض مصر صراخًا وعويلاً أن قال قاسم بك أمين ينبغي أن نربي المرأة ونعلّمها ثم
نأذن لها بعد ذلك بأن تميط هذا المنديل عن أنفها لتستنشق الهواء النقي، ثم لتستر مع
ذلك رأسها ونحرها وصفحتي عنقها وسائر بدنها؟ أليس ما قاله أهون بشرطه وبغير
شرط مما عليه نساء أولئك الصائحين النائحين الذين ينكرون الكلام. ولا ينكرون
الموبقات العملية التي يشاهدونها في كل آن؟ !
الخدم في البيوت
يعلم كل مقيم في مصر أن الناس يبيحون للخدم من الرجال الخلوة بالنساء في
جميع الحالات، فالخادم يساعد سيدته في المطبخ حاسرة عن رأسها وذراعيها، كاشفة
عن صدرها وساقيها، ومنهن من تلبس في حال غسل الثياب الأخلاق الممزقة فيبدو
منها ما لم يكن يبدو. ويصعد معها إلى السطح يساعدها على نشر الثياب وهي في
مثل ما ذكرنا من ثياب البذلة، ويدخل معها في بيت الدواجن لإطعامها، وربما أغلق
الباب عليهما لئلا يطير الحمام أو يفر الأرنب. ورب البيت يعرف كل هذا ولا
يبالي به ولا يتأثم منه، وإن كان في خادمه من الشباب والفتاء ما ليس فيه! وليس
هذا المنكر مما تدعو إليه ضرورة المعيشة بل لا حاجة إليه ولو كان محتاجًا إليه
لكانت الموانع التي تمنع منه أولى بالترجيح من الحاجة التي تدعو إليه؛ لأن درء
المفاسد مقدم على جلب المصالح في نظر الشرع والعقل معًا.
وإننا لنعجب من أمر هؤلاء الرجال الذين نبذوا الشرع آدابه وأحكامه، وحرموا
ثمرة العقل من البصيرة والاحتياط كيف أفسدت عليهم عادات البلد السوأى وجدان
الغيرة، فسمحوا لهؤلاء الخدم - الذين هم أضل سبيلاً من الأنعام بخبث طينتهم وسوء
تربيتهم - أن يمازجوا نساءهم في الخلوات والجلوات، والدين لم يسمح بهذا لأطفالهم
في جميع الحالات. إذ أمر تعالى بأن يستأذنوا في بعض الأوقات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ
صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ
لَّكُمْ} (النور: 58) ؛ فإذا كان الله لا يسمح لأولادكم أن يروا النساء في الأوقات
التي هي مظنة التساهل في الستر لئلا ينقش في ذهن الولد من رؤية العورات ما
يشتغل به خياله. وتسوء في الآداب حاله، فكيف تسمحون لهؤلاء الرجال الأشرار
بما لا يسمح به الشرع للأطفال الصغار؟ !
الفقيون في البيوت
يطلق أهل هذه البلاد على حافظ ألفاظ القرآن لفظ (فَقِي) ويجمعونه على
(فُقَهَا) ، وإن كانوا في الغالب لا يكادون يفقهون حديثًا، وما ذكرناه في العنوان من
الجمع هو أولى من جهتي اللفظ والمعنى معًا. ومن العادات الضارة في هذه البلاد
- وإن صبغت بصبغة الدين - أن أكثر البيوت يعين لها فقيون يجيئونها في ساعة
من ليل أو نهار فيقرءون شيئًا من القرآن، حيث يكون النساء وينصرفون. وإنهم
ليخلون بالنساء كثيرًا والخلوة محرمة بإجماع المسلمين سواء كان الرجل والمرأة
بصيرين أو أعميين أو أحدهما أعمى فقط. وقد سمعنا من أهل النقد والبصيرة
حكايات كثيرة في مفاسد هذه الخلوات بل حدثنا غير واحد من أهل النقد بأن من
هؤلاء الفقيين من يتوسل بكلام رب العالمين إلى الصلة بين المعشوقات والعاشقين،
فكأن هؤلاء العميان يكافئون صنف المبصرين الذين يقودونهم بعمل من جنس
عملهم، فكل صنف يساعد الآخر على ما لا وصول إليه بدونه، ويقوده في
المسالك التي يحتاج فيها إلى قيادته.
وليت شعري ماذا يريد الذي يعين فقيًا أعمى يقرأ لامرأته في بيته ما لا تفهمه
ولا تعقله؟ أيريد تقوية دينها بقراءة ذلك المأجور؟ كيف وهو لم يلقنها عقيدة
المسلمين، ولم يرضها بشيء من أخلاق الدين، ولم يعلمها الصلاة بالقول، ولم
يمرنها على أدائها بالعمل، ولم يذكرها يومًا من الأيام بالدار الآخرة، ولم يحدثها
في ليلة من الليالي بالحساب والعقاب، فأي فائدة لها في سماع نغمات ذلك الرجل
المأجور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً؟ نعم، إن هؤلاء الفقيين لا كسب
لهم، وإن أكثرهم مستحق للصدقة فمن تصدق عليهم فلا يجعل صدقته أجرًا لهم عن
التغني بكتاب الله في بيته والوقوف على عورات أهله، وإن أمن فتنتهم فكيف به إذا
لم يأمنها.
فإن قيل: إن المسلمين يحسنون الظن بحَمَلَة القرآن، وأنت تحملهم على إساءة
الظن بهم - أقول: روى أحمد وأبو داود والترمذي (وصححه) والنسائي وابن
حبان من حديث أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة
فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (احتجبا منه) فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا
يعرفنا؟ ! فقال: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ !) وقد علل المحققون النهي
بأن الأعمى قليل العناية بالستر. فإذا كان هذا قول النبي لأزواجه اللواتي أذهب الله
عنهن الرجس وطهرهن تطهيرًا في شأن ابن أم مكتوم الذي عاتب الله النبي في
الإعراض عنه لدعوة سادات قريش وقال في شأنه: {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى *
وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس: 8-10) فماذا تقولون أنتم في عميان
مصر، دار الفسق في هذا الزمن الذي فشا فيه الفجور وفار التنور؟ فاتقوا الله أيها
المسلمون. وطهروا بيوتكم واستعينوا بذلك على تربية أولادكم، وإلا هلكتم وأهلكتم
بلادكم.
وأقبح من خلوة الفقيين بالنساء في البيوت، خلوتهم بهن في (أحواش) القبور،
فإن هذه الخلوة أتم من تلك؛ لأن البيوت لا تخلو في الغالب من الأولاد والخدم،
فالخلوة الصحيحة فيها متعسّرة على أن في الجلوة من المفاسد ما فيها.
وإن الشافع لجميع ما يكون في المقابر من البدع والمنكرات استحباب زيارة
القبور أو الإذن فيها لأجل الاعتبار بالموت. فيستباح لأجل هذا الاستحباب من
المحرمات ما يستباح، ويعد كله قربة إلى الله تعالى وإن كان كله فسادًا لا شيء من
العبرة والعظة فيه. هذا وإن الأحاديث الصحيحة تدل على أن الإذن بزيارة القبور
بعد النهي عنه خاص بالرجال، ولقد لعن صلى الله عليه وسلم زائرات القبور. هذا
ما ننصح به لإخواننا المسلمين، وإن سمّاه ذلك (الكاتب الأديب) شتمًا للمصريين،
فإن النهي عن المنكر فريضة؛ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
55) .
طلب الزواج بلسان الصحف
رأينا في بعض المجلات والجرائد عادة جديدة قلد المصريون فيها الأوروبيين
وهي طلب الزواج بلسان الصحف، يكتب الفتى شيئًا في ترجمة نفسه ومورد معاشه
ثم يذكر الصفات والنعوت والحالات التي يحبها فيمن يريد التزوج بها، ثم رأينا
أكثرهم بطلب أن ترسل إليه صورتها الشمسية (الفوتُغرافية) وطلب بعضهم أن يأذن
له أبواها أو غيرهما من أوليائها برؤيتها في حضرتهم، وهذا طلب شرعي، ولا
بأس به إذا كان أهل الفتاة راضين مِن أخلاق مَن يخطب إليهم وواثقين بأنه يمنعه
أدبه أن يذكر ذلك إذا لم يتم الاتفاق على الزواج. وأما طلاب الصور فلا شك أنهم
من النابتة المتفرنجة الذين لا يخطر في بالهم أدب الدين ولا أحكامه، ولو تفكروا في
ذلك لعلموا أن تصوير الفتيات يتوقف على بروزهن للمصوّر سافرات حاسرات كما
هي العادة. ولا يتوهم أن أحدًا يطلب صورة امرأة ملفوفة في ملاءتها متبرقعة لا
يظهر منها إلا الحدق! سبحان مقلب القلوب والأبصار قد صار شبان المسلمين
يشترطون فيمن يريدون التزوج بها أن تكون ممن تبرز أمام المصورين، وكانوا
يغارون على النساء من الأهل والأقربين!
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة السادسة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(النوع الثامن: طاعة الحيوانات والجمادات)
استشهد السبكي للأول بحكاية الأسد مع أبي سعيد بن أبي الخير ومع إبراهيم
الخواص من قبله، وللثاني بحكاية الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع الفرنج. فأما
حكاية الأسد فلا أعرفها، وأما حكاية الريح فهي كما في ترجمة الشيخ عز الدين
(رحمه الله تعالى) من طبقات السبكي أن الفرنج وصلوا إلى المنصورة في المراكب
واستظهروا على المسلمين فنادى الشيخ بأعلى صوته: يا ريح خذيهم، (عدة مرار)
فعادت الريح على مراكب الفرنج، وكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر
الفرنج وصرخ من بين المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى
الله تعالى عليه وسلم رجلاً سخَّر الله تعالى له الريح.
أخذ السبكي من هاتين الحكايتين أن الحيوانات والجمادات تطيع الأولياء،
وتمتثل أمرهم، وإنما الطاعة عمل بإرادة واختيار يقصد به امتثال أمر المطاع، فهو
يبني هذا على قول بعض الصوفية: إن للجمادات حياة وإدراكًا، ولولا ذلك لسمي ما
كان من الريح تسخيرًا من الله تعالى كما قال ذلك الصارخ. وتسخير الله الريح لا
يستلزم أن يكون بقدرة لا حكمة معها، ولا نظام، بل ذلك مُحال على الحكيم العليم،
وإنما يكون ذلك بتوفيق الله تعالى بين أسباب هبوب الريح وأسباب خروج الفرنج
كأن يكونوا خرجوا في وقت سبقته أو قارنته حرارة شديدة في هذا الإقليم، فاشتدت
حرارة الهواء فصعد إلى الحار منه بتمدده وخفته إلى الجو، فتحرك الهواء لأجل
الموازنة فكان عاصفة أغرقت الفلك بمن فيها من الفرنج. ووافق ذلك قول الشيخ تلك
الكلمة فعدَّ الحادث كرامة له؛ لأن الله ألهمه ذلك القول في ذلك الوقت.
يعلم كثيرون من القراء أن البارجة (فيكتوريا) أعظم بوارج الأسطول
الإنكليزي في البحر المتوسط قد غرقت عند دخول الأسطول ميناء طرابُلس الشام
منذ بضع سنين أو أكثر، وقد اتفق عند ذلك أن رجلاً من الظرفاء في طرابلس كان
مع جماعة في منتزه التل من تلك المدينة يتفرج على الأسطول فقال: إذا تصرفت
لكم بهذا الأسطول فأغرقت بعض بوارجه أتشهدون لي بالولاية والكرامة؟ قالوا:
كيف لا وأنت أهل للتصريف؟ ! فقال ما معناه أنه تصرف، ولم يمض ِإلا قليل من
الوقت حتى رأوا كأن الأسطول قد نقص بارجة فشكّوا في ذلك حتى علموه اليقين.
ولو كان ذلك الرجل وسخ الثياب كثير الهذر والدعوى بحيث يعتقد العامة فيه الولاية
والبركة لسارت الركبان بأن غرق البارجة كان كرامة له!
وأما طاعة الحيوانات فالحكايات فيها كثيرة عند جميع الأمم لما يقع من
الحوادث التي يعدها المعتقدون بولاية شخص كرامة له، ولو وقعت بعينها لغيره ممن
لا يرونه أهلاً للكرامة لما عدّوها إلا مصادفة لا تتعدى حدود المعتاد، فإن الحيوانات
لا تعرف لحركاتها في إقبالها وإدبارها وهجومها على الشيء وانصرافها عنه أسباب
مطردة. وقد وقع لكثير من جُوّاب الآفاق أن يصادفوا السباع في بعض الفيافي
مقبلة عليهم، ثم لا تلبث أن تنصرف عنهم بغير سبب يعرف. وعدم العلم بالسبب لا
ينفي وجود السبب فربما تذكّر السبع في الساعة التي انصرف فيها شيئًا حمله على
الانصراف عمن كان يقصده، كأن شم رائحة أو سمع صوتًا من الجهة التي فيها
أشباله فخاف عليها عدوان عادٍ. وقد اتفق لفصيلة من العساكر المصرية في
السودان أن سارت ليلة مقمرة، فاعترضهم الأسد في الطريق، فذعروا وحاروا
لا يدرون ما يصنعون، ولكن الأسد لم يلبث أن زأر وعدا كالسهم، وسمعوا في أثناء
ذلك عواء كثير فعلم بعضهم بما سبق له من الاختبار أَنَّ عرجلة من الضباع هجمت
على لبؤة ذلك الأسد من شدة الخوف، فشعر بذلك الأسد فذهب لنصرتها.
قد علم مما ذكرناه في المسائل أن الحكايات التي يتناقلها الناس لا ثقة بها فمنها
الإفك المبين، ومنها جعل ما هو معتاد ليس خارقًا للعادة، ومنها ما يضاف إلى غير
سببه، ويعلل بغير علته. ولو شئنا لذكرنا من هذا النوع حكايات كهذه الحكايات
أسندها غير المسلمين إلى من يعتقدون لهم الكرامة وعمل العجائب. وإذا جاءنا
السبكي أو غيره بحكاية منقولة بالتواتر لا تحتمل التأويل، فإننا نجزم بأنها خارقة،
وما كان ينبغي لمثله في العلم أن يقول: إن هبوب الريح وإغراقها للمراكب من
خوارق العادات، وما زال الناس في كل زمان يشاهدون مثل ذلك بأعينهم في جميع
البحار والأنهار التي تجري فيها السفن. وكلمة الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى لا
تجعل المعتاد خارقًا للعادة. فإن قال: إن الكرامة لا يشترط أن تكون خارقة للعادة
ومخالفة للسنن الكونية، وإنَّ توفيق الله تعالى بين حوادث الطبيعة ومصلحة المؤمنين
عند دعاء بعض الصالحين أو بشارته يصح أن يسمى كرامة لذلك العبد الصالح - فلا
منازع له في قوله، ولا معارض له في حكمه؛ لأن التسليم بهذا لا يفسد عقول
العامة فيحول دون الاعتقاد بحكمة الله واطراد سننه، ولا يغرهم بالأشخاص فيطلبوا
الشيء بغير سببه ومن غير معدنه، وما نريد بالبحث في الخوارق إلا المدافعة عن هذا
الاعتقاد، والحرص على إزالة هذا الغرور.
* * *
(النوعان التاسع والعاشر: طي الزمان ونشره)
قال السبكي: وفي تقرير هذين القسمين عسر على الأفهام، وتسليمه لأهله
أَوْلَى بِديِن الإيمان، والحكايات فيهما كثيرة:
أقول: يريدون بطي الزمان أن تمضي الأيام الكثيرة على المرء، ولا
يشعر بمرورها، فيمر الشهر عليه كأنه يوم أو بعض يوم. ويعنون بنشر الزمان: أن
تكون الساعة الواحدة كالسنين الطويلة. ومن الحكايات التي استحيا السبكي من
سردها أن بعضهم أحدث وهو في المسجد الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب، فوضع
بعضهم عليه عباءته وقال: اذهب فتوضأ فذهب إلى مكة فتوضأ ثم عاد! والإمام يخطب ومنهم من رأى نفسه في مثل هذه الحالة في بلاد فمكث فيها عدة سنين وتزوج ورُزق بأولاد، ثم عاد فرأى الناس في مجلسهم الذي فارقهم فيه. وهم
يزعمون أن مثل هذا واقع حقيقة لا تخيّلاً، ولذلك قال: إن في تقريره عسرًا ، وأي
الخوارق قرر فكانت قريبة من الفهم، سهلة القبول في نظر العقل؟ ويا ليته قرر
ما عنده، ولم يذكر (دين الإيمان) فيما لم يرد في كتاب ولا سنة، وما أرى
عنده إلا التسليم والتقليد.
ويا ليت شعري ما هي الفائدة للأمة - التي يشترطها السبكي لإظهار الكرامة
- في هذين النوعين. على أن هذا شيء لا يظهر لأنه لا يقع وإنما ادعي ادعاءً بلا
بينة ولا برهان، فيكف جاز لهم ادعاؤه وأمر الكرامة مبني - كما قال - على
الكتمان؟
قالوا وأكثروا فإذا كان العقل والدين يقضيان بأن لا يصدق المرء بكل ما يسمع
وأن عليه أن يتثبَّت في الأخبار التي تسند إلى الحس، ويستشهد فيها الناس فكيف
يسلم العاقل بما هو غريب عن العقل والعادة، ولا حجة على قول مدعيه إلا نفس
دعواه فقوله هو الدليل وهو المدلول. رأى الدجالون أن الناس يسلمون لمدعي
الولاية بالتظاهر بالصلاح كل ما يقول، فطفقوا يدعون كل ما يخطر ببالهم، وقد كان
العلماء يفندون أقوالهم فصاروا في مقدمة الخاضعين لهم المسلِّمين بكل ما يقولون. فإن
كان في أهل الصدق من قال بطي الزمان ونشر الزمان، فلا نظنه يعني به أن ذلك قد
وقع حقيقة في عالم الحس، وإنما يعنون - والله أعلم - ما يكون لهم من الأحوال التي
يغيبون فيها عن الحس ويطيرون في جو الخيال، ويجولون في عالم المثال،
فيكونون أيقاظًا وكأنهم في منام، فأما طي الزمان فغيبة تامة، وأما نشره فرؤى
وأحلام، وقد يسمى القوم التصور تطورًا، والأحوال النفسية عوالم غيبية، وإذا
صح أن الأرواح تتجرد قبل الموت كما يقولون، وتكون في عالم وسط بين عالم
الملك وعالم الملكوت، فمن الحماقة أن يحدث الناس كافة بشيء يفوق إدراكهم،
ويعلو على أفهامهم، وليس فيه من الفائدة إلا أنه فتنة لهم، ولو لم يدخلوه في الدين
لكانت الفتنة أهون، بل لكان فيه فائدة للخواص؛ لأنهم يجتهدون في كشف حقيقة هذا
الأمر، فإن كانت هناك عوالم حقيقية، طريقها الرياضة الروحانية، يسلكون إليها
طريقها، ويدخلون عليها من بابها، ولكنهم الآن يقولون: إنَّ هذا من خوارق
العادات، وإنَّه لا يكون إلا بالخصائص والعنايات، وهذا السبكي أحد علماء الأصول
يقول فوق ذلك: إنَّه يعلو الأفهام، وإنَّ التسليم به أولى في دين الإيمان وشريعة
الإسلام، والعامة من ورائه تستخذي لمدعي هذه الكرامات، وتنظم تعظيمهم في
سلك العبادات، وتطلب منهم ما لا يُطلب إلا من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النرد والشطرنج ونحوهما
(س1) النرد - الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ القراموص: ما هو النرد
وتاريخه ومخترعه وما سبب اختراعه، وما حكم الشرع فيه؟ وما حكمة ذلك؟ وإذا
الشارع حرمه فهل قال أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم بحله إذا خلا عن الرهن؟
وكذا نرجو الإجابة على هذا النحو على الشطرنج والضُّمنة والكُتشينة، وهي أوراق
مزوقة بالصور، وما هي القاعدة الفاصلة بين الحل والحرمة وما حكمتها؟
(ج)
(النرد) : هو ما يسمونه اليوم (الطاولة) ، وهذا يغني عن وصفه
ووصف اللعب به، على أننا رأيناه ولكن لا نعرف كيفية اللعب به، وهو من
وضع الفُرس ويقول صاحب القاموس المحيط وغيره: إن واضعه أردشير بن بابك
أحد ملوكهم قال: ولهذا يقال له النردشير، وأردشير هذا هو مؤسس الدولة الساسانية
في الفرس التي هي الطبقة الرابعة من ملوكهم، وذلك في سنة 226م، وقبل موته
توج ابنه سابور وولاه واختار هو العزلة ومات من سنته وهي 240م، ويظن أنه
اخترع النرد في تلك العزلة للتلهي به، وإن كان مشغولاً بالعبادة في بيوت النيران فإنه
هو الذي أرجع في تلك المدة مذهب زرادشت المجوسي إلى الفرس. وفي شرح
القاموس أن سبب تسمية أردشير هو أن (شير) اسم الأسد، وقد نُقل أن الأسد شمه
وهو طفل ولم يأكله. وقال الماوردي: قيل إنه وضعه على البروج الاثني عشر
والكواكب السبعة؛ لأن بيوته اثنا عشر كالبروج ونقطه من جانبي القصر سبع
كالكواكب السبعة فعدل به إلى تدبير الكواكب والبروج، وقال البيضاوي في شرح
المصابيح: يقال أول من وضعه سابور بن أردشير ثاني ملوك الساسان ولأجله
يقال له النردشير، وشبّه رقعته بالأرض، وقسمها أربعة أقسام تشبيهًا بالفصول الأربعة.
أما حكم الشارع في النرد بخصوصه فالحظر؛ فقد روى أحمد ومسلم وأبو
داود وابن ماجه من حديث أبي موسى مرفوعًا: (من لعب بالنرد فقد عصى الله
ورسوله) ومن حديث بريدة (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير
ودمه) ، وأما الحكمة في ذلك فهي أنه كالأزلام يعول فيه على ترك الأسباب
والاعتماد على الحظ والبخت فهو عبث يخشى ضره ولا يرجى منه نفع. قال
النووي في شرح مسلم عند الكلام على الحديث: وهذا الحديث حجة للشافعي
والجمهور في تحريم اللعب بالنرد. وقال أبو إسحاق المروزي: يكره ولا يحرم.
وقيل: وسبب تحريمه أن وضعه على هيئة الفلك بصورة شمس وقمر وتأثيرات
مختلفة تحدث عند اقترانات أوضاعه ليدل بذلك على أن أقضية الأمور كلها مقدرة
بقضاء الله، ليس للكسب فيها مدخل، ولهذا ينتظر اللاعب ما يُقضى له به.
وقد اختلف فقهاء الشافعية في درجة حظره، فذهب الأكثرون إلى أنه من الكبائر
ترد الشهادة بالمرة الواحدة منه، وقيل: هو من الصغائر، وقال بعضهم
بكراهته لقول الشافعي في المختصر: وأكره اللعب بالنرد للخبر، وردوه بأنه كثيرًا
ما يقول مثل هذا في المحرمات واختلف النقل عن (الأم) . ونقل الموفّق الحنبلي في
مُغنيه الإجماع على تحريم اللعب، وكأن الذين قالوا بالكراهة لم يعتدوا بهذا النقل،
وعندي أن تحقق الإجماع في غير الأمور العملية المتواترة كهيئة الصلاة وعددها
عزيز. ولكن أقل ما في نقل الموفق أنه لم يقل أحد من الأئمة المشهورين بحِلّه.
(الشطرنج) وأما الشطرنج فهو معروف. والمشهور في كتب التاريخ
والأدب أن واضعه أحد حكماء الهند القدماء، ويزعم بعض الإفرنج أن اليونانيين هم
الذين وضعوه في أثناء حرب ترواده الشهيرة. وأما سبب وضعه فقد قالوا فيه: إنَّ
الحكيم صيصه بن داهر الهندي رأى أن ملك زمانه فتى مستعد للخير والعدل في
الرعية، ولكن بطانته قد حببوا إليه اللهو واللعب والترف والمخيلة، وصرفوه
في حظوظهم وأهوائهم، ورأى أن الملوك يثقل عليهم سماع النصح الصريح
فأحسن الحيلة في إيصال النصيحة إلى الملك في صورة اللعب باختراع الشطرنج
الذي مبناه على أن بقاء الملك ببقاء الرعية، وأنه في نفسه ليس بشيء، وهو
بهم كل شيء. ولما اخترعه وعلم به الملك استقدمه ليعلّمه اللعب به فكان يلاعبه
ويشرح له في ضروب اللعب ما يمثل له حالته، وما يتوقع من أخطارها، ففهم
النصيحة، وعمل بها فحسنت الحال.
ويقال: إنه أراد أن يكافئه فقال له تمنَّ عليَّ واقترح، فاقترح أن يوضع في بيت من بيوت الشطرنج حبة قمح واحدة، وتضاعف في البيت الذي بعده،
ثم تستمر المضاعفة بأن يضاعف في كل بيت ما قبله إلى آخر البيوت وعددها
64 ويعطى مجموع ذلك، فاحتقر الملك هذا المطلب ثم علم أن خزائنه لا تفي به.
وقد عنى بعضهم بضبط العدد الحاصل من هذه المضاعفة، قال ابن السمان الدمشقي:
إنَّ جملته ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف - ست مرات - وأربع
مائة وسبعة وأربعون ألف ألف ألف ألف ألف - خمس مرات - وسبع مائة وأربعون
ألف ألف ألف ألف - أربع مرات - وثلاثة وسبعون ألف ألف ألف - ثلاث مرات -
وسبع مائة وتسعون ألف ألف - مرتين - وخمس مائة وواحد وخمسون ألف وست
مائة وخمس عشرة.
وقدر بعضهم أن هذا العدد يملأ 16384 مدينة في كل مدينة 1024 بيتًا في
كل بيت 17476 مكيالاً من القمح، كل 32768 حبة.
أما حكمه فقد اختلف فيه الفقهاء والأكثرون على أنه غير محرم ، أباحه قوم
بشرط أن لا يدخل في القمار، وأن لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبديهي أن
الإكثار من اللعب به وبغيره يُسقط المروءة، ولا يرضاه العاقل لنفسه، فهو مكروه
كراهة شديدة. وقد رووا في تحريمه أحاديث لا يصح منها شيء بل هي إلى
الوضع أقرب منها إلى الضعف، ومنها حديث: ملعون من لعب بالشطرنج، رواه
الديلمي عن أنس، ورواه غيره بزيادة: والناظر إليها كآكل لحم الخنزير، وروى من
حديث واثلة: أن الله تعالى ينظر في كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة لا ينظر
فيها إلى صاحب الشاه: يعني الشطرنج. ورواه الخرائطي بلفظ آخر، وروى
البيهقي وابن عساكر عن عمار بن أبي عمار أن عليًّا عليه السلام مر بقوم يلعبون
بالشطرنج فوثب عليهم فقال: (أما والله لغير هذا خُلقتم ولولا أن تكون سنة
لضربت بها وجوهكم) ، وروى الثاني عنه أنه قال: لا تسلم على أهل النردشير
والشطرنج ، وروايته ضعيفة. وقد روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد - كلاهما
من شيوخ البخاري - وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي عن علي كرم الله وجهه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفئه خير له من أن
يمسها) وفي (الزواجر) أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن الشطرنج
فقال: (هي شر من الميسر) وقال الإمام مالك: هي كالنرد. وروي عن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه ولي مالاً ليتيم فوجدها في تركة والد اليتيم فأحرقها، ولو
كان اللعب بها حلالاً لما جاز إحراقها. وقال النووي في فتاويه: الشطرنج حرام
عند أكثر العلماء وكذا عندنا إن فوت به صلاة عن وقتها أو لعب به على عوض
فإن انتفى ذلك كره عند الشافعي وحرم عند غيره، قال ابن حجر في الزواجر: فإن
قلت: ما الفرق عندنا بين النرد والشطرنج؟ قلت: فرق أئمتنا بأن التعويل في النرد
على ما يخرجه الكعبان فهو كالأزلام، وفي الشطرنج على الفكر والتأمل، وأنه ينفع
في تدبير الحرب. وقد أحببت أن أختم الكلام في النرد والشطرنج بما جاء في كتاب
(الصادح والباغم) فيهما؛ لما فيه من الفكاهة والحكمة. قال - في سياق
حكاية -:
ثم بدا لي فرأيت رجلاً
…
شيخًا يناجي صاحبًا مكتهلا
قد أكثرا الخصام والجدالا
…
وأعلنا الشجار والمقالا
وافتخرا وكثرة المفاخره
…
تدعو إلى العناد والمشاجره
فكان قول الشيخ قومي الهند
…
الحكماء العلماء اللّد
لهم علوم وحلوم وفطن
…
وحكمة بالغة إذ تمتحن
لو لم يكن من فضلهم إذ يختبر
…
فضل الرجال منصف ويعتبر
إلا الذي أبدوه في الشطرنج
…
للناس من علم سديد النهج
جد عظيم لقبوه هزلا
…
يصير الرأي الأفين جزلا
فيه إشارات إلى مواعظ
…
نافعة لكل واعٍ حافظ
قد رسموها للهدى مثالا
…
إن الحكيم يضرب الأمثالا
يعنون أن العيش في التدبير
…
وليس بالقسمة والتقدير
والمرء للأفعال مستطيع
…
محكم يحفظ أو يضيع
وذلك العدل بلا خلاف
…
لو وفق الرجال للإنصاف
قال له الكهل وقومي الفرس
…
الحكماء ما بذاك لبس
لهم سياساتٌ وتدبيرٌ حسنْ
…
كالشرع عدلاً في الفروض والسننْ
وملكهم معتضد بالحكمه
…
كأنهم قد أُيدوا بالعصمه
لا نعبد الأصنام والأوثانا
…
ولا نرى الظلم ولا العدوانا
والعيش بالرزق وبالتقدير
…
وليس بالرأي ولا التدبير
وقد وضعنا النرد للمثال
…
لو فطنت بصائر الرجال
وما قصدنا بالفصوص اللعبا
…
حاشا لنا لكن قصدنا الأدبا
وإنما سمي لعبًا حيله
…
تخفى به ما فيه من فضيله
وإنما يعشقه الرجال
…
لأنه لعب كما يقال
ولو دروا أن المراد الأدبُ
…
بوضعه وصنعه ما لعبوا
فالحق قد تَعْلَمَهُ ثقيلُ
…
يأْباه إلا نفرٌ قليلُ
وإنما أخفيت المصالح
…
وموّه القول الشفيق الناصح
ودلست بظاهر اللذات
…
كم راحة تكمن في أذاة
كمثلما ركبت الألحان
…
ووضعت للحكمة العيدان
يظنها الجاهل لهوًا ولعب
…
ولو درى بوضعها ماذا طلب
من راحة الروح وبسط النفس
…
وهزها لطبعها بالأُنس
لم يستمع قط الغناء ونفر
…
عنه لأن الحق ما فيه وطر
قال له الهندي هذه حجتي
…
سلكت فيما جئته محجتي
شطرنجنا لمثل هذا وُضعا
…
أول فن في العلوم اختُرعا
وفضله بادٍ بغير مَيْن
…
ما أوضح الصبح لذي عينين
وإن برهاني فيه ظاهر
…
والحق لا يدفعه المكابر
أما الضمنة فهي لعبة حديثة فيما أظن، وأما الكتشينة فهي نوع من اللعب
بالورق الذي سماه الفقهاء (الكتحفة) ، وكلاهما يعلم من القاعدة التي نذكرها لتكون
فصل الخطاب وهي:
قاعدة في حكم الملاهي
إن العلة في تحريم كل حرام هي المضرة في الدين أو النفس أو العقل أو
العِرْض أو المال، فما لا ضرر فيه لا يحرم، وما ورد في النرد فسببه الأول أنه
شبيه بالأزلام التي كانوا يلقونها في الجاهلية لمعرفة الخير والشر؛ فإن المعوَّل في
النرد على البخت الذي يخرجه الكعبان (يأخذ كل لاعب كعبين يسمونها الآن
الزهر) ، كما أن المعول في الأزلام على البخت الذي تخرجه القداح، وقد حرم
الاستسقام بالأزلام لما فيها من التغرير بالعقل، وبناء الأمور على الوهم، وإهمال
الفكر والنظر، ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النرد لما فيه من معنى
الأزلام ومن التذكير بها، وأحب لكل مسلم أن يجتبنه وإن انتفت العلة عنده بأن كان
لا يعتقد بالبخت، ولا يبني حكمًا إلا على سبب صحيح، احترامًا للنهي الصريح.
وأما الشطرنج فقد قالوا: إنه لم يكن معروفًا على عهد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وذلك من دلائل وضع ما ورد فيه مرفوعًا، وأما الآثار فمنها القوي، ومنها
الضعيف، فمَن لم يحتج بها فليحكم قاعدة دفع الضرر في كل لعب، وقد قال بعض
أئمة الشافعية: إن اللعب الذي فيه حساب وفكر يباح، وما لا حساب فيه ولا فكر فهو
مكروه، أي: إن لم يضر، وإلا فهو حرام، أقول: ومن اللعب ما يفيد رياضة البدن
وتحريك الدم فيه، وينبغي أن يكون محمودًا محبوبًا، لا مذمومًا ولا مكروهًا، وأي
حرج - ليت شعري - على مَن أنهك بدنه أو عقله التعب من شغله، فحاول ترويح
نفسه، أو ترويض جسمه ببعض الألعاب التي تنفعه ولا تضر غيره، ولا تخل
بمروءته.
أقول: إن ترك مثل هذه الرياضات يضر أحيانًا، فإذا ظن ضرر تركها كان
الترك مكروهًا، وإذا تحقق الضرر كان الترك حرامًا، وإذا لم يكن في الفعل ولا
في الترك ضرر فالفعل مباح، ما لم يخل بالمروءة، كانكباب أهل الهيئات ورجال
العلم والأحكام على اللعب في بيوت اللهو (القهاوي) ، فإن ذلك مكروه شرعًا
وعقلاً بلا نزاع، والله أعلم وأحكم، وإليه المرجع والمصير.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
علم الهيئة والقرآن
(س2) ومنه: كيف ينطبق علم الهيئة الجديد من أن هناك عوالم شمسية
لا يحصي عددَها سوى خالقها غير عالمنا الشمسي، وأنها ممتلئة بالمخلوقات على
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} (الجاثية: 13) وأن نبينا صلى الله عليه وسلم مرسل لكافة الخلق، وأنه سيد
الوجود على الإطلاق؟
(ج) السموات هي الأجرام السامية فوقنا، وهي كثيرة جدًّا فمنها سبعة كواكب
تابعة لشمسنا وهي نبتون وأورانوس وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد
وهذه الكواكب سيارة، ولها أقمار تتبعها كقمر الأرض، ومنها شموس لها عوالم تابعة
لها لا نعرف حقيقة أمرها، ولكننا نعرف أن جميع هذه السموات التي فوقنا مسخرة
بقدرة الله تعالى لنا ننتفع بنورها الذي هو من أسباب الحياة في الأرض، ونهتدي بها
في ظلمات البر والبحر كما قال في آية أخرى مبينة للإجمال في الآية الواردة
في السؤال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ} (الأنعام: 97) ويصح أن يكون من وجوه التسخير وضروب الانتفاع ارتباط
بعضها ببعض بالسنة الإلهية التي يعبرون عنها بالجاذبية العامة؛ إذ لولا بقاء هذه
الجاذبية لاصطدم بعض هذه الأجرام ببعض، وخرب العالم كله كما أنه لولا النور
المنبعث منها لما عاش حيوان ولا نبات في الأرض. فهي مسخرة لنا بهذه
الاعتبارات.
وأما بعثة نبينا لجميع المخلوقات في جميع العوالم فلا دليل عليها في عقل ولا
نقل، أما العقل فلا معنى عنده لكونه مرسلاً لقوم يسكنون في كوكب آخر، وهو في
كوكب الأرض وهو الوجه في السؤال، وأما النقل فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ
كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) أما ذكر العالمين في قوله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ؛ فيراد به من أرسل إليهم للجمع بين
الآيتين ولما عهد في تفسير مثل هذا التعبير، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ
وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) وأما كونه سيد
الوجود فهذا اللقب لم يرد في كتاب ولا سنة، وإنما ورد في كلام بعض المتأخرين،
ولكن ورد في الحديث الصحيح: (أنا سيد ولد آدم) قال الشيخ محيي الدين بن
عربي: إنَّه لولا هذا الحديث لما فضلناه على غيره من الأنبياء. فإن هذا التفاضل لا
يُعرف إلا بالنص الصريح عن المعصوم؛ لأنه لا ذوق لنا في مقامات الأنبياء، وهو
يرد ما قاله بعض المتكلمين من تفضيل خمسة على الجميع، وجعْل الفضيلة بين
الخمسة على ترتيب الذكر في هذا البيت:
محمد إبراهيم موسى كليمه
…
فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلمِ
ويعد هذا مجازفة وتحكمًا. وقد سبق لنا الاستدلال في (المنار) على تفضيله
عليه السلام بأدلة معقولة، والحق الذي لا مرية فيه أن سيد الوجود على الإطلاق هو
الله تعالى وحده، ومن غرور الإنسان أن يفضل جنسه على جميع خلق الله على جهله
بهم، والله تعالى يقول في بني آدم:] وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاًَ [
الإسراء: 70) وأن هذه الأرض التي يسكنها الإنسان إذا نُسبت إلى ملك الله
الواسع كانت كذرة من جبل أو نقطة من بحر؛ بل كانت أقل من ذلك {وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ} (المدثر: 31) .
والله أعلم وأحكم. والسكوت عما لا يعلم المرء أسلم.
***
السعدية والرفاعية
(س3) الشيخ قاسم محمد غدير بأسيوط: ما قولكم دام فضلكم فيما تفعله
طائفتا السعدية والرفاعية من ضرب بعضهم بعضًا بالسيوف، والاتكاء عليها من غير
أن يصيبهم ضرر، هل هذا كرامة لشيخهم أم لا، وإن كان الثاني فما وجه عدم
الضرر؟
(ج) إن هذه إلا ضُرُوب من اللعب يتمرنون عليها، ويوجد في أوربا من
الولدان والبنات الحسان من يفوقهم في ذلك، والذكي الفطن لا يخفى عليه من أمرهم
شيء إذا هو تأمل. رأيت بعيني رجلين رفاعيين قابضين على سيف من طرفيه،
فجاء ثالث فوضع بطنه على السيف مكشوفًا يوهم الناس أن ثقله كله على السيف،
وهو في الواقع معتمد بيديه على الرجلين بحيث يتمكن من إلقاء الثقل على السيف بقدر
الحاجة، ولو كان هذا اللعب من الكرامات لكان كرامة لفاعليه لا لشيوخهم و (تلك
العصا من هذه العُصَيَّة) .
***
دخول الفرن
(س4) ومنه: قرأت في (المؤيد) المؤرخ في 26 ربيع الأول لمكاتبه
الإسكندري أنه علم أن شخصًا من ذرية سيدي عبد السلام الأسمر بالغرب جاع
بمريوط، واستُطعم فلم يُطعَم، فدخل فرنًا هناك فيه لحم يشوَى فأكله فما هذا؟
(ج) سترون الجواب في مقالات الكرامات والخوارق، واعلموا أن رواة
الجرائد ليس فيهم شروط العدالة التي يعتبرها المحدثون في الرواة الذين تفيد
روايتهم الظن، فكيف نعتمد عليها فيما يُطلب في اليقين كالذي نحن فيه؟ !
***
قراءة الفاتحة
(س5) ومنه: ما حكم قراءة الفاتحة في الاتفاق على أمر، أهي بمنزلة
اليمين أم لا، وما جزاء مَن لم يعمل بما قُرئت الفاتحة لأجله؟
(ج) جرت عادة الناس في هذه البلاد، وفي بلاد غيرها بأن يقرأ المتعاقدان
على شيء الفاتحة بعد إبرام الاتفاق، يجعلونها علامة على إبرام العقد والوفاق تفاؤلاً
بأن يكون ما اتفقا عليه خيرًا، ويتم بخير، وليس لقراءة الفاتحة حكم خاص في هذا
المقام، ولا أعرف له أصلاً في الدين، ولكن التعاقد على شيء يجب الوفاء به إن لم
يمنع من ذلك مانع شرعي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من دلائل الإعجاز
(تابع لما في الجزء الماضي من الموازنة)
مع قول البُحتري:
لقد كان ذاك الجاش جاش مسالم
…
على أن ذاك الزي زي محارب
وقول أبي تَمَّام:
الصبح مشهور بغير دلائل
…
من غيره ابتغيت ولا أعلام
مع قول المتنبي:
وليس يصح في الأفهام شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وقول أبي تمام:
وفي شرف الحديث دليل صدق
…
لمختبر على شرف القديم
مع قول المتنبي:
أفعاله نسب لو لم يقل معها
…
جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
وقول البحتري:
وأحب آفاق البلاد إلى فتى
…
أرض ينال بها كريم المطلب
مع قول المتنبي:
وكل امرئ يولي الجميل محبب
…
وكل مكان ينبت العز طيب
وقول المتنبي:
يقر له بالفضل من لا يوده
…
ويقضي له بالسعد من لا ينجِّم
مع قول البحتري:
لا أدعي لأبي العلاء فضيلة
…
حتى يسلمها إليه عداه
وقول خالد الكاتب:
رقدت ولم ترثِ للساهر
…
وليل المحب بلا آخر
مع قول بشار:
لخديك من كفيك في كل ليلة
…
إلى أن ترى ضوء الصباح وساد
تبيت تراعي الليل ترجو نفاده
…
وليس لليل العاشقين نفاد
وقول أبي تمام:
ثوى بالمشرقين لهم ضجاج
…
أطار قلوب أهل المغربين [1]
وقول البحتري:
تناذر أهل الشرق منه وقائعًا
…
أطاع لها العاصون في بلد الغرب [2]
مع قول مسلم:
لما نزلت على أدنى ديارهم
…
ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد
وقول محمد بن بشير:
أُفرغْ لحاجتنا ما دمت مشغولاً
…
فلو فرغت لكنت الدهر مبذولا
مع قول أبي علي البصير:
فقل لسعيد أسعد الله جده
…
لقد رث حتى كاد ينصرم الحبل
فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما
…
تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
وقول البحتري:
من غادة منعت وتمنع وصلها
…
فلو انَّها بُذلت لنا لم تبذل
مع قول ابن الرومي:
ومن البلية أنني
…
عُلقت ممنوعًا منوعا
وقول أبي تمام:
لئن كان ذنبي أن أحسن مطلبي
…
أساء ففي سوء القضاء لي العذر
مع قول البحتري:
إذا محاسني اللاتي أُدل بها
…
كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
وقول أبي تمام:
* قد يُقدم العَيرُ من ذعرٍ على الأسد *
مع قول البحتري:
فجاء مجيء العير قادته حيرة
…
إلى أهرت الشدقين تدمَى أظافره [3]
وقول معن بن أوس:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد
…
إليه بوجه آخر الدهر تقبل
مع قول العباس بن الأحنف:
نقل الجبال الرواسي من أماكنها
…
أخف من رد قلب حين ينصرف [4]
وقول أمية بن أبي الصلت:
عطاؤك زين لامرئ إن أصبته
…
بخير وما كل العطاء يزين
مع قول أبي تمام:
تُدعى عطاياه وفرًا وهي إن شهرت
…
كانت فخارًا لمن يعفوه مؤتنفا [5]
ما زلت منتظرًا أعجوبة عننًا
…
حتى رأيت سؤالاً يجتني شرفا [6]
وقول جرير:
بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا
…
بأسهم أعداء وهن صديق
مع قول أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
…
له عن عدو في ثياب صديق
وقول كُثير:
إذا ما أودت خلة أن تزيلنا
…
أبينا وقلنا الحاجبية أول [7]
مع قول أبي تمام:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأول
وقول المتنبي:
وعند مَن اليوم الوفاء لصاحب
…
شبيب وأوفى من ترى أخوان [8]
مع قول أبي تمام:
فلا تحسبا هندًا لها الغدر وحدها
…
سجية نفس كل غانية هند
وقول البحتري:
ولم أَرَ في رنْق الصَّرَى لي موردًا
…
فحاولت ورد النيل عند احتفاله [9]
مع قول المتنبي:
ق0واصد كافور توارك غيره
…
ومن قصد البحر استقل السواقيا
وقول المتنبي:
كأنما يولد الندى معهم
…
لا صغر عاذر ولا هرم
مع قول البحتري:
عريقون في الإفضال يؤتنف الندى
…
لناشئهم من حيث يؤتنف العمر
وقول البحتري:
فلا تغلين بالسيف كل غلائه
…
ليمضي فإن الكف لا السيف تقطع
مع قول المتنبي:
إذا الهند سوت بين سيفي كريهة
…
فسيفك في كف تزيل التساويا
وقول البحتري:
سامَوْك من حسد فأفضل منهم
…
غير الجواد وجاد غير المفضل
فبذلت فينا ما بذلت سماحة
…
وتكرمًا وبذلت ما لم تبذل [10]
مع قول أبي تمام:
أرى الناس منهاج الندى بعد ما عفت
…
مهايعه المثلى ومحّت لواحبه [11]
ففي كل نجد في البلاد وغائر
…
مواهب ليست منه وهي مواهبه
وقول المتنبي:
بيضاء تطمع فيما تحت حلتها
…
وعز ذلك مطلوبًا إذا طلبا
مع قول البحتري:
تبدو بعطفة مطمع حتى إذا
…
شغل الخلي ثنت بصدفة مؤيس [12]
وقول المتنبي:
إذكار مثلك ترك إذكاري له
…
إذ لا تريد لما أريد مترجما
مع قول أبي تمام:
وإذا المجد كان عوني على المر
…
ء تقاضيته بترك التقاضي
وقول أبي تمام:
فنعمت من شمس إذا حجبت بدت
…
من خدرها فكأنها لم تحجب
مع قول قيس بن الخطيم:
قضى لها الله حين صورها م الخالق أَلَّا تكنها سدف
وقول المتنبي:
راميات بأسهم ريشها الهُد
…
ب تشق القلوب قبل الجلود
مع قول كثير:
رمتني بسهم ريشه الكحل لم يجز
…
ظواهر جلدي وهو في القلب جارح [13]
وقول بعض شعراء الجاهلية ويُعزى إلى لبيد:
ودعوت ربي بالسلامة جاهدًا
…
ليُصِحَّنِي فإذا السلامة داء
مع قول أبي العتاهية:
أسرع في نقص امرئ تمامه
…
تدبر في إقبالها أيامه
وقوله:
أقلل زيارتك الحبيـ
…
ـب تكون كالثوب استجده
إن الصديق يمله
…
أن لا يزال يراك عنده
مع قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب تتجدد
وقول الخريمي:
زاد معروفك عندي عِظَمًا
…
أنه عندك محقور صغير
تتناساه كأن لم تأته
…
وهو عند الناس مشهور كبير
مع قول المتنبي:
تظن من فقدك اعتدادهم
…
أنهم أنعموا وما علموا
وقول البحتري:
ألم تر للنوائب كيف تسمو
…
إلى أهل النوافل والفضول
مع قول المتنبي:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
…
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقول المتنبي:
تذلل لها واخضع على القرب والنوى
…
فما عاشق من لا يذل ويخضع
مع قول بعض المحدثين:
كن إذا أحببت عبدًا
…
للذي تهوى مطيعا
لن تنال الوصل حتى
…
تلزم النفس الخضوعا
وقول مضرس بن ربعي:
لعمرك إني بالخليل الذي له
…
عليَّ دلال واجب لمفجَّع
وإني بالمولى الذي ليس نافعي
…
ولا ضائري فقدانه لممتَّع
مع قول المتنبي:
أما تغلط الأيام فيَّ بأن أرى
…
بغيضًا تُنائي أو حبيبًا تقرب
وقول المتنبي:
مظلومة القد في تشبيهه غصنًا
…
مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
مع قوله:
إذا نحن شبهناك بالبدر طالعًا
…
بخسناك حظًّا أنت أبهى وأجمل
ونظلم إن قسناك بالليث في الوغى
…
لأنك أحمى للحريم وأبسل
***
ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويرًا وأستاذية على الجملة فمن ذلك، وهو من النادر قول لبيد:
وأكذب النفس إذا حدثتها
…
إن صدق النفس يزري بالأمل
مع قول نافع بن لقيط:
وإذا صدقت النفس لم تترك لها
…
أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوب
وقول رجل من الخوارج أُتي به الحَجّاج في جماعة من أصحاب قَطَرِيٍّ فقتلهم
ومنَّ عليه ليد كانت عنده، وعاد إلى قَطَرِيٍّ فقال له قَطَرِيٍّ: عاود قتال عدو الله
الحجاج، فأبى، وقال:
أأقاتل الحجاج عن سلطانه
…
بِيَدٍ تقر بأنها مولاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه
…
في الصف واحتجت له فعلاته
وتحدث الأقوام أن صنائعًا
…
غرست لديَّ فحنظلت نخلاته [14]
مع قول أبي تمام:
أسربل هجر القول من لو هجوته
…
إذن لهجاني عنه معروفه عندي [15]
وقول النابغة:
إذا ما غدا بالجيش حلَّق فوقه
…
عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقنَّ أن قبيله
…
إذا ما التقى الصفان أول غالب [16]
مع قول أبي نواس:
وإذا مَجَّ القنا علَقًا
…
وتراءى الموت في صُوَره
…
راح في ثنيي مفاضته
…
أسد يدمى شبا ظُفره [17]
…
يتأيَّي الطير غدوته
…
ثقة بالشبع من جَزره [18]
المقصود البيت الأخير.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الضَّجَّاج بالفتح وبالضم كالضجيج وهو صياح الفزع مما يخاف منه.
(2)
تناذر الناس أنذر بعضهم بعضًا وخوفه الشيء.
(3)
أهرت الشدقين واسعهما.
(4)
في رواية: نفس بدل قلب وتنصرف بدل ينصرف.
(5)
أي لمن يسأله مبتدئًا والأحسن جعل مؤتنفًا اسم مفعول صفة للفخار كتبه الأستاذ الإمام.
(6)
عننًا أي معترضة تأتي بلا سبب.
(7)
يريد بالحاجبة عزة.
(8)
يريدان شبيبًا وأوفى الورى أخوان في الغدر إذ لا وفاء عند أحد و" من " استفهامية.
(9)
الصرى: اسم نهر.
(10)
أراد أنهم من الحسد أخذوا يسامونه في العطاء فبذلوا ولا جود عندهم فكان بذله بذلين بذل السماحة الصادر منه مباشرة وبذل هؤلاء البخلاء الذي صدر عنهم بسببه كتبه الأستاذ الإمام.
(11)
محت لواحبه بمعنى عفت مهايعه أي بليت طرقه الواضحة وواحد اللواحب: لاحب.
(12)
الصدفة المرة من الصدف وهو الإعراض عن الشيء.
(13)
وفي نسخة: يصب بدل يجز.
(14)
يقال حنظلت الشجرة أي صار ثمرها مرًّا كالحنظل.
(15)
الكلام استفهام إنكاري حذفت من (أسربل) همزة الاستفهام.
(16)
الرواية: الجمعان بدل (الصفان) .
(17)
المفاضة: الدرع الواسعة.
(18)
يتأيى: يتحرى ويترقب والضمير في جزره للطير وجزر الطير وجزر السباع هو اللحم الذي تأكله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الحديثة
(كيمياء السعادة)
رسالة في علم النفس والأخلاق أو التصوف لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي
طُبعت في مطبعة المنار عن نسخة خطية قديمة، وصححها بالمقابلة على نسخة
خطية أخرى بدار الكتب المصرية ملتزم طبعها الشيخ إبراهيم إسماعيل خاطر، أحد
المجاورين في الأزهر، وجعل ثمن النسخة الواحدة من الورق الجيد قرشًا صحيحًا
ومن ورق متوسط نصف قرش، وكفى بعزوها إلى حجة الإسلام ترغيبًا فيها، وهي
تُطلب من ملتزم طبعها، ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وأجرة البريد مليمان.
***
(كتاب اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع)
ألف الحفّاظ والمحدثون كتبًا كثيرة في الأحاديث الموضوعة التي عزيت إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذبًا عمدًا أو جهلاً محضًا حتى إن المقلد لكل متقدم
ليظن أنهم لم يدعوا لمتأخر مقالاً، ولم يتركوا له في التأليف مجالاً، ولكن من يتوجه
إلى الإفادة بإخلاص قلب يفتح الله عليه ما يفيد به. فهذه الكتب المؤلفة في
الموضوعات لا تكاد تجد لها قارئًا واحدًا في الألف من طلاب العلم. ونظن أن
كتاب (اللؤلؤ المرصوع) الذي طبع في هذه الأيام سيكون حظه عند أهل هذا
الزمن أكبر من حظ تلك الكتب؛ لأن مؤلفه هدى بإخلاصه فجمع فيه كثيرًا من
الأحاديث الموضوعة التي تدور على ألسنة الناس وفي بعض الكتب ورتبها على
حروف المعجم فكانت كتابًا تزيد صفحاته عن المائة.
مؤلف الكتاب الشيخ محمد أبو المحاسن القاوقجي الطرابلسي أحد شيوخنا في
الحديث. وكفى بذكر القاوقجي تعريفًا فإنه قد اشتهر بصلاحه في هذه البلاد وغيرها
ومريدوه يعدون بالألوف رحمه الله تعالى رحمة واسعة. وقد طبع الكتاب على نفقة
الحاج عبد الله العطار من مريدي المؤلف، وصححه الشيخ محمد كمال الدين
القاوقجي الأزهري نجل المؤلف، وطبعت في آخره رسالة الحافظ الصغاني في
الموضوعات. فنحث جميع القراء على مطالعته كيلا يغتروا بما اشتهر من تلك
الأحاديث المكذوبة.
***
(ديوان الكاشف)
أحمد أفندي الكاشف شاعر قوي السليقة بعيد من الصنعة مشهور بما نُشر له
من القصائد في الجرائد، وقد جمع شعره من سنة 1315 إلى سنة 1320 وطبعه
في ديوان سمّاه (ديوان الكاشف) وصدَّره بمقدمة في ترجمة نفسه بلغت 30
صفحة، وبلغ الديوان بها 160 صفحة. وقد سلك في الترجمة مسلك الحرية فذكر ما
يمدح وما يذم وباح بأسرار الخواطر والهواجس. ويعلم منها أنه كان موكولاً إلى
نفسه، مسترشدًا بوجدانه وحسه، يُبتلى فيستسلم لدواعي الأحزان، ويتحمس فيسلك
مسالك الشجعان، ويعشق فيسترسل في طاعة الغرام، ولم يصبر على مرارة
التعليم، ولم يسلس قياده لنظار المدارس، فاكتفى ببعض المبادئ ورضي من ثمرة
العلم والأدب بالشعر يوحيه الذوق وتنظمه السليقة. وهو دموي المزاج حادُّه محب
للفخر والعلو ويرى أن الشعر كافٍ في رقي صاحبه إلى ذرى المعالي، وحسبانه في
عداد النابغين، كتب ما كتب في مقدمته وشعر بأنه جاء فيها ما يعتذر منه فقال في
آخرها: إن له ثلاثة أعذار: المرض وضيق الوقت وفقد النصير. افتتح الديوان
بعد المقدمة بتقديمه إلى الله تعالى فقال:
رب هذا شعري وهذا بياني
…
شهدا لي بصحة الإيمانِ
لي داعٍ من فطرتي قبل أن أَتْـ
…
ـلُوَ كتابًا إلى اليقين هداني
من يكن قام بالعقائد تقليـ
…
ـدًا فإني استقمت بالبرهانِ
مسلمًا عشت لا لإسلام أمي
…
وأبي والأمير والسلطانِ
أنا لو كنت ناشئًا ومقيمًا
…
بين قوم من عابدي الأوثانِ
لم أجد غير دين أحمد أولى
…
باتباعٍ من سائر الأديانِ
ثم قدمه إلى النبي بأبيات لا تشعر بالتقديم، ثم إلى أمير المؤمنين، ثم إلى مصر
ثم إلى قومه، ثم إلى الشعراء. وجعل الديوان أبوابًا في مدح السلطان ومدح أمير
مصر ومدح العظماء والإخوان. وفي السياسة والتاريخ ومن هذا الباب قصيدة في
فتح السودان، وقصيدة في ذكر الثورة العرابية. وفي التربية والتعليم والأخلاق
والآداب والحكم والفكاهات وفي الوطنية وفي الشكوى والعتاب، وفي الخصوصيات
والأغراض، وفي حوادث الغرام، وفي المراثي والتعازي، وثمن النسخة من الديوان
عشرة قروش في بلاد مصر و15 قرشًا في غيرها من البلاد، فعسى أن يلقى هذا
الديوان من إقبال القراء ما تقر به عين الناظم.
***
(فتح الأندلس)
قصة تاريخية غرامية هي الحلقة السابعة من سلسلة (روايات تاريخ الإسلام)
تتضمن تاريخ أسبانيا قبيل الفتح، ووصف أحوالها الإدارية والسياسية والدينية
وعلاقة بعضها ببعض، وبسط عادات القوط والرومان هناك، والفرق بين طبقات
الناس، وقدوم طارق بن زياد لفتحها، والسبب الذي دعاه إلى ذلك - إلى مقتل
رودريك ملك القوط في واقعة وادي ليتة سنة 93هـ (هذا ما لخص به الرواية
مؤلفها جُرجي أفندي زيدان، وهي كما قال، رغب إلينا المؤلف في قراءة القصة
قبل تقريظها حبًّا في النقد الذي لا يحبه إلا الواثق بحسن عمله، الراغب في تكميله
فقرأناها بلذة عظيمة، وشهدنا له بحسن تصنيف القصص، فإن القارئ لا ينتهي من
فصل من فصولها إلا بشوق يلح به، ويحفزه إلى قراءة ما بعده حتى ينتهي بالفصل
الأخير.
وننتقد عليه أن المقصود من القصة بيان تاريخ الإسلام كسوابقها، وليس فيها
منه إلا ذكر الفتح بغاية الإيجاز. وانتقد غيرنا من نبهاء المسلمين على هذه القصص
أنها تصوِّر للقارئ أن انتصار المسلمين في الفتوحات لم يكن إلا بسبب ما كان ألمَّ
بالأمم التي فتحوا بلادها كالرومانيين والفرس والمصريين والبربر والقوط من فساد
الأخلاق واختلاف المذاهب الدينية، وتفرق الكلمة. ويرى هؤلاء المنتقدون أن هذا
غمْط لحقوق المسلمين وعدم اعتراف بشجاعتهم وعناية الله تعالى بهم حمل المؤلف
عليهما التعصب الديني. ونحن ننكر عليهم هذا الرأي كتابة كما أنكرناه قولاً، فإن ما
ذكره من فساد دين الأمم وأخلاقها وتفريق كلمتها هو السبب الأول في قهر أولئك
الشراذم من المسلمين لتلك الأمم القوية العظيمة السلطان بل لولا ذلك الفساد العام لما
أرسل الله تعالى ذلك المصلح العام كافة للناس بشيرًا ونذيرًا صلى الله عليه وسلم
وأيده بعنايته فجمع له كلمة الأمة العربية التي لا يعرف لها التاريخ اجتماعًا، فأدبها
وأدب بها - على بداوتها - أمم العلوم والمدنية، على أن المؤلف نوه بشجاعة
العرب وفضلهم وعدلهم، ولم ينقصهم منه شيئًا.
أما عبارة القصة فقد كنت أتوقع أن تكون خيرًا مما سبقها فإذا هي كغيرها في
السلاسة، ولكن فيها كلمات وعبارات عامية لم أَرَ مثلها في كتابة قبلها للرصيف
فجزمت بأنه متعمد ليسهل فهم كتابته على العوام، وعندي أن سلاسة عبارته كافية
في الوصول إلى هذا المرام، وصحة العبارة لا تحول بين المعنى والأفهام.
***
(فتاة غسان)
قصة تاريخية غرامية أخرى لجرجي أفندي زيدان أيضًا كتب على ظهرها
بعد ذكر اسمها (تشرح حال الإسلام من أول ظهوره إلى فتوح العراق والشام مع
بسط عوائد العرب في آخر جاهليتهم وأول إسلامهم ووصف أخلاقهم وأزيائهم
وسائر أحوالهم) أهدانا المؤلف نسخة من الجزء الأول منها طبع ثانية قبل إهداء
(فتح الأندلس) ، فلم ننظر فيه؛ لأن وقتنا قصير، وعملنا كثير فلما طالعنا هذه
إجابة لطلب المودة ساقتنا اللذة إلى مطالعة الأخرى، فكانت اللذة فيها لا تقل عن اللذة
في أختها، وعبارتها أسلم من عبارتها، وفائدتها في التاريخ الإسلامي أكبر من
فائدتها، وإن كانت لم تشرح حال الإسلام كما قال شرحًا، ولم تبسط عوائد
العرب وأخلاقهم وسائر أحوالهم بسطًا، فإنه ذكر جملة صالحة من ذلك كان يجهلها
السواد الأعظم من القراء لأن أكثرهم من العوام وإن تعلم الكثيرون منهم في
المدارس الابتدائية فإن مدارس مصر لا حظ لها من تاريخ الإسلام. ولذلك كنت
أناظر جماعة من أهل العلم يدعون أن قراءة هذه القصص ضارة وأدعي أنا أنها نافعة.
يحتج هؤلاء بأن في هذه القصص أغلاطًا تاريخية حتى في الأمور المشهورة
ومثل هذا لا يسلم منه كتاب، منها قوله: إن أمير العرب على فتح العراق هو (سعد
بن مالك) وهو إغراب، وكان يُدْعَى سعد بن أبى وقاص وإن كان اسم أبيه مالكًا،
ويعدون عليه مسائل كهذه جزئية منها ما يستند هو فيه إلى نقل صحيح كهذا أو
ضعيف، فمن الأول قوله: إن أبا سفيان حيَّا هِرَقْل بقوله: (أبيت اللعن) وهم
ينكرون ذلك محتجين بأنها تحية الحِمْيريين للملوك دون المُضريين، وله أن يحتج هو
بإطلاق بعض علماء اللغة والتاريخ أنها تحية الملوك في الجاهلية.
ومن الثاني نص كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هرقل، فإنه نقلها
عن (الأغاني) هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل
عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن
توليت فإن إثم الأكابر عليك) .
والرواية الصحيحة في البخاري وغيره: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد
عبد الله ورسوله (وفي رواية رسول الله) إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من
اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين
فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (وفي رواية الأكارين - لا الأكابر - وكلاهما
بمعنى الفلاحين، يريد: رعيته أهل الحرث) و {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) ،
هذا هو نص الكتاب، ولا شك أن المؤلف قصر في اعتماده على كتاب أدبي دون كتب
الحديث وكتب السير في أهم شيء من موضوع قصته.
وذكر في آخر الكتاب صورة خاتم النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الواقدي
وهي أن لفظ (محمد) في السطر الأعلى، ولفظ (رسول) في السطر الأوسط،
ولفظ الجلالة (الله) في السطر الأدنى، والمشهور العكس، والواقدي يروي
الموضوعات وقصته في فتوح الشام مملوءة بالكذب وهذه المسألة أهون من غيرها.
أما ما ذكره مؤلف القصة عن أبي سفيان من سيرة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فأبو سفيان لم يقلها، ولا هو ينقله عنه بالرواية، وإنما جمع المؤلف أقوالاً
من الكتب، وألفها مع بعض آرائه وأسندها إلى أبي سفيان لأنهم يستجيزون ذلك
في القصص؛ لأن العبرة عندهم بالمسائل لا بالرواية وإن سمى أهل العربية
هذه القصص روايات كذبًا ومينًا والمعروف في الصحيح أن أبا سفيان لم يتجاوز أجوبة
أسئلة هرقل.
ومن المسائل الباطلة التي حكاها المؤلف عن أبي سفيان مسألة الغرانيق.
رآها في الطبري، فنظمها في سلك الحكاية، وقال: إن أبا سفيان قال: إن محمدًا
ذكر آلهتهم (أي بخير) فيما نزل عليه، ثم رجع عن ذلك (وأبدل هذه الفقرة بفقرة
تزيدنا نفرة منه، فقال:(إن تلك إنما ألقاها الشيطان على لسانه) ، ثم ذكر آلهتنا
بكل سوء فقال: (إنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) إلى غير ذلك مما زادنا نفورًا
وبُعدًا) . هذه العبارة بين الهلالين منقولة من القصة بحروفها، وهي توهم أن جملة
(إن تلك.. إلخ) مروية عن النبي عليه السلام، وذلك غير صحيح وفيها تحريف
للآية الكريمة: {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} (النجم: 23)
…
إلخ.
والسبب في ذلك اعتياد القوم على التساهل في النقل، والاعتماد على المعنى
الذين يفهمونه، ويحسبون هذا التساهل هينًا حتى في الأمور الدينية، وهو عند
المسلمين عظيم. وقد نشرنا في المجلد الثالث من (المنار) مقالة طويلة للأستاذ
الإمام يفند فيها مسألة الغرانيق ويبين بطلانها. وللمؤلف المسيحي العذر في تصديق
مسألة ذكرها بعض علماء المسلمين، وسكت عليها فلم يكذبها، وهذه القصة وُضعت
بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تكن معروفة في عهده لمؤمن ولا لمشرك.
***
(بشارة بَحيرا الراهب بالنبي صلى الله عليه وسلم وشبهتهم فيه)
ومما أسنده المؤلف إلى أبي سفيان قوله: إن أبا طالب كان يصطحب محمدًا في
أسفاره فينزل الديور (كذا) ، ويجالس الرهبان والعلماء، وذكر هنا أن بحيرا الراهب
أنبأه بأمور كثيرة من مستقبل حياته وأوصى عمه أن يعتني به ويخاف عليه اليهود.
وقوله: إن محمدًا كان إذا عاد من سفره يقضي معظم ساعات نهاره في الكعبة
يحدث الناس، ويجادلهم ويطارحهم، ويُعجَبون لذكائه وقوة برهانه (قال) : فقد كان
على صغر سنه ذكي الفؤاد واسع الاطلاع بما اكتسبه من مجالسة عمه ومخالطة
الناس في أسفاره مع أنه أمي لا يعرف القراءة! ونقول: إن هذا غير صحيح فإنه ما
كان معروفًا بالفصاحة، ولا بسعة الاطلاع، ولا كان يجادل الناس ولم يقل بالمجادلة
جهلاء المسلمين الذين أرادوا أن يعظموه بأكثر مما عظمه الله تعالى به فوضعوا
أحاديث واخترعوا حكايات جاءت بنقيض المطلوب منها قولهم عنه: (أنا أفصح
مَن نطق بالضاد) قال المحدثون: إنه لا أصل له وقال شيخنا القاوقجي في (اللؤلؤ
المرصوع) : والعجب من الجلال المحلّي ذكره في شرح جمع الجوامع من غير
تنبيه، وكذا زكريا الأنصاري في شرح المقدمة الجزرية:
أما قصة بحيرا الراهب فقد ذكرها أصحاب السير في البشارات بالنبي صلى
الله عليه وآله وسلم، ونظموها في سمط الخوارق التي رووا أنها كانت محتفة بها
ولكن النصارى نظموها في سلك آخر، فزعموا أن بحيرا كان معلمًا للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وعظموا من شأنه، ووسعوا دائرة رواية المسلمين في شأنه
فأخذ صاحبنا جرجي أفندي زيدان خلاصة مما قرأه وسمعه من الفريقين وأودعها
قصته هذه (فتاة غسان) ونوه بها في غيرها، وأنا أعتقد بما لي من حسن الظن فيه
أنه كتب ما يعتقده وإن كان مخطئًا فيه، أوهمت عبارته الماضية أن أبا طالب كان
يسافر بابن أخيه قبل النبوة كثيرًا فينزل الأديار ويجالس الرهبان والعلماء
…
والصواب أنه لم يسافر مع عمه إلا مرة واحدة، وكان ابن تسع وكان سبب خروجه
معه تعلقه به وحبه إياه لما كان يعامله به من الكرامة والإحسان، وفي هذه المرة رآه
الراهب بحيرا وبشر ولم يره بعدها. وقد سافر مرة ثانية إلى الشام في عِير لخديجة
مع غلامها ميسرة، وكان ابن 25 سنة على الأرجح، وفي هذه المرة رآه نسطورا
الراهب، ورأى من علامات النبوة ما أنطقه بأنه هو الذي بشر به المسيح وغيره من
الأنبياء ولم ير بحيرا في هذه المرة.
وقد ذكر المؤلف رأيه في بحيرا في الفصل الثامن من القصة وملخصه:
(1)
أن اسم بحيرا (يوحنا) عزا ذلك إلى الكِندي أي: إلى ذلك الكتاب
الطاعن في الإسلام، المنسوب إلى رجل على عهد المأمون اسمه إسحق الكندي
والكتاب لبعض المتأخرين لا شك عندي في ذلك. وفي السيرة الحلبية وغيرها أن
اسمه جرجيس وقيل سرجيس.
و (2) أن سلمان الفارسي كان تلميذًا له نقل ذلك عن الدائرة ولم يُعرف في
ترجمة سلمان عند المحدثين.
و (3) أنه كان على مذهب آريوس.
و (4) أنه كان عالمًا بالفلك والنجوم والطوالع وسائر علوم تلك الأيام.
و (5) أنه كان حسن الفراسة ولكنهم كانوا يعتقدون أنه ساحر.
و (6) أنه سافر في آخر عهده إلى مكان مجهول في جزيرة العرب ثم عُلم
أن اليهود قتلوه غيلة.
و (7) أن المظنون في سبب ذهابه إلى بلاد العرب قصد الحجاز لحادثة جرت
معه.
ثم ذكر المؤلف في بيان هذه الحادثة قصة عن لسان راهب كان تلميذًا لبحيرا
وملخصها:
أن القوافل القادمة من بلاد العرب كانت تقف عند دير بحيرا بالقرب من مدينة
بُصْرَى، وكان بحيرا يخرج إليهم ويعلِّمهم عبادة الله تعالى إذا كانوا وثنيين، وأنه كان
يعتقد أن الله ظهر له في الرؤيا وأنبأه بأنه سيكون واسطة لهداية بني إسماعيل، ثم
رأى في رؤيا أخرى: (أن فتى جميل المنظر شهمًا مولده ببرج الثور والزهرة مع
قران المشتري وزُحل سيهدي بني إسماعيل إلى معرفة الله وأن به يقوى أمرهم
ويشتد أزرهم وتجتمع كلمتهم فيذللون أبناء عمهم بني إسحق ويتسلطون عليهم مدة
كما أشار إليه دانيال في نبوته وأنه يخرج من العرب اثنتا عشرة دولة) .
ثم ذكر المؤلف بلسان الراهب أن قافلة جاءتهم من قريش فشاهد بحيرا فيهم غلامًا
جميلاً علم أنه هو الذي بُشر به في المنام وأوصى به عمه أن يحذر عليه اليهود،
(قال) : ثم كانوا كلما مروا بنا أقاموا عندنا كالعادة.
أقول في هذه الحكاية أغلاط يبنى عليها أحكام فاسدة وهو لم يروها عن أحد
وإنما استنبطها من قريحته ليصور فيها ما كان يعتقده في النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وهو أنه اقتبس آراءً من ذلك الراهب في التوحيد وغير التوحيد وطفق
يستعد لتحقيق بما بشره به، وكان يختلف إليه للاستفادة منه ثم إن الراهب بعد ذلك
رحل إليه. وحاصل القول إن دين الإسلام بُني على معارف ذلك الراهب
وبشارته. ويظهر أن المؤلف رجع عن هذا الرأي الذي يؤخذ من كلامه في بحيرا
وصار يعتقد أن النبي عليه السلام لم يكن متصنعًا ولا متكلفًا؛ بل كان يعتقد في نفسه
أنه مرسل من الله تعالى ويفهم هذا الرجوع مما كتبه بعد ذلك في الجزء الأول من
(تاريخ تمدن الإسلام) .
أما الأغلاط المهمة التي جاءت في حكايته المخترعة:
فأحدها: قوله: إن كان يعلّم العرب الذين كانوا ينزلون بجوار الدير والصواب
أنه ما كان يخرج إليهم ولا يكلمهم قال في السيرة الحلبية: (وكانت قريش كثيرًا ما
تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى إن ذلك العام صنع لهم طعامًا كثيرًا، وقد كان رأى
وهو بصومعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله
من بين القوم ثم لما نزلوا في ظل شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة
وتهصرت - أي مالت - أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
استظل تحتها.. ثم أرسل إليهم: قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، وأحب أن
تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم - لم أقف
على اسم هذا الرجل -: يا بحيرا، إن لك اليوم شأنًا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا
نمر عليك كثيرًا فما شأنك اليوم؟ فقال: صدقت
…
القصة) وفيها أن النبي لم
يحضر معهم أولاً فسألهم عمن تخلف؛ لأنه لم يَرَ الغمامة على أحد منهم فقالوا له:
ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنًّا، فطلبه
فجاء والغمامة فوقه. فلما أكل القوم وتفرّقوا قام إليه بحيرا فقال له: أسألك باللات
والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
تسألني باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغض شيئًا قط بغضهما، فقال بحيرا:
فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن
أشياء من حاله، من نومه وهيئته وأموره ويخبره فيوافق ما عنده من صفته أي
صفة النبي المبعوث آخر الزمان، وذكر أنه أوصى به عمّه، وليس في رواية من
الروايات أنه علَّمهم في تلك الدعوة أو غيرها شيئًا أو دعاهم إلى توحيد أو غيره.
ثانيها: خبر الرؤيا والنظر في النجوم وقد علمت أن سبب البشارة به في
الرواية المأثورة هو ما رآه من النعوت والآيات، وما كان يحفظ من البشارات،
فالرؤيا المنامية دعوى اختراعية. وبناء البشارة على معرفته بالتنجيم حكاية خرافية
فإن قالوا: إنهم لا يسلمون بما في الرواية الإسلامية من تظليل السحابة والشجرة نقول
سواء علينا أرددتم هذا وحده أم رددتم الرواية من أصلها وأرحتمونا من ذكر
بحيرا الذي عظمتم أمره، وهو واحد من ألوف كانوا يعتقدون بأن نبيًّا يُبعث
من آل إسماعيل كما بشرت التوراة والإنجيل.
ثالثها: قوله: وأقام الركب عندنا مدة، ورابعها: قوله: ثم كانوا كلما مروا
بنا أقاموا عندنا كالعادة، وكلاهما غير صحيح كما علمت.
وجملة القول أنه لا توجد شبهة ما على أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم رأى بحيرا غير تلك المرة، ولا توجد شبهة ما على أنه استفاد منه علمًا يُذكر،
أو حكمًا يُؤثر، وماذا عسى يستفيد ابن تسع من مجلس جلسه إلى عالِم؟ ! وكيف
يصدق عاقل أن ذلك الغلام يخزن هذه العلوم زمنًا يزيد على ثلاثين سنة ثم يفيضها
على الناس بحكمة باهرة وسياسة عالية؟ ! وكيف عجز الراهب مفيض العلوم عن
هداية رجل واحد كالراهب الذي يحكي عنه في القصة، وقدر ذلك الغلام المستفيض
على هداية الشعوب والقبائل وقلب نظام العالم بتطهيره من الشرك والوثنية والظلم
والتهتك في الشهوات؟ ! إن في ذلك لآياتٍ. وإنما أطنبت في قصة بحيرا إطنابًا ما
كان يتسع له تقريظ قصة؛ لأنني كنت أسمع من رهبان هذا الزمان وبعض عوام
النصارى كلامًا كثيرًا في دعوى تعليمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما كنت
أظن أن خواصهم يحفلون بذلك حتى رأيت في هذه القصص ما رأيت، ولا أزال
أعتقد أن رصيفنا الفاضل جرجي أفندي زيدان ليس له قصد شيء يحمله على كتابة
ما لا يعتقد.
وأقول: إنه لا يجوز لمسلم أن يثق بغير العلماء الراسخين من أهل الدين
في نقل الأمور الدينية؛ إذ لا يعرف الصحيح المعتمد عليه غيرهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المحسن العظيم منشاوي باشا
أبو الوطن لا الإسكندريةوحدها
زار صاحب السعادة والفضل أحمد باشا المنشاوي مدارس العروة الوثقى
الخيرية في الإسكندرية، فتلقاها أعضاء الجمعية الكرام بما يليق بمقامه في فضله
وإحسانه، وكانوا قد أمروا بأن تزين المدارس حفاوة به، فابتدأ بزيارة مدرسة عباس
الأول للذكور وهناك قدموا له كتابًا مصفحًا بالذهب ذكرى شكر على إحسانه وعند
ختام الاحتفال وتلاوة الخطب والأناشيد، وعد التلامذة بأنه أوقف حياته لتربيتهم. ثم
زار مدرسة إسماعيل الأول للبنات، ثم مدرسة كوم الشقافة ومدرسة عباس الثاني
ومدرسة توفيق الأول والمكتب العباسي، ثم مدرسة عباس الأول للبنات فمدرسة
إبراهيم الأول، وكانت كل مدرسة تقدم له ذكرى تليق بها.
وقد هزته الأريحية لما شاهده من حال هذه المدارس والمكاتب وحال التلامذة
والتلميذات الذين كانوا يتدفقون بزيارته بِشرًا وشكرًا، فأمر بأن تكون كسوة تلامذة
المكاتب على نفقته، ووعد بأنه سيوقف أطيانًا يخص ريعها بتجهيز بنات الفقراء
المتعلمات في هذه المدارس عند زواجهن. وذكرت مدرسة جمعية الحمالين
(الشيالين) في الكمرك فوعد بمساعدتها. ثم أمر بصرف راتب شهر لكل واحد
من معلمي هذه المدارس.
ننشر خبر هذه الزيارة وإن كنا نغفل ذكر زيارات الملوك والأمراء الحاكمين
للمعاهد العامة والخاصة لأن شأن الإسعاد على العلم لا يعلوه عندنا شأن، وإننا لنفتخر
بهذا المحسن العظيم الذي طوق الإسكندرية بفضله وإحسانه حتى قال بعض الأدباء:
يجب أن نكنيه بأبي الإسكندرية، ونحن نتوقع أن يطوق بفضله القطر كله
بمساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية العامة كما طوق الإسكندرية بمساعدة جمعية
العروة الوثقى الخاصة فيكون أبا الوطن كله لا أبا الإسكندرية وحدها.
أدام الله توفيقه. وألهم سائر أغنيائنا أن يسلكوا طريقه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدرسة المعلمين الإلهامية
وفق الله تعالى صاحبة الدولة والدة الجناب الخديوي فألهمها بأن تنشئ مدرسة
لتخريج معلمي المدارس الابتدائية، وتجعلها تذكارًا لوالدها (إلهامي باشا) وقد وُضع
جدول الدروس واتخذ للمدرسة مكان موقت، وستُبنى لها دار فسيحة في الحلمية على
نفقة المنشئة أثابها الله تعالى. وقد عين عابدين أفندي خير الله ناظرًا لهذه المدرسة.
أما العلوم التي تُقرأ في المدرسة فهي تجويد القرآن الكريم وتفسيره والنحو
والصرف والبلاغة والإنشاء قولاً وكتابةً والفقه والتوحيد والحساب والهندسة وتقويم
البلدان والخط، وتقبل المدرسة ثلاثين طالبًا مجانًا بشروط معرفة القراءة والكتابة
وحفظ القرآن الكريم والصحة، وكون السن لا تزيد على 18 ولا تنقص عن
12 سنة.
العلم المقصود جليل، ولكنه لا يتم بالدار الفسيحة والنفقة الواسعة من كرم
الإمارة، وإنما يتم بانتقاء المعلمين الفضلاء الأَكْفَاء الذين يحسنون التربية أولاً
والتعليم ثانيًا، فإذا لم يكن المعلمون مربين فلا فائدة لهم ولا جدوى. وفق الله ناظر
هذه المدرسة لانتقاء الرجال، كما وفق منشئتها الكريمة لبذل المال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفاء قراء الصحف ومطلهم
كتبنا مقالة أخلاقية في وفاء قراء الصحف المنشَّرة ومطلهم بالنسبة إلى البلاد
وإلى الأصناف، بنينا الحكم فيها على اختبارنا الخاص، فأخذ (المقتطف) الأغر
خلاصتها، وقال: إنها ذكرته بحثًا مثل بحثنا للفيلسوف سبنسر الشهير ظهر له منه أن
خدمة الدين أقل وفاءً بالحقوق من غيرهم. ثم ذكر إحصاءً لأصناف المشتركين في
(المقتطف) و (المقطم) من حيث الوفاء والمطل كانت نتيجته موافقة لنتيجتنا.
ظهر من إحصاء المقتطف أن أصحاب الأملاك يتأخر عندهم سبعة في المائة من
حقوق الجرائد والمجلات، ويتأخر عند العلماء 9 في المائة وعند التجار 15 في المائة
وعند المحامين 25 في المائة وعند القضاة 30 في المائة وعند الموظفين 40 ونصفًا
في المائة.
قال الكاتب:
(وهذه النتيجة تنطبق على نتيجة صاحب المنار إلا من حيث العلماء، ولعل
سبب ذلك أننا جمعنا معهم المعلمين. أما موظفو الحكومة فأكثرهم من المستخدمين
الصغار، لا من الموظفين الكبار. ومن الغريب أن يدخل حضرات القضاة والمحامين
في باب المطل ولو لم تكن النتيجة التي وصلنا إليها نحن مطابقة للنتيجة التي وصل
إليها صاحب المنار لظننا حسابنا خطًا) .
أما ما ذكره في علة اختلاف الحسابين في العلماء فصحيح؛ لأن المعلمين في
المدارس يقل فيهم الماطلون، وقد قلنا هذا فلا خلاف، أما المحامون فقد نسينا أن
نذكرهم في تلك المقالة وهم أحسن وفاءً من القضاة وإن كنا نسمع القضاة يتبرمون
منهم. ونحن لا نشكو إلا من المحامين الشرعيين فإن أكثرهم يمطلون، وأما
المحامون في المحاكم الأهلية فكلهم يؤدون حق المنار، ويقل فيهم مَن يخرج منه
الحق نكدًا.
ومن عجيب ما وقع لنا من القضاة الأهليين أن أحدهم اجتمع عنده اشتراك
ثلاث سنين فطلب منا أن نعطيه ثلاث مجلدات من المنار بثمنها ونعطيه وصولاً بما
يطلب منه من غير أن يدفع قرشًا واحدًا واحتجَّ بأنه ينقصه بعض الأجزاء، فيا
حرمان مَن يتقاضى عند مثله.
_________
(تنيبه) : ضاق هذا الجزء عن شبهات النصارى وتتمة ترجمة البابا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة السابعة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(النوع الحادي عشر: استجابة الدعاء)
قال السبكي: وهو كثير جدًّا وشاهدناه من جماعة. أقول: هذه مسألة من أكبر
المسائل التي وقع فيها الخلاف بين المذاهب الإسلامية ويذكرونها في العقائد
والمشهور أن أهل السنة يقولون بنفع الدعاء والمعتزلة ينكرونه.
قال اللقاني في الجوهرة:
وعندنا أن الدعاء ينفع
…
كما من القرآن وعدًا يسمع
وقد تقدم في مقالات الكرامات الأولى أن جمهور أهل السنة يقولون بجواز وقوع
الكرامة والخوارق، والمعتزلة ينكرون ذلك. وقد عدَّ السبكي وغيره استجابة الدعاء
من الكرامات والخوارق ويلزم من ذلك أن يكون الخلاف في الدعاء فرع الخلاف
في الكرامات، ولكنك تراهم يخصونه بالذكر ويعدونه مسألة مستقلة ويرون الخلاف
فيه أقوى، ويشنعون فيه على المعتزلة ما لا يشنعونه في مسألة الكرامات. ولقد
انقرض المعتزلة وذهبت كتبهم ولكن المسائل التي اختلفوا فيها مع الأشعرية لا يزال
الكثير منها حيًّا يقول فيه بقولهم كثير من الناس فنحمد الله أن جعل أئمة الفريقين
أرقى عقلاً ودينًا من أن يكفّر بعضهم بعضًا، فلو كفر أبو الحسن الأشعري وكبار
أصحابه منكري نفع الدعاء وجواز الكرامات أو وقوعها لرأيت المسلمين اليوم في
شقاق شر من ذلك الشقاق، ولامتنع أهل العلم والدين من الصلاة على موتى أكثر
المتعلمين من أبناء هذا العصر. على أن الباحثين في هذه المسائل لا يسلمون من
تكفير غلاة المقلدين ولكنه تكفير باللسان لا يعدو الشتم ولا يتجاوز الشاتمين، وإذا
مات المرمي بالكفر صلوا عليه ودفنوه بين المسلمين، ثم إنه شتم قلما يقع من
المطلعين على المذاهب والعالمين بما يؤْثَر عن العلماء من الخلاف.
الحق أقول: إن الخلاف في الدعاء أقوى من الخلاف في الكرامات، فإن مسألة
الكرامات ليست من أصول الدين ولا من فروعه، ولا يوجد في الكتاب والسنة دليل
على طلب حصولها، ولا على مطالبة الناس بالإيمان بها. وأما الدعاء فهو مطلوب
بلا خلاف، والآيات والأحاديث الصحيحة التي يذكر فيها كثيرة جدًّا. ويعجبني
جعلهم محل الخلاف في نفع الدعاء، لا في استجابته، خاصة وأنه لم يقل أحد أئمة
المسلمين بأن الدعاء يستجاب حتمًا ولا أن الأصل أو الأكثر أنه يستجاب، ولكنهم
قالوا إن الدعاء ينفع سواء استجيب أم لم يستجب، وهذا القول حق كما سنبينه. ولو
كانوا يرون أن الدعاء يستجاب من كل داع تحققت فيه الشروط التي ذكروها لما
كان لعدّهم استجابة الدعاء من الكرامات والخوارق معنى.
وردت آيات في الدعاء ولكن يراد بها في الأكثر العبادة، ومن غير الأكثر
مجرد الطلب، كقوله تعالى حكاية عن بنت شعيب: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ
مَا سَقَيْتَ لَنَا} (القصص: 25) وأقرب الآيات إلى ما نحن فيه من دعاء الله
تعالى وطلب الحاجة منه توقعًا للإجابة بقضائها قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60)، وقريب منها قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) .
ولكن ورد في الصحيح تفسير الدعاء في الأولى بالعبادة. روى أحمد وأبو
بكر بن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وابن حِبَّان
في صحيحه والحاكم وغيرهم من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْْ} (غافر: 60) وفسرت الاستجابة على هذا بقبول العبادة، ومن
العلماء من فسر الدعاء في الآية بطلب الحاجات والاستجابة بقضائها.
وفسرت الآية الثانية بمثل ما فسرت به الأولى من الوجهين. وقد علم أن
الآيتين ليستا نصًا في موضوع الخلاف فيحتج بهما على المعتزلة ومَن على رأيهم
من أهل هذا العصر؛ ولهذا لم يكفروا من قال بأن الدعاء لا تأثير له في قضاء
الحاجات وإنما عدوه مخالفًا للسنة لما ورد في الدعاء من الأحاديث الصحيحة.
ورد في الصحيح أن لكل نبي دعوة مستجابة. وقد قال العلماء: إن المراد أنها
مستجابة قطعًا وما عداها من دعوات الأنبياء فهو محتمل للإجابة ولعدمها. أي أن
الحديث لا يُفهم منه أن الله لا يستجيب لنبي إلا دعوة واحدة. وورد الأمر بالدعاء
وعدم الاستعجال بالاستجابة. وترى العلماء متفقين على أن الاستجابة تكون بإحدى
ثلاث وردت في الحديث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما
أن تدفع عنه من السوء مثلها. وللحديث طرق بعضها ضعيف وبعضها قد صحح
الحاكم إسناده، ولم يروه من أصحاب الصحاح والسنن إلا الترمذي وقال: حسن
صحيح غريب، والسبكي يجعل الأولى من الثلاث - إن أُعطيها الداعي - كرامة
وتعريفنا للكرامة لا يأباه ولكن يأباه قول من يجعل الكرامة من الخوارق التي تأتي
على خلاف السنن الإلهية في الخلق. ونحن لا نشك في أن كثيرين من الداعين قد
استجيب دعاؤهم بأن سخر الله لهم من الأسباب ما لم يكن في أيديهم تسخيره، ولم
يكن يخطر لهم على بال كيف يجابون وقد وقع لنا مثل ذلك وحمدنا الله عليه، ولكننا
لا نقول إلا أنه جاء موافقًا لسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات على ما فيه من
العناية الخفية والتوفيق الإلهي.
وقد اشترطوا في الدعاء شروطًا منها أن لا يدعو بمحال عقلاً ولا شرعًا ولا
عادة، وإذا كان الدعاء بالمحال في العادة ممنوعًا وغير جدير بالإجابة؛ لأنه من إساءة
الأدب مع الله تعالى كأن الداعي يقول: اللهم أبطلْ حكمتك في نظام خليقتك وبدّل
سننك في خلقك لأجلي فكيف يتحقق في الدعاء أمر خرق العادة؟ هذا تنافٍ بين
أقوالهم.
* * *
وعندي أن الدعاء على قسمين: اضطراري واختياري فأما الاضطراري فهو
الالتجاء إلى القوة الغيبية عند تقطّع الأسباب بالإنسان وسد منافذ الرجاء بالسعي.
وكل مؤمن بقوة غيبية يرى نفسه ملتجئة إليها عند اشتداد البأس، والخطر المشرف
بها على اليأس، فيدعو صاحب القوة العليا، ويستغيث به، وعند ذلك تُفتح في
وجهه أبواب الرجاء، وتنزل عليه السكينة بعد الاضطراب، وهذه فائدة كبرى
للدعاء تتلوها فوائد أظهرها أن اليائس ينقطع عن السعي فإذا اشتد به الضيق فربما
يبخع نفسه انتحارًا بيده؛ ولذلك يكثر الانتحار في قوم لا يؤمنون، فالرجاء الذي
يحدثه الالتجاء بالدعاء يعطي المضطر قوة جديدة، ويهديه إلى طرق جديدة يسلكها في
إعادة السعي حتى ينجو من الخطر، أو يبلغ بعض الوطر، ويقول الأستاذ الإمام:
قلما وله قلب المؤمن إلى الله تعالى داعيًا مخلصًا في حال اضطرارية كهذه إلا وأجاب
الله دعاه، وهذا الفرع من الدعاء هو ميزان الإيمان ومعيار التوحيد الخالص، فإن الله
تعالى جعل أعمال الإنسان في الأسباب والمسببات، فالمؤمن الكامل يذكر الله عند كل
سبب، ويزداد إيمانًا بزيادة العلم بالأسباب لما فيها من الحكمة والنظام العجيب،
والغافلون تحجبهم الأسباب عن رؤية حكمة واضعها وإن كانوا مؤمنين حتى تكون
الشدائد هي التي تذكرهم بما تقطَّع من الأسباب التي يعرفونها، فيرجعوا إلى مَن بيده
ملكوت كل شيء وواضع كل سبب فيدعوه بإخلاص {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) ،
وفي آية أخرى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) ؛ وإنما كان الدعاء في حالة الاضطرار معيارًا للإيمان؛ لأن
من يعتقد بقوة غيبية وراء الأسباب لغير الله تعالى فهو يلجأ إليه في تلك
الحالة بطبعه، وينطق لسانه بدعاء صاحبها وندائه. ولا توجد أمارة على الشرك
أظهر من هذه الأمارة وإن استهان بها الذين يدعون في الشدائد فلانًا وفلانًا
ويستغيثون بهم من صميم أفئدتهم ويولهون إليهم، لا يلاحظون أنهم وسطاء بين الله
تعالى وبينهم يقربونهم إليه زلفى كما يزعم أهل التأويل؛ لأن القلب في مثل تلك
الحالة لا يسع شيئين فمن يدعو فلانًا من المعتقدين في وقت الشدة لا يخطر في
باله غيره، ولا يدعوه إلا وهو يعتقد أنه هو الذي يفرج كربه، فهو موحد له من
دون الله تعالى. وإذا وسع قلبه قوتين إحداهما مؤثرة في الأخرى تحملها على
العمل فتعمل فهو مشرك شركًا ظاهرًا لا خفيًا.
وإذا كان - ليت شعري - هؤلاء الوسطاء المزعومون أسبابًا خفية كما يدعي
بعض المأولين، وجوزنا أن يلجأ إليهم في وقت الضيق ففي أي وقت نوجب على
المؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى وحده دون سواه؟ ألا يوجد عند هؤلاء الذين يمتاز
دينهم بالتوحيد الخالص حال يجب على العبد أن يتوجه فيها إلى الله تعالى وحده، لا
يكون في قلبه سواه من عبيده الضعفاء؛ {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:
28) ؟ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون.
فعلم مما شرحناه أن هذا الدعاء أثر من آثار الإيمان بقوة وراء الطبيعة، فمن
كان يعتقد أن مع صاحبها من يحمله على الفعل أو الترك فهو المشرك، وهذا الأثر
الذي ذكرناه هو روح العبادة، وأكبر مظاهرها؛ لأنه الأثر الطبيعي للإيمان؛ ولذلك
فسر الدعاء في القرآن بالعبادة في جميع الموضوعات الدينية وورد في الحديث:
(الدعاء مخ العبادة) رواه الترمذي، وتقدم حديث (الدعاء هو العبادة) فكل من
يدعى وينادى عنه شدة الحاجة وتعسر الأسباب الكسبية فهو معبود لمن ناداه ودعاه
{وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) .
وأما القسم الثاني من الدعاء وهو الاختياري فإنه من الأعمال التي تزيد في
الإيمان، وتمده وتدعمه كسائر العبادات المطلوبة في الدين، وليس أثرًا طبيعيًّا له،
ولولا ذلك لما كان للتكليف به معنى إذا قال العبد: اللهم وسع عليَّ في الرزق، يتذكر
أن سعيه في طلب الرزق من أسبابه التي هداه الله تعالى إليها بالحواس، والعقل
يتوقف على حفظ قواه، وعلى توفيق الله بين سعيه وبين الأحوال والأمور الخارجية
التي يتوقف عليها النجاح، فيزداد إيمانه بهذا الذكر، ويزداد نشاطه باعتقاده أن الله
يعينه ما راعى سننه في خليقته، وأتى البيوت من أبوابها. وإذا قال: اللهم اغفر لي.
يتذكر أنه عرضة للهفوات والخطايا، وأن الغفران الإلهي له طريق بيَّنها الكتاب
العزيز بمثل قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه:
82) فإن لم يتذكر الآية فإنه يتذكر معناها إلا إذا كان جاهلاً بالدين مكتفيًا منه بما
يسمعه ممن يعيش بينهم من الجاهلين، وإذا تذكر أن الدين علَّم البشر أن للذنوب
والخطايا آثارًا سيئة في النفس، وأن غفرها ومحوها إنما يكون بالرجوع عن الذنب
وعمل طاعة من جنسه تؤثر في النفس ضد أثره فإنه يكون قريبًا من العمل الصالح
قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) وقال عليه الصلاة
والسلام: (وأتْبع السيئة الحسنة تَمْحُهَا) .
أقول: هذا تمهيدًا لبيان أن هذا النوع من الدعاء هو أحد خصال الإيمان.
والإيمان كما يورد في الأحاديث الصحيحة: قول باللسان واعتقاد بالجَنان وعمل
بالأركان، فهذا الدعاء لا يكون صحيحًا إلا إذا وافق اللسان فيه القلب والعمل. أعني
أن يطلب المؤمن الرزق في الدنيا والمغفرة في الآخرة ونحوهما بتوجه القلب والقيام
بالعمل الذي جعله الله وسيلة للرزق وسببًا في المغفرة. ويستلزم هذا ما قالوه من
عدم جواز طلب المحال أو المحرم شرعا؛ لأن الأول ليس له وسيلة تتوجه النفس
إليها وتطلب بالعمل منها، والثاني لا يطلب من الله تعالى وإنما يطلب بالعمل في حال
الغفلة عن الله عز وجل. ومن طلب من الله تعالى شيئًا بالتوجه النفسي الصحيح
وصدق العزيمة وإعمال الفكر مع الجد في السعي من الطرق التي سنها الله تعالى
والأسباب التي ربط بها المسببات، وكان دعاؤه باللسان مترجمًا عن إيمانه بأن
المسخر الأسباب والموفق بينها هو الله تعالى فإن الله تعالى يستجيب دعاءه، ويسهل
له الأسباب ويمنحه التوفيق.
هذا هو الدعاء المطلوب شرعًا، وفائدته في تهذيب النفس وتسديد الفكر وتقوية
العزيمة ظاهرة بالبداهة، والوصول به إلى المقاصد التي يطلبها الداعي ثابتة
بالتجربة وقريبة من المعقول. وما أظن المعتزلة ينكرون ذلك، وإنما أنكروا - فيما
أرى - فائدة الدعاء القولي البحت، والمحققون من أهل السنة يوافقونهم على هذا، لا
سيما الصوفية علماء النفس والأخلاق. قالت رابعة العدوية رحمها الله تعالى:
استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير، وقال الشيخ محي الدين بن عربي:
بذكر الله تزداد الذنوب
…
وتنطمس البصائر والقلوب
وإنما يعني الذكر مع الغفلة فإنه كالاستهزاء بالله تعالى. وورد هذا المعنى في
الآثار عن السلف، قال الفُضَيل بن عياض رحمه الله تعالى: الاستغفار بلا إقلاع توبة
الكذابين، وفي (الإحياء) عن بعض الحكماء: مَن قدم الاستغفار على الندم كان
مستهزئًا بالله عز وجل وهو لا يعلم، وقال الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى: لا يقولنَّ
أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم يفعل ولكن ليقل اللهم اغفر لي
وتب عليَّ.
وجملة القول أن الدعاء مخ العبادة وروحها وميزان الإيمان ومعيار الإخلاص
وسلامة التوحيد وأن فائدته في الدنيا مشهورة، وأن المحرومين منه لحرمانهم من
سعادة الإيمان الخالص عرضة للانتحار، إذا استولت عليهم الهموم والأكدار، وأن
فائدته في الآخرة أعظم، وأن استجابته إن وُجد على حقيقته التي شرحناها - كثيرة
يعرفها المؤمنون الصادقون، وينكرها الملحدون والشاكون، وأن هذه الاستجابة
ليست من الخوارق الحقيقية، ولكنها من التوفيق الإلهي والعناية الربانية، وإذا كان
أمر العناية فيها غريبًا في صورته غير معهود يصح أن تسمى كرامة. وقد بسطنا
هذه المسألة فلم نقصر البحث فيها على موضوعنا لما نعلم من اشتباه الأمر فيها على
الذين يحبون أن يعقلوا الدين ويفقهوه، ومن جهالة المقلدين الذين يسلمون بكل ما
ينقل عن الميتين وإن لم يفهموه، ونرجو أن يقبل كلامنا هذا كل مؤمن بأن للكون
فاعلاً مختارًا؛ وأن للناس حياة بعد هذه الحياة، كما نرجو أن يراجعنا من يتوقف
في صحة شيء مما كتبناه، أو في فقهه وفهمه، والله الموفق للصواب.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
النبذة الخامسة
في رد شبهاتهم على القرآن العزيز
(الشاهد الحادي عشر) : قال المعترض - الذي كتب ما لا نعتقد -: وعدّ
في جملة هذه المنقاضات مائة وخمسًا وعشرين آية متفرقة في ثلاث وستين سورة
منه تأمر بالصفح والتولي والإعراض والكف عمن لم يكن مسلمًا، وقد نقضتها كلها
آية السيف وهي قوله في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا
المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (التوبة:
5) (قال) : وهذا في زعمهم كلام الله يأمرهم في مائة وخمسة وعشرين موضعًا
من (كتابهم) بالصفح عمن خالفهم في الدين، ثم يبطل ذلك كله اعتباطًا، ثم هذى
بعد ذلك بما يعد شتمًا، لا اشتباهًا فنُعرض عن ذلك عملاً بإحدى تلك الآيات التي
أشار إليها ونخص الكلام بدفع الشبهة فنقول:
نعوذ بالله من الغلو في التعصب الذي يعمي ويصم ويوقع المرء في مثل
الفضيحة التي وقع فيها هذا الكاتب المعترض، فقد جمع آيات الفضائل العالية
والآداب السامية، وحسد المسلمين عليها، ولم يجد سبيلاً إلى الاعتراض عليها إلا
بزعمه أنها منقوضة بآية سيف، والتناقص إنما يكون في القضايا الخبرية، لا في
الأوامر والنواهي التهذيبية، ونحوها من الجمل الإنشائية، وإذا قيل: إنه لا يعني
بالتناقض ما هو مقرر في علم المنطق وإنما يعني به أن آية السيف التي ذكرها
تنافي تلك الآداب والفضائل نقول: إن هذا زعم باطل، وكأن قائله شعر بضعفه
وتداعيه، فدعمه بأكذوبة افتراها من عنده إذ زعم أن الأمر بقتال المشركين كان
(اعتباطًا) أي: ظلمًا لا قصاصًا ولا مدافعة عن حق. وأصل الاعتباط ذبح البهيمة
من غير علة، وقالوا: اعتبط فلانًا: أي قتله ظلمًا لا قصاصًا. يزعم هذا المتعصب
أن المسلمين هم الذين اعتدوا على المشركين وحاربوهم ابتداءً وتناسى أن المشركين
هم الذين كانوا يرمون النبي عليه الصلاة والسلام بالحجارة، ويلقون عليه فرث
الكرش وهو يصلي وأخرجوه هو ومن آمن معه من ديارهم وأموالهم وأهليهم، وكانوا
يوقعون بكل من ظفروا به منهم. ثم لما كانت بينه وبينهم معاهدة الحديبية عاملهم
بكل ما تأمر به تلك الآيات من الحلم والتساهل، وهو قوي لا ضعيف حتى رضي
بأن يُرجع إليهم من يجيئه منهم مسلمًا، وأن لا يرجعوا من يجيبهم من عنده، وبعد
ذلك كله كانوا هم الغادرين الناكثين للعهد، وتناسى أيضًا الآية التي قبل الآية التي
أوردها وزعم أنها هدمت جميع الفضائل (اعتباطًا) وهي قوله عز وجل: {إِلَاّ
الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: 4) وقوله تعالى - بعد
آيات - {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ
لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم
بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ 000} (التوبة: 12-13) . فالمعترض قد قرأ كل هذه الآيات
التي تحيط بالآية التي ذكرها من أمامها وورائها، وعلم أن المشركين هم الذين
نكثوا، العهد وهم الذين بدأوا المسلمين بالعدوان، وهو مع هذا كله يكتب بلا حياء ولا
خجل زاعمًا أن المسلمين قاتلوهم (اعتباطًا) .
ثم إنه تناسى الآيات الأخرى التي تنهى عن الاعتداء في القتال كقوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين َ} (البقرة: 190) وقوله جل وعز وهو أول ما نزل في الإذن بالجهاد دفاعًا عن الحق
والأنفس التي تُظلم وتهان لأنها تمسكت به، وتركت عبادة الأصنام والأوثان وذلك
قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ 000} (الحج: 39-
40) الآيات وفيها من بيان حكمة هذا الإذن بمدافعة أولئك المعتدين من عُباد الأصنام
أنه لولا هذه المدافعة لهدمت معابد أهل الكتاب كلهم، وأنه يشترط على المؤمنين
المأذون لهم بالمدافعة - إذا مكَّنهم في الأرض - أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
مواساة للفقراء ونحوهم من المستحقين، ويمنعوا المنكرات الضارة، ويأمروا
بالمعروف. فهل تعد هذه المدافعة لعباد الحجارة الباغين المتعدين هدمًا للفضائل
وظلمًا للعباد، ويمتنع أن تكون بوحي من الله تعالى؟ وهل كانت المسوغات لموسى
ويوشع وسائر أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام حين حاربوا الأمم المشركة أظهر
من هذه المسوغات؟ وهل اشترط عليهم - كما اشترط الإسلام - أن لا يبدأوا بالعدوان
ولا ينقضوا لمشرك عهدًا، وأن يصلحوا في الأرض بمشاركة الناس في أموالهم
وإزالة المنكرات من الأرض؟
جاء في الفصل العشرين من سِفْر تثنية الاشتراع (التوراة) ما نصه: (10
حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح
وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك 12 وإن لم
تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرْها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب
جميع ذكورها بحد السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل
غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل
بجميع المدن البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا 16 وأما مدن
هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما) أليس من
العار والفضيحة على من يعتقد أن هذا وحي من الله تعالى أن ينكر تلك الآيات
الكريمة الرحيمة التي أذنت بمدافعة المعتدين بقدر الضرورة؟ أليس من رحمة الله
تعالى بعباده أن تُنسخ هذه الأحكام القاسية الآمرة بإهلاك الأمم التي لها حق الجوار
حتى لا يبقى منها امرأة ولا طفل بشريعة تحرم قتل النساء والأطفال ورجال الدين
وكل من لا يعتدي ولا يقاتل؟ بلى ولكن تعصب هؤلاء ووقاحتهم من المدهشات!
علم مما ذكرناه أن الآية التي ذكرها وسمّاها آية السيف وزعم أنها نقضت
جميع الفضائل التي بنتها الآيات الكثيرة؛ إذ أمرت بقتل المشركين (اعتباطًا)
تتقدمها آيات، وتتلوها آيات تبطل ما زعم. وما هي إلا إذن بقتال المشركين الذين
نكثوا العهد كما في الآيات التي قبلها وبعدها. وذلك أن المسلمين عاهدوا مشركي
العرب من أهل مكة وغيرهم عهدًا فنكثوا إلا بني ضمرة وبني كنانة، فأمر الله تعالى
بأن ينبذ للناكثين عهدهم ويمهلوا أربعة أشهر إلى آخر المحرم من الأشهر الحرم، فإن
تابوا وإلا قوتلوا، قال البيضاوي في تفسير الآية ما نصه - مع اختصار قليل
يتعلق بالألفاظ -: (فإذا انسلخ) : انقضى، (الأشهر الحرم) التي أبيح للناكثين أن
يسيحوا فيها (فاقتلوا المشركين) : الناكثين، (حيث وجدتموهم) من حل وحرم
(وخذوهم) وأسروهم؛ والأخذ: الأسر (واحصروهم) واحبسوهم أو حيلوا بينهم
وبين المسجد الحرام (واقعدوا لهم كل مرصد) كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد.
ا. هـ. فأين الأمر بقتل جميع المشركين ظلمًا وعدوانًا كما زعم المعترض؟ !
وروى أصحاب الصحاح وأهل السير والتاريخ أن رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم عاهد قريشًا عام الحديبية عهدًا كاد يخالفه لأجله المسلمون لما رأوا
من الغضاضة عليهم في تساهله مع المشركين، وكان أهم ما في العهد أن يضعوا
الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعة في عهده، وبنو بكر في عهد
قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح حتى
تظاهروا عليهم، وفي ذلك يقول عمرو الخزاعي فيما أنشده يخاطب به النبي صلى
الله عليه وآله وسلم:
إن قريشًا أخلفوك الموعدا
…
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي من كداء رصدا
…
وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا
…
هم بيتونا بالحطيم هُجدا
وقتلونا رُكَّعًا وسُجدا
…
وقد كان هذا الغدر سببًا في فتوح مكة، وآذنهم قبل ذلك بأن لا يطوف بالبيت
عُريان، وأن يتم لكل ذي عهد عهده، وأرسل أبا بكر ثم عليًّا إلى مكة فقرأ عليهم
نحو أربعين آية من صدر سورة (براءة) وفيها الآيات التي تقدم ذِكرها. ثم كيف
كانت معاملته للمشركين عندما فتح مدينتهم العظمى؟ هل أبادهم كما أمرت التوراة
التي يعتقد بها المعترض النصراني فلم يُبقِ منهم نسمة، أم عاملهم بما أرشدته إليه
الآيات الـ 125 الآمرة بالصفح وحسن المعاملة؟ كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قد أعطى رايته سعد بن عُبادة فبلغه أنه قال قبل أن يصلوا إلى مكة: اليوم يوم
الملحمة اليوم تُستحَل الحرمة، اليوم أذل اللهُ قريشًا، فأمر بنزع الراية منه وأعطاها
لابنه، وقال عليه الصلاة والسلام:(اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشًا) ودخل مكة لم يسفك دمًا، وإنما كانت ساعة قتال بين خالد بن الوليد وبين الذُّعر من
قريش الذين حاولوا صدّه فقُتل من جيشه اثنان، ومن المشركين أربعة وعشرون. ثم
دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الكعبة فاجتمع الناس فقال: (يا
معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ !) قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء) ! أفيرى المعترض أن هذه المعاملة مناقضة للرفق والصبر
والصفح عن المخالفين في الدين؟ إن كان يرى ذلك فليصور لنا معاملة أفضل منها
وأرحم!
ثم إننا نعود إلى آيات الصفح والصبر وحسن المعاملة والرفق والحلم فنقول:
إنها وردت في ضروب من السياق مختلفة، منها تسلية النبي صلوات الله عليه
عندما كان يضيق صدره لإعراض الناس عن الحق وعدم إصغائهم إليه. ومنها
تقبيح جهلهم وبيان أن الكمال في الإعراض عنه لا في مقابلته بمثله. ومنها بيان أن
الأنبياء عاجزون عن هداية الناس بالفعل، وأن القادر على ذلك هو الله تعالى الذي
وضع السنن على أساس الحكمة والنظام. ومنها بيان أن وظيفة الأنبياء البيان
وحسن التبليغ وأن الإيمان لا يكون بالإكراه، وإنما يكون بالإقناع، وهذا قريب مما
قبله ولكنه غيره. كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: 48)
وقوله: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)
وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 89) وقوله:
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وقوله:
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وقد كانت هذه الآيات تقرن بآيات أخرى
تشعر بأن الله ينصر رسوله، ويجعل العزة والغلبة لحزبه، كقوله تعالى في سورة
الصافات وهي مكية: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ
* وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات: 171-175) وإنك لتجد من التهديد والوعيد في السور المَكِّية التي
نزلت في زمن الضعف ما لا تجد مثله في السور المدنية التي نزلت في زمن القوة،
والمعترض يوهم خلاف ذلك، وما أراه إلا متعمدًا للإيهام إذ لم يبلغ به الجهل أن
يعتقد بما يقول، ولكن بلغ به التعصب أن يقول ما لا يعتقد!
أما زعمه أن المسلمين لمَّا رأوا التناقض في هذه الآيات زعموا أنها منسوخة
فباطل، فإن أحكامها ثابتة، وكان العمل عليها لم ينقطع بالقتال الذي كان للضرورة
وبمقدار الضرورة مع الرحمة والعدل ورعاية حقوق الإنسان بقدر الإمكان. وقد علم
مما أشرنا إليه من الشواهد أن الآيات الآمرة بالصفح والتولي عن المشركين لجهلهم
على العموم لم يترك العمل بها، وأما ما كان متعلقًا بالمدافعة والمقاومة فقد كان موقتًا
كقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} (الصافات: 174) وقوله: {فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة: 109) ، نعم إن من المؤلفين من زعم
أن هذه الآيات منسوخة بآية السيف، وقد رد العلماء المحققون هذا القول وأنكروه كما
يعلم من كتاب (الإتقان) ومن كتب التفسير.
والذي يحمل المؤلفين على أمثال هذه الجهالة هو حب الإعراب وملء
الصحائف، فإن الرجل يخطر في باله أن يؤلف كتابًا في موضوع ضيق لا تتسع
مسائله لأن تكون كتابًا فيُدخل فيها ما ليس منها لأدنى شبهة. وقد حقق الإمام
الشوكاني أن الآيات المنسوخة سبع لا تزيد، وكان الحافظ السيوطي عدَّها عشرين.
ومن العلماء المحققين من ينكر النسخ في القرآن دون السنة، ويفسر الآيات التي قالوا
بنسخها تفسيرًا يبين به أحكامها. والنسخ في كتب اليهود والنصارى - التي يسمون
مجموعها (الكتاب المقدس) - كثير جدًّا وقد عقد له الشيخ رحمه الله في كتاب
(إظهار الحق) بابًا أورد فيه الشواهد الكثيرة من تلك الكتب.
وربما يستغرب القارئ إحصاء هذا المعترض النصراني لهذه الآيات، ويتوهم
أنه قرأ القرآن واستخرج منه ما تقدم. والأمر ليس كما يظن وإنما استخرج هو
وأمثاله جميع مطاعنهم من كتب المسلمين كالإتقان والناسخ والمنسوخ، فإنك ترى في
الإتقان فصلاً في مشكل القرآن وموهم التناقض فيه، فالخصم يأخذ ما يوهم التناقض
من هذه الكتب فيسميه متناقضًا ليسرّ به قومه ويشكك المسلمين ويشفي غليل تعصبه
منهم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من دلائل الإعجاز
تتمة ما سبق من الموازنة الشعرية
رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها: * أيها المنتاب من عفره * فحسدته
فلما بلغ إلى قوله:
يَتَأَيَّى الطير غدوته
…
ثقة بالشبع من جزره
قلت له: ما تركت للنابغة شيئًا حيث يقول: إذا ما غدا بالجيش.. البيتين
فقال: اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع، وهذا الكلام من أبي نواس دليل بيِّن
في أن المعنى يُنقل من صورة إلى صورة، ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع
بالمعنى شيئًا لكان قوله: فما أسأت الاتباع محالاً؛ لأنه على كل حال لم يتبعه في
اللفظ. ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو
عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أن ههنا معنيين: أحدهما أصل وهو
علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدوًّا كان الظفر له وكان هو الغالب، والآخر فرع
وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطامع من لحوم القتلى، وقد عمد النابغة إلى
الأصل الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب - فذكره صريحًا، وكشف عن
وجهه واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى، وأنها لذلك تحلق فوقه على
دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصة فذكر الفرع الذي هو طمعها في لحوم
القتلى صريحًا فقال - كما ترى -: * ثقة بالشبع من جزره * وعول في الأصل -
الذي هو علمها - بأن الظفر يكون للممدوح على الفحوى، ودلالة الفحوى على علمها
أن الظفر يكون للممدوح هي في أن قال: (من جزره) وهي لا تثق بأن شبعها
يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له، أفيكون شيء أظهر من هذا
في النقل عن صورة إلى صورة؟ ارجع إلى النسق، ومن ذلك قول أبي العتاهية:
شِيَم فتّحت من المدح ما قد
…
كان مستغلِقًا على المُدَّاح
مع قول أبي تمام:
نظمت له خرز المديح مواهب
…
ينفثن في عقد اللسان المقحم
وقول أبي وجزة:
أتاك المجد من هَنَّا وهنا
…
وكنت له كمجتمع السيول
مع قول منصور النمري:
إن المكارم والمعروف أودية
…
أحلك الله منها حيث تجتمع
وقول بشار:
الشيب كُره وكره أن يفارقني
…
أعجب بشيء على البغضاء مودود
مع قول البحتري:
تعيب الغانيات عليَّ شيبي
…
ومَن لي أن أمتع بالمعيب
وقول أبي تمام:
يشتاقه من كماله غده
…
ويكثر الوجد نحوه الأمس
مع قول ابن الرومي:
إمام يظل الأمس يُعمل نحوه
…
تلفت ملهوف ويشتاقه الغد
لا تنظر إلى أنه قال: (يشتاقه الغد) ، فأعاد لفظ أبي تمام، ولكن انظر إلى قوله:
(يعمل نحوه تلفت ملهوف) .
وقول أبي تمام:
لئن ذمت الأعداء سوء صباحها
…
فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر [1]
مع قول المتنبي:
وأنبت منهم ربيع السباع
…
فأثنت بإحسانك الشامل
وقول أبي تمام:
ورب نائي المغاني روحه أبدًا
…
لصيق روحي ودانٍ ليس بالداني
مع قول المتنبي:
لنا ولأهله أبدًا قلوب
…
تلاقَى في جسوم ما تلاقى
وقول أبي هِفَّان:
أصبح الدهر مسيئًا كله
…
ما له إلا ابن يحيى حسنه
مع قول المتنبي:
أزالت بك الأيام عَتبي كأنما
…
بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
وقول علي بن جبلة:
وأرى الليالي ما طوت من قوتي
…
ردته في عظتي وفي أفهامي
مع قول ابن المعتز:
وما ينتقص من شباب الرجال
…
يزد في نُهاها وألبابها
وقول بكر بن النطاح:
ولو لم يكن في كفه غير روحه
…
لجاد بها فليتقِ الله سائله
مع قول المتنبي:
إنك من معشر إذا وهبوا
…
ما دون أعمارهم فقد بخلوا
وقول البحتري:
ومَن ذا يلوم البحر إن بات زاخرًا
…
يفيض وصوب المُزْن إن راح يهطل
مع قول المتنبي:
وما ثناك كلام الناس عن كرم
…
ومن يسدُّ طريق العارض الهطل
وقول الكِنْدي:
عزوا وعز بعزهم من جاوروا
…
فهم الذرى وجماجم الهامات
إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها
…
أو يطلبوا لا يدركوا بترات
مع قول المتنبي:
تفيت الليالي كل شيء أخذته
…
وهن لما يأخذن منك غوارم
وقول أبي تمام:
إذا سيفه أضحى على الهام حاكمًا
…
غدا العفو منه وهو في السيف حاكم
مع قول المتنبي:
له من كريم الطبع في الحرب منتضٍ
…
ومن عادة الإحسان والصفح غامد
ثم احتج المصنف بهذه الأمثلة على أن البلاغة والفصاحة إنما تكون بالنظم
والأسلوب، دون خفة اللفظ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أي: لا يستطيع الذئب والنسر أن يقضيا حق شكرها لكثرة ما أكلا مما قتلت.
الكاتب: محمد رشيد رضا
قصة بقرة بني إسرائيل
ليس فيها معجزة
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء،
دام بقاه.
بعد السلام، رأيت فيما أوردتموه بالعدد الرابع من المجلة في تفسير قوله
تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 73) تفسير الأستاذ الأكبر مولانا الشيخ محمد عبده أنه لم يستحسن
قول المفسرين الذين قالوا: إنهم ضربوا المقتول فعادت إليه الحياة، وقال: ضربني
أخي أو ابن أخي فلان إلى آخر ما قالوه، وقال: والآية ليست نصًّا في مجمله،
فكيف بتفصيله، والظاهر أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند
التنازع فيمن القاتل إذا وجد القتيل بين بلدين كما قدمنا ليعرف الجاني من غيره، فمَن
غمس يده في الدم وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم ومن لم يفعل ثبتت
عليه الجناية، ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء إلى آخره، على هذا ما
معنى استغراب بني إسرائيل الأمر بذبح البقرة كما تقدم في تفسير الأستاذ مع قوله:
(إنَّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء..) إلى آخره، وما الثمرة التي
نتجت من الضرب حتى أمر الله به، وما الذي منع الجاني من أن يغمس يده في الدم
حتى لا تثبت عليه الجناية؟ وقد سكت الأستاذ الإمام عن تفسير قوله تعالى:
{وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (البقرة: 73) فما معناه على هذا التأويل؟ فأرجوك أيها الأستاذ
الفاضل إرشادي إلى الحقيقة ودمتم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
الإسكندرية
…
...
…
...
…
...
…
...
…
كاتبه
…
...
…
...
…
...
…
مصطفى محمد الإسكندراني
(المنار)
وجه الاستغراب ظاهر، فإن الأمر بذبح بقرة لا علاقة له في بادي الرأي
بالفصل في قضية قتيل تنازع فيه طائفتان حتى كادت إحداهما توقع بالأخرى،
والظاهر أن هذه الواقعة كانت هي السبب الأول في اشتراع تلك الطريقة للفصل في
الدماء المتنازع فيها مثلها، وقد أشرنا إلى ذلك في تفسير الآيات. وأما الذي يمنع
الجاني من وضع يده في الدم، وتلاوة الدعوات فهو الإيمان والاعتقاد الذي يمنع
الجاني المؤمن من اليمين الكاذبة، فإن المؤمن إنما يُقْدِم على الجريمة ناسيًا أو مغلوبًا
بانفعال النفس ثم يرجع على نفسه باللائمة، ويصعب عليه أن يحلف بالله كاذبًا، وقد
كانت تلك الهيئة التي يأتيها بنو إسرائيل من اجتماع الشيوخ الأشراف ووضع أيديهم
في الدم وتلاوة الدعوات مؤثرة جدًّا حتى أن الجاني ليضطرب إذا أقدم عليها منكرًا
للحق وربما يظهر عليه الاضطراب، ولو كان شاكًّا في الدين. وكثيرًا ما يحتال
القضاة في كل زمان بالمؤثرات القولية والفعلية على حمل المجرمين على الإقرار
بجرائمهم فيقرون.
وأما تفسير {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (البقرة: 73) : فهو ظاهر، ولا أدري أكان
الأستاذ الإمام سكت عنه أم ذكره، ونسيته أنا أو ذهلت عنه لظهوره. السائل يعلم أن
لفظ الآيات يطلق على ما ينزله الله تعالى من الأحكام فتوهَّمه أن معنى (الآيات)
في هذا المقام (المعجزات) مبني على اعتقاده بأن هناك معجزة ظهرت، ومن
المصادرة أن يلزم من لم ير ذلك بأن يفسر الآيات هذا التفسير. وإننا نذكِّره بقرن
القرآن مثل هذا التعبير بآيات الأحكام الشرعية من سورة البقرة نفسها. قال تعالى
- بعد ذكر أحكام الصيام -: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة: 187) وقال - بعد بيان تحريم الخمر والميسر -:
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة: 219) وقال - بعد بيان
أحكام النساء في الطلاق وغيره -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 242) .
_________
الكاتب: أحد المشتركين
تحرير يوم مولد النبي عليه الصلاة والسلام
أستاذنا الأجل السيد محمد رشيد رضا صاحب ومحرر مجلة المنار الغراء..
أفتتح كتابي هذا بالشكر الذي يجب على كل مسلم أنه يقدمه لسيادتكم على ما
لكم من الأيادي البيضاء، والهمة الشماء في منافع المسلمين، وتخليص الدين من
شوائب المضلين، فالله ينفع بكم البلاد والعباد، ويوفق الكل للعمل بتعاليمكم المفيدة.
أما بعد: فيا أيها السيد جاء في العدد الخامس من مجلد هذه السنة ضمن كلام
للأستاذ الإمام (نفعنا الله به وبعلومه) : أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد ليلة
الاثنين 12 ربيع الأول عام الفيل (20 أبريل سنة 571 ميلادية) وقد اطلعت على
رسالة لصاحب السعادة محمود باشا الفلكي وضعها باللغة الفرنساوية، أثبت فيها أن
ميلاده عليه الصلاة والسلام ليلة الاثنين 9 ربيع الأول عام الفيل - 20 أبريل سنة
517 أيضًا وأورد على ذلك أدلة كثيرة استنتج منها أن ليلة الولادة لا بد أن تكون
ليلة الاثنين 8 أو 10 أو 12 ربيع الأول حسبما جاءت به روايات الأئمة الأعلام.
وبعد الحساب الدقيق وجد أن أول الشهر المذكور وقع في 11 أبريل سنة
571م، حيث كان الاجتماع الحقيقي للقمر، وعليه لا يكون يوم اثنين بين 8 و12
منه إلا يوم 9 منه وجاء في نهاية عبارته: (يتلخص من ذلك أن النبي صلى الله
عليه وسلم وُلد ليلة الاثنين 9 ربيع الأول عام الفيل - 20 أبريل م، فاحرص على
هذا التحقيق) .
وأنا مع اعتقادي بأن منار المسلمين لا يجب عليه البحث في مثل هذا
الموضوع إلا بما تسمح به الظروف لكني آنست منه أن نرشد فيه إلى سواء السبيل؛
لذا جئت بهذا راجيًا الإفادة عما يلزم أن نعتقده، أو كيف يمكن الجمع بين القولين
والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
(أسيوط) - أحد المشتركين
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (أ. ف.)
(المنار)
في تعيين تاريخ مولده عليه السلام أقوال أرجحها أنه ولد ليلة الاثنين لثمانٍ
خلون من ربيع الأول، وأشهرها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وترجيح الأول هو
المعروف عند علماء الحديث والتاريخ 9، قال في (السيرة الحلبية) : (وقيل لثمان
مضت منه، قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره، وعليه أجمع أهل التاريخ،
وقال القطب القسطلاني: هو اختيار أكثر أهل الحديث أي: كالحميدي وشيخه ابن
حزم) .
وظاهر أن معناه أنه ولد في اليوم التاسع من الشهر (لا فرق بين ليله ونهاره)
لأن التاسع هو الذي يتلو الثمان التي خلت من الشهر. ولجهل كثير من أهل هذا
العصر بأسلوب العرب في التاريخ كقولها في أول الشهر: لثمان خلت ونحوه
وقولها في أواخره لثمان بقين مثلاً يظنون أن معنى (ولد لثمان خلت من الشهر)
أنه ولد في الثامن منه. ومن آية ترجيح هذه الرواية موافقتها للحساب الذي نقلتموه
وقد جمع الأقوال كلها بعضهم فقال: ولد عام الفيل يوم الإثنين (ولا خلاف في
هذين) لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أو لليلتين خلتا منه، أو لثمان أو
لعشر خلون منه. أقوال (خاتمة مجمع بحار الأنوار) وهناك أقوال أخرى ذكرها
أهل السير، ولا عبرة بها بعد تصحيح النقل بما يوافق الحساب الدقيق.
الخلاف في تحديد اليوم الذي ولد فيه عليه الصلاة والسلام لا يترتب عليه
حكم شرعي ولا دنيوي ولذلك يتساهل العلماء فيه، ويحتفلون مع المحتفلين بتذكار
المولد في الثاني عشر من الشهر وهم يعتقدون أن المولد كان في التاسع على الراجح
فيحتمل أن يكون قد كتب الأستاذ الإمام ما كتب تعمدًا لهذا التساهل ويحتمل أن يكون
قد جرى قلمه بالمشهور سهوًا. ولا محل للعجب من اشتهار القول المرجوح في هذه
المسألة فإذا كان الخلاف في مولد نبينا بأيام فالغلط في مولد المسيح بعد بالسنين كما
في كتاب (تقريب التقويم) تأليف يعقوب باشا أرتين وكيل المعارف في مصر،
وفانتر باشا باشمهندس الدائرة السنية. وقد عرَّب هذا الكتاب محمد أفندي
كامل المدرس بالمدرسة الحربية، وقرأنا في (المقتطف) الأغر نقلاً عنه ما يأتي:
(إذا جعلنا مبدأ جميع الأزمان الماضية من التاريخ المسيحي 16 يوليه
سنة 622 يوليانية تجنبنا كل إشكال، فإن من المعلوم أن طريقة حساب السنين
بالابتداء من ميلاد المسيح وُضعت سنة 526 بمعرفة ديونيسيوس أحد قسس (أي:
قسوس) بعض الأديرة (أي: الأديار) برومة، وقد أخطأ في حسابه بجعله مبدأ
التاريخ المسيحي متأخرًا بنحو خمس سنوات؛ لأنه بموجب حساب أمهر المؤرخين
المؤسَّس على مؤلَّفات القدماء مثل يوسيفوس ورديون كسيوس، كان ميلاد المسيح في
25 ديسمبر سنة 6 قبل التاريخ المسيحي، وليس 25 ديسمبر سنة 1 قبل التاريخ
المذكور كما يظنه العوام. وهو خطأ لا يزول، لما يترتب على تصحيحه من
الارتباك المهول) اهـ.
(المنار)
من العبر في هذا التحرير أن ما يشتهر على ألسنة العوام لا قيمة له وإن
وافقهم الخواص سكوتًا، وأن اتفاق الملايين من العوام على أمر لا يصلح دليلاً على
جعله متواترًا، فإن نقل التواتر لا بد أن يكون في كل طبقة من الناقلين حتى ينتهي
في الطبقة الأولى إلى الحس الذي لا شبهة فيه.
_________
الكاتب: عبد الله نصوحي
الرد على شبهات النصارى وترجمة البابا
حضرة الأستاذ الكامل
إن ما ينشره البروتستنت ضد الدين الحنيف وضد القرآن ما كان يدري به أحد
من المسلمين لولا ما تنشرونه تباعًا في مناركم في باب شبهات النصارى وحجج
المسلمين؛ فإن كتاباتهم ومجلاتهم الدينية لا يقرؤها إلا هُم، ولم يكن لها مشتركون
إلا منهم، ولا بد أن يكون فرحهم بنشركم خزعبلاتهم، والرد عليها أكثر من
سرورهم من نشرها في جرائدهم.
بالله وما مناسبة ذكر ترجمة البابا لاون الثالث عشر في مناركم الأخير، هل
قصدكم إظهار فضله وورعه ومناقبه للمسلمين، ألا يكفي في ذلك جرائدهم؟ هداكم
وهدانا الله لما فيه خير المسلمين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... الإسكندرية
…
...
…
...
…
...
…
...
…
عبد الله نصوحي
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... أحد قرائكم
(المنار)
لم يكن هذا الانتقاد جديرًا بالنشر لضعفه في كلتا المسألتين، ولكننا نشرناه
لنُطمِع كل قارئ للمنار بانتقاد ما يراه فيه منتقدًا، ولتوقًُّع أن يكون في القراء مَن
ينتقد ما ذُكر لاتفاقه مع هذا المنتقد في الرأي.
أما الجواب عن الأول، فمن وجوه:
(أحدها) أننا نخبر المنتقد بأن المجلة التي نرد عليها تُرسل إلى شيخ الجامع
الأزهر وطائفة من كبار شيوخه، فمنهم مَن يردها، ومنهم من يقبلها لعلمه بأنه لا
يطالَب باشتراكها، وتُرسل إلى غيرهم من المسلمين، فإذا لم يرد عليها أحد فإن
ناشريها يحتجون فيما بينهم، ويحتجون على عوام المسلمين الذين يحضرون
مجالسهم في المكتبة الإنكليزية وغيرها - بأن علماء المسلمين قد عجزوا عن دفع
تلك الشُّبَه؛ لأنها أُرسلت إليهم، ولو كانوا قادرين على الرد فيها لفعلوا. وهذا باب
من أبواب تشكيك العوام في الدين، يجب علينا إغلاقه.
(ثانيها) أن هذه الشبه منشورة في كتب لهم مطبوعة، تباع للمسلمين
وغيرهم، ويطَّلع عليها بعض المسلمين في المجلة التي تنقل من الكتب. ومتى
أظهر المخالفون الاعتراض على الإسلام فالواجب على المسلمين مدافعتهم، وبيان
فساد شبههم، فإذا لم يفعل ذلك أحد يكون جميع المسلمين العالمين بذلك عصاة فساقًا،
على أن هذه المطاعن في أصل الدين فهي من الكفر، ولعلكم تعرفون حكم مَن
يسكت على ذلك، ويقره، وهو قادر على إبطاله.
(ثالثها) أننا ننشر تلك الشبهات مع ردها بالدلائل الناصعة التي نرى قراء
المنار - حتى من النصارى - مقتنعين بأنها أزالت كل شبهة، وكشفت كل غمة،
فكيف يتوهم المنتقد مع هذا أن يفرح المنتقدون ببيان جهلهم وإظهار بهتانهم؟ ! إن
هذا وهم عجيب إلا ممن لم يقرأ تلك الأجوبة السديدة.
(رابعها) أن كثيرين من المسلمين يطالبوننا بالرد على هذه الشبهات،
وكثيرًا ما ترد إلينا نسخ المجلة البروتستنية من جهات مختلفة في البريد، فنعلم أنه
لا غرض لمرسليها إلا الرد على ما فيها، ومتى سُئل العالِم في أمر الدين يحرم
عليه الكتمان بلا خلاف.
(خامسها) إذا فرضنا أن ما يكتبه القوم لا يعدوهم، وأنهم هم الذين يقرؤونه
دون سواهم - فإننا نرى من الواجب أن نزيل من أمام أعينهم الشبه التي تحجب
عنهم محاسن الإسلام، وتحملهم على سوء الاعتقاد به، وتجعل لهم حجة يحتجون
بها على البقاء فيما هم؛ فإن شيوع هذ الشبهات بينهم مانعة من تحقُّق بلوغهم دعوةَ
الإسلام على حقيقتها، وهي أن تكون الدعوة على وجه يحرك إلى النظر والبحث،
والدعوة الصحيحة واجبة على المسلمين، والجرائد والمجلات خير وسيلة لها.
ولا نرى للمسلمين جريدة ولا مجلة تنشر محاسن الإسلام وأصوله وأحكامه على
وجه يحرك إلى النظر؛ ولذلك جعلنا أشرف مقاصد المنار إحياء هذه الفريضة
الإسلامية التي يأثم المسلمون كلهم بتركها.
وإنني أخبر المنتقد بما كنت أحب أن أكتمه، وهو أنه جاءني في الأسبوع -
الذي كتب إليَّ فيه - كتاب من أحد المشتركين في (أنشاص الرمل) ، يقول فيه
مرسله: إنه اجتمع بأحد المتنصِّرين، فسأله عن سبب تنصره، فأخرج له الكتاب
الذي تنقل عنه المجلة البروتستنية الطعن في القرآن، وقال له: إن قراءة هذا الكتاب
هي السبب في ذلك، لا ضيق المعاش ونحوه من الأسباب التي تُخرج بعض جهلة
المقلدين عن دينهم أحيانًا.
وقد سألني مَن كتب إليَّ بذلك أن أرشده إلى كتاب يرد على ذلك الكتاب
المضل؛ ليطَّلع عليه ذلك المتنصر، لعله يعود إلى هداه، وإنني لا أعرف أن أحدًا
ردّ عليه، فما على السائل إلا أن يُطْلع ذلك المتنصر على مقالات المنار في الرد؛
لعله يهتدي بما أظهرناه من جهل مؤلف الكتاب، ومن تحريفه وكذبه وسوء فهمه
وقصده، ويقيس على ما رددناه ما سنزيده، حتى يتم الرد كله، وبالله التوفيق.
وأما سؤاله عن سبب ترجمة البابا في المنار فجوابه صريح في النبذة التي
كتبناها، والظاهر أنه رأى الترجمة فأنكرها ولم يقرأها، نرغب إليه أن يقرأها،
وإننا رأينا الفضلاء في مصر قد سُروا بهذه الترجمة سرورًا عظيمًا، وذهب بعضهم
إلى أنها من أنفع ما كُتب في المنار، وقال بعضهم: وددنا لو يموت في كل يوم بابا
لنسمع موعظة مثل هذه الموعظة! {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(مجلة الأحكام الشرعية)
أتمت هذه المجلة سنتَها الأولى ودخلت في الثانية وأصدرت فيها أربعة
أعداد. وإننا نهنئ منشئها حسن بك حمادة بما وفق له من النجاح في عمله وانتشار
مجلته على خصوصية موضوعها، وآية هذا النجاح الكبرى أن نظارة الحقانية قد
اشتركت في نسخ من المجلة بعدد المحاكم الشرعية في القطر المصري، وأذنت
لصاحب المجلة بأخذ صور الأحكام التي تبحث في المبادي القضائية من كل محكمة
مجانًا والتزم هو نشر الإعلانات الإدارية لهذه المحاكم مجانًا. وآية أخرى أن بعض
كبار رجال القضاء يكتبون في هذه المجلة انتقادات على بعض المرافعات وصور
الأحكام، نعم، إنهم يكتمون أسماءهم ولكنهم يجهرون بأفكارهم.
***
(عروس النيل)
مجلة أدبية اجتماعية عمومية أنشأها في القاهرة سليم أفندي قبعين، يدخل كل
عدد منها في 24 صفحة يتبعه ذيل أربع صفحات ينشر فيه قصة (البعث)
للفيلسوف تولستوي معربة عن اللغة الروسية. وقد صدر العدد الأول في أول
أغسطس مصدرًا برسم المرحوم علي باشا رفاعة، وتأبينه، ويتلو ذلك مقدمة المجلة
وبعدها مقالة لمحمد أفندي فاضل الأزهري موضوعها: (الاستقلال) ، يتلوها لغز
فكاهي يتبعه نبذة في سكة حديد الحجاز، من ورائها كلمة في التعليم، فنبذة في مقتل
الملكين (ملك الصرب وزوجه) وبعض المقاطيع الشعرية. وقيمة الاشتراك في
المجلة سبعون قرشًا صحيحًا في السنة.
***
(الأوقاف المصرية)
مجلة جديدة أسبوعية صاحبها محمد غالب أفندي فطين، ويظهر أن صاحبها
اكتفى باسمها في الدلالة على موضوعها، فلم يكتب تحته في غلافها وصفًا يشعر بذلك
وقد التمسنا بيان تحديد الموضوع في مقدمتها فلم نر فيها إلا فاتحة كفواتح
(الوقفيات) تذم الدنيا وتمدح الصدقة، ثم قرأنا بعدها (معذرة لتأخير مقدمة الجريدة)
نذكرها بنصها لما فيها من الدلالة على مكانة المجلة في التحرير والفكر قال:
(اكتفاءً بالخطبة وبناءً على طلب حضرات الأصدقاء النبهاء ممن لا تسعنا
مخالفتهم لعلو منزلتهم لدينا، وهم أرقى منا فكرًا ورأيًا وعقلاً قد أخرنا درج المقدمة
في هذا العدد للعدد الآتي، وعذر حضراتهم في ذلك أن الخطبة بحسب أفكارهم العالية
كادت بفضل الله تغني عن الإيضاح وأن المواد أصبحت دارة الجريدة كثيرة جدًّا
بحيث تكفي لأعداد مقبلة، فبناءً عليه نلتمس ونرجو من حضرات القراء الكرام قبول
المعذرة والمسامحة وعدم الملام، والموعد قريب إن شاء الله) اهـ.
ثم قرأنا عنوانات المجلة فإذا هي (مقابلة مع سعادة مدير الأوقاف) بلَّغ
صاحب المجلة فيها المدير أنه مستعد لنشر إعلانات الأوقاف مجانًا و (مقابلة مع
سيدة مصرية) وقيمة الاشتراك في المجلة 75 قرشًا صحيحًا في السنة.
***
(الانتقام)
هي القصة العشرون من مسامرات الشعب، عرَّبها أحمد حافظ أفندي عوض عن الإنكليزية، وليست بشيء لولا أنها مقدمة لقصة أخرى تتصل بها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدولة العلية ومكدونية
ورأي في الإصلاح
كتبنا في الجزء الأول والجزء الثاني من هذه السنة نبذتين عن الثورة التي
نجمت في بلاد مكدونية قلنا في الأولى: إن المسألة عشواء، والحكم فيها غامض؛
لأن أهل هذه البلاد وغيرهم من النصارى في بلاد الدولة طامعون بالاستقلال،
وأوربا عون لهم، ولأن غرض روسيا غير معروف، وعليه المدار في هذه المسألة.
وقلنا في الثانية: إننا اطمأننا من جهة روسيا بعض الاطمئنان، وبنينا ذلك على ما
كان نقل من ترك روسيا لمنشوريا بسبب الحاجة إلى المال. وتوقعنا من تقرب إنكلترا
إلى فرنسا وزيارة ملك الأولى لرئيس الثانية أن يتفقا على عدم إسعاد روسيا على
حرب تركيا إذا كانت تريد ذلك وتمهد له بالثورة. وقلنا أيضًا: إنه إذا كان اتكال
بغاة مكدونية على البلغار والصرب فلا خطر على الدولة العلية؛ لأنها قادرة على
تدويخ هاتين بسهولة، وإن هي لم تستفد من تدويخهما شيئًا لتعصب أوربا.
ثم تحولت الأحوال، وظهر لنا من الوقائع ما لم نكن نحتسب. ظهر لنا أن
روسيا لا تترك منشوريا وهي أول ثمرة تذكر بتلك الملايين التي أنفقتها في مد
خطوط الحديد إلى الشرق الأقصى، ووراءها من المقاصد الاستعمارية والتجارية ما
وراءها. ثم علمنا أن توجيه عناية الروس الكبرى إلى تلك البلاد، ومزاحمة اليابان
بالمناكب في ربوعها قد حرك في نفوس اليابانيين الإباء والحميَّة فصاروا يهجسون
بمحاربتها حتى قال قائلهم: إننا قد جارينا أوربا في كل علم وكل عمل وجاريناها
في القوى البرية والبحرية حتى صرنا في مقدمة دولها العظمى، وهي مع ذلك ترانا
دونها ذهابًا مع التقاليد الماضية التي تفضل الجنس الأبيض على الجنس الأصفر فلا
وسيلة لإقناع أوربا بمساواة الجنسين إلا بمحاربة روسيا، فإظهار شرفنا ببرهان
ساطع يخطف أبصار أمم المدنية لا يكون إلا بهذه الحرب، وما أرى هذه الهواجس إلا
من وسوسة الإنكليز الذين يعتمدون عليها في إغراء بعض الشعوب ببعض، وكانت
أنفع لهم من أساطيلهم التي يفاخرون بها.
هذا شاغل كبير لروسيا عن القصد إلى حرب الدولة العثمانية، فإن محاربة
الترك تضطر روسيا إلى توجيه جميع قواها إلى الشرق الأدنى، وهي لا تأمن حينئذ
من اليابان، ولكنها إذا وجهت جميع قواها إلى الشرق الأقصى لمحاربة اليابان فإنها
لا تخاف من الترك اعتداءً، ولا تخشى لأنهم أمسوا كما قال الشاعر العربي:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
…
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون مَن ظلم أهل الظلم مغفرة
…
ومن إساءة أهل السوء إحسانًا
كأن ربك لم يخلق لخشيته
…
سواهم من جميع الخلق إنسانا
فهذا هو السبب فيما ظهر لنا من رغبة روسيا أولاً وآخرًا في مبادرة الدولة إلى
الإصلاح، وفي سكوتها عن عقاب قاتل قنصلها الأول؛ لأن قاتله من الألبانيين الذين
كانوا متمردين على الدولة، وفي اكتفائها بعقاب قاتل قنصلها الثاني، ومن عاونه بأشد
العقوبات، ونفي والي موناستير إلى طرابلس الغرب، وفي نصحها للبلغار بعدم
مساعدة الثائرين. ولو كانت تريد سوءًا لوثبت إليه بما فتح لها من المنافذ وما
أشرعت لها الفتنة من الطرق. ويقال: إن بين السلطان والقيصر اتفاقًا سريًّا نذكر
موضوعه بعد.
يعجب الواقفون على أخبار الثورة من سلوك البلغار مع سلوك روسيا فإنهما
يسيران متدابرين فيما يتراءى للناظرين، روسيا تسعى في إطفاء النار، والبلغار
تذكيها وتحضها وتمد االبغاة في غيهم حتى أن ضباط عساكرها ينسلون من
معسكرهم لإدارة الثورة إدارة عسكرية منتظمة، وذلك لا يكون إلا بإيعاز من حكومتهم
أليس في هذا السلوك مثار للريب؟ أيعقل أن تنحرش بلغاريا الضعيفة بالأسد
التركي إلا إذا كانت واثقة بأن وراءها أسدًا أو أسودًا؟ إذا لم يكن الأسد الروسي
الذي أعطى هذه البلاد استقلالها هو الذي يحميها من قرنه التركي فعلى أي الأسود
تعتمد؟ الأقرب عندي أن يكون الخوف اليوم في موضع الرجاء بالأمس. فإننا لما
كنا نسيء الظن بروسيا أحسنَّا الظن بالإنكليز حتى توقعنا أن يكون الغرض من
زيارة ملكهم لفرنسا الاتفاق معًا على عدم الرضى من روسيا بمحاربة تركيا لكيلا
تساعدها فرنسا على ذلك، ولما ترجح عندنا الآن أن روسيا لا تريد حربًا ولا تضمر
غدرًا انعكس الرأي الأول، وظننا السوء بإنكلترا، وتوقعنا أنها قد اتفقت مع فرنسا
على النفخ في نار الثورة، وإغراء البلغار بإمدادها، ووعدها بالمساعدة على ضم
مكدونية إليها كلها أو بعضها. وهل يتيسر لهما الوفاء بالوعد إذا لم تكن روسيا
والنمسا معهما؟ لا حاجة لنا بالبحث في الجواب، ولكننا في حاجة إلى التأمل في
معاملة أوربا لنا، وماذا يجب علينا.
إن سلوك أوربا الجديد في حل المسألة التي يسمونها الشرقية ويعنون بها
الإسلامية سلوك عجيب، وأعجب صوره، وأغرب أشكاله ما كان من نتيجة محاربة
الدولة العلية لليونان، فقد جعلت أوربا الدولة البادئة بالعدوان المغلوبة في ميدان
الطِّعان - هي الفائزة بالنتيجة إذ جعلت ولي عهدها حاكمًا على ولاية عظيمة من
بلاد الدولة المنتصرة (وهي جزيرة كريت) على أن تكون هي الحافظة والحامية
لتلك الولاية. وما يدرينا لعلهم يريدون الآن سلخ ولايات مكدونية من الدولة بمثل
تلك الطريقة. وهكذا يقطعون في كل مرة عضوًا من جسم الدولة يغذون به من
يرونه أولى به حتى لا يبقى إلا الرأس والقلب فيسهل على الرؤوس الاتفاق على
الإيقاع به.
إننا نرى دول أوربا عابثة في كل حين باستقلال الدولة، ففي كل حادثة لهم
أوامر تُطاع ومناهي تُجتنب، والدولة راضية، وكل ما تجنيه من الظفر في بعض
الأحيان لا يخرج عن مراوغة في تنفيذ بعض الأوامر أو إرجائها، وكلما تم للدولة
ضرب من ضروب هذا الظفر الوهمي هتف المغرورون مع الغارين: نحن
أصحاب السياسة المثلى والكلمة العليا، فإذا انتهى أجل الإرجاء، وحل اليأس محل
الرجاء، سكتوا واجمين. أو خادعوا أنفسهم معتذرين.
يقول الأوربيون: إن الذي أذل تركيا وذللها لهم هو ظلمها لمَن ليس على
دينها من رعيتها لا سيما النصارى: ولنا أن نقول: إن وجدنا سامعًا: إذا كانت هذه
الدولة تظلم المخالفين لها في الدين فلماذا يهرب اليهود من مشرق أوربا (روسيا)
ومغربها (أسبانيا) إلى بلادها؟ أمن المعقول أن يهرب الناس من ظل العدل إلى
هاجرة الظلم؟ وإذا زعمتم أنها تظلم النصارى خاصة فكيف يعقل أن تظلم المخالف
الذي يجد أنصارًا أقوياء ينتقمون له، وتدع من لا ولي له ونصير؟ وإذا كانت أوربا
تعبث باستقلال الدولة وتقتات عليها في سياستها الداخلية حبًّا بالعدل بالمظلومين، فما
بال هذه الرحمة لا تحرك لهم عاطفة على اليهود الذين يستحر القتل فيهم بأيدي
النصارى لأنهم يهود؟ ليس موقفنا مع أوروبا موقف جدال وحجاج، ولكنه موقف قوة
وضعف فالقوة تفعل والضعف ينفعل.
لماذا كنا ضعفاء وعندنا جيش يشهد له الأعداء بأنه في مقدمة جيوش الأمم
الحربية بسالة وشجاعة وتدريبًا؟ يقول قوم: إن ضعفنا محصور في قلة المال،
ونقول: إن عند الدولة من الذخائر ما يساعد على كل عمل تريده، وعندها من موارد
الثروة ما إن أحسنت استغلاله واستعماله كانت من أغنى الدول. ويقول آخرون: إن
ضعفنا محصور في الجهل دون سواه، ونقول إن الأمة جاهلة ولكن عند الدولة من
الرجال من لا ينقصهم شيء من علوم الإدارة والسياسة، والصواب أن ضعفنا كله
معلول لعلة واحدة وهي السلطة المطلقة.
صاحب السلطة المطلقة أقدر على الإصلاح إذا هو علم وأراد، ولكنه قلما
يريد. ولم نر أمة من الأمم صلح حالها وارتفع شأنها بسرعة كالأمة اليابانية التي
نهضت بهمة عاهلها (الميكادو) على أنها هي الأمة الوحيدة التي ارتقت بملكها
وسائر الأمم المرتقية إنما نهضت بأنفسها، وأصلحت حال حكامها وأوقفتهم عن
حدودهم.
قد بينا في السنة الأولى أركان الإصلاح التي يجب على الدولة العلية إقامتها
بعد بيان أسباب الضعف ومناشئ الخلل من تاريخ الدولة الرسمي (تاريخ جودت
باشا) ، ويعتذر بعض الناس عن السلطان بأن مداراة دول أوربا في الخارج
ومناهضة حزب الترك الأحرار في الداخل لم يدعا له وقتًا يصرفه في إصلاح
المملكة. ونقول في الجواب: أما حزب الأحرار فالصادقون من أهله تؤمن غائلتهم
بمجرد الشروع في الإصلاح، والمحتالون على المناصب والرواتب علاجهم
الإعراض عنهم وعدم المبالاة بهم مهما قالوا وفعلوا.
وأما دول أوربا فلا مفر من عدوانها وافتئاتها على الدولة وعبثها باستقلالها في
بلادها إلا بالقوة. فأول عمل يجب على السلطان وجوبًا فوريًّا هو الإسراع بإصلاح
القوة البحرية، وزيادة القوة البرية حتى تكون القوتان في المكانة الأولى، ولا أستحيي
أن أقول: إنه يجب أن يكون قصده في عمله هذا إلى جعل قوة الدولة في البر والبحر
كقوة دولة فرنسا سواء. ولا يمكن القصد إلى هذا العمل العظيم إلا بعد السماح ببيع
تلك الكنوز من ذخائر الملوك الذهبية والجوهرية إلا ما كان أثرًا تاريخيًّا يفيد بقاؤه
العلم. فإذا أنف السلطان من بيع تلك القناطير المقنطرة من أواني الذهب والفضة
ومن الجواهر التي لا صناعة فيها يضن بها التاريخ، وكان لا يجد المال لهذا
الإصلاح إلا ببيعها فإن دولته ستفقدها من يوم من الأيام، ويكون قد أبى بيعها بعز
الدولة لبيعها بذُلّها وهوانها (لا قدر الله تعالى) .
ومن الناس من يزعم أن دول أوربا لا تمكن السلطان والدولة من زيادة القوة
وإبلاغها درجة الكمال، فإذا هي شعرت بأنه يقوي البحرية ويعمم التعليم العسكري
في الولايات فإنها لا تمهله أن تقتسم بلاده وتعجله بحل عقدة المسألة الشرقية.
ونحن نقول: إذا كان من الثابت عند السلطان أن أوربا لا تمكنه من الإصلاح؛ لأنها
تريد أن تحتج بالخلل على تمزيق الدولة وتقطيعها قطعًا يسهل عليها ابتلاعها، وأنه
إذا حاول تقوية دولته لتتمكن من الاستقلال ظاهرًا وباطنًا، فإن دولها تتفق حينئذ على
الإيقاع بها مرة واحدة، فأي مرجح للرضى بالتقطيع إربًا إربًا على الاستبسال
والتعرض لإحدى الحُسنيين: حفظ الاستقلال أو موتة الأبطال؟
يقال: إنه كان من رأي رجل الدولة العظيم فؤاد باشا أن تمنح الدولة العلية
جميع ولاياتها النصرانية في أوربا استقلالاً إداريًّا وأنه صرح في وصيته المشهورة
بأن هذه الولايات لا بد أن تفصل من جسم الدولة في المستقبل، فإذا أعطتها
الاستقلال الإداري النوعي باختيارها فإنها تقبل مع الشكر والحمد كل ما تشترطه
عليها الدولة، وإلا فإن كل ولاية منها لا تنفصل إلا بعد أن تسفك الدولة في سبيلها
دماءً عزيزة، وتنفق أموالاً غزيرة فيكون انفصال كل منها ضعفًا على ضعف، وقد
علمت الدولة صدق هذه الفراسة باليقين، وذاقت مرارتها بالفعل، فما بالها تُلدغ من
الجُحر الواحد مرتين؟ !
يجب على الدولة أن تهتم بالإصلاح اهتمامًا صادقًا، وأن تنشر لواء العدل
والمساواة في الحقوق على رءوس جميع رعاياها، وأن تبدأ بما قلناه من ترقية قوتيها
البحرية والبرية، وتبذل في سبيل ذلك كل رخيص وغال، فإن علمت أن أوربا تحُول
دون ذلك وأنها قادرة على أن تحول، وأنه لا يرضيها الآن ما كان يرضيها من قبل
كالعمل بالقانون الأساسي فليس أمامها إلا سلوك إحدى طريقتين لحفظ حياتها
المستقبلة:
(الطريقة الأولى) : أن تجعل ولاياتها كالولايات المتحدة في أمريكا تستقل
كل ولاية في إدارتها الداخلية ويكون حكامها منها، ولا مجال هنا للخوض في كيفية
هذا الاستقلال وشروطه، فالدولة والسلطان أعلم منا به وبسعادة البلاد المتمتعة به.
نعم إن الحكم المطلق ألذ وأشهى؛ ولذلك لم نطلب من السلطان ترك هذه اللذة
والتنازل عن هذه الشهوة إلا إذا كان غير واثق بدوامهما.
(الطريقة الثانية) : أن يتفق مع روسيا - إذا رضيت - على أن تعيد إليه
بمساعدة فرنسا مصر والسودان، وتحالفه محالفة حربية على الاستقلال التام في
الولايات التركية والعربية، وأن يعطيها في مقابلة ذلك الآستانة وما شاءت من
الولايات المسيحية في أوربا، ويعدها بالمساعدة المعنوية على امتلاك الهند، ثم يجعل
التخت في دمشق الشام، ويعتني بعد ذلك ويجدّ في عمران البلاد العربية التي أهملها
أو خربها سلفه من السلاطين ويجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ويجتهد في
استعراب الترك أجمعين، ويؤلف منهم ومن عرب العراق ونجد والحجاز قوة
عسكرية منتظمة ويقيم الشرع. فإذا هو فعل ذلك يكون له ملك عظيم وعز منيع
ويأمن غائلة الخارجين بدعوى الخلافة. فإذا لم ترض فرنسا بإعادة مصر عثمانية
محضة فليكتف ببلاد الأناطول والأكراد والعراق وسوريا وبلاد العرب. فإذا
وفقت دولته لترك الجنسية التركية والتعصب لها وأصلحت هذه البلاد وعززتها فإن
ملكها يكون بها عظيمًا، ويتيسر لها بعد ذلك القيام بعمل عظيم.
وإذا بقيت الدولة على حالها فخير مستقبلها مع أوربا أن يتركوا لها بلاد الترك
الخُلص المسلمين تحكمها باستقلال أو تحت حماية، وشرها (وقاها الله من شرها)
أن يُمحى أثرها بالتدريج حتى لا يبقى لها عين ولا أثر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
البابا لاون الثالث عشر - تتمة ترجمته
بينا في النبذة الأولى التي نشرناها في الجزء التاسع أن الأخطار كانت محدقة
بكرسي البابا عندما جلس عليه لاون الثالث عشر، ووعدنا بالإلماع إلى سلوكه في
مقاومتها، وما كان من نجاحه فيه، فنقول: إن الدول الكاثوليكية - التي يَدين أكثر
رعاياها بالخضوع إلى البابا كفرنسا والنمسا وإيطاليا - كانت عاملة على محو
سلطته، فما بال روسيا الأرثوذكية، وإنكلترا وألمانيا البروتستنتيتين لا يَكُنَّ من
أعدائه العاملات على محوه، ومحو طائفته من الأرض، وقد كان بين أهل مذهبه
ومذهبهن من الخلاف وسفك الدماء ما كان؟!
سلطة البابا رسمية دولية، وللدول عنده وكلاء كالسفراء عند الملوك، وقد كان
أول عمله استمالة الملوك العظام، والتوسل إليهم بالرفق بالكاثوليك، فنجح في ذلك،
حتى عاد إليه اعتباره، وتيسر لطائفته السير في طرق الترقي في كل مملكة كانوا
مهددين فيها، حتى تقدموا تقدمًا مبينًا. ولم تبقَ حكومة لم تسالمه ويسالمها إلا
إيطاليا التي أزالت ملكه، ونزعت سلطته المدنية (أو الزمنية) ، واستولت على
أملاكه، وفرضت له مبلغًا عظيمًا من المال بدلاً عنها، فلم يقبله، ومَن يبيع المُلك
بالمال؟ ! ولكنه على استمراره على عداوة الحكومة لم يقصر في استمالة الشعب
الإيطالي، ومن ذلك أنه بعث وفدًا دينيًّا إلى ملك الحبشة، يسأله إطلاق الأسرى
الذين أسرهم من جند إيطاليا في الحرب المعروفة.
سياسته مع الدول الكاثوليكية:
قد كان من إساءة فرنسا والنمسا في معاملة بيوس التاسع، والإنحاء على
كرسيه ما أومأنا إليه في الجزء التاسع، وقد استطاع أن يسالمهما مع حفظ حقوقه،
فكان يحث الكاثوليك على الخضوع للحكومة الجمهورية التي اختارتها الأمة لنفسها،
على أن أكثر أعدائها منهم. وكذلك جامل النمسا بقدر الإمكان، وأحسن في تعزية
عاهل النمسا والمجر جوزيف عند وفاة ولي عهده والتجائه إليه، حتى قيل: إنه لم
يرد الزيارة لملك إيطاليا حلفه مصانعة للبابا والتماسًا لرضاه. وقد كانت الصلات
السياسية تقطعت بين بلجكا والفاتيكان، فأعاد رابطتها، حتى صارت حكومة البلاد
إلى وزارة كاثوليكية. وأما سياسته مع الدول غير الكاثوليكية فهي السياسة المثلى،
وإننا نتوسع بعض التوسيع فيها، فنقول:
سياسته مع ألمانيا:
يعرف التاريخ ما كان في ألمانيا من اضطهاد الكاثوليك بعد سفك تلك الدماء
في التنازع الديني بينهم وبين البرتستنت، فإن ألمانيا مهد لوثر مؤسس المذهب
الثاني الذي كان مبدأ كل ما كان. وقد كان البرنس بسمارك داهية السياسة يبغض
الكاثوليك ويناصبهم. فلما ولي المترجَم كان أول عمله العناية بمسالمة ألمانيا
واستمالتها، وجمع كلمة الكاثوليك فيها، فكتب إلى عاهل الألمان بتوليته. ثم رأى
البرنس بسمارك اتحاد الكاثوليك وارتباطهم بالبابا، ورأى نفسه محتاجًا إليهم في
مقاومة الاشتراكيين في مجلس النواب، فلم يَرَ بُدًّا من استبدال الملاينة بالمخاشنة،
فكتب إلى البابا رقيمًا أطراه فيه إطراءً لم يكن يخطر بالبال، وكان من اعتبار
ألمانيا للبابا أن حكَّمته في الخلاف بينها وبين أسبانيا على جزائر كارولين، فكان
من حكمته ودهائه أن تمكن من إرضاء الفريقين معًا بما حكم به.
ثم إنه أسلس لألمانيا حتى أطمع عاهلها بلينه في إرضائه بأن تكون دولته
حامية الكاثوليك في الشرق؛ ولهذا الطمع زاره غليوم الثاني مرتين سنة 1888
وسنة 1893، ولكنه لم ينل منه هذه الأمنية، ولم ييأس منها. ولولا دهاؤه لسلب
فرنسا التي قاومته، وقاومت الدين أشد مقاومة هذه المزية - حماية الكاثوليك -
وهي أقوى آلتها السياسية في الشرق، ومنحها لعدوتها (ألمانيا) ، ولكنه لم يحب
أن يزيد الخرق اتساعًا بينه وبينها.
سياسته مع إنكلترا:
لم يكن حظ الكثلكة في إنكلترا مع الإصلاح بأمثل من حظها في ألمانيا؛ فقد
اضطُهِد الكاثوليك في تلك الجزائر وسفكت دماؤهم وسِيموا خسفًا وهوانًا في القرون
الثلاثة: السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وكذلك الثلث الأول من القرن
التاسع عشر، حتى قل عددهم، وانطمست رسومهم في تلك البلاد، فلم يبق من
الإنكليز على مذهب الكنيسة الرومانية إلا نحو 160 ألفًا.
أحسن ليون الثالث عشر التودد لملكة الإنكليز، واختار لرياسة الكنيسة في
بلادها بعض رجاله الدهاة، حتى حسنت الحال، وصارت الملكة تتلقى الكرادلة
الوافدين عليها من قِبَله بالحفاوة العظيمة، بل صاروا يتقدمون في قصرها على
رئيس أساقفة (كنتربري) رئيس الكنيسة الإنكليكانية الرسمي، الذي يتوج ملوك
الإنكليز، وأُعطي الكاثوليك حرية من الحكومة الإنكليزية، لم تكن تصل إليها
أمانيهم، فارتقوا ارتقاءً مبينًا، وزاد عددهم، حتى صار البروتستنت يرجعون إلى
الكثلكة، وحتى طلب بعض قسوسهم رجوع الكنيسة الإنكليكانية إلى رسوم
الرومانية، فطمع البابا المترجَم باتحاد الكنيستين، وكتب يدعو إلى ذلك. ويقول
العارفون: إنه لو قدر على ترك بعض الرسوم والتقاليد - التي لا يمكن أن يطيقها
أهل مذهب الإصلاح بعدما تفصوا من عُقلها - لتم له ما يريد.
أرأيت الكاثوليك الذي كانوا في أول القرن التاسع عشر يعدون في إنكلترا
بالألوف، إنهم صاروا يعدون بالملايين؛ فقد جاء في إحصاء سنة 1891 أن عدد
الكاثوليك في إنكلترا نفسها مليون ونصف، وفي أيرلاندة 3.549.956 وفي
سكوتلنده 356000، وتبع هذا التقدم والنمو في بلاد الإنكليز التقدم والنمو في
مستعمراتها، حتى علم من ذلك التقويم أن عددهم في البلاد والمستعمرات يزيد على
عشرة ملايين ونصف، وأن لهم فيها من كراسي رؤساء الأساقفة 28، ومن
كراسي الأساقفة 105.
ونخص الهند بالذكر فنقول: إن عدد الكاثوليك في الهند لم يكن يزيد في أوائل
القرن التاسع عشر على نصف مليون، ولم يكن لهم إلا ثلاثة أساقفة، وقد تبين من
الإحصاء - الذي أشرنا إليه - أن عددهم صار يزيد على مليونين، وأن لهم 33
كرسيًا أسقفيًا و800 كاهن أوربي، و650 كاهنًا هنديًّا و600 راهبة أوربية و200
راهبة هندية و200 راهب من جمعية الإخوة (فرير) و70 مدرسة كبرى،
و2200 مدرسة ابتدائية، وتلامذة هذه المدارس مائة ألف، وإن لهم مدرسة دينية
خاصة (على أن جميع مدارسهم دينية) ، فيها ستة آلاف تلميذ، يكونون كلهم دعاة
للدين ورهبانًا وقِسِّيسين. وإن لهم أيضًا 98 ملجأً للأيتام، فيها 5800 ولد. وقد
زار ملك الإنكليز البابا في هذه السنة. ولما مرض مرض الموت كتب إليه بخطه،
يسأله عن صحته، كما كتب إليه عاهل ألمانيا بخطه.
سياسته مع روسيا:
الخلاف بين الكنيسة الرومانية والكنيسة الشرقية - التي يحميها قيصر روسيا
وأكثر رعيته من أتباعها - قديم كان ولم يكن في الدنيا بروتستانت، وقد كانت
روسيا في سرور عظيم من قيام أوربا بمناهضة البابا وكنيسته، ولم تقصر في
اضطهاد كاثوليك بلادها. وكانت الصلات السياسية قد تقطَّعت بين هذه الدولة وبين
الفاتيكان في عهد البابا بيوس التاسع، فلما جاء بعده ليون الثالث عشر كان أول
شيء عمله في تلافي ما سبق أن أرسل كتابًا بخط يده إلى القيصر، يخبره فيه
بتوليته، ولما كاد النيهلست للقيصر وحاولوا اغتياله سنة 1879 و1880، فنجا
من كيدهم - كتب إليه البابا يهنئه بذلك، فكان لهذه المجاملة من التأثير ما حمل
القيصر على التساهل في تعيين الأساقفة للكاثوليك في بلاده، وأعيد أسقف ورسو
من منفاه في سيبريا. وكتب البابا إلى أساقفة بولندا يأمرهم بالخضوع لحكام بلادهم
وقوانينها، وبِحَثّ العوام على ذلك، وأرسل سفيرًا من قِبَله لحضور تتويج القيصر
الحالي سنة 1896.
سياسته مع الدولة العلية:
إن هذه الدولة تختلف مع البابا في أصل الدين لا في المذهب، ولكن التساهل
الذي تقضي به طبيعة الإسلام جعل الكاثوليك في بلادها أحسن حالاً منهم في جميع
البلاد الأوربية أيام ذلك الاضطهاد، والتسافك في الدماء، وقد قابل البابا السياسي
هذه المعاملة الحسنة بالشكر، فازدادت المودة بينه وبين السلطان العثماني.
وقد أرسل السلطان مندوبًا خاصًّا إلى رومية لتهنئة ليون الثالث عشر بمنصبه،
وقد اجتهد السلطان أيضًا بالفصل في الخلاف الذي كان من الأرمن الكاثوليك،
والشقاق الذي كان من الكلدان الكاثوليك، فكان البابا يعلن الشكر له على ذلك. ولما
احتفل بعيد البابا الكهنوتي (يوبيله الفضي) سنة 1887، أرسل السلطان عبد
الحميد يهنئه بهدية نفيسة، وهي خاتم من جوهرة يتيمة، كبيرة الحجم، بيضية
الشكل، تنبعث منها أشعة تنعكس أنوارها على الزوايا، فيخال الناظر إليها أنها
مجموع أحجار كريمة تتراءى فيها ألوان الطيف التي في قوس السحاب، وكانت
هذه الجوهرة من النفائس المحفوظة في خزائن سلاطين آل عثمان. وقد وضع
الخاتم في غلاف من الذهب الوهَّاج على هيئة تاج ملكي يضيء الخاتم من خلال
فروجه.
ولما احتفل بعيد البابا الأسقفي (يوبيله الذهبي) سنة 1792، أهداه السلطان
هدية كانت عنده، وعند أهل ملته أنفس من الأولى، وهي الكتابة التي يقولون إن
القديس أبرقيوس - أسقف هيرا بوليس، وتلميذ يوحنا الحبيب - نقشها في أواسط
القرن الثاني الميلادي على صفيحة أوصى بأن تُجعل فوق ضريحه.
ولو أردنا أن نذكر ما خدم به ملته وأمته في الصين واليابان والحبشة، وفي
سائر البلاد لخرجنا إلى التطويل الذي ليس من موضوعنا ولا من غرضنا؛ لأن
العبرة التي نقصدها تتم لنا بالقليل الذي يغني عن الكثير، فكيف بنا إذا حاولنا
إحصاء المكاتب والمدارس، والأديار والكنائس، والملاجئ والمستشفيات،
والرهبان والراهبات، والأطباء والممرضات، والمبشرين والمربيات، والمعلمين
والمعلمات، والمتنصِّرين والمتنصرات؟ !
هل من الحكمة والرأي أن نجهل ما يفعله القوم من خدمة دينهم ونشره، وأن
نكتم ما يتفق لنا علمه؛ لأنه مما يُمدحون عليه؟ هل تقضي علينا الغيرة الدينية بأن
نسمي جهلنا علمًا، وتقصيرنا تشميرًا، وضعفنا قوة، وأن نسمي حذقهم بلادة،
ونشاطهم كسلاً، وعلمهم جهلاً، وقوتهم ضعفًا؟ !
منزلة ما خلتها يرضى بها
…
لنفسه ذو أدب ولا حِجى
لا شيء أنفع من معرفة الحقيقة والواقع، ولا شيء أضر من الجهل بالحقيقة
والواقع، ومَن أنهكه المرض حتى صار حَرَضًا، وأشرف على الهلاك، ويئس من
روح الله - لا يرضيه إلا أن يغش نفسه بالمدح الكاذب، ويكابر حسّه وعقله،
فيذم من مناظريه ما يراه محمودًا.
وإننا نبدئ هذا القول ونعيده، ثم إننا نجد ممن يطلعون عليه من يقول: إن
محبنا الذي ينصح لنا هو مَن يمدحنا ويمدح رؤساءنا ولو بالباطل، وينكر حقوق
من يخالفنا، ويذمهم ولو كاذبًا. والعلة في هذا أن هؤلاء الضعفاء لا غرض لهم من
حياتهم إلا اللذة، والحق مر في ذائقة المبطلين، والجد مملول عند الهازلين.
إليكم عنّا يا عشّاق اللذة الباطلة، ومحبي الجهالة القاتلة، لسنا نكتب لكم،
وإنما نكتب لقوم استعدوا لقبول العلم النافع، وهو - كما قال الأستاذ الإمام -: (ما
يعرفك مَن أنت ممن معك) ، فإلى هؤلاء نسوق هذه الترجمة، ونقول: أين
علماؤكم الأعلام، أين الذين تلقبونهم بمشايخ الإسلام، أين الأمراء الذين انتحلوا
لأنفسهم الرياسة الدينية، وزعموا أنهم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم على الرعية،
خبِّرونا ماذا تعلموا وماذا عملوا حتى استحقوا هذه الرياسة، وهل كان للأمة رأي في
اختيارهم لها، وبماذا خدموا الإسلام فيها، هل يعرف شيخ الإسلام حدود بلاد
المسلمين، هل وقف على شيء من أحوال شعوبهم في الدنيا والدين، هل سعى لهم
بإنشاء مدرسة كلية أو جزئية، هل أرسل إلى بعض بلادهم بعثة دينية، هل كشف
لهم شبهة اعتقادية، هل حل لهم مشكلة سياسية، هل كَاتَبَ العلماء في غير بلاده،
هل حاول أن يصل ودادهم بوداده، هل خطر بباله أن يعد طائفة من العلماء للقيام
بمثل هذه الأعباء؟ !
كلا، إن المسلمين ليس لهم جمعيات دينية ولا دنيوية تنتخب لهم شيخًا مستعدًّا
لخدمة الإسلام فتسميه (شيخ الإسلام) ، ويكون مطالَبًا من المسلمين، وإنما اخترع
هذا اللقب الأمراء الذين استقلوا بالزعامة الدينية والدنيوية؛ فثقل عليهم الجمع بين
شعار رؤساء الدين، وبين التمتع بالشهوات وحضور مجالس اللهو والشرب
والرقص؛ فجعلوا هذا الشعار لبعض العلماء الرسميين الذين يأخذون شعار العلم
والدين من الأمير أو السلطان، فالأمير يصل إلى مقاصده الدينية بعمامة (شيخ
الإسلام) وجُبته، ويتمتع هو بما شاء بزي السياسة، وشيخ الإسلام وسائر
أصحاب المناصب الدينية من القضاة والمفتين والمدرسين الرسميين والخطباء وأئمة
المساجد - يعترفون للأمير بالرياسة الدينية الكبرى بما يمنحهم من الرتب والرواتب،
والأوسمة والمناصب، فما لهؤلاء ولخدمة الإسلام والمسلمين؟ !
إذا أراد الحاكم - الذي يولي شيخ الإسلام وغيره من المشايخ مناصبهم، ويزين
صدورهم وأكتادهم وعمائمهم بالنسيج الفضي يتلألأ عليهم في أيام الأعياد - أن
يكلفهم بعمل ينفع الإسلام، فإنهم يجتهدون في القيام به ما استطاعوا كما اجتهدوا في
خدمة هؤلاء الحكام فيما يضر ولا ينفع، وأوَّلوا لهم ما أولوا، حتى غيروا ما
غيروا، وبدلوا ما بدلوا، وإذا لم يُرِد الحاكم لا يريد شيخ الإسلام؛ فإن الإنسان
مادام محرومًا من الاستقلال يكون تابعًا لمَن يرى بيده منفعته ومضرته، ولو كان
المسلمون هم الذين ينصبون (شيخ الإسلام) - كما عُهد إليهم أن ينصبوا السلطان
والإمام - لكان شيخ الإسلام تابعًا لإرادتهم، وعاملاً بمشاورتهم لمصلحتهم.
وسنكتب نبذة خاصة في كيفية انتخاب البابا، ونبين فيها حكم الانتخاب عند
المسلمين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهيضة الوبائية في سوريا
انتشرت الهيضة الوبائية في سوريا حتى كادت تعمها. ظهرت أولاً في ولاية
الشام، ثم في ولاية بيروت، وأصابت بلادًا من فِلَسطين وولاية حلب. وأن فتكها في
طرابلس والشام وحِمْص أشد منه في سائر البلاد، وقد بلغنا أن أكثر أهالي طرابلس
هلعوا وجزعوا وفرّ نحو ثلثهم إلى لبنان قبل انتشار الوباء، وأكثر الفارين من
النصارى. ومن بقي في البلدة ومينائها فهم فريقان متناقضان في العلم والعمل -
الفريق الأول أكثر المسلمين، وهم يعتقدون أن الوباء سوط سماوي يصب على بعض
الناس بدون سبب لقبول المزاج له أو لوقوعه بمن يصاب به، وإنما يكون لمحض
الإرادة الإلهية الخفية فلا تنفع طرق الوقاية ولا يفيد الاحتياط شيئًا - هذا مبلغهم من
العلم، وأما عملهم فهو أنهم يأكلون ما ينهى الأطباء عن أكله ويمتنعون عن اتخاذ
الأدوية التي تضاد العفونات وتقتل جنة الهيضة ونحوها المعبر عنها بالميكروبات.
والفريق الثاني عقلاء المسلمين وأكثر النصارى أو كلهم، وهم يعتقدون أن كل شيء
في هذا العالم جارٍ على سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات، وأن لكل داء دواءً
وأن التخمة وأكل المواد التي يسرع إليها التعفن كالفاكهة والبقول التي لم يحسن
إنضاجها بالطبخ من أسباب استعداد البدن لفتك الهيضة، وأن النظافة والقصد في
الأكل وشرب الماء بعد غليه وتبريده من الأسباب التي تحول دون فتك هذا المرض
في أمعاء الآكلين الشاربين فهم يعملون بذلك، وقد علم بالاختبار أن الوباء فتك
بالفريق الأول دون الثاني {اعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
النبذة السادسة في رد شبهاتهم على القرآن
(الشاهد الحادي عشر) قال المعترض: ومما يقضي بالعجب أن يناقض
القرآن نفسه في القدر الذي هو من الإيمان، وركن مهم من أركان الإسلام فقال:
{لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 3-4) أي: من كل أمر قُدر في تلك السنة كما عليه جمهور المفسرين،
وقال أيضًا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) وهي عندهم ليلة
القدر التي تفصل فيها الأقضية، ويُفْرَقُ أي: يقدر كل أمر يقع ذلك العام من حياة أو
موت أو غير ذلك إلى مثلها من قابل، وهذا يترتب عليه أن أمور الخلق تقدر عامًا
عامًا. لكن ذلك منقوض بقوله في سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي
الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا} (الحديد: 22) أي: إلا
مكتوبة في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله من قبل أن تخلق، وأنت تعلم أن هذا
اللوح قد كُتبت فيه بزعمهم كل الأمور، وقدرت من قبل أن تكون ليلة القدر. وزاد
ذلك إيضاحًا فقال:
{وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الإسراء: 13) أي: ألزمناه عمله
وما قُدر له وعليه منذ ميلاده حتى لزمه لزوم الطوق للعنق. ويترتب على هذا أنه
قُدر على الإنسان دفعة كل ما يعمله في عمره، لا ما يعمله في عامه فقط، وهذا
تناقض بيِّن في أركان الإيمان لا يصح وقوعه في كتاب جميع ما فيه كلام الله.ا. هـ
قوله بحروفه إلا كلمة (أنفسكم) من الآية الكريمة بدلها بنفوسكم فكتبنا الأصل
الصحيح.
ونقول في الجواب: إننا كتبنا كل ما كتبه في تقرير هذه الشبهة، وحسبه ما
كتبه فضيحة ودلالة على سوء القصد، وتعمد التمويه، ولو قلنا: إنه يزعم أن بين
تلك الآيات تناقضًا ولم نذكر ما قرر وشرح به ذلك التناقض لما أفاد القول إلا أنه
جاهل لم يفهم تلك الآيات، وهذا عار عليه أكبر وخلاف الواقع.
أما كونه خلاف الواقع فهو أنه اطَّلع على تفسير الآيات وفهمها، وأما كونه أكبر
عارًا فذاك أن الجهل عار عند جميع الناس من أهل ملته وغيرهم، وأن قومه
يعدونه من كبار الكُتاب والبلغاء، فإذا ظهر لهم أنه لا يفهم هذه الآيات فإنهم يحتقرونه
وينزعون عنه لباس تلك الخصوصية فيكون عاريًا من كل مزيَّة، وليس في سوء
القصد وسلوك السبيل المغالطة في تشكيك عوام المسلمين بدينهم إلا احتقار العقلاء
والفضلاء من جميع الطوائف وأهل الإنصاف من قومه النصارى خاصة، وأما
المتعصبون منهم مثله فإنه ليرضيهم الطعن بالإسلام والمسلمين، وإن جاء صاحبه
بالإفك المبين.
هذه الشبهة لا تحتاج إلى جواب من حيث هي شبهة على القرآن؛ لأن محلها
في زعمه أن بعض الآيات نص في أن أمور الخلق تقدر عامًا فعامًا، وبعضها نص
في أنها تقدر دفعة واحدة، وليس شيء منها كما قال. فقوله تعالى: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) لا يدل على أن أمور الخلق
تقدر عامًا عامًا كما زعم، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان؛ إذ ليس فيها ذكر للتقدير
ولا للسنين والأعوام. وقوله جل وعز: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ..} (الحديد:
22) الآية ليس نصًّا في أمور المخلوقات تقدر دفعة واحدة كما ادعى، وإنما تدل
على أن المصائب في الآفاق وفي الأنفس معلومة قبل وقوعها لله تعالى علم الأمر
المحصي في الكتاب أو هي مكتوبة كتابة تناسب عالم الغيب وتليق به، وليس فيها
أن تلك الكتابة التي ذكرت على سبيل التمثيل أو المجاز أو الحقيقة الغيبية حصلت
دفعة واحدة، أو بالتدريج أو أنها كانت في أول العام، أو قبل خلق الأنام. ولكن
العقل والنقل يدلان على أن علم الله تعالى قديم لا تدريج فيه؛ لأن التدريج لا يكون إلا
في الحوادث، وهو يستلزم الجهل فتعين أن يقال: إن ما يقع من المصائب وغيرها
معلوم لله تعالى في الأزل. فإن أريد بالكتابة العلم الإلهي فظاهر، وإن أريد أن هناك
كتابة فلا شك أنها تكون للملائكة الموكلين بالأعمال الذين جعل الله بهم قوام السنن
العامة، والنواميس الكلية، والذين يسميهم المحجوبون قوى ونواميس طبيعية. وعند
ذلك يصح أن تكون الكتابة في كل عام، ولكن الآية ليست نصًّا في هذا فلا يمكن
الاعتراض عليها بحال. وكذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الإسراء: 13) ليس نصًّا في كون أعمال الإنسان قدرت عليه دفعة واحدة، ولا
منافيًا لكونها تقدر عليه في كل عام كما هو ظاهر، وإنما معناه أن الإنسان رهين
بعمله ومطوق به لا يستطيع أن يتفلت من تبعته لما له في التأثير في نفسه، فإن
الأعمال تطبع الملكات وتكوّن الأخلاق التي هي صفات النفس، فآثارها لازمة
للإنسان لزوم الطوق للعنق، فأين هذا المعنى الظاهر مما زعمه المعترض، وكيف
السبيل إلى القول بتناقضه مع تلك الآية لو فرضنا أنها نص فيما فسرها؟
بقي أن يقال: إن المعترض بنى حكمه على قول المفسرين في ليلة القدر أنها
الليلة المباركة الموصوفة في سورة الدخان بقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) وقد فسر الفرق بالتقدير، وقال جمهورهم بأن المراد تقدير أمور
العام، ونقول في الجواب:
(أولاً) إنَّه قد علم مما شرحناه أن آية الحديد وآية الإسراء لا تناقضان هذا
التفسير؛ لأن المطلق لا ينافي المقيد، ولا يناقضه، ولعلماء الأصول في مقابلة
المطلق بالمقيد قولان:
أحدهما: أن المطلق يجري على إطلاقه، والمقيد يجري على قيده. فلو فرضنا
أن معنى الآيات ما ذكر لما كان من مانع لأن يقال: إن هناك تقديرًا أزليًّا وهو ما في
علم الله الأزلي، وتقديرًا سنويًّا يحدد في كل عام لحكمة من الحكم ككون الملائكة
المدبرات للأعمال والشؤون تجري عليه.
ولا شك أن الملائكة لا يعلمون كل ما في علم الله تعالى، ولا يستطيعون أن
يعلموا كل ذلك، فالله تعالى يُعْلمهم بما تقضي حكمته أن يعلموه. وإذا صح هذا فيشبه
في عالم الشهادة أن الفلكي يكتب تقويمًا للسنة، ثم يستخرج منه في كل شهر تقويمًا
لغرض من الأغراض كسهولة المراجعة مثلاً. ومن الناس من كتب تقويما لألوف
من السنين، فإذا كتب تقاويم أخرى للأعوام عامًا عامًا أو للشهور شهرًا شهرًا وقال
قائل: إن فلانا كتب تقويمًا لخمسة آلاف عام، ثم قال في سياق آخر: إنه كتب
تقويمًا للسنة فهل يقال: إن هذين القولين متناقضان؟ كلا إنما يقول ذلك الجاهل الذي
يفهم معنى التناقض.
وثاني قولي الأصوليين أن المقيد يقيد المطلق كما قالوا في الأمر بإعتاق القاتل
رقبة مؤمنة أنه يقيد أمر الحانث باليمين بإعتاق رقبة لم تقيد بأنها مؤمنة. ومن
أمثلة ذلك أن يكتب المؤرخ أو صاحب الجريدة أن فلانًا صار عالمًا، وألف كتابًا
نفيسًا ثم يكتب في وقت آخر: إن فلانًا قد ألف كتابًا في علم البيان: فيحمل هذا
على ذاك، ويقال: إنه أراد بالكتاب المطلق البيان. والأمثلة من القولين كثيرة
ويختلف الترجيح باختلاف الوقائع والأحوال.
ثم نقول (ثانيًا) : إنه لا يصح للعاقل أن يجعل رأي بعض المفسرين، ولا
جمهورهم حاكمًا على الكلام الذين يفسرونه إذا كان يرى أن الكلام لا يدل عليه،
وظاهر لكل من يعرف العربية أنه لا يوجد في آية من الآيات ما يدل على التقدير
السنوي لا بمنطوق الآيات، ولا بمفهومها، ولكن جرت عادة المفسرين بأن يذكروا في
كل موضوع ما يتعقبه من الآراء أو الأحكام المروية عن السلف وأئمة المذاهب،
مرفوعة أو موقوفة، صحيحة أو ضعيفة كما يذكرون آراء النحاة في إعراب الآيات
فمن يتعلق برأي أو رواية مما يوردونه في التفسير يرى آية أخرى تنافيه فيجعل
هذا شاهدًا على تناقض القرآن نفسه فهو كمن يتعلق برأي من آراء النحاة التي
يوردونها يمنع أو يجيز حكمًا في الإعراب، لا ينطبق ذلك الحكم على آية أخرى غير
التي أوردوه في إعرابها ثم يقول: إن هذه الآية مخالفة لتلك في الإعراب فهي غلط
أو لحن، ما هي بمخالفة إلا لرأي ذلك النحوي!
وبعد هذا كله نقول: إن (القدر) في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} (القدر: 1) معناه: الشرف، وهو المتبادر منه وليس معناه: التقدير، وقد
قدم البيضاوي القول الأول في تفسيره، وذكر الثاني بصفة التمريض (قيل)
ومعنى الشرف فيها ظاهر فإنها الليلة التي بدئ فيها نزول القرآن، فهي شرف للنبي
عليه الصلاة والسلام ولقومه ولجميع المؤمنين كما قال تعالى في القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَّكَ وَلِقَوْمِك} (الزخرف: 44) : أي: شرف لكم. وأي شرف أعظم من هذه
الهداية الإلهية العظمى. وأما قوله تعالى: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن
كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) فمعناه: أنهم يتنزلون من أجل أمر من أمور الوحي لا من
أمور الخلق؛ لأن سياق الكلام فيه لا في التكوين.
وأما قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) - إلى
قوله -: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) فمعناه: أنه أنزل القرآن في
ليلة مباركة، والبركة فيها ظاهرة كما أن الشرف فيها ظاهر فهي ليلة القدر خلافًا
لبعض المفسرين الذين قالوا: إنها ليلة النصف من شعبان، وقوله تعالى: {فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) معناه: أنه يفصل فيها، ويبين كل أمر من
أمور الوحي لا من أمور الخليقة بدليل أن سياق الكلام في إنزال القرآن، وبدليل الآية
التي بعدها وهي: {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (الدخان: 5) فبيَّن أن هذه
الأمور هي التي تختص بإرسال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
واعلم أنه قد ورد في تفسير هذه الآية أن الملائكة تكتب فيها الأقدار، ولكن هذا
ليس منصوصًا في الكتاب العزيز، ولا في الحديث المتواتر، فيكون قطعيًّا والاعتقاد
به محتمًا ولا في الأحاديث المرفوعة الصحيحة الأحادية، فيكون ظنيًّا والاعتقاد به
من الاحتياط، وإنما ورد عن بعض الذين اشتهروا بالتفسير من السلف ورويت
عنهم فيه الموضوعات والأكاذيب حتى قال الإمام أحمد: إنَّه لا يصح في التفسير
شيء، وأقوى ما رُوي في ذلك ما رواه عبد الرزَّاق وغيره عن مجاهد وعكرمة
وقتادة.
وقد علمت أن المعترض قد سقط بشبهته سواء صح ذلك عن هؤلاء المفسرين
أم لم يصح.
{فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: 118-119) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
بيان القرآن وبلاغته
وما يوهم غير ذلك
(س1) الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ القراموص: كيف الجمع بين
قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: 79)، وقوله تعالى:
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} (الكهف: 28) .
(ج) راجعوا ما كتبه الأستاذ الإمام في الجمع بين الآية الأولى، وبين قوله
تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) في الصفحة 157 من مجلد المنار
الثالث.
***
(س2) ومنه: كيف الجمع بين قوله تعالى في أوائل السور: حم، الر،
ن، ق، وقوله:{عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل: 103)، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
الْمُبِينِ} (يوسف: 1)، {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: 28) .. إلخ.
(ج) إنَّ (حم) ونظائرها أسماء للسور على الراجح عند المحققين، ودلالة
الاسم على المسمى بينة لا عوج فيها، وأنتم تعلمون أن:(الأسماء لا تعلَّل) فلا
يقال: لماذا سميت السورة المعلومة (ن) فإن كانت سميت به لذكر الحوت
فيها والنون من أسماء الحوت فلماذا سمي غيرها بأسماء حروف مفردة ومركبة لا
يعرف لها معنى غير تلك الحروف؟ لا يقال هذا؛ لأننا إذا جوزنا أن يقال لقيل في
جميع الأسماء ولذلك قالوا: الأسماء لا تعلل، وأما الذين يقولون بأن لتلك الحروف
إشارات لمعانٍ سامية تعلو أفهام العوام، ولا يعرفها إلا الراسخون من العلماء
الربانيين، فقولهم هذا - إذا صح - لا ينافي أنها أسماء للسور، وأن القرآن مبين
وظاهر يتيسر لكل من يعرف اللغة العربية مفرداتها وأساليبها أن يفهمه ويهتدي به.
ومثال هذا في المحسوسات الأهرام، فإن جميع المؤرخين والقارئين للتاريخ
يعرفون الغرض منها، ثم إن الرياضي منهم يستخرج من مساحة أضلاعها وهيئة
أوضاعها ما لا يعرفه غيره ممن عرف معناها والغرض منها، ولم يعلم أن تلك
الأطوال والعروض وضعت بالمقادير المخصوصة لتدل على مقاييس البلاد في
الزمن الذي بنيت فيه وغير ذلك.
فكل ما يمكن استخراجه من القرآن بطريق معقول فلا ينبغي أن يتوقف في
قبوله؛ لأنه لم يهتدِِ إليه إلا بعض الخواص. وأما الذي لا يقبل فهو ما كانت دلالته
على معناه غير وضعية ولا عقلية كاستخراج المعاني من هذه الحروف بالعدد الذي
يسمونه حساب الجُمل. وهذا المعنى الذي قلناه ظاهر عند أهله في العلوم العالية
المشروحة في القرآن وأعني العلوم الإلهية والغيبية فإن آياتها ظاهرة للعارف باللغة
فهي في غاية البيان ووراءها معانٍ أخرى يعرفها بعض الخواص، وهي توافق
المعاني الظاهرة، وتزيد عليها بما لا يخالفها ولكنه يَدِقُّ عن أفهام العامة. وهذا
ضرب من ضروب إعجاز القرآن لعلنا نوفق لشرحه في وقت آخر. نعم إن كون
القرآن مبينًا لا يمكن أن يجامع القول بالتقليد الذي يزعم أهله أن الكتاب والسنة
المبينة له لم يفهمها إلا نفر ماتوا، ولا يمكن أن يوجد بعدهم من يفهمهما!
***
(س3) ومنه: أن كثيرًا من المسيحيين لهم القدح المعلَّى في اللغة والبلاغة
ومع ذلك لم يعترف بإعجاز القرآن مع ما فيه من أسرار البلاغة وضروب
الأحكام والحكم وبديع المعاني والبيان، مما جعل عرب زمن التنزيل في دهشة منه
واعترفوا بإعجازه، ومن كفر فإنما كفر عن حسد وعناد. ومع ذلك ترى هذا المسيحي
الأديب الفصيح متمسكًا بالنصرانية فيقول: لا ريب أن المسيح عليه السلام الإله
وإنسان، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود، ورب وعبد، ومخلِّص
ومصلوب، وبارّ وملعون [1] وآب وابن وروح قدس، فهو ثلاثة حقيقة وواحد
حقيقة، إلى غير ذلك من ضروب المتناقضات فهل لذلك من سبب؟ ثم هو ينظر
إلى الكتاب المقدس نظر المَغْشِي عليه، فيغض الطرف عن تناقضه واختلافه
وانقطاع إسناده ومخالفته لصريح العقل ومقبول النقل وفساد آدابه، ثم يفتح عينيه
لانتقاد القرآن الحكيم فيأتي بالمضحك والمبكي المحزن للإنسانية والفضيلة والعدل
والحرية في القول والعمل، فهل لذلك من سبب أيضًا؟
(ج) السبب في هذا وذاك أن مَن ذكرتم قد اتخذوا الدين جنسية ورابطة
اجتماعية سياسية، فهم يحافظون على العقائد والتقاليد والعادات المِلية التي تربطهم
بعامة أهل ملتهم؛ إذ لو أهملوها لانحلت جامعتهم وصاروا بغير أمة وغير ملة.
ولم ينظروا في الإسلام نظر إنصاف فيفهموه من أصوله؛ لأن المسلمين الذين اتخذوا
الدين جنسية أيضًا قد عادوهم عداوة لم يأذن بها الإسلام فكانت هذه المعاداة سببًا في
بحث كل فريق عن عيوب الآخر فقط، لا عن حقيقة ما عنده. وأنتم تعلمون أن
البدع والمنكرات الفاشية في المسلمين كافية لأن تكون حجابًا دون محاسن الإسلام
حتى تحجبَ العاقل المنصف، بله المعاند المتعسف، فالعارفون بفنون البلاغة من
النصارى قلما ينظرون في القرآن نظر إنصاف، ومن نظر ولاح له أنه معجز فإن
العداوة الجنسية تمنعه من قول الحق لا سيّما إذا كان يرى أن كون القرآن معجزًا
ببلاغته لا يدل على كونه منزلاً من عند الله تعالى، وجلهم أو كلهم يرون ذلك. وقد
وجد من أهل العلم والإنصاف منهم من صرح بأن القرآن قد بلغ حد الإعجاز في
بلاغته، كالمعلم جبر أفندي ضومط أستاذ البلاغة في المدرسة الكلية الأمريكانية في
بيروت، فإنه قد صرّح بذلك في فاتحة كتابه (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) .
هذا، وقد علمنا بالاختبار أن أكثر المتعلمين العقلاء من النصارى لا يعتقدون
بالتثليث، ولا بشيء من الخرافات المعروفة عند قومهم، بل منهم المتطرفون الذين لا
يعتقدون إلا بالمحسوسات والبديهيات المعقولة، ولو أن المسلمين الذين يعيش معهم
هؤلاء النصارى أهل نظر وبرهان، واطلاع على علوم هذا الزمان، لا أهل تقليد
للأموات، وتسليم بالخرافات، وكانوا يعاملونهم بالإنصاف، ويجادلونهم بالتي هي
أحسن - لرأيت كثيرين منهم دخلوا في الإسلام، ولرأيت من لم يدخل فيه يعترف
بفضله ولا يعاديه، وإنني أرى أننا أحوج إلى حسن معاملتهم والقسط إليهم في هذا
العصر منا إلى ذلك العصور السابقة، وأن هذا خير لنا ولهم في الدين والدنيا فعسى
أن يوجد في عقلاء المسلمين كثيرون يسعون في هذه السبيل.
***
(س4) محمد أفندي عمر السمان بمصر: اختلف المفسرون في تفسير
آيات القرآن الشريف اختلافات شتّى، وبين كل واحد لها معنى قلما يتفق مع الآخر
وأغلبهم من علماء العربية بأسرارها ودقائقها، فما معنى بلاغة القرآن مع انبهام
معانيه حتى على الخاصة الذين هم أولى الناس بفهمه، وهل يعد كلام بليغًا إذا انبهم
معناه على سامعيه، واختلفوا في فهم المراد من طرائق شتى؟ نرجو أن تفيدوا
في مناركم الوضاح جواب هذا السؤال بعبارة يفهم كل القراء معناها، ولا يخفى
على الخاصة منهم مغزاها ولكم الفضل.
(ج) نقول قبل كل شيء: إن السائل قد غلا في تقرير الخلاف في فهم
الآيات حتى زعم أن الاتفاق بين المفسرين العارفين بأسرار العربية قليل، والصواب
أن الخلاف بين المحققين العارفين هو القليل، وأن الأكثر متفق عليه، ثم إن الجواب
يتجلى في مسائل نذكرها بالاختصار فنقول:
(1)
إنَّ الغرض من البلاغة أن يبلغ المتكلم ما يريد من نفس المخاطب
وهو الفهم والتأثير، وقد بلغ القرآن من نفوس من دعوا به إلى الإسلام مبلغًا لم يعهد
مثله لكلام آخر عربي ولا عجمي، وما ذلك إلا أنهم فهموا معانيه بدلائلها وبراهينها
وتأثروا بحِكَمه ومواعظه حتى تركوا عقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم التي كانوا
يفاخرون بها، وأُنشِئوا خلقًا جديدًا، وحتى كان المشاغبون المعاندون منهم لم
يروا وسيلة للتخلص من تأثيره إلا بالإعراض عن سماعه، واللغو واللغط عند تلاوته
حتى لا يصل منه شيء إلى نفوسهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ولم ينقل عن
العرب من آمن منهم، ومن لم يؤمن أنهم اختلفوا في فهمه كما اختلف من بعدهم وإنما
كان الراسخون في العلم كالخلفاء لا سيما رابعهم، وكالعبادلة فهم أعلى من فهم سائر
الناس كما فهم ابن عباس من سورة النصر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد دنا أجله،
وأن قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} (النصر: 3) نعي له وأقرّه النبي
على ذلك. ولا شك أن سائر الصحابة قد فهموا معنى السورة كما فهمها ابن عباس،
وهي على بلاغتها، وهذا الفهم الجديد من ابن عباس مزيد في البلاغة ودليل على
أن لها مراتب متفاوتة، ولا يمكن أن يكون الناس المتفاوتون في فهم كل شيء، والعلم
به يتفقون في فهم القرآن، والعلم به وهو أعلى كلام وأجمعه للمعارف العالية الإلهية
والنفسية والشرعية (راجع جواب السؤال الثاني) .
(2)
إنَّ علماء اللغة والبلاغة اختلفوا في فهم كل كلام بليغ غير القرآن
كالمعلقات السبع وغيرها مما يؤثَر عن البلغاء في الجاهلية والإسلام، فلو كان
اختلاف الأفهام في الكلام ينافي بلاغته لما كان لنا أن نقول إن في الكلام بليغًا إلا
بعض الجمل البديهية من العامة الجهلاء كقولهم: أكلت رغيفًا وشربت كوزًا من
الماء، وقد يختلفون في فهم ما عدا البديهي من كلام العامي كما يختلفون في فهم
البديهي من كلام العالم بحمله على الكناية أو المجاز. وإذا قرأت القرآن على عامي
عرف العربية ولو ممزوجة باللحن والدخيل، وأنشدته قصيدة من شعر امرئ القيس
أبلغ شعراء العرب لرأيته فهم من القرآن ما لم يفهم من القصيدة، وكان للقرآن في
نفسه الأثر الذي ليس للقصيدة ما يدانيه، ومن هنا تعلم أن بيان القرآن عجيب،
وأن لكل من يعرف العربية منه نصيب:
ولكن تأخذ الأذهان منه
…
على قدر القرائح والفهوم
(3)
إنَّ أكثر ما تعهد من الخلاف في التفسير سببه أن المتخلفين لم يحاولوا
فهم القرآن بذاته، وإنما حاولوا تطبيقه على مذاهبهم في النحو والبلاغة والكلام والفقه
حتى كأن مذاهبهم هي الأصل الثابت، ولا بد من تطبيق القرآن عليه، ولو حاولوا
فهمه بذاته، وأعدوا له مزاولة أساليب اللغة، ومعرفة متنها والاطلاع على السنة من
غير تقيد بمذهب مخصوص؛ لأن القرآن فوق المذاهب والآراء - لكان خلافهم أقل
ووفاقهم أكثر، ولكان رجوع أحد المختلفين إلى الوفاق بعد النظر في دليل الآخر قريبًا،
فالتقليد في الدين وفي قوانين اللغة هو منشأ البلاء الأعظم في الخلاف. وله
أسباب أخرى مفصلة في كتاب (الإنصاف في أسباب الخلاف) وهو كتاب نفيس
يطلب من إدارة المنار، وثمنه 3 قروش، وأجرة البريد نصف قرش.
فعلم ما قلناه أن الخلاف دون ما قال السائل، وأنه لا ينافي البلاغة قل أو أكثر.
ولو كان الخلاف في الكلام هل هو صحيح أو غير صحيح، وهل هو بليغ أو غير
بليغ، وكان كل ذي قول يورد الأدلة على تأييد رأيه لكان للجاهل أن يشك في
بلاغته؛ لأنه علم أن أهل الشأن اختلفوا فيها، وهو غير قادر على الترجيح. والأمر
في القرآن على غير ذلك، فقد أجمع بُلغاء العرب - من آمن منهم ومن لم
يؤمن - على إعجازه، وكذلك العلماء بالعربية الذين أخذوها بالصناعة، فلم يبق
للجاهل عذر بعد العلم بأن هذه مسألة لا نزاع فيها عند العارفين بهذا الشأن، والله
أعلم.
_________
(1)
في التوراة: ملعون كل من يُصلب على خشبة، ويزعم النصارى أن المسيح قبِل اللعنة لأجل خلاص الناس.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مضار تربية النساء الاستقلالية
كتبنا من قبل في بيان مضار استقلال النساء بتربيتهن كتربية الرجال
وإقناعهن بأنهن مساويات لهم من كل وجه، فإن هذا أمر مخالف لسنن الفطرة التي
بينها دين الفطرة في كتابه السماوي فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) أي: أن المساواة بين الزوجين واجبة
في الحقوق مع حفظ حق سيادة المنزل للرجل. وقد أوردنا الشواهد والأمثلة عن
أهل أوروبا لا سيما نساء الإنكليز على وجوب جعل المرأة تحت سيادة الرجل
وعلى كون التربية عندهم صارت تعارض ذلك. وقد رأينا عنهن شاهدًا جديدًا في
هذه الأيام، وهي أن النساء الكاتبات الفاضلات اللواتي تربين وتعلمن في هذا العصر
طفقن يكتبن في الجرائد منتقدات شاكيات من تربية بناتهن تربية جعلت همهن
محصورًا في الزينة والولوع بصرف الأوقات في المنتزهات، حتى صار يثقل
عليهن مساعدة أمهاتهن في تدبير المنزل! وقد نقل المقطم نبذة من ذلك إلى العربية
عنوانها (حرب سجال) نوردها ها هنا تأييدًا لقولنا وهي:
في إنكلترا الآن حرب أقلام ثار عجاجها على صفحات الجرائد الإنكليزية بين
الأمهات وبناتهن، ورُب قلم أحدّ من السنان وأمضى من الحسام. وقد كانت الأمهات
البادئات بالعداء فإن أمًّا منهن رأت من بناتها تقصيرًا في قضاء الواجبات المنزلية
المفروضة عليهن وميلاً إلى عصيان كل أمر تصدره إليهن، فهالها طغيانهن وتهاملهن
وضاقت ذرعًا عن كبح جماحهن، فاستغاثت بالجرائد وبعثت برسالة إلى إحدى
الجرائد المشهورة بإمضاء (أم خائبة الأمل) ! وهذا نصها بعد الديباجة:
أريد أن أعلم آراء قراء جريدتكم في هذه المسألة. فإن لي ثلاث بنات عمر
الصغرى منهن 17، والكبرى 21، وقد تعلمن في مدارس معروفة، وأكملن
دروسهن ولَزِمْنَ البيت. وزوجي متقلد منصبًا حسنًا فلا حاجة بهن إلى احتراف
حرفة يرتزقن منها. ولكن أملي بهن خاب لما يبدين من الميل إلى الحرية
والاستقلال فبدلاً من أن يساعدنني ويتفكرن فيَّ تراهن لا يتفكرن في غير أنفسهن
وملاذهن كالألعاب الرياضية وغيرها مما هو خارج عن دائرة الأشغال المنزلية،
ويكرهن البقاء في المنزل أيام استقبال الزائرين ورد الزيارات معي قائلات: إن ذلك
من قبيل إضاعة الوقت، وهن يسخرن بأذواقي، ويعددنها أذواقًا قديمة ليست
حسب الأذواق الحديثة، ولا يزلن يتعلمن الموسيقى إلى الآن فيقضين نصف
النهار في التمرن عليها.
(هذا وإني لست أريد معارضتهن في كل شيء، ولكني أريد أن أعلم إنْ كانت
بنات الناس كذلك، ومما لم أستحسنه فيهن استعمالهن كلمات زقاقية وعبارات اللغو
والمبالغة في حديثهن. فهل توافقني سائر الأمهات على أن هذه هي (مُودَة) هذا
الزمان) .
وكأن هذه الرسالة جرَّأت الأمهات على ما لم يجترئن عليه قبلها فبعثن
بالرسائل تباعًا إلى إدارة الجريدة يشكون أمورًا كثيرة يأتيها بناتهن مما ينكرنه
عليهن، فنذكر بعضًا للتفكُّه:
قالت إحداهن: (إني أوافق على كل ما قالته صاحبة الرسالة بإمضاء) الأم
الخائبة الأمل (فإننا كلنا في الهوى سوى) وأن للبنات حرية زائدة هذه الأيام في
العمل والكلام، فإذا قاطعتهن انتقمن لأنفسهن برد جوابات فيها ما فيها من الصلف
والوقاحة. وهذا اختبار أم أخرى خاب أملها) .
وقالت غيرها: (أخشى أن ما تشعر به (الأم الخائبة الأمل) يكون مطابقًا
لشعور الأمهات في جميع العالم، وهو دليل على انحطاط الشعور القديم من نحو
العائلة، وانتشار (المودة) الجديدة، وهذا آفة على التهذيب القديم الذي كان أمهاتنا
يعتقدن بقوة تأثيره فينا) .
وقالت أخرى: إني أشارك الأم الخائبة الأمل في ما تراه وتشعر به، وأقول: إن
تمرد البنات شر متفاقم تشعر الأمهات بضرره الشديد. فإن الأمهات حاولن تربية
بناتهن على مثل ما ربين عليه أيام كانت الحشمة الحقيقية ناتجة عن رقة الشعور
واحترام الآخرين. ولكن تلك الأفكار أمست قديمة مبتذلة الآن فبات البنات لا
يحترمن أمهاتهن ولا يخضعن لهن. بل يفعلن ما يردن غير مكترثات لآراء والديهن،
فما هي نتيجة ذلك يا تُرى؟ وكيف تربي أولئك البنات أولادهن متى تزوجن؟
هذا مثال الرسائل التي أرسلها الأمهات يعترضن فيها على سلوك بناتهن
ووافقهن أخ أرسل رسالة بإمضاء (أخ مشمئز) قال فيها: (إن هذا العصر هو ما
يسمونه عصر (التقدم) و (تساوي الجنسين) وغير ذلك من الأسماء فكانت
نتيجته (المرأة الجديدة) التي نراها الآن بعيوبها الكثيرة!
وما كادت هذه الرسائل تُنشر حتى استشاطت البنات حنقًا، وأرسلن الرسائل
تترى إلى الجريدة المذكورة جوابًا على شكاوى الأمهات، ونصرهن بعض الآباء
والأمهات كما سيأتي. وهاك أجوبة بعض البنات:
قالت إحداهن بإمضاء (ابنة مضطربة) :
(أنا ابنة مدركة سن الرشد وأحوالي على ما وصفت (الأم الخائبة الأمل)
في رسالتها، ولا شيء يسرني مثل مساعدة والدتي على تدبير المنزل، وتخليصها من
همومه الكثيرة، ولكنها لا تعتمد عليَّ في عمل من أقل الأعمال؛ لأنها تعتقد أن لا أحد
يحسن عملاً إلا إذا كانت يدها فيه وهي تراقب عمله. وعليه عدلت عن الاهتمام
بتخليصها من عناء الأشغال والأعمال المنزلية لأني وجدت الاهتمام يضيع سدى.
فكيف تؤمل الأمهات أن تثق بناتهن بهن ما دمن لا يثقن ببناتهن، وهل يستغرب من
البنات الاهتمام بما هو خارج البيت إذا كُنَّ لا يجدن فيه من يهتم بهن ويعطف
عليهن) .
وكتبت بنت كتابًا طويلاً بالأصالة عن نفسها والنيابة عن أخواتها قالت فيه ما
ملخصه:
إن معظم بنات هذه الأيام يقضين عدة سنوات في المدارس يلعبن فيها ألعابًا
مختلفة لترويض أجسادهن، ومتى خرجن منها ودخلن البيت ينتظر أمهاتنا منا أن
نكون رفيقاتهن، وأن لا نعمل عملاً سوى الاهتمام بشئون المنزل، فشتان ما
بين جلوسنا في غرفة الاستقبال نسمع انتحاب أمهاتنا وزائراتهن من فساد أمر البنات
في هذا الزمان، وحديثهن الدائم عن الخدمة والخادمات، وبين التنزه على ضفة
النهر أو لعب الألعاب الرياضية، ولسنا نقصد أن نكون محبات لأنفسنا ونقضي العمر
بالتمتع بنعيم هذه الحياة فقط، بل إننا ندخل البيوت مشتاقات إلى مساعدة أمهاتنا
مستعدات لتعلم الأعمال والأشغال البيتية، ولكننا نريد أن نقوم بالواجب علينا على
الطريقة التي نحبها ونهواها. فكل يوم نرى شيئًا جديدًا نحب اقتباسه وإدخاله إلى
منزلنا، ولكن أمهاتنا يعارضننا بدلاً من أن يوافقننا على أذواقنا قائلات: إن العجب لا
يعجبنا وإننا لا نستحسن شيئًا في البيت، بل نجد عيبًا في كل شيء، ونرى منازل
الآخرين أحسن من منازلنا.
مثال ذلك أن أكثر البنات مولعات بترتيب الأزهار التي تُوضَع على مائدة
الطعام وفي غرف الاستقبال، فيرتبنها وينظمنها على أذواقهن، ولكن أمهاتهن
يغتنمن فرصة غيابهن ويقحمن بين تلك الأزهار الجميلة المتناسقة أزهارًا ذات
ألوان لا توافق الذوق السليم فيضيع تعب البنات سدى!
وأكثرنا ينتظر بسرور مجيء اليوم الذي نصبح فيه ربات منازل مستقلة فتكثر
همومنا ومشاغلنا، ويأتي دورنا للزيارات وردها فلماذا هذه العجلة الآن؟
أما الأمهات اللواتي انتصرن لبناتهن فمنهن أم كتبت كتابًا بإمضاء (أم
مسرورة شكورة) قالت فيه:
(لما قرأت كتاب (الأم الخائبة الأمل) حزنت عليها فقد مرت بي سِنُو هَمٍّ
وشقاءٍ من شراسة زوجي، ولكن بنتي كانت تعزيتي وقوتي على احتمال مصيبتي وقد
عرض كثيرون من الأصدقاء والأقارب أن يأخذوها معهم في أسفارهم للتنزه
ومشاهدة هذا العالم، واتهموني بحب الذات؛ لأني لا أسمح لها بالابتعاد عني،
ولكنني أؤكد لكم أنني لم أجبرها على عمل شيء، بل تركتها تفعل ما تشاء) .
ومنهن أم كتبت رسالة بإمضاء (أم راضية) قالت فيها: (إن لي أربع بنات
لا يتأخرن عن مساعدتي حينما أشاء، ولكنني لا أطلب منهن الشيء الكثير؛
لأن للشباب مطالب لا يصح الإغضاء عنها، فبعض الأمهات يطلبن من بناتهن
أمورًا كثيرة، وقلما يخطر ببالهن أن الألعاب والملاهي لازمة لهن وعندي أنَّه يكفي
البنات أن يشتغلن بجمع الأزهار وتنسيقها وترتيبها ونفض أثاث البيت من الغبار
إلا إذا اضطرت الحال إلى أكثر من ذلك) .
أما الأب الذي انتصر للبنات فقد عدل في حكمه، ولم يجُر فاعترف بإهمال
البنات وتطرفهن، ولكنه نسب ذلك إلى إهمال الأمهات حيث قال:
(لو عرفت الأم الخائبة الأمل كيف تعلم بناتها عمل الواجب عليهن لما
احتاجت إلى كتابة رسالتها، فإن البنات يربين هذه الأيام تربية مطلقة من كل قيد
ويعطين كل ما تشتهيه نفوسهن، فينكر الوالدون أنفسهم حبًّا بهن، ولكنهن لا يفهمن
معنى إنكار النفس فيشببن وقد تعودن طلب كل شيء بالأمر والنهي كأن لهن حقًّا
شرعيًّا فيه بدلاً من أن يطلبنه طلبهن للمعروف. فأي حق لفتاة سنها 17 سنة في
الاعتراض على شيء من الأشياء، إنما يجب عليها أن تفعل ما يطلب منها، وأما
الألعاب فإذا رأى الوالدون أقل ضرر منها لم يصعب عليهم منع أولادهم من لعبها
بالامتناع عن إعطائهم الدراهم لمشترى لوازمها، ويحسن بهم أن يهدوا تلك الألعاب
إلى ذوي السلوك الحسن من أولادهم ويعوِّدوهم أن يحصلوا عليها بتعبهم بدلاً من أن
يأخذوها كأنها حق طبيعي من حقوقهم) . اهـ المراد، وبقي في المقطم قول
لبعض الشعراء أهملناه.
(المنار)
يجب أن تربَّى البنت لتكون زوجة، ويجب أن تكون زوجة لتكون أمًّا
وهي لا تكون زوجة إلا إذا أراد الرجل، ومن مصلحة الرجل أن تكون زوجته
أمًّا، ولا تصلح أن تكون أمًّا إلا إذا تربت على الأعمال المنزلية وتربية الأطفال
والمدرسة الطبيعية التي تربيها وتعلمها أعمال الأمهات هي بيت أبيها الذي تدبر
أعماله أمها. فالبنت التي ترى الحرية والاستقلال يبيحان لها ترك البيت وصرف
الأوقات في الملاهي والمنتزهات ومخالفة والدتها في ما تأمرها به بلسان المقال أو
بلسان الحال من القيام بالأمور المنزلية هي كالتلميذ الذي يستبيح أن يترك المدرسة إذا
شاء، ويتعلم فيها ما شاء ويعصي ناظرها وأساتذتها متى شاء، فمن يقول: إن هذا
التلميذ يفلح في اتباع هواه، فليقل: إن تلك البنت تفلح في اتباع هواها.
غلط الإفرنج في محاولة جعل النساء كالرجال في تمام الاستقلال، ومغبة غلط
الأمم لا تظهر إلا بعد زمن طويل، وها هو قد نجمت نواجمه في قلة النسل، وفي
إهمال النساء والبنات البيوت إهمالاً يفسد شأنها، وفي كثرة طلب الطلاق، وفي قلة
التزوج والاستغناء عنه بالفسق. ومن أعجب أنواع هذا الظهور شكوى الأمهات من
البنات مع شدة حبهن لهن وعنايتهن برفاهتهن وراحتهن، ومع مبالغتهن في إظهار
محاسنهن وإخفاء مساويهن. ولا بد أن تحمل هذه المضرات القوم على تدارك الأمر
والاجتهاد في جعل البنت تحت سيطرة أمها وأبيها في البيت ليكون ذلك مقدمة
لسيطرة زوجها عليها من غير أن يثقل ذلك عليها.
أما ما قرأت من مدح بعد الأمهات لبناتهن فهو موافق لانتقاد الشاكيات من
الحرية وتمام الاستقلال. هكذا تظهر الحوادث بعد تجارب القرون أن تهذيب القرآن
وتعليمه فوق كل تهذيب وتعليم، وما ذلك إلا لأنه تنزيل من لدن حكيم عليم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من دلائل الإعجاز
قال المصنف في سياق إثبات أن البلاغة والفصاحة للنظم لا للكلم المفردة ما
نصه:
وهذه جملة من وصفهم الشعر وعمله وإدلالهم به:
(أبو حية النُّمَيْري)
إن القصائد قد علمن بأنني
…
صنع اللسان بهن لا أتنحل [1]
وإذا ابتدأت عروض نسج ريض
…
جعلت تذل لما أريد وتسهل [2]
حتى تطاوعني ولو يرتاضها
…
غيري لحاول صعبة لا تقبل
(تميم بن مقبل)
إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى
…
لها قائلاً بعدي أطبّ وأشعرا
وأكثر بيتًا سائرًا ضربت له
…
حزون جبال الشعر حتى تيسرا
أغر غريبًا يمسح الناس وجهه
…
كما تمسح الأيدي الأغر المشهرا
(عدي بن الرقاع)
وقصيدة قد بت أجمع بينها
…
حتى أقوّم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته
…
حتى يقيم ثِقافه منآدها [3]
(كعب بن زهير)
فمَن للقوافي شانها من يحوكها
…
إذا ما توى كعب وفوّز جرول [4]
يقومها حتى تلين متونها
…
فيقصر عنها كل ما يتمثل
(بشار)
عميت جنينًا والذكاء من العمى
…
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاص ضياء العين للعلم رافدًا
…
لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه
…
بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا [5]
(وله)
زور ملوك عليه أبهة
…
يغرف من شعره ومن خطبه [6]
لله ما راح في جوانحه
…
من لؤلؤ لا ينام عن طلبه
يخرج من فيه للنديّ كما
…
يخرج ضوء السراج من لهبه [7]
(أبو شريح العمير)
فان أهلك فقد أبقيت بعدي
…
قوافي تعجب المتمثلينا
لذيذات المقاطع محكمات
…
لو أن الشعر يُلبَس لارتدينا
(الفرزدق)
بلغن الشمس حين تكون شرقًا
…
ومسقط قرنها من حيث غابا
بكل ثنية وبكل ثغر
…
غرائبهن تنتسب انتسابا [8]
(ابن ميادة)
فجرنا ينابيع الكلام وبحره
…
فأصبح فيه ذو الرواية يسبح
وما الشعر إلا شعر قيس وخِندف
…
وشعر سواهم كلفة وتملُّح
وقال عقال بن هشام القيني يرد عليه:
ألا بلغ الرماح نقض مقالة
…
بها خطل الرماح أو كان يمزحُ
لقد خرق الحي اليمانون قبلهم
…
بحور الكلام تستقي وهي طفحُ
وهم علموا من بعدهم فتعلموا
…
وهم أعربوا هذا الكلام وأوضحوا
فللسابقين الفضل لا تجحدونه
…
وليس لمسبوق عليهم تبجحُ
(أبو تمام)
كشفت قناع الشعر عن حر وجهه
…
وطيرته عن وكره وهو واقع
بغر يراها من يراها بسمعه
…
ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسع
يود ودادًا أن أعضاء جسمه
…
إذا أنشدت شوقًا إليها مسامع
(وله)
حذّاء تملأ كل أذن حكمة
…
وبلاغة وتدر كل وريد
كالدر والمرجان ألف نظمه
…
بالشذر في عنق الفتاة الرود
كشقيقة البرد المنمم وشيه
…
في أرض مهرة أو بلاد تزيد
يعطي بها البشرى الكريم ويرتدي
…
بردائها في المحفل المشهود
بشرى الغني أبي البنات تتابعت
…
بشراؤه بالفارس المولود
(وله)
جاءتك من نظم اللسان قلادة
…
سمطان فيها اللؤلؤ المكنون
أحذاكها صنع الضمير يمده
…
جفر إذا نضب الكلام معين [9]
أخذ لفظ الصنع من قول أبي حية:
…
...
…
... .. بأنني
…
صنع اللسان لا أتنحل
ونقله إلى الضمير وقد جعل حسان أيضًا اللسان صنعًا وذلك في قوله:
أهدى لهم مِدَحًا قلب مؤازره
…
فيما أحب لسان حائك صنع
ولأبي تمام:
إليك أرحنا عازب الشعر بعدما
…
تمهل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها
…
من المجد فهي الآن غير غرائب
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت
…
حياضك منه في السنين الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
…
سحائب منه أعقبت بسحائب
(البحتري)
ألست الموالي فيك نظم قصائد
…
هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما
ثناء كان الروض منه منورًا
…
ضحى وكان الوشي منه منمنما
(وله)
أحسنْ أبا حسن بالشعر إذ جعلت
…
عليك أنجمه بالمدح تنتشر
فقد أتتك القوافي غب فائدة
…
كما تفتح غب الوابل الزهر
(وله)
إليك القوافي نازعات قواصد
…
يسير ضاحي وشيها وينمنم [10]
ومشرقة في النظم غر يزينها
…
بهاءً وحسنًا أنها لك تنظم [11]
(وله)
بمنقوشة نقش الدنانير يُنتقى
…
لها اللفظ مختارًا كما ينتقى التبر
(وله)
أيذهب هذا الدهر لم ير موضعي
…
ولم يدرِ ما مقدار حلي ولا عقدي
ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد
…
يبيع ثمينات المكارم والمجدِ
سوائر شعر جامع بِدَد العلى
…
تعلقن من قبلي وأتعبن مَن بعدي
يقدر فيها صانع متعمل
…
لأحكامها تقدير داود في السرد
(وله)
لله يسهر في مديحك ليله
…
متململاً وتنام دون ثوابه
يقظان ينتحل الكلام كأنه
…
جيش يريد أن يلقى به
فأتى به كالسيف رقرق صيقل
…
ما بين قائم سِنخه وذبابه [12]
ومن نادر وصفه للبلاغة قوله:
في نظام من البلاغة ما شك م امرؤ أنه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضاحك
…
في رونق الربيع الجديد
مشرق في جوانب السمع مايخـ
…
ـلقه عوده على المستعيد
حجج تخرس الألد بألفا
…
ظ فرادى كالجوهر المعدود
ومعانٍ لو فصَّلتها القوافي
…
هجنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارًا
…
وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركـ
…
ـن به غاية المراد البعيد
كالعذارى غدون في الحلل الصفـ
…
ـر إذا رحن في الخطوط السود
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
يقال لمن سرق شعر غيره: تنحله وانتحله.
(2)
العروض: الناقة التي لم ترض وعروض الشعر معروف والريِّض بتشديد الياء المكسورة الدابة أول ما تراض وهي صعبة يستوي فيه المذكر والمؤنث.
(3)
المثقف بكسر القاف المشددة: مقوم الرماح والثقاف بالكسر: آلته الخشبية التي يثقف بها والمنآد: المائل المنحني والسناد في البيت الأول: عيب القافية قبل الروي.
(4)
شانها: عابها وتوى: هلك، وفوّز: مات، وجرول: لقب الحُطيئة الشاعر الهجَّاء، وجملة:(شانها مَن يحوكها) دعاء.
(5)
أحزن: صار في الحزَن وهو بالفتح ضد السهل، وأسهل ضد أحزن.
(6)
الزور: الزائر يستوى فيه المذكر والمؤنث والمفرد وغيره لأنه مصدر في الأصل.
(7)
الندي كالنادي: مجلس القوم للحديث نهارًا.
(8)
الثنية: واحدة الثنايا وهي الأسنان الأربع وطريق العقبة والثغر: الفم أو الأسنان في منابتها وكل فرجة في جبل أو بطن واد وطريق مسلوك ثغر يقول: إن قوافيه طافت الخافقين فبلغت مطلع الشمس ومغربها ولم تدَع طريقًا في عقبة أو جبل إلا سلكته، ولا واديًا إلا هبطته، فأي مكان أشرفت عليه رأيتها فيه تنتسب إليه، أو يقول: إن كل فم ينشدها، وكل ثغر يتزين بالتمثل بها، ويريد من الثغر الفم.
(9)
أحذاكها: أعطاكها والجفر: البئر.
(10)
يسير: يجعل كوشي السيراء وهي ضرب من الحلل.
(11)
وفي نسخة: يزيدها بدل يزينها.
(12)
سِنخ السيف بالكسر: طرف سيلانه والسيلان بالكسر: ما يدخل منه في القراب، وذبابه: حده الذي يضرب به.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الاحتفال بتذكار عيد الجلوس السلطاني)
في يوم الثلاثاء الماضي زُينت حديقة الأزبكية احتفالاً بتذكار جلوس مولانا
السلطان عبد الحميد خان على عرش السلطنة العثمانية - أيدها الله تعالى - وكان
رئيس لجنة الاحتفال أحمد باشا المنشاوي، وقد أذاعت الجرائد بأن المال الذي
يُجمع لأجل الاحتفال ينفق منه على الزينة، ويصرف ما بقي منه إلى إعانة سكة
الحجاز، فأقبل الناس على البذل، وعلى شراء ورق الدخول في الحديقة، وتبرع
إسكندر أفندي فرح - صاحب جوقة التمثيل العربي - بأن يمثل في الحديقة رواية
صلاح الدين مجانًا، وتبرع كذلك الحاج حسن النوتي، الذي تولى إقامة معالم
الزينة بنصف الأجرة؛ لهذا ولقلة العناية بالزينة يُرجى أن يكون ما بقي من المال
لإعانة السكة عظيمًا جدًّا - فإن الجمعية الخيرية الإسلامية تنفق أضعاف ما أنفقت
اللجنة على زينتها، ويبقى لها من الربح زيادة عن ألف ومئين من الجنيهات في كل
عام.
* * *
(الأستاذ الإمام في أوربا)
يسافر أكثر أمراء المصريين وكبار الموظفين منهم كل عام إلى أوربا
مصطافين، فيقضون أشهر الصيف هناك في لهو ولعب وتمتع باللذَّات، وخيرهم من
يسافر لغرض صحيح كترويض جسمه بالاستحمام في الحمامات المعدنية وصعود
الجبال، أو لاختبار يفيده في صناعته التي بها قوام منافعه الشخصية، ولم نسمع عن
أحد منهم أنه سافر لاختبار حال التربية والتعليم في تلك البلاد التي أجمع علماؤها
وعقلاؤها على أنهم ما سادوا الأمم إلا بالتربية والتعليم، والاستفادة من ذلك
لتكميل نفسه والاستعانة على نفع قومه إلا الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية فإنه
قد سافر من قبل غير مرة لتعلُّم أفصح لغات القوم (الفرنسية) فتعلمها، وأحسنها،
ووقف بها على أهم معارفهم التي تعينه على ترقية أمته. وقد وّلَّى وجهه في
هذه السنة شطر المدارس الكلية التي يتخرج فيها كبار الرجال ليختبر شؤونها حتى
إذا حقق الله تعالى رجاءه بإيجاد مدرسة جامعة في هذه البلاد يكون على بصيرة
في كيفية تأسيسها ونظامها كما يرشد إليه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) وكما قال
الشاعر:
قد سلك الطريق ثم عادا
…
ليخبر القوم بما استفادا
وقد سبق له رؤية المدارس الفرنسية العالية، وكان في بعض أسفاره قد أخذ إذنًا
من ناظر معارف فرنسا بأن يزور أي معهد من معاهد العلم في أي وقت شاء. ولما
كانت التربية ونظام التعليم في البلاد الإنكليزية مفضَّلين عند علماء هذا الشأن من
الفرنسيين على مثلهما في سائر الممالك الأوربية سافر في هذه السنة لزيارة أعظم
مدارس هذه الدولة العظيمة، وأعظمها كلية أكسفورد وكلية كمبردج.
وقد ذكرت جرائد لوندرة هذه الزيارة وما كان من احتفال رجال العلم في
المدرستين، وإجلالهما للأستاذ، وأثنت الجرائد عليه بما هو أهله من العلم
الواسع والعقل الكبير والهمة العالية، وذكرت غير ذلك من تقلبه في البلاد كزيارته
للفيلسوف سبنسر أعظم فلاسفة أوربا الاجتماعيين، ونزوله ضيفًا كريمًا على المستر
ويلفرد بلنت في قصر (كرايت بارك) . وقالت: إن المستر كوكرنل قد صحب
فضيلته في زيارة مدرسة أكسفورد، وأن الأستاذ بويل المؤلف الشهير كان دليلاً له؛
لأنه من معلمي التاريخ في تلك المدرسة، وقالت: إنه لما زار مدرسة كمبردج خرج
لاستقباله في المحطة طائفة من أساتذتها، وإن المستر إدوار براون قد دعاه
فيها إلى طعام الغداء، ودعا لأجله طائفة من الأساتذة وبعض المستشرقين وكبار
المستخدمين، وإنه تناول طعام العشاء في قاعة المدرسة الكبرى. وذكرت تفصيل
الزيارة بما لا حاجة لي بيانه هنا، وقد لخصته الجرائد اليومية المصرية، وذكرت
ثناء الجرائد الإنكليزية على معارف الأستاذ الواسعة.
وقد كتب الدكتور إدوارد براون أستاذ اللغتين العربية والفارسية في كلية
كمبردج رسالة إلى جريدة المؤيد ذكر فيها خبر الزيارة بنحو التفصيل الذي جاء في
الجرائد الإنكيلزية، ومما جاء في رسالته قوله كما في العدد 4042 من المؤيد:
(ولقد كان كل مَن في المدرسة فرِحًا مسرورًا بزيارة هذا الرجل العالم
العظيم، وأعجب بعلمه وفضله وسمو آرائه جميع العلماء والعظماء، وتمنوا لو أقام
بينهم زمنًا طويلاً وفي اعتقادي أن فضيلة المفتي قد شرَّف الشرق وعلماءه في هذه
الديار) ! اهـ.
فالحمد لله الذي جعل فينا مَن نفتخر به أمام كبار رجال العلم في أوربا الذين
يرون الشرق وأهله في ظلمات من الجهل لا يبصرون!
وقد ذكرت الجرائد الإنكليزية أن المفتي سافر من إنكلترا قاصدًا فرنسا ليسافر منها
إلى تونس والجزائر، وهذا ما كنا علمناه من هنا قبل سفره، وقد كان عازمًا على
أن ينتهي إلى بلاد أسبانيا (الأندلس) حيث كانت الدولة العربية التي أفاضت العلوم
على أوربا، فانتقم منها التعصب فأفناها عن آخرها، ولا ندري هل بقي من
زمن إجازته ما يكفي لذلك أم يعود من تونس إلى بلاده التي ظمئت لمعارفه؟ ! كان
الله له وأيده بروحه حيث كان، ومد في أجله حتى يرتقي بهذه الأمة إلى أعلى ما في
عالم الإمكان.
* * *
(مكانة القسطنطينية بمكانها)
لهذه المدينة بموقعها ومكانها امتياز على سائر بقاع الأرض، وهي أنها ملجأ
وحصن بحري طبيعي، لا نظير له في بحار الدنيا، فطبيعة المكان توجب على
صاحبه أن يكون صاحب قوة بحرية لا تساويها قوة كما توجب طبيعة الأرض الخصبة
على صاحبها أن يكون غنيًّا بزراعته، وصاحب الأرض المعدنية أن
يكون غنيًّا بتجارته. فإذا أهمل صاحب الأرض الخصبة زراعتها واشتغل عنها
بشيء آخر فإن شريعة العمران تقضي بنزعها منه، وقاضي الزمان ينفذ حكمها عند
حلول الأجل الموافق له. وكذلك كل مَن قصر في استعمال ما وهبته له طبيعة
الوجود.
أُعطيت مُلكًا فلم تحسن سياسته
…
كذلك من لا يسوس الملك يُنزَعه
لهذا قلنا في المقالة التي كتبناها في الجزء الحادي عشر: إنه يجب على الدولة
العلية أن تكون في مقدمة الدول البحرية بأن تكون أساطيلها كأساطيل فرنسا، وقلنا:
إنها إذا عجزت عن ذلك فإنها لا فائدة لها من هذا الحصن فتتركه طوعًا بفائدة لئلا
تتركه كرهًا بدونها. وإذا هي وُفقت لذلك ولو بعد حين من شروعها الذي يجب أن
يكون عاجلاً فإنها بذلك تحفظ مجدها، بل تعيد ما فقدت منه حتى تكون في مقدمة دول
الأرض (إن شاء الله) ؛ لأن أساطيل كأساطيل فرنسا لها حصن عظيم، كبحر
مرمرة يسهل أن يكون صاحبها مالك البرين (بَرَّي أوربا وآسيا) والبحرين
(الأبيض والأسود) ، ويصعب على مَن له قوة كقوته في البحر أن يناوئه، فإن
صاحب الحصن البحري العظيم يلجأ عند الضيق بأساطيله إلى حصنها حتى يأخذ
أهبته فيخرج مهاجمًا، ومَن لا حصن له لا ملجأ له فهو إما مغلوب وإما غير غالب.
* * *
(موسيو روا الكاتب العام للدولة التونسية)
جاءنا من تونس أن قد صدر الأمر بثبيت موسيو (روا) في منصبه السامي
بعدما أشيع بأنه سينقل من تونس، وقد سرت النابتة التونسية، وجميع عقلاء
المسلمين من تثبيته، بل كتب إلينا أن جميع التونسيين قد سروا بذلك، ولا غَرو فإن
هذا الرجل قد خُص بمزيَّة عظيمة وهي القدرة على الجمع بين مصلحة أمته الحامية،
وبين رضاء الأمة المحمية فهو على صدقه في خدمة فرنسا يخدم تونس وأهلها
الخدمة التي ترضيهم عنه، وعن قومه، وتؤلف بين القلوب.
ولو أن عند فرنسا كثيرًا من مثله في الجزائر لانحلت بحكمتهم المسألة التي
يبحثون دائمًا عن طريقة مرضية لحلها، وهي: كيف يكون كل فريق راضيًا من
الآخر مرضيًّا عنده. وقد بينا في مقالة سابقة أنه لا طريقة لذلك إلا حسن المعاملة
والجمع بين المصلحتين، وقد بلغنا أن موسيو (روا) يسلك هذا المسلك الحميد،
فنهنئ به تونس وفرنسا جميعًا.
* * *
(البابية في بلاد فارس)
جاء في بعض الجرائد الأوربية أن المسلمين في بلاد فارس قد احتموا على
طائفة البابية، وطفقوا يفتكون بهم، ويسفكون دماءهم لأجل الخلاف الديني بينهم
وشبهت جريدة التيمس الإنكليزية هذا التعصب بتعصب الروسيين على اليهود
وذكرت من وصف البابية أنهم يقربون في عقائدهم من الأوربيين، وشنعت على
الحكومة الإيرانية لتقصيرها في حمايتهم.
ونقول: إن قياس التيمس البابية على اليهود قياس غير صحيح، فإن اليهود
أصحاب دين قديم تعترف به جميع الأمم، ولكن النصارى والمسلمين يقولون: إن
المسيح ومحمدًا عليهما السلام نسخا بعض أحكامه، وأقرا بعضها فيجب عليهم الأخذ
بآخر هداية جاء بها الوحي.
وأما البابية فإنهم قوم ارتدوا عن الإسلام، وأحدثوا لأنفسهم دينًا وضعيًّا مؤلفًا
من أمشاج الوثنية والمدنية، وهم يستخفون به ويظهرون في مظاهر النفاق ليتمكنوا
من تشكيك أهل كل دين في دينهم، ولا يزال دينهم سريًا ولذلك يتمكنون من مخادعة
أهل كل دين، ولإقناعهم بأنهم منهم، ولكنهم يريدون إصلاحهم. ولقد علمنا من شابين
غَويين في مصر انخدعا لهذه الطائفة أنهم لا يطلعون أحدًا على كتبهم الأساسية
كالبيان للباب والكتاب المسمى بالكتاب الأقدس للبهاء حتى الداخل فيهم جديدًا.
وكيف تطالب حكومة إيران بأن تطلق الحرية لقوم يثيرون شغب الأهالي
بادعائهم الإسلام في الظاهر، ودعوة الناس للاعتقاد بألوهية البهاء وعبادته في
الباطن، إذا كانت الحرية الدينية في نظر التيمس محمودة فهل تنكر التيمس أن
بعض أفراد الحرية في بعض البلاد تأتي بأعظم المضرات. بماذا تحتج إنكلترا على
عدم إطلاق الحرية في بلاد زنجبار؟ أليست حجتها أضعف من حجة إيران في
عدم إطلاق الحرية لهذه الطائفة التي تشكك العوام في عقائدهم وتثير إحنهم وتخرج
أضغانهم، بحيث يخشى أن تقع البلاد في الفتن والثورات الداخلية؟ بلى ولكن
التيمس لم تقل ما قالت حبًّا في الحرية، وإنما أرادت تنبيه حكومتها إلى أن لها بابًا
مفتوحًا يسهل عليها أن تدخل منه إلى ما عساها تحب الدخول فيه.
إذا كان للخبر حقيقة فلا أرى إلا أن منشأه المشاغبة بين دعاة الدين الجديد
وعوام المسلمين كأن يقول البابي للمسلم: إن ربك البهاء دفين عكا فيحتمي عليه
ويقول: كلا؛ بل ربي الله الحي الذي لا يموت ولا يدفن، وتنتهي المكالمة بالملاكمة
فينتصر قوم هذا لهذا وطائفة ذاك له، فكيف ترضى الحكومة بهذا؟ وكيف تحاول
جريدة التيمس أن تطالب الفارسي المتدين بأخلاق الإنكليزي أو الفرنسي الذي لا
يبالي بالدين؟
ومن هنا علمنا أن فرقًا آخر بين اليهود والبابية وهو أن اليهود لا يعرضون
لتفنيد دين آخر، ولا لدعوته إلى دينهم بخلاف البابية فإنهم يعيبون على الناس دينهم
وليس من مصلحة الحكومة أن تبيح لهم ذلك من جهة السياسة فكيف والدين يوجب
عليها منعهم من تشكيك عوام المسلمين في الإسلام، وقد علمنا بعد كتابة ما مر أن
سبب الفتنة أن بعض البابية سب النبي عليه السلام علنًا فأفتى العلماء بقتله وهاج
الناس ولجأ هو إلى قنصل روسيا فمنعه من الناس، ولكن الحكومة طلبته فسلمه
القنصل وشُنق، وكان ذلك مبدأ الفتنة.
أما زعم بعض الجرائد الأوربية أن دينهم منتشر، وأن أتباعه صاروا يعدون
بالملايين فهو من الكذب الذي يُنقل عن البابية أنفسهم، فإننا رأينا أحد دعاتهم في
مصر يزعم أن منهم ملايين في إيران، وملايين في الهند وقد سألنا بعض الإيرانيين
والهنديين عن ذلك فأنكروه وقالوا إنهم في الهند يزعمون أن أتباعهم في مصر يعدون
بالألوف! وأننا لم نر ولم نسمع أن أحدًا من أهل مصر اتبعهم، وإنما رأينا شابين
من شذاذ الآفاق يمدحانهم ويلهجان ببعض هذيانهم، ولكنهما ينكران الدخول في دينهم
فهما من منافقيهم، لهذا الكذب نرى بعض الناس في شك من عددهم ومن كيفية نشأتهم
فيا ليت أحد القراء الواقفين على تاريخهم من أهل إيران أو غيرهم يكتب لنا مجملاً في
تاريخهم من غير تجريح ولا ترجيح كما هو شأن المؤرخ المنصف.
وإننا نود أن نكتب مقالات مفصلة في بيان بطلان هذه الديانة، ولكننا لا نُقْدم
على ذلك إلا بعد مطالعة كتابيهما اللذين أشرنا إليهما آنفًا إذ لا يصح أن نبني الحكم
على ما سمعنا منهم؛ لأنهم في كل يوم يغيرون ويبدلون، فيا ليت أحد القراء في الهند
وإيران يمن علينا بهذين الكتابين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الثامنة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل
(النوع الثاني عشر: إمساك اللسان عن الكلام وانطلاقه)
لم يذكر السبكي أمثلة لهذا النوع ولو ذكر شيئًا منها لوضح الحق من خلاله
أشد من وضوحه بالبحث فيه من غير ذكر للوقائع التي سماها كرامات وخوارق
عادات. والظاهر أنه يعني بإمساك اللسان وانطلاقه أن بعض الناس يحضر مجلس
الرجل الصالح فيريد الكلام فيحصر وتأخذ الحبسة لسانه لما يعروه من الهيبة
والإجلال ثم يزول ذلك بالأنس أو المباسطة. وهذا أمر يقع كل يوم من المعتقدين
مع الصالحين ومن المرؤوسين مع الرؤساء ومن أفراد الرعايا المهضومين مع
الأمراء. وما يقع منه بين رجال الأديان، ومَن يعتقد رياستهم الروحانية من المقلدين
كثير في كل أمة وملة ولكن كل فريق يعد هذا مزية له وكرامة من كراماته يجهل
حال الآخر؛ إذ العارف بأحوال الملل وشئون الناس لا يغتر ولا يستسلم للنصارى
وأهلها فالآفة الكبرى هي الجهل والجهل سياج الدجَّالين، ولذلك تراهم في كل ملة
يعادون العلم وينهون عنه ويزعمون أنه حجاب دون الدين، ومفسد لعقائد المؤمنين،
ويصدقهم في ذلك الجاهلون، ويتعصبون لهم على الذين يعلمون والذين يتعلمون.
* * *
(النوع الثالث عشر: جذب القلوب النافرة)
لم يذكر السبكي لهذا مثالاً أيضًا، وهو نحو الذي سبقه وأضعف منه؛ فإن
كثيرًا من أهل الشهرة ما نالوا شهرتهم إلا بجذب القلوب؛ وذلك أن في كل صنف
من الناس مَن له هذه الخاصية فمنهم من يختلب القلوب بمهابته، ومنهم من يسحر
الألباب ببلاغته، ومنهم من يستحوذ على النفوس بقوة روحه وتوجيه إرادته، ومنهم
من يخدع بعض البسطاء بزيه وشارته وقد رأيت بعيني كثيرًا من الناس ناقمين على
رجل من أهل الفضل منكرين عليه نافرين منه مسيئي الاعتقاد به وقد حضروا
مجلسه واحدًا بعد واحد وما منهم إلا وقد انجذب قلبه إليه وامتلأ هيبةً وإعظامًا له
وصار من المتعصبين له اللاهجين بالثناء عليه. والسبب في ذلك أن النفور الأول
كان لسوء ظنٍ أحدثه سماعُ كلام الحاسدين، ولما شاهدوا الرجل رأوه بالضد مما كانوا
سمعوا، رأوا فضلاً كبيرًا وعلمًا واسعًا وأمارات تنطق بحسن القصد وإخلاص
القلب من حيث كانوا يتوهمون خلاف ذلك فتحولت قلوبهم مرة واحدة. فهل نقول
إن هذا مِن باب الخوارق وننظمه في سلك الكرامات والسبب فيه معروف والعلة
ظاهرة؟ !
حَسْبُ العاقل دليلاً على فتنة الناس بمسألة الكرامات أن يرى العالم الأصولي
منهم (كالتاج السبكي) يعد ميل القلب إلى شخص بعد النفرة منه كرامة له، كأن
الفتنة قد سحرت النفوس وأفسدت العقول وأعمت الأبصار وأصمت المسامع
وساوت بين العَالِم والجاهل والذكي والغبي في عدم التمييز بين المعتاد وخارق
العادة والغفلة عن الوقائع المتشابهة المتماثلة في مثل هذا الأمر التي تقع لمن
يعتقدون كرامتهم ومَن يعتقدون كفرهم أو ابتداعهم، وفي طبقات السبكي كثير من
هذه الوقائع يحكيها هو والمؤرخون عن زعماء الفتن ودعاة البدع، ومؤسسي
المذاهب الباطلة والطرق المعوجة الملتوية، وما رأيت في التاريخ أشد جذبًا
بالنفوس، وتلاعبًا بالعقول من رجال طوائف الباطنية فلقد كانوا يفعلون بالألباب ما
لا تفعل الخمر، ويؤثرون في النفوس ما لا يؤثر عن فعل السحر.
فإن قال قائل: إن جذب أئمة الكفر وزعماء البدع قلوبَ بعض أتباعهم أو
بعضَ الضعفاء المستضعفين لقبول ضلالتهم هو من باب الاستدراج والإملاء
ليسترسلوا في غيهم حتى يأخذهم الله تعالى بالانتقام في الدنيا أو بالموت الذي
يسوقهم إلى الانتقام في الآخرة. وأما أولياء الله تعالى فإنهم يجذبون القلوب إلى
الحق ويؤثِّرون فيها تأثير الخير النافع، وبهذا كان جذبهم من الكرامة دون جذب
غيرهم.
ونقول في الجواب إننا نسلّم بأنَّ ما ذكرتم يصح أنْ يعد كرامة إذا سلمتم معنا
بأنَّ الكرامة ليست من الخوارق الحقيقية وإنما هي من الخصائص الشريفة النافعة
فإنَّ أمرًا يُعقل سببه وتعرف علته ويقع من جميع أصناف الناس ومن أهل كل ملة
ودين لا يصح للعاقل أنْ يجعله من خوارق العادات التي على غير النظام المعهود
والسنن المطردة ولكم بعد ذلك أن تأولوا ما يقع من ذلك للصالحين من أهل الملل
الأخرى فإنه يوجد في كل أمة الصالح والطالح كما لا يخفى على المنصف الخبير.
وإننا نختم الكلام في هذين النوعين - المهابة التي تمنع الكلام وجذب القلوب-
بشيء من العبرة بما كان لرؤساء الباطنية من الاحترام الروحي في نفوس
أتباعهم ولم يصل الصوفية الصادقون إلى مثل ذلك. قال المؤرخون: إنَّ الحسن
بن الصباح زعيم الإسماعيلية قد استهوى قلوب أتباعه واستحوذ على نفوسهم حتى
كانوا يطيعونه في السر والجهر ولو بما يذهب بأرواحهم. ولقد كان مِن أمره لمّا
أرسل السلطان يطلب منه الطاعة أنْ دعا نفرًا مِن أتباعه وقال لأحدهم: اقتلْ نفسك،
ففعل بدون توقف ولا تردد! وقال لآخر: ارمِ بنفسك مِن هذا الحصن، فرمى
بنفسه ومات! ثم التفت إلى رسول السلطان وقال له: قل لمولاك هكذا يطيعني
سبعون ألفًا من الرعايا الأمناء، فمَن كان هذا شأنه وهذه منزلته في نفوس أتباعه
فكيف تكون مهابته في نفس مَن يحضر مجلسه وكيف يكون انجذاب القلوب المعتقدة
بفضله أو المستعدة لقبول عقيدته إليه وتحويمها عليه؟
الصوفية الذين ينقل عنهم جذب القلوب والتسلط على نفوس المجالسين بالهيبة
والوقار كانت سيرتهم على مقربة من سيرة زعماء الباطنية؛ بل هم فرقة منهم
وتأثيرهم من نوع تأثيرهم، فالمؤرخ لا يكاد يفصل بين هذا وهذا إلا بالانتماء للمذاهب
المعينة كالإسماعيلية وغيرهم، وأما كلامهم في الدين وتفسيرهم للقرآن والحديث فإنه
متشابه؛ لأنهم يقولون فيه أقوالاً تنكرها اللغة وأساليبها وتأباها سيرة السلف الصالح
من الصحابة والتابعين وحجة الفريقين فيها واحدة وهي الاطلاع على الحقائق
الخفية، والوقوف على أسرار الدين الروحانية وقد سلم الناس لهم بذلك تسليمًا لا سيّما
بعد موت العلم بحمل الناس على التقليد وحظر الأخذ بالدليل عليهم، فمَن لا دليل له
يسلم لكل مَن يعظم الناس أمره. وما رأيت في أمر الذين يسمى صنفهم صنف
علماء الدين أعجب من تسليمهم لهؤلاء الباطنية الذين يدعون الولاية كل ما يقولونه
وإن لم توافق تقاليدهم فهم يسلمون لهم القول المخالف بغير دليل ويحجرون على
غيرهم المخالفة بالدليل. وأنت تعلم أنَّ مبنى علومهم كلها على الكشف وسيأتي الكلام
عليه مفصّلاً في النوع الرابع عشر، ولذلك جعلنا هذه المقالة مختصرة حتى نتمكن من
جعل الكلام في الكشف في جزء واحد.
هذا وقد كنت قرأت في بعض الجرائد أنَّ رجلاً دخل على أحد علماء الكهرباء
وهو في عمله وبين يديه الآلات والبطاريات فحدث في الكهربائية تأثُّر بدخوله لم
يبق في ذهني ما هو ذلك التأثر الذي شوهد في الآلات فقال العالم للرجل: أقبلْ
فأقبل ثم قال له: أدبرْ فأدبر فكان التأثر بإقباله غير التأثر بإدباره؛ إذ كان أحدهما
في الكهربائية الإيجابية والآخر في السلبية وكان لقربه أشد التأثير. فإذا صحت
الرواية فلا بد أنْ يكون هذا الاكتشاف مفتاحًا لمعرفة أسرار كثيرة كسر الحب
والبغض والتأثير في النفوس؛ فإن في كل أحد كهربائية ويظهر أنها في بعض
الناس أقوى منها في بعض فلا عجب إن كان صاحب الكهربائية القوية يؤثر في
صاحب الكهربائية الضعيفة وأن يكون لتوجيه الإرادة والهمة عملاً في قوة التأثير
ولا مانع مِن أنْ يكون لاختلاف الكهربائية في الشخصين شأن في الحب والبغض
فقد يبصر الإنسان الجمال البارع في شخص ويمقته بلا سبب ظاهر مع اعترافه
بجماله وقد يعشق ولا جمال. ومن الناس أفراد يستثقلهم كل أحد وأفراد يحبهم كل
مَن عرفهم ويعبّر الناس عن سبب الحب في هؤلاء بالجاذبية يقولون: فلان ذو
جاذبية وفلانة ذات جاذبية ويصفونهم بخفة الروح وخفة الدم. ومن الناس من
يهابهم كل من يجالسهم؛ وإنْ كان من أقرانهم ولعلَّ للكهربائية أثرًا في كل ذلك
تُظهره الأيام ويكشفه العلماء. فأين حديث الخوارق الكونية من هذه العلل
الطبيعية؟ !
ولا يهولنّ القارئ تأثير الإنسان في الآلات الكهربائية فقد ثبت أن للسنانير
تأثيرًا عجيبًا فيها، تنبهوا إلى هذا حين ثبت أنَّ قطًا وقف على سلك من أسلاك
المسرة (التليفون) فأبطل عمله. فإن قلت: إنه ما أثر فيه إلا باتصاله به فكيف
يؤثر الإنسان في كهربائية لم يتصل بآلاتها؟ أقول: لا يبعد أن ينتقل التأثير
بواسطة كهربائية الجو أو الهواء أو الأثير ونحن في عصر يتخاطب الناس فيه
بالكهربائية من غير واسطة الأسلاك وهو ما يسمونه (تلغراف ماركوني) فهل يليق
بأهل هذا العصر أن يقلّدوا الميتين من بضع مئين من السنين أو أكثر في مزاعم
غريبة عن العقل غير قريبة من الشرع، ويقولوا مع ذلك إن عقولهم أرقى من
عقولنا، وعلومهم أغزر من علومنا، كلا، إنما يرضى بهذا مَن احتقر نعمة الله
على أهل عصره، وسجل الخِزْيَ والخَسار على نفسه، فأنكر كرامة الله له ليثبت
كرامته لآخرين، وخسر بجهله الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
لما نشرنا تلك المحاورات بين المصلح والمقلد في بحث الاجتهاد والتقليد
ووحدة الأمة الإسلامية في المجلدين الثالث والرابع من المنار كتب إلينا بعض
الفضلاء من قراء المنار في البحرين يسألنا: هل اطَّلعتم على كتاب (إعلام
الموقعين) للإمام ابن القيم؟ فأجبناه أننا لم نطّلع عليه ولكننا رأينا في بعض الكتب
نقلاً عنه عرفنا به مكانته. فكتب إلينا ثانيًا أنَّ فيه مناظرة بين مقلد وصاحب دليل
كالمناظرة التي نشرتموها وأننا سنرسل إليكم نسخة منه، ولم يلبث أن أرسلها وكانت
مقالات المحاورات قد تمَّت. وقد رأينا الآن أنْ ننشر هذه المناظرة أيضًا لأن هذا
المبحث أهم المباحث، والاجتهاد ركن من أركان الإصلاح بل هو أقوى أركانه.
ولقد أورد المصنف شبه المقلد كلها سردًا ثم ذكر حجج متبع الدليل الناهضة
والناقضة لأقوال المقلد وشبهة واحدة بعد واحدة ولذلك نترك شبهات المقلد خشية
التكرار ونبتدئ بالحجج فنقول: قال المؤلف رحمه الله تعالى ونفعنا به:
(قال أصحاب الحجة) عجبًا لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع
شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله كيف أبطلتم
مذهبكم بنفس دليلكم فما للمقلد وما للاستدلال وأين منصب المقلد من منصب
المستدل وهل ذكرتم من الأدلة إلا ثيابًا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها
بين الناس وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تُعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على
أنفسكم أنكم لم تؤتوه، وذلك ثوب زور لبِستموه، ومنصب لستم من أهله غصبتموه،
فأخبرونا هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه، وبرهان دلكم عليه، فنزلتم من
الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل، أم سلكتم سبيله اتفاقًا وتخمينًا
من غير دليل، وليس إلى خروجكم من أحد هذين القسمين سبيل، وأيُّهما كان فهو
بفساد مذهب التقليد حاكم، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم، ونحن إن
خاطبناكم بلسان الحجة قلتم لنا لسنا من أهل هذه السبيل، وإنْ خاطبناكم بحكم التقليد
فلا معنى لِما أقمتم من الدليل.
والعجب أن كل طائفة من الطوائف وكل أمة من الأمم تدّعي أنها على حق
حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدّعون ذلك ولو ادّعوه لكانوا مُبطلين فإنهم شاهدون على
أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه، وبرهان دلَّهم عليه، وإنما
سبيلهم محض التقليد. والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل.
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وقالوا نحن
على مذاهبهم وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه فإنهم بنوا على
الحجة ونهوا عن التقليد وأَوْصُوهم إذا ظهر الدليل أنْ يتركوا أقوالهم ويتَّبعوه
فخالفوهم في ذلك كله وقالوا نحن من أتباعهم، تلك أمانيُّهم وما أتباعهم إلا مَن سلك
سبيلهم واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم. وأعجب من هذا أنهم مصرّحون في
كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه وأنه لا يحل القول به في دين الله ولو اشترط الإمام
على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته ومنهم مَن صحَّح
التولية وأبطل الشرط. وكذلك المفتي يَحْرُم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق
الناس، والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده؛ إذ طريق ذلك مسدودة عليه. ثم
كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ويترك له كل ما خالفه من
كتاب أو سنة أو قولِ صاحبٍ أو قولِ مَن هو أعلم من متبوعه أو نظيره وهذا من
أعجب العجب.
(وأيضًا) فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد
اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم
يأخذ منها شيئًا، ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في التابعين ولا تابعي التابعين
فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما حدثت هذه الفتنة في القرن الرابع
المذموم على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم فالمقلدون لمتبوعيهم في جميع ما قالوه
يبيحون به الفروج والدماء والأموال ويحرمونها، ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ
على خطر عظيم ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه مَن قال على الله ما لا يعلم
أنه لم يكن على شيء.
(وأيضًا) فنقول لكل من قلد واحدًا من الناس دون غيره: ما الذى خص
صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؟ فإن قال: لأنه أعلم أهل عصره. وربما
فضَّله على مَنْ قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجئ بعده أعلم منه. قيل له: وما
يدريك - ولست مِن أهل العلم بشهادتك على نفسك - أنه أعلم الأمة في وقته فإن
هذا إنما يعرفه مَن عرف المذاهب وأدلتها وراجحها ومرجوحها، فما للأعمى ونقد
الدراهم! وهذا أيضًا باب آخر من القول على الله بلا علم.
ويقال له (ثانيًا) فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن
مسعود وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وابن عمر رضي
الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك فهلاّ قلدتهم وتركته بل سعيد بن المسيب
والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك فلِمَ تركت تقليد الأعلم
والأفضل والأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى مَن
هو دونه فإنْ قال: لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني فتقليدي له أوجب على
مخالفة قوله لقول من قلدته؛ لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة مَن هو فوقه
وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى مِن قول كل واحد من هؤلاء، قيل له: ومِن
أين علمت أنَّ الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من
الدليل الذي صار إليه مَن هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره، وقولان معًا
متناقضان لا يكونان صوابًا بل أحدهما هو الصواب ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل
بالصواب أقرب مِن ظفر مَن هو دونه، فإن قلت: علمت ذلك بالدليل فههنا إذًا فقد
انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال وأبطلت التقليد.
ثم يقال لك (ثالثًا) هذا لا ينفك شيئًا ألبتة فيما اختلف فيه فإنَّ مَن قلّدته ومَن
قلَّده غيرك قد اختلفا وصار مَن قلده غيرك إلى موافقة لأبي بكر وعمر أو علي وابن
عباس أو عائشة وغيرهم دون مَن قلدته فهلاّ نصحت نفسك وهُدِيتَ لرشدك وقلت:
هذان عالمان كبيران ومع أحدهما مَن ذكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه.
ويقال له (رابعًا) إمام بإمام ويسلم قول الصحابي فيكون أولى بالتقليد.
ويقال (خامسًا) إذا جاز أن يظفر مَن قلدته بعلم خَفِيَ على عمر بن الخطاب
وعلى علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ودونهم فأحق وأحق فأجوز وأجوز
أن يظفر نظيره ومَن بعده بعلم خُفِيَ عليه هو فإن النسبة بين مَن قلّدته وبين نظيره
ومَن بعده أقرب بكثير مِن النسبة بين مَن قلّدته وبين الصحابة. والخفاء على مَن
قلّدته أقرب من الخفاء على الصحابة.
ويقال (سادسًا) إذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم بقول المفضول فهلاّ
سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا
عكس ما ارتكبت؟ !
ويقال (سابعًا) هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال
ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر الله أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد
من الصحابة؟ فإن قال: نعم، قال: ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه
وإن قال: لا، فقد كفانا مؤنته وشَهِدَ على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه.
ويقال (ثامنًا) تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده فإنه نهاك عن ذلك وقال لا
يحل لك أنْ تقول بقوله حتى تعلم مِن أين قاله ونهاك عن تقليده وتقليد غيره مِن
العلماء فإن كنت مقلدًا له في جميع مذهبه فهذا مِن مذهبه فهلاّ اتبعته فيه؟ !
ويقال (تاسعًا) هل أنت على بصيرة في أنَّ مَن قلدته أولى بالصواب من
سائر مَن رغبت عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال:
أنا على بصيرة، قال ما يعلم بطلانه. وإنْ قال: لست على بصيرة وهو الحق
قيل له: فما عذرك غدًا بين يدي الله حين لا ينفعك مَن قلّدته بحسنة واحدة ولا
يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه هل
هو صواب أم خطأ؟
ويقال (حادي عشر) هل تقول إذا أفتيت وحكمت بقول مَن قلّدته: إنَّ هذا
هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟
أو تقول: إنَّ دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بد لك
مِن قولٍ مِن هذه الأقوال ولا سبيل لك إلى الأول قطعًا فإنَّ دين الله الذي لا دين له
سواه ولا تسوغ مخالفته [1] وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين والثاني لا
تدعيه فليس لك ملجأ إلا الثالث. فيالله العجب كيف تستباح الفروج والدماء
والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها (لا أدري) :
فإنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ
…
وإنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيبَةُ أَعْظَمُ
ويقال (ثاني عشر) على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان
الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع وليتكم اقتصرتم على ذلك بل
جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع؟ أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على
هدى أو على ضلالة؟ فلابد من أن تقرّوا بأنهم كانوا على هدى فيقال لكم فما الذي
كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة
على ما يخالفها والتحاكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان؟ وإذا كان هذا هو الهدى
فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تؤفكون؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين وكذلك
يقولون: صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف واقتفى منهاجهم وسلك
سبيلهم، قيل لهم: فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد
صاحبكم بالاتباع، وحُرِمَهُ مَن عداه فلا بد من واحد من الأمرين؟ فإن قالوا بالثاني
فهم أضل سبيلاً من الأنعام وإن قالوا بالأول فيقال: فكيف وقفتم لقبول قول صاحبكم
كله ورد قول مَن هو مثله أو أعلم منه كله فلا يرد لهذا قول ولا يقبل لهذا قول
حتى كأن الصواب وقف على صاحبكم والخطأ وقف على مَن خالفه ولهذا أنتم
موكلون بنصرته في كل ما قاله وبالرد على ما خالفه في كل قاله وهذه حال الفرقة
الأخرى معكم.
ويقال (ثالث عشر) فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم، فأنتم أول
مخالف لهم، قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل،
يحمل حزمة حطب، وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري! وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه؟ وقال أحمد:
لا تقلد دينك أحدًا.
ويقال (رابع عشر) هل أنتم موقنون بأنكم غدًا موقوفون بين يدي الله
وتُسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبشارهم وأموالهم وعما أفنيتم به
في دينه محرّمين ومحللين وموجبين؟ فمَن قولهم نحن موقنون بذلك. فيقال لهم:
فإذا سألكم من أين قلتم ذلك فماذا جوابكم؟ فإن قلتم جوابنا أنا حلّلنا وحرّمنا وقضينا
بما في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من
رأي واختيار، وبما في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأي واختيار،
وبما في الأم من رواية الربيع من رأي واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء
من رأي واختيار، وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سَمَت همتُكم نحوه،
بل نزلتم عن ذلك طبقات، فإذا سُئلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي فماذا
يكون جوابكم إذًا؟ فإنْ أمكنكم حينئذٍ أنْ تقولوا: فعلنا ما أمرتنا به وأَمَرَنا به رسولك
فزتم وتخلصتم ، وإنْ لم يمكنكم ذلك فلا بد أنْ تقولوا لم تأمرنا بذلك ولا رسولك
ولا أئمتنا ولا بد من أحد الجوابين وكأنْ قد.
ويقال (خامس عشر) إذا نزل عيسى ابن مريم إمامًا عدلاً وحكمًا مقسطًا
فبمذهب مَن يحكم وبرأي مَن يقضي، ومعلوم أنه لا يحكم ولا يقضي إلا بشريعة
نبينا صلى الله عليه وآله وسلم التي شرعها الله لعباده، فذلك الذي يقضي به أحق
وأولى الناس به عيسى ابن مريم هذا الذي أوجب عليكم أن تقضوا به وتفتوا. ولا
يحل لأحد أن يقضي ولا يفتي بشيء سواه ألبتة. فإن قلتم: نحن وأنتم في هذا
السؤال سواء. قيل: أجل؛ ولكن نفترق في الجواب فنقول: يا ربنا إنك لتعلم أنا لم
نجعل أحدًا من الناس عيارًا على كلامك وكلام رسولك ونرد ما تنازعنا فيه إليه،
ونتحاكم إلى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك
وكان الخلق عندنا أهون أنْ نقدم كلامهم وآراءهم على وحيك بل أفتينا بما وجدناه
في كتابك وبما وصل إلينا مِن سنة رسولك وبما أفتى به أصحاب نبيك وإن عدلنا
عن ذلك فخطأ منا لا عمد. ولم نتخذ من دونك ولا دون رسولك ولا المؤمنين وليجة،
ولم نفرق ديننا ونكن شيعًا، ولم نُقَطِّعْ أمرنا بيننا زُبرًا. وجعلنا أئمتنا قدوة لنا
ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلّغوه إلينا عن رسولك فاتبعناهم في ذلك
وقلدناهم فيه إذ أَمَرْتنا أنت وأمرنا رسولُك بأنْ نسمع منهم ونقبل ما بلغوه عنْك وعن
رسولك فسمعًا لك ولرسولك وطاعة [2] ، ولم نتخذهم أربابًا نتحاكم إلى أقوالهم
ونخاصم بها ونوالي ونعادي عليها؛ بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك،
فما وافقهما قبلناه، وما خالفهما أعرضنا عنه وتركناه، وإنْ كانوا أعلم منا بك
وبرسولك فمَن وافق قوله قول رسولك كان أعلم منهم في تلك المسألة فهذا جوابنا.
ونحن نناشدكم اللهَ: هل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي مَن لا
يبدَّل القولُ لديه، ولا يروج الباطل عليه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
…
_________
(1)
هكذا الأصل ولعله سقط شيء هنا كقوله: (هو كتابه وسنة رسوله) .
(2)
المنار: يريد أن الذي يؤخذ عن الأئمة هو ما ينقلونه عن الشارع لا آراؤهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة والأجوبة
خطبة الجمعة بالأعجمية
(س1) الشيخ عبد الحق الأعظمي خطيب المسجد ذي المنارات في بمبي
(الهند) : هل يجوز العدول عن تلاوة خطبة الجمعة باللسان العربي إلى لسان البلد
التي تقام فيه الجمعة حتى ينتفع بها العموم ويحصل منها الإرشاد المطلوب فإن
بتلاوتها بالعربية على أعاجم لا يعرفون هذه اللغة فوات لفائدتها وهو إيصال الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أفهامهم وتمكين آثار الوعظ في قلوبهم وإنني في
كل أسبوع أنشئ خطبة وألقيها يوم الجمعة على مئات من المسلمين وبعد الجمعة
أسأل المتعلمين منهم الذين مارسوا اللغة العربية هل فهمتم ما تلوته على المنبر
فيقولون لم نفهم إلا كُليمات قليلة لأننا وإن كنا قرأنا قوانين اللغة العربية وعلومها إلا
أننا لا نفهم ما يُقرأ علينا بها اللهم إلا إذا نحن قرأناه وتأملناه مليًا. فآسف على تعبي
في إنشاء الخطبة فأردت أن أخطب فيهم بلغتهم الأُوردية مع ذكر أركان الخطبة
بالعربية فهل ورد في السنة وآثار السلف ما يمنع من ذلك ويحتم أداءها كلها
بالعربية وإن لم يفهمها حاضرو الجمعة كلهم أو جلهم، وبماذا كان يخطب الصدر
الأول في بلاد الأعاجم التي افتتحوها؟
(ج) قد بينا غير مرة أن معرفة اللغة العربية واجبة على كل مسلم؛ لأن
فهم الدين وإقامة شعائره وأداء فرائضه كل ذلك موقوف على فهم هذه اللغة ولا
تصح إلا بها وخطبة الجمعة من أقلها تأكيدًا وثبوتًا وإن كانت من أكبر الشعائر فائدة،
وقد كان الذين يدخلون في الإسلام من الأعاجم على عهد الصدر الأول يبادرون
إلى تعلم اللغة العربية لأجل فهم القرآن والسنة والارتباط بصلة اللغة التي لا تتحقق
وحدة الأمة بدونها وكان الصحابة يخطبون الناس باللغة العربية في كل بلاد
يفتتحونها وما كان يمر الزمن الطويل على بلاد يدخلونها إلا وتتحول لغتها إلى لغتهم
في زمن قصير بتأثير روح الإسلام، لا بالترغيب الدنيوي ولا بقوة الإلزام، ولو
كانوا يرون إقرار مَن يدخل في دينهم من الأمم الأعجمية على لغاتهم لَبادروا هم إلى
تعلم لغات تلك الأمم وأقاموا لهم فرائض الدين وعباداته بها وبقي الروماني رومانيًّا
والفارسي فارسيًّا وهلمّ جرًّا.
وإن التفريق الذي نراه اليوم في المسلمين باختلاف اللغات هو من سيئات
السياسة ومفاسدها الكبرى وإذا لم ترجع الدولتان العثمانية والإيرانية إلى السعي في
تعميم اللغة العربية في مملكتيهما فسيأتي يوم تندمان فيه وإننا لا نعتد بإصلاح في
الهند ولا بغيرها من بلاد المسلمين ما لم يجعل ركن التعليم الأول تعلم العربية
وجعلها لغة العلم.
لا يصعب عليك أن تجد عند الحنفية وجهًا لجواز الخطبة بلغة من تخطبهم
لأجل حصول المقصود من الخطبة كما جوزوا كون القاضي والمفتي من المقلدين
خلافًا لنصوص المذهب بل المذاهب كلها في اشتراط كونهما مجتهدين وكما جوزوا
كون القاضي جاهلاً وفاسقًا وكما جوزوا صلاة الجمعة في الأمصار التي ليس فيها
حاكم ينفذ الأحكام الشرعية وكما جوزوا إمامة مَن ليس مستوفيًا لشروط الإمامة،
وغير ذلك من الأحكام التي جوزوها للضرورة، وليس معنى جواز الشيء
للضرورة أن يُترك الأصل ويرضى الناس بالضرورة إلى أبد الأبيد وإنما معناه أن
يأخذوا بالاستعداد لإقامة الحق والرجوع إلى الأصل مع الإتيان بالشيء ناقصًا وذلك
بأن يترخصوا بترك بعض الشروط فيه مع الجد في تحصيلها إلى أن تتم الشروط
ويستقر كل شيء في نصابه وإلا كان لنا أن نترك الدين كله أو نحوله عن وجهه
تعللاً للضرورات التي تتحكم فيها الأهواء كما تشاء.
قلت: إن خطبة الجمعة أهون من غيرها لأنها غير مجمع على وجوبها فإن من
السلف من قال إنها مندوبة كخطبة العيد فإذا أقيمت أركانها الأصلية بالعربية وزِيد
فيها شيء من الوعظ بلغة أخرى للحاجة لا يخل ذلك بصحة الصلاة ولا بصحة
الخطبة ولكنه يدخل في الشعائر الإسلامية تشويهًا يخشى أن يصير مستمرًّا.
وليست المصيبة في عدم فهم الخطبة أقوى من المصيبة في عدم فهم الفاتحة
وغيرها من السور والآيات التي تقرأ في الصلاة، اللهم اجزِ مَن نصروا لغاتهم
على لغة كتابك حتى حالوا بينه وبين عبادك - بما يستحقون؛ فقد صارت صلاة
المسلمين تقليدية محضة لا روح فيها كصلاة كثير من أهل الملل الأخرى.
ويسهل على السائل أن يترجم خطبه النافعة بلغة القوم ويقرأ عليهم الترجمة
بعد الصلاة لينتفعوا بها ويتحسروا لعدم فهمهم أصلها العربي في إقامة الشعار الديني
لعلهم يرجعون.
والسائل يعلم أن المسلمين ما زالوا يخطبون بالعربية في جميع بلاد الأعاجم
لملاحظتهم ما قلناه، لم يختلف في هذا سني ولا شيعي. وقد عد بعض الحنفية
الضرورة التي تجيز العدول عدم وجود خطيب يحسن العربية حتى يوجد وقالوا لا
بد من السعي في إيجاده. قال شارح الإحياء: (وهل يشترط كون الخطبة كلها
بالعربية وجهان، الصحيح اشتراطه فإن لم يكن فيهم من يحسن العربية خطب
بغيرها ويجب عليهم التعليم وإلا عَصوا ولا جمعة لهم) : يعني أن الضرورة لا
يجوز أن تجعل مستمرة بل يجب السعي في إزالتها. ونحن نقول يجب عليهم تعلم
العربية ليفهموا الخطبة وما هو أهم من الخطبة كالفاتحة وسائر الأذكار والسور،
فإن لم يفعلوا كانوا عاصين ولا صلاة لهم ولا قراءة لهم وإنما لهم الصور التي لا
تؤثر في القلب ولا تزكي النفس، وما كان كذلك فلا تأثير له في سعادة الآخرة ولا
في سعادة الدنيا والله أعلم.
* * *
حد اللواطة
(س2) ومنه: ما الحكمة في أن الشارع لم ينص على حد اللواط مع
منافاته لأصل الطبيعة وفظاعته عند سائر الأمم من قديم الأزمان وأنه يُحدث
أمراضًا خطرة حسية ومعنوية فيضعف النفوس ويحط الهمم ويهدم مستقبل صاحبه
ويسمه بميسم الذل والشنار؟ ! وما باله يفشو في هذا الزمان في كثير من البلدان مع
انتشار العلم وكثرة الكتب وتقدم فن الطب واستنارة الأفكار حتى لقد كاد أن يكون
منبعه في منابع العلم كالمدارس وفُشوّه بين أرقى الطبقات كأولاد الأغنياء وبين
المنقطعين للعبادة المتزهدين المتنسكين كسكنة التكايا والأديار وغيرها؟ !
(ج) ليست الشريعة محصورة في جلود كتب الحنفية فقد ورد في اللواط
من التشديد والعقوبة في السنة نحو ما ورد في الزنا وورد فيه عن الصحابة القتل
والرجم والإحراق بالنار. أما الوارد في القرآن فالمجمل منه يشمل الفاحشتين
والتفصيل جاء في الزنا ومن العلماء مَن قال إنه يشمل اللواط أما كون المجمل
ورادًا في الفريقين، فهو أنه تعالى قال أولاً: {وَاللَاّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ} (النساء: 15) الآية ثم قال: {وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} (النساء: 16) الآية، فتثنية (الذي) لا يجوز أن يراد بها الرجلان اللذان
يزنيان لأنها تكون لغوًا فتعين أن يراد بها فاعِلا اللواط أو الزاني واللائط كما قال
مجاهد وأبو مسلم وغيرهما وبه أخذ الشافعي. وهذا الإيذاء مُجْمَل بَيَّنَتْه السُّنَّة.
قال عليه الصلاة والسلام: (من وجدتموه يعمل بعمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل
والمفعول) ورواه أحمد وأصحاب السنن والدارَقُطني والحاكم والبيهقي والضياء
عن ابن عباس. وفي رواية لأحمد عنه: (اقتلوا الفاعل والمفعول به في عمل قوم
لوط والبهيمة والواقع على البهيمة ومن وقع على ذات محرم فاقتلوه) ، وقال صلى
الله عليه وسلم: (ارجموا الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعًا) رواه ابن ماجه عن
أبي هريرة. وقال صلى الله عليه وسلم: (من عَمِلَ بعَمَلِ قوم لوط فارجموا
الفاعل والمفعول به) الحاكم عن أبي هريرة وروى مثل ذلك عنه الخرائطي في
مساوي الأخلاق وابن جرير. هذا بعض ما ورد في الأخبار وأما الآثار فقد روى
الشافعي وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور في سننه وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي
والبيهقي عن يزيد بن قيس أن عليًّا رجم لوطيًّا. وروى ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي
وابن المنذر وابن بشران والبيهقي عن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى
أبي بكر الصديق أنه وُجِدَ رجل في بعض ضواحي بلاد العرب يُنْكَحُ كما تُنكح المرأة
وأن أبا بكر جمع لذلك ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان فيهم علي بن أبي طالب أشدهم يومئذ قولاً، فقال: إنَّ هذا ذنب لم تعمل به أمة
من الأمم إلا أمة واحدة فصُنِعَ بها ما قد علمتم أرى أن تحرقوه بالنار، فكتب إليه
أبو بكر أن يُحرق بالنار، وروى الطبراني عن سالم بن عبد الله وأبان بن عثمان
وزيد بن حسن أن عثمان بن عفان أُتي برجل قد فجر بغلام من قريش فقال عثمان:
أُحْصِن؟ قالوا: قد تزوج بامرأة ولم يدخل بها بعد فقال علي لعثمان: لو دخل بها
لحل عليه الرجم فأما إذا لم يدخل بها فاجلدْه الحد. فقال أبو أيوب: أشهد أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الذي ذكر أبو الحسن. فأمر به عثمان فجُلد.
وهذا الأثر أقوى من الذي قبله.
وأما أقوال السلف والفقهاء في ذلك فقد جاء في (الزواجر) من ذلك ما نصه:
قال البغوي: اختلف أهل العلم في حد اللوطي فذهب قوم إلى أن حد
الفاعل حد الزنا إن كان محصنًا يُرجم وإن لم يكن محصنًا يُجلَد مائة وهو قول ابن
المسيب وعطاء والحسن وقتادة والنخعي وبه قال الثوري والأوزاعي وهو أظهر
قولي الشافعي ويحكى أيضًا عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وعلى المفعول به -
عند الشافعي على هذا القول - جلد مائة وتغريب عام رجلاً كان أو امرأة، محصنًا
كان أو غير محصن. وذهب قوم إلى أن اللوطي يرجم ولو غير محصن رواه
سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس وروي عن الشعبي وبه قال الزُّهْري وهو قول
مالك وأحمد وإسحاق. وروى حماد بن إبراهيم عن إبراهيم - يعني النخعي - قال:
لو كان أحد يستقيم أن يرجم مرتين لرُجم اللوطي. والقول الآخر للشافعي
إنه يُقتل الفاعل والمفعول به كما جاء في الحديث اهـ.
ثم قال صاحب (الزواجر) : (قال الحافظ المنذري: حَرَقَ اللوطية بالنار
أربعة من الخلفاء: أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وهشام بن
عبد الملك) ، ثم ذكر ما كتبه خالد إلى أبي بكر وقد تقدم آنفًا.
أما ما ورد في وعيد فاعل هذه الفاحشة فكثيروقد شنَّع ابن حجر على مَن
يأتيها من المترفين، ولعنهم كما يلعنهم جميع المؤمنين، وقد وصفوا من شناعة هذه
الجريمة ولكنهم لم يذكروا أعظم مضرة لها وأقبح غائلة من غوائلها، وهي إفساد
البيوت فقلما يوجد بيت للوطي طاهر من الفسق وإنما يعم الفسق كباره وصغاره
ونساءه وأطفاله. ومع هذا كله نرى أناسًا في هذه المدينة يزنون بالهنات، ويغلبون
حب البنين على البنات، وهم يصفون أنفسهم بأنهم من الأدباء والشعراء وتستخدمهم
الحكومة ويحترمهم سائر الناس، فَتَبًّا لهذه الأخلاق، ولهؤلاء الجبناء الذين ليس لهم
خلاق!
وأما سبب فشو هذه الفاحشة فيمن ذكرتم فسببه الترف واتباع خطوات مدنية
أوربا في التمتع بالشهوات واللذات وأما فشوه في المدارس ونحوها فسببه بُعد
الرجال هناك عن النساء وتعذُّر الإفضاء إليهن. وليس لهذه المفسدة وأمثالها علاج
إلا التربية الدينية الصحيحة وكماله بإقامة الحدود.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
التأمين على المال
(س3) ومنه: كيف يُجري المسلم عقد السكرتاه (التأمين على المال وغيره)
مع الذمي على غير أساس شرعي وكيف يستحل ماله فهل يمكن استخراج أصل
شرعي يستأنس به؟
(ج) قد سألنا هذا السؤالَ كثيرون من أهل مصر ومن غيرها وسنكتب في
ذلك في فرصة أخرى بعد شرح حقيقة هذه المعاملات.
* * *
كينالاروش
(س4) الحاج أحمد بن عبد الله بإحدى محاكم (ستريت ستلمن - سنغافروه) :
ما قولكم سادتي أدام الله النفع بكم للأنام في الدواء المعروف بكينالاروش، هل
يجوز التداوي به أم لا فإنني كثيرًا ما سمعت من أنه - والله أعلم - ممزوج ببعض
المسكرات غير أنني رأيت كثيرين مداومين استعماله، وللوقوف على الحقيقة
أحببت أن أعرض على سيادتكم هذا السؤال راجيًا منكم نشره في أحد أعداد المنار
والجواب عنه بلا أو نعم ليقف عليه كل من يريد الاستفهام عنه، ودمتم وعناية
المولى ترعاكم.
(ج) نعم بجوز استعماله لمن احتاج إليه فإنه ليس مُسْكِرًا في نفسه، ولا
يجب على المريض البحث عن الأدوية التي يصفها له الطبيب ليعرف هل فيها
جزء من بعض المسكرات أم لا، وإذا عرف أن فيها شيئًا من ذلك فلا يحرم عليه
استعمالها إذا احتاجه للتداوي وإنما يحرم عليه شرب المسكر لأنه مسكر. وإنما
حرّموا القليل من الخمور لأنه يدعو إلى الكثير كما ثبت ذلك نظرًا واستدلالاً
وتجربة في كل زمان ومكان، فشارب القليل لأجل اللذة والنشوة عاص ومنته إلى
الفسق بما يَجُرُّه ذلك إلى الإكثار، وليس في شرب الدواء الذي فيه جزء من مسكر
لأجل التداوي بالمقدار الذي يعينه الطبيب سكر ولا قصد إلى السكر ولا خوف من
الوقوع فيه.
***
صلاة مكشوف الرأس
(س5) - محمد أفندي حلمي كاتب سجن حلفا: رجل شافعي المذهب
يصلي مكشوف الرأس مع وجود عمامة وطرابيش عنده فهل يجوز ذلك؟
(ج) لا يشترط لصحة الصلاة من الملابس إلا ما يستر العورة وهي عند
الشافعية ما بين السرة والركبة؛ فصلاة مَن ذُكِرَ صحيحة ولكن الله تعالى أمرنا
بالتجمل عند الصلاة بقوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) ،
ومن التجمل والزينة في عرف الإسلام ستر الرأس بالعمامة وقد استبدل بها كثير
من المسلمين غيرها كالطربوش فستر الرأس في الصلاة مطلوب شرعًا وتركه
مذموم إلا لعذر وهو من شعائر النصارى.
***
تمثل جبريل للنبي
صلى الله عليه وسلم
(س6) ومنه: هل رأى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام جبريل عيانًا وهل
كان يجيئه بصورة أحد الصحابة وإذا كان هذا صحيحًا فما الدليل عليه؟
(ج) جبريل هو الروح الذي كان ينزل بالوحي على النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وكما جاء في الآيات ما يدل على أن النزول كان روحانيًّا كالتعبير بالنزول
علي القلب ورد فيها أن النبي رأى جبريل وفي ذلك قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ
القُوَى} (النجم: 5) إلى قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (النجم: 13) ،
ولكنهم قالوا إن هذه رؤية مَلَكية روحانية، أي رآه كما خلقه الله تعالى. وورد في
الأحاديث الصحيحة أنه يتمثل له الملك رجلاً أي كما تمثل لمريم عليها السلام
بشرًا سويًّا. وهذا التمثل أيضًا روحاني والذين يدَّعون رؤية الأرواح من الصوفية
وغيرهم يقولون إنها تتمثل لهم بصورة بشرية وورد أيضًا أنه كان يراه بصورة دحية
الكلبي، فإنما تمثل الملك له بصورة رجل، فقد ورد في الصحيح عند الشيخين
وغيرهما. وأما رؤيته بصورة دحية فقد رواه الطبراني عن أنس وإسناده ضعيف.
***
المعراج والرؤية
(س7) - هل عرج سيدنا محمد إلى السماء بروحه وجسمه أو بروحه دون
جسمه وهل تشرف برؤية الحق جل شأنه عيانًا أو بقلبه وإذا كان كذلك فهل يوجد
إثبات؟
(ج) اختلف العلماء فيما ذكرتم؛ لأنه لا يوجد دليل قطعي يعيّن شيئًا من
هذه الوجوه والأقرب إلى العقل أن ما رُوي من ذلك فهو روحاني. وحديث المعراج
على إطلاقه ورد في أحاديث أحادية تفيد الظن ولكن رؤية الحق لم تثبت بحديث
مرفوع صحيح وقد سئلت عنها عائشة رضي الله عنها فأنكرتها كما ورد في الصحيح
وقالت: (لقد قفّ شَعري..) إلخ، وورد في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم سُئل: هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نورًا. وفي رواية: (نورٌ
أنَّى أراه؟) أي أنه لم ير إلا النور أو أن النور منع من رؤيته، وليس المعنى أن
الله تعالى نور؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وقال الإمام الغزالي في
الإحياء: الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى ربه ليلة المعراج، والذين
يثبتون الرؤية يروونها موقوفة على ابن عباس في تفسير: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي
أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) ، والمعروف في اللغة أن (الرؤيا) هي
ما كان في المنام، و (الرؤية) ما كان في اليقظة، وعلى كل حال يجب أن
تعتقدوا أن الله تعالى منزه عن صفات المخلوقين فلا يمكن أن تكون رؤيته كرؤيتهم
وأن ماورد يُحمل على كمال المعرفة التي تستغرق الروح وكل مداركها والله أعلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب الزينة وحب التميز
لست من محبي الأمور الفانية، ولا المغرورين بها ولكني أحب ذلك السر
الرباني الذي به نعلم خواص هذه الأمور مفردة ومركبة. وبه نتصرف فيها على
أمثلة لا يعي مجموعها عقل واحد. وإنكم لتعلمون أن ذلك السر الرباني الذي
أُودِعناه من أعظم خواصه محبة الجميل.
وحرام على من لم يروا ببصائرهم شيئًا من أسرار الصنعة الإلهية أن
يخوضوا في علم الأخلاق وعلم شرائع الاجتماع.
احفظ لي أيها القارئ هذا الكلام لعلك تتذكر وتتدبر إذا فاجأتك منّي مخالفةٌ
لبعض كتّاب هذا العلم.
لحياة الإنسان لوازم هُنَّ حاجاته الضرورية، والحيوانات تشاركه بنظائرها.
وتوابع هنَّ حاجاته الكمالية. وليس للحيوانات حظ بأشباهها. ويمكننا باعتبار الأولى
والثانية أن نقسّم حياته الواحدة إلى قسمين: حياته الجنسية. وحياته النوعية.
الحياة الجنسية يمكن حصر ما به قوامها. فالغذاء قد يكون من الأعشاب كدأب
آكلة النبات من الأنعام وغيرها. وليس هذا مبنيًا علي خيال شعري يعظمه الزهد
فيما تقبله طبيعة الإنسان؛ بل هو مجرّب محسوس أثبته لنا بالفعل قوم أوحى إليهم
الوهمُ ما أوحى من نبذ ما خلقه الله للبشر.
والإواء قد يكون حجرًا كأوجار الوحوش. وقد أتاح الله لنا أن نشاهد بالذات
معيشة بني هذا النوع في الغيران؛ ولا أعني بالذين شاهدناهم قومًا من إخوان
الوحوش في السيرة والطباع والانقطاع عن الإنس؛ بل هم فئات من زراع هذه
البلاد أولو ثاغية وراغية وأولو حرث في بلاد ذات زرع وحب الحصيد.
والكساء قد يُستغنى عنه وقد يكون من جلود الصيد أو الأنعام. ولدينا قبيلة
يقال لهم (الصُّلَيب) لم نشاهد من أكسيتهم غير جلود الآرام التي جُلّ غذائهم من
لحومها.
والوقاع لا يحتاج منه إلى أكثر مما في طبيعة النوع من تراضي أنثى وفحل
وانجذابهما لهذا الأمر بسائق ما في الفطرة.
وبهذا القدر الذي مثلنا به تُحْفَظُ الأشخاص ويبقى النوع كما حفظت أشخاص
السوارح العجماوات وأنواعها.
قلنا: إن هذا القدر يمثل لنا الحياة التي يمكن أن يعيش بها الإنسان ويتناسل.
وهل يمكننا أن نقول يوجد شيء يميز الإنسان عن باقي الحيوان في هذا
المثال من الحياة؟ قد كان يمكننا أن ندعي وجود مميز لو كان له مع هذه الحياة
أفكار عالية. وهيهات فقد أنبأنا التاريخ أن الإنسان كان معدمًا من الأفكار العالية يوم
كان يعيش مثل هذه المعيشة وكذلك بلونا الذين يحيون هذه الحياة في يومنا فلم نجد
لديهم فضل إدراك ينيفون به على الغابرين. بلى، إن وعد الله حق وإن الإنسان
بمجموعه ارتقى ولكن كان ذلك منذ طفق الاستعداد النوعي تنجلي مظاهره، وتتجلى
مناظره، ولن يبرح في رقيه ما دامت الغبراء في إزاء الزرقاء، تتجلى عليها
شمسها وتؤتيها من لدنها نظامًا.
عرَّفنا لكم الحياة الجنسية بالتمثيل وبه أوضحنا قولنا إنه يمكن حصر ما به
قوامها. أما الحياة النوعية فمن الصعب جعل حد لما يتعلق بها كما كان من الصعب
تحديد الأوهام والأفكار التي هي تابعة لها. ولكن يمكن أن نقول إن أكثر الأشياء
التي هي من فروع الحياة النوعية تابعة لناموسين عظيمين من طبيعة النفس
الإنسانية هما:
(1)
حب الزينة و (2) حب التميز.
ونتكلم فيهما على الإفراد لشدة العلاقة بينهما.
(حب الزينة)
نأخذ من التمهيد المقدم كلمة نقولها هنا: لو كان الإنسان هو الآكل المواقع
لكان من السهل في معرفة ما هو أن نقول: هو آلة من جملة هذه الآلات الكونية
المتحركة بأصل صنعتها ولكن هنا فصول وقيود كثيرة زائدة على هذين الوصفين لا
نريد الآن ذكرها كلها؛ بل ذكر واحد منها وهو كونه (محبًا للجميل) فهذا القيد
وحده يمنعنا أن نقول في تعريفه ذلك الكلام ويجعلنا نتفكر وسعنا في خصائص هذا
المخلوق الكريم المصنوع لأمر عظيم.
من تأمّل في الإنسان وجد العوالم محشورة في ذرّات صغيرة من مواقع إدراكه،
ووجده حاكمًا فيها بأحكام كثيرة وإن لم تنلها يده؛ بعض تلك الأحكام له نسب
بالحقيقة متصل، وبعضها له سبب إلى طائف الوهم ممدود.
أما الذي يتعلق بالوظائف الطبيعية لحياته الفكرية من تلك الأشياء المتكثرة
فهو تقسيمه المحسوسات والمتخيلات إلى قسمين: مستحسن محبوب، ومستقبح
مكروه.
ما هو الحسَن، ما هو الزَّيِّن، ما هو الجميل؟
الحسن والزين والجميل كالحُسن والزينة والجمال، ألفاظ متعددة تدل على
معنى واحد عند رواد لب البيان. وعلى معانٍ متقاربة عند رواد القشور.
وتعدد الألفاظ مع توحد المعنى (وهو الذي يسمونه الترادف) لا عيب فيه
على لغة؛ لأنه كتعدد الحُلل لكاسية واحدة. ولكن بعض المتورعين في حفظ
الدلالات اللغوية من طوارق النسيان يجتهدون أن لا يثبتوا الترادف بادعاء معان
متقاربة أو فروق لا تكاد تذكر في مثل هذه المترادفات ولا نعيب فعلهم هذا فإن له
فوائد؛ ولكن نسألهم أن لا يعيبوا قولنا بترادف هذه الكلمات التي رُمنا بتعديدها
تفسير بعضها ببعض وبيان ترادف ما اشتقت منه ليتم من قولنا (حب الزينة)
إعلام بحب الجمال الطبيعي كالصناعي، وقد حملنا على هذه الإيضاحات ما نعلمه
من تفريق الاصطلاح وأهله بين هذه المتحدات تفريقًا أفضى إلى تشتيت الفهوم.
وهنا أستغفر من هذا الاستطراد الطويل وإنْ أوجبه المقام.
نعود إلى معرفة حقيقة الحسن الزين الجميل ثم نسأل نفسنا وغيرنا: ما هو
الحَسَنُ؟ ما هو الحُسْنُ؟ ما هو الاستحسان؟ ما هو حب المستحسن؟ لماذا
نستحسن؟ لماذا نحب الحسن؟ لماذا نختلف بالاستحسان؟ ما هو عشق
المستحسنات الذي يميل بكلٍّ نحو مستحسن فيغرم به؟
هذه مسائل تخطر في بال كثيرين ولكن قلَّ أن تجد في حجرات السرائر مقرًا
تقيم فيه برهة طويلة، أستدل على ذلك بعدم ثبات إراداتها معشر بني النوع؛ اللهم إلا
قليلاً من أحكام الحكماء الذي تزكت أرواحهم فكانوا بالأسرار من العارفين، ولا جُناح
عليَّ أن أعترف بأني لا أملك تلك المَلَكَة التي بها يتيسر الجواب عن كل مسألة من
هذه المشروحات ولكني أظن أن هذا لا يكون مانعًا من عرض ما استفاده الفكر من
ملاحظاته في عالمَيْ الشهادة والغيب. فأشد ما ساح في هذين العالَمين في سبيل
اكتشاف هاتيك الشؤون.
(1)
ما هو الحسن؟ نجيب عن السؤال الأول جوابًا يفتح كل مغلق أمامه
من المسائل فنقول:
الحسن إن كان محسوسًا فهو ما يفي بالحاجات ويزيد عليها أمورًا تنبسط النفس
بمرآها لمناسبة ما خُفِيَّةٍ تَنْقدِح في النفس ويظهر للقارئ أن هذه المناسبة ببقائها خفية
بقي الكثير من أسرار الاستحسان في المحسوسات غامضًا وستأتي زيادة بيان، وإن
كان الحسن غير محسوس فهل هو ما يستحسنه كل عقل لنفسه؟ كلا، بل هو ما
تتفق العقول السليمة كلها أو جُلها على استحسانه ويجب أن نصرّح هنا بأنه لا عبرة
بكثرة الذين يستحسنون الشيء تقليدًا بل العبرة بكثرة الحكماء الذين يستحسنون
الشيء عن طول تفكر. وإذا وجدناهم مختلفين في شيء وفي جانب كل حزب كثرة؛
فإن لأصحاب العقول من أهل الزمان الذي هم فيه أن يتفكروا كما يتفكرون، ولهم
أن يصرّحوا باستحسان ما استحسنوه فليس ثمّة أغلال للأفكار. ويختلج في الأذهان
أن حرية الاستحسان في غير المحسوسات توجب انفراجًا واسعًا بين الأفراد.
وإنه ليكاد هذا الظن أن يكون صوابًا لولا سببان عظيمان:
أحدهما: أن توسع حاجة النوع إلى الاجتماع وتوسع حاجاته في الاجتماع قد
ضَيَّقا بالتدريج ذلك الانفراج من قبل أن يتسع اتساعًا عظيمًا؛ إذ كما تتسع أشياء
من الضيق تضيق أشياء من السعة.
الثاني: أن العلم الذي رزقه مجموع النوع قد قارب بين الأفكار بأنواع خاصة
سيجيء بيانُها. وبهذا التقارب صار الأفراد الذي لا يُحصَوْن جماعات تحصى،
ومن المشاهد أن لكل جماعة مستحسنات عامة لا يستنكرها الأفراد وإن لم تكن
حسنة في الحقيقة؛ لأنهم مقلدون. وأكثر هؤلاء الجماعات يذهبون إلى أن الحسن
ما حسنته مذاهبهم الدينية على أنه مهما بالغ المبالغون في حبس حرية الأفكار فلا
يسعهم مناقشة الناس إذا بدا لهم ضد ما حسنته المذاهب؛ بل يضطرون إلى
المجاملة بضروب من الاصطلاحات معروفة لمن مرَّ بتلك الأبواب. وبمثل هذا
كانت ولا تزال تحصل التغيرات في العالم، ويجب أن لا نكتم أن حكماء الناس هم
حكماء الأفكار؛ ولكن قد تصير فترات تضيع فيها الحكمة ويقوم أناس ينتحلون
لأنفسهم هذه الوظيفة بصبغة أخرى فيحيون ضالين مضلين. وفي هذه الأيام يصير
غير الحسن حسنًا.
يقضى على المرء في أيام محنته
…
حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
هذا، والمقام يحتاج إلى فضل بيان ولكننا أجملناه إجمالاً فمَن لم يسع ما في
باطنه كفاه ظاهره الواضح.
وسواء كان المستحسن مستحسن جماعة أو مستحسن فرد من محسوس أو
متخيل لا يمكننا تعليل وجه الاستحسان في كل شيء؛ ولكن نعلم أن العلة العامة في
استحسان الأشياء هي مناسبة تنقدح في النفوس. ونعلم أن استحسان كل شيء علة
محبته، والاهتمام به على مقدار درجة المحبة (إذ لها درجات) . ونعلم أن هذه
الاستحسانات من حيث هي طبيعية في النوع. ونعلم أنها هي التي أوصلت مصانع
الإنسان إلى هذه الصورة الباهرة الساحرة ونعلم أن هذه المصانع من المميزات
العظمى لهذا النوع. ونعلم أن الإنسان سيتسامى رقيُّه مادام يستحسن ويسعى وراء ما
يستحسنه باهتمام يسوق، وأمل يقود، وعزم يعين.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شكوى الأمهات من تربية البنات
لما نشر (المُقَطَّم) شكوى نساء الإنكليز من تربية بناتهن في هذا العصر
طلب أن يعرف رأي الأمهات في بناتهن في مصر فكتب إليه من بعضهن الشكوى
في إثر الشكوى من سوء حال تربية البنات المتعلمات وكونهن لا يحفلن بغير اللهو
والزينة والعزف بالبيانو ونحو ذلك من التُّرَّهَات، ولم تصادف هذه الشكوى أقل
اهتمام من البنات ولا دفاع عن أنفسهن، وقد توالى الحث عليهن من المقطم وكثر
الترغيب حتى جاءه رسالتان من بلدين قال أنه لم يرد منهما شكاوى من الأمهات،
إحداهما بإمضاء (ابنة قبطية) والثانية بإمضاء (ابنة شاكرة) وفحوى الرسالتين
واحد وهو أن الذنب في كل ما تشكو منه الأمهات عليهن وعلى الآباء في عدم
العناية بتربية البنات والاعتراف بأن التعليم لا يغني عن التربية شيئًا وإن كان في
نفسه نافعًا.
ولا يزال المقطم يثير كوامن الرغبات، ويحرك سواكن همم البنات، ونظن
أنه إذا نُثلت الكمائن، وبُعثرت الدفائن، وفار فى الجدل التنّور، وحُصِّلَ ما في
الصدور؛ فإنه لا يكتب في الجرائد شيء يخرج عن معنى ما كتب إلا أن تفتخر
بنت بأنها أصلحت من بيت أبيها ما كان فاسدًا، ونظمت ما كان مختلاً! أو تفتخر
أم بأن بنتها كذلك! وسواء كتب هذا أو بقي الفريقان متفقين على سوء تربية البنات،
وعلى كون الذنب في ذلك على الآباء والأمهات، فإن الحقيقة في مجموع الشعب
المصري لا تظهر بمثل هذه الرسائل لا سيّما مع الظن الراجح بأن أكثر صواحبها
من السوريات ثم من القبط، والسوريات لهن أخلاق وراثية وعادات تقليدية ليست
للمصريات وإن كانت هجرتهن إلى مصر من زمن بعيد وتربى بناتهن في مصر
وتعلمن فيها، وأما نساء القبط وبناتهن فيشاركن المسلمات المصريات في بعض
الشؤون ويفارقهن في بعضها ومسافة الخُلْف في المتعلمات من الطائفتين أوسع فإن
القبطيات المتعلمات يمزقن الحجاب ويحضرن مجالس الرجال في زينتهن كنساء
الإفرنج بلا فرق، فلا بد أن يكون لذلك أثر في سيرتهن لا يُعرف في المسلمات
اللواتي هن أكثر أهل البلاد.
ويوجد سبب آخر للخلف حتى في بنات الطائفة الواحدة وهو اختلاف معاهد
التعليم فإن من البنات المتعلمات مَن تعلمت في مدارس الحكومة ومنهن من تعلمت
في مدارس الجِزْوِيت أو الفِرِير ومنهن من تعلمت في مدارس البروتستانت
الأمريكان أو غيرهم ومنهن من تعلمت في المدارس الأهلية الإسلامية أو القبطية.
ولكل نوع من هذه المدارس تأثير خاص في نفوس من يتعلم فيها يحدث خلفًا كبيرًا
في الأخلاق والعادات والرغبات.
انظر إلى هذه الفصول بين طبقات الأمة المصرية هل تجد مثلها في إنكلترا
التي يحاولون في هذا المقام أن يسلكوا طريقها في اختبار حال البيوت ومعرفة تأثير
التربية في البنات. الأمة هنالك واحدة، وللمدارس طريقة واحدة وللتربية العامة
نظام واحد، فإذا شكا بعض النساء الإنكليز من تربية بناتهن فلك أن تعتبر شكواهن
ميزانًا للتربية في الأمة وأن تقول إن ما يصدق على هؤلاء يصدق على مَن في
طبقتهن فإذا رأيت الشكوى من جميع الطبقات فلك أن تحكم على الأمة في مجموعها
بما تضمنته الشكوى؛ حتى إذا استثني بعض الأفراد كان ذلك لأسباب خاصة فإن
القواعد الاجتماعية لا تستغرق جميع أفراد الأمم والشذوذ فيها مطَّرد.
إذا سألنا عن حال البنات المتعلمات في البيوت هل هُنَّ قرة عين لأمهاتهن أم
لا، فلا بد لنا من معرفة الجواب عن ذلك من الرجال المتعلمين المختبرين، والذي
يقرب من النظر ويؤيده الخبر أنَّ تعلّم البنات في مصر سطحي كما يقولون وأنه
عندهن ضرب من ضروب الزينة فهو في الغالب يشغلهن عن مساعدة أمهاتهن على
تدبير المنزل وخدمة البيت ومنهن مَن يعتقد أنهن أرفع منزلة من ذلك.
أما حال الأمهات معهن فيختلف باختلاف الطبقات، فالبيوت الغنية يرضى
الأمهات فيها أن يرين بناتهن مشغولات بالزينة في جميع الأوقات وأن يكنَّ ممتازات
بمعرفة ما لا يعرفه سائر البنات: من إتقان اللغات الأجنبية وإحسان العزف بالبيانو
والتفنن في بدع الزينة ويعتقدن أن هذه المزايا هي المُرَغِّبَات الكبرى لمريدي
الزواج، والأسباب الصحيحة للمسرّة والابتهاج!
وأما البيوت التي يحتاج فيها لمساعدة البنات، والتي يعسر على أصحابها
موافاة رغباتهن الجديدة التي أحدثها التعليم الجديد فلا شك أن الأمهات فيها يتبرَّمن
من تقصير البنات في مساعدتهن على تدبير المنزل وتربية الأطفال ولكنهن يكتمن
ذلك في الغالب ولا يبدينه إلا لمن يسهل عليهن إِطْلاعَهُ على عوراتهن، ووقوفه
على مساويهن.
اعتذر بعض الرجال عن البنات بمثل ما اعتذر به الكاتبتان صاحبتا الرسالتين
في المقطم بأن الذنب على الوالدين لا على البنات، فإنهما يعلمان بناتهما إلا أنهما لا
يربيانهن. وحسن الحال في المعيشة، وكل أعمال الحياة يتوقف على التربية أكثر
من توقفه على التعليم لا سيما تعليم المدارس الذي أكثره فيما لا عمل فيه؛ إذ
بالتربية يكون تمرين الأعضاء على العمل، وبالتربية تتكون الأخلاق والعادات
الحاكمة على الإرادة. والإرادة هي التي تنفّذ ما يقضي به العلم ويظهر وجه
المصلحة فيه فمن لا تربية له لا ينفعه علمه الذي تعلمه في مدرسة العلم ولا علمه
الذي تعلمه في مدرسة الوجود، لأن العلم عنده يكون صورًا خيالية تلوح في ذهنه ثم
تغيب.
وأقول: إن هذا العذر على صحته لم يصب موقعه من تبرئة البنات المتعلمات؛
لأن القصد من تعليمهن إصلاح البيوت التي أفسدها جهل أمهاتهن فإذا كان علم
المدرسة يفيد البنت الكسل، ويزيدها إعراضًا عن العمل، ويُبَغِّضُ إليها عادات أهلها
وقومها، نافعة كانت أو ضارة ويحبب إليها تقليد قوم آخرين في الزينة والترف وإن
أعجز الوصول إليهما أباها وأمها - فلا شك أن هذا التعليم سم قاتل، وبلاء نازل،
وأن تركه واجب ومقاومته ضربة لازب.
السبب الحقيقي في سوء حال البنات المتعلمات وسوء حال غير المتعلمات هو-
كما قيل - سوء التربية العامة أو ترك التربية الصحيحة النافعة، ولكن أليس من
الضروري أن يكون سوء الأخلاق الذميمة، وفتك العادات الرديئة، أقل تأثيرًا في
نفس المتعلمة منه في نفس غيرها؟ أليست فائدة العلم الكبرى مساعدة التربية لأن
المتعلم يحكم على ما عليه الناس بغير ما يحكم به الجاهل فيميز بين الضار والنافع
والصالح والفاسد أليس التعلم هو تربية للعقل الذي هو أفضل القوى النفسية، فإذا
امتازت البنت على أمِّها بالعقل وصحة الحكم على الأمر، وعرفت من الحقوق ما
لا تعرف، وساوتها في ضعف الإرادة والخضوع لسلطان العادة، أليس من المعقول
أن يتنازع ما به الامتياز وما به التساوي فيقوى هذا تارة وهذا تارة ويكون ترجيح
العقل فيما غلب فيه مبدأ دخول الإصلاح المطلوب؟
بلى؛ إن إصلاح حال الأمم يجري في هذه السبيل ولو كان التعليم في هذه
البلاد يقصد به إلى إصلاحها لارتقت في الأخلاق والأعمال كما ارتقت في التعليم
على أكثر بلاد المشرق. والأمر بخلاف ذلك فإن أخلاق الناس في كل بلاد نعرفها
أرقى من أخلاق أهل هذه البلاد كما أن عاداتهم أمثل من عاداتهم، على أن التعليم
هنا أكثر انتشارًا منه في تلك البلاد التي نعنيها، والمصريون الذين سافروا إلى تلك
البلاد يعرفون هذا وينطقون به؛ وأعجب من هذا أن أكثر الفساد والفجور لم ينتشر
في أكناف هذه البلاد ويتغلغل في أحشائها إلا بالمتعلمين، فكأنهم لم يتعلموا لأجل
العمل إلا شرب الخمور ولعب الميسر والتفنن في الزينة والانغماس في الشهوة
البهيمية حاشا نفرًا يعدّون على الأنامل هم الذين أفادهم العلم وحدهم من ألوف
المتعلمين.
السبب في هذا أن العلم الذي يعلم في المدارس المصرية - سواء كانت
للحكومة أو للأجانب أو للأهلين - لم يُقصد به إلى إصلاح النفوس وارتقائها وجعل
المصريين سعداء أعزاء، فإن مثل هذا القصد لا يأتي إلا ممن يغارون على الأمة
ويرون سعادتهم بسعادتها وعزهم بعزها، ورؤساء الحكومة المصرية ليسوا كذلك،
والجِزْوِيت والفرير والأمريكان ليسوا كذلك، ومنشئو المدارس الأهلية كان يجب أن
يكونوا كذلك؛ ولكنهم ليسوا كذلك وهذا شيء يعرفه كل أهل البصيرة في مصر
وربما نشرحه في مقالة أخرى.
تبين من هذا أن قلة استفادة البنات من التعليم سببها أنه لم يقصد به إصلاحهن
ولا إعدادهن لإصلاح بيوتهن فإن هذا التعليم جاء من الإفرنج وزمامه بأيديهم في
مدارسهم ومدارس الحكومة التي هم قُوَّام عليها (والمدارس الأهلية مُقلَّدة لهذه
المدارس تقليدًا أعمى أصم) وإنما يقصد الإفرنج جذب نساء هذه البلاد إلى النطق
بلغاتهم، والتزيِّي بأزياء نسائهم، واستحسان عادات قومهم وتعظيم شؤونهم،
ليقبضوا من صدور الأمة حب جنسها ووطنها ويقطعوا جميع روابطها المالية فتكون
طعمة لهم. ومَن تراه انتفع بتعليمهم من ذكر وأثنى وصَلُحَ حاله فاعلم أن ذلك كان
بمعونة استعداد فطري عظيم وتربية محمودة وتوفيق إلهي أمام ذلك ووراءه.
والنتيجة أنه لا يرجى أن نستفيد من تعليم البنات ولا تعليم الذكور ما يصلح
به شأننا وترتقي به أمتنا إلا إذا وُجِدَتْ عندنا مدارس يتولى إدارتها رجال يهمُّهم
إصلاح الأمة وإعلاء شأنها. وقد وُفق القبط إلى هذا أكثر مما وفق المسلمون، فإذا
نهضت بهؤلاء الهمة إلى إنشاء مدرسة كلية تناط إداراتها برجال الجمعية الخيرية
الذين أثبتوا لنا بثباتهم على خدمة الأمة أنهم خير رجالها - فبشرهم بالنجاح العاجل،
والخير الآجل، وإلا كانوا على خطر عظيم ربما لا يتنبهون له إلا بعد فوت
الفرصة، ووقوع الغصة، والأمر لله العلي الكبير.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(إرشاد الألبا إلى طريق تعليم ألف با)
في أيدي الناس ألوف من الكتب المؤلفة في العلوم والفنون ولكن أكثرها
متشابه؛ لأن بعضها في الغالب منقول من بعض مع اختصار مخل أو غير مخل
وزيادة ضارة أو نافعة وكيفما كان هذا التأليف فهو تقليد من المتأخر للمتقدم، منهم مَن
أحسنه ومنهم مَن أساء فيه وسواء كان التقليد متقنًا أو غير متقن فهو ليس من العلم
في شيء والمقلد لا يكون عالمًا ولا مفيدًا للعلم ولا مستفيدًا له؛ وإنما ينتفع بكلام
العلماء ومباحثهم من ينظر في ذلك بعين البصيرة والاستدلال. ومن نزع من عنقه
ربقة التقليد هُدي إلى الاستفادة والإفادة حتى يصح أن يقال في تأليفه إنه له وأن فيه
علمه وحتى إن الباحث المجتهد ليفيد كل موضوع وإن كان ما يظنه الناس بديهيًا لا
مجال فيه للبحث.
أمامنا الآن كتاب (إرشاد الألبا إلى طريق تعليم ألف با) الذي وضعه حديثًا
الشيخ طاهر الجزائري الشهير واسمه يدل على موضوعه. فقد سلك فيه صاحبه
مسلكًا في الاجتهاد لم يخرج فيه عمّا قاله أئمة اللغة العربية ولكنه أحسن الاختيار
والتصرف فقرَّب البعيد، وسهّل الحزَن، وذلّل الصعب الجامح، حتى أخرج لنا
علم الأوائل في أحسن صورة انتهى إليها رُقي الأواخر. فلا يتوهمنَّ أحد من الاسم
أن الموضوع بديهي لا يحتاج المؤلف فيه إلى سعة اطلاع، ولا براعة في الوضع
والتأليف، وأن لا ينتفع بهذا الكتاب إلا مُعَلِّم الكتّاب، كلا، إنه كتاب لا يستغني
عنه معلم عربي مهما علت منزلته في العلم، وإن كان كمؤلفه في سعة الاطلاع
وقوة الفهم، فإن هذا الرجل أعلم علماء سوريا في العلوم العربية بل هو أوسع مَن
نعرف اطلاعًا على مؤلفات المتقدمين والمتأخرين من أهل هذه اللغة مع تمكنه في
علومها.
وإننا نود أن يطلع عليه جميع علماء الأزهر وجميع معلمي العربية في
مدارس الحكومة والمدارس الأهلية فعسى أن يتنبه لذلك شيخ الأزهر ومفتشو
العربية في المعارف ونظار سائر المدارس فيأمروا بنشر هذا الكتاب في مدارسهم.
لو أردنا أن ننشر ما انطوى ما في الكتاب من مباحث الحروف المفردة
والمركبة ومباحث النطق والكتابة والتعليم ونورد طائفة من الشواهد والأمثلة التي
وردت فيه تسهيلاً لسبيل التعليم لأَطَلْنا في التقريظ ولا سعة هنا للتطويل.
وقد طبع الكتاب في بيروت طبعًا حسنًا على نفقة الشيخ أحمد طباره محرر
جريدة (ثمرات الفنون) الغراء وضبط فيه ما ينبغي ضبطه وصفحاته 144 وثمن
النسخة منه أربعة قروش وهو يطلب من إدارة المنار ومن مكتبة أمين أفندي هندية.
(رسالة ألف با) هي رسالة مستخرجة من كتاب (إرشاد الألبا) لأجل
التعليم وهي توافق الطرق الحديثة في التعليم على أنها مقتبسة من وضع الأئمة
المتقدمين وصفحاتها 32 وثمن النسخة منها نصف قرش صحيح وتطلب من مكتبة
هندية أيضًا.
***
(تدبير الأطفال)
كتاب حديث في فن تربية الأطفال وتدبير أمرهم في الصحة والمرض من
تصنيف الدكتور إسكندر جريديني بك مساعد أستاذ الفيسيولوجيا سابقًا في كلية
ماريون سمس الطبية في سانت لويس، أميركا، ابتدأ المؤلف كتابه بفصل في
تدبير صحة الحوامل وأمراض الحمل وحال الولادة ثم تكلم على تدبير الأطفال منذ
يولدون فلم يترك شيئًا يجب أن يبحث فيه إلا وفّاه حقه، ولم يقتصر على الكلام في
الوقاية من الأمراض الجسدية ومعالجتها؛ بل بحث في تربيتهم النفسية أيضًا وأطال
القول في ثيابهم وغذائهم وخدمتهم، وكلامهم في العلل والأمراض التي تطرأ عليهم
سهل يفهمه كل متعلم ومتعلمة.
وجملة القول في هذا الكتاب: إنه نعمة كبيرة على قراء العربية وإنه لا يستغني
عنه بيت من البيوت فنحث جميع المتعلمين على قراءته ونخص الأمهات بالحث
عليه.
وقد طبع طبعًا حسنًا في مطبعة الهلال وصفحاته 268 وثمن النسخة منه 12
قرشًا صحيحًا وأجر البريد قرشان وهو يطلب من مكتبة الهلال بالفجالة.
***
(الألفاظ المترادفة)
رسالة للإمام أبي الحسن علي عيسى الروماني (رحمه الله تعالى) اعتنى
بشرحها وطبعها محمد أفندي محمود الرافعي بعد أن صححها وضبط ألفاظها على
الشيخ محمد محمود الشنقيطي إمام اللغة في هذا العصر. والمراد بالألفاظ المترادفة
فيها الألفاظ التي يجمعها معنى عام وإن كان لكل لفظ منها معنى خاص يغاير الآخر
فهي في المفردات نحو كتاب (الألفاظ الكتابية) للهمداني في الجمل ولكن فيها من
الفوائد ما لا يُغني هو عنه.
وقد طبعت بالشكل في مطبعة الموسوعات وتباع في المكتبة الأزهرية وثمن
النسخة منها قرش ونصف فنحث طلاب العلم لا سيما المشتغلين بالكتابة والشعر
على اقتنائها ومطالعتها.
***
(مراقي الترجمة)
صدر الكتاب الرابع من مراقي الترجمة من الإنكليزية إلى العربية وبالعكس
وهو خاص بتلامذة السنة الرابعة في المدارس الابتدائية ومن فوائد هذا الجزء أنه
مشتمل على مسائل الشهادة الابتدائية في الترجمة التي امتحن بها الطلاب في
المعارف من سنة 1892 إلى سنة 1903 فنشكر لمؤلفه وناشره أبي زيد أفندي فايد
عمله ولمساعديه على التأليف عبد الحميد أفندي الشربيني ومحمود أفندي عثمان
عطا الله (الثلاثة من المدرسين في مدرسة الناصرية الأميرية) ونحث جميع
متعلمي الإنكليزية على الانتفاع بكِتَابهم وثمنه قرشان ونصف قرش فقط.
***
(المقامات العشر لطلبة العصر)
انتخب الشيخ محمد المبارك الجزائري عشر مقامات من مقامات الحريري
واختار أن يقرأها طلاب العلم لتكون مادة لهم في اللغة وقد شرحها ليسهل عليهم
فهمها فطبعها على نفقته الشيخ أحمد حسن طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون)
الغراء في بيروت وجعل ثمن النسخة منها ثلاثة قروش ولعل محبي هذه المقامات
من طلاب العلم يكتفون بها ويجعلون همهم الاستفادة من مفرداتها من غير عناية
بأسلوبها وهي تطلب من مطبعة هندية.
***
(ملكة على عرش الفراعنة)
أسطورة إنكليزية تشرح بعض عادات المصريين الأولين وفراعنتهم
وموضوعها أن فرعون موسى عشق غادة مصرية اسمها (تاهوسر) كانت عاشقة
للشاب الإسرائيلي (بويارى) مدير الأملاك الخاصة بالأسرة الملكية وكان من كبار
الأغنياء وكانت الفتاة من أولاد أكابر الكهان ذات ثروة عظيمة ولم تجد سبيلاً للقرب
من معشوقها إلا مغادرة قصرها متنكرة بزي فقيرة والدخول في قصره والانتظام في
سلك خوادمه لعلها تستميله بما يشاهد من جمالها وكمالها ولكنها لسوء حظها علمت
بعد ذلك أنه عاشق لفتاة من قومه اسمها (راحيل) على أن الفتاة الإسرائيلية رضيت
بأن يجمع خطيبها بينها وبين المصرية إذا هي تركت دين قومها وعبدت مع
الإسرائيليين إلهًا واحدًا وكاشفتها بذلك وأخبرتها بأن سيخرجون مع موسى من مصر
فرضيت المصرية بالخروج معهم ولكن خادمة راحيل دلت فرعون عليها فأخذها إلى
قصره وكان يستميلها فلا تميل إليه حتى إذا ظهر موسى عليه السلام يدعوه إلى
إرسال بني إسرائيل معه صارت تلين له القول ليسمع نصحها له بعدم الفتك ببني
إسرائيل وفي الأسطورة من خبر موسى مع فرعون ما يصح وما لا يصح.
ومن فوائد هذه القصة العلم بأن بعض الإسرائيليين كانوا مقربين من الفراعنة
لإحسانهم خدمتهم وكانوا أصحاب ثروة واسعة على ما مني به قومهم من الظلم
والاضطهاد، ومنها تعليل عشق فرعون للفتاة وتذلُّله لها بأن نساءه على جمالهن
البارع كن يعاملنه معاملة العبد للمعبود وأن حظ الرجل الطبيعي من المرأة هو أن
يكون لها سلطان على قلبه نظير سلطانه على قلبها وأن يعامل كل منهما الآخر
معاملة النظير للنظير في الشئون الزوجية وذلك ما أعوز فرعون حتى التمسه في
عشق الفتاة فوجده، لولا أنه لم يستطع امتلاك قلبها كما ملَّكها قلبه. ومن الخطأ فيها
نسبة الكذب إلى موسى عليه السلام، وزعم أن فرعون لم يكن يعرفه قبل بعثته
وأنه بُعث وهو شيخ كبير وأن العصا كانت لهارون وكان هو الذي يعمل بها
العجائب بأمر موسى عليهما السلام وغير ذلك وهو خطأ ضار.
أما ترجمة الرواية فحسنة ومترجمها نقولا أفندي رزق الله وهي تطلب منه
ومن المكاتب الشهيرة بمصر وثمن النسخة 8 قروش.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفاة حسن باشا ناظر البحرية
ننقل ترجمة هذا الوزير عن جريدة (محمدان) الهندية كما نقلتها عن جريدة
الأخبار الإسلامية (مسلم كرونيكل) وهي رسالة لمُكاتب هذه في لندن مأخوذة من
رسالة من الآستانة، كتب في اليوم الثالث لموت الوزير. وقد نشر في بعض
الجرائد المصرية ترجمة الرجل على نحو ما في جريدة الدولة الرسمية خالية من كل
عبرة وفائدة وذلك أن جرائد المسلمين في مصر تنحو في الأخبار العثمانية منحى
جرائد الآستانة وسوريا وهي لا تكاد تنشر إلا ما يوافق الأهواء. ومن هنا نستدل
على كون جرائد المسلمين في الهند أرقى حرية من أخواتها في مصر، ولعل سبب
ذلك أن القارئين صاروا هنالك أرقى منهم هنا في الحرية؛ إذ يحبون أن يعرفوا
الحقيقة لا أن يتلذذوا بالمدح وإن كان كذبًا.
قال المكاتب ما تعريبه:
الرأي العام مجمع على أن قوة الدولة العثمانية الحربية توازن قوة أية دولة من
الدول الكبرى ولكن بَحرية الدولة صارت من عدة سنين قرحًا في جسمها ومرضًا
في بنيتها، وقد كانت إلى عهد حرب القِرم، بحيث لا تقل عن قوة فرنسا وروسيا
إن لم تكن من أعلى القوى البحرية لذلك كان مما يثير العجب أن لا يكون لتركيا
موقف مع الدول البحرية لهذا العهد. وقد علم قراء (الكرونكل) من رسائلي
السابقة في هذا الموضوع الأسباب والأحوال التي هبطت ببحرية الدولة إلى هذا
الحضيض. وكل هذا الهبوط والتأخر ينسب إلى رجل واحد استحق لعن الأمة
التركية هذا الرجل البغيض هو حسن باشا حسني.
مات حسن باشا حسني ناظر البحرية العثمانية أول أمس وكان يرجو الناس
موته من زمن بعيد وكان موته في قصره بالكوروششمه على ضفة البوسفور وهو
في سن الثمانين، ولم يُعرف في تاريخ البشر من أول الخليقة إلى الآن رجل كان
أشد بغضًا ومقتًا إلى أمته من هذا الرجل الذي مكث في منصبه هذا نحو ربع قرن.
ولي البحرية العثمانية وهي في الدرجة الثانية من قوى البحرية الأوربية، وتركها
وهي أدنى القوى البحرية في العالم وأضعفها. ولقد تستحوذ الدهشة على الإنسان
وتملكه الحيرة إذا حاول فهم سبب إهمال البحرية من دولة حربية عارفة بمكانة
القوى البحرية في هذا العصر. على أن هذا الناظر لم يكن أقل علمًا من أعظم
أمراء البحر في أوربا؛ بل المشهور عنه أنه كان من أمثل أمراء البحر في الدول
البحرية العظمى وأمهرهم وأحذقهم، ولكن هذا الرجل الذي كان من أكبر رجال
الدولة هو الذي أضعف تلك القوة العظمى عامدًا متعمدًا، وقد وصفته إحدى الجرائد
التركية اليوم بأنه أعظم عبيد السلطان أمانة وأشدهم استقامة؛ ولكنَّ أفكارنا وشَكْلَ
الحكومات الراقية في هذا العصر يحولان دون الاعتقاد بأن الخائن لأمته ودولته
يكون ناصحًا لسلطانه وصادقًا في خدمته؛ ذلك لأن النصح للحاكم والإخلاص في
خدمته أمران لازمان لحكومته؛ إذ لا معنى لخدمة الحاكم من حيث هو حاكم إلا
خدمة الحكومة التي هو رئيسها، وكان فساد طوية حسن باشا وتركه محاسبة نفسه
واستفتاء قلبه حال دون التمييز بين الرجل من حيث هو حاكم ومن حيث هو
شخص ربما يرجى نفعه ويخشى ضره لذلك كان يقضي ليله ونهاره مدة ربع قرن
في تجريد السفن الحربية من جميع عدتها التي تكون بها صالحة للحرب. ولا
يدري أحد من الناس أين صُرفت الأموال العظيمة المخصصة للبحرية في ميزانية
الدولة؛ إذ لم يطالبه أحد بحسابها؛ بل كان مطلق التصرف ومتمتعًا بالسلطة التامة
في نظارته إلى آخر حدودها، وكان يولي ويعزل من شاء من غير سؤال ولا
مراقبة من أحد نافذ الرأي مطاع الأمر في نظارته وفي مجلس الوزراء بل وفي قصر
يلدز نفسه.
ولقد مات موتة شنيعة سبقها مرض عاثَ في جسمه سنة كاملة كان فيها
موضعًا لسبعين نوعًا من الأعمال الجراحية وذاق فيه من الآلام ما لا يُطاق، وكان
يجمجم وهو يتقلب في غمرات الموت بهذه الكلمة توبة وندمًا: (ما جنيت إذ جنيت
وحدي ولكن كان لي شركاء) ! أو ما هو في معناها وسيكون موته عبرة لغيره ممن
يدفعون إلى الجري على سننه.
عين حسن باشا ناظرًا للبحرية ولم يكن يملك شيئًا؛ حتى ولا بيتًا يقيم فيه
ومات بالأمس وهو يكاد يكون أغنى رجل في تركيا وتقدر ثروته المنقولة والثابتة
بثمانية ملايين من الجنيهات وكان دخله السنوي مئتي ألف جنيه وكان يشتري كل ما
يباع حيثما وجده وإن لم يكن قادرًا على كمال الانتفاع به؛ لأنه لم يكن يسمح له
بالخروج من القسطنطينية. وقد أقبل الناس هنا (الآستانة) على الجرائد التي نَعَتْه
بالأمس واشتروا منها عددًا عظيمًا وقد أخذتهم روعة من السرور استغرقت شعورهم
وطفق يهنئ بعضهم بعضًا بالجهر من القول بكمال الحرية، وكان الفرح عامًا في
السواحل البحرية فإن أتراك الآستانة وسواحل البحر الأسود وبحر مرمرة والساحل
الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وخليج العجم مولعون جدًا بالبحرية؛ فالسفينة
المدرعة أبهى في نظرهم من الخميس العَرَمْرَم من الجيش، ولو كانت ترجمة
الرجل الرسمية مما يستحق العناية لنقلتها من الجريدة الرسمية بحروفها؛ ذلك أن
أعماله قليلة جدًّا فلا نصيب لها من التطويل.
كان حسن ولدًا لباشا فريقٍ في البحرية ولا ينبغي أن يعتقد أنه ارتقى بنَسَبِه؛
بل كان أنجب التلامذة في المدرسة والمقدم في فرقته ومحبوبًا لكل أساتذته، ولما
نال الشهادة من المدرسة البحرية التي كانت وقئتذ حديثة النشأة عُيِّن ملازمًا في
السفينة المسماة (خداداد) وقام بخدمة الحكومة في البحر المتوسط على سواحل
إِفريقيَّة وسواحل الجبل الأسود وجزيرة كريد والبحر الأحمر وشهد حرب القِرْم
وأبلى بلاءً حسنًا في حرب سيباستبول وكان يومئذ أمير عمارة البحر الأسود في
الحرب الروسية العثمانية الأخيرة وقد أُعجب الناس بنجاحه ومهارته يومئذٍ في
إنزال الجنود العثمانية في باطوم.
ترك حسن باشا اثني عشر ولدًا، أكثرهم مستخدمون في دار الصناعة
(الترسانة) العثمانية. وكان يتكلم بالتركية واليونانية والإنكليزية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتنة بيروت
في بيروت رهط من الأشقياء يسفكون الدماء ويهينون الوجهاء ويسلكون في
شرورهم مسلك التحمس الديني فيزعمون أنهم ينصرون الدين بفسادهم فإذا سمع
المسلم أن نصرانيًا أهان مسلمًا أو قتله يفعل كما يفعل النصراني إذا سمع بمثل ذلك
ينتقم كل منهما للمنتسب إلى دينه وإن كان مجهولاً من أي مخالف له وإن كان بريئًا
ولم توجد شريعة وضعية فضلاً عن شريعة إلهية تأمر بأخذ البريء بجريرة الأثيم
لأنه يشاركه في الانتساب إلى الدين.
وأشهر هؤلاء الأشقياء جانٍ اسمه إلياس الحلبي فقد بلغنا عنه أنه إذا عزم على
الفتك بمسلم ما يذهب أولاً إلى الكنيسة فيسجد للسيدة العذراء عليها السلام ويمس
صورتها بسلاحه ويطلب منها الإعانة على الفتك بأعداءه وأعدائها، وما كان
المسلمون من أعدائها فإنهم يبرئونها من الدنس ويحكمون بكفر قاذفها ثم ينطلق
إلى جنايته قرير العين معتقدًا أنه مؤيَّد بتلك الروح الطاهرة التي هي أبعد الأرواح عن
الرضى بهذا العدوان والشر الكبير.
ويجهل هذا الشرير وصايا الإنجيل بمحبة الأعداء ولا يجد من يذكِّره هو
وأمثاله بها كما لا يجد أشرار المسلمين من يذكرهم بوصايا الكتاب والسنة ومنها
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ظلم أهل الذمة أديل للعدوّ) رواه الطبراني
عن جابر بلفظ: (كانت الدولة دولة العدو)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن
قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة.. إلخ) رواه أحمد والنسائي، وقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا مَن دعا إلى عصبية وليس منا قاتل على
عصبية وليس منا مَن مات على عصبية) رواه أبو داود عن جبير بن مطعم.
وقوله عليه السلام: (العصبية أن تعين قومك على الظلم) رواه البيهقي عن واثلة
ونحو هذه الأحاديث.
بل إننا نسمع أن من وجهاء الطائفتين من يساعد أشقياءهما حتى إن إلياس
الحلبي قد رَتَّب له بعض الأغنياء في بيروت وكبار الموظفين في لبنان الرواتب
الكافية، ولا أحب أن أذكر أسماءهم. وأعجب من هذا وذاك أن الوالي رشيد بك
الذي عهد إليه السلطان حفظ الأمن كان هو الذي يغري بعض الأشقياء ببعض لينتفع
من الفريقين وكل أهل بيروت ولبنان يعرفون هذا، وقد نوّهنا بسوء سيرته في
السنة الأولى والسنة الثانية من المنار وقلنا: إن السماء والأرض تستجيران من ظلمه.
ولكن من يسمع لنا إذا كانت الآستانة لم تسمع من المتظلمين من رعيته شكواهم
عليه؛ فقد علمنا أن طائفة من أهل بيروت شكوه بالبرق إلى السلطان، وقد كان
علم فسبقهم وأرسل إليه يقول إن طائفة من شيعة الترك الأحرار قد أعيتهم الحيل في
تتبّعي حركاتهم وسكناتهم فأرادوا أن يتظلموا مني إلى مولاي بأمور يتجرمون بها
فقبل السلطان قوله ولم يسمع لهم شكوى!
هذا الإهمال جرّ إلى تفاقم الشرور، وتغلغل الأحقاد في الصدور؛ فكانت
توري كلما قدحت الحوادث بزندها حتى إذا قتل في آخر الأسبوع بعض الأبرياء من
المسلمين انفجر البركان، وتلاحم الفريقان، وكان في أول الأسبوع الماضي ما كان،
كانت في بيروت فتنة عامة قتل فيها كثيرون من الطائفتين وجرح الكثيرون
وتعب الجند في إخماد النار وقتل منهم أفراد وهو أمر لم يسبق له نظير ونزح
عشرات الألوف من النصارى إلى جبل لبنان فعوملوا معاملة الإخوان للإخوان،
ودخل وكلاء الدول في الأمر وطلبوا من الوالي الغوي رشيد بك أن يتعهد بحفظ
الأمن فأبى لعلمه بأنه هو المجرِّئ بسوء سيرته لجميع الأشقياء بالعدوان؛ حتى لم
يبق له عليهم سلطان وقد ثبت هذا للقناصل بالبحث والاختبار فكتبوا بذلك إلى دولهم
وكان ذلك سببًا في عزل الوالي الغوي وصدور الأمر لوالي سوريا ناظم باشا بالقدوم
إلى بيروت وإعادة الأمن ومعاقبة الجناة إلى أن يعيّن لها والٍ جديد فصدع بالأمر
وأعاد الأمن وأمر الناس بالعود إلى أشغالهم بعد ما أقفلت المخازن والدكاكين وبطلت
الأعمال كلها فأبى النصارى الامتثال وقال مطران الروم للوالي أن أبناء طائفته لا
ثقة لهم بالأمن إلا أن يكون بعهد من الدول الأجنبية. والحق أنهم يثقون به في
قلوبهم ولكنهم افترصوا الحادثة لطلب ما ذُكر.
هذا ما يطمع فيه قوم منهم وبعضهم يطمع في جعْل بيروت تابعة للجبل وظنوا
أن هذه الحادثة فرصة تُغتنم ويرجى فيها أن تساعد الدول على الإلحاق فتكون
حكومة عروس سوريا أو عروس المملكة العثمانية (بيروت) مسيحية كما أن قواها
المالية والأدبية مسيحية وهم معذورون في هذا الطلب وذاك من حيث هم مسيحيون؛
إذ لو كنت في موقع كموقعهم لتمنَّيْتُ أن يكون حاكمي مسلمًا، ولكن لا عذر لمن
يمهدون لهم السبل لذلك من المسلمين بل الواجب عليهم أن لا يدعوا لهم منفذًا
للشكوى إن استطاعوا ، ولعمري إن الحكومة قادرة على ذلك إذا كان الوالي مثل
ناظم باشا وإنني سمعت الناس في سوريا يلهجون بأن مدحت باشا كان ألَّف بين
الفريقين في بيروت كسائر سوريا حتى صاروا كالإخوة في التعامل ويعتقدون أن
ناظم باشا قادر على مثل هذا التأليف لا سيّما إذا علم أنه يُرضي السلطان.
لما وقعت الحادثة وردت الرسائل من النصارى إلى الجرائد السورية ومن
المسلمين إلى الجريدة الإسلامية (المؤيد) في شرح الحادثة وكل فريق يلقي التبعة
على الآخر ويعد نفسه مظلومًا، وقد انتصرت كل جريدة لقومها معتمدة على ما
كتب إليها وطفقت جرائد السوريين تلوم (المؤيد) بأنه انتصر للمسلمين تعصبًا لهم
وتنسى نفسها مع أن السوريين أعلم من المؤيد بخبث الفريقين ولهم علم يميز ما في
الرسائل من المبالغة دونه وكانوا يقولون ذلك أحيانًا مع الإنحاء على المسلمين
خاصة إلا أن جريدة (الأهرام) كتبت كتابة العثماني المعتدل الذي يريد المصلحة
وإن نشرت رسائل لغير المعتدلين. ولو كان لي سلطان على الجرائد لألزمتها بأن
تكتب في تأنيب الطائفتين كما كتبت جرائد بيروت الإسلامية والمسيحية (لا جرائد
لبنان) ؛ بل لألزمتُ المسلم بشدة لوم المسلمين والنصراني بشدة لوم النصارى؛
لأن هذا هو الأنفع في رأيي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سعاية خائبة
لما علم بعض الأشرار بالطبع أن الأستاذ الإمام يقصد في صيف هذا العام
زيارة بلاد الجزائر وبلاد تونس افترصوا ذلك فكتبوا في السعاية به إلى حكومة
الجزائر رسالتين، إحداهما أرسلت من مصر والأخرى من الإسكندرية باسم الحاكم
الفرنسي العام وفيهما ما فيهما من قول الزور والإغراء بالإمام بزعم أنه لا يقصد
بالسفر إلى الجزائر إلا تحريض المسلمين على الثورة والخروج على الحكومة ونبذ
طاعتها وأنه قادر على ذلك، كما كتبوا بمثل ذلك إلى الآستانة عندما توجه إلى
زيارتها منذ عامين.
كتبوا هذا لاعتقادهم أن الحكومة الفرنسية هناك حكومة خرقاء تأخذ بالشبهة
وتنتقم من البريء لأدنى وهم يوسوس به شيطان من شياطين الإنس، أو يهجس به
في الخاطر عِفريت من الجن، ولظنهم أن الحكومة الفرنسية تجهل قدر الأستاذ
الإمام ومقامه الديني. ولكن الحكومة الفرنسية فوق أوهامهم وأحلامهم فقد بلغنا أنها
قد تلقت الرجل العظيم بالحفاوة والإجلال اللائقين بشخصه وبمقامه الديني والعلمي
كما تلقاه في إنكلترا كبراء الإنكليز وعلماؤهم، فسُرَّ بهذه المعاملة الحسنة لأشهر
أئمة المسلمين في هذا العصر مسلمو الجزائر ورأوا ذلك دليلاً على حسن قصد
حكومتهم وحسن سياستها فليعتبر فضلاء المصريين بهؤلاء الأبالسة الذين يعز عليهم
أن يوجد في الأمة رجل جليل عالي القدر محترم المقام حتى إنهم يبذلون جهدهم في
تنميق الكذب ليحملوا الأجانب على إهانة سادتهم وأئمة الدين الذي ينتسبون إليه وإن
كان يتبرأ منهم. ولو شاء الفضلاء الانتقام الأدبي من هؤلاء الأشرار لفعلوا ولكنهم
لا يتفقون.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلِّد وصاحب حجة
تابع لما في الجزء الثالث عشر
ويقال (سادس عشر) كل طائفة منكم - معاشرَ المقلدين - قد أنزلت جميع
الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء
الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا مَن قلَّدتموه في مكان مَنْ لا يعتد بقوله، ولا ينظر في
فتواه، ولا يشتغل بها، ولا يعتد بها، لا وجه للنظر فيها إلا للتمحُّل وإعمال الفكر
وكده في الرد عليهم، إذا خالف قولهم قول متبوعه وهذا هو المسوِّغ للرد عليهم
عندهم فإذا خالف قول متبوعهم نصًا من الله ورسوله فالواجب التمحل والتكلف في
إخراج ذلك النص عن دلالته، والتحايل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم،
فيا لله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعة كادت تثل عرش الإيمان وتهد ركنه لولا
أن الله ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بإعلامه ويذب عنه، فمَن أسوأُ
ثناءً على الصحابة والتابعين، وسائر علماء المسلمين، وأشد استخفافًا بحقوقهم،
وأقل رعايةً لواجبها، وأعظم استهانةً بهم ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم
ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله.
ويقال (سابع عشر) من أعجب أمركم - أيها المقلدون - أنكم اعترفتم
وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام الله وكلام رسوله مع
سهولته وقرب مأخذه واستيلائه على أقصى غايات البيان واستحالة التناقض
والاختلاف عليه، فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وقد نصب الله سبحانه الأدلة
الظاهرة على الحق، وبيَّن لعباده ما يتقون، فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب
عليه الأدلة وتولى بيانه ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أوْلى بالتقليد
من غيره، وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه، وهلم جرّا.
وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب
أصولهم؛ فعجبًا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من
الحق ولم يهتدِ إليها واهتدى إلى أن متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه ولم ينصب الله على ذلك دليلاً واحدًا.
ويقال (ثامن عشر) أعجب من هذا كله من شأنكم - معاشر المقلدين -
أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها،
والعمدة في نفس الأمر على ما قاله لا على الآية، وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف
قوله لم تأخذوا بها وتطلَّبتم لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق
رأيه وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء - إذا وجدتم حديثًا صحيحًا يوافق قوله
أخذتم به وقلتم لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم كيت وكيت، وإذا وجدتم مائة
حديث صحيح بل أكثر تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها ولم يكن لكم منها حديث
واحد فتقولوا لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا. وإذا وجدتم مرسلاً قد
وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك، وإذا وجدتم مائة مرسل تخالف
رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها وقلتم لا نأخذ بالمرسل.
ويقال (تاسع عشر) أعجب من هذا أنكم إذا أخذتم بالحديث مرسلاً كان أو
مسندًا لموافقته رأي صاحبكم ثم وجدتم فيه حكمًا يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك
الحكم وهو حديث واحد وكأنَّ الحديث حجة فيما وافق رأي مَن قلدتموه وليس بحجة
فيما خالف رأيه، ولنذكر من هذا طرفًا فإنه من عجيب أمرهم:
(1)
فاحتج طائفة منهم في سلب طهورية الماء المستعمل في رفع
الحدث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء
المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل وقالوا: الماء المنفصل عن أعضائها هو فضل
وضوئها، وخالفوا نفس الحديث فجوَّزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر
وهو المقصود بالحديث؛ فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت
وليس عندهم للخلوة أثر ولا لكون الفضلة فضلة امرأة أثر فخالفوا نفس الحديث
الذي احتجّوا به وحملوا الحديث على غير محمله؛ إذ فضل الوضوء بيقين هو
الماء الذي فَضُلَ منه ليس هو الماء المتوضّأ به فإن ذلك لا يقال له فضل
الوضوء فاحتجوا به فيما لم يرد به وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به.
(2)
ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغير
بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبال في الماء الدائم ثم قالوا: لو بال في الماء
الدائم لم ينجسه حتى ينقص عن قلتين.
(3)
واحتجوا على نجاسته أيضًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا
استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا) ثم قالوا: لو
غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء ولا يجب عليه غسلها وإن شاء أن يغمسها قبل
الغسل فعل.
(4)
واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر
بحفر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها ثم قالوا: لا يجب حفرها؛ بل لو
تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت.
(5)
واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله صلى الله عليه وآله
وسلم: (يا بني عبد المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس) يعني الزكاة. ثم
قالوا: لا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب. (لعل الصواب بني المطلب) .
(6)
واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف
غيره من ميتة البر فإنه يُنَجَّسُ الماء؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في البحر:
(هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، ثم خالفوا هذا الخبر بعينه وقالوا: لا يحل ما مات
في البحر من السمك ولا يحل شيء ما فيه أصلاً غير السمك.
(7)
واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات..) ثم قالوا:
لا يجب غسله سبعًا بل يغسل مرة ومنهم من قال ثلاثًا.
(8)
واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره
بحديثٍ لا يصح من طريق غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة
يرفعه: (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) ثم قالوا: لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم.
(9)
واحتجوا بحديث علي بن أبي أطالب - كرم الله وجهه في الجنة -[1] :
في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها ترد إلى أول الفريضة فيكون
في كل خمس شاة وخالفوه في اثني عشر موضعًا منه.
ثم (10) احتجوا بحديث عمرو بن حزم أن ما زاد على مائتي درهم فلا
شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم وخالفوا الحديث بعينه في نص ما فيه
في أكثر من خمسة عشر موضعًا [2] .
(11)
واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصرّاة
وهذا من إحدى العجائب فإنهم من أشد الناس إنكارًا له ولا يقولون به فإن كان حقًّا
وجب اتِّباعه، وإن لم يكن صحيحًا لم يجُز الاحتجاج به في تقدير الثلث مع أنه
ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه والذي
احتجّوا عليه به لم يدل عليه.
(12)
واحتجوا لهذه المسألة أيضًا بخبر حبَّان بن مُنْقِذ الذي كان يغبن في
البيع فجعل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخيار ثلاثة أيام، وخالفوا الخبر كله
فلم يُثْبِتُوا الخيار بالغبن ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه وسواء قال
المشتري: لا خلابة، أو لم يقل وسواء غبن قليلاً أو كثيرًا لا خيار له في ذلك كله.
(13)
واحتجّوا في إيجاب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في
بعض ألفاظ الحديث أن رجلاً أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفِّر
ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا إن استفّ دقيقًا أو بلع عجينًا أو أهليلجًا أو طيبًا
أفطر ولا كفارة عليه.
(14)
واحتجّوا على وجوب القضاء على مَن تعمد القيء بحديث أبي
هريرة ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: إن تقيأ بأقل من ملء فيه فلا قضاء عليه.
(15)
واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقصر بقوله صلى الله عليه وآله
وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسافة ثلاثة أيام إلا مع
زوج أو ذي محرم) ، وهذا مع أنه لا دليل فيه ألبتة على ما ادَّعَوْه فقد خالفوه نفسه
فقالوا: يجوز للمملوكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم!
(16)
واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في
الذي وَقَصَتْه ناقتُه وهو مُحَرِم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تخمِّروا
رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة مُلبِّيًا) وهذا من العجب فإنهم يقولون: إذا مات
المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه.
(17)
واحتجوا على إيجاب الجزاء على مَن قتل صيدًا في الإحرام بحديث
جابر أنه أفتى بأكلها وبالجزاء على قاتلها وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه
آله وسلم ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: لا يحل أكلها.
(18)
واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مخاض فأعطى ثلثي ابنة لبون
فساوى ابنة مخاض أو حمارًا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه: (مَن
وجبت عليه ابنة مخاض ليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تؤخذ منه ويرد عليه
الساعي شاتين أو عشرين درهمًا) . وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه
الحديث من تعيين ذلك ويستدلّون على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به.
(19)
واحتجّوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها
بحديث: (لا تقطع الأيدي في الغزو. وفي لفظٍ: في السفر) ولم يقولوا بالحديث
فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك.
(20)
واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أمر بالأضحية وأن يطعم منها الجار والسائل فقالوا: لا يجب أن يُطعَم
منها جارٌ ولا سائلٌ.
(21)
واحتجّوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه
(أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دُعي إلى طعام مع رهط من أصحابه
فلما أخذ لقمة قال: (إني أجد لحم شاة أُخذت بغير حق) فقالت المرأة: يا رسول
الله إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن تطعم الأسارى) وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا: ذبيحة الغاصب حلال ولم
يحرم على المسلمين.
(22)
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (جرح العجماء جبار)
في إسقاط الضمان بجناية المواشي ثم خالفوه فيما دلّ عليه وأريد به فقالوا: مَن
ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لما عضت بفمها ولا ضمان عليه فيما أتلفت
برجلها.
(23)
واحتجوا على تأخير القَوَد إلى حين البرء بالحديث المشهور أن
رجلاً طعن آخر في ركبته بقرن فطلب القَوَد فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم (حتى يبرأ) فأبى فأقاده قبل أن يبرأ.. الحديث. وخالفوه في القصاص من
الطعنة فقالوا: لا يقتص منها.
(24)
واحتجوا على إسقاط الحد عن الزاني بأَمَة ابنه أو أم ولده بقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وخالفوه فيما دل عليه فقالوا:
ليس للأب من مال ابنه شيء ألبتة ولم يبيحوا له من مال ابنه عُود أراك فما فوقه
وأوجبوا حبسه في دَينه وضمان ما أتلفه عليه.
(25)
واحتجوا على أن الإمام يكبّر إذا قال المقيم: قد قامت الصلاة،
بحديث بلال أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبقني بآمين،
وبقول أبي هريرة لمروان: أن لا تسبقني بآمين، ثم خالفوا الخبر جهارًا فقالوا: لا
يؤمّن الإمام ولا المأموم.
(26)
واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المُغِيرة بن شُعبة أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح بناصيته وعمامته ثم خالفوه فيما دل عليه
فقالوا: لا يجوز المسح على العمامة ولا أثر للمسح عليها ألبتة فإن الفرض سقط
بالناصية والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: لعل الصواب: (في الحقة) ؛ فإنه يقول في الزيادة: في كل خمسين حقة.
(2)
الحديث عند النسائي وغيره وهو طويل وفيه: (وفي كل خمس أُواقٍ من الوَرِق خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهمًا درهم) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدليل على اشتراط الإسلام في القاضي
(س1) رضاء الدين أفندي قاضي القضاة ببلدة (أوفا) في الروسية: إنه
يستفاد من كتب الفقهاء متأخريهم ومتقدميهم اشتراط الإسلام في القاضي الذي يقضي
فيما بينهم ولا سيّما في الدعاوي التي تخص العائلات مثل النكاح والطلاق وثبوت
النسب والرضاع؛ بمعنى أن قضاء غير المسلم في هذه الأمور فيما بين المسلمين لا
يصح ولا ينفذ إذا قضى فيه لا ظاهرًا ولا باطنًا ولكن هل يوجد لهذا الاشتراط دليل
صريح من القرآن الشريف أو السنة المباركة، فنرجو حضرة الأستاذ الإحسان
بالجواب في المنار بحيث يقنع المشتبه المنصف. والفقير يظن وإن لم يتيسر له
الاطلاع إلى دليله القاطع أن القضاء فيما بين أهل الإسلام خصوصًا في الدعاوى
التي تتعلق بالزوجية وعدمها وثبوت الأنساب من المناصب الدينية لا يجوز من غير
المسلم أصلاً ولو كان عالمًا حق العلم قواعد الشريعة الإسلامية. كما أن غير المسلم
لا تجوز إمامته في الصلاة وإن كان عارفًا أحكامها بأسرها، والعجب من صاحب
(الهداية) مع التزامه ذكر طريق الاستدلال في كل مسألة وابن الهمام في الفتح مع
تبحّره في علم السنة وأصول الاستدلال - لم يذكرا في هذه المادة ما يشفي العليل
والله أعلم.
(ج) القضاء ولاية وسلطة مدنية دينية أهم شروطها: العلم بالكتاب والسنة
والقدرة على الاستنباط وكون المستنبط الذي ينفذ حكمه وتجب طاعته مسلمًا
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، وقوله
تعالى في الأمر المتنازع فيه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ، فقوله (مِنكُمْ) و (مِنْهُمْ) يعني به
المسلمين. وقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) .
فهذه الآيات أدلة واضحة في المقصود وقد استدل بالآية الأخيرة صاحب كتاب
(الأحكام السلطانية) على اشتراط الإسلام في القاضي. ويصح أن يستدل على
ذلك أيضًا بمثل قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فهذا
يشمل جميع أنواع الولاية العامة والخاصة، ومن ثَم كان اشتراط الإسلام في
القاضي مجمعًا عليه عند المسلمين والأحاديث الواردة في القضاء مبنية على شيء
معروف في الإسلام وهو كون القاضي مسلمًا، وقد جرى على ذلك الصحابة ومن
بعدهم مِن المسلمين؛ فقد قلدوا الذميين ضروبًا من الأعمال ولكن لم يقلدوهم القضاء
وقد قال الماوردي في (الأحكام السلطانية) بجواز كون وزير التنفيذ ذميًّا دون
وزير التفويض؛ لأن هذا الثاني يحكم ويولي ويجب أن يكون مجتهدًا في الدين.
وإذا نظرنا في المسألة بعين القياس نجد العلة ظاهرة؛ فالقاضي عند المسلمين
هو ولي مَن لا ولي له في كثير من الأحكام الدينية فهو يزوج المسلمة إذا غاب
الولي أو فُقد أو عضل، وهو يُطَلِّقُ على الزوج ويفسخ العقود الزوجية عندما
تقتضي المصلحة ذلك. وأمثال هذه الأحكام خاصة برجال الدين في عرف جميع
الأمم، وتقاليد جميع الملل والنِّحَل، ولعل صاحب الهداية وشارحها لم يريا حاجة
للتوسع في الاستدلال على مسألةٍ إجماعية لا نزاع فيها على أن طريقتهما في
الاستدلال هي كما ذكرتم بالنسبة إلى كتب الحنفية التي نرى أكثرها غفلاً من
الاستدلال؛ ولكن لو تعقبهما المُحدِّثُ الفقيه في السُّنة لبيَّن تقصيرهما في مواضع
كثيرة جدًا ولا أقول في أكثر المواضع.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تحريم تحليل المطلقة ثلاثًا
وبدع المحللين
(س2) عوض أفندي محمد الكفراوي بزفتى: لما كنتَ الرجل الوحيد الذي
يذبُّ عن الدين جئتُك راجيًا الإجابة عن السؤال الذي تجده بهذه الصحيفة وهو: هل
يجوز في أعمال المحلل للمطلقة ثلاثًا: أن يكون عالمًا بذلك؟ وإن كان يجوز فهل
العادة التي اتخذها المأذونون في صيغة العقد صحيحة، وهي أن يقول الرجل:
(بالتقاء الختانين تكون الزوجة مطلّقة) فهل يجوز العقد بذلك أم لا؟ ثم إنه يوجد
في أكثر البنادر رجال مخصوصون للتحليل لا كسب لهم إلا منه، فتجد الرجل يتزوج
المرأة للتحليل ثم يتزوج بعد أختها أو خالتها أو عمتها لهذه الغاية. فما قولكم في ذلك
وفي سكوت المحكمة عليه؟ أفيدونا مأجورين.
(ج) اعلم أن المطلقة ثلاث مرّات لا تحل لمَن طلقها إلا إذا تزوجت غيره
زواجًا صحيحًا شرعيًا ثم اتُّفِق إن مات زوجها الثاني أو طلقها، وهذا التحليل
المعروف ليس بزواج شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن فاعله
واللعنة لا تكون على سنة من سنن الدين والفطرة وإنما تكون على الكبائر من
المعاصي وليس بزواج عرفي؛ إذ لا يقول الناس في المحلل إنه متزوج. وقد روي
عن كثير من أئمة السلف القول بأن العقد المقصود به التحليل غير صحيح وجوزه
بعض الفقهاء بالرأي مع الكراهة الشديدة إذا لم يشترط في العقد أن يطلق أو نحو
ذلك من الشروط الفاسدة والقول بالجواز غير سديد، وما أَمْرُ فاعله برشيد، ولا
يليق بمحاسن الشريعة الإلهية أن تُنسب إليها هذه الفضيحة الشيطانية، وإننا نبدأ
أولاً بما جاء في (الزواجر) من حكاية الجواز وعدمه ثم نبين مفاسد هذه البدعة
الذميمة فنقول:
قال الفقيه ابن حجر الهيتمي في الجزء الثاني من (الزواجر) ما نصه:
(الكبيرة الستون والحادية والستون والثانية والستون بعد المائتين)
(رضاء المطلق بالتحليل وطواعية المرأة المطلقة عليه ورضاء الزوج المحلل
به) : أخرج أحمد والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بالتَّيْس المستعار) قالوا:
بلى يا رسول الله قال: (هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) قال الترمذي:
والعمل على ذلك عند أهل العلم، منهم عمر وابنه وعثمان رضي الله عنهم وهو
قول الفقهاء من التابعين. وأبو إسحق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال: (لا، إلا نكاح رغبة،
لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العُسيلة) وروى ابن المنذر
وابن أبي شيبة وعبد الرزَّاق والأثرم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى
بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك فقال: كلاهما زانٍ، وسأل
رجل ابن عمر فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم
فقال له ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإنا
كنا نعد هذا سِفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسئل عن تحليل
المرأة لزوجها فقال: ذلك هو السفاح، وعن رجل طلق ابنة عمه ثم ندم ورغب
فيها فأراد أن يتزوجها رجل ليحلها له فقال: كلاهما زانٍ وإن مكثا عشرين سنة أو
نحوها إذا كان يعلم أنه يريد أن يحلها، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن
طلق امرأته ثلاثًا ثم ندم فقال: هو عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له
مخرجًا، قيل له: فكيف ترى في رجل يحلها؟ فقال: مَن يخادع الله يخدعه.
(تنبيه) عَدُّ هذا كبيرة هو صريحُ ما في الحديثين الأولين من اللعن وهما
محمولان عند الشافعي رضي الله عنه على ما إذا شرط في صلب نكاح المحلل أنه
يطلق بعد أن يطأ أو نحو ذلك من الشروط المفسدة للنكاح وحينئذٍ التحليل كبيرة
فيكون كل من المطلق والمحلل والمرأة فاسقًا لإقدامهم على هذه الفاحشة وعلى ذلك
يحمل إطلاق غير واحد من الشافعية أن التحليل كبيرة؛ إذ هو بدون ذلك مكروه لا
حرام فضلاً عن كونه كبيرة ولا عبرة بما أضمروه ولا بالشروط السابقة على
العقدة. وأخذ جماعة من الأئمة بإطلاق الحديثين فحرّموا التحليل مطلقًا منهم
من ذكرناه من الصحابة والتابعين والحسن البصري فقال: إذا همّ أحد الثلاثة
بالتحليل فقد أفسد العقد، والنخعي فقال: إذا كانت نيّة أحد الثلاثة: الزوج الأول أو
الزوج الآخر أو المرأة التحليل فنكاح الآخر باطل، ولا تحل للأول، وابن المسيب
فقال: مَن تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول لم تحل له، وتبعهم مالك والليث
وسفيان الثوري وأحمد وقد سئل عمن تزوج امرأة وفي نفسه أن يحلها للأول ولم تعلم
هي بذلك فقال: هو محلل وإذا أراد بذلك التحليل فهو ملعون.ا. هـ كلام
(الزواجر) .
أما مفاسد هذه البدعة الذميمة وفضائحها فهي كثيرة وقد فصل القول فيها ابن
القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أحسن تفصيل في سياق الكلام على تغير الفتوى
واختلافها باختلاف الزمان والمكان والأحوال عقيب المثال السابع من أمثلة ذلك
التغير والاختلاف وهو ما ورد في صحيح مسلم وغيره من أن الطلاق الثلاث باللفظ
الواحد كان يجعل طلقة واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدة خلافة
أبي بكر وصدر من خلافة عمر ثم لما رأى عمر رضي الله عنه اختلاف الحال
بكثرة هذا الطلاق المخالف للسنة رأى من المصلحة أن يمضيه على الناس ليرجعوا
عنه فأمضاه. ويقول المصنف وسبقه إلى ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره
أن الزمان قد اختلف الآن وصار من المصلحة جعل الثلاث باللفظ الواحد واحدة كما
كان في الصدر الأول وقد بيّنوا ذلك، وأوضحوه بما ليس من غرضنا ذكره إلا ما كتبه
ابن القيم في مفسدة واحدة من مفاسد الطلاق الثلاث في عصره وهذه العصور وهي
مفسدة التحليل. قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه في المثال:
فصل
إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت
لما رآه الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا
تندفع إلا بإمضائها عليهم فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن
باب التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعله مفتوحًا بوجه ما؛
بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم وكانوا عاملين
بالطلاق المأذون فيه وغيره.
وأما في هذا الأزمان قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح
ما يرتكبه المحللون مما هو رمد؛ بل عمى في عين الدين، وشجى في حلوق
المؤمنين، من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول فيه
بسببه [1] بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب؛ يراها المؤمنون
كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه،
وغيرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وزعم
أنه قد طيبها للحليل، فيا لله العجب أي طيب أعادها هذا التيس الملعون، وأي
مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون، أتُرى وقوف الزوج المطلق أو
الولي على الباب، والتيس المعلون قد حل إزارها وكشف النقاب. وأخذ في ذلك
المرتع، والزوج أو الولي يناديه لم يُقدّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت
والزوجة، ونحن والشهود والحاضرون، والملائكة الكاتبون، ورب العالمين،
أنك لست معدودًا من الأزواج، ولا للمرأة وأوليائها بك رضى ولا فرح ولا ابتهاج،
وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب، الذي لولا هذه البلوى لما رضينا وقوفك
على الباب، فالناس يظهرون النكاح ويعلنونه فرحًا وسرورًا، ونحن نتواصى
بكتمان هذا الداء العضال ونجعله أمرًا مستورًا، بلا نثار ولا دف ولا خوان ولا
إعلان، بل بالتواصي (بهس) و (مس) والإخفاء والكتمان، فالمرأة تُنكح لدينها
وحسبها ومالها وجمالها، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك فإنه لا مسك
بعصمتها؛ بل قد يدخل على زوالها، والله تعالى جعل كل واحد من الزوجين سكنًا
لصاحبه وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم، وتتم
بذلك المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم.
فَسَلِ التيس المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد
ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب، وسله هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشًا
يهوي إليه، ثم سلها هل رضيت به قط زوجًا وبعلاً تعول في نوائبها عليه، وسل
أولي التمييز والعقول هل تزوجَتْ فلانة بفلان، وهل يعد هذا نكاحًا في شرع أو
عقل أو فطرة إنسان؛ وكيف يلعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من
أمته نكح نكاحًا شرعيًا صحيحًا، ولم يرتكب في عقده محرمًا ولا قبيحًا وكيف
يشبهه بالتيس المستعار، وهو من جملة المحسنين الأبرار، وكيف تعيّر المرأة به
طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذُكِرَ ذلك التيس بين
النسوان؟ !
وَسَلِ التَّيْسَ المُستعارِ: هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق
بنفقة أو كسوة أو وزن صداق، وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو
حدثت نفسها به هنالك، وهل طلبت منها ولدًا نجيبًا، واتخذته عشيرًا وحبيبًا، وسل
عقول العالمين وفِطرهم هل كان خير هذه الأمة أكثرهم تحليلاً، أو كان المحلل
الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلاً؟ !
وسل التيس المستعار ومن ابتُليت به: هل تجمَّل أحد منهما بصاحبه كما
يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب
أو مال أو جمال، وسل المرأة هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيس المستعار أو
يتسرَّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى أو تسأل عن ماله وصنعته،
أو حسن عشرته وسعة نفقته، وسل التيس المستعار: هل يسأل قط عمّا يسأل عنه
مَن قصد حقيقة النكاح، أو توسل إلى بيت أحمائه بالهدية والمحمولة والنقد الذي
يتوسل به خاطب المِلاح، وسله: هل هو أبو يأخذ أو أبو يعطي، وهل قوله عند
قراءة (أبي جاد) هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو (حطي)[2] وسله: هل
تحمل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العقد أو حطي وسله عن وليمة عرسه هل
أولم ولو بشاة، وهل دعا إليها أحدًا من أصحابه فقضى حقه وأتاه، وسله: هل
تحمل من نفقة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس
الأصحاب والمهنئون، وهل قيل له: بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير
وعافية، أم لعن الله المحلل والمحلل له لعنة تامة وافية.
فصل
ثم سل مَن له أدنى إطلاع على أحوال الناس: كم من حرة مصونة أنشب فيها
المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان، وكان بعلها منفردًا
بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان، فلعَمر الله كم أخرج التحليل
مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء، ولولا التحليل
لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القنا دون
عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها، وسل أهل الخبرة: كم عقد المحلل
على أم وابنتها، وكم جمع ماؤه في أرحام ما زاد على الأربع وفي رحم الأختين،
وذلك محرم باطل في المذهبين، وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن
تُفرد بالذكر، وهي كموجة واحدة من الأمواج ومَن يستطيع عد أمواج البحر، وكم
من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها فلمّا ذاقت عُسيلة المحلل خرجت على
وجهها فلم يجتمع شمل الإحسان والعفة بعد ذلك بشملها، وما كان هذا سبيله فكيف
يحتمل أكمل الشرائع وأحكمها تحليله، فصلوات الله وسلامه علي مَن صرّح بلعنته،
وسمّاه بالتيس المستعار مِن بين فسّاق أمته، كما شهد به علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه وعبد الله بن مسعود وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وعبد
الله بن عباس وأخبر عبد الله بن عمر أنهم كانوا يعدونه على عهد رسول الله صلى
الله وآله وسلم سِفاحًا.
(المنار)
وههنا أورد المصنف الأحاديث التي رواها هؤلاء الصحابة الكرام في لعن
المحلل وفي تسميته بالتيس المستعار وبحث في إسناد واحد منها قد أعله بعضهم
وبيَّن هو حسنه ومنها ما رواه الحاكم في (صحيحه) من حديث ابن أبي مريم
حدثنا أبو غسان عن عمر بن نافع عن أبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله
عن رجل طلق امرأته ثلاثًا فتزوجها أخ له من غير مؤامرةٍ بينه ليحلها لأخيه هل
تحل للأول؟ قال: (لا، إلا نكاح رغبة كنَّا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والسفاح
هو الزنا جهرًا. ثم قال المصنف:
* * *
فصل
فسل هذا التيس هل دخل في قوله تعالي: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ
أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) ، وهل
دخل في قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن
يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور: 32) ؟ وهل دخل في قوله صلى الله
عليه وآله وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر
وأحصن للفرج) ؟ وهل دخل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تزوجوا
الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) ؟ وهل دخل في قوله: (أربع
من سنن المرسلين: النكاح والتعطر والختان) وذكر الرابعة؟ وهل دخل في قوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (النكاح سنتي فمَن رغب عن سنتي فليس مني) ؟
وهل له نصيب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم
الناكح يريد العفاف والمُكاتب يريد الأداء) وذكر الثالث؟ أم حقَّ على الله لعنته
تصديقًا لرسوله فيما أخبر عنه؟ وسله: هل يلعن اللهُ ورسولُه مَن فعل مستحبًّا أو
جائزًا أو مكروهًا أو صغيرًا؟ أم لعنته مختصة بمَن ارتكب كبيرة أو ما هو أعظم
منها كما قال ابن عباس: (كل ذنب خُتم بلعنة أو غضب أو عذاب أو نار فهو
كبيرة) ؟
وسله: هل كان في الصحابة محلل واحد أو أقر رجل منهم على التحليل؟
وسله لأي شيء قال عمر بن الخطاب: لا أوتَى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما؟
وسله كيف تكون المتعة حرامًا نصًا مع أن المستمتع له غرضٌ في نكاح الزوجة إلى
وقت، لكن لمّا كان غير داخل على النكاح المؤبد كان مرتكبًا للمحرم فكيف يكون
نكاح المحلل الذي إنما قصده أن يمسكها ساعة من زمان أو دونها ولا غرض له في
النكاح ألبتة؛ بل قد شرط انقطاعه وزواله إذا أخبثها بالتحليل، فكيف يجتمع في
عقل أو شرع تحليلُ هذا وتحريمُ المتعة، هذا مع أن المتعة أُبيحت في أول الإسلام
وفعلها الصحابة وأفتى بها بعضهم بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
ونكاح المحلِّل لم يبح في ملة مِن الملل قط ولم يفعله أحد من الصحابة ولا أفتى به
واحد منهم!)
(ثم قال المصنف) : (وليس الغرض بيان تحريم هذا العقد وبطلانه وذكْر
مفاسده وشرِّه فإنه يستدعي سِفرًا ضخمًا نختصر فيه الكلام؛ وإنما المقصود أن هذا
شأن التحليل عند الله ورسوله وأصحاب رسوله فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا
جمعوها ليكفوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به وأنه لا سبيل إلى عودها بالتحليل.
فإنه لما تغيّر الزمان وبعد عهد الناس بالسنة وآثار القوم وقامت سوق التحليل ونفقت
في الناس فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها. وإذا
عرض إلى مَن وفقه الله وبصَّره بالهدى وفقَّهه في دينه مسألة كَوْنِ الثلاث واحدة
ومسألة التحليل ووازن بينهما تبيّن له التفاوت وعلم أي المسألتين أولى بالدين،
وأصلح للمسلمين.
فهذه حجج المسألتين قد عُرضت عليك وقد أهديت إن قبِلتها إليك، وما أظن
عمى التقليد إلا يزيد الأمر على ما هو عليه ولا يدع التوفيق يقودك اختيارًا إليه،
وإنما أشرنا إلى المسألتين إشارة يطَّلع العالِم على ما وراءها وبالله التوفيق اهـ.
_________
(1)
المنار: هذا الكلام صحيح مجرب في كل زمن وقد رأيت رجلاً شيخًا نصرانيًّا ولع بالكتب العربية الخطية فجمع منها كثيرًا وكان يطالع في عامة أوقاته فاعتقد بحقية الإسلام وتفضيله واختار مذهب الصوفية وقد لقيته مرة فقال لي لولا ثلاث مسائل لقلت إن الإسلام كله حق: أولها مسألة (التجحيش) - أي (التحليل) - فأزلت شبهته حتى رجع!
(2)
لعل هذه السجعة نسخة ثانية وما أرى المصنف جمع بينهما.
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
(2)
ما هو الحُسن؟ قد عرفتم بالذي قلناه في تعريف الحسن ما هو الحسن،
وبقي أن أقول - لأجل تذكير القارئ بأصل الموضوع - إنه هو الزينة من غير
نظر منا إلى الفرق بين الحسن الذاتي والحسن الصناعي.
(3)
ما هو الاستحسان؟ هو انبساط النفس لذلك الشيء الذي وجدت فيه ما
يناسبها. ليست الصعوبة في تعريفه بهذا الرسم وإنما الصعوبة في معرفة أن
الاستحسان يحصل للمرء بالبداهة أو بالنظر والتأمل وقد سبق شيء من الإشارة إلى
هذا الأمر ولكني لا أراه مستغنيًا عن زيادة الشرح. أما استحسان بعض المحسوسات
فيحصل للبعض بالبداهة وتعقبه محبة. ولهذا السر ظن البعض أن الحب يكون
اضطراريًا على أن هذا السر وإن بقي غامضًا لا يُثبت هذه النظرية بمثل هذه
الحوادث الفذة لثبوت ضد هذه النظرية ببراهين حسية وعقلية معًا. وأما استحسان كل
المعقولات فمن أهل التفكر نتيجةُ نظرٍ وتأملٍ، ومن أهل التقليد نتيجة ثقة
بالمقلدين. والأولى أن لا يعد استحسان هؤلاء استحسانًا لأننا إذا أدخلناهم في صف
مَن لا فكر لهم من المخلوقات لم نكن عملنا غير الصواب لأنه هو المطابق لروح
الواقع ونفس الأمر.
(4)
ما هو حب المستحسن؟ تقدم تعريف الحب وليس سؤالنا عن تعريفه
بل عن ذلك السر المودع في طبيعة النفس من محبة أشياء تعتبرها جميلة. ولعل
ذلك السر هو شوقها الطبيعي إلى ما وراء جسمانية المادة وما يلحقها من الجمادية
المحضة.
(5)
لماذا نستحسن؟ هذا السر مودوع في نفوس الخاصة والعامة من بني
النوع ولمّا أوتينا المزية العظيمة التي تسمى (الإرادة) أراد الفاطر أن تتجلى فينَا
ظاهرة باهرة فانقسمت الأشياء في نظرنا كافة إلى ما تتوجه نحوه إرادتنا وهو ما
نستحسن وإلى ما تنصرف عنه وهو ضده. فهذا هو السر في كوننا نستحسن.
(6)
لماذا نحب الحسن؟ يظهر بالذي قلناه سر حبنا الجميل ونزيد عليه
علة لا يتوقف في فهمها إنسان وهو أننا نحب الحسن لنعمل. فلولا ذلك لقنعنا بما
تنبت الأرض من كلأ، وما تفيض به من ماء، ويظهر من ملاحظة سير الماضين
والغابرين، وسنن الوجود في الأولين والآخرين - أننا لم نخلق لمثل هذا بل خلقنا
لأسرار عظيمة لا تظهر فينا إلا بحبنا الحُسن والحَسن.
(7)
لماذا نختلف بالاستحسان؟ إذا كنا نحب الجميل لنعمل فنحن نختلف
بالاستحسان لتختلف أعمالنا. على أن لاختلافنا في الاستحسان عللاً أخرى منها
اختلاف الأمزجة. وبيان السر في اختلاف الأمزجة لا يبعد عن صدد علمنا هذا
ولكنه قد يبعد عن صدد هذا الفصل أو قد يبعد بنا عن الغاية التي أشرفنا عليها.
وكذلك لاختلافنا في الأعمال علل أخرى ولكن الذي ذكرناه هو من أقدم الأسباب.
(8)
ما هو عشق المستحسنات الذي يميل بكل نحو مستحسن فيغرم به؟
يبقى علينا سؤال عن أمر آخر غير الحب المعتاد وهو العشق الذي مبلغ العلم فيه أنه
أعظم درجات الحب ومنتهاه. والجواب على ذلك في غاية السهولة وهي أن
النفوس قوابل، والواردات عليها فواعل، وبعض النفوس أشد قبولاً وانفعالاً لِمَا
تعرضت له من الواردات فيصيبها العشق الذي هو أعظم الحب في حين أن كثيرًا من
أخواتها اللائي يتعرضن لمثل ما تعرضت هي له لا يصيبهن إلا الحب البسيط وكثيرًا
من غير أولئك لا يصيبهن شيء ما.
هذا، وإن فيه لبلاغًا في بيان الموضوع، وكشفًا لبعض السر المودوع،
ويحار فيه من لم يرد من البيان مشارعه، ولم يذق من التقرير مشاربه، وأولئكم
ليسوا من أهل (المنار) ، ولا عليهم في مثل هذا الكلام المدار وحَسْبُ أولئكم مما
تقدم أن يسمعوا هذه الخلاصة:
(لولا حب الزينة لَمَا كان من حاجة إلى أكثر الصنائع. ولولا كثرة الصنائع
لَمَا توفرت أسباب الاجتماع. ولولا الاجتماع لَمَا تبدلت الأفكار. ولولا تبادل
الأفكار لما حصلت المعارف الإنسانية. ولولا المعارف الإنسانية لكانت حياة
الإنسان كحياة البهائم) .
ولو شئنا لشرحنا هذا الكلام بفصول كثيرة ولكننا تقللنا منه بما سبق، وفي
هذا الترتيب الذي وضعنا وضوح تام، وللعمرانيين ههنا شركة في البحث والبيان،
وتركنا لهم وظيفتهم التي هي البناء بعد أداء وظيفتنا التي هي الأساس.
ولكيلا يفوتنا النصيب من تصحيح أفكار أولئك الذين نعلمهم ناقمين على حب
الزينة ونعلم أنهم سينقمون منا تمثيلنا حب الزينة هذا التمثال الذي ستراه البصائر
فخيمًا. وكأني بهم رافعين عقيرتهم يقولون هل: يجني الناس منه إلا الدأب والكد
العمر كله في طلب الفواني، وهل في سبيل هذه المحبوبات التي لا تنتهي إلا
الوقوع في أنواع الرزايا المعروفة؟
لكيلا يبقى هذا الاعتراض بلا جواب نقول: إن الذي قلناه هو وصف لأمر
واقع على سبيل العموم والشمول لا حث وحض على حب الزينة، وأن الذي نعلمه
أن ذلك الأمر الذي وصفناه طبيعي لا يصده عن النفوس أن ينقم الناس عليه كما أن
الأكل مهما سببناه لا نستغني عنه، ثم إننا نعلم أنه لا يقول ذلك القول إلا واحد من
ذينك الاثنين الضدّين المتسفّل في دركات العواجز من الحيوانات التي تكره الحركة
وتهوى السكون، والمتسامي بعقله إلى ما فوق الفواني المتجافي عن الزوائد من
مقومات الحياة الماديّة تشوُّفًا إلى المعقولات العالية.
ومن عجبٍ أن يتَّحدا في قولهما مع اختلافهما في نيتهما. ولم يكن ذلك إلا لأن
الثاني فاتته حكمة الاعتبار بأصل الفطرة وسرها، وفاته النظر إلى الواقع ونفس
الأمر، ولم يبق علينا إلا أن ننظر هل يجوز لنا أن ننهى عن حب الزينة والجمال؟
والجواب: لا يجوز لنا ذلك لأنه لا يجوز لنا أن نحاول العبث. وهذا هو وجه
الحقيقة الذي لاح لأهل علمنا فشهدوا كما رأوا. وعلماء العمران ستراهم يقيمون أشد
النكير على رجل يقول بجواز النهي عن حب الزينة. ونحن في أمن من هذا لعلها
(الوغى) لأننا لا نزيد على قولنا:
(إنه لا يفيد) وليس في هذا القول مصادمة لقاعدة أن الحب يدخل تحت (نظام)
لأننا لم نخرجه عن النظام بهذه الكلمة ولكن الآخرين يريدون أن يخرجوه عن
الوجود لا عن النظام فقط ويوضح هذا مثال: (إذا قلنا لا يجوز النهي عن الأكل
مطلقًا لأنه لا يفيد؛ إذ هو أمر بتغيير الفطرة) فلا يفهم أحد قط من هذا الكلام أنه لا
يدخل الأكل تحت نظام، فلينظر ذو فكر ما يقول.
وقد يذهب ظن القارئ إلى أن محرر هذه الكلمات رجل من غلاة المفتونين
بهذه الصور المتحولة الفانية أو تلك المادة الجماد الخامدة، وإني لا أحاسب الناس
على ظنونهم ولكن من يحاول التعريف بشيء عن نية صافية يحرص على مقصوده
أكثر من ذي أجر وإني حريص أن يأخذ قارئ كلامي بالنصيب الأوفى من علم
طبيعة النفوس من حيث المجموع مع مراعاة حالاتها في الاجتماع وحالاتها
الشخصية فإني على يقين أن هذا العلم يورث صاحبه سلامة ذوق وسلامة صدر
وسلامة فكر ويؤديه إلى الاعتدال الذي هو محور نظام الإصلاح.
ومن أجل ذلك أذكِّر القارئ بما استحفظته إياه في صدر الكلام ومنه يعلم أن
قليلاً من التدبر يكشف عوارِ كثيرين من الذين كتبوا في الأخلاق والشرائع ويجلي
محاسن المحسنين. ومن ههنا أخالف الذين ينهون عن صرف شيء من المال في
سبيل حب الزينة، ولا أجد في مذهبهم ذلك رائحة من الحكمة قط؛ بل هو جهل
بطبائع الاجتماع فإنه لن يعدم الخاسر ما يستعيض به من الرابح، وإلا لعدم البائع
مَن يبتاع.
ومن المؤمنين بما قررناه قائل يقول: قد يحتاج الفرد وهو سابح في الأوهام
بحب الزينة إلى من ينبهه إلى الأخطار وهو حق ولكن عندي أن يكون المنبه من
نفسه في مثل هذه الحالة خيرًا من أن يكون من آخر لنربح في هذا التعود أمرًا هو
أعز وأغلى من المال الذي نخسره، ذلك هو التفكر وصدق الإرادة في مباشرة
الأشياء، ولا شك بأننا سنلقي أسارى كثيرين في هذه المعارك قد قيدتهم الشهوات
الكاذبة بأغلال الخسار، وقذفت بهم الإرادات المريضة في مهاوي الدمار، ولكن أن
نعدم أمثال هؤلاء الأسرى وإنْ كثروا خير مِن أنْ نعدَّهم مِن أبطال الجهاد في هذه
الحياة. وخير من أن لا نعدهم وكثيرًا ما يختلف طب النفوس عن طب الأبدان؛
لأن أحدها يعالج مرضًا محسوسًا بعلاج محسوس. والآخر يداوي مرضًا معقولاً
بدواء معقول ولأطباء النفوس في هذا الباب أدوية - لو استُعملت - شافية ولكن
الناس أعاروها آذانًا صمًا، ونريد أن يكون لهم علاج من المحسوسات ذلك ما
تعطيه مجاري الأحوال وينتج صحة التفكر وسلامة الإرادة.
وآخرون سيقولون لقد أسرف هذا وكاد أن لا يرى في الإسراف شيئًا مذمومًا.
كلا، إن الإسراف مذموم عندي كما هو عند الناس كافة ولكن الذين ينهون عنه هو
ما دون الإسراف وهو الذي لا أنهى عنه. ولا أريد من هؤلاء أكثر من أن يعلموا
أنه لولا أن نصرف المال فيما زين لنا لما وُجد المال، ولكن عِلْمُ هذا صَعُبَ عليهم،
ونهوّنه بأنْ نُعلِمهم أن المال ليس شيئًا غير قيمة جملة الأعمال التي يعملها النوع
وإذا علموا ذلك فليتذكروا أنه لولا حب الزينة لما كان من حاجة إلى أكثر الصنائع،
لولاه لأقفلت أسواق ومصانع يعمل فيها حاج للناس من غير اللوازم الضرورية التي
لا تتجاوز ما مثلنا به آنفًا من الغذاء والكساء والإواء.
ما إذا زُيِّن لهؤلاء بعض هذه الأسواق والمصانع ودوران فلك الأعمال على
هذه الأقطاب الحالية وما داناها في الماضي وما سيفوتها في الآتي فما البأس عليَّ
إذا دار الفلك على حسب أحلامهم؛ وإنما البأس على قوم يبلغ بهم الهوس أن يروا
الخير والسعادة في أولي السِّير من الحياة وهي سيرة الأُنس بالأوجار والأحجار؛
والفزع من خطور الأشباح وهبوب الأرواح [1] .
نتيجة عظيمة
وما قررناه أساس متين لبناء نظامي الأخلاق والشريعة. يبنى عليه في
الأخلاق ذم جمود النفس الذي من لوازمه نسيان الحظ من الحياة النوعية إلا ما
وجدت عليه الآباء. وذم غليانها الذي من لوازمه تجاوز الحدود التي وُضعت لحفظ
الحقوق. ومدح الاعتدال. وفي التمهيد نحوت المنحى الذي يفهم منه ذم جمود
النفس؛ لأنه الغالب في مشرقنا. ويُبنى عليه في الشريعة الحرية في المطاعم
وموائدها، والملابس وأزيائها، والمباني وأشكالها، وغير ذلك من الحاجات
اللوازم والتوابع، وكل شريعة لم تُبْنَ في هذه الأبواب على مثل هذا الأساس لا
يقوم لها بنيان، ولا يوفق الناس أعمالهم على أحكامها وإن تلوا حروفها، وإذ كانت
كل شريعة تنسخ ما قبلها كانت تتقرب من هذا المعنى بحسَب ترقي النوع ولذا
كانت الشريعة الأخيرة حائزة هذا المعنى تمامًا.
وحرم منها ما يضر بصحة العموم، وما يصادم نفعًا عامًّا أو حقًّا خاصًّا. وما
يجمع علماء الأخلاق على مضرته بجوهر النفس وهذا التحريم في الحقيقة معين
على صيانتها وحسن التصرف فيها، والمطلعون سيدركون ما وراء هذه الجمل من
التفاصيل. ومَن عداهم سيأتيهم التفصيل في مواضع متعددة وحسبُهم الآن أن
يتدبروا هذه النتيجة ويفكروا فيها بفكر نقي.
حبُّ التميِّز
في الفطرة زيادة على حب الزينة حب التميز فلولا هذا الثاني لبلغنا نهاية فيما
نحب من الزينة أو غيرها ولكن هو الذي أبعد الغاية على الطالبين.
والذين هم أشد حبًا للزينة هم أشد حبًّا للتميز. وعند التأمل في آثار هذه الطبيعة
نجدها ينبوعًا للخيرات والشرور معًا. وهكذا نجد الشر موجودًا دائمًا في منابت
الخير ولذلك كان تحصيل الخير في هذه الحياة عناءً كبيرًا كالعناء في تحصيل
الحنطة من بين الشوك ثم تميزها من الزؤان بل هو أكبر. ولكن أجر هذا العناء
عظيم وهو بلوغ الإنسان كماله المعد له. وقد يقصر حِجَانا الآن عن تصور ذلك
الكمال وما مَن يتقدم إلا معاونًا لمن يتأخر.
وفي خَلْق الإنسان آيات للمتدبرين، وأسرار للمعتبرين، منها تكريم هذه
الصوامت النواطق بلسان الحال عن أن تكون عبثًا؛ إذ على يده تظهر خواصها
وفي فكره وبصره يتجلى جمالها المعقول والمحسوس تحقيقًا أو اعتبارًا أو تخيلاً.
ولحب التميز الحظ الأوفر في استخدام الفكر في هذه الشؤون فهو الذي يبعث الفكر
في عالم المحسوسات والمتخيلات رائدًا يرتاد للنفس ما هو غريب عزيز الوجود مما
يود كل أحد أن يقتنيه أو ينتحله. وهكذا كانت زيادة الأول على الآخر وسيكون ما
لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب الأولين.
والحاصل أن حب التميز ميزان في كفته الواحدة أمر نُسمِّيه حسنة وهو ارتقاء
الحياة النوعية. وفي كفته الأخرى أمر نسميه سيئة وهو حرص النفوس على
الاستبداد.
والناس يفهمون من هذه الكلمة (الاستبداد) أن المقصود به عدم المشاورة
وهذا المعنى جزء مما تدل عليه هذه الكلمة التي معناها الحقيقي (نزوع النفس
للحرية المطلقة التي من جملتها تقييد حرية الغير وغصبها) وهذا هو وجه شناعته
ومن أجل هذا كان عنصر الشرور المادية والأدبية.
وقد كدنا أن نيأس لما علمنا أن هذا العِرق الضارب في أعماق الطبيعة البشرية
لا يمكن استئصاله بالقلع لولا أنْ تبين لنا أن في إزاء هذا الشوك زهرًا ولولا أنْ
ثبت لنا أنه يمكن تخفيف ما ينجم عنه بتتبع الفروع وقطع ما أمكن قطعه منها
والربانيون من الحكماء أشد الناس عداوة للذين يستبدون ذلك بما عرفوا من الحق،
وبما عطفوا على الخلق، وبما تدفعهم إليه قوة العلم، ومنة العزم.
والأخلاقي حسبه أن يذكِّر المُستبدّ بثلاثة أمور لا تفارقه ولا غيره:
العجز بالذات، والاحتياج للغير، واستحالة بلوغ الغاية.
وأن يذكِّر المُستبدّ عليهم بثلاثة أمور أيضًا:
الضعف بانحلال الرابطة، والقوة بالتعاون، الفوز بالثبات والصبر.
والسياسي وهو البحَّاث عن كل روابط الاجتماع لا أستكثر منه أن يحمل
أوزار الوغى إن استطاع في ردّ كيد المستبدين الذين وضعوا أعمالهم في كفة السيئة
من حب التميز وبئس ما اكتسبوا لأنفسهم من البغضاء. وللمُذْعِنُونَ لهم شرُّ مكانًا
وأضلُّ عن سبيل الحياة النوعية. وأقرب إلى الهوان من الأنعام وفي هذا بلاغ لعلهم
يتذكَّرون.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
. ع. ز.
(ثمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
جمع: ريح وهو يأتي هكذا كما يأتي جمعًا للروح.
الكاتب: عبد العزيز محمد
الشذرة الثالثة عشر
من جريدة الدكتور أراسم [*]
السفر من أركان التربية
لا ينبغي على أحد ما لِمَا تتأثر به النفس وتحفظه الذاكرة في الصغر من
اللصوق والتمكن. هذا شكسبير [1] يدعو حاله إلى اعتقاد أن معظم الفضل في
بلوغه تلك المكانة العالية في الشعر يرجع إلى نشأته بالقرب من نهر الآون [2]
الأنيق الذي تفيض مياهه على مدينة إستراتفورد [3] وما تحيط به من الأودية
الخصبة الغنية بالشجر والنبات ومجاورته لغابة أردان [4] التي كانت متنزهًا له في
سنيه الأولى من حياته. يدلك على ذلك أنه لما كتب فيما بعد القصة الهزلية التي
عنوانها (كما تحب وترضى) اتخذ هذه الغابة نفسها محلاًّ لأهم منظر من مناظرها
ومثل أماكنها للنفوس وجلى مواقعها للأذهان بأوجز العبارات، وأوضح الإشارات،
لم يكن هذا إلا لكونه مع نزوحه عن مركز إستراتفورد الذي هو مسقط رأسه لم ينس
منظر هذا الريف بل حفظه في مطوى من مطاوي نفسه وهذا أولفيار جولد سميث
[5]
ذو العقل الثاقب والذكاء المتوقد لم يذهله حين أقام في لوندرة - ما شاهده فيها
من الاختلاط والتشوش عن ذكر قرية لشوى التي نشأ فيها ولم يُنْسِهِ ما كان يراه
هناك من جدول الماء والطاحون والكنيسة وفندق الحمائم الثلاث وسياج العضاة
وغير ذلك من خصوصياتها بل إنه مدحها في القصة التي كتبها فيما بعد وسمَّاها
الكميت (الأُوَرْن) .
وكان واشنجتون أرفنج [6] الكاتب المجوني الرحَّالة الذي استهوى النفوس
ببدائع ظرفه، وخلب الألباب بدقائق وصفه، يحمد الله تعالى أن أنشأه على ضفاف
بحرِ أوتسون [7] ويقول: إن ما كسبه طبعي المختلف العناصر من الخير والتهذب
يصح أن أُرجعه إلى محبتي لهذا النهر في صغري فقد كنت في حدة الحمية
الصبيانية أكسوه بعض الخصائص النفسية وأعتقد أن له روحًا يقوم بها وأعجب ما
في طبعه من الحرية والشجاعة والصدق والاستقامة ذلك لأنه ليس من الأنهار التي
تبسم صفحاتها عن خداع وتُدْمِرُ السوءَ بما تحتها مِن الشعاب المهلكة والصخور
الغدارة بل هو طريق مائي بهي جمع إلى عظم عمقه كثرةَ اتساعه، يحمل السفن
التي توكل إلى أمواجه بقلب سليم ونية شريفة، وكنت أتخيل نوعًا من المجد والعجب
في استقامة مجراه وسكينته وسلامته الباهرة.
إنما مثلت ببعض الشعراء لأنهم هم الذين نعرف شيئًا من أحوالهم النفسية في
حياتهم غير أني لا أرتاب أبدًا في أنَّ ما يحتفّ بالناس من الأصول والأمور
الخارجية لا يُحْدِثُ في نفوس جميعهم أثراً واحداً وأنهم يختلفون أيضًا في درجة التأثر
بها وأن ما شاهده الإنسان في صغره يلازمه في كبره ويصير جزءًا من نفسه وما
صحبه من الأشياء وهو يافع لا يجانبه في كبره بل يظهر أثره في صورة خلقه وفي
مجرى أفكاره.
ليس كل ما يحيط بالإنسان مما تتناوله مشاعره يصلح على السواء لحفظ
صحة عقله فقد روي أن ملتون [8] كان يتألم ويشكو مر الشكوى وهو يتلقى دروسه
في مدرسة كمبردج الكلية من ضواحي هذه المدينة مُعلِّلاً شكواه بأنها خلو من
الظلال الوارفة التي تجذب إلاهات الشعر وتؤويها.
وكان روبرت هول الكاتب الإنكليزي الذائع الصيت الذي كان يتعلم في تلك
المدرسة بعد ملتون بقرن ونصف - ينسب أول نوبة أصابته من نوبات الجنون إلى
استواء الأرض بمركز كمبردج وخلوّها من الرُّبَى والهضاب الشجراء.
والناس وإن اختلفوا في درجات تأثرهم بفقد ما هم محتاجون إليه لا أظن أنه
يوجد منهم من لا يتأثر ألبتة بما يكون من العيوب والمناقص في المناظر الريفية
التي يراها على الدوام اللهم إلا قليلاً لا يُعتد بهم، وإذا صح ذلك فلشد ما يبلغ هذا
التأثر السيئ من أذهان الأطفال فإن الرجل البالغ قد حصل له من قوة النفس
والخيال ما يكفي لمفاعلة ما يحتف به من الأشياء فحسبه في معظم الأحيان أن
يخترق قلبه شعاع من أشعة الحب أو يكون في نفسه وجدان قوي أو تجتمع في
ذهنه بعض المعاني حتى يرتقي بالريف المبتذل الذي لا قيمة له في ذاته من شيوع
الابتذال إلى الاختصاص بشرف الخيال، وليس هكذا حال الحدث الذي بين الثانية
عشرة والثالثة عشرة من عمره فإنه في هذا السن لا عمل له في فطرة ما حوله من
المخلوقات إذ ليس في استعداده إذ ذاك ما يكسوها بهاءً، ويزيدها رونقًا ورواءً، بل إنه يتأثر بها كما هي فمن الفوائد الكبرى له أنه يولد أو يتربى بالقرب من بعض
المناظر الكونية العظمى كمنظر نهر جميل أو بحيرة أو جبل أو غابة..
منظر الريف في كورنواي منظر مهيب غير أنه واحد لا تغير فيه وليت هذه
البلاد كانت أكثر أشجارًا مما هي الآن، فإن مثل اليافع الذي لا يرى قط إلا
ناحيةٍ مِن نواحي الكون كالصخور أو البحر كمثل مَن لم يقرأ إلا كتابًا واحدًا.
لا بد في تربية الإنسان خصوصًا في صغره مِن تنوع الفواعل لتتنوع آثار
انفعاله بها ذلك لأن كل فرد من أفراده يميل إلى بعض المناظر دون البعض حتى
يكون من هذا البعض الذي ميل إليه كطبعه في الاختصاص به ومعنى هذا أن
ضروب الحسن في الطبيعة تقابلها في نفوس الناس مناسبات ذاتية وليس المنظر
الذي يتخيره الإنسان ويرتاح إليه يأتيه على الدوام، عفوًا بل لا بد من السعي وراء
تحصيله فمن الناس مَن ينشأ اتفاقًا في سهل من السهول ويكون ميله للمناظر الجبلية
ويوافق هذا قول أحد الكُتّاب في وصف رجل لا أذكر الآن مَن هو: إنه عربي وُلد
في ظل شجرة تفاح بنورمنديا [9] .
قد بلغ (أميل) السن الذي تبدو فيه حاجة الناشئ إلى الاختلاط بما حوله
والمربون يخدعون هذه الحاجة في معظم المراهقين بإيتائهم قصصًا في الأسفار
وهي ولا ريب أدعى الكتب إلى التفاتهم إليها واشتغالهم بها غير أنه مما لا نزاع فيه
أن وصف البلاد بالغًا ما بلغ من قوة البيان وضبط التحرير لا يرتقي في تأدية العلم
بها إلى درجة المعاينة؛ بل إنه أدنى منها كثيرًا فلا يمكن أن يستغني به عنها، من
أجل ذلك كان سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة هو السن الذي يظهر فيه هوس
الملاحة في رءوس الصغار من سكان البلاد المجاورة للبحر كإنكلترا فكم من
هؤلاء الصغار البسلاء مَن يصيبهم مِن ولوعهم بالتجوال في الأقطار السحيقة مرض
لا يحد ولا يوصف كما يصيب العصفور الخطاف في الفصل الذي يهاجر فيه رفاقه
فيتسللون من بيوت أهليهم فلا يعودون إليها في حياتهم. وأما سكان البلاد الأخرى
فإن حب السفر لا يكون في الكثير منهم إلا حاجة وقتية لأنهم بعد أن يقضوا بضع
سنين على سفر يركبون فيه متن المهالك يرجعون إلى أوطانهم فيعيشون
معيشة الاستقرار.
الذي يدهشني من المربين هو قعودهم حتى الآن عن البحث في الانتفاع
بالأسفار في التربية وجعلها ركنًا من أركانها، إن قيل: إنما يمنعهم من ذلك حاجتهم
إلى الزمن: قلت إن السفر إلى أمريكا مثلاً لا يقتضي الآن منه أكثر مما يلزم لتعليم
التلميذ شكل الكرة الأرضية تعليمًا فيه شيء من الحق على ما في السفر ومعاينة
الأشياء من الفوائد الكثيرة التي لا يستفيدها المتعلم من أي درس من دروس تقويم
البلدان كتابية كانت أو شفاهية، وإن قيل: إن ما يقتضيه السفر من النفقات هو الذي
يخيف المربين منه ويصدهم عنه، قلت: قد فهمت هذا الاعتراض إلا أنه يوجد من
الطرق غير واحدة للسفر بدون كبير نفقة وإنما أكبر العوائق في هذا السبيل هو حذر
الآباء والأمهات وخوفهم على أولادهم، فإن فكرة غياب الغلام الغِرّ عن نظر أمه
ووكله لأمواج البحار ومخاوف الأسفار وتخليته ونفسه مما يُهَيَّجَ نفوس الأمهات
وتثور له قلوبهن. لا جرم أن اهتمامهن بأولادهن حقيق بالاحترام والإجلال ولكن
ينبغي أن يُفهمهن القائمون على التربية أنّ ليس في الغياب شيء يقطع أواصر
الرحم وأنّ عرى المحبة والوداد تجمع بين القلوب الشريفة والنفوس الكريمة مهما
اتسعت مسافة البعد بينها وأنه لا خوف من الحرية إلا على الأبناء الذين لم يبكر
بتعليمهم الاستقلال بالسير في هذه الحياة على أنه لا يصح أن تكون محبة الوالدين
لأولادهما الأعزاء مقصودًا بها لذاتهما؛ بل لا بد أن تكون غايتها الحرص على
مصلحتهم فإن رحمتهما بهم تدب إليها شبهة الأثرة إذا انحصرت في إبقائهم في
كنفهما وإن أخل ذلك بتلك المصلحة وفوق ذلك فإنه لم يكن من العبث أن استعملت
في أيامنا هذه قوة البخار في طي المسافات السابقة، وتقريب الأقطار المتنائية،
وأبعدت والملاحة في فتوحاتها، ورخّصت للناس أسعارها، فأصبح السفر إلى البلاد
المسامتة لنا من أسفل معتبرًا عند شبان الإنكليز من قبيل التنزه وتمضية وقت
الفراغ في البحر وقد شعر النوع الإنساني بنمو أجنحته للرقي فلا محيص من
التسليم، وإني لأخشى أن لا تغني حكمة الشيوخ الزاجرة عن السفر ولا الجدول
الأطلانطيقي شيئًا مما يجده خَلَفُنا في نفوسهم من الحمية والحاجة إلى رؤية العالم.
جميع الأمم الحرة أمم رحّالة لا يعوقها بُعْدُ المسافات ولا اختلاف الأقاليم ولا
العقبات المادية بل ولا تعلقها المتين الأعمى بالزاوية التي تعيش فيها من الأرض.
إن القوانين التي جرى عليها توزيع أجيال النوع الإنساني على البلدان قد
تحدد بعضها بالفطرة وبعضها بالتاريخ وكثير منها بسياسة الحكومات، وما زال
الحاكمون في كل عصر يعنون أشد العناية بأن يعيش المحكومون ويموتون في
الأرض التي ينبسط عليها سلطانهم سواء في ذلك الأغنياء منهم والفقراء وقد
استنتجوا من كون هذا الأمر مفيدًا لمصالح ملكهم أنه مِن الفروض التي لهم على
رعاياهم، ونجحوا في إقناعهم بذلك وكان من أوهام المربين وخيالات الشعراء وأفكار
رجال الدين ما تضافر في قرون طويلة على أن يغرس في القلوب غريزة يشترك
فيها الإنسان مع العجماوات وهي حبه للمكان الذي ولد فيه، نعم، إنها من الغرائز
الحسنة ولا تنس أنها هي السبب في تآلف الجماعات، ولكن لا يعزب عن ذِكْرِكَ
أيضًا أنه يسهل أن يساء استعمالها ليبقى المستضعفون من الناس عبيدًا للأقوياء
الغاشمين.
لما كانت جماعات الإنسان في بداية نشأته قد انحصرت كل واحدة منها في
بقعة من بقاع الأرض كانوا معتادين من صغرهم على المعيشة في الأماكن التي
يجدون فيها ما يقتاتون به ووصلت بهم في هذه الحالة إلى حَدِّ أنهم قد عدّوا هذه
العادات الانحصارية من الفضائل، وأما أنا فلا أعدها إلا معيبة ولا أقدرها بما لا
تستحق فما زال الفلاح اللاصق بأرضه يقلبها ويزرعها أدنى منزلة في الجملة من
المدنِي والمدني نفسه يستفيد ويرتقي كثيرًا إذا اتسع نطاق معاملاته مع العالم.
الأمم التي تكون عالة على أرضها أجنبية عن لغات غيرها في وسعها ولا شك
أن تقوم بعظائم الأمور وجلائل الأعمال لكنها تكون أكثر من غيرها استهدافًا لقوارع
البغي السياسي، فإنها لا تتأثر من تعطيل القوانين، ولا من إبطال كفالات الحرية ولا
من دوس حقوق الأفراد واهتضامها، ذلك لأن أبناءها يلتصقون وهم كالمستميتين
بقطعة الأرض التي تؤويهم وقد دنسها الدم الذي سفكه عدوها الظافر وجعل منه قرابًا
لسيفه فالاغتراب أشد رهبة في صدورهم من جميع المصائب ولو أحاطت بهم
فوادح الخطوب القومية من كل ناحية، فإذا نفى بعض ذوي الوجاهة والنفوذ من
الأحزاب المستضعفة إما بحكم الضرورة أو بما يتخذ من طرق القهر في زمن الفتنة
كان النفي أبلغ المحن في نفوسهم ألمًا فتراهم حيارى لا يدرون أين يذهبون ولا ماذا
يصنعون وقد صارت الدنيا في أعينهم وهم خارجون من ديارهم صحراء يعوزهم فيها
الدليل، وموحشة لا يجدون فيها الأنيس.
وأما الأمة التي يعتاد أفرادها من نعومة أظفارهم على قطع أجواز البحار ولا
يكونون بمعزل عن لغات الأمم الأخرى وعوائدها ويدرسون أبعد ضروب الحضارة
عنهم وأشدها اختلافًا فإنه لا يكون لصروف الدهر عليها سبيل ولا يخشى بَنوها
بطش القوانين الخاصة ولا التغريب؛ بل إنهم يكونون أصدق مِن فليبس الثاني [10]
إذا قالوا متشبهين به: (ما كانت الشمس لتغرب عن حكوماتنا) .
ولقائل أن يقول: إن عادة السفر قد تُضعف في الأحداث العاطفة الوطنية:
فأجيبه إني لا أميل قطعًا إلى عموم معنى الوطنية واتساعه فما أتعس مَن تكون الدنيا
كلها وطنًا له؛ إذ لا يكون الإنسان إنسانًا إلا بشرط أن ينتسب إلى طائفة معينة من
البيت الإنساني وأن يكون له لغة وأمة خاصتان به غير أنه لا ينبغي أن يتوهم أن
حب الوطن الحقيقي يَضِيعُ كثيرٌ مِن معناه إذا تجرد عن روابط الوثنية المادية التي
كثيرًا ما تشوهه وتنجس قيمته، فليس الوطن مطلقًا عبارة عن الجبل أو السهل أو
الغدير الذي يولد الإنسان بجواره اتفاقًا وليس هذا من القرميد أو الحجر ولا هو
بالمكان الذي يحصره سطح يقدر بالفراسخ المربعة كلا، ليس الوطن شيئًا من ذلك
ولكنه معنى يقوم بالذهن بل تاريخ الأمة بل آثار سلفها وإن شئت فقل إنه وجود كلي
تشعر جزئياته بالمعيشة فيه، ولا شيء من ذلك كله يضيع في ركوب متن البحار،
ولا في اجتياز المفاوز والِقفار، إذا نقش على لوح القلب، وتحققت به النفس.
جاءتنا أخبار من بلاد البيرو وبواسطة بعض معارفنا تحمل على الاعتقاد بأن
(رولوريس) قد سُلِبَتْ أموالُها بتواطئٍ حصل بين أقاربها وقد استفتينا العارفين
بالقانون فكادوا يجمعون على أن هذه القضية الغامضة لا ينجلي غموضها ولا
ينكشف سرها إلا في البيرو وأنها تقتضي أن نوسط فيها صديقًا يعهد إليه بمصلحة
الفتاة المهضومة فنقّبنا عن هذا الصديق فلم نقع عليه صنائع البر يستلزم بعضها
بعضًا، فإننا وإن لم نَتَبَنَّ هذه الفتاة الأجنبية فقد التقطناها وآويناها إلى بيتنا وصار
من الحق علينا إنصافها في بلدها.
فكرت في أن أسافر بنفسي للقيام بهذه المصلحة فرأيت غير واحدة من العقبات
تدافعني عن تنفيذ هذا العقد، من ذلك ما يقتضيه قطع تلك الشقة البعيدة من النفقات
وعدم احتمال الفوز بالحق في الدعوى والروابط التي تربطني بالبقاء في أوربا
وبالجملة فإن سبعين اعترضًا قويًا وقفت بي موقف المتردد بين الإقدام والإحجام فقد
تعاهدت أنا وهيلانة بعد الذي ذقناه من ألم الفراق أن لا نفترق ولا أدري إن كان في
مكنتها احتمال سفر شاق كهذه ولو أنه اقتضى أن تحتمل مضض الفُرقة مرة ثانية
لما تَرَيَّثْتُ في إطراح خاطره.
على أن هذا الخاطر لا يزال يساورني والحالة التي أصبحنا فيها بسبب كفالتنا
لتلك الفتاة العزيزة علينا وما يلحقنا من تبعات التقصير في شؤنها لم تكد تترك لي
حرية الاختيار في السفر بل قد شعرت بوارد يأمرني به أمرًا.
وأقول على أي حال: أفلا يجوز أن يكون الإنسان منافقًا يتخذ المقدور من
حيث لا يشعر ستارًا لإخفاء نفاقه؟ أفلا يصح أننا مع اعتقاد امتثالنا في العمل لحكم
الضرورات نتبع في أغلب أعمالنا ما توحيه إلينا شهواتنا أو نمزج المصلحة التي
نتخيل أننا نقوم بها لغيرنا بشيء من الأثرة أو يكون ميلي الغريزي إلى التجوال هو
الذي قد تنبه في نفسي واجتهدت في مواراته بحجاب صنيعة المعروف أو أن تكون
لي غاية خاصة أو سبب خفي يدفعني إلى تغيير الهواء الذي أنا فيه.
لست أقطع بشيء من ذلك ولكني كلما تساءلت خيل لي أن قصدي الأول إنما
هو نفع الولدين اللذين أخذت على نفسي تربيتهما.
ولو كان في وسعي أن لا أستفتي إلا ميلي وذوقي لجاز أن لا تكون البيرو هي
المكان الذي أتخذه من الأرض موضوعًا للدرس والتعليم وذلك لفرط بُعدها؛ ولكن ما
أوسع السفر إليها من ملعب يتجلى فيه كثير من الوقائع والمرائي، إذ يرى المسافر
سموات مجهولة له يعمرها من الكواكب ما لا ينير أقطارنا الكامدة ليلاً، وبحارًا
مشحونة بالغرائب، وسواحل قاصية أَبْرَزَها للعيان فعلُ الجبال النارية، وخليطًا
من الأجيال الآدمية التي لما يتم امتزاجها، وتُسْفِرُ أخلاقُها عن تاريخ تام.
سن المراهقة هو السن الذي يكون فيه التأثر قويًا فهو الذي تُنْقَشُ فيه على
المخ صورة العالم الخارجي أتم انتقاش وأدقه، ما ولقد حَصَّل (أميل) من العلوم
الصحيحة إن لم أكن واهمًا ما يكفي لاشتغاله بالكون وسيؤهله درس الوقائع الكونية
المحسوسة لدرس المقولات فإنّ تعليمَ فنِّ الألفاظ ومحسنات اللغة لحدث لمَّا يشاهد
شيئًا بنفسه ويراقبه ويحس به كنثر الزهر في كهف اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) معرب من كتاب
(أميل) القرن التاسع عشر
في التربية، تابع لما نُشر في ص 778 من المجلد الخامس.
(1)
شكسبير هو أشعر شعراء الإنكليز كما مر.
(2)
نهر الآون هو أحد أنهار إنكلترا المشهورة وهو قريب من مدينة استراتفورد.
(3)
استراتفورد هي أهم مدينة في مركز استراتفورد.
(4)
غابة أردان هي في هذا المركز أيضًا.
(5)
أولفيار جولد سميث هو شاعر وقصصي إنكليزي شهير وُلد سنة 1728 ومات 1774.
(6)
واشنجتون أرفنج هو أديب وقصصي أمريكي ولد سنة 1780 ومات سنة 1859.
(7)
بحر أوتسون هو خليج متسع على السواحل الشمالية للقسم الإنكليزي من أمريكا.
(8)
ملتون شاعر إنكليزي شهير ولد سنة 1608 ومات 1674.
(9)
نورمنديا إقليم من الأقاليم الفرنسية القديمة التي دخلها العرب الفاتحون.
(10)
فليبس الثاني هو ابن أمنتاس أحد ملوك مكدونية الخمسة الذين تسمَّوْا بهذا الاسم، حَكَمَ مِن سنة 359 إلى سنة 336 ق م وفتح بلادًا كثيرة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت
التعليم الابتدائي لا بد منه لكل فرد من أفراد الأمة صُناعها وزراعها وأجرائها
والتعليم العالي لا بد منه لطائفة من خواصّ الأمة الذين يعملون الأعمال الكبيرة
كالمعلمين والمؤلفين والساسة والقضاة والأطباء ومديري الشركات المادية وكبار
التجار فإذا لم تتعلم الطبقات الدنيا التعليم الابتدائي كان أفرادها كالبهائم لا صلة بينهم
وبين المتعلمين ويسهل على كلِّ دجال ومحتال أن يقودهم إلى ما شاء من الشرور،
وإذا اكتفى الخواص بالتعليم الابتدائي كان ضررهم في الأمة أشد من ضرر العوام
الأميين لأنهم يعجزون عن الرقي بها والقيام بشؤونها الكلية فيختل النظام، ويعتل
مزاج المصالح، وينصرف هؤلاء الزعماء إلى الإفساد في الأرض بجهالاتهم
وشهواتهم، ولا يكون لهم حظ من التعليم الناقص إلا تقليد الأمم الراقية في الأزياء
والماعون والأثاث وذلك يُذهب بثروة الأمة ويمينيها بسوء الأسوة، ويجعلها ألعوبة
بأيدي الفاتحين، وحلبانة ركبانة للمستعمرين.
ومن العار على مصر أن تكون على سبقها البلاد العربية كلها إلى التعليم
العصري خالية من مدرسة كلية للعلوم العالية بجميع فروعها فإن المصريين
يشتغلون منذ قرن كامل بالتعليم ومنهم مَن تخرج في مدارس أوربا العالية ومع هذا
لم تَسْمُ همتهم إلى إنشاء مدرسة كلية تغنيهم عن المدارس الأجنبية الخالية من لغتهم،
ومن التربية الملّية التي تليق بهم، على أن مصر أغنى البلاد العربية وأحوجها
إلى العلوم العالية، وخواصها أعرف بهذه الحاجة من خواص مسلمي سوريا وتونس،
بله الجزائر ومراكش فإن الكثيرين منهم يرسلون أبناءهم إلى أوربا وإلى سوريا
لتكميل دراستهم في مدارسهما العالية.
في بيروت عدة مدارس كلية وليس في القاهرة مدرسة واحدة وفي تلك
المدارس مئات من أبناء المصريين وقليل من أبناء مسلمي سوريا وإنما كان هؤلاء
قليلين لأن الآباء يخافون على عقائد أبنائهم من هذه المدارس فإنها كلها دينية
ومديروها ونظارها من القسيسين وهم يُلزمون التلميذ المسلم بدخول الكنيسة
وصلاة النصارى فيها.
وفي مدارس الجزويت يَحُولون بينه وبين كل ما يذكِّره بدينه حتى إنهم يحرفون
ما يطبعونه من كتب المسلمين فينسبون كلام الله فيه إلى الناس المجهولين،
وكذلك كلام رسوله عليه السلام ويكذِبون على الإسلام والمسلمين في التاريخ لينفّروا
تلامذتهم عنه، وأَمْثَلُ مدارس سوريا وأوربا للمسلم (المدرسة الكلية الأمريكانية) في
بيروت فإنها أحسن تربية لما فيها من روح الحرية والاستقلال، واللغة العربية فيها
معتنى بها لا سيّما في هذا العهد؛ إذ الأستاذ الأول لعلومها جبر أفندي ضومط صاحب
كتاب (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) وكتاب (فلسفة البلاغة) ، الواسع
الاطلاع على الآداب الإسلامية، المجبولة طينته بفضيلة الإنصاف، المغرم بتربية
النفوس على الفضائل، غرامه بتربية العقول على الاستقلال في طلب الحقائق،
الذي يعتمد في علم الأخلاق على كتاب (الإحياء) للغزالي أكثر مما يعتمد على سواه.
وقد وجد هذا المعلم المربي مجالاً فسيحًا للعمل بمذهبه في التعليم والتربية
على عهد رئيس المدرسة الكلية الحاضر الدكتور (هوردبلس) الذي يقول إن حياة
المدرسة في ثلاث: (كلمة لا إله إلا الله) وطلب الحقيقة بالإخلاص، والنظر إلى
المخالفين في الدين من جهة الاتفاق لا من جهة الاختلاف. هكذا حدثنا عنه صديقنا
جبر أفندي عند زيارته القاهرة في أوائل هذا الشهر وخطبته في كنيسة المدرسة يوم
المولد النبوي تؤيد ذلك، وقد نشرت (ثمرات الفنون) يومئذ مُلَخَّصًا فدلَّ ذلك
على أن هذا الرجل أشبه بفيلسوف إلهي منه بقسيس نصراني، فأين منه الأمريكان
المتعصبون في مصر؟ !
وجملة القول: إن المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت أمثل للمسلم من
مدارس مصر وسوريا والآستانة وأوربا فهي مدرسة رَبَّت ولا تزال تربي رجالاً؛ بل
هي الآن للمسلم خير منها قبل الآن. أما المدارس الابتدائية فخيرها للمسلمين
المدرسة العثمانية الأهلية في بيروت.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأستاذ الإمام - عودته
عاد الأستاذ من سياحته في أوربا والجزائر وتونس فتلقاه في محطة القاهرة
الجماهير من العلماء والوجهاء وهي حفاوة داعيتُها المحبة والإجلال. ولم تُعهد لغيره
في هذه الديار وقد أثنى على حفاوة أهل الجزائر وتونس وحكومتيهما به، وقال: إنه
رأى روحًا جديدًا في العلماء وتوجهًا جديدًا من فرنسا للمسلمين وإنه يرجو بذلك
للبلدين حياة علمية سعيدة، ونهضة إسلامية قريبة، فيأتلف الحاكم والمحكوم ويوجه
العلم إلى المعلوم.
وسننشر بعض فوائد رحلته فيما بعد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(كلمة للمشتركين أو كلمتان)
لا يكاد يمضي يوم إلا ويجيئنا فيه مع البريد كتاب أو كتب من المشتركين
يطلبون فيها أجزاءً ناقصة من (المنار) وقلّما يرسل أحد منهم ثمنها الذي عيَّناه
وننشر إعلانه على الغلاف دائمًا، ومنهم مَن يلح في ذلك ويكرر الطلب ولنا العذر في
عدم المجاوبة (يراجع الإعلان في الصفحة الرابعة من الغلاف) .
هذه هي الكلمة الأولى وأما الثانية فنرجو من المشتركين الكرام - حيث لا
وكلاء للمنار - التفضل بإرسال قيمة الاشتراك حوالة على البريد في مصر وأن لا
يحوجونا إلى المكاتبة ونفقة التحويل كما فعل ذلك الغني العظيم في بني سويف؛ إذ
طالبناه بثمن المجلدات التي اشتراها من المنار وبقيمة الاشتراك فما أغنى عنه
الطلب، وحولنا عليه فلم يغنِ التحويل. فلو استن الناس بسُنة هذا الغني لبطلت
الأعمال وفسد العمران وهلك الإنسان ولعله يرجع إلينا المجلدات والأجزاء إذا شقّ
عليه إرسال ثمنها ولا يحوجنا إلى التصريح باسمه خلافًا لعادتنا.
***
(العبرة في ثورة مكدونية)
كل يوم تأتينا البرقيات والصحف الأوربية بضروب من أخبار الثورة وآراء
أهل أوربا فيها وكلها عِبَر للمسلم، ولكنَّ نَقَلَتَها في صحفنا لا يوجهون النفوس إلى
طرق الاعتبار بها، قامت قيامة أساقفة الإنكليز على حكومتهم، وكتبوا يحرضون
الأمة على الحكومة لتحملها معهم على الانتصار لنصارى مكدونية، والسعي في
إنقاذهم من حكم المسلمين، وقد اضطرت الحكومة أن تدافع عن نفسها، وتبرئها
من تهمة مساعدة الدولة العثمانية في الربع الأخير من القرن الماضي، وتفتخر بأنه
تيسر بمساعدتها وضع قبرص والبلغار ورومانيا والبوسنة ومصر وكريت تحت
لواء أوربا، كما اعتذرت عن عدم السعي في استقلال مكدونية بأن العنصر الأقوى
فيها مسلمون متعصبون لدينهم ولسلطانهم.
هذا، وإنك ترى أكثر الجرائد الأوربية والمقلدة لها في الوسائل والمقاصد تندد
بذبح الأتراك وتنكيلهم بالنصارى في البلاد الثائرة - أي بالثائرين ومساعديهم-
ولكنها تمدح الثائرين وتطلب مساعدتهم على إحراق بيوت الله وبيوت الناس
والفتك بحكامهم الترك وسائر المسلمين، ولو أن الدولة العلية قصرت أو عجزت
عن تأديب هؤلاء الثوار الأشرار لكانت - في نظرهم - أحق بالتأنيب، وأحوج
إلى التأديب، وقد كتبت جريدة فرنسية مقالة في هجو اليونان؛ لأنهم لم يساعدوا
الثائرين عملاً بمصلحتهم، وقالت الجريدة إن المسألة ملّية يجب فيها العمل بالغيرة
الدينية، دون المصلحة السياسية، وقد عرَّبت هذه المقالة جريدة الجوائب
المصرية.
فليعتبر بهذا المتفرنجون الذي يزعمون أن أوربا فقدت الغيرة الدينية،
ويجهلون أنه لولا هذه الغيرة لما ثار ثائر نصراني في كريت ولا مكدونية ولا
غيرهما، وأنّ هؤلاء الثوار يعلمون أنهم يعجزون عن الخروج من سلطة الدولة
العثمانية بالقوة، ولكنهم يعتمدون على انتصار الشعوب الأوربية لهم، وإلزامها
حكوماتها بمساعدتهم، وإن كانت الحكومات تقدم مصالحها على مصلحة الدين فإن
من مصالحها أيضًا إرضاء رعاياها ومراعاة إحساسهم الديني!
أما هذه الثورة فقد استعد لها المقدونيون في بلاد الدولة وفي بلاد البلغار
استعدادًا عظيمًا مبنيًا على العلوم والصنائع؛ فمدارس النصارى في تلك البلاد
تعلمهم عمل الديناميت لأجل الاستقلال، وغير ذلك من العلوم والأعمال،
والمسلمون لا يتعلمون إلا ما ينكث فتلهم ويقطع روابطهم، فلو صبر الثوار
لاستولوا عليهم بالعلم، ولكنهم عجلوا إلى امتشاق السيف، والدولة لم تكن غافلة
عما يعملون، ولكن السلطان الأعظم يحب مداواة الأدواء باللين ما وَجَدَ إلى ذلك
سبيلاً؛ ولذلك كان يَمنح الرتبَ والوسامات لكل مَن توسم منه الشر، فلما جاء
الميقات لم تغنِ الرتبُ ولا الوسامات، وكل ما هو آتٍ آت.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتك الهيضة في حِمْص وطرابُلس
كان فتك الهيضة في هذين البلدين أشد منه في سائر البلاد السورية وقد قلنا
في جزء مضى أن أكثر مَن يصاب ويموت به في طرابلس الفقراء الذين لا يبالون
بالنظافة ومداراة الصحة ولكن قد مات به في حمص جماعة من خيار أهل العلم والدين
وهم:
(1)
الشيخ محمد المحمود الأتَّاسي: كان هذا الرجل شيخ العلماء وكبيرهم
في حمص مات عن ثمانين سنة لم يسأم التدريس والتعليم في أواخرها كما سئم لَبيد
الحياة في مثل سِنِّه؛ لأن الإنسان لا تطيب له الحياة بعد ذهاب الطيبين إلا إذا كان
له حياة عقلية روحانية ينعم بها وكان رحمه الله تعالى ورعًا قنوعًا لم يأكل قط بعلمه
ودينه على أنه كان أكبر العلماء جاهًا ولم يأخذ من مال الأوقاف شيئًا على أنه كان
المدرس الأول في الجامع الكبير. وكان عالي الهمة سليم القلب رقيق الطبع حسن
الفكاهة حفَّاظًا للناس في غيبهم كحضورهم ويعتقد العارفون بحال البلاد أنه أحد
الأفراد الذين حُفِظَ بهم العلم الإسلامي منذ ستين سنة؛ إذ بلغ النهاية من التلاشي.
(2)
الشيخ أنيس الملوحي وهو من فقهاء الحنفية المهرة وكان مرجعًا
للخاص والعام في أحكامٍ في المعاملات لا سيما مسائل الأزواج قضى في سن
الخمسين، ولم يكن من الفقهاء الجامدين.
(3)
محمد سعيد أفندي الحكيم:- كان من الشبان الأذكياء المشتغلين بالعلم
المحبين للإصلاح وتعلم الطب من والده وغيره وعمل به ولكن الأجل إذا جاء لا
ينفع معه طب ولا ينجو منه طبيب على أنه يقع بسببه ولكن الإنسان لا يهتدي دائمًا
للوقوف على الأسباب والعمل بها.
(4)
الشيخ علي العمري:- أما طرابلس الشام فلم يمُت فيها من
الرجال المشهورين بالعلم أو غيره أحد إلا الشيخ عليًا العمري وهو لم يمت بالهيضة
الوبائية بل بمرض آخر كما يفهم من ترجمته في جرائد بيروت، مات عن تسعين
سنة وكان أكثر الناس يعتقدون صلاحه وكرامته ويتناقلون عنه من الخوارق والغرائب
ما لا يُحصى وأشهرها أنه كان ينفث في فنجانة القهوة وقدح الشاي أو يشرب
منهما قليلاً فتكون لهما رائحة مسكية ويأخذ عودًا أو قطعة مِن الحصير أو غيره
فيضعها في النار فتكون رائحة دخانها كرائحة العمود الهندي ويأخذ عودًا من
الكِبريت أو خلالاً فيبله بريقه ويكتب به تميمة لطالبها على أنه كان أميًا. من الناس
من يأوّل أمثال هذه الغرائب وينقلون عنه ما هو أغرب منها. ومِمَّا امتاز به على
منتحلي الكرامات من شيوخ الطريق أنه كان يأتي بأغرب خوارقه في ملأ الأمراء
والوزراء، على أن القوم يخصون بها العامة والأغبياء، وأن مختار باشا الغازي
يروي عنه مِن الخوارق مثلما يروي عنه الدَّهمْاء في طرابلس الشام.
وقد عرفناه وكان بيننا وبينه مودة ولكن كاتب هذه السطور لم يَرَ منه شيئًا
يتعاصى على التأويل. أما أخلاقه فأخصَّها التواضع والمروءة وحفظ اللسان والسعي
في مصالح الناس وكان محترمًا عند العظماء مقبول الشفاعة عند الولاة والحكام وقد
كان يتهمه بعض الناس بترك الصلاة ولكنني ما رأيته ترك صلاة وأذكر أنه كان نائمًا
عندنا في الحجرة التي أنام فيها فاستيقظت في جوف الليل على تهجده ولم أُشعره
بذلك، ولم يكن يعاهد الناس على الطريق ولا يجمعهم على الذكر ولا يتكلم
بالتصوف ولا الوعظ.
تغمده الله تعالى برحمته الواسعة وأحسن عزاء أنجاله ومحبيه.
_________
الكاتب: محمد عبده
سورة العصر
اقترح بعض العلماء في الجزائر على الأستاذ الإمام أيام كان عندهم أن يقرأ
لهم درسًا عامًّا يستفيدون منه، ويتحقق به تلقِّيهم عنه، ففسر لهم سورة العصر وقد
كتب بعض من حضر الدرس ملخص ما قاله الإمام، وكتب بعضهم يقول: إن
بعض الكاتبين أخطأوا فيما كتبوا واقترح أن يكتب الأستاذ الإمام نفسه تفسير
السورة ويُنشر في (المنار) ليصحح عليه الكاتبون ما كتبوا فعرضنا ذلك عليه
فكتب - أيده الله بروحه - ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3)
المرجح أن هذه السورة من المكيات. وقد ورد عن الشافعي فيها أنه قال: لو
لم ينزل إلا هذه السورة لكفت الناس، وفي رواية عنه: لو تدبر الناس هذه السورة
لكفتهم، وصح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا اجتمع اثنان منهم لم يتفرقا حتى
يقرأ أحدهما على الآخر هذه السورة إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر. وقد
ظن الناس أن ذلك كان للتبرك وهو خطأ وإنما كان ليذكِّر كل واحد منهما صاحبه
بما ورد فيها خصوصًا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر حتى يجتلب منه قبل
التفرق وصية خير لو كانت عنده.
جرت سنة الله في كتابه أن يُقْسِمَ أحيانًا بشيء من خلقه أو بشأن من شؤونه
لينبه الناس إلى ما أودع فيه من الحكمة وأنهم إن كانوا قد نسبوا إليه شيئًا من الشر
أو ظنوا فيه ضربًا من السوء فهم مخطئون؛ فإن السوء والشر ليسا في هذه الأشياء
وإنما هذا في نفوس المستعملين أو المعتقدين وقد كانت أديان يظن أهلها أن هذا
الكون الزماني وما فيه كون شر وفساد ومن الواجب على طلاب السعادة أن يحقروه
وأن يفروا من طيباته ويجردوا نفوسهم إلى عالم آخر فوق عالم الكون والفساد فجاء
الكتاب المبين يبيّن لهم سوء فهمهم عن الله. ومن طرق تنبيههم إلى خطأهم تلك
الأساليب التي جاءت في القَسَمِ ووردت في الكتاب. أراد أن يكشف لهم أن هذه
الأشياء من حكمة الله بالمنزلة التي تبلغ أن يُقْسِمَ اللهُ بها كأنها مما يعظمه الله، وناهيك
بذلك الذي يعظمه خالق كل شيء ووجود كل موجود الذي لا وجود لشيء إلا منه.
العصر: إما القطعة المعروفة من الدهر وهو الزمن الذي يعيش فيه المتكلم
مع غيره سواء قدّر بعدد من السنين كمئة سنة مثلاً أم لم يقدر، وإما الوقت
المعروف من النهار ما بين الظهر والمغرب وكل منهما تصح إرادته. وقد اعتاد
الناس سبّ الأول فكلٌّ يشتكي من عصره ويقول: هو عصر جهالة ونذالة، ونقص
مروءة، وخبث طويَّة، ورداءة عمل، وينسبون ما شاؤوا من الخير إلى ما كان
قبل عصرهم من العصور فأراد الله أن يزعج نفوسهم عن مثل هذا الاعتقاد بأن
أقسم به ليدهش عقولهم بتعظيم ما أَلِفُوا تصغيره، ورفع قدر ما اعتادوا تحقيره،
والعصر بالمعنى الثاني كان الوقت الذي يجتمع فيه الأعطال من العرب، قريش
وغيرها إما عند الحرم أو في مواضع أخر من منتديات الأحياء ويخوضون فيما لا
خير فيه من غيبة أو هزء وسخرية أو لغو من الحديث مُلْهٍ عن جد العمل فوقر في
نفوسهم أن ذلك الوقت نفسه هو قرارة السوء ومجتمع الشر فدفع الله ذلك عن الزمان
إليهم وعلمهم أن الوقت نفسه بمنزلة من الشرف يصلح معها لأن يُقْسِمَ به خالق
السموات والأرض فكان عليهم أن يستعملوه فيما يناسب هذه المنزلة ويشغلوه
بطيبات الأعمال فيخلصوا بذلك من الخسران الذي لم يلحق بهم إلا بسيئات أعمالهم.
إنما ورد هذا القَسَمُ على أي المَعْنيين تأكيدًا للخبر الذي أراد الله أن يسوقه إلينا
وهو أن الإنسان في خسر.. إلخ، وإنما احتاج هذا الخبر إلى التأكيد لأن كثيرًا من
الناس يظنون أن من الأحوال والأعمال وراء ما ذُكر في هذه السورة ما لا خسار
فيه، بل يعتقدون أن السعادة في التخلص من عقد الإيمان والعتق من قيود الفضائل،
وانطلاق النفس فيما يسمونه متسع الفكر، وحرية العمل، بدون تحرج من رذيلة،
ولا إحجام عن فاحشة، متى كانت تلذ للنفس في العاجل، وإن أدت بها إلى الهلكة
في الآجل، وإنّ من الأمم مَن يسعد وإن اتبع أفرادها أهواءهم، وملكتهم شهواتهم،
ما داموا يكسبون المال ويوفرون على أنفسهم وسائل القوة في زعمهم، سواء آمنوا
أم لم يؤمنوا، عملوا الصالحات أم لم يعملوا، تواصوا بالحق والصبر أم لم
يتواصوا، وأمثال هؤلاء الظانين يفوق عددهم الحصر في كل زمان ومكان.
(أل) : في الإنسان للاستغراق كما يدل عليه الاستثناء في قوله:] إِلَاّ
الَّذِينَ آمَنُوا [والاستغراق بأل في لسان العرب ليس كالاستغراق بلفظ (كل) الذي
يسوّر بها المناطقة قضاياهم الكلية وليست (أل) مساوية لكلٍّ التي تضاف إلى
النكرة ويريد بها العربي تعميم الحكم في جميع أفراد الجنس وإنما يراعى في (أل)
استغراق المعهود عن المخاطبين لأنها في لسانهم للعهد، وتعريف الجنس إما في فرد
أو أفراد ولن تفارق العهد في حال من الأحوال.
وكذلك التي يسميها النحاة للعهد الذهني ويتحيرون في الفرق بينها وبين النكرة
ثم يقول مَن لا يعرف خصائص اللسان منهم: إنّ الفرق في اللفظ وإجراء أحكامه،
أما المعنى فلا فرق فيه، وهو وهم فاسد فإن قول الرجل لعبده: اشترِ اللحم من
السوق، لا يُفهم منه أي لحم في الكون بأسره ولا أي سوق في العالم. ولكن قد عهد
السيد نوعًا خاصًا تعوَّد العبد شراءه وأسواقًا خاصة هي أسواق المدينة التي يقيم فيها
وإن لم يتعين أحدها فالعهد والتعريف به لم يفارقها. والفرق بين المعنى معها في
النكرة واضح لمن يعرف خصائص اللسان.
والإنسان الذي تجري عليه أحكام الإنسانية ويحدَّث عنه في مثل هذه الشئون
هو مَن بلغ سن الرشد عاقلاً يميز بين الخير والشر وليس يخطر بالبال عند
التخاطب في مثل هذا المقام الصبيان غير المكلفين ولا المجانين.
ولو أتى بلفظ (كل إنسان) لشمل ذلك. ولا تؤدي (أل) مؤدى (كل) إلا
بقرينة. فالاستغراق في الآية على حقيقته وهو شامل لجميع أفراد المكلفين من
الناس سواء كانوا ممن بلغته رسالات الأنبياء أم لم تبلغهم كما سيأتي بيانه.
والخُسر: في اللغة يطلق على الضلال وعلى الهلاك وعلى النقص وكل ما
جرَّ عليك عملك من شر فهو خسر لك وخسران وخسارة؛ لأنك كنت تبتغي بعملك
الفائدة والثمرة الطيبة تجنيها منه فإذا جر عليك ما كنت تتوقاه، وحرمك ما كنت
تتوخاه فقد خسرت لأنك ضللت في القصد، ودخل النقص عليك في بغية نفسك،
وأتاك التعب من حيث تطلب الراحة، وكل ما آلمك وأشقاك وأقلق نفسك،
واضطرب له قلبك فهو نقص في لدتك. وإذا عملت عملاً وأنت تقصد به سكون
القلب، وهناء العيش فحدث انزعاج النفس، ونقص الطمأنينة فقد ضللت به في
القصد، وخسرت في السعي، والخسر: في الآية مطلق لا يتقيد بدنيوي أو أخروي،
فكل مكلف ممن لم يتصف بالأوصاف الآتية (في السورة) يصيبه حظ من
الخسران في هذه الحياة أو في التي بعدها؛ لأن السورة مكية كما قلنا والخطاب في
المكيات كانت تراعَى فيه العمومات في كثير من الآيات، كما تراه في سورة
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) مثلاً، والخسر بفقد الراحة وطمأنينة النفس.
الإيمان: في هذه السورة مطلق كذلك لم يتقيد بشيء كما ترى ولكنه محمول
على ما هو معروف عند المخاطبين، والأمسّ بعموم الخِطاب أنه إذعان النفس لليقين
بالفرق بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة وبأن على الوجود مسيطرًا يرضى
الخير ولا يرضى الشر ويحب الفضيلة ويكره الرذيلة، وأنّ مِن رحمته أنْ يَخُصَّ مَن
شاء من خلقه بإطلاعهم على شيء من سره وأمرهم بأن يبيّنوا للناس ما التبس
عليهم من مذاهب أعمالهم، ويعرّفوهم مداخل الأهواء الفاسدة إلى قلوبهم، ومسالك
الدلائل الصحيحة إلى عقولهم، فيُقبلوا على هذه ويَتَلَقَّوْا ما يُساق إليهم منها،
ويسدوا على أنفسهم تلك ويقيموا من العزم حارسًا على نوافذها يمنع ما عساه يهوي
إليها، وهذا الإيمان هو المدلول عليه بقوله تعالى في سورة:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1)، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (الليل: 6) ، وليس الإيمان ها هنا هو
التصديق المقرون بالإذعان لتفصيل الأحكام الواردة في شرعنا خاصة، فإن الحكم
إنما هو على الإنسان في جميع أمكنته وأزمنته لا يختص بأمة محمد صلى الله عليه
وسلم؛ بل يعم الأمم جميعها ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
فالكلام في السورة لتقرير حكم عام من أحكام الإنسان في نفسه وإنما تدخل رسالة
النبي صلى الله عليه وسلم في رسالة في حكم هذا العام ويكون مَن بلغته تلك الرسالة
ولم يصدق بجميع ما ورد به القطعي سندًا ودلالة من نصوصها خاسرًا في الدنيا
والآخرة بحكم هذا النص من جهة عمومه وبالنصوص التفصيلية الأخرى التي وردت
في كثير في سور القرآن.
وليس الإيمان كذلك مجرد ما يسميه الناس اعتقادًا وإن كان بمحض التقليد لا
عمل لعقل ولا لوجدان فيه فإن مثل هذا الإيمان قد خسرت معه أمم كثيرة ممن
صدقت بمرسلين صادقين، وأنبياء هادين، وإنما المراد منه ذلك التصديق المقرون
بطمأنينة النفس وخضوع القوى لحكم ما آمن به {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) ذلك الإيمان هو الذي كان الله ولا يزال ينوط به النجاة من
الخسران في الدنيا والآخرة. وسيأتي إيضاح ذلك أيضًا.
أما هذا الذي يتلقاه الناس من أفواه آبائهم فينشأ ابن المسلم لا يفهم معنى لما
يعتقد أو لما يقول أبوه وإنما ينطق كما ينطق وتأخذه الحمية لما يراه، يحمى له لا
يفهم لذلك معنى ولا يجد لنفسه فيه بصيرة كما ينشأ ابن النصراني أو ابن اليهودي
أو ابن المجوسي على مثل ذلك، فهو مما لا يعتد الله به وإنما يعتد الله بتلك السكينة
الروحية التي تشعر النفس بمهبطها إليها، وذلك العقد القلبي الذي يعرف القلب مكانه
منه، هذا هو الإيمان الذي يليق أن يسمى حياة للنفس يعدها للشعور بجميع ما يلزم
له وما يصح أن يحمل عليه. أما ذلك الذي سموه إيمانًا هو ليس به فهو مما يقتل
النفوس ويهلك الأرواح ويسلك بها مسالك الجهل وينتهي بها إلى مهاوي الهَلَكَة.
أما الصالحات: في هذه السورة فهي تلك الأعمال التي عرفت عند الناس
بأنها من أعمال الخير النافعة لخاصتهم وعامتهم المتفقة مع مصالحم التي لا تنكرها
الأذواق السليمة، ولا تجافيها الطباع المستقيمة، ومنها ما هو من ضروب الشكر
لمفيض الخير والإحسان على الخلائق أجمعين كالعبادات الصحيحة التي جاء بها كل
دين صحيح في أي أمة من الأمم التي دعيت إلى الأخذ بذلك الدين زمن العمل
بشريعتها. ومنها ما هو من ضروب البر كبذل الأموال في طرق الخير والسعي في
إغاثة المنكوبين، وإقالة العثار، والعدل في الحكم، وإنقاذ المظلوم من الظلم،
ونحو ذلك مما يطول تفصيله، ومنه فضائل الملكات التي تصدر عنها الصالحات
كالأمانة والعفة والإنصاف والمحبة والإخلاص وأمثال ذلك. كل هذا يسمى
صالحات وإن كان منه ما هو بدني يتعلق به العمل الظاهر، ومنه ما هو نفسي يتعلق
به العمل الباطن، والعمل يتعلق بالملكات لأنها إنما تحصل عادة بترويض النفس
عليها، ومجاهدتها في سبيل تحصيلها، ويدخل في هذه الأعمال عند كل أمة ما
وردت به شريعة رسولها ويدخل فيها ما هُدي إليه العقل عند الأمم التي لم تبلغها
رسالة.
وإن من أصول الصالحات ما هو معروف عند البشر عامة لا تختلف فيه أمة
كالأصول التي ذكرناها قبل أسطر، ولذلك سميت في الكتاب بالمعروف وسميت
أضدادها بالمنكر أي ما تعرفه النفوس السليمة وما تنكره العقول الصحيحة.
التواصي: أن يوصي كلٌّ من الشخصين صاحبه بشيء.
والحق: ما يقابل الباطل وهو يكاد يكون معروف المعنى عند كل الناس، وإنما
يخطئ أغلبهم في حمل هذا المعنى على جزئياته فيأتي الواحد منهم إلى أشد الباطل
بطلانًا ويقول إنه الحق، فلو حمل الحق ها هنا على ما يراه الموصي حقًّا لكان
المعنى: وأوصى كل منهم صاحبه بما يعتقده حقًّا وطالبه بالأخذ به، وربما كان
الآخر لا يعتقد أن الحق مع موصيه فيكون التواصي ضربًا من التنازع لأن كلاًّ
يدعو الآخر إلى ما لا يرضاه وهو النزاع بعينه فلا يصح حمل المعنى عليه وإنما
الذي يصح أن يقصد هو أن يوصي كل واحد صاحبه بتحري الحق فيما يعتقد بأن
ينبهه إلى الحرص على البحث في الأدلة والتلطف في النظر للوقوف على الحق
الذي هو الواقع لا يختلف فيه بعد معرفة وجهه فإذا رأى منه ضلة هداه بإقامة
الدليل على ما هو الهدى وإذا رأى منه تقصيرًا في النظر نهض به إليه، وإذا
وجد منه رعونة في الأخذ بظواهر الأمور دون النفوذ إلى بواطنها نصح له
باستعمال الرويَّة وإمعان الفكرة.
وهكذا يكون على الآخر أن يعمل مع صاحبه مثل ما يحب عليه أن يعمل معه،
وفرض التواصي على كل واحد يبيح للصغير أو يوجب عليه ما يبيح للكبير أو
يوجب عليه من ذلك؛ إلا أنه لا يمنع من رعاية كل قائم بواجب عليه حق الآخر
فلِوَصية الصغير وعرضها على الكبير طريقة غير طريقة سوق الوصية من الكبير
إلى الصغير، يعرف ذلك القوم على حسب آدابهم وما ألفوا في تخاطبهم.
والتواصي بالحق يدخل في الصالحات وإنما ذكره بلفظه لِيُنَوِّه بفضله ويشير إلى أنه
أصلٌ بنفسه تناط النجاة به استقلالاً.
ولا يصح أن يظن ظان أن النجاة منوطة بالتواصي بالحق وإن لم يكن
الموصي آخذًا به فلو كان مبطلاً وأوصى بالحق فقد نجا، هذا ما لا يعقل وإنما
جاءت الآية الكريمة على طريقة الإيجاز التي فضل بها القرآن جميع الكلام فإن
المراد مَن كان على الحق وأوصى به. ومن المعروف عند العقلاء أنه لا يوصي
بالشيء ولا يدعو إليه إلا من أصاب منه الحظ الأوفر، وكيف يدعو إلى أمر ويحسن
الدعوة إليه مَن لا تكون له مِن ذلك الأمر حلية يُعرف بها، وما تراه من قوم يدْعون
إلى المعروف وهم يقيمون على المنكر فذلك لا يعد دعوة صحيحة لأنهم لا يعرفون
كيف يدْعون وهم في دعوتهم إلى ما يدْعون إليه ينفرون الناس منه ولا يميلونهم إلى
ناحيته، وخطاب الكتاب إنما جاء على المعروف المألوف عند العقلاء. وإنما قال
(وتواصوا) ولم يقل: وأوصوا؛ ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل
من أفراد الأمة على الحق ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه. ومن يهمه أمر
الحق ليوصي صاحبه بطلبه يهمه أن يرى الحق فيقبله فكأنه في هذه العبارة الجزلة
قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم للوصية به إذا وُجِّهت إليهم.
والصبر: خلق من أمهات الأخلاق بل مساك كل خلق. قالوا في فضل
الصبر إنه ذُكر في القرآن نحو سبعين مرة وليس لنا فائدة كبرى في تحديد العدد
ولكن جاء في الكتاب العزيز ذكر الصبر ومدح أهله وتبشيرهم بالفوز والفلاح،
والصبر ملكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله والرضى بما يُكره في
سبيل الحق وهو خلق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خلق وما أُتِيَ الناس مِن
شيء مثل ما أُتوا مِن فقد الصبر أو ضعفه.
كل أمة ضعف الصبر في نفوس أفرادها ضعف فيها كل شيء وذهبت منها
كل قوة، ولنضرب لذلك مثلاً: نقص العلم عند أمة من الأمم كالمسلمين اليوم، إذا
دققت النظر وجدت السبب فيه ضعف الصبر، فإن مَن عرف بابًا من أبواب العلم لا
يجد من نفسه صبرًا على التوسع فيه والتعب في تحقيق مسائله وينام على فراش من
التقليد، هيِّن ليِّن لا يكلفه مشقة ولا يجشِّمه تعبًا ويسلي نفسه عن كسله بتعظيم مَن
سبقه ولو كان عنده احترام حقيقي لسلفه لاتخذهم أسوة له في عمله فحذا حذوهم
وسلك مسلكهم وكلف نفسه بعض ما حملوا أنفسهم عليه واعتقد كما كانوا يعتقدون أنهم
ليسوا بمعصومين. ثم هو إذا تعلم لا يجد صبرًا على مشقة دعوة الناس إلى علم ما
يعلم وحملهم على عرفان ما يعرف، ولا جلدًا على تحصيل الوسائل لنشر ما عنده،
بل متى لاقى أول معارضة قبع في بيته وترك الخلق للخالق كما يقولون. يجلس
الطالب للدرس سنة أو سنتين ثم تعترضه مشقة التحصيل فيترك الدرس أو يتساهل في
فهمه أو يكل والده من الإنفاق عليه فيصرفه إلى حرفة أخرى يظنها أربح له فينقطع
عن الطلب، ويذهب في الجهل كل مذهب، وكل هذا من ضعف الصبر.
يبخل البخيل بماله ويجهد نفسه في جمعه وكنزه وتُعرض له وجوه البر
فيعرض عنها، ولا ينفق درهمًا في شيء منها، فيؤذي بذلك وطنه وملته، ويترك
الشر والفقر يأكل قومه وأمته، ولو نظرنا إلى ما قبض يده لوجدناه ضعف الصبر،
ولو صبر على محاربة خيال الفقر اللائح في ذهنه يهدده بالنزول به لَمَا أُصيب
بذلك المرض القاتل له ولأهله.
يسرف المسرف في الشهوات، ويهتك المتهتك في المنكرات، حتى ينفد
المال، وتسوء الحال، ويستبدل الذل بالعز، والفقر بالغنى، ولا سبب لذلك إلا
ضياع صبره في مقاومة الهوى، وضبط نفسه عن مواقع الردى، ولو صبر في
مجاهدة تلك النزغات لما كان قد خسر ماله، وأفسد حاله.
وهكذا لو أردت أن أعد جميع الرذائل وأبحث عن عللها الأولى لوجدتموها
تنتهي إلى ضعف الصبر أو فقده، ولو سردت جميع الفضائل وطلبت ينبوعها الذي
تستمد منه حياتها ما وجدت لها ينبوعًا سوى الصبر، أفلا يكون جديرًا بعد هذا بأن
يُخّصَّ بالذِّكر؟
فالحق حياة العلم، ومستنام السكينة، ومطمأن العقل، ومستقر الراحة للنفس
والصبر، مستمد الفضائل، ومدحرة الرذائل، ومِساك الصالحات، وملاك
الحسنات، فجدير بهذين الأصلين الجليلين أن يُخصَّا مِن بين أعمال الإنسان
بالإشادة بذكرهما، والتنويه بفضلهما، ولفت النفوس إليهما خاصةً، لتبدأ
بإحرازهما فتصلح بهما أعمالها كافة.
ربما تبين الناظر فيما ذكرنا وجه الحق في هذا الخبر الكريم وهو أن الإنسان
في خسر إلا مَن استكمل لنفسه هذه الصفات التي ذَكَرْتُ ولكنا مع ذلك نزيده
توضيحًا.
الإيمان بالمعنى الذي بيناه طور من أطوار النفوس البشرية ارتقت إليه،
لتخلص من سوء حال كانت عليه. النفوس البشرية في طموحها إلى الشهوات هي
على نحو ما عليه العجماوات مع امتياز في قوة استحضار الفائت وتمثيل الآتي،
ففاقت سائر نفوس الحيوان في الحرص على نيل ما يلذ لها مما ألفته، وادخار ما
يوفر لها أضعافه فيما يستقبل من الزمن، فكل نفس تستعمل قواها في تحصيل ما
يرمي إليه هواها، فما أعظم الشر تتصوره في أشخاص من البشر لا همّ لواحد
منهم إلا في تحصيل ما يتخيله لذيذًا أو نافعًا، وإتلاف ما يتمثله مؤلمًا أو ضارًا،
ثم ينظر إلى ذلك في يد غيره فيَثِب عليه ليستخلصه منه لنفسه أو يتلفه لزعمه أنه
ضار به ولا رادع للمعتدي إلا ما يكون من المعتدَى عليه، ولا يصدق أحد منهم
بأصل للخير أو للشر أو للفضيلة أو للرذيلة وإنما الخير عند كل واحد ما يلذه أو
ينفعه سواء آلم غيره أو أضره أم لم يكن كذلك.
أي شقاء يصيب النفوس البشرية إذا خلت من الشعور بذلك الأصل العظيم،
أصل التمييز بين الخير والشر؟ فمن لم يكن مؤمنًا بهذا الأصل ولم يصدق بالحسنى
كما ورد في سورة الليل فقد خسر خسرانًا مبينًا.
الفرد الواحد في ذلك ينال نصيبه من الضلال، وسوء الحال، إذا خلا قلبه من
ذلك الشعور فإنه يخبط في معاملته لمن معه على غير هدى، فيصيبه منهم ما يصيبه
من الأذى، ثم هو لا يزال قلق البال، حليف البلبال كما لا يخفى، ونصيب الأمة من
ذلك أعظم من نصيب الفرد بما لا حد له.
مَن لم يؤمن بالقوة العظمى، والقدرة العليا، والحكمة السامية، والسيطرة
القاهرة، التي ينتهي إليها كل عمل في الوجود، وبأن جميع ما عداها فهو في
قبضتها - فقد قصر نظره، وضعف بصره، وعظم وهمه، ووهى معتمده، يرى
كل قوة من القوى التي بين يديه كأنها مصدر وجوده، ومصرّفة أموره، وإذا أصابه
شيء من الشر لا يعرف له سببًا تخيل السبب شيئًا من تلك القوى كما يخطر بباله،
أو أصاب شيئًا من الخير بدون كسب منه اخترع له وهمه مصدرًا كما يتفق له،
فتكثر عليه الأرباب، وتنسد في وجهه طرق الأسباب، ويعتمد في شئونه على ما
لا يصح الاعتماد عليه وهذا هو منشأ ضروب الوثنية، التي كانت سببًا في فساد
العقول البشرية، والخسران الذي نزل بأهلها أفرادًا أو أممًا لا يخفى خبره على
أحد ولا يزال ينزل بها من الخسران ما يسوء أثره إلى اليوم.
أما من آمن بأن جميع القوى التي نراها إنما تصدر من قوة واحدة وهي تحت
نظام تديره إرادة واحدة وأن من الواجب على العاقل إذا جاء شيء من الخير أو
الشر لا يظهر له سببه أن يبحث بعقله حتى يقف على السبب أو ينتهي إلى مقدّر
الأسباب، فلا ريب أنه ينجو من شر ذلك الخبط، ويخلص من ورطة ذلك الخلط،
ويستوي في نظره جميع ما هو في الكون وتتساوى جميع أفراده عنده في أنها
مربوبة لا يمتاز شيء منها على آخر إلا بما ميز به من الخصائص، وما يكون له
من الآثار، فيسكن قلبه من كل ناحية، ويعظم اعتماده على تلك القوة الواحدة، ولا
يأخذ في أعماله إلا بما سنته له، فيعتبر ما وضعته من نظام الأسباب والمسببات،
فيجري عليه ثابت الجاش مطمئن القلب، غير خائف من شيء بعد ما عرف من
القدرة الإلهية ما عرف.
من لم يؤمن بأن الحكمة السامية تقضي بأن يكون في البشر مبشرون
ومنذرون يوضحون السبل، ويكشفون الحجب، ويغمض عينيه عن النظر في
الأدلة التي تؤيد دعواهم - يُحرم حظًا وافرًا من المعارف التي يصعب على عقله أو
يستحيل عليه أن يصل إليها بدون واسطة هؤلاء المرشدين، ويلتبس عليه كثير من
أمره، وتخفى عليه طرق الصواب في كثير من عمله، فيقع في الشر وهو يسعى
إلى الخير، ويصيبه الضر من حيث كان يطلب المنفعة، وأي خسران أعظم من
هذا؟ !
مَن فقد الإيمان بالله على الوجه الذي بيناه فأقل ما يخسره قوة العزيمة
بالاعتماد على من تحيط قوته بالأكوان، وأدنى ما يفقده ركون النفس إلى سندها
الأكبر عند نزول الشدائد [1] وأخف ما يصيبه من الخسران تشتت الأهواء عليه
واضطرابه بين دواعيها، وحرمانه من الهادي الذي يرشده إلى الوجهة التي ينبغي
أن يولي وجهه نحوها، فيظل في حيرة لا خلاص له منها، وأي شقاء أعظم منها،
والأمم في هذا الشقاء كالأفراد.
الأعمال الصالحة تتبع الإيمان الصحيح في الأغلب غير أن من الناس من
يظن أن الإيمان قول يعبر عن خيال في النفس لا أثر له في العمل أو أنه اعتقاد
يتخذه الشخص مميزًا له عن غيره في جامعة من الجوامع كاعتقاد المسلم بأنه من
أهل التوحيد وأنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليتميز بذلك عن غيره من
الملل وكاعتقاد كل ذي دين بما يظنه من دين ومع ذلك لا يأخذ نفسه بالعمل على
سنن ذلك الدين. وهذا الإيمان لا ينجي صاحبه من الخسران بل لا بد في النجاة من
العمل الصالح، وقد بينا الأعمال الصالحة فيما سبق إجمالاً، ولا خسار أعظم من
خسار يحل بمن لم يأتِ تلك الأعمال، سواء كان ذلك في الدنيا أو الآخرة.
وببيان الخسران بذلك المعنى الذي فهمتَه تعلم أنه عام في كل مَن فقد الإيمان
وترك العمل الصالح سواء كان ممن بلغته دعوة الأنبياء وحاد عن سننهم، أم كان
ممن يسمونه (أهل الفترة) أم ممن لم تبلغهم إلى اليوم دعوة، سواء قلنا بنجاة
هؤلاء في الآخرة أم لم نقل؛ فإن الخُسر في الآية الكريمة ليس محدودًا بخسر
الآخرة، وخسر الآخرة ليس محدودًا بالأبدي منه، فصريح الآيات أنّ مَن لم يكن مِن
المؤمنين أو لم يعمل الصالحات فهو خاسر أي ضال أو واقع في شقاء على ما سبق
بيانه. ولا ريب في عموم ذلك لجميع أصناف البشر في أي زمان وفي أي مكان
وعلى أي حال.
بعد أن ذكر ركنين من أركان النجاة من الخسران في الأمم والأفراد جاء
بركنين آخرين لا يتم كل منهما إلا بتعاون الأفراد ولا يمكن لفرد واحد أن يستقل به،
وهما ركنا التواصي بالحق والتواصي بالصبر بالصبر على النحو الذي بينا. فإن
التواصي لا يكون إلا من متعدد فلا نجاة من الخسران إلا بأن يقوم الأفراد من الأمة
مهما عظم عددهم بأن يوصي كل واحد منهم من يعرفه من الباقين بأن يطلب الحق
ويلتزمه وأن يأخذ بالصبر في جميع شؤونه، فلو أن شخصًا واحدًا قام بذلك وأوصى
غيره ولكن الباقين لم يقوموا بمثل ما قام به لحل الخسر بالجميع في الدنيا لا محالة؛
فإن الأمة إذا غفل معظمها عن الحق والدعوة إليه ووهن الصبر في نفوسهم فلا محالة
يستولي عليها الباطل وتضعف منها العزائم فيسوء حالها وترمي بنفسها في الهلكة:
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25) .
وأما في الآخرة فالخسار إنما يحيق بمن لم يوصِ أو من لم يسمع الوصية ولم
يقبلها، فإن كان الموصي لم يحصل من وسائل التقريب ما يحتاج إليه وكان نفور
صاحبه من طريقة نصحه ولو سلك غيرها لقبل منه كان الخسار في الآخرة عليه
كذلك، وأي نجاة لأمة يسكت أبناؤها على المنكر يفشو بينهم ولا تتحرك نفوسهم
إلى التناهي عنه، والمنكر مفسدة الأفراد ومقراض الأمم.
التواصي بالحق والتواصي بالصبر يدخل فيهما الأمران: الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر؛ لأن من أوصى بالحق ودعا إليه لا يتم له ذلك حتى ينهى عن
الباطل ويصد عنه، ومن أوصى بالصبر على مشاق الأعمال الصالحة لا يكمل له
ذلك حتى يبين مساوي الأعمال الخبيثة وعواقب التفريط بترك تلك الصالحات، فقد
أودع الله في هذين الركنين ركني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع
الأعمال والأحوال وقرر لنا أنْ لا نجاة لقوم من الخسران في الدنيا والآخرة إلا بأن
يقوم كل واحد منهم بما يجب عليه من ذلك في القدر الذي يمكنه وعلى الوجه الذي
يمكنه، وقد أكد لنا الخبر بما أورده مِن القَسَمِ فليس في الخبر تجوُّز، ولا فيما
تضمنه من الأمر هوادة، فمن الواجب على كل أمة تريد أن تنجو من الخسران أن
تقوم بهذا الفرض وهو التواصي بالخير والتناهي عن الشر أو التواصي بالحق
والتواصي بالصبر، فإذا طرأ على عوائد الأمة أو نزل بها من الحوادث ما بغَّض
إليها التناصح أو حبَّب إليها التساهل في فريضة التواصي كان ذلك إنذارًا بحلول
الخسار، وتعرضًا في الدنيا للعار والدمار، وفي الآخرة لعذاب النار.
ولا يجوز لأحد أن يتعلل بذلك التساهل إذا وقع من الأمة ويقنع نفسه بأنه
عاجز عن النجاح في نصيحته ولهذا يكفيه أن ينكر المنكر بقلبه وبذلك ينجو من
الخسران الأخروي إن لم ينجُ من الخسران الدنيوي كما يتوهمه بعض المسلمين
اليوم خصوصًا أولئك الذين عُرفوا بينهم بالعلماء فقد أخطأوا الخطأ العظيم في
زعمهم أن إعراض العامة عنهم ينجيهم من العقوبة الإلهية إذا لم يبذلوا النصح لهم
ولم يبينوا لهم وجه الحق وإن أنكروه وصكوا وجه الداعي إليه فقد صدق الله وعده،
وأكد خبره، ولا سبيل إلى التأويل في أمره، ولا إلى جحد ما يتلوه من أثره.
يحتج كثير من عامة أولئك العلماء بحديث: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) [*] ولكنَّا نقول: إنه لا يصح
الاحتجاج به في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن تغيير المنكر عند
رؤيته شيء يتعلق بأمر خاص وهو المنكر المعين الواقع من الشخص
المعيَّن، وقد يتسامح في معاملة الشخص المعيَّن في حالة مخصوصة لشأن
مخصوص، فإنّ ملِكًا من الملوك أو أميرًا من الأمراء الظالمين لا يحتمل أن يقال
له: إن الأوْلى بك أن لا تفعل ما تفعل أو ليتك لم تفعل هذا أو ليتك فعلت هذا فضلاً
عن أن يقال له: اترك هذا فإنه منكر أو افعل هذا فإنه من المعروف، وربما
كانت كلمة من هذا القبيل سببًا في إتلاف نفس القائل بسطوة ذلك الظالم، ولكن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم ينحصر في طلب تغيير المنكر في هذه
الحالة المحدودة، بل ذلك شامل للوعظ العام في المساجد والطرق والأسواق
والمنتديات وفي أوقات الاجتماع الخاصة وفي الحديث مع الأصحاب والأحبة وفي
كل حال من أحوال الاجتماع خاصة وعامة، ومثل هذا يستطيعه كل واحد من الناس
على حسبه، فلا يمكن لأحد أن يزعم أنه عاجز عن القيام بفرض الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر على الإطلاق؛ لأنه لا يوجد أحد يزعم العجز من جميع الوجوه إلا
أن يكون قد بلغ من العجز غاية لا يبلغها الحيوان الأعجم.
غير أنه يجب على العلماء ومَن يتشبه بهم أن يتعلموا من وسائل القيام
بالواجب ما تدعو إليه الحال على حسب الأزمان واختلاف أحوال الأمم.
وأول ما يجب عليهم في ذلك أن يتعلموا التاريخ الصحيح وعلم تكوين الأمم
وارتفاعها وانحطاطها وعلم الأخلاق وأحوال النفس وعلم الحس والوجدان ونحو
ذلك مما لا بد منه في معرفة مداخل الباطل إلى القلوب ومعرفة طرق التوفيق بين
العقل والحق وسبل التقريب بين اللذة والمنفعة الدنيوية والأخروية ووسائل استمالة
النفوس عن جانب الشر إلي جانب الخير. فإن لم يحصلوا علم ذلك كله فوِزر
العامة عليهم ولا تنفعهم دعوى العجز فإنهم ينفقون من أزمانهم في القيل والقال،
والبحث في الألفاظ والأقوال - ما كان يكفيهم أن يكونوا بحار علم، وأعلام هَدْي
ورشد، فليطلبوا العلم من سبله التي قام عليها السلف الصالح والله كفيل أن يمدهم
بمعونته. أما وقد انقطعوا إلى ما يعجزهم من القيام بأمره فلن يقبل الله لهم عذرًا،
بل فليتربصوا حتى يأتي الله بأمره.
لو قضى الزمان بأن يكون من وسائل التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وإشغال الناس بالحق عن الباطل وبالطيب عن الخبيث أن يضرب الإنسان
في الأرض، ويمسحها في الطول والعرض، وأن يتعلم اللغات الأجنبية ليقف على
ما فيها مما ينفعه فيستعمله، وما يخشى ضرره على قومه فيدفعه - لوجب على
أهل العلم أن يأخذوا من ذلك بما يستطيعون ولهم في سلف الأمة من القرن الأول
إلى نهاية القرن الرابع من الهجرة أحسن أسوة، وأفضل قدوة، وكل ما يهونون به
على أنفسهم مما يخالف ذلك فإنما هي وساوس الشيطان، يشغلهم بها عن النظر في
معاني القرآن، ويحرمهم من التعرض لرحمة الرحمن.
بقيت مسألة كثر السؤال عنها، والإلحاح عليَّ في التعرض لها، كلما ذهبت
إلى مكان وجدت لها حاملاً، لا يلبث أن يتوجه إليَّ سائلاً، وهي مسألة الاختيار
والكسب ونسبة الأفعال الاختيارية إلى العبد أو إلى خالق العبد، ولا أنكر أن هذه
المسألة كانت من أعظم المسائل خطرًا على الإسلام والمسلمين ولكن كان في مرور
الزمان وتتابع الحوادث ما يهدي الناس إلى وجه الحق فيها ويرشدهم إلى أن يرجعوا
إلى كتاب ربهم وهدْي نبيهم.
نزوع النفوس إلى الخوض في هذه المسألة ضرب من ضعف الصبر أو فقده،
الوجدان يشهد والحس يشاهد أن الذي يرفع يده بالسيف ويضرب آخر فيقتله هو
الذي ضربه، ويقول الرائي والمخبر: إن فلانًا قتل فلانًا أو ضربه أو اعتدى عليه،
فنسبة الأفعال إلى مَن صدرت عنه من العباد مما لا يحتاج إلى بحث ولا نظر. ثم
جاء القرآن يقول: {بِمَا كَنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة: 105) ، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وغير ذلك من الآيات حتى قال في
الآية التي يحتجون بها: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 96) ، فلو سلّم
أن المراد مما تعملون العمل نفسه فقد نسب العمل إليهم وقامت أحكام الشريعة جميعًا
على هذا الأصل. ولو كان فعل العبد ليس له لبطُل تكليفُه به إذ لا يعقل أن يُدعَى
شخص إلى ما لا يقدر عليه، وأن يكلف بما لا أثر لإرادته فيه، ولو كان فعل
القاتل ليس له لامتنع القصاص ولم تكن فيه لنا حياة، فالعقل والشرع والحس
والوجدان متضافرة على أن فعل العبد فعله.
وكون جميع الأشياء راجعة إلى الله تعالى ووجود الممكنات إنما هو نسبتها إليه
ولا يتصور اعتبارها موجودة إلا إذا اعتبرت مستندة إليه مما قام عليه الدليل بل كاد
يصل إلى البداهة كذلك.
ومثل هذا يقال في عظم قدرة الله تعالى وأنه إن شاء سلبنا من القدرة
والاختيار ما وهبنا فهو أمر نشاهده كل يوم، ندبر شيئًا ثم يأتي من الموانع مِن
تحقيقه ما لم يكن في الحسبان، ونتناول عملاً ثم تنقطع قدرتنا عن تتميمه، كل ذلك
لا نزاع فيه، شمول علم الله لما كان ولما يكون قام عليه الدليل ولا شبهة فيه عند
الملّيين، فوجب على المسلم أن يعتقد بأن الله خالق كل شيء على النحو الذي يعلمه
وأن يقر بنسبة عمله إليه كما هو بديهي عنده، ويعمل بما أمره به ويجتنب ما نهاه
عنه باستعمال ذلك الاختيار الذي يجده من نفسه، وليس عليه بعد ذلك أن يرفع
بصره إلى ما وراءه، فقد نعى الله على المشركين قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا
وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) ، ووردت الأحاديث متواترة
المعنى في النهي عن الخوض في القدر وسره.
فلو صبر العبد حق الصبر لوقف عند ما حدّ الله له ولم ينزع بنفسه إلى تعدي
حدود الله التي ضربها لعباده، ولست أحب التكلم في هذه المسألة بأكثر من هذا وإلا
خرجت من الصابرين، وخضت في القدر مع الخائضين، ومن ثار به الهوس
فتوهم أن علينا أن نعتقد أن العبد لا فعل له فقد خالف كتاب الله، وعصى رسول
الله، وقد أقول واعتمادي على الله فيما أقول: إن مَن يقول ذلك يخرج عن دين الله،
ويعطل شرع الله، فليحذر مؤمن بالله أن يقول ذلك، وأسأل الله أن يرشدنا جميعًا
إلى ما فيه صلاح أنفسنا وأن يوفقنا للتواصي بالحق والتواصي بالصبر بفضله
وكرمه.
قد يمر بخاطر سائل أن يسأل: إذا كان هذا الذي ذكر في هذه السورة هو حكم
طبيعة الإنسان في كل فرد من أفراد المكلفين منه وإن من لم يكن على هذه الصفات
فهو خاسر ضربًا من الخسران في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، وأن مَن أخذ بالحظ
الأوفر منها نجا من ذلك الخسران فما بالنا نرى من غير المؤمنين من يتمتع بالسعادة
في هذه الدنيا أممًا وأفرادًا، ونرى من المؤمنين من يغمره الشقاء أممًا وآحادًا، وإذا
شئت مثلاً لذلك فانظر إلى حال اليابانيين وهم وثنيون أو حال بعض الأمم الأوربية
التي لا يعتقد الكثير من أفرادها بالله ولا برسله وقارن بينهم وبين الأمم المؤمنة
كالمسلمين مثلاً:
فندفع عنه هذا الخاطر بأن ما يراه في بعض الأمم من ظاهر السعادة ليس إلا
لمعان السراب حتى إذا جاءه وحقق أمره لم يجده شيئًا.
قال ماكس نوردو في كتابه المسمى (الأكاذيب العرفية لتمدُّننا) ما معناه:
(إن الناس كانوا ولم يزالوا يطلبون الحق ولم يكونوا في زمان أبعد عنه منهم
في هذا الزمان) ، ثم قال ما ترجمته: (إنك لو طرقت أي باب تسأل: هل مرت
السعادة بهذا البيت؟ لأجابك مجيب: إذا شئت فاطرق بابًا آخر؛ فإن السعادة لم
تمر ببيتنا) ! وهو يقول ذلك بعد أن ذكر ما عليه حال الأمم الأوربية جميعها ونسبته
من السعادة والشقاء وبعد أن أجمل مِن وصْف أحوالهم والمصائب التي تُتوقع لهم
والآلام الشاغلة لقلوبهم أجمعين ما يرحمهم لأجله المقصرون عنهم، ويزهّد
الراغبين في مثل حالهم، ويصدهم عن اقتفاء آثارهم، وبيَّن سبب ذلك وأنه
بُعدهم عن الحق ونزوع أنفسهم إلى الباطل وفقدهم الصبر في طلب المال
وهرولتهم خلف داعي الشهوة، لا يعصون له أمرًا، ولا يخالفون له إشارة، ومنشأ
ذلك خلو نفوسهم من الركون إلى الإله الواحد خالق الجميع ورازق الأحياء ومقدر
الأسباب لمكاسبهم على حسب ما وهبهم من القوى والقدر.
ولو اطلعت على ما أخذ اليابانيين من ذلك ومما تألم له نفوسهم من الأوهام
الوثنية التي ما اتصلت بروح إلا أفقدتها السكينة وأوجدتها الاضطراب صعب عليك
أن تحكم بأنهم سعداء فإذا كان لهم شيء من السعادة فهو ببركة التواصي بالصبر أو
عمل بعض الصالحات التي جعلها الله عمادًا للسعادة في هذه الحياة الدنيا كالأمانة
والصدق وارتفاع الهمة والأخذ بالحق فيما يرفع الشأن ويكسب العزة.
أما حال المؤمنين - إن كانوا - فهو لا يخالف الحكم الوارد في الآيات
الكريمة، فإنَّا لا نعني ولا يعني عاقل بالسعادة وفرة المال ورفه العيش في ظاهر
الأمر وإن كانت النفوس قلقة، والضمائر محترقة، ولكن السعادة سكون النفوس
وراحة الضمائر، واطمئنان السرائر، والرضى الحقيقي بما وصل إلى اليد،
والسعي المقارب إلى الرغيبة مِن سُبلها المعروفة، مع المعرفة بتلك السبل،
والاعتماد على الهادي إليها، ولا أشك في أنك تجد هذه الطمأنينة عند المؤمن
بالمعنى الذي قدمنا في أي أرض وُجِد، وفي أي أمة ولد، وأما المثل الذي ضربته
وهو جملة المسلمين فإني أقول لك - ولا أخشى لوم لائم -: إن مَن كان مؤمنًا
وعمل الصالح وقام بفريضة التواصي بالحق والتواصي بالصبر فهو راضٍ عن
نفسه، راضٍ عن ربه، سعيد وإن كان بين الأشقياء، حكيم وإن وُجد بين السفهاء،
لا يعرف الشقاء إلا بما ينعكس إليه من صورة في نفوس غيره، وأما البقية فإن
كانوا خاسرين فخسرانهم جاءهم من فقد الأركان الأربعة. أما الإيمان فلأنهم أخذوه
اسمًا، واكتفوا به علمًا ورسمًا، ورثوا عن الآباء والأمهات، صورًا وعبارات،
ومُثُل عبادات، لا يحوك بصدرهم شيء من معناها، وأوفرهم حمية على التوحيد
أملأهم من الإشراك تحت أسماء اخترعها، وألقاب اختلقها كالوسيلة والواسطة وما
يشبه ذلك مما لم ينزل به الله سلطانًا.
وأما العمل الصالح فكيف يجتمع مع الحسد والعداوة والكبرياء والجهل والكسل
ونحو ذلك مما تراه في عامتهم، والأغلب من خاصتهم، وأما التواصي بالحق
والتواصي بالصبر فلم يبقَ له أثر بينهم، يرون ما يرون من المنكرات، ويحسون بما
يحسون من فاسد الاعتقاد وكل منهم ساكت عما يرى ويحس من الآخر كأنه لا صلة
بينهما في الدين، وكأن لم يرد في دينهم ما يدعوهم إلى التناصح، ولو أن واحدًا
منهم نصح للآخر لقامت عليه قيامته، وظنه محتقرًا لمنزلته، غامطًا لحقه، وكيف لا
يخسر قوم هذا شأنهم؟ فلو أنهم رجعوا إلى دينهم، وأقاموا في أنفسهم هذه الأصول
الأربعة لرأيتهم وقد وفاهم الله وعده في قوله:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا..} (النور: 55) ، ولخرجوا مِن حكْم
الوعيد الذي أنذرهم الله به من قبل في قوله: {.. وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الفَاسِقُون} (النور: 55) .
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) .
والله أعلم
_________
(1)
يؤيد هذا ما ثبت من أن الجنود المتدينة أشجع وأثبت من الملحدة أو ضعيفة الدين، وقد كتبت الجرائد الأوربية هذه الملاحظة في أثناء حرب إنكلترا والترانسفال، ومن ذلك اتفاق العارفين على أن جيش الدولة العلية في مقدمة جيوش العالم شجاعةً وصبرًا على المكاره (هذا وما
…
فكيف لو) رجعت إلى ذكر الصحابة والتابعين.
(*) المنار: تتمته: (وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد وعبد بن حُميد ومسلم وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان وهو حجة على تاركي فريضة الأمر والنهي كسلاً وتعللاً؛ لأنه يأمر ببذل الاستطاعة واستنفاد الطاقة في هذه السبيل على خصوصية الموضوع، كما قال الأستاذ الإمام.
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مُقلِّد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(27)
واحتجوا لقولهم في استحباب مساوقة الإمام بقوله صلى الله عليه
وسلم: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به) قالوا: والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله
سواء، ثُم خالفوا الحديث فيما دل عليه فإنّ فيه: (فإذا كبر فكبروا وإذا ركع
فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسًا
فصلوا جلوسًا أجمعون) .
(28)
واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في
صلاته، حيث قال له:(اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وخالفوه فيما دل عليه
صريحًا في قوله: (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد
حتى تطمئن ساجدًا) وقوله: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ) فقالوا: مَن ترك
الطمأنينة فقد صلى وليس الأمر بها فرضًا لازمًا مع أنّ الأمر بها وبالقراءة سواء
في الحديث.
(29)
واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد حيث لم
يذكرها فيه وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه.
(30)
واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، والسلام في الصلاة بحديث ابن مسعود، (فإذا قلت ذلك فقد تمت
صلاتك) ، ثم خالفوه في نفس ما دلَّ عليه، وقالوا صلاته تامة، قال ذلك أو لم يقله.
(31)
واحتجوا على جواز الكلام والإمام على المنبر يوم الجمعة بقوله
صلى عليه وآله وسلم للداخل: (أصليت يا فلان قبل أن تجلس) قال: لا، قال
(قم فاركع ركعتين) وخالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: مَن دخل والإمام يخطب
جلس ولم يصلِّ.
(32)
واحتجوا على كراهية رفع اليدين في الصلاة بقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (ما بالهم رافعي أيديهم كأنها أذناب خيل شمس) ثم خالفوه في نفس ما
دل عليه فإن فيه: (إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله
السلام عليكم ورحمة الله) فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل منافٍ
للصلاة.
(33)
واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر وتقدّم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بالناس ثُم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا
من فعل مثل ذلك بطلت صلاته وأبطلوا صلاة من فعل مثل النبي صلى الله عليه
وآله وسلم وأبي بكر ومَن حضر من الصحابة فاحتجوا بالحديث فيما يدل عليه
وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه.
(34)
واحتجوا لقولهم إن الإمام إذا صلى جالسًا لمرض صلى المأمومون
خلفه قيامًا بالخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج فوجد أبا بكر
يصلي بالناس قائما فتقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجلس وصلى بالناس
وتأخر أبو بكر، ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه وقالوا: إن تأخر الإمام لغير
حدث وتقدم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جميع المأمومين.
(35)
واحتجوا على بطلان صوم من أكل يظنه ليلاً فبان نهارًا بقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)
ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا: لا يجوز الأذان للفجر بالليل لا في
رمضان ولا في غيره ثم خالفوه من وجه آخر فإن في نفس الحديث: (وكان ابن أم
مكتوم رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت) ، وعندهم من أكل في
ذلك الوقت بطل صومه.
(36)
واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها)
وخالفوا الحديث نفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول.
(37)
واحتجوا على شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن
عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأمره رسول الله صلى
الله عليه وسلم وآله وسلم أن يوفي بنذره وهم لا يقولون بالحديث فإن عندهم أن نذر
الكافر لا ينعقد ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام.
(38)
واحتجوا على الرد بحديث تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها
ولقيطها وولدها التي لاعنت عليه ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها، وقد
قال به عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه وهو الصواب.
(39)
واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه: التمسوا له
وارثًا أو ذا رحم، فلم يجدوا؛ فقال: أعطوه الكُبر [1] من خزاعة، فلم يقولوا به في
أن مَن لا وارث له يعطى ماله الكُبر من قبيلته.
(40)
واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده: (لا يرث قاتل ولا يقتل مؤمن بكافر) ، فقالوا بأول الحديث دون
آخره.
(41)
واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا
خاف فوتها بحديث أبي جهيم بن الحرث في تيمم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لرد السلام ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين: أحدهما أنه تيمم بوجهه وكفيه دون
ذراعيه، والثاني أنهم لم يكرهوا رد السلام للمحدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام.
(42)
واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب لحاجته وقال له: ائتني
بأحجار فأتاه بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: (هذه ركس) ثم
خالفوه فيما هو نص فيه فأجازوا الاستجمار بالروث واستدلوا به على ما لا يدل عليه
من الاكتفاء بحجرين.
(43)
واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم حاملاً أمامة بنت العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو
سجد وضعها ثم قالوا من صلى كذا بطلت صلاته وصلاة من أتم به، قال بعض
أهل العلم ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة (مدهامتان)
بالفارسية ثم يركع قدر نفس ثم يرفع قدر حد السيف أو لا يرفع بل يخرُّ كما هو
ساجدًا ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح
ذلك ولا جبهته؛ بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد ثم يجلس مقدار التشهد ثم
يفعل فعلاً ينافي الصلاة من فُساء أو ضُراط أو ضحك أو نحو ذلك.
(44)
واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى
تستبرئ بحيضة) ، ثم خالفوا صريحه فقالوا: إن أعتقها وزوجها وقد وطئها
البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة.
(45)
واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قضى بها لخالتها ثم خالفوه فقالوا: لو تزوجت الخالة
بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها.
(46)
واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه
عن التفريق بينهما ثم خالفوه فقالوا: لا يرد المبيع إذا وقع كذلك وفي الحديث الأمر
برده.
(47)
واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روي أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقاد يهوديًا من مسلم لطمه ثم خالفوه فقالوا: لا قَوَد
في اللطمة والضربة لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر.
(48)
واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: (مَن لطم عبده فهو حر) ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك.
(49)
واحتجوا أيضًا بالحديث الذي فيه: (مَن مثَّل بعبده عتق عليه)
فقالوا: لم يوجب عليه القَوَد ثم قالوا لا يعتق عليه.
(50)
واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب: (في العين نصف الدية) ثم
خالفوه في عدة مواضع منها قوله: وفي العين القائمة السادة لموضعها ثلث الدية،
ومنها قوله: في السن السوداء ثلث الدية.
(51)
واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان
بن بشير وفيه: (أَشْهِدْ على هذا غيري) ثم خالفوه صريحًا فإن في الحديث نفسه:
(إن هذا لا يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) فقالوا: بل هذا يصلح
وليس بجور ولكل أحد أن يشهد عليه.
(52)
واحتجوا على أنّ النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث: (إذا
وطأ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور) ثم خالفوه فقالوا: لو وطأ العذرة
بخفيه لم يطهرهما التراب.
(53)
واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة ثم
خالفوه صريحًا فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب بل إما أن يقتصر على غسل
الصحيح إن كان أكثر ولا يتيمم، وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجرح أكثر ولا
يغسل الصحيح.
(54)
واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكام أو متولين مرتين واحدًا
بعد واحد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أميركم زيد فإن قُتل فعبد الله بن
رواحة فإن قُتل فجعفر) ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يصح تعليق الولاية
بالشرط ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية أصح ولاية على وجه الأرض وأنها أصح
من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها.
(55)
واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث
القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم
على صاحب القصعة نظيرها ثم خالفوه جهارًا، فقالوا: إنما يضمن بالدراهم
والدنانير ولا يضمن بالمثل.
(56)
واحتجوا على ذلك أيضًا بخبر الشاة التي ذُبحت بغير إذن صاحبها
وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يردها على صاحبها ثم خالفوه صريحًا فإن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يملكها الذابح بل أمر بإطعامها الأسارى.
(57)
واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد بخبر:
(لا قطع في ثمر ولو كثر) ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع أحدها أن
فيه: (فإذا آواه إلى الجرين ففيه القطع) وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو
لم يؤوه. الثاني أنه قال (إذا بلغ ثمن المجن) وفي الصحيح أن ثمن المجن كان
ثلاثة درهم وعندهم لا يقطع في هذا القدر. الثالث أنهم قالوا ليس الجرين حرزًا فلو
سرق منه تمرًا يابسًا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أكبر القوم: بضم فسكون: أكبرهم وأقعدهم في النسب وأكبرهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
درس عام في التعليم الإسلامي
أول خطاب ألقاه الأستاذ الإمام في تونس على ملأ عظيم من العلماء والفضلاء
ولخصته جريدة الحاضرة التونسية الغراء ونحن ننقل عنها كل نقل المؤيد والثمرات
مع شيء من التصحيح بإذن الإمام.
إن بعض إخواننا الذين عرفناهم في تونس قد طلبوا من الفقير مسامرة أو
محاورة وربما كان ذلك اصطلاحًا عندهم ثُم قالوا درسًا فسألني بعضهم عن ذلك
فقلت: نعم هو درس ولكن لا تظنوا أنه درس في تحقيق مسألة علمية فإن عندكم
من جلة العلماء مَن نعترف بفضلهم، فمن أراد تحقيق مسألة علمية فليراجعهم، أما هذا
الفقير فرجل سائح قصدت هذه الديار للتعرف ببعض المسلمين والنظر في أحوالهم
وأمور دينهم من حيث العلم والتعليم ولذلك لما أجبت طلبهم في إقراء الدرس ما
قصدت إقراء درس حقيقي؛ ولكن التكلم فيما يختلج بفكري من أمر التعليم والعلم
والإعراب عما في ضميري مما أتمناه لإخواننا المسلمين من التقدم في العلم.
وقد رأيت في بلاد الإسلام التي سِحْتُ فيها عدة أناس يشتغلون بالعلم ولكني
وجدت عند الأغلب اشتباهًا في ما هو العلم الذي يُنفق الوقت في تحصيله. هذا فيما
يخص الأمر المهم الذي أكرره لكم ولا زلت أكرره من أهمية التعليم حتى يُنتج ذلك
التكرار ما نتمناه من التقدم ما دام الناس في حاجة إلى التكرار.
ثُم إن هناك مسألة مشتركة بيننا وبينكم عامة في سائر بلاد الإسلام وهي مسألة
الرضاء بالموجود ولها تعلق أيضًا بالتعليم. فإذا ذكرت نقصًا أو عيبًا في طريقة أو
في حالة من الأحوال قيل لك ماذا نصنع ونحن أناس متوكلون على الله وهذا مراد
الله من عباده؟ ! وهو عذر المقصر عند تقصيره في بلاد الإسلام وعون على ما
نراه من النقص في طرق تحصيل العلم ولذلك أردت ضمه إلى مبحث التعليم.
معنى العلم
أما الكلام في معنى العلم فليس الغرض منه الخوض فيما اصطلح عليه علماء
السلف الصالح أو غيرهم من المتكلمين أو الفلاسفة أو غيرهم حتى من الزنادقة؛
لأن هذه ألفاظ اصطلاحية طالما شغلت أهل العلم بتغيُّرها والأخذ والرد في معانيها.
مع أن واضعيها إنما حددوا بها المعاني حتى تنضبط ويسهل تناولها والوصول إليها،
ولكن يصح أن يقال فينا وفيهم إنهم أرادوا خيرًا فاستعملنا شرًا. ولذلك أترك
الألفاظ الاصطلاحية وأتكلم في معنى العلم من حيث هو معروف في الكتاب والسنة
وسيرة السلف الصالح وعلى لسان العامة والخاصة.
العلم جاء ذكره في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) .. الآية، وهو استفهام إنكاري معناه أنه لا يستوي عالم
وجاهل. وقال تعالى: {هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16) : أي أن
الظلمة لا تساوي النور فبيَّن لنا تعالى أن الظلمة مثال لحال من لا يعلم وأن النور
مثال لحال من يعلم.
فتبيّن من ذلك أن عدم العلم يشبه الظلمة ونحن نعلم ما يكون من الإنسان إذا
اشتد به الظلام وهو سائر في طريق يقصد غايةً معلومة؛ فإن الظلام يعمي عليه
الطريق وربما سلك طريقًا يبعده عن مقصده. وقد يصادف مهواة فيسقط فيها فتدركه
هلكته قبل الوصول إلى غايته.
وهذه حال الجاهل بوسائل أي غاية من الغايات التي يعرض للإنسان قصدها
في حياته، فكلُّ مَن طلب غاية في حياته بدون علم لا يصل إليها.
وحينئذٍ فيؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى بيَّن لنا أن العلم للإنسان
كالنور لا بمعنى أن العلم سراج أو مصباح وإنما ذلك مثل لحال من يعلم الطريق
المُوصِّلة له إلى مطلبه والوسائل المؤدية إليه. فإن حاله يشبه من يمشي وبين يديه
نور يبين له السبيل ويكشف له ما فيه من الموانع فيتجنبها أو يذللها حتّى ينتهي إلى
غايته ظافرًا بعافيته وسلامته؛ لأن الآيات والأعلام المنصوبة لا يراها المغمور
بالظلام وإنما يراها المبصر بالضياء والنور ولما كان العلم ضوءًا يهدي إلى الخير
في الاعتقاد والعمل كان أول ما نزل على النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب قوله
تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 1-2) ..
الآية فافتتح الله الوحي بتعليم القراءة، والقراءة تَعَلُّم، وجاء في الحديث الشريف
أنه قال في أول مرة: (ما أنا بقارئ) وما زال الملك به حتى قرأ الآيات.
ثم بعد أن أمر تعالى بالقراءة من لا يقرأ عادة وبيَّن له أن الذي يأمره بالقراءة
هو الذي خلق الخلق كله وهو قادر على أن يقرئه بعد أن لم يكن قارئًا وأنه الذي
خلق الإنسان الحي الناطق المفصح عما في نفسه من علق أي دَمٌ منجمد لا عقل فيه
ولا نطق فهو قادر على أن ينشئ فيه القراءة والعلم وإن لم يسبق له تعلم.
بعد أن ذكر هذا قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) فخص من العلم العلم بالقلم والكتابة تنويهًا بشأن التحرير
والبيان وتنبيهًا على عظم فائدته وهو إنما يكون بعلم اللسان والبراعة فيه. لا نريد من
العلم تصور القواعد وإنما نريد منه ملكة الإفصاح والبيان وكون المراد منه هذا أمر
بديهي إذ لولا الكتابة لما وصلْنا إلى درجة من الدرجات التي نراها. فافتتاحُ الله
تعالى الوحي بطلب العلم والثناء عليه سبحانه بأنه هو الذي علمه ووهبه الإنسان
إرشادٌ إلى فضل العلم وحثٌّ على تحصيله خصوصًا العلم بالقلم.
فالعلم ما يبصر الإنسان في الغاية التي يطلبها ويهديه إلى الحق الذي هو مَعقد
النجاة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: 22) ولم يقل للجاهلين أو الغافلين. فإذا
كان للعلم هذه المزية فلا يصح أن يكون العلم المُمَثَّل له بالنور إلا علم إرشاد وتبيين،
ثم جاء في الأحاديث والأدعية المأثورة قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم انفعني
بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا) [1] كأنه يقول اللهم اجعل علمي علمًا
صحيحًا ينطبق على ما بينته في كتابك، ويُروى أنه قال: (إذا أتى عليَّ يوم لا
أزداد فيه علمًا فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) [2] ثم إننا نجد في الآثار
وأقوال العلماء غير ذلك ما يطول ذكره كما تجدون فيما يدور على ألسنة الناس عند
ذكر العلم ما يرشد إلى أنهم لا يفهمون من العلم إلا معنى التبصر في أي أمر من
الأمور والإتيان به على الوجه الأكمل بقدر الاستطاعة، فتبين من ذلك إذًا أن معنى
العلم الحقيقي الذي أثنى اللهُ عليه وميّز به المهتدين من الضالين هو الكشف عن الأمر
الحقيقي بحيث إذا أراد أن يُميلَك عنه مميلٌ لا يقدر على ذلك كمن عرف طريقًا
موصلة إلى غاية فلا يعدل عنها مهما حاول مضله.
فلا يكون العلم حقيقيًا ولا تنبعث النفس إلى تحصيله إلا إذا كان كذلك بالنسبة
إلى الغاية المطلوبة منه فإذا وجدنا من العلم ما يوصلنا إلى البصيرة بما نقصد من
الغاية في مدة قصيرة كيومين مثلاً ورأينا ما سمي علمًا ولكنه إنما يوصلنا في مدة
أطول كأربعة أيام مثلاً كان لنا أن نعد الأول علمًا حقيقيًا لأنه أرشدنا إلى أقرب طريق
مؤدية إلى الغاية وأن نعد الثاني غير علم لأنه عاقنا عنها وأوجد لنا العثار فيها
فالعدول إليه سقوط في الضلة.
وأولى بأن يسمى ضلة علمٌ يقصد بتحصيله غاية ثم هو لا يؤدي إلى تلك
الغاية بالمرة بعد إنفاق الزمن الطويل في تحصيله. فتسميته علمًا من الخطأ الذي لا
يتفق مع ما جاء في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة واستعمال الخاصة والعامة.
ولكن من الناس من يقول لك العلم يطلق بإطلاقات ثلاثة: الإدراك والقواعد والملكة،
فتحصيل القواعد وإن لم تحصل الملكة يسمى علمًا على الحقيقة فاشتغالنا بتحصيله
اشتغال بتحصيل العلم غير أن هذا القائل لم يراعِ ماذا قصد المسمي للقواعد علمًا
فإنه لم يضع لها هذا الاسم إلا لأنها توصل إلى الغاية في رأيه. فإذا استعملت لغير
الغاية فقدت معناها وعُدَّتْ من الشواغل عن العلم المطلوب، فإن شاء سمّى هذه
الشواغل جهلاً؛ لأنها ضلت عن العلم وإن شاء فليسمِّها علمًا كما يهوى، لا كما
يعرف الناس!
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة.
(2)
رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحِلْية وابن عبد البر في العلم من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن عائشة وقد طعنوا في سنده؛ ولذلك قال الأستاذ: (ويُروى) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
المدارس المصرية لا تربي رجالاً مستقلين
رد على المقتطف
نقل المقتطف الأغر المقالة التي كتبناها في الجزء الثالث عشر تحت عنوان
(شكوى الأمهات من تربية البنات) واستحسن محرره الفاضل ما كتبناه في التربية
العقلية وكون العقل المستنير يقوى أخيرًا ويكون من وراء قوته الإصلاح المطلوب.
وأنكر قولنا: (إن العلم الذي يعلم في المدارس المصرية لا يقصد به إلى إصلاح
النفوس وارتقائها وجعل المصريين سعداء أعزاء) وقال: إن هذا خطأ على ما يُعْلم
ويا ليته قال: على ما نظن؛ فإنه يظن ظنًّا وما هو بمستيقن وعلل علمه بقوله:
(لأن نظار المدارس ومعلميها يشغفون بالتعليم والتهذيب شغفًا حتى يتفانوا في تعليم
التلامذة وتهذيبهم كما يشغف كل عامل بعمله، وهذا نعلمه بالخبر مدة تعلُّّمنا في
المدارس الأجنبية نحن ونساؤنا ومدة مشاركتنا لهم في التعليم. فالوصمة التي
وصمهم بها جائرة جدًّا ولو اختبر اختبارنا لقال قولنا. ولا نقول إن ذلك يعم كل
النظار وكل المدرسين ولكنه شامل لأكثرهم، ولا شبهة عندنا أن أثر المدارس
المصرية وطنية كانت أو أجنبية حسن جدًّا وأنه لم يظهر حتى الآن ظهورًا باهرًا
لأنها قليلة بالنسبة إلى اتساع البلاد ولأن النجاح لا يظهر جليًّا لمن لم يراقبه عن قرب
ويرى تدرُّجه البطيء ولكن لو قابل حضرته حال هذه البلاد العلمية والأدبية الآن
بحالها منذ عشرين سنة لرأى بين الحالين بَوْنًا شاسعًا ورآها الآن أرقى مما كانت
كثيرًا وسيزيد هذا الارتقاء في العشرين سنة التالية أضعاف ما زاد في العشرين سنة
الماضية) هذه عبارة المقتطف بنصها.
يقرأ القارئ في بعض الأحيان شيئًا فيعلق بذهنه شيء مجمل منه فينكره غافلاً
عن التفصيل الذي لا مذهب معه لإنكار ثم يستدل على إنكاره بما لا دلالة فيه أو بما
فيه الحجة عليه وبمثل هذا وقع صاحب المقتطف في تحفظ دعوى المنار على ما
نعهد فيه من التحري في النقد.
لم يكن الكلام في مقالتنا تلك مبنيًّا على الطعن في معلمي المدارس المصرية
ولا في نظارها فيرد علينا بدعوى تفانيهم في التعليم والتهذيب. ولم يكن أكثر منا
اختبارًا لهؤلاء المعلمين والنظار فيصح له أن يقول ما قال، وليس قياسه المدرسة
الكلية الأمريكانية التي تعلّم فيها على المدارس المصرية قياسًا صحيحًا، وليس
البَوْنُ الشاسع بين حال البلاد اليوم وحالها منذ عشرين سنة نتيجة حسن التربية والتعليم
في المدارس المصرية وكون الغرض منه تربية المصريين على الاستقلال والفضائل
والترقي الصوري والمعنوي.
وإننا نشرح هذه المسائل بعض الشرح فنقول:
تبين من امتحان الشهادة في هذا العام أن مدارس الحكومة أكثر من غيرها
نجاحًا ومثلها مدرسة خليل أغا ومدرسة أم عباس وأن المدارس الأجنبية أقل
المدارس نجاحًا ومعظم تقصيرها في اللغة العربية وعلومها لأن مرسلي الأمريكان
والجزويت والفرير والإنكليز لا يهمهم أمر هذه اللغة ولو استطاعوا محوها من
بلادها لفعلوا وإنما يهمهم نشر مذاهبهم الدينية ولغاتهم الأعجمية وليس في هذا
إصلاح لنفوس المصريين الذين دين أكثرهم الإسلام ولغة جميعهم العربية وإنما تتم
سعادة الأمم بآدابها الدينية ورابطتها اللغوية. وإنما يعلمون اللغة العربية في
مدارسهم لأجل أن يصيدوا بها الناس ولو أبطلوها لبطلت مدارسهم،، ثم إن هذه
المدارس ليس فيها تعليم عالٍ وما دون التعليم العالي لا يُكوِّنُ رجالاً فإذا كان التعليم
المطلوب ناقصًا والتربية المطلوبة مفقودة من هذه المدارس فهل يُغني عن سعادة
المصريين شغف معلمي هذه المدارس ونظارها وتفانيهم في نشر دينهم ولغاتهم
المقصود بهما إفساد دين المصريين ولغتهم؟ !
أما المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت فقد كان التعليم والتربية فيها أفضل
ما يعد النصارى للسعادة ولا يقصر عن إفادة المسلمين الذين ليس لهم مدارس عالية
في تلك البلاد وقد كان تعليم العلوم في هذه المدرسة على عهد منشئ المقتطف باللغة
العربية ثم تحوّل الآن إلى اللغة الإنكليزية فقلَّت فائدتها لأبناء اللسان العربي ومع
هذا لا نزال نقول إنها أمثل المدارس في مصر والشام وقد كتبنا في الجزء الماضي
نبذة مخصوصة في تفضيلها وما أعوزنا ذلك لخبر كخبر محرر المقتطف الذي تعلّم
وعلّم فيها وهو عندنا في علمه وأدبه من آيات تفضيلها.
أما مدارس الحكومة التي هي أحسن المدارس في مصر فقد صرّح المحتلون
- الذين يديرونها كما يشاءون لا كما يشاء النظار والمدرسون الذين يقيمونهم فيها -
بأن الغرض منها إيجاد نفر يخدمون الحكومة ولا يخفى على ذي بصر أن من يعلّم
إنسانًا ليخدمه إنما يعلمه ما يعينه على تسخيره في خدمته، وتصريفه بمقتضى
إرادته، لا ليكون مستقلاً في نفسه متفانيًا في حب أمته وجنسه، وهَبْ أن المحتلين
لا غرض لهم من البلاد المصرية إلا ترقيتها وإعانتها على كمال الاستقلال لتستغني
عنهم وعن غيرهم فهل يقول عاقل إن من المصلحة أن يكون التعليم خاصًّا بإعداد
المتعلمين لخدمة الحكومة فقط؟ !
تعميم التعليم واجب فلو كانت فائدة التعليم هي خدمة الحكومة كما ترضى
لوجب أن نعد أفراد الأمة كلهم لأن يكونوا مستخدمين في الحكومة وإذا كان جميع
الأفراد حكامًا فمَن يكون المحكوم؟ الوظائف الكبيرة تنتزع من الوطنيين بأيدي
المحتلين وما قضت السياسة بإبقائه لهم فإنما بقاؤه صورة بدون معنى ولقب بدون
عمل فنظار الحكومة المصرية لا يبرمون ولا ينقضون، ولا يحلون ولا يعقدون إلا
ما يوحيه إليهم المستشارون من الإنكليز فصار المتعلم المصري يائسًا من الاستقلال
في أي عمل يعمله للحكومة؛ وإنما يكون التعليم لسعادة الأمة وعزتها إذا كان الغرض
منه الاستقلال الشخصي والاستقلال القومي وما أظن أن المنتقد الفاضل يقول إن
المحتلين يقصدون بالتعليم إلى الإنعام على المصريين بهذا الاستقلال الذي حصرنا
فيه السعادة والعزة القومية ولا ينكر علينا عاقل حصرنا هذا. نعم، إنهم قاموا
ببعض الإصلاح ولكن الأجانب يصلحون فيما يستعمرون الأشياء لا الأشخاص.
طلب مجلس الشورى في السنة الماضية أن تعرض عليه قوانين التعليم في
مدارس الحكومة ونظام التعليم فيها فكبُر ذلك على نظارة المعارف وكابرت في إجابة
الطلب مكابرة بعيدة ودافع ناظر المعارف بما أوحي إليه من أهل الحل والعقد
مدافعة الأبطال وقد رددنا دفاعه وبينا تهافته في مقالات نشرناها في المجلد الخامس
انتقدنا فيها قانون التعليم وسيره وبينا تقصير النظارة بما لا ينفع معها عذر معتذر.
ولو كان تعليم نظارة المعارف على الوجه الذي فيه سعادة الأمة وعزتها لما
كبر عليها أن يُطْلع مجلس الأمة على قوانينها الداخلية ولأصغت إلى شكوى الأمة
من المعارف بلسان مجلسها ولسان جرائدها.
لا يوجد في مصر قارئ ولا كاتب ولا محب لسماع الجرائد والوقوف على
الأخبار والحوادث إلا وهو يعلم أن التعليم في مدارس الحكومة بيد المستر (دنلوب)
القسيس الإنكليزي ولم تبق جريدة وطنية معتبرة في مصر إلا وقد ملأت جو هذا
القطر صياحًا في الشكوى من سيرة هذا الرجل وانتقاد أعماله في المعارف
و (المقطم) شقيق (المقتطف) لم يرد فيما نعلم هذه الشكاوي التي ترددها جرائد
المسلمين والقبط والسوريين والإفرنج مع أنه أنشئ لتأييد سياسة المحتلين ذلك لعلمه
بأنها في تفصيلها أو جملتها حق لا وجه لردها.
وإذا كان المنتقد الفاضل يعرف من نظار المدارس الأميرية ومعلميها أكثر مما
نعرف كما تفيد عباراته فهو لا شك يعرف أكثر مما نعرف من تبرمهم وشكواهم
وشدة انتقادهم وتبرمهم من سير النظارة ومن عيوبها وأعني النظار المصريين
وأخص بالذكر منهم معلمي العربية لغة البلاد الرسمية. وكل موظف في المعارف
يعرف كيف يعاقَب الناظر أو المعلم الذي يثبت لدنلوب أنه انتقد أو اعترض على
شيء من سير النظارة السري أو الجهري وهم يعلمون أن هذا الرجل هو المضطلع
وحده بهذه النظارة لا بكفاءته ولكن بقوة دولته ثم هم يائسون من قصده إلى الإصلاح
الحقيقي الذي يربي الأمة تربية حقيقية فهم يسكتون واجمين، ويهمسون بالشكوى
مستخفين، ولئن سئلوا جهرًا ليقولنَّ إننا نحن راضون، وهم عند أنفسهم وعند أكثر
الناس معذورون، وقد عيل صبر طائفة من خيارهم فاستقالوا وهم مختارون.
إن الأعمال الكبيرة لا يظهر أثرها في الأمم إلا بعد الزمن الطويل ولكن أعمال
(دنلوب) قد ظهر أثرها في نظارة المعارف في زمن أقرب مما كان ينتظر، ظهر
أثرها في سقوط مدرستين عاليتين من مدارس الحكومة وهما مدرسة
(المهندس خانة) و (مدرسة المعلمين التوفيقية) وما أحوج البلاد إلى المدرستين
وهذه نظارة المعارف في أشد الحاجة إلى معلمين ولم تغنِ عنها الأوشاب الذين يجيء
بهم دنلوب من بلاده في كل سنة هذا بعد ما ألغى التعليم المجاني وأدخل في التعليم
الابتدائي اللغة الأجنبية خلافًا لجميع الأمم التي حتَّمت جعله باللغة الأهلية ولا تسل عن
اندراس رسوم الدين في المدارس وما في ذلك من إفساد الآداب وتدنيس الأرواح حتى
إنك ترى بيوت الفسق في الأزبكية عامرة بالتلامذة وقلما ترى أحدًا منهم في بيوت الله
تعالى. هذا حال مدارس الحكومة فما بالك بما دونها؟
يقول المقتطف الأغر إن البلاد ارتقت في العشرين سنة الأخيرة بالتعليم حتى
فاقت هذه السنين ما قبلها بالرقي فوقًا ظاهرًا. ونحن نقول: إن هذه البلاد تشتغل منذ
مائة سنة بالتعليم والمدنية فإن كان هنا تقدم ظاهر في شي من الأشياء فهو نتيجة هذا
السعي الطويل في مدة قرن كامل ولا ننكر أن لهذه السنين الأخيرة فضلاً في الحرية
والعمران وإصلاح الحكومة وأن هذا من حسنات المحتلين ولكننا مع هذا لا نرى
فيمن تعلم في هذه السنين الأخيرة رجالاً مستقلين نفتخر بعلومهم أو بأعمالهم
ونستبشر بخدمتهم للأمة والبلاد بل نرى خير رجال مصر علمًا وعملاً نفرًا تربوا
وتعلموا قبل أن يتحكم دنلوب في مدارس الحكومة.
ثم إننا نرى سيرة أكثر المتعلمين ملطخة بفساد الأخلاق والإخلاد إلى
الشهوات، والمجاهرة بالمنكرات، والاستهانة بما ينسب إلى أمتهم من الأخلاق
والعادات ولا حجة لهم في هذا إلا أنه مخالف لعادات المترفين من الأوربيين، فهم
بذلك يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الطامعين، وقد قامت أوربا وقعدت لإقناع
إنكلترا باستبدال المِتْر الفرنسي باليَرْد الإنكليزي لأنه خير منه ولتتوحد المقاييس في
أوربا فأبت هذه الدولة - التي تعتقد أن عزها وسلطانها بالمحافظة على تقاليد سلفها
وعاداتهم - أنْ تغيّر مقياسها محتجة بأن الأمة التي يسهل عليها الخروج من
العادات القومية إلى عادات الأجانب لا يثبت لها استقلال، ولا يستقيم لها حال،
فأين متعلمونا الذين يسارعون في تقليد سفهاء الإفرنج في الشهوات - من محافظتهم
على هذه الروابط المقوّمات؟ !
محرر المقتطف الأغر يعتقد اعتقادنا في نقص التعليم في مصر وكونه غير
مؤدٍّ إلى الغاية منه ولعله نسي اعتقاده عند تخطئتنا. ولا حاجة لاستشهادٍ على ذلك
بأكثر من جواب سؤال له في هذا الجزء الذي انتقَدنا فيه نذكره مع السؤال بنصه
وهو:
(س) : كثر بيننا عدد المتخرجين من المدارس العالية ولم نسمع أن واحدًا
منهم قام بامتحان القضايا العلمية وإنتاج النتائج والاستدلالات التي يقف عليها علمًا
وعملاً، فهل ذلك يُعزى لنقص في التعليم أو إهمال من المتخرجين؟
(ج) يُعزى إلى الاثنين وإلى أن الأساتذة أنفسهم ليسوا من أهل الاشتغال
بالعلم ولو كانوا من أهل الاشتغال به لاقتدى بهم بعض تلامذتهم كما هي الحال في
أوربا وأميركا وفي بلاد اليابان أيضًا اهـ.
وجملة القول: إننا ما أنكرنا فائدة التعليم الحاضر بالمرة وإنما قلنا ولا
نزال نقول بأنه ناقص وغير مقصود به إلى سعادة الأمة وعزتها وليس معه
تربية للأخلاق والفضائل ولا نطلب إبطاله وإنما نطلب تعليمًا كاملاً تصحبه
تربية صحيحة وأن يكونا موجهين إلى الاستقلال، وطلب الكمال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شذرة باب الآثار الأدبية
لما قَدِمَ الأستاذ الإمام من سياحته في هذا العام هنأه بالقصائد الطنَّانة جماهير
العلماء والأدباء في الأزهر وغيره ونذكر هذه الأبيات للشاب الذي زاحم في بدايته
أهل النهاية تنشيطًا له على العناية بالأدب وهو الشيخ مصطفى نجل حسن بك
عبد الرازق قال:
أقبل عليك تحية وسلام
…
يا ساهرًا والمسلمون نيام
تطوي البلاد وحيث جئت لأمة
…
نُشِرت لفضلك بينهم أعلام
كالبدر أتى سار يشرق نوره
…
والحق أنَّى حل فهو إمام
إن يقدروا في الغرب علمك قدره
…
فلَمصر أوْلى منهم والشام
فيك الرجاء لأمة لعبت بما
…
يلهي الصغار وجدت الأيام
لا زلت غيظًا للضلال وأهله
…
والله يرضى عنك والإسلام
* * *
مسيح الهند
عثرت في مسيرها الأيام
…
أم هو الدهر هكذا والأنام
أهله بين ذي هدى وضلال
…
ولياليه ذو سنا وظلام
وأرانا بمدة العمر نشقى
…
وعدو المسوّمات اللجام
ليس كل الذين تبصر ناسًا
…
إن بعضًا من الطيور الحمام
ولكل الورى رؤوس فإن لم
…
يكن العقل كانت الأوهام
إيه (يا هند) عن مسيحك ما زلـ
…
ـت وزالت ببيتك الأصنام
كان في جسمك الوباء فقد دب
…
إلى العقل بعد ذاك السقام
ضلة للفتى ومن تبعوه
…
أشرق الصبح والقبور نيام
مسحته الجِنَّان أم مسخته
…
وتولاه جُلْجُل أم عزام؟ ! [1]
وأتته الأقوام تترى ولا غر
…
وعلى الجرح للذباب ازدحام
وإذا كان في الرؤوس ضلال
…
وقفت عند قصدها الأقدام
نسخ السيف ذلة ورياءً
…
وجدير بناسخيه الحسام
أيهذا المسيح إن الليالي
…
في بنيها من الزمان سهام
وأرى الدهر كالوغى وقديمًا
…
كان بين الأنام هذا الخصام
فارفع الأرض فوق قرنيك وأمر
…
يملأ الأرض بعد ذاك السلام
أو فعُد للسماء إن الشياطيـ
…
ـن عليهم باب السماء حرام
وتحدَّ الورى بسخفك أو سجـ
…
ـعك إن الكرى له أحلام
لو سألت الحمار حين تراه
…
في نهيق لقال ذي أحكام
…
...
…
...
…
...
…
... مصطفى صادق الرافعي
_________
(1)
جُلْجُل وعزام: اسمان من أسماء الشياطين والنكتة ظاهرة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
نصيحة الأستاذ الإمام لأهل الجزائر وتونس
من يعرف الأستاذ الإمام يعرف أن كل حديثه في جميع أوقاته نصح وتعليم
فمُجالسه ومُسايره يستفيد علمًا وحكمة في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة ولذلك
نعتقد أن الذين عرفوه واجتمعوا به في رحلته الأخيرة إلى الجزائر وتونس قد سمعوا
منه نصائح لا تُحصى ولكن النصيحة العامة الشاملة التي كان يشافِه بها أهل العلم
والدراية في القطرين هي:
(1)
الجد في تحصيل العلوم الدينية والدنيوية من طرقها القريبة التي أرشد
إليها في الخطاب الذي ألقاه في تونس.
(2)
الجد في الكسب وعمران البلاد من الطرق المشروعة الشريفة مع
الاقتصاد في المعيشة.
و (3) مسالمة الحكومة وترك الاشتغال بالسياسة. بهذا الأخير يتم لهم كل
ما يريدون من مساعدة الحكومة الفرنسية لهم على ما قبله فإن الحكومات في جميع
الأرض يضيقون على البلاد التي يستعمرونها ماداموا يعتقدون أن أهلها ساخطون
عليهم أو لهم ضلع مع حكومة أخرى.
وهذا الإعراض عن السياسة لا ينافي مخاطبة الحكومة فيما يرونه ضارًّا بهم
من القوانين والمعاملات فإذا لم تكشف ظُلامتهم بعد الالتجاء إليها في كشفها كانوا
معذورين إذا سخطوا وتربصوا بها الدوائر.
والمشهور عند العارفين بالسياسة العامة أن فرنسا تبحث دائمًا عن طريقة
يطمئن بها أهل الجزائر لحكومتهم وتطمئن هي لرضاهم عنها ولا شك أن هذه
الطريقة تنفع الحاكم والمحكوم وعدم السير فيها يضر بالمحكوم أكثر مما يضر
بالحاكم. ونحن نعتقد أن الطريقة الوحيدة هي حسن المعاملة من فرنسا وإعراض
الجزائريين والتونسيين عن السياسة إلى العلم الذي ينير العقول، والعمل الذي
يشغل عن الفضول.
وقد ذكرنا في الجزء الماضي أن الأستاذ الإمام أنس من الحكومة الفرنسية
هناك الميل إلى هذه المعاملة وأنس من أهالي الجزائر الرجاء الحسن بحاكمهم الجديد
(موسيو جونار) وقد ذكرنا في جزء سابق أن الموسيو (روا) يميل في تونس
إلى هذا المذهب.
حقق الله الرجاء وأصلح الأحوال بمنه وكرمه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخطر في مراكش
استفحل أمر الخارج على الحكومة المراكشية وكانت الحرب بينه وبينها
سجالاً إلا أن الظفر في جانبه أكثر وقد تبين أن الخارج أو القائم من بيت الملك وهو
(مولاي محمد) وأن اسم (أبو حمارة) كان لقبًا مستعارًا. وقد توالى انتصار
القائم أخيرًا ويظن أنه لو أنه هاجم السلطان مرة واحدة لرجي أن يظفر ويقضي
الأمر. ولا ريب أن كل حال تنتقل إليها تلك البلاد هي خير من حالها الحاضرة في
الفتنة وقبل الفتنة بمائة سنة ونيف فإذا ظفر مولاي محمد فلا بد أن تُجدّد البلاد حكومة
فيها شيء من القوة والنظام وينتظر أن تكون أمثل من حكومة عبد العزيز، على كل
حال فإن هذا مفتون بالزينة والترف فقد كانت البلاد في النزاع أو النزع والدول
الأوربية في التنازع عليها وهو على إملاق حكومته يرسل ذلك الشاب التونسي الذي
تقرب منه بما يعلمه الخبيرون ليشتري له من أوربا ما تصبو إليه نفسه من آلات
الزينة وأدواتها وماعونها وأثاثها ويشتري له من الآستانة الولدان والجواري
الناعمات الحسان ليتمتع كما يتمتع غيره مما كان ولا يزال على شاكلته.
فتن هذا السلطان بزخرف مدينة أوربا - ويا ليته فتن بقوتها ونظامها - فسلك
سبيل أبناء الوارثين المصريين في شراء المركبات الكهربائية ونحوها فجرَّ عليه
ذلك ما وقعت فيه بلاده من الويل والثبور. ولقد كنا نصحنا لحكومته منذ ست سنين
كما نصح غيرنا من الكاتبين بأن تعتني قبل كل شيء بتأليف قوة عسكرية منتظمة
وبنشر المعارف وأن تستعين على هذا بأختها الدولة العثمانية.
و (المنار) يرسل من أول نشأته إلى وزير خارجية المغرب الأقصى وغيره
من كبراء البلاد ولكن من يقرأ ومن يسمع لنا ولأمثالنا، والمغرور بقوته - وإن
وهمية - يرى أنه مستغنٍ عن جميع العالمين {كَلَاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ
اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وكيف ترضى تلك الحكومة الجاهلة أن تستعين بدولة
إسلامية أرقى منها وحكام المسلمين قد مزقوا الإسلام وأهله كل ممزق لأجل شهواتهم
التي أعظمها عندهم لقب (خليفة وأمير المؤمنين) فلو ذهبت دول الإسلام والإسلام
نفسه فداءً لهذه الألقاب لما كان ذلك إلا قرة عين للمغرورين بها.
كتب بعض الكاتبين مقالات في جريدة (الحاضرة) التونسية يصفون فيها
أمراض تلك البلاد الراجعة إلى الجهل والتمسك بخرافات الخوارق وضعف الحكومة
رأى كاتب جزائري أن تسلم تلك البلاد إلى دولة أوربية لتصلحها كما أصلحت بلاده
(الجزائر) ورد عليه كاتب تونسي بأن هذا انتحار لا علاج وأن الدواء الحقيقي في
التعليم والنظام والقوة وأنه لا يتم هذا لتلك الحكومة إلا بالاستعانة بدولة أوربية وقال
إن فرنسا أحق من غيرها لقربها وجوارها. ونحن نقول إنه ليس من مصلحة دولة
من أوربا أن تستولي الآن على مراكش استيلاءً تامًّا بمعنى أن تضمها إلى أملاكها
لأن المسلمين في كل بقعة وجيل أشجع الناس وأعصاهم على الخضوع للأجنبيين
ولا طريق إلى إذلالهم وتذليلهم إلا حكامهم وأمراؤهم فهم الذي يتيسر لهم أن يفسدوا
بأسهم بالظلم المقبول منهم على الرأس والعين وببذر بذور الترف والسرف والفسق
الذي يدمر البلاد ويهلك العباد، وهذا ثابت بالاختبار والأخبار، وقد أوردنا في
المجلد الرابع ما ورد فيه من الأحاديث والآثار.
أما إذا استعان سلطان مراكش على تمدين بلاده بدولة أوربية قبل الأخذ بالقوة
كما كان يحاول عبد العزيز فيمكن بذلك أن يستولي الأجانب على تلك البلاد بسعي
حكومتها ولكن تلك البلاد لا تزال بدوية لم يذللها الضعف كما ذلل البلاد المصرية
لمحمد علي باشا بسطوة المماليك وظلمهم فتمكن هو وذريته من الاستعانة بالدول
الأوربية على تمدينها هذا التمدين التي كان وسيلة لاحتلالهم فيها وتمكُّنهم منها ولهذا
لا نظن أن دولة أوربية تمد يدها إلى مراكش بدون واسطة حكام منها، إنه لم يوجد
في هذه القرون التي طغى فيها طوفان أوربا على الشرق حاكم مسلم سلك سبيل الرشاد
في سياسة بلاده فحفظها وجعل لها شأنًا عليًا إلا عبد الرحمن أمير الأفغان الماضي
(تغمده الله برحمته) فإنه سلك الطريقة المثلى التي تعلّمها ممن سلكها قبله وهي دولة
الروس التي رُبي في بلادها، تلك هي طريقة القوة العسكرية المنتظمة ومنع الأجانب
من دخول البلاد إلا بإذن خاص إلى أجل معلوم ثم السعي في نشر التعليم وكان
يسهل على مراكش أن تحذو حذوه كما يسهل الآن على دولة الفرس (إيران) لا
سيما إذا اتفقت معه.
وبلاد مراكش أقرب شَبهًا ببلاد الأفغان فإن الأمتين بدويتان شديدتا البأس لا
يعوزهما إلا العلم والنظام. على أن دخول الأوربيين في البلاد بأي صفة دخلوا
أقرب إلى النظام والعمران وخير من الخلل والفوضى في الحكومة الأهلية
الاستبدادية الجاهلية ولا بد أن يتعلم الأهالي منهم بالتدريج فنون العمران كما نرى
في مصر. وكان الأفضل أن يصلحوا أنفسهم بأنفسهم ولكن حكامهم لا يمكِّنونهم ولا
يصلحونهم ولا بد من عمران الأرض فإن لم يعمرها أهلها عمرها الآخرون.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(58)
واحتجوا في مسألة الآبِق يأتي به الرجل أن له أربعين درهمًا - بخبر
فيه: (أن مَن جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار) ، وخالفوه
جهرة، فأوجبوا أربعين.
(59)
واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني: (الشفعة
كحل العقال ولا شفعة لصغير ولا لغائب ومَن مُثِّل به فهو حر) ، فخالفوا جميع ذلك
إلا قوله: (الشفعة كحل العقال) .
(60)
واحتجوا على امتناع القَوَد بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث:
(لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده) وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه: (.. . ومَن
مثّل بعبده فهو حر) .
(61)
واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن
وليدة زمعة وفيه: (الولد للفراش) ، ثم خالفوا الحديث نفسه صريحًا، فقالوا: الأمة
لا تكون فراشًا وإنما كان هذا القضاء في أمة، ومن العجب أنهم قالوا إذا عقد على
أمه وابنته وأخته، ووطئها لم يحد للشبهة، وصارت فراشًا بهذا العقد الباطل
المحرم وأم ولده، وسريته التي يطؤها ليلاً ونهارًا ليست فراشًا له.
(62)
ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من
النهار قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل
فيقول: (هل من غداء؟) فتقول: لا، فيقول:(فإني صائم) ، ثم قالوا لو فعل
ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه. والحديث إنما هو في التطوع نفسه.
(63)
واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية،
وفي بيعه إبطال لذلك، وأجابوا عن بيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدبر بأنه
قد باع خدمته، ثم قالوا لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضًا.
(64)
واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله:
(قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة في كل شرك في ريعة أو
حائط) ، ثم خالفوا نص الحديث نفسه، فإن فيه: (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن
شريكه، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به) ، فقالوا: لا يحل له أن يبيع قبل إذنه،
ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة، وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضًا
بالشفعة، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه.
(65)
واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في
الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم
بالحيوان، ثم خالفوه نفسه فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه.
(66)
واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفّذ إلا في
الثلث بحديث عمران بن حصين: أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له
سواهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق
اثنين وأرق أربعة ثم خالفوه في موضعين فقالوا: لا يقرع بينهم ألبتة ويعتق من كل
واحد سدسه. وهذا كثير جدًّا.
والمقصود أن التقليد حَكَمَ عليكم بذلك، وقادكم إليه قهرًا، ولو حكّمتم الدليل
على التقليد لم تقعوا في مثل هذا؛ فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًا - وجب الانقياد
لها والأخذ بما فيها، وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها. فأما أن تصحح
ويؤخَذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضعف وترد إذا خالفت قوله أو تأول فهذا من
أعظم الخطأ والتناقض، فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ولم
يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه وإطراحه - قيل لا تخلو هذه
الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة، فإن كانت منسوخة لم يحتج
بمنسوخ ألبتة. وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها ألبتة، فإن قيل: هي
منسوخة فيما خالفناها فيه ومحكمة فيما وافقناها فيه - قيل: هذا مع أنه ظاهر
البطلان يتضمن لِما لا علم لمدَّعيه به، قائل ما لا دليل عليه، فأقل ما فيه أن
معارضًا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه، ولم
يكن بينهما فرق، ولا فرق وكلاهما مدعٍ ما لا يمكنه إثباته، فالواجب اتباع سنن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل
القاطع على نسخ المنسوخ منها، أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها
وحال الثاني محال قطعًا؛ فإن الأمة - ولله الحمد - لم تجمع على ترك العمل بسنة
واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها، وحينئذٍ يتعين العمل بالناسخ دون
المنسوخ، وأما أن يترك السنن لقول أحد، فلا، كائنًا مَن كان وبالله التوفيق.
(الوجه العشرون) : أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله
وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أمر الله فإنه أمر
يُرَدُّ ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى مَن
قلدناه. وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ
بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ،
وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول مَن قلدناه، ونقدمه على كل ما
عداه، وأما هدي الصحابة فمِن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد
رجلاً واحدًا في جميع أقواله ويخالف مَن عداه من الصحابة، بحيث لا يُرد من
أقواله شيئًا، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث.
وأما مخالفتهم لأئمتهم؛ فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه، كما تقدم
ذكر بعض ذلك عنهم. وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال
العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منهم قبلوه ودانوا
الله به وقضوا به وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم
يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع، لا
واجبة الاتباع، من غير أن يُلزِموا بها أحدًا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها،
هذه طريقة أهل العلم سلفًا وخلفًا. وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع
الدين فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه فعرضوها على أقوال
من قلّدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا وانقادوا له مذعنين وما خالف أقوال متبوعهم
منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا ولم يقبلوه ولم يَدينوا به واحتال فضلاؤهم في
ردها بكل ممكن، وتطلَّبوا لها وجوه الحيل التي تردها، حتى إذا كانت موافقة
لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم وأنكروا عليه
ردها بتلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا ترد النصوص بمثل هذا ومن له همة تسمو
إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث به رسوله أين كان، ومع من كان لا
يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم، والخلق الذميم.
(الوجه الحادي والعشرون) : أن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون. وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم بخلاف أهل
العلم فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعًا بل شيعة واحدة متفقة على
طلب الحق وإيثاره عند ظهوره وتقديمه على كل ما سواه، فهم طائفة واحدة قد
اتفقت مقاصدهم وطريقهم، فالطريق واحد والقصد واحد والمقلدون بالعكس مقاصدهم
شتى وطرقهم مختلفة، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق.
(الوجه الثاني والعشرون) : أن الله سبحانه ذمّ الذين تقطعوا أمرهم بينهم
زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون. والزبر الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن
كتاب الله ما بعث الله به رسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ
* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 51-
53) ، فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا
صالحًا وأن يعبدوه وحده وأن يطيعوا أمره وحده وأن لا يتفرقوا في الدين، فمضت
الرسل وأتباعهم على ذلك ممتثلين لأمر الله قابلين لرحمته، حتى نشأت خلوف
قطَّعوا أمرهم بينهم زُبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، فمن تدبر هذه الآيات ونزَّلها
على الواقع تبين له حقيقة الحالة، وعَلِمَ من أي الحزبين هو، والله المستعان.
(الوجه الثالث والعشرون) : أن الله سبحانه قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل
عمران: 104) فخصّ هؤلاء بالفلاح دون مَن عداهم، والداعون إلى الخير هم
الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان.
(الوجه الرابع والعشرون) : أن الله سبحانه ذمّ مَن إذا دُعي إلى الله
ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره وهذا شأن أهل التقليد، قال تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ
صُدُوداً} (النساء: 61) ، فكل مَن أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله
ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم، فمستكثر ومستقل.
(الوجه الخامس والعشرون) : أن يقال لفرقة التقليد: دين الله عندكم واحد أو
هو في القول وضده، فدينه هو الأقوال المتضادة التي يناقض بعضها بعضًا ويبطل
بعضها بعضًا كلها دين الله؟ [1]، فإن قالوا: بل هذه الأقوال المتضادة المتعارضة
التي يناقض بعضها بعضًا كلها دين الله خرجوا عن نصوص أئمتهم، فإن جميعهم
على أن الحق في واحد من الأقوال، كما أن القبلة في جهة من الجهات، وخرجوا
عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح، وجعلوا دين الله تابعًا لآراء
الرجال.
وإن قالوا: الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد وهو ما أنزل الله
به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده، كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة فمن
وافقه فهو المصيب وله أجران ومَن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على
خطئه، قيل لهم: فالواجب إذًا طلب الحق وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب
الإمكان؛ لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة، وتقواه فعل
ما أمر به وترك ما نهى عنه، فلا بد أن يصرف العبد ما أُمِر به ليفعله وما نهي
عنه ليجتنبه وما أُبيح له ليأتيه، ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحرٍّ
للحق، فإذا لم يأتِ ذلك فهو في عهدة الأمر ويلقى الله ولمَّا يقضِ ما أمره.
(الوجه السادس والعشرون) : أن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والواجب على مَن بعد
الصحابة هو الواجب عليهم بعينه، وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال،
ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يَعرضون ما يسمعون منه صلى الله
عليه وآله وسلم على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله، ولم يكن
أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلاً
وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو بعينه الواجب علينا وعلى
سائر المكلفين إلى يوم القيامة، ومعلوم أن هذا الواجب لم يُنسخ بعد موته ولا هو
مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
لعل الأصل: (وكلها دين الله) أو أن أول الجملة: (فالأقوال المتضادة) إلخ وكلمة: (فدينه هو) زائدة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب القوة والروابط التي تُحدث القوة
إذا رجعنا إلى الأصل والمبدأ في تاريخ كل شيء نصف به أعيان الكائنات
نجد ثمّة إما العدم المحض وإما ذرّة لا تُذكر في جنب ما صارت إليه.
والإنسان واحد من هذه الكائنات الباهرة. فإذا أخذنا الآن لنظرنا أرقى فرد من
أفراده ووصفناه بما هو أهله من العلم واعتدال الخَلْق والخُلُق وصحة الإرادة وقوة
العزيمة وما يتبع ذلك من الفروع التي هي أجزاء التكمل فلا بد من أن نحار وننثني
في دهشة. وخليق بالأفراد الكاملين أن يحيّروا الأفكار. ولكن إذا راجعنا تاريخ هذه
الأجزاء التي حصل بمجموعها ذلك الكمال يجب أن يزيد اندهاشنا حين لا نرى لها
وجودًا في الأطوار والأدوار الأُول من حياة هذا الحيوان الناطق.
نجد علمه الباهر يرجع إلى عدم العلم؛ إذ خلق الإنسان جهولاً. وقوته
الرائعة ترجع إلى عدم القوة إذ خلق الإنسان ضعيفًا. وبالجملة يرجع اعتدال خلقه
وخلقه إلى لا شيء؛ لأنه كان جمادًا؛ بل لم يكن شيئًا مذكورًا. وأين النسبة بين
البشر السوي، العليم القوي، وبين الجماد؟ !
وأَلْصَقُ شيء بموضوع نفس الإنسان هو بيان تدرجه في كل جزء من
الأجزاء التي يكمله اجتماعها ولذلك كان من غرضنا في هذا الفصل الكلام في أعظم
جزء من تلك الأجزاء وهو القوة.
وقسمنا الكلام إلى ثلاثة أبواب:
في الأول نُعرّف القوة ونقسمها ونتكلم على حب الإنسان لها وسببه.
وفي الثاني نبين كيف حدثت القوة للإنسان ونتكلم في الروابط الثلاث: رابطة
الأديان، ورابطة الأجناس، ورابطة الحكومات، وهو أهم الأبواب.
وفي الثالث نذكر ما يحفظ القوة وما يضيعها. وهو صفوة الكلام في هذا
المقام.
(1)
القوة:
القوة فاعل ذو أثر. وهي بأنواعها منبثة في كل الموجودات الحسية والغيبية.
ويعبر عنها بحسب اختلاف الموجودات واختلاف الاصطلاحات بعبارات شتى كما
يعبر عن موجود ما بحسب اختلاف اللغات بألفاظ شتى. وأكثر ما يكون الاختلاف
في التعبير عن قوى الموجودات الحسية والتعبير عن قوى الموجودات الغيبية. وقد
نسمي قوة حسية روحًا. وبهذا الاسم نسمي قوة غيبية. وقد نسمي في المحسوسات
مَلَكَة. وفي الغيبيات مَلَكًا. ولا يعلم جنود الخالق إلا هو.
أقسام القوة البشرية:
قبل معرفة قوانا وأقسامها يجمل بي وبكم أن نترنم بكلمة سواء بيننا وبين
البشر أجمعين ليستقيم بها سبيلنا في العلم. وتقرب غايتنا في العمل.
إن القوة الحقيقية هي للخالق وحده، وهي القوة التي لم يسبقها ضعف، ولن
يلحقها ضعف. وهي قوة التصرف ببدء المبروآت وتصويرها ونظم شؤونها ومنح
خواصها بسائط ومركبات. وهي القوة المقدسة من كل شوب. المادة (أي مانحة
المدد) لكل مُصوَّر حتى حين.
هذه هي القوة الربانية التي تخشع لها وحدها قلوبنا وتتوجه تلقاءها وجوهنا
رهبة ورغبة، وإليها تطير الجوانح شوقًا وهيامًا، وتحن لها الأرواح الواردة من
لدنها، وتتنسَّم من كل وجهة إقبال مددها فتحيا برجائها، وتصبر في هذه الدار حتى
يأتيها أمرها.
أما نحن فليس لنا من قوة إلا ودائع أودعها البارئ في خِلقتنا، لنتغلب فيها
على عوالم الأرض التي استخلفنا فيها. ثم لنتغالب فيها فيما بيننا، لنكون فريقين
متضادين، أعلين وأدنين، ومن قبل سبقت إرادته في الخلق أن يكون لكل مخلوق
مقابل، والخالق يفعل ما يشاء وهو العليم الحكيم، ولو شاء لجعلنا أمة واحدة. ولو
شاء لهدانا أجمعين. ولا يسأل سبحانه عن مشيئته. ولكن عن الودائع تسأل كل
نفس ماذا كسبت. فبشرى للذين يحسنون صنعًا.
أودع الخالق فينا قوى كثيرة. وجعلنا متفاوتين فيها تفاوتًا عظيمًا. فمنا من
يرزق قوة منها تعشى لها أبصارنا ونظنها من خوارق العادة وما هي من الخوارق
وإنما لديه منها فضل عظيم به يصبح ما لدينا كأن لم يكن. وقِس على الواحدة
غيرها.
القوى التي فينا تنقسم إلى حسيّة. وعقليّة. وقلبيّة. أريد بالحسية قوى الجسد
وبالعقلية قوى الإدراك، وبالقلبية قوى الإرادة.
فأمّا القوى الحسية فظاهرة كظهور الجسد. ولحفظها ما وجدت واستردادها إن
فقدت علم خاص من صدد موضوعنا أن نوصي به. وأما العقلية فمعروفة بالتأمل
ويعرض لها من الأمراض أكثر مما يعرض للقوى الحسية فقسم من أمراضها تابع
لطب القوى الحسية. وقسم منها تابع لموضوعنا. وأما القوى القلبية فخفية لا
يعرفها إلا قليل من الذين في أنفسهم يتفكرون. والذين لا يعرفونها يشوبون فيها
الكلام بكثير من الأوهام. ويعرض لهذه القوى القلبية من الأمراض أكثر مما
يعرض للحسية والعقلية. وبيانها وعلاجها هو عين موضوعنا.
حب القوة وسببه:
حب القوة تابع من توابع حب الذات وهو أعظمها. وله سببان: أحدهما تابع
لسبب حب الذات. والآخر مستقل وهو أن الكمال بأصل الفطرة معشوق للنفس،
والقوة جزء من أجزاء الكمال ومِرقاة إلى أجزائه.
ولعل القارئ لم ينسَ القاعدة التي ذكرناها في باب حب الذات وهي:
(متى كان وجود الشيء لازمًا من اللوازم العامة كان طبيعيًّا) .
فإذا حفظ القارئ هذه القاعدة يبقى عليه أن يمعن النظر: (هل حب القوة لازم
من اللوازم العامة؟) ونسعفه الآن بإبداء ما بدا لنا بهذه المسألة:
(إن حب القوة لازم من اللوازم العامة) والدليل عليه من الحس والعقل، أما
دليله من الحس فلأننا نجده من متممات الحياة. ولولاه لعدت علينا العوادي الكثيرة
التي من أيسرها الجوع فإذا نحن هباء في هواء. ولو استقرأنا استقراءً تامًّا لما
ازددنا إلا تصديقًا بهذه القضية. ولنطق لنا كل حي معترفًا بأن هذا الأمر حليف
جوانحه كل حين. ولا يريبنَّكم في هذه القضية فئة ترونهم يسعون في إضعاف
أنفسهم من إدامة جوع ومواصلة سهر وموالاة قعود في بيت مظلم واستمرار على
صمت أو تكرار حروف وكلمات وما أشبه ذلك من أنواع الإضعاف فإن هؤلاء لا
يقصدون بصنيعهم ذلك إلا القوة. أعني أنهم يضعفون القوى الظاهرة ليتوصلوا إلى
قوى وهمية (هي من فروع القوى القلبية) لها تأثير في مرضى العقول والقلوب.
وكم استعبد هؤلاء الموهمون الناس بهذه القوى حتى اتخذوهم آلهة بمعنى أنهم
يفيضون ويصرفون الخير والشر لمن أرادوا وعمن أرادوا متى أرادوا بزعمهم!
وفئة أخرى يقلدون هؤلاء عن غير معرفة بالطريق ليصلوا إلى تلك الغاية
فبشِّرْهمْ بالجنون المطبق إنهم مفتونون!
وأما دليله من العقل فلأننا نعرف من كون الإنسان أعظم عوالم الأرض كونه
مخلوقًا لأمر عظيم. ونعرف من هذا أن القوة لازمة لهذا المخلوق العظيم. ونعرف
من هذا أن حب القوة لازم له لأجل تحصيلها؛ لأنه مخلوق ذو إرادة تسبق الإرادة
عمله.
ويمكننا أن نأخذ الدليل العقلي في هذه المسألة من عين السبب الذي ذكرناه
آنفًا وهو (أن الكمال في أصل الفطرة معشوق للنفس) ولا نبالي بما يتراءى من
شبه الدور فإننا طالما عرفنا شيئًا بآخر ثم ازدادت معرفتنا بالأول بواسطة الثاني
الذي عرفناه بواسطة الأول وقد يتلازم الشيئان حتى يُستدل على أحدهما بالآخر،
ولنا على هذا الأخير أن نستدل على كون الشيء لازمًا من اللوازم العامة بكونه
طبيعيًا وعلى كونه طبيعيًا بكونه لازمًا كذلك. وللمتلازمين تارة حكم المترادفين
ككلمتي (الطبيعة) و (سنة الخالق) جل وعلا.
ومن كونه طبيعيًا أو لازمًا من اللوازم العامة نعرف أنه نافع لأنه تقرّر أن
الأشياء الطبيعية (أي التي اقتضتها إرادة الخالق على سنة مطردة) جميعها نافعة
نفعًا عامًا. ولكن المرض في العقل قد يمنعه عن أن يرى البعض منها نافعًا وقد
يضله عن السبيل المستقيم في الانتفاع منها.
فمَن ثمّة يحكمون بمرض الفطرة على فرد لا يحب القوة حبًا يحمله على
تحصيلها بقدر الطاقة. وعلى أمة تقصر عن غيرها في القوة بمرض عام في تربية
أفرادها تلصق أعراضه بكل واحد منهم وإن كان بعضهم أشد مرضًا من بعض،
ويتكون من مجموعها أعراض عامة قاتلة إن دامت.
خلاصة:
وقد تبين لكم أمران جديران أن يقيدا في لوح الذهن، ذانكم أن:
(1)
حب القوة (كحب الذات) لازم نافع.
وأن: (2) التقصير في حب القوة مرض نفسي واجتماعي. فإنِ امرؤٌ أتاكم
معترفًا بمرضه، مستشفيًا من دائه، فانظروا ماذا ينفعه من العمل ومُروه أن يأخذ
من العلم ما يلزم لإصلاح العمل. وإن كان مهملاً ولم يشأ أن يعمل عملاً صالحًا
للنفس والمجتمع فانتظروا أن تبيده الأقوياء غير مشكور. وإن أمةٌ صُدّت عن
النُّذُر، وكفرت بالسنن، فالتمسوا منها مخرجًا إن كنتم فيها وقُوا أنفسكم البوار
الهون؛ إنهم قوم بور.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
درس عام في العلم الإسلامي والتعليم
العلوم الإسلامية
ومن هنا يمكنني أن أتخلص إلى الكلام على حالتنا في تحصيل العلم في جميع
بلاد الإسلام وهو موضوعنا فنقول:
عندنا علوم شتّى نشتغل بتحصيلها ونسميها العلوم الإسلامية، وإنما سميت
بهذا الاسم؛ لأن موضوعاتها لها علاقة بدين الإسلام كالفقه وأصوله؛ وهو علم يُبحث
فيه عن طريق استنباط الأحكام من أدلتها، وكعلم التوحيد وهو علم إسلامي يبحث
فيه عن وجوده تعالى وصفاته الكمالية ثم العلوم النقلية كالتفسير والحديث واللغة
والنحو والمعاني والبيان والبديع وما سمي علم الوضع.
ومن هذه العلوم وسائل ومقاصد ونحن مشتغلون بجميعها وسائل ومقاصد. ولا
حاجة إلى الكلام في تبيين طرق الاشتغال بها عندنا وعندكم. إنما الكلام في أمر عام
معروف عند الجميع وهو طرق تحصيل هذه العلوم.
علم النحو وتدريسه
فالنحو مثلاً يدرس بتونس بكتبه التي تقرأ بمصر كالقَطْر والأشموني والصبّان
وله غايتان: الأولى التمكن من فهم كتاب الله وكلام نبيه عليه الصلاة والسلام وكلام
سلف الأمة. والثانية إصلاح اللسان من الخطأ. نشتغل بعلم هذه القواعد في هذه
الكتب ثم نشغل أنفسنا بالبحث في عبارة المؤلف هل تدل على ما قصده فقائل يقول:
نعم، ويأتي قائل آخر يقول لا. وقائل ثالث يرجح قول نعم، ورابع يرجح قول لا،
ونحو هذا مما ترونه في التقارير المكتوبة على الحواشي ويطول بذلك الزمان
وتضيع الفائدة. وينصرف الذهن عن القاعدة، ثم بعد الفراغ من العلم لا يجد
الطالب تقويمًا في لسانه ولا صحة في تحريره ولا قدرة على فهم ما جاء في كلام
العرب أو في كتاب الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، ويزيد الأمر صعوبة
طريقة الابتداء التي اختاروها في تدريس النحو فإن الأستاذ يبادئ الطالب وهو لا
يعلم شيئًا من اصطلاحات العلم بتحقيق المسائل وتفتيتها كما يقولون كأنه عريق في
العلم. ولا يراعي مقدار استعداده للفهم. وقد وقع لي أني مكثت سنة ونصف سنة لا
أفهم شيئًا من شرح الكفراوي على الآجرومية فحملني عدم الفهم على الهرب من
طلب العلم لتمكن اليأس من نفسي؛ ولكن لأمرٍ أراده الله قهرني والدي على الرجوع
إلى الطلب فهربت في الطريق؛ ولكني صادفت في مهربي مَن علمني كيف أطلب
العلم من أقرب وجوهه فذقت لذته واستمررت في طلبه. فعلى الأستاذ أن يكون بيده
ميزان يزن به ذهن الطالب ودرجة استعداده لقبول ما يقول. فيجب على المدرس أن
يتنازل مع المبتدي إلى درجته ثم يرتقي به شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى الدرجة التي
يتمكن فيها من إدراك دقيق المعاني. وهذا الفن - فن معرفة درجات الأذهان وكيفية
الاستفادة - فن مخصوص تستلزم قراءته ست عشرة سنة إذا كان شرح المطول
يحتاج في قراءته إلى ثمان سنين. ومن أنفق أوقاته في هذا الفن الذي أُلِّفت فيه
الكتب وبُسطت في الأفكار فإني أضمن له ثوابه عند الله تعالى أضعاف أضعاف
ثواب من يختم إقراء المطول لما أنه يرشدنا إلى الغاية التي طالبنا الله بها.
علم المعاني
والبيان والغاية منه
علم المعاني والبيان علمان يُبحث فيهما عن البلاغة وهي مطابقة الكلام
لمقتضى الحال. فما هو ذلك المقتضى؟ نجد الناظر في هذا الفن أو المعلم له يقول
هل تتحقق البلاغة بمطابقة الكلام لمقتضى الحال في الجملة أم لا بد من مراعاة
جميع مقتضيات الأحوال؟ فإن كان الأول فكيف يعد بليغًا من لم يراعِ الحال كما
ينبغي وهو يعلم أنه غير مراعٍ له، وإن كان الثاني فلا تختلف طبقات البلاغة ولا
يكون لها أعلى وأسفل. ويطول البحث ويكثر الجدال في ذلك وينصرف الذهن عن
البلاغة نفسها ولا يجد الباحث ما يرده إليها.
وهكذا نجد البحث يطول في الغالب إلى حد يشغل الذهن عن الغرض المقصود.
مع أنه لو قال الأستاذ: البلاغة صفة في الكلام تبلغ المتكلم مراده من نفس السامع
على قدر طاقته ثم إنها تكون بمراعاة حال المخاطب، وذلك ينقسم إلى قسمين ما يتعلق
بفهم الكلام وما يتعلق بالمعنى الذي سيق له الكلام، فما يتعلق بنَظْم الكلام هو موضوع
علم المعاني، ثم ينطلق في بيان ذلك وتقرير المعاني التي سمّاها الإمام عبد القاهر
الجرجاني واضع هذا الفن (معاني النحو) .
أما القسم الثاني: وهو حال المخاطب بالنسبة إلى المعنى الذي سيق له الكلام
فتتوقف معرفته على أمور كثيرة ومعارف جمة يتوصل بها إلى معرفة طبائع
الأشخاص ومداخل المعاني إلى قلوبهم، فمن أراد أن يقنع مخاطِبه بعقيدة مثلاً فعليه
أن ينظر فإن كان المخاطب ممن لا يقنع إلا بالبرهان فعليه أن يُقِيمَهُ له، وإن كان
ممّن لا يدرك البرهان، ولكنه يقنع بالمسلَّمات مثلاً سلك معه له تلك السبيل ولا
يكون بليغًا إلا إذا لاحظ ذلك مع ما يتعلق بالنَّظْم: لو سلك الأستاذ هذا المسلك لجمع
المعاني الكثيرة إلى ذهن الطالب ووَجَّهَ نفسه إلى الغاية المطلوبة منها ثم إنه بعد ذلك
كله لا يعد معلمًا للبلاغة إلا إذا وجّه فكر الطالب إلى ممارسة كلام العرب ونسْج في
التحرير والتعبير على ما نسجوا عليه حتى تحصل له ملكة البلاغة ويصل إلى الغاية
مِن علمه. فإن غاية هذا العلم تشمل كِلا أمرين: الأول أن يكون الطالب فصيحًا
بليغًا فيما يكتب أو يخطب. والثاني أن يقيس بلاغة البلغاء ببلاغة القرآن فيدرك
حقيقة الإعجاز. وهذا الأمر الثاني هو في الحقيقة ثمرة الأمر الأول، فإنّ مَن لم يكن
بليغًا بالملَكَة والعمل لا يمكنه أن يميز بين طبقات البلاغة.
أسهل طرق تعليمه
سُئِلَ الأصمعي أي الرجلين أشعَر أمسلم بن الوليد أم أبو نواس؟ فحكم لأبي
نواس. فقيل له إن أخاك أبا عبيد يحكم لمسلم بأنَّه أشعر فقال: إن أبا عبيد يروي
الشعر، ولكنه لم يكابد مشقة العمل في صناعته فليس أهلاً للحكم، وهذا قول حق
فإن مَن لم يذقْ لم يعرفْ. وأمّا ما يظن من أنه يتيسر للطالب بعد معرفته
اصطلاحات علم المعاني أن ينظر في كتب التفسير كالكشاف مثلاً ويعرف ما يقول
الكشّاف في وجوه بلاغة الآية، وبذلك يكون ممن عرف بلاغة القرآن وإعجازه
فليس من كلام المحصلين؛ لأنه لو كفى ذلك لما كانت حاجة إلى صرف الزمان
الطويل في تحصيل علم المعاني؛ بل كان لنا أن نقول إن القرآن معجزة لأن صاحب
الكشاف قال إنه معجز وننتفع بزماننا في تحصيل ما هو أنفع وذلك مما لا يعقل.
ورُبَّ قائل إن المتكلم اليوم يقول ذلك من قبيل من يأمر غيره بالبر ولا يأتمر به فقد
عرض بنفسه جزافًا بإلقاء خطبة على أناس لا يدري أخلاقهم ولا يدري ما يقولون
بعده ولا يعرف مواضع الخطاب من أنفسهم. فالجواب: نعم لم أقف على هذه
الأمور تفصيلاً؛ ولكن مدة إقامتي بهذه الحاضرة كانت مدة اجتماع بأفاضلها وعلمائها
وبذلك حصلت لي خبرة إجمالية فخطر ببالي أن ألقي جملة فيما يطابق مقتضى الحال،
وفي ظني أن ما أقوله إن لم يقع موقعًا حسنًا من نفوس جميع السامعين فلا أقلّ مِن
أن يستحسنه بعضهم وذلك يكفيني في مطابقته لمقتضى الحال.
اختلط علينا الأمر بالنظر في المعاني الاصطلاحية، وكثرة البحث فيها وانقلب
الغرض منها إلى مصاب نزل بنا في علومنا وعقولنا فانصرفنا بها عما طلب منها.
ولهذا يلزمنا أن نأخذ مأخذًا في العلوم يسهّل تحصيلَها وييسرها على الطالب. وفي
ظني أنه إذا هذبت طرق التعليم لطالب علم البلاغة مثلاً أمكنه أن يبلغ الغاية منه في
ثلاث سنين. وكذلك من أراد بلوغ الغاية من النحو لا يحتاج إلى أكثر من ذلك
بحيث يصير الطالب بعد هذا فصيحًا بليغًا مميزًا بين طبقات البلاغة شاعرًا بمعنى
إعجاز القرآن قادرًا على فَهم ما جاء في كلام السلف والانتفاع به فيما يصلح معاشه
ومعاده.
وجملة القول إن الغاية من هذه العلوم العربية هي أن يبلغ المرء بالتعلم مَبْلغًا
كان عليه العربي بالسليقة وهذا يحصل بما قدّمناه.
ومما يلزم التنبه له في التعليم أنه من حق الإنسان أن يفتح للطالب باب النظر
بنفسه في العلوم فيبيّن له القاعدة مثلاً ثم يطالبه بما يراه في انطباقها على جزئياتها
في العمل فإنه إذا عوّده على أن يقول له كل شيء، وأن يقوده في كل أمر وقف
ذهنه عند حد الاتباع وصعب عليه أن يحقق أمرًا بنفسه فعليه أن يطالبه بالعمل دائمًا
ويعلّمه طريقةَ معرفةِ الخطأ والرجوع إلى الصواب. وهذا هو ما يطلب من الدرس
بين يدي الأستاذ حتى تحصل ملكة التمييز. أما الوصول إلى غاية الكمال في العلم
بقدر الإمكان فأمره موكول لاجتهاد الطالب بعد مفارقة الدرس. ووقوف ذهن هذا
المنقاد في كل شأن عن معرفة الأمور بنفسه من الأمور المحسوسة؛ فمن ذلك أني
لما جئت هذا البلد كنت أمرُّ من طريق قصيرة من محطة سكة الحديد إلى البيت
ذهابًا وإيابًا ولكن مصحوبًا بالسيد خليل بو حاجب وقد رأيت أمس اليوم أن أذهب
إلى المحطة راجلاً فبعد أن مضيت في طريقي خطوات قيل لي إن هذا ليس هو
الطريق إلى المحطة فرجعت إلى طريق أخرى وطال عليَّ السير حتى صعب عليَّ
الرجوع إلى المنزل لتشتُّّت الطرق علي واضطررت إلى سؤال بعض المارة عن
المحطة فدلني عليها وإذا بيني وبينها أطول مما بيني وبين البيت الذي خرجت منه.
ثم بعد عودي إلى البيت خرجت ماشيًا مرة أخرى بعد نحو ساعة فاهتديت إلى
طريق المحطة؛ ولكن وقع لي اشتباه على مقربة منها. ولم تُزَلْ الشبهة إلا بسؤال
مار. أما بعد ذلك فإني لا أضل في هذه الطريق أبدًا. فالعصمة من الضلال إنما
تأتي في الحقيقة من عمل العقل وحده مع الاستعانة بما أرشد إليه المرشدون
الراشدون.
الغاية من علم التوحيد
ومن العلم ما يكون العلم والعمل به واحدًا كعلم الكلام فإن المقصد منه إنما هو
تحصيل اليقين بمسألة كثبوت الوجود لله تعالى وصفاته الكمالية التي ورد النص
بإثباتها له ودفع شبه الملحدين الذين ينكرون ثبوت شيء منها وثبوت بعثة الرسل
صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا العلم إن جرينا في تعلمه على التقليد في الدليل
كالتقليد في النتيجة، واكتفينا بفهم ما جاء من الأدلة على ألسنة من كتبوا فيها
أعرضنا عن الغاية من وضعه؛ لأن اليقين لا يحصل بقراءة الأدلة وخزنها في
الأذهان؛ وإنما يحصل بالاستدلال الصحيح وإدراك العقل وجه الدلالة من نفسه
بدون تقليد؛ وإنما يعد النظر في دليل المستدل السابق معينًا ومهيئًا للعقل إلى تصحيح
النظر. فالطريقة التي يجري عليها أغلب المعلمين ليست من غرض علم الكلام في
شيء، ومن الناس مَن إذا سألته في أمر يتعلق بعقيدة من العقائد فاجأك بقوله: لا
تقل ذلك فتكفر أو تعتزل، أو ما أشبه ذلك وهو سلاح يتخذه المرتابون في عقائدهم
ترسًا يدفعون به ما يخشون من الشبه التي تزلزل عقائدهم ولكن هذا الدفاع يدل على
ارتياب صاحبه في عقيدته قبل الدفاع؛ فإن صاحب اليقين يرتاح إلى كل ما يسمع
فإن وجد عند مخاطبه شبهة أمكنه أن يزيلها من نفسه. وتلك الطريقة من طرق
الدفاع عن العقائد هي التي أغلقت دون المسلمين أبواب العلم، فإنه كلما لاح نور إلهي
في يقين الطالب يهديه إلى طلب الحق وجد من هذه الكلمات كالاعتزال والفلسفة ما
يخمد ذلك النور فيه. ومن سوء الاستعمال في تعليم هذا العلم أن يعلم الطالب متن
السنوسية مثلاً وهو لم يحصل شيئًا من مادي العلوم. فيقال: إن الحكم العقلي ينقسم
إلى ثلاثة أقسام: الواجب والمستحيل والجائز، ثم تقرأ له هذه الأقسام بالتعاريف
الاصطلاحية وهو على جهل تام بما يدعه لفهم معنى الحكم فضلاً عن أقسامه
فيضطر الطالب إلى حفظ هذه الألفاظ بدون أن يحصل من معناها إلا على خيالات لا
تنطبق على حقيقة.
وقد قال المتقدمون إنه لا ينبغي أن يُنظر في علوم الكلام إلا بعد تحصيل
مقدماتها والاستعداد لفهم طرق الاستدلال حتى لا يضل الطالب النظر فيها وهو على
جهل من وسائل فهمها فاللازم الأخذ بأحد أمرين: إما أن يستدل الناس بالأكوان على
مُكَوِّنِهَا وبالآثار على المُؤثِّر فيها لينالوا بذلك اليقين فيما يعتقدون، كلٌّّّّّّّّ على حسب
استعداده. فالعامي مثلاً يستدل بما بين يديه من نبات وحيوان على حسب ما يظهر
له في نظامها، والسيد علي الرضا يكتب كتابًا في التشريح يقول في آخره: إنه عرف
بذلك وجود الله وأنه المنفرد بالتصرف في هذا الكون. وإما أن يعلم علم الكلام على
طريقة تكفل الانتفاع به في الوصول إلى اليقين الذي لا يقبل التزلزل، والإيمان
الذي يملأ القلب خشيةً من الله ورجاءً به وخضوعًا له. وأما طلب هذا العلم بمجرد
قراءة كتبه ومعرفة ما دلت عليه عبارتها فقط فهو في الحقيقة مما يصد عن اليقين
ويبعد عنه خصوصًا إذا خاف الناظر من أن يقال إنه فيلسوف أو معتزلي أو ما أشبه
ذلك؛ فإنه لا يقين مع التحرج من النظر؛ وإنما يكون اليقين بإطلاق النظر في
الأكوان طولها وعرضها حتى يصل إلى الغاية التي يطلبها بدون تقييد كما هدانا الله
إلى ذلك في كتابه فإنه يخاطب الفكر والعقل والعلم بدون قيد ولا حد، ووقوفنا عند حد
فهم العبارة مضر بنا في العلم ومنافٍ لما كتبه أسلافنا وما تركوه لنا من جواهر
المعقولات في الكتب النفسية المستودعة بخزائننا التي أصبحت اليوم أكلة للسوس
وفراشًا للأتربة، لا نمد أيدينا لنستلبه منها أو لنزعج السوس عن أكلها وإتلافها،
أَنْفَسُ ما فيها فَرّ من بين أيدينا ورُصِّعت به خزائنُ أمم أخرى أصبحت الآن تُنعت
بأمم النور ولو طلبناها لم نجدها.
وربما اعتذر الطالب عن قبول النصيحة بأنه لا مناص له عن صرف الزمان
في قراءة المطول ونحوه مثلاً؟ لأن غيره ككتاب الصناعتين ليس مما قرره القانون
أو لأن الأستاذ لا يريد ولأنه يبغي أن يكون عالمًا مشهورًا ولن يكون كذلك في نظر
العامة إلا إذا قرأ المطول بحواشيه في المدة المعلومة أو في أطول منها ولكن هذا لا
يصح عذرًا ولست أريد بنفي العذر أن أحمل الطالب على عصيان أستاذه أو حرمانه
مما يطلب من الشهرة بين قومه بل أريد أن أنبه إلى سلوك طريق وسط وهو أن
يجمع بين الحضور في درس الأستاذ وتحصيل حقيقة العلم فيطالع درس الأستاذ
ويضم إلى ذلك مطالعة شيء من الكلام البليغ وتحرير ما ينسج على منواله في
تحصيل الملكة المطلوبة.
ولقد عرض لي ما يعرض للطلبة اليوم وكنت أتمنى أن أبلغ من الشهرة ما بلغه
غيري فحضرت درس تلك الكتب مع اشتغالي باستكمال ما أردت من العلم على أن
طلب الشهرة في العلم إنما هو عند شعور النفس بشيء من الغرور، فإذا أدركت
حقيقة العلم نسيت شهوة الشهرة، وأدركت أنها بمنزلة من الجهل تقضي عليها
بتحصيل العلم للعلم والعمل به في سائر الأوقات وعلى أي الحالات.
للطالب أو الأستاذ أن يستعيذ من هذه البدع التي يراها جديدة ويقول إنها بدع
مخالفة لسنة السلف الصالح التي لا نريد أن نغيرها؛ لأنها لو لم تكن مفيدة لما سنَّها
أسلافنا، فما لنا إلا اتباعها وعليه يكون مثلي كمثل ذلك المغني على مسمع جماعة من
الأعاجم بكلام مجنون ليلى إلى طلوع الفجر فقيل له: بالله عليك غنِّ لنا عن ليلى
ومجنون، فقال: إن الغناء كان في ذلك، قالوا: ولماذا لم تعلمنا من قبل حتى نفرح؟
ذلك أن الطريقة التي نشير بها هي طريقة أسلافنا الأقدمين فالعَوْدُ إليها إحياء
لسُنَّتهم وعمل بآثارهم فلما كان أسلافنا جارين في تعليمهم على تلك الطريقة القويمة
كان نور العلم يضيء لهم سبلهم إلى سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكانت الأمم التي
تعد نفسها اليوم حاملة مصابيح العلم تستضيء بنورهم.
يقول القائلون: إن طلب تغيير الطرق اعتناء بالجديد وولوع بالبدع أو نزوع
لها، وليس الأمر كذلك فإن الجديد والبدعة هو ما نراهم عليه وقد ظهر أثره وعم
ضرره فالقديم الحقيقي هو ما تدعو إليه ولا نجاح لنا إلا بالتعويل عليه.
التوكل
بقيت مسألة نبهنا عليها في أول الأمر وهي أن الواحد منا إذا لاح في ذهنه نور
إلهي يرشده إلى طريق العلم بأنه معارَض بقول له: إن الحالة الحاضرة هي ما قدر
الله لا حيلة لنا فيها فالمرء متوكل على الله مسيَّر بحسب القدرة فعلينا بتسليم أمورنا
إليه تعالى والتوكل عليه: وبذلك ينطفئ النور الذي لاح بذهنه وبعد أن كان خطر
بباله داعي العمل، ينزع إلى البطالة والكسل، والعجب أنهم يظنون هذه الوساوس
من العقائد الدينية ولكن الدين يتبرأ منها وما للدين عدو أضر من أمثال هذه
الاعتقادات.
نرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو إمامنا وقدوتنا لما بعث في دياجير الجهل
وتحكم سلطان الشرور وقبائح العادات في الأمم التي أرسل إليها لم يقل إن ذلك ما
أراده الله ولم يسلم أمره للقدر بترك العمل، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم
أصابهم من الآلام في السعي ما أصابهم مع أنهم أشد الناس توكلاً على الله وأكملهم
تمسكًا بالقدر في طريق الحق فإذا كانوا قدوتنا كما هو الحق فلماذا لا نقتدي بسيرتهم
وننبذ وساوس المبطلين، وهذيان العُمْي والمغفلين، والله تعالى قد دعانا إلى طريق
الحق والتواصي بالحق والصبر وحملنا على ذلك: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَاّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر:
2-
3) ، فالذين فقدوا التواصي بالحق والصبر هم - بلا شك - خاسرون.
الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين. وقد جاء الكتاب الكريم
بتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه. وقد حكى لنا ما كانوا يقولون من نحو: {لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) ، فلا يسوغ
لأحد منا وهو يدّعي أنه مؤمن بالقرآن أن يحتج بما كان يحتج به المشركون.
مَن يزعم أنه متوكل من المتظاهرين بالصلاح فهو كاذب زِنديق؛ لأنه إنما
يدّعي التوكل، إذا طولب بأمر فيه مشقة عليه أو يجد في نفسه عجزًا عنه، لا
سيّما إذا كان في مصلحة عامة فهو يرضى بما يجد، فإذا رجع أولئك المتبتلون إلى
منافعهم الخاصة لم تجد للتوكل في نفوسهم أثرًا فهم يغشّون ويخادعون ويحتالون
لتحصيل ما به يعيشون، أو ما به على الناس يظهرون، وحينئذٍ لا يرجعون إلى
التوكل فهم كَذَبة لا يصح الاقتداء بهم. وكفانا قدوة وخير أسوة سيد المتوكلين صلى
الله عليه وسلم؛ فإنه كان على شدة توكله واعتصامه بالاستعانة بالله جل شأنه لا يفتر
عن العمل في الدعوة إلى الحق وحمل الناس عليه.
يحتج بعض الناس على كسلهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون
على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا) [1]
ويفسرون ذلك بأننا لو ألقينا أثقالنا على الله وتركنا أسباب عيشنا في كسبنا ومأكلنا
ومطبخنا ومرقدنا لرزقنا كما تُرزق الطير ولكن هذا الفهم خطأ بعيد عن المعنى
المراد ولولا ذلك لقال صلى الله عليه وسلم: (لرزقكم كما ترزق الطير تلبث في
أعشاشها وتفتح أفواهها فتصبح خماصًا وتمسي بطانًا) . يظنون أن هذا الحديث حث
على البطالة وترك العمل مع أنه جاء للحث على العمل. والكلام في معنى حق
التوكل ظنوه ترك السعي بالمرة وهو خطأ محض فالمراد من حق التوكل أن يعتمد
الإنسان على الله سبحانه وتعالى مع اتباع سنته التي سنها في الطلب فيحصل الطالب
من أسباب مطلوبه ما جعله الله سببًا ويدقق النظر في ذلك ما شاء حسبما طالبه الله
تعالى به. ثم بعد أن يستعمل الأٍسباب يناجي ربه بسره: أن قد أتيت بما في
استطاعتي على مقدار ما وهبتني وما بقي مما لا أعلم ولا أملك فهو في يدك فأغنني
بقدرتك ولا تحرمني معونتك، ثم يمضي في عمله. هذا هو حق التوكل. وقد أشار
إليه صلى الله عليه وسلم في قوله: (تغدو خماصًا وتروح بطانًا) . فإنه أراد بذلك
أن الطير إنما تسير في تحصيل معاشها على الإلهام الذي أودعه الله فيها، ألهمها
معرفة الأماكن التي فيها أقواتها كما ألهمها الغدو إلى تلك الأماكن لتصيب أقواتها منها
فهي تعمل بإرادتها على ذلك الشعور الذي منحه الله إياها.
فحق التوكل لا يتم لنا إلا بأن نجري في أعمالنا على ما يقوم عندنا مقام الإلهام
عند الطير. والذي يقوم عندنا مقام الإلهام هو العقل. فلا نكون متوكلين حقَّ التوكل
حتى نستعمل نفوسنا في الوسائل التي توصلنا إلى بلوغ الغاية من أعمالنا وأن نجيد
الاستعمال؛ حتى لا يقع لنا ضلال في طرق الوصول إلى المقصود، فالاعتماد على
الله بهذه الطريقة كافل نجاح الأعمال.
(الخاتمة) وبهذه الوسائل يسهل علينا التوفيق بين السعي والتوكل لا سيما
في تحصيل العلوم وهي كثيرة: وأَوْلاها بالتقدم فيما أعتقد علوم لساننا العربي فإن
إصلاح لساننا هو الوسيلة المفردة لإصلاح عقائدنا، وجهل المسلمين بلسانهم هو
الذي صدهم عن فهم ما جاء في كتب دينهم وأقوال أسلافهم؛ ففي اللغة العربية
الفصحى من ذخائر العلم وكنوز الأدب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بتحصيل ملكة
اللسان، ولا تحصل هذه الملكة إلا بالعناية بتحصيل علومه على الوجه الذي سبق
بيانه من الجمع بين معرفة القواعد من أسهل طرقها بدون التفات إلى عبارات
المعبرين وبين العمل بالقول والقلم؛ حتى يملك الطالب من اللسان ما كان يملكه
العربي بسليقته وبدون ذلك لا نصل إلى فهم أسرار شريعتنا؛ بل تُسَدُّ في وجوهنا
طرقُ الوصول إلى الحقيقة منها.
فعلى كل مَن له غيرة على ملته أن يبذل ما في وسعه لتسهيل طرق تعليم اللغة
وتحصيل الملكة فيها قولاً وكتابةً؛ حتى يتكلم بها غالب أهلها ويكتبوا بها بالطريقة
الصحيحة؛ لأن في انحطاط لغتنا انحطاطًا لنا ولديننا وعقائدنا وأخلاقنا وانحطاط
ذلك مفسد لجميع أمورنا.
أقول قولي هذا ولا أريد به إلزام سامعه بقبوله وإلا خالفت ما أدعو إليه من
استقلال الفكر، أعرضه على مسامعهم فإن وجده السامع صوابًا أخذ به وإلا فإنه لم
يخشَ شيئًا سوى احتماله مشقة الحر في هذا المجلس وهو قدر مشترك بيني وبينه.
والله يوفقنا إلى إصلاح أحوالنا في معاشنا ومعادنا وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
_________
(1)
رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وغيرهم.
الكاتب: محمد رشيد رضا
دلائل الإعجاز
اللغة وقوانين اللفظ والنظم
اللغة مَلَكَة لسانية، والملكات إنما تكون بمزاولة العمل، فمن زاول كلام قوم
زمنًا طويلاً تصير لغتهم ملكة له ينطق بها بغير تكلف. والملكات تتفاوت في أفراد
من تكون لهم، فمنهم من يكون أملك بالشيء خلقًا وأملأ به يدًا فيكون العمل به كما
تمتطي الريض الذلول، ومنهم من لا يملكه إلا كما يملك الخادم البليد، يريده على
شيء فيذهب في غير ما يريد، وتسمى ملكة اللغة في الأول فصاحة وبلاغة، وفي
الثاني عيًا وفهاهة.
ثم إن كل شيء يتفق فيه كثيرون كاللغة لا بد أن يكون منضبطًا في نفسه بطرق
معروفة لهم بالسليقة المكتسبة بالمزاولة إذ لو ذهب كل واحد مذهبًا في القول لا يتفق
مع مذاهب الآخرين لما تيسر التفاهم بالتخاطب، وما كان كذلك يسهل أن توضع له
قواعد وقوانين تعرف بها تلك الطرق السليقية بوجه كلي يعين على فهم الجزئيات
ومعرفة ما عساه يطرأ على ذلك الشيء مما ليس منه في خصائصه التي امتاز بها.
ولكن ما ينضبط به الشيء في نفسه لا يشمل في العادة العامة جميع جزئيات ذلك
الشيء إلا إذا تواطأ قوم محصورون على وضع قوانين كلية وأخذ الجزئيات منها
بالاتفاق بينهم ولم يكن وضع اللغة كذلك، ولهذا كانت القوانين التي وضعوها للعربية
شاملة لأكثر الكلام العربي في أوزان مفرداته وضوابط نَظْمه غير محيطة بذلك تمام
الإحاطة.
بدأ واضعو هذه القوانين بوضع الضوابط العامة التي يشترك فيها جميع أهل
اللغة وهي قواعد أبنية الألفاظ المفردة وقواعد التركيب التي يتأدَّى بها المعنى
المقصود من التكلم وسموا ذلك علم النحو ثم قسموا هذا العلم إلى قسمين، سموا
الآخر منهما الصرف. لما فتحت العرب الممالك الأعجمية ودخل أهلها في دينهم
وحكمهم استعرب العجمي واستعجم العربي وصار هؤلاء الأعاجم المستعربون
والعرب المستعجمون يتعلمون اللغة العربية بمعونة قواعد النحو والصرف وهي -
كما قلنا - موضوعة لما يشترك فيه الجماهير وغير محيطة بما كان ينفرد به بعض
أهل اللغة فضعف الناطقون والكاتبون بالعربية عن الترقي في ملكتها إلى الدرجة
العالية مما به التفاوت وهي مرتبة الفصاحة والبلاغة واحتاجوا إلى قوانين أخرى
ترشدهم إلى المعراج الذي يظهرون عليه إلى تلك المرتبة فكان أول مَن عُني بوضع
هذه القوانين إمام اللغة في القرن الخامس للهجرة الشيخ عبد القاهر الجرجاني في
كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز - الأول في فن البيان والثاني في فن المعاني-
وقد كان اسم البيان عامًا لكل ما يُبحث فيه عن البلاغة ثم إنهم من بعد الشيخ عبد
القاهر قسموه إلى قسمين خصوا أحدهما باسم البيان وأطلقوا على الآخر اسم
(المعاني) أخذًا من قول عبد القاهر إن مسائله هي معاني النحو.
قوانين النحو تفيدنا معرفة التراكيب الصحيحة في العربية وكيفية أدائها على
وجهها ولكنها لا تفيد متى يرجح استعمال أحد التركيبين اللذين يفيدان معنى واحدًا
على الآخر نحو (قام زيد) و (زيد قام) و (عمر المنطلق) ، و (المنطلق
عمر) والذي يعرفنا موضع كل واحدة من هذه الجمل هو علم المعاني المنتزعة
قوانينه من تتبع أساليب البلغاء وملاحظة الأحوال المختلفة التي يتغير التعبير في
كلامهم بحسبها ولذلك قالوا: إن البلاغة هي موافقة الكلام لمقتضى الحال. ولكن هذه
الأحوال لا تنضبط؛ لأنها تختلف باختلاف معارف المخاطبين بموضوع الخطاب
وأذواقهم ومقاماتهم ولذلك كان الطريق الموصل إلى تحصيل ملكة البلاغة هو كثرة
مزاولة الكلام البليغ لتحصيل ذوق البلاغة؛ لأن القوانين التي وُضعت للمعاني أقل
غَنَاءً من القوانين التي وضعت للنحو وقد علمت أن قوانين النحو غير محيطة،
وكتابا عبد القاهر أبين للقوانين وأعون على ذوق الأساليب.
ونذكر هنا عبارة كتبناها في خاتمة طبع كتاب (دلائل الإعجاز) الذي تم
طبعه في هذا الشهر بينا فيها مكانته من كتب هذا الفن وهي:
أما الكتاب فيعرف مكانته من يعرف معنى البلاغة وسر تسمية هذا الفن
بالمعاني وأما من يجهل هذا السر ويحسب أن البلاغة صناعة لفظية محضة قوامها
انتقاء الألفاظ الرقيقة، أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالج بهذا الكتاب
فإن اهتدى به إلى كون البلاغة ملكة روحية، وأريحية نفسية، رُجي أن يبرأ من
علته، ويقف على مكانة الكتاب ورتبته، وإن بقي على ضلاله القديم، وجهله
المقيم، فَأَحْكِمْ بإعضال دائه، وتعذر شفائه.
إنما وضع الكلام لإفادة المعاني، والبلاغة فيه هي أن تبلغ به ما تريد من
نفس المخاطب من إقناع وترغيب وترهيب وتشويق وتعجيب أو إدخال سرور أو
حزن وغير ذلك. وكل هذه المقاصد أمور روحانية يتوصل إليها بالكلام. فمعرفة
قوانين النحو والمعاني والبيان شرط فيها، ولكنها غير كافية للوصول إليها، بل لا
بد من الهداية إلى أسباب كون الكلام مؤثرًا وإيراد الشواهد والأمثلة الكثيرة في
المعنى الواحد والموازنة بين الكلامين يتفقان في المعنى ويختلفان في التأثير كقول
المعبِّر الأول لذلك الملك الذي رأى في نومه أنه فقد جميع أسنانه: إن جميع أهلك
وذوي قُرباك يهلكون، وقوله المعبر الثاني له: الملك يكون أطول أهله عمرًا،
وهذا المذهب هو الذي ذهب إليه الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز)
و (أسرار البلاغة) وقد خلف من بعده خلف جعلوا البلاغة صناعة لفظية محضة،
فقالوا: المسند يعرف لكذا وكذا وينكر لكذا وكذا.. إلخ، ولم يبينوا السر في ذلك ولم
يوازنوا بين مسند منكر عرفته البلاغة وآخر أنكرته وهو مثله ويُبيِّنوا السبب في
ذلك ولم يعنوا بإيراد الشواهد والأمثلة والبحث في الفروق. وقد اختار أهل هذه
الأزمنة الأخيرة هذه الكتب المجدبة القاحلة على مثل كتب عبد القاهر الخصبة
الحافلة لكثرة الحدود والرسوم والقواعد والمشاغبات في كتب المتأخرين فكان أثرها
فيهم أن حُرموا من البلاغة والفصاحة حتى إن أعلمهم بهذه الكتب وأكثرهم اشتغالاً
بها هو أعياهم وأعجزهم عن الإتيان بالكلام البليغ (بل والصحيح) قولاً وكتابةً.
ولا غرو فقد قال أحد كبار مؤلفي هذه الكتب المشهورة إن بعض فحول هذا الفن
(البلاغة) ليسوا بلغاء، ففصل بين البلاغة وعلمها وجعله غير مؤدٍّ إليها فلم يبقَ إلا
أنه ابتدع ليتعبد به. ولولا أن قيَّض الله تعالى للعربية في هذا العصر أبلغ البلغاء
وأفصح الفصحاء الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فطفق يحيي كتب السلف النافعة
وعلومها لكنا في يأس من حياة هذه اللغة الشريفة بعد ما قضى عليها حفَظتها وأساتها.
فنسأل الله تعالى أن يمد في أيامه. ويكثر من أنصاره وأعوانه. آمين.اهـ.
وقد صدر الكتاب بورق جيد، وثمن النسخة 20 قرشًا صحيحًا، وأجرة البريد
قرشان، وهو يطلب من إدارة مجلة المنار بمصر.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب نهج البلاغة
قد طبع هذا الكتاب الجليل، المستغني بشهرته عن التعريف، طبعة جديدة
مضبوطة بالشكل على نفقة الشيخ محمد سعيد الرافعي الكتبي وهي الطبعة الثالثة
بإذن شارحه الأستاذ الإمام وقد طبع في سوريا طبعة أخرى بغير حق. وتعدد الطبع
آية على معرفة الناس بقدر الكتاب. ولا نرى وسيلة لتعريف غير العارف به إلا
تزيين المنار بخطبة الشارح - حفظه الله تعالى - فإنها في أسلوبها ومعناها صورة
مصغرة للكتاب وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لله سيّاج النعم، والصلاة على النبي وفاء الذمم، واستمطار الرحمة على
آله الأولياء، وأصحابه الأصفياء، عرفان الجميل، وتذكار الدليل، وبعد: فقد
أوفى لي حكم القدر بالاطِّلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمل أصبته
على تغير حال، وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وغطلة من أعمال، فحسبته تسلية،
وحيلة للتخلية، فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جُملاً من عباراته، من مواضع
مختلفات، وموضوعات متفرقات، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروبًا شبت،
وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة [1]
وللريب دعارة، وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام،
وصفوف الانتظام، تنافح [2] بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج،
برواضع الحجج، فتفل [3] من دعارة الوسواس، وتصيب مقاتل الخوانس، فما أنا
إلا والحق منتصر، والباطل منكسر، ومرج [4] الشك في خمود، وهرج الريب في
ركود، وإن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب، أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلما انتقلت من موضع منه إلى موضع أحس بتغير المشاهد،
وتحول المعاهد، فتارة كنت أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية، في
حُلَل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب
الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها. وتنفر بها عن مداحض المزال،
إلى جوادّ الفضل والكمال.
وطورًا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وأرواح
في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب،
فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء،
وباطل الآراء.
وأحيانًا كنت أشهد أن عقلاً نورانيًّا، لا يشبه خلقًا جسدانيًّا، فُصل عن
الموكب الإلهي. واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به
إلى الملكوت الأعلى. ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب
التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.
وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة، ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة،
يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق
الاضطراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم
إلى منصات الرئاسة، ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير.
ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضِيّ رحمه الله من
كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، جمع متفرقه
وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسمًا بما تليق بالدلالة على معناه من هذا
الاسم، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه ولا أن آتي
بشيء في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما ستراه في مقدمة الكتاب.
ولولا أن غرائز الحيلة، وقواضي الذمة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه
وشكر المحسن على إحسانه ما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة من
فنون الفصاحة، وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصًا وهو لم يترك غرضًا
من أغراض الكلام إلا أصابه، ولم يدَع للفكر ممرًّا إلا جابَهُ.
إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا.
قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في غير تعقيد، فربما
وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض
الجمل. وليس ذلك ضعفًا في اللفظ أو وهنًا في المعنى، وإنما هو قصور في ذهن
المتناول.
ومن ثَم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة. والمشارفة
بالمكاشفة. وأعلق على بعض مفرداته شرحًا، وبعض جمله تفسيرًا، وشيء من
إشاراته تعيينًا. واقفًا عند حد الحاجة مما قصدت، موجزًا في البيان ما استطعت،
معتمدًا في ذلك على المشهور من كتب اللغة والمعروف من صحيح الأخبار، ولم
أتعرض لتعديل ما روي عن الإمام في مسألة الإمامة أو تجريحه؛ بل تركت
للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والأخبار
المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاشَ عن تفسير العبارة، وتوضيح الإشارة،
لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر ما أحفظ، تصونًا من النسيان،
وتحرزًا من الحيدان، ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلق منه بسبك المعاني
العالية في العبارات الرفيعة في كل ضرب من ضروب الكلام وحسبي هذه الغاية
فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربي.
وقد عني جماعة من أجلَّة العلماء بشرح الكتاب، وأطال كل منهم في بيان ما
انطوى عليه من الأسرار، وكُلٌّ يقصد تأييد مذهب، وتعضيد مشرب، غير أنه لم
يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب.
فإن وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق وإن كنت خالفتهم فإلى صواب فيما
أظن. على أني لا أعد تعليقي هذا شرحًا في عداد الشروح. ولا أذكره كتابًا بين
الكتب. وإنما هو طراز لنهج البلاغة وعَلَمٌ تُوَشَّى به أطرافه.
وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من أهل هذا
الزمان، فقد رأيتهم قيامًا على طريق الطلب، يتدافعون إلى نيل الأرب من لسان
العرب، يبتغون لأنفسهم سلائق عربية، وملكات لغوية، وكل يطلب لسانًا خاطبًا،
وقلمًا كاتبًا، لكنهم يتوخَّوْن وسائل ما يطلبون في مطالعة المقامات، وكتب
المراسلات. مما كتبه المولدون، أو قلدهم فيه المتأخرون، ولم يراعوا في تحريره
إلا رقة الكلمات، وتوافق الجناسات، وانسجام السجعات، وما يشبه ذلك من
المحسنات اللفظية، التي وسموها بالفنون البديعية، وإن كانت العبارات خلوًا من
المعاني الجليلة، أو فاقدة الأساليب الرفيعة.
على أن هذا النوع من الكلام بعض ما في اللسان العربي وليس كل ما فيه بل
هذا النوع إذا انفرد يعد من أدنى طبقات القول وليس في حلاه المنوطة بأواخر
ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط، فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل
اللسان خصوصًا أهل الطبقة العليا منهم لأحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم،
واستعدت لقبوله أعراقهم، وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الإمام علي بن
أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه وأغزره مادة
وأرفعه أسلوبًا وأجمعه لجلائل المعاني، فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة والطامعين في
التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم
معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها، وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت
للدلالة عليها؛ ليصيبوا بذلك أفضل غاية، وينتهوا إلى خير نهاية.
وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم، وتحقيق أملي وآمالهم اهـ.
هذا، وقد جعل ثمن النسخة من هذه الطبعة المشكولة 15 قرشًا وهو يطلب
من طابعه.
_________
(1)
العرامة: الشراسة، والدعارة: سوء الخلق، والجحافل: الجيوش والكتائب الفِرق منها، والذرابة: حدة اللسان في فصاحة، والكلام تخييل حرب بين البلاغة وهائجات الشكوك والأوهام.
(2)
تنافح: تضارب أشد المضاربة، والصفيح: السيف، والأبلج: اللامع البياض، والقويم: الرمح والأملج: الأسمر وهي مجازات عن الدلائل الواضحة والحجج القويمة المبددة للوهم وإن خفي مدركها وتمتلج: أي تمتص والمهج: دماء القلوب والمراد لا تُبقي للأوهام شيئًا من مادة البقاء.
(3)
فلّ الشيء والقوم هزمهم، والخوانس خواطر السوء تسلك من النفس مسالك الخفاء.
(4)
المرج: الاضطراب، الهرج: هيجان الفتنة.
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية وأدبية
(ثمرات الأفكار)
لمحمد أفندي حمدي النشار الدمياطي أحد كُتّاب محكمة الإسكندرية الأهلية
شعر منسجم هَامَ به في كل واد، وارتقى به كل نجاد، فاستغاث وناجى، ومدح
ورثى، وتغزل ونسب، ولم ينسَ باب الوعظ والأدب، فقد امتاز على أكثر شعراء
العصر بانتقاد ما فشا فيه من المفاسد والمثالب، وما للمدنية الحاضرة من الفضائح
والمعايب، وقد طبع الجزء الثاني من ديوانه (ثمرات الأفكار) في هذا العام
بمطبعة (المنار) وكان طبع الجزء الأول منه منذ عشرة أعوام، وإننا نورد نموذجًا
منه للقراء حتى إذا ما أحب أحد أن يطّلع على باقيه طلب الديوان من صاحبه. قال
في بيان حالة أكثر الشبان والكهول في هذه البلاد التي باعها الترف والسرف
والفسق للأجانب بثمن بخس؛ بل بثمن موهوم يسمونه كما قال (التمدن الجديد) :
(التمدن الجديد)
بين الندامى والمدامه
…
ضاع الحياء والاستقامه
وعلى الغواني والظبى
…
بعنا المروءة والكرامه
وعلى الجميلة والجميـ
…
ـل قد انقضى عهد الشهامه
وتسرّبت منا الدرا
…
هم في الفجور ولا ندامه
والدار بعناها لند
…
رك وصل هند أو أُمامه
ونفائس الميراث قد
…
رهنت على ثمن المدامه
والدين إن كُتب السدا
…
دُ له ففي يوم القيامه
(سبحان مَن قسم الحظو
…
ظ فلا عتاب ولا ملامه)
غيري بِيَ استغنى وما
…
أبقيت من مالي قلامه
فسد الزمان وأهله
…
يا رب نسألك السلامه
هذا تمدن معشر
…
جعلوا الفسوق له علامه
من كل مياس القوا
…
م له على الخدين شامه
يهتز إعجابًا كما
…
هزت معاطفها الحمامه
وإذا رأى أهل المعا
…
رف ظل يهزأ بالعمامه
يأتي الصباح ولم يدع
…
في غير زينته اهتمامه
ويطل في المرآة هل
…
في الحسن قد وفى نظامه
ويظل ينظر خلفه
…
حينًا وآونة أمامه
وكأنما بلغ الوزا
…
رة والإمارة والإمامه
حتى إذا جاء المسا
…
والليل قد أرخى ظلامه
هجر الرقاد فعينه
…
بالغمض لم تعرف منامه
متناولاً كأس الحميا
…
جامة من بعد جامه
فإذا أضاع رشده
…
وغدا ولم يحسن كلامه
ألوى العنان إلى ذوا
…
ت الحسن كي يشفي هيامه
وأعاد كرّة سكره الـ
…
أُولى وسمّاها (انسجامه)
فسحرنه وسلبن ما
…
أبقت يداه بابتسامه
ودعون مركبة لتحـ ـمله وقلن (مع السلامه)
فأتى إلى الدار التي
…
وأبيك ما ذاقت طعامه
هو يبذل العشرات كي
…
يرضى هواه أو غرامه
وهي التي تبكي لفا
…
قتها بدمع كالغمامه
فاستقبلته بما يليـ
…
ـق من التحية والكرامه
صفعت قفاه وأتبعت
…
بالصفع خديه وهامه
ولربما طرحته خلـ
…
ـف الباب لا ترعى ذمامه
فإذا استفاق معاتبًا
…
وعلى الهوان رأى مقامه
قالت له اعذرني فمَن
…
غرس القبيح جنى الندامه
يستوجب الإذلال مَن
…
لم يتّبع طرق السلامه
***
(قلائد الذهب في شرح أطواق الذهب)
كتب الشيخ محمود بن عمر الزمخشري الشهير مئة مقالة في الحكم والمواعظ
سماها (أطواق الذهب) وقد تنكَّب في كتابتها طريقته المثلى في الكتابة ونحا فيها
منحى الحريري في مقاماته في التسجيع والتجنيس. ولا زراية على الزمخشري بهذا
النحو من القول فإنه كان في عصره فنًّا من فنون الأدب وصنعة من صناعات القول
يتقنها مثله ومثل الحريري من أئمة اللغة. ولم يرد الزمخشري بهذه الحِكم المنثورة،
ولا الحريري بتلك المقامات المأثورة أن يسنَّا لكتّاب العربية سنة جديدة يتبعونها،
ويرغبون عن الكلام المرسل العفو إليها؛ وإنما كان لهما فيما يظهر لي غرضان:
أحدهما الاحتيال بهذا الوضع الطريف على توجيه النفوس إلى ما فيه من الحكم
والمَثُلات، وثانيهما جمع طائفة من فرائد اللغة في المفردات، ومحاسن الجمل في
المجاز والكنيات، تزيد الناظر سعة في العربية، وقدرة على صوغ الجمل المجازية.
وقد شرح (أطواق الذهب) وفسر مفرداته غير واحد وطبع في هذا العام
شرح منها لميرزا يوسف خان ابن اعتصام الملك الأشتياني، قال فيه إنه: (أجمع
وأكفى من الشروح والتعاليق التي علقت على تلك المقالات إلى الآن) ، وقد أضاف
إلى تفسير الكلمات ما يضاهي المقالة من رسالة (أطباق الذهب) للشيخ عبد
المؤمن الأصفهاني فإنه تلا فيها تلو الزمخشري واحتذاه كما ترى في هذا المثال.
قال الزمخشري في (المقالة 58) :
(موسر يشح بالنوال، ومعسر يُلِحّ في السؤال، إذا التقيا فجندلتان تصطكان،
وجدلتان من الضرائر تحتكان، هذا كزّ شحيح غير مِعوان، له في وجه الصعلوك
فحيح أفعوان، وذاك ملحٍ ملحف، محف مجحف، وهذا يقول هات، وهو يجيبه
هيهات، له دق بالوجنتين، دق القصار بالمجينتين (الميجنة مدقة القصار) إن
منح تبشبش وتطالق، وتبصبص وتملق، وإن منع أخذ بالمخانيق، ورمى
بالمجانيق) وقال صاحب أطباق الذهب: (من شداد الدنيا غني عابس، يلقاه
فقير بائس، يطرقه حافيًا، ويسأله محفيًا، يستميح شحيحًا لا يفتح الباب
لضيفانه، ولا يكسر حواشي رغفانه، فيرجع خاسرًا، وينقلب باسرًا، حتى إذا
فجأه في طريق، ولقيه في مضيق، فيأخذ بعِنانه، طمعًا في إحسانه، والبخيل
يحمر ويصفر، ويفر وأين المفر، هناك يصدم الأشدان. ويزدحم الضدان، فهما
كصخر قرعه حديد، وقيح كدره الصديد، ونفس يعلوه زاج، وحميم يشوبه أجاج،
ودخان يتلوه عجاج) اهـ وفي المقالات ما هو أظهر في السرقة من هذه.
أُهدي إلينا الكتاب المطبوع منذ أشهر ولم نفرغ لتصفح شيء من الشرح
ولكننا في النظرة السطحية انتقدنا عدم ضبط الكلمات عند تفسيرها وإن كانت قد
ضبطت مقالات الزمخشري بالشكل الكامل. وقد طبع في (مطبعة التمدن) على
ورق جيد وهو يطلب منها.
***
(الطرائف)
جريدة أسبوعية جديدة أنشأها في القاهرة رشيد أفندي المصوبع الشاعر
السوري الذي سبق لنا تقريظ ديوانه، وقد عرفنا هذا الشاب مغرمًا بالأدبيات هائمًا
في أودية الشعر، فلا شك في أن سيكون لجريدته الحظ الوافر من المباحث الأدبية
التي هي أنفع من خوض أكثر الجرائد في هذر السياسة التي لا نكاد نجد في القنطار
منها درهمًا من الفائدة. وقد افتتح الكاتب جريدته بمقدمة قال فيها: (أقدمت على
إنشاء هذه الجريدة وأنا عالم كل العلم بما صارت إليه بضاعة الأدب من الكساد، وما
زاد من الجرائد على حاجة البلاد) وهذه الدعوى قديمة وكم قالها الذين من قبله في
عصور كانت خيرًا من العصور التي قبلها كما أن هذا العصر خير مما قبله في
رواج الأدب وانتشار الجرائد والإقبال عليها وإن كان دون ما ينبغي ويُطلب.
أما قيمة الاشتراك في الطرائف فثمانون قرشًا في القطر المصري وجنيه
إنكليزي في سائر الأقطار. فنتمنى لرصيفنا الجديد النجاح ولجريدته حسن الانتشار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإسلام والمسلمون
نشر في جريدة (ناسيونال زيتونغ) الألمانية مقالة في الانتقاد على الإسلام
والمسلمين دلت على جهلٍ من كاتبها بالأديان والتاريخ أو تجاهل حمل عليه
التعصب الشديد، وقد عرَّبت جريدة مصرية هذه المقالة وردَّتْ عليها ردًّا لم يفند
جميع المسائل والتهم الباطلة التي افتجرها الألماني؛ فرأينا أن نخلص هذه المسائل
ونفندها واحدة واحدة لا سيّما بعد انتشارها باللغة العربية، وإننا نشكر لهذه الجريدة
تعريبها على ضعف شبهات كاتبها، والرد عليها على ما فيه من التقصير؛ لأنها
قامت بما في وسعها، وعملت بنصيحة كنا نصحنا لها بها في أول ظهورها وهاك
ملخص مطاعن الألماني مع الرد السديد:
(1)
افتتح الألماني كلامه بذكر الثورة المكدونية واهتمام أوربا بها واعترف
بأن الدولة العثمانية راغبة في إخمادها وتحسين حال المسيحيين بحسن نية، واعترف
بأن الثوار المسيحيين هم الذين يَحُولون دون الإصلاح.
وهذا الاعتراف إثبات لسوء قصدهم ولبعد المسيحي عن الخضوع لحكمه
والامتزاج بغيره وبأن حكومة الترك الإسلامية التي تصفها أوربا بالجور والظلم
والتي هي في الواقع ونفس الأمر دون حكومة الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم ولا
سيّما في هذا العصر - تحب رعاياها الذين من غير دينها وترغب في إصلاح
حالهم وهذا يتضمن أن تأثير الإسلام في أهله أحسن تأثير، فما كان ينبغي لصاحب
الجريدة المصرية أن يعجب من ألماني يكتب هذه الكتابة ويبني عجبه على ما اشتهر
من صداقة عاهل ألمانيا لسلطان تركيا فإن هذا الكلام لا ينافي الصداقة. ولا يطالب
الكاتب بأن لا يكتب إلا ما يوافق هوى أميره وسلطانه.
(2)
واصل الألماني اعترافه المذكور بقوله: إن المكدونيين والبلغاريين
يحولون دون إجراء أي إصلاح كما أن الإسلام ظهر في كل زمان بمظهر المعادي
للمدنية المسيحية الأوربية وسيبقى كذلك على الدوام.
ونقول: إن الإسلام ظهر في زمان كانت المسيحية فيه قد دمرت مدنية
المصريين واليونانيين، فشيَّد الإسلام ما هدمته المسيحية وأحيا المدنية بعد موتها
كما شرحنا ذلك في مقالات سابقة وبعد أن أدخل المدنية في أوربا عن طريق
الأندلس كافأته على فضله بمحاربتها إياه واجتهادها في إبادته.
إن الإسلام قاوم همجية المسيحيين في القرون المتوسطة التي يسمونها القرون
المظلمة ولكنه أوغل فيها برفق فإنه دخل بلاد الأندلس وقد تمزق شملها بالظلم واستعباد
الأحرار، فجعلها بالعلم والعدل جنات تجري من تحتها الأنهار. ولما قوي ساعد
أهلها بما منحهم الإسلام من الحرية لم يرضوا من مكافأة المسلمين إلا بإبادتهم من تلك
البلاد. فأين المدنية المسيحية التي قامت هناك مقام مدنية الإسلام؟ أليست حال تلك
البلاد إلى اليوم شرًّا مما كانت عليه مع أن الرقي طبيعي في الإنسان؟
(3)
زعم الألماني أن دين محمد لا يقصد إدخال الناس في عقيدته كدين
بوذا وموسى وعيسى ولكنه يحاول إخضاع الشعوب وإبادتها.
وهذا غلو منه في الجهل أو التجاهل الذي هو أفضح من الجهل؛ فإن البوذيين
لا يدعون إلى دينهم ولا يحاولون تعميمه وكذلك اليهود دينهم خاص بشعب إسرائيل
لا يتعداه ولذلك لم ينمُ عدد هذه الأمة القديمة. وأما النصارى فإن نبيهم عيسى لم يكن
إلا مصلحًا بالديانة الموسوية، وقد أكد ذلك بصيغة الحصر إذ قال: (لم أُرسل
إلا إلى خراف إسرائيل الضالة) وأمّا ما ينقلونه عنه من أنه قال لتلامذته: (اكرزوا
بالإنجيل في الخليقة كلها) . فيجب تخصيص الخليقة فيه بشعب إسرائيل ليتفق
القولان. فلم يبق دين تدل نصوص كتابه على كونه عامًا للناس كلهم إلا دين محمد
عليه الصلاة والسلام فإن كتابه يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) وقد بعث وحده فقام دينه بالدعوة وانتشر بالدعوة ولم يكن ما كان من
الجهاد في آخر عهده إلا لحماية الدعوة من المعتدين. طالب الناس بالدخول في دينه
ليصلح فسادهم. والشعوب التي خضعت لأصحاب هذا الدين لم تَرَ أرفق من حكامه،
ولا أعدل من أحكامه، كما اعترف بهذا بعض علماء أوربا.
وإنه ليوجد في بلاد الإسلام من الملل والنحل ما لا يوجد في بلاد أخرى وكلهم
حافظون لعقائدهم وتقاليدهم ومعابدهم ومعاهدهم. ولم توجد في الأرض أمة عملت
ولا تزال تعمل لإبادة من يخالفها إلا الذين قالوا إنا نصارى من أهل أوربا فقد أبادوا
الوثنيين من أوربا كلها ثم أبادوا المسلمين واليهود من غربي أوربا، وهم الآن
يحاولون إبادتهم من شرقيها ولذلك لا يقبلون من الترك إصلاحًا مهما حسنت النية فيه؛
لأن الترك مسلمون تجب في رأيهم إبادتهم من أرض سبقهم إليها المسيحيون فهم
يتعاهدون على ما بينهم من الضغائن والأحقاد على نزع سلطة المسلمين من بلاد
أوربا كما اعتدوا عليهم في آسية وإفريقيَّة، بل كان كل أهل مذهب من مذاهب
النصرانية يسعى في إبادة أهل المذهب الآخر وهذا لم يُعرف في غير نصارى تلك
البلاد.
(4)
قال الألماني: إن الإسلام سلاح بيد أمة حربية لفتح بلاد العالم.
ونقول: نعم إن الإسلام أقوى سلاح للفتح وهل يعد هذا الألماني وقومه القوة
الحربية ضَعَة ورذيلة؟ أنَّى وتلك شهادة على أمته بأنها في الدرك الأسفل من
المهانة والضعة؛ لأنها في الدرج الأعلى من القوى الحربية. نعم إن بين قوة
الإسلام وفتوحاته وقوة الألمان في فتوحاتهم فصلاً واسعًا وهو أن الإسلام كان يقصد
بالفتح هداية الأمم إلى الحق الذي تسعد به في الدنيا والآخرة وذلك بأن يريها عدله
في الأحكام وفضل متبعيه في الأخلاق وقوة يقينهم في الإيمان فيرغب فيه عقلاؤها
ويدخلون فيه بالإقناع والإذعان. لا كما دخل وثنيو أوربا في النصرانية بالسيوف
والنيران.
وأما قصد ألمانيا وسائر أمم أوربا من الفتح فهو التمتع الحيواني بخيرات البلاد
التي يفتحونها وتسخير أهلها في خدمة شهواتهم وجمع المال لهم ولم توجد بلاد
في آسية ولا إفريقية افتتحها الأوربيون ثم كانت في ظل سلطتهم متمتعة بالعدل
والحرية في الدين والدنيا كما كانت في عهد فاتحي العرب الأولين.
فهذه إنكلترا أقرب أوربا إلى العدل والحرية تفضل الصعلوك من الإنكليز في
الهند على الأمير المسلم أو الوثني الهندي وقد ساوى عمر بن الخطاب بين صعلوك
قبطي وبين ابن عمرو بن العاص فاتح مصر وحاكمها في عهده وأقاده منه
…
نعم إن
الإسلام قد تحولت سلطته الديمقراطية المعتدلة المقيدة بالشورى ورأي أهل الرأي من
الأمة إلى سلطة فردية مطلقة بما صار لأمرائه من العصبية التي مكنتهم من جعل
السلطة وراثة في عقبهم فأفسدوا فيه وجعلوا الفتح من متممات شهواتهم ولكن هذا
مرض عرض للمسلمين لا الإسلام وقد انتقم الله تعالى منهم بتسليط أوربا عليهم
تسومهم سوء العذاب، ومتى بلغ الانتقام حده يرجع المسلمون إلى أصول دينهم
ويقيمون لأنفسهم سلطة إسلامية صحيحة تتكون بها المدنية الفاضلة الصحيحة التي
يسعد بها العالم الإنساني.
ولا يخفى على من استيقظ من المسلمين أن أوربا تجتهد في محو السلطة
المنسوبة للإسلام من الأرض وإنها تتوهم أن هذا المحو لا يعقبه إثبات؛ ولكنهم
يعتقدون أن هذا المحو هو الذي يكون سبب الإثبات فإن السلطة الحقة المنتظرة لا
تكون إلا إذا استيقظ أكثر المسلمين من هذا النوم المستغرق ولإيقاظهم هذا صوتان:
أحدهما صوت العلم وهذا لا يمتد إلا بالتدريج الطويل وثانيهما صوت انقضاض آخر
ركن من أركان سلطتهم المبعثرة وما هو إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون.
فلتعلم أوربا أن محافظتها على السلطة العثمانية وإبقائها واهنة هو الذي يسهل لها
التمتع بخيرات بلاد المسلمين دون سواه؛ لأن حكام المسلمين عودوا المسلمين منذ
قرون طويلة على الاعتماد عليهم وإلقاء المقاليد لهم فإذا رجعوا بعد اليأس من حكامهم
أو زوالهم إلى قوة الإسلام نفسه فإن بأس ثلاث مئة مليون من الأسود الباسلة يعتمدون
على الله وعلى ما وهبهم من القوة على دفع الضيم لا يكون أثره في الأرض قليلاً.
(5)
قال الألماني بعد ما ذكر من قوة الإسلام ما ذكر: إن القوة التي ساد
بها في آسية وإفريقية ستكون مصدر مصائبه فإنه ينقصه ما في الديانات الأخرى من
قبول الأصول والقواعد (وفي الأصل المبادئ) التي عند غير أهله وعدم الاعتداء
على الأمم التي لا تَدين به.
ونقول إن القوة التي ساد بها الإسلام أيام كان إسلامًا هي قوة الحق والعدل وما
جاءته المصائب وأحاطت به النوائب إلا بعد أن حولت سلطته التي تقيم هذين
الركنين إلى سلطة استبدادية تعبث بها كما قلنا آنفًا فالقوة الفاتحة قد زالت من زمن
طويل والسلطة السائدة إلى هذا العصر إنما بقيت سيادتها بقاعدة الاستمرار؛ فإنها
لم يكن لها مقاوم يزيل استبدادها اللهم إلا ما كان من المبادلة بين المستبدين في
بعض الأحيان. ونحن على علم بأن هذا الاستبداد لا يدوم وإذا لم يزله المسلمون
لاستعباد الملوك والأمراء لهم فهذه أوربا تزيله بالتدريج.
أما زعمه بأن مصدر مصائب الإسلام ستكون من أصلين فيه: أحدهما أن
المسلمين لا يقبلون اقتباس ما عند الأمم الأخرى وثانيهما أنهم لا يكفون عن الاعتداء
عليها فهو زعم باطل مبني على الجهل الفاضح، أو التعصب الواضح، ذلك أن
الإسلام يرشد المسلمين إلى أن يأخذوا الحكمة أنَّى وجدوها وينهاهم عن الاعتداء
على من لم يعتدِ عليهم قال الله تعالى:] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (البقرة: 190)[وقال عز وجل:] فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة: 194) [أي
لا تزيدوا على مقابلته بمثل اعتدائه. فإن أراد بعدم قبول الإسلام أصولاً زائدة عليه
الأصول الدينية لا المعاشية فهذا صحيح وهو مصدر قوته ولكن المسلمين لم
يقصروا في مخالفته في هذا الحكم فأخذوا عن النصارى والوثنيين كثيرًا من البدع
والتقاليد وصبغوها بصبغة إسلامية وهي التي كانت سبب ضعفهم في دينهم الذي هو
أمضى سلاح بأيديهم كما قال وحكّمت غيرهم فيهم فالأمر على ضد ما زعم.
(6)
قال الألماني: امتاز الإسلام بفتوحات سريعة قاسية تدل على شهامة
العرب والترك وتعصبهما وخضوعهما للأقدار وكان لهذه الفتوحات تأثير في أوربا
فقد استمر حكم العرب في الجنوب الغربي منها (أسبانيا أو الأندلس) سبعة قرون
وحكم الترك في الجنوب الشرقي ستة قرون ولم يستطع الترك ولا العرب إيجاد
رابطة بينهم وبين الأمم التي أخضعوها.
ونقول: إن التاريخ لم يعرف أرفق وألين من فاتحي المسلمين حتى قال أحد
فلاسفة الإفرنج فيهم وفي دينهم: (إن شعوب الأرض لم تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحِلم
هذا المبلغ ولا دينًا بلغ في لينه ولطفه هذا الحد) (راجع ص 105 من كتاب
الإسلام والنصرانية) . أخطأ في نسبة القسوة إلى المسلمين في فتوحاتهم وأصاب
في وصفها بالسرعة ووصفهم بالشهامة والخضوع للأقدار ولكن مع العمل والأخذ
بالأسباب التي لا يجوز التوكل والاعتماد على القدر عندنا إلا بعد استيفائها. ومن
البلاء أن هذه المزية العظيمة قد ضعفت بعض الضعف في المسلمين ببدعة الجبر
التي فشت فيهم وروجها لابسو مرقعات الصوف من مدعي الصلاح ومن الذين
يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ومع هذا كله لا يزال المسلمون
في مجموعهم أشجع الشعوب وأشدها شهامة وسَيَهْتَدُون إلى أن التوكل يشترط فيه
الاستعداد فإذا استعدوا كما يجب يعود إليهم بفضل الله تعالى ما فُقد منهم.
وأما زعمه: أنه لم يستطع العرب ولا الترك إيجاد رابطة بينهم وبين الأمم
التي أخضعوها فهو زعم باطل على إطلاقه فإن العرب قد حولوا لغات الأمم التي
فتحوا بلادها إلى لغتهم بدون إلزام ولا قهر ولا مدارس سياسية كما يفعل الإفرنج
وهذه قدرة على عمل عجزت عنه الدول الأوربية والرومانية قبلها ورابطة اللغة من
أقوى الروابط بين الأمم. هذا هو أثرهم فيمن بقي محافظًا على دينه في البلاد التي
فتحوها.
والكاتب يعلم أن أكثر الشعوب التي استولت عليها العرب قد دخلت في دينهم
فالمجوسية نسخت من بلاد الفرس والنصرانية قَلَّ أتباعُها في مصر وسوريا ولم
يكن ذلك بقهر ولا إكراه؛ بل كان المسلمون يدخلون البلد ثم يتركونها لأهلها
ويقيمون فيها حامية قليلة تدافع عنها من يعتدي على أهلها إن كان هناك خوف وتقر
الناس على دينهم وعاداتهم، وتجعل أكثر العمال منهم؛ ولكنهم كانوا ينجذبون
للشرذمة التي تكون عندهم بجاذبية الحق والعدل والفضيلة فيها فيتبعونها في الدين
واللغة عن رغبة واختيار.
أما الترك فقد عجزوا عن مثل ذلك لأن سهمهم من الإسلام وأركانه الثلاثة كان
دون سهم العرب، وما كان للأعجمي المقلد أن يفهم من الكتاب والسنة ما يفهمه
العربي المجتهد لا سيّما بعد ظهور البدع. ومع هذا كله كان الترك أكثر رفقًا
بالشعوب التي يفتحون بلادها من سائر الفاتحين وقول الفيلسوف السابق يشملهم.
(للرد بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأمر الصغير الكبير
لقد ضقت ذرعًا من أمر صغير، ولكنه على صغره كبير، فهو كالبعوض أو
كالبق يضجر منه الكمي الباسل. ويضيق عنه حلم الحكيم الفاضل، ذلك الأمر الذي
أعياني علاجه، وعمي على طريقه ومنهاجه، هو إفهام الكثيرين من قراء المنار
أن إدارة المجلة لا ترسل لأحد ما يطلبه من الأجزاء المفقودة إلا إذا أرسل مع الطلب
قيمة كل جزء قرشان ونصف قرش (25 مِليمًا) لا يستثني هذا الحكم أحد ولا يقبل
تأجيل الثمن ليرسل مع قيمة الاشتراك وإنما يستثنى طلب آخر جزء إذا علم
بصدوره المشترك ولم يصل إليه وكذلك الجزء الذي قبل الأخير بهذا الشرط.
كتبنا هذا غير مرة وجعلنا له (إعلانًا) ثابتًا في غلاف المجلة وكل هذا لم
يغنِ شيئًا فإن الرسائل تتبع الرسائل من المشتركين في كل بلد هذا يطلب جزءًا
وهذا يطلب أجزاء وهذا يقول إن المجلة لم ترسل إليه منذ شهر أو شهور وذلك
يعترف بأن العدد قد فُقد بعد وصوله ويطلب أن يرسل إليه مرة ثانية من باب الكرم
والتفضل وذاك يَعِد بأنه سيرسل ثمن ما يطلبه أو سوف يرسله مع قيمة الاشتراك
(إن شئنا) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حكمة الصيام وفضل رمضان
(1)
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصيام جُنَّة) ، أي وقاية، رواه
الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة والترمذي عن معاذ وروياه مع ابن ماجه عن
عثمان بن أبي العاص بلفظ: (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال) ،
وفي رواية للنسائي والبيهقي عن أبي عبيدة: (الصيام جنة ما لم يخرقها) ، وزاد
الطبراني في الأوسط: (بكذب أو غيبة) ، وقد روى الحديث غيرهم من طرق
أخرى.
والمعنى أن الصوم سبب للوقاية من النار كالجنة تكون سببًا للوقاية من الطعن
والضرب ما لم تخرق، وإنما كان الكذب والغيبة - وهي ذكر الناس بما يكرهون -
أن يذكروا به خارقين لجنة الصيام؛ لأن الغرض من الصيام تعويد النفس على ترك
المعاصي والشهوات المحرمة، فإن مَن يترك المباح له في الأصل - كالأكل
والشرب والملامسة الخاصة بينه وبين امرأته، وهو متمكن من فعل ذلك في كل
وقت يعنُّ له وإنما يتركه امتثالاً لأمر ربه وعملاً بما فرضه من وسائل تأديبه - كان
جديرًا بأن يتمكن من ترك المحرم عليه في الأصل، إذا اشتهى أن يصيب منه.
فالصيام يزيد في الإيمان بالله تعالى؛ لأن هذه المباحات التي يجب تركها فيه
هي التي يحتاجها الإنسان دائمًا، وتعرض له في كل وقت، فهو لا يتركها إلا
امتثالاً، وهي تذكِّره في كل وقت بالله تعالى؛ فيزداد مراقبة له، واتقاءً لمخالفته،
حتى يملك نفسه، ويضبط نزعاته الشهوية بالتكرار الذي يطبع الملكات في النفوس،
كما شرحنا ذلك في بعض المجلدات السابقة من النار.
سألني أحد الإفرنج: هل تصوم رمضان كله، فلا تفطر فيه جهرًا ولا سرًّا؟
فقلت: نعم، إنني أصومه، وكم زدت عليه من صيام التطوع. قال: وهل تظن
أن الله يكون مسرورًا ومبسوطًا من تركك الأكل والشرب ويغتاظ إذا أكلت؟ فقلت:
إن ديننا ليس كالأديان التي تعرفها، يجعل العبادة تعذيبًا للنفس بزعم أن الله يحب أن
يحرج نفوس الناس ويعنتهم كما يفعل الملوك الظالمون وإنما يعلمنا ديننا بأن الله
تعالى لم يجعل علينا في الدين من حرج ويمن علينا بأنه لو شاء لأعنتنا ولكنه لم
يفعل لأنه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ويرشدنا إلى أنه ما فرض علينا شيئًا إلا
لمنفعتنا وما حرم علينا شيئًا إلا لأنه يضرنا وقد ورد في الحديث القدسي: (يا
عبادي لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني..) إلخ، فهذا الصيام
نافع لنا؛ لأنه يربي لنا ملكة الحكم على أهوائنا وشهواتنا فلا يصعب علينا مع هذه
الملكة أن نترك المعاصي المضرة
…
قال: إننا نعهد أن الذي يمنع من شيء يكون بعد زوال المنع أشد ولوعًا وأكثر
ضراوة به وإنني أعرف في بلادنا كثيرًا من الناس ربّوا أولادهم على المنع من
القبائح كالسُّكْر والزنا والقمار وما هو أهون من ذلك، فلما زالت عنهم سلطة المنع
كانوا أشد الناس انغماسًا في الشهوات، وأكثرهم ارتكابًا للموبقات، فقلت: نعم إن
هذا أمر طبيعي فإن الذي يمنع بالقهر والإلزام عمّا يحبه ويشتهيه يزداد ميلاً إليه
وحبًا فيه، وقد قال الشاعر العربي:
منعت شيئًا فأكثرت الولوع به
…
أحب شيء إلى الإنسان ما منعا
ولكن المنع من الأكل ونحوه في الصيام ليس منع قهر وتحكم؛ وإنما هو
امتناع اختياري عن اقتناع واعتقاد بأنه خير ونافع وسبب من أسباب السعادة ولولا
ذلك لما صام الصائم، إذ يتمكن كل أحد من الإفطار سرًّا إذا كان يستحي من الناس
أن يفطر جهرًا. ولهذا المعنى كانت تربية القسوة والقهر ضارة ومفضية إلى الإفساد
وكانت التربية الدينية الإسلامية المبنية على الاعتقاد والاقتناع هي التربية النافعة
التي لا ضرر فيها، وإننا نرى الأولاد الذين يُربَّوْن بالقسوة والحكم القاهر أذل
الناس نفوسًا وأفسدهم أخلاقًا وكذلك نرى تأثير الحكومات المستبدة القاسية في
الرعية تفسد بأس الأمة وتهبط بأخلاقها وآدابها إلى أسفل سافلين.
وقد لاحظ الفيلسوف العربي ابن خلدون هذا المعنى فعقد له فصلاً في مقدمته
واستشهد له بإنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سعد بن أبي وقاص قائد
جنده في حرب الفرس معاملة أحد الشجعان بالقهر، حين أخذ سلب قتيل قتله بدون
إذنه، واحتج عمر على سعد رضي الله عنهما بأن ذلك يفسد بأس ذلك
الشجاع
…
قال محدثي بعد تمام الحوار: إن كل ما ذكرته صحيح.
وأزيد الآن - وإن أطلت في شرح الحديث بما ليس من موضوع الصوم -
عبارة ابن خلدون في المثال الذي أوردته قال بعد ذكر عزة الذين يُساسون بالرفق
والعدل: وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من
سَوْرة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما
نبينه. وقد نهى عمر سعدًا رضي الله عنهما عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب
الجالنوس (سلب القتيل بالتحريك ما معه من سلاح وغيره) ، وكانت قيمته خمسة
وسبعين ألفًا من الذهب وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه فانتزعه
منه سعد وقال له: هلَاّ انتظرت في اتباعه إذني، وكتب إلى عمر يستأذنه فكتب
إليه عمر: (تعمد إلى مثل زهرة، وقد صلى بما صلى به وبقي عليك ما بقي من
حربك وتكسر فوقه [*] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه ثم انتقل ابن خلدون
إلى بيان كون الأحكام الشرعية لا تُذهب بالبأس والمنعة؛ لأن الوازع فيها نفسي
ونقل عن عمر أنه قال: (مَن لم يؤدبْه الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون
الوازع لكل أحد من نفسه.
(2)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجنة بابًا يقال له الريان
يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟
فيقومون فيدخلون منه فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد) رواه أحمد والشيخان
وغيرهم عن سهل بن سعد. وقد فسر بعض أهل البصيرة الحديث وأمثاله بأن
المراد بأبواب الجنة أصول الطاعات ومجامع الخير وكأنهم أخذوا هذا من حديث
الطبراني عن سهل أيضًا: لكل باب من أبواب البر باب من أبواب الجنة وإن باب
الصيام يدعى الريان، وتسميته بالريان يشير إلى ذلك. واستدل عليه الشيخ محيي
الدين بن عربي في فتوحاته بحديث ورد في أن أبا بكر يدخل الجنة من أبوابها كلها
وهو لا يعقل إلا بهذا التفسير.
(3)
وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: (كل عمل ابن آدم
له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا
يرفث ولا يصخب وإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسُ
محمد بيده لخَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان
يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) . رواه الشيخان
والترمذي من حديث أبي هريرة. ومعنى: (كل عمل ابن آدم له) أن لكل طاعة
من الطاعات لذة يجدها مَن أقام تلك الطاعة فللصلاة من لذة المناجاة لله تعالى ما
ليس لغيرها، ووالله إن البكاء فيها لهو ألذ عند الخاشعين من الضحك في سواها، فيا
حسرةً على مَن حُرم منها، وللزكاة لذة التفضل وعزة الغنى والسيادة، ولمناسك
الحج عمل في تحريك الشعور الديني، والتوجه إلى العالم الروحاني، يشترك فيه
الجاهل بأسراره مع العالم بها؛ ولذلك ترى العوام ينجذبون إليه كالخواص، ولا
يوجد مسلم إلا وهو يحن إلى تلك المعاهد حنين الطير إلى أوكارها، وهذه اللذة
مطَّردة فيما عدا الأركان من أعمال البر إلا الصوم فإنه ترك لا لذة ولا حظ للنفس
فيه لأنه أمر عدمي وأثره الوجودي هو الألم، فهو جدير بأن يتولى الله تعالى مثوبة
صاحبه بترقية نفسه في الكمال والتهذيب حتى يلقاه بقلب سليم، ويستحق جنات
النعيم، وقد مر تفسير كون الصيام جنة في شرح الحديث الأول.
والرفث المنهي عنه هو الإفضاء إلى النساء الذي يكون بين الزوجين وقيل
هو الكلام الفاحش؛ لأن ترك الأول مما لا يتحقق الصيام إلا به، والصَّخَب
(بالتحريك) الصوت الشديد واختلاط الأصوات. وكيف لا يكون ترك الفحش
والصخب والتسابّ وسائر المعاصي من مهمات آداب الصوم أو شروطه مع أنه لا
يتحقق إلا بترك المباح الذي لا قبح فيه وهذه الأشياء من أقبح القبائح، ولقد أحسن
حجة الإسلام في تمثيل من يترك الأكل والشرب المباحين ويفعل المحرمات بمن
يبني قصرًا ويهدم مصرًا.
وخلوف الفم: تغيُّّّّّر رائحته من الصيام والكلام كناية عن كون هذا التغير الذي
يعرض للصائم ومن شأنه أن يكون مكروهًا عند الإنسان هو محمودًا في حكم الله تعالى
مرضيًّا عنده من عبده؛ لأن أثره نافع له في تهذيب نفسه الذي هو أساس سعادته.
وقيل إن ذلك يكون في الآخرة حقيقة وورد فيه حديث.
وأما الفرحتان فأمرهما ظاهر فالفرحة عند الإفطار معروفة لجميع الصائمين
وهي ليست جثمانية محضة؛ بل هي روحانية جثمانية؛ فإن الإصابة من الطعام
المباح المستلذ بعد الجوع يصحبها الشعور الروحاني بلذة إتمام العبادة ورجاء
الرضوان الإلهي؛ ولذلك نرى لطعام رمضان شأنًا لا نجده لغيره في أوقات الجوع
التي تعرض لنا في غير الصيام مما ربما يزيد عن الجوع بالصيام. وأما الفرحة
الأخرى فلا تُعرف حقيقتها إلا بالوصول إليها.
واللهَ نسأل أن يسهل لنا سبيلها بالقيام بحقوق الصيام بحيث تتهذب به نفوسنا
وترتقي به أخلاقنا، وأن يهب لنا من فضله فوق ما نستحقه بأعمالنا.
(4)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به
فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه أحمد والبخاري وأبو داود
والترمذي وابن ماجه، وهو يؤيد ما قلناه في شرح الحديث السابق.
(5)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا
غُفر له ما تقدم ذنبه) . رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن أبي
هريرة، وفي حديث آخر:(مَن قام) . وقد اتفق العلماء على أن المراد بالذنوب
الصغائر أو الكبائر باعتبار قيد التوبة ورَدِّ الحقوق إلى أهلها؛ لأن هذا القيد
معروف من أصل الشريعة المتفق عليه. ونقول: إن الفقه في الحديث هو أن من
صام شهرًا بباعث الإيمان واحتساب الأجر على الله تعالى - لا بمقتضى العادة
وموافقة الناس في تغيير مواعيد الأكل يجعلها في الليل بدلاً من النهار - فلا شك أن
إيمانه يقوى ويزداد ونفسه تتزكى من آثار الذنوب التي يلم بها المؤمن بسبب الغفلة
عن الله تعالى. فتحل بالصيام الذكرى محل الغفلة، ويشرق النور في مكان الظلمة،
وتمحو الحسنات ما كان في النفس من أثر السيئات، فتحسن الحال، وتصلح
الأعمال، فهذا هو معنى المغفرة؛ لأن الغفر في اللغة هو الستر والتغطية ولا أبلغ
في ستر الشيء من إزالة أثره كما تزيل الحسنات السيئات. ورواية: (ما تقدم من
ذنبه وما تأخر) ضعيفة.
(6)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب
الجنة وغُلّقت أبواب النار وصُفّدت الشياطين) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي
هريرة. وأبواب الجنة هي الطاعات وأبواب النار هي المعاصي كما تقدم ولا شك
أن هذه تغلق دون الصائمين وتلك تفتح أمامهم فيدخلون فيها أفواجًا، ومعنى:
(تصفَّد الشياطين) أنه لا يكون لها سبيل للوسوسة والإغواء؛ لأن أبواب المعصية
والشهوات مقفلة لا سبيل إلى الدخول فيها. وفي رواية زيادة: (وينادي منادٍ: يا
باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصر) وفي رواية:(أمسك) . باغي الشيء
مريده والكلام كناية عن كون حال الصيام تقتضي المزيد في الخير والإمساك عن
الشر. وسمعت الأستاذ الإمام يقول: إن شهر رمضان لا يصلح فيه عمل الدنيا؛
فينبغي للعبد أن يتخلى فيه لعمل البر ما استطاع، أو ما هذا معناه، وقد رُوي في
فضل رمضان أحاديث كثيرة،أكثرها بين موضوع وضعيف، وحسبك من الصحيح
ما ذكرناه.
* * *
فصل فيما يثبت به الصوم والفطر
(7)
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت
الهلال يعني رمضان فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟) قال: نعم. قال (أتشهد
أن محمدًا رسول الله؟) قال: نعم. قال: (يا بلال أذِّن في الناس فليصوموا غدًا)
رواه الشيخان وأصحاب السنن عن عكرمة عن ابن عباس. وفي رواية لأبي داود:
فأمر بلالاً؛ فنادى في الناس أن يصوموا وأن يقوموا. وفي حديث آخر عند أبي
داود: أن النبي عليه السلام اكتفى مرة بشهادة ابن عمر في الصيام. وهو حجة على
ثبوت الصوم بشهادة رجل واحد.
(8)
عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالله لأهلَاّ الهلال أمس عشية فأمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يفطروا. رواه أحمد وأبو داود وزاد في رواية:
وأن يغد إلى مصلاهم.
(9)
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه
فأفطروا فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له) رواه الشيخان والنسائي وابن ماجه من حديث
ابن عمر. وفي رواية للبخاري وغيره: (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا
حتى تروه فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وفي رواية لمسلم وغيره: (الشهر
هكذا وهكذا) ، وأشار بالعقد إلى 29 و30، وفي لفظ للشيخين: (صوموا لرؤيته
فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ، وظاهر أن الكلام في رؤية الهلال
وعدمها. ومعنى اقدروا له: احسبوا وقدروا، يقال قدره (من بابي ضرب ونصر)
وأقدره وقدر له. وغبي هنا: بمعنى غم في الروايات الأخرى أي لم يظهر.
والأحاديث نص في أن العبرة برؤية الهلال لا بحساب الحاسبين وتقاويم
المنجمين؛ وذلك أن هذا الدين عام للبدو والحَضَر فوجب أن تكون مواقيت عباداته
معروفة عند عامة المكلفين، غير مخصوصة بطائفة الحاسبين وجاء في بعض
الروايات (وانسكوا له) فمواقيت الحج تعرف برؤية الهلال أيضًا.
(عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام (قال) : فقدمت فقضيت
حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة
في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت
رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس، وصاموا،
وصام معاوية فقال: ولكنّا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين
أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم: رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
الأظهر أن المشار إليه بقوله: (هكذا أمرنا رسول الله) هو قوله: (لكنا
رأيناه ليلة السبت
…
)
…
إلخ، فإنه هو المنطوق الموافق للمروي، وقيل إنه أشار
إلى ما يفهم من قوله من عدم اعتداد أهل بلد برؤية أهل بلد آخر وهو غير مروي في
المرفوع ولا هو صرح به فنكتفي بروايته فالراجح إذًا حمل قوله على المروي
المعروف. وقد اختلف علماء السلف في المسألة فقيل يعتبر كل أهل بلد رؤيتهم بَعُدَتِ
البلاد أو قَرُبَتْ، وقيل لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر إلا إذا ثبت عند
الإمام الأعظم فبلغه؛ لأن حكمه نافذ في جميع البلاد وقيل: إن تقاربت البلاد كان
حكمها واحدًا وإن تباعدت عمل كلٌّ برؤيته، واختلفوا في حد البعد فبعضهم ناطه
باختلاف المَطَالع وهو الوجه العلمي وبعضهم ناطه بمسافة القصر، وهو قياس فقهي
وقد رجح النووي وغيره من الشافعية كل واحد من القولين وقطع بكل منهما جماعة من
الفقهاء.
ونقول: إذا اختلفت الرؤية في البلاد المتقاربة فإن كان هناك حاكم شرعي
ورجّح شهادة وبلّغها للناس وجب أن يعتمدوا عليها ولا يلتفتوا لرؤية الآخرين
لينضبط الأمر ولا يكونوا فوضى في إقامة ركن من أركان دينهم، هذا صائم وهذا
مفطر، وإن اختلفت في البلاد المتباعدة فهناك النظر والاجتهاد وقد رأيت أن بعضهم
اعتبر البُعْد باختلاف مطالع القمر وبعضهم اعتبره بمسافة القصر والأول يستلزم
تحكيم علماء الفلك وقد ذكرنا أن غرض الشرع أن يجعل ما تعرف به مواقع العبادة
عامًا يعرفه العوام والخواص حتى لا يتحكم الكبراء في المسائل الدينية كما فعلوا
في الأمم السالفة؟
والثاني يمكن أن يتجه لو ورد حديث يذكر فيه اختلاف الحكم ببعد البلاد فيقال
حينئذ: إن مسافة القصر هي البُعْد الشرعي الذي تختلف به الأحكام.
وهناك وجه آخر في البعد والقرب ربما كان أجدر بالاعتبار وهو أن البلاد
المتصلة التي بين أهلها امتزاج وتعامل كالبلاد المصرية كلها تعد بلادًا متقاربة ولا
ينبغي أن يكون بعض أهلها مفطرًا وبعضهم صائمًا، بحجة اختلاف الرؤية، فإذا
ثبتت الرؤية في بعضها يصوم الجميع وإلا أكملوا عدة شعبان ثلاثين وصاموا
متفقين وما يفعلونه الآن في الأقطار الإسلامية من الإثبات في مكان وإعلام الآخرين
به حسن في ذاته وغير حسن ما يحتف به من البدع.
وأما البلاد التي لا صلة بينها قوية سهلة ولا تعامل بينها إلا بمهاجرة بعض
أهلها من إحداها إلى الأخرى فلا بأس باعتبار كل ما يثبت عنده وإن تيسر إعلام
كل قطر الآخر بنبأ البرق الذي يؤمن تزويره، ولو كان للمسلمين إمام أعظم يُنْفِذ
حكمه الشرعي في جميع بلادهم وتيسر له إعلامهم بما يثبت عنده من الرؤية
وصاموا بذلك لكان له وجه من الحسن واتجه قال ابن الماجشون.
_________
(*) الفوق بالضم: مشق رأس السهم حيث يقع الوتر وهو إذا انكسر تعذر الرمي به والمراد بكسر الفوق إفساد البأس وإضعاف النفس، والفوق أيضًا: الحظ الكامل من النهي.
الكاتب: محمد رشيد رضا
أحاديث في الوقف
نشر المقطم في الشهر الماضي مقالةً بإمضاء (عزيز خانكي) بحث فيها
كاتبها في الوقف والمحاكم الشرعية وزعم أن الوقف ليس من الدين الإسلامي في
شيء واستدل على ذلك بعدم ورود شيء في مشروعيته في القرآن الشريف أو في
السنة، قال:(إلا حديثًا واحدًا في كتاب ابن ماجه) وقد كتبتُ نبذة في بيان نقض
زعمه هذا نُشرت في المقطم أيضًا ذكرت فيها أنه ورد في الوقف عدة أحاديث
رواها الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه الذي اعترف
به الكاتب دون غيره لعدم اطِّلاعه على كتب الحديث؛ لأن الصحيحين أوْلى منه
بالذكر إلا أن يكون أراد إيهام الناس أن الحديث محتمل للطعن فيه؛ فإن في سنن
ابن ماجه ما طعن المحدثون في إسناده، وعند ذلك يكون غير طالب للحق، ولا
مقرر له؛ فأحسن ما يحمل عليه زعمه أنه لم يَرَ في الوقف إلا حديث واحد لابن
ماجه هو عدم الاطلاع، وليس هذا طعنًا في الكاتب فإنه ليس عالمًا مسلمًا فيُعاب
بعدم الاطلاع على السنة، لا سيّما في هذا الزمن وهذه البلاد التي قلما ترى في
علمائها من يشتغل بالحديث.
وذكرت فيها غير الصحيحين وأصحاب السنن ممن روى أحاديث الوقف كابن
أبي شيبة وعبد الرزّاق والطبراني والطحاوي وابن جرير وابن عساكر.
وقد بلغنا أن عزيز أفندي خانكي قد اعتمد في نفي ما عدا حديث ابن ماجه من
أحاديث الوقف على شيخ مسلم له هوى في ذلك، وأنه عاد إليه بعد ما رددنا قوله
وكلمه في ذلك، وأجابه بأن الحديث واحد وهو مروي في جميع تلك الكتب. ثم
رأيت بعد ذلك مقالة أخرى في المقطم لداود بك عمون المحامي الشهير ذكر فيها
مقالة عزيز أفندي، وزعمه أنه لم يَرِد في الوقف إلا حديث واحد، وذكر ردنا عليه
وزعمنا أنه ورد عدة أحاديث وكتب هنا هذه الكلمة (وإن لم يذكرها) فيظهر أن
القوم يظنون أن الحجة تنهض له في عدم مشروعية الوقف إذا ثبت أنه لم يرد فيها
إلا حديث واحد. والصواب أن المشروعية تثبت بحديث واحد إذا كان ثابتًا يحتج به
وزيادة عدد الأحاديث لا يزيد الحكم مشروعية. وإنما ذكرت في الرد على عزيز
أفندي خانكي أسماء المحدّثين الذين رووا أحاديث الوقف، وذكرت أن حديث عمر
قد رواه أحمد والبخاري ومسلم لبيان أن الحديث صحيح وإزالة توهم ضعفه بانفراد
ابن ماجه به. ثم إن كون الشيء من أمور الدين لا يتوقف على ورود شيء فيه
بخصوصه؛ بل يكفي دخوله في بعض النصوص العامة، ولذلك كان وقف أبي
طلحة - رضي الله تعالى عنه - عملاً بعموم قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى
تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، وكل عمل يُعمل لأجل التقرب إلى الله
تعالى- بكونه برًا، ويدخل في عموم النصوص التي لا معارض لها - فهو من أمر
الدين. ونذكر هنا بعض ما ورد في وقف أشهر الصحابة ومشروعية الوقف:
(وقف عمر)
عن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله
أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال:
(إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب
ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على
مَن وليها أنْ يأكل منه بالمعروف ويطعم غير متموّل، وفي لفظ: غير متأثل مالاً
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة. وفي حديث عمرو بن دينار قال في
صدقة عمر: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكل صديقًا له غير متأثل، قال:
وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم،
أخرجه البخاري. وفي رواية له: (تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب ولا يورث
ولكن ينفق ثمره) ، فما شرط عمر ما شرط إلا بأمر صريح. وجاء هذا أيضًا
مرفوعًا في رواية البيهقي. وفي رواية الدارقطني زيادة: (حبيس مادامت
السموات والأرض) فاشتراط هذه الشروط بأمر الشارع وإجازته دليل على أنها
مشروعة وأنها من أعمال الدين. قال في منتقى الأخبار: وفي الحديث من الفقه أن
من وقف شيئًا على صِنف من الناس وولده منهم دخل فيه. يريد أن ابن عمر من
ذوي القربى على أن المراد بهم قرابة عمر الواقف وهو ما جزم به القرطبي وقيل
إن المراد بهم: مَن له الحق في الخُمس. والولي على الوقف هو ما يسمونه اليوم
(ناظر الوقف) ، وفي رواية ابن أبي شيبة والعدني أن عمر أوصى به إلى حفصة
أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من ولد عمر. أي الأكبر فالأكبر وفيه أن الولاية على
الوقف تكون بعهد من الواقف ولعل عبد الله وليه بإذن حفصة أو بعدها.
(وقف عثمان)
عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وليس بها ماء
يُستعذب غير بئر رومة (بالضم) فقال: (من يشتري بئر رومة فيجعل فيها
دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة) فاشتريتها من صلب مالي.
ذكره البخاري تعليقًا ورواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن، وفيه جواز
انتفاع الواقف بوقفه العام. أخذ الترمذي ذلك من قوله (فيجعل فيها دلوه مع
دلاء المسلمين) .
(وقفُ عليٍّ)
عن عمرو بن دينار أن عليًا تصدق ببعض أرضه جعله صدقة بعد موته
وأعتق رقيقًا من رقيقه وشرط عليهم أنكم تعملون في هذا المال خمس سنين.
رواه عبد الرزاق في الجامع. وعن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم خرج في جيش فأدركته القائلة وهو ما يلي الينبع فاشتد عليه حر النهار فانتهوا
إلى سمرة (شجرة السمر) فعلقوا أسلحتهم عليها وفتح الله عليهم فقسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم موضع السمرة لعَلِيٍّ في نصيبه، قال فاشترى إليها بعد ذلك فأمر
مملوكيه أن يفجروا لها عينًا فخرج لها مثل عين الجزور فجاء البشير يسعى إلى علي
يخبره بالذي كان فجعلها علي صدقة فكتبها صدقة لله يوم تبيض وجوه وتسود
وجوه ليصرف الله بها وجهي عن النار صدقة بتة بتلة في سبيل الله للقريب
والبعيد في السلم والحرب واليتامى والمساكين وفي الرقاب. رواه ابن جرير.
وروى ابن عساكر عن أبي معشر قال: كان علي بن أبي طالب اشترط في صدقته
أنها لذوي الدين والفضل من أكابر ولده. ولعله يعني الولاية عليها.
(وقف أبي طلحة)
عن أنس أن أبا طلحة قال: يا رسول الله إن الله يقول: {لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) وإن أحب أموالي إلي بَيْرَحاء وإنها
صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال:
(بَخٍ بَخٍ ذلك مال رابح مرتين، وقد سمعت، أرى أن تجعلها في الأقربين) ؛
فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه،
رواه أحمد والشيخان. وفي رواية لما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُوا البِرَّ} (آل
عمران: 92) إلخ، قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك
أني جعلت أرضي بيرحاء لله.. إلخ، وفيه أنه جعلها في حسان وأُبَيِّ بن كعب.
وفي رواية أنه قال له: (اجعلها في فقراء أقاربك) . وبَيْرَحاء بفتح الموحدة وسكون
التحتية وفتح الراء تمد وتقصر ومعناها: الأرض المنكشفة.
(وقف جماعة آخرين من أكابر الصحابة)
روى ابن جرير عن محمد بن عبد الله القرشي قال: حبس عثمان بن عفان
والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله دورهم، وهناك روايات أخرى للبيهقي في
وقف أبي بكر وسعيد وعمرو بن العاص وحكيم بن حزام وأنس وزيد بن ثابت،
وصح في وقف المنقول مرفوعًا أن خالدًا احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله.
أما الأصل في الحث والترغيب الصريح من الشارع على الوقف فقد ورد فيه
حديث أبي هريرة المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام (إذا مات الإنسان انقطع
عمله إلا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه
أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، قال العلماء: لو جاز بيع الوقف لما
كانت الصدقة جارية بل لكانت منقطعة. وحديثه أيضًا: (من احتبس فرسًا في
سبيل الله إيمانًا واحتسابًا فإن شبعه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة حسنات)
رواه أحمد والبخاري، وهو دليل على جواز وقف المنقول وقد فعله بعض الصحابة
كما تقدم.
هذا ما أردنا أن نذكره في توضيح الرد على من زعم أنه لم يرد في الوقف
شيء من الأحاديث إلا حديث ابن ماجه في وقف عمر وقد ذكره مختصرًا. ولو
أردنا أن نذكر مذاهب العلماء وما استنبط من هذه الأحاديث من الأحكام لضاق دون
ذلك المقام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه السابع والعشرون) : أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا
تنحصر ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا، فلا يكون اتفاقهم إلا حقًّا،
ومن المُحال أن يحيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط، ولا ينحصر، ولم يضمن لنا
عصمته من الخطأ، ولم يقم لنا دليلاً على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله
من الآخر؛ بل يترك قول هذا كله، ويؤخذ قول هذا كله محال أن يشرعه الله أو
يرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولاً والآخر كاذبًا على الله، فالغرض حينئذٍ
ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم.
(الوجه الثامن والعشرون) : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بدأ
الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) ، وأخبر أن العلم يقل، فلا بد من وقوع ما
أخبر به الصادق، ومعلوم أن كتب المقلدين قد طبقت شرق الأرض وغربها، ولم
تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت، ونحن نراها كل عام في ازدياد وكثرة،
والمقلّدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه وشهرتها في الناس خلاف الغربة؛
بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره فلو كانت هي العلم الذي بعث الله به رسوله
لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور وهو خلاف ما أخبر
به الصادق.
(الوجه التاسع والعشرون) : أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم
وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه؛ بل هو حق يصدق بعضه بعضًا ويشهد
بعضه لبعض وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً
كَثِيراً} (النساء: 82) .
(الوجه الثلاثون) : أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدًا دون عمرو؛ بل
يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين. فإن كان قول مَن قلده
أولاً هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه. وهذا محال وإن
كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق، وإن قلتم: القولان
المتضادان المتناقضان حق فهو أشد إحالة ولا بد لكم من قِسْم من هذه الأقسام الثلاثة.
(الوجه الحادي والثلاثون) : أن يقال للمقلد بأي شيء عرفت أن الصواب مع
من قلدته دون مَن لا تقلده؟ ! فإن قال: عرفته بالدليل، فليس بمقلد. وإن قال:
عرفته تقليدًا له فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه
يمنعه أن يقول غير الحق. قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ؟ فإن
قال بعصمته أبطل، وإن جوّز عليه الخطأ قيل له فما يؤمّنك أن يكون قد أخطأ فيما
قلدته فيه وخالف فيه غيره. فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور. قيل: أجل، هو
مأجور لاجتهاده وأنت غير مأجور لأنك لم تأتِ بموجب الأجر؛ بل قد فرطت في
الاتباع الواجب فأنت إذًا مأزور. فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه
عليه، ويذم المستفتي على قبوله منه وهل يعقل هذا؟ قيل: المستفتي إن قصّر
وفرّط في معرفة الحق مع قدرته عليه لحِقه الذم والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر
فيما أمر به واتقّى الله ما استطاع فهو مأجور أيضًا. وأما المتعصب الذي جعل
قول متبوعه عيارًا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها بها فما وافق قول
متبوعه منها قبله وما خالفه ردّه فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر
والصواب.
وإن قال: وهو الواقع - اتبعته وقلدته ولا أدري أعلى صواب هو أم لا
فالعهدة على القائل وأنا حاكٍ لأقواله. قيل له: فهل تتخلص بهذا من الله عند
السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به؟ فو الله إن لِلْحكام والمفتين
لموقفًا للسؤال لا يتخلص فيه إلا مَن عرف الحق وحكم به، وعرفه وأفتى به، وأما
من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء.
(الوجه الثاني والثلاثون) : أن تقول: أخذتم بقول فلان لأن فلانًا قاله أو لأن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله. فإن قلتم: لأن فلانًا قاله، جعلتم قول
فلان حجة وهذا عين الباطل. وإن قلتم: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قاله، كان هذا أعظم وأقبح فإنه مع تضمنه للكذب على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وتقوّلكم عليه ما لم يقله، وهو أيضًا كذب على المتبوع؛ فإنه لم يقل
هذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما:
إما جعل قول غير المعصوم حجة. وإما تقويل المعصوم ما لم يقله - ولا بد من
واحد من الأمرين، فإن قلتم: بل منهما بد، وبقي قسم ثالث؛ وهو أنَّا قلنا كذا لأن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن نتبع مَن هو أعلم منا، ونسأل أهل
الذكر إن كنا لا نعلم، ونرد ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم فنحن في ذلك
متبعون ما أمرنا به نبينا. قيل: وهل نُدَندن إلا حول اتباع أمره صلى الله عليه
وآله وسلم فحيَّهلاً بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتم الإيمان والإسلام إلا به
فنناشدكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول من قلدتموه؛ هل تتركون قوله لأمره
صلى الله عليه وآله وسلم وتضربون به الحائط وتحرمون الأخذ به، والحالة هذه
حتى تتحقق المتابعة كما زعمتم أم تأخذون بقوله وتفوضون أمر رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إلى الله، وتقولون هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم منا ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو مُعارَض بما هو أقوى منه
أو غير صحيح عنده؟ ! فتجعلون قول المتبوع محكمًا وقول الرسول متشابهًا فلو
كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله لقدمتم قول الرسول أين كان،
ثم نقول في:
(الوجه الثالث والثلاثون) : وأين أَمَرَكم الرسول بأخذ قول واحد من الأمة
بعينه وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول وهل هذا إلا نسبة
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنه أمر بما لم يأمر به قط. يوضحه.
(الوجه الرابع والثلاثون) : أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم، فإن الله سبحانه
أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن
يذكرونه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب:
34) ؛ فهذا هو الذكر الذي أمرنا باتباعه وأمر مَن لا علم عنده أن يسأل أهله
وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزل على رسوله
ليخبروه به فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه وهذا كان شأن أئمة أهل العلم، لم يكن
لهم مقلد معين يتبعونه في كل ما قال فكان عبد الله بن عباس يسأل الصحابة عما
قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو فعله أو سنَّه لا يسألهم عن غير ذلك
وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصًا عائشة عن فعل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في بيته وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن
نبيهم فقط وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله أنت أعلم
بالحديث مني فإذا صح الحديث فأعلمْني حتى أذهب إليه شاميًّا كان أو كوفيًّا أو بصريًّا
ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده
ويخالف له ما سواه.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطبة مِنبرية
نموذج من خطب الشيخ عبد الحق البغدادي الأزهري
إمام وخطيب المسجد ذي المنارات في بمبي (الهند)
الحمد لله الذي أعزّ مَن أطاعه، وأذل مَن عصاه، الحكيم الذي أنزل على
النبي الكريم كتابًا، مَن تمسك به فاز بالسعادة في دنياه وأُخراه، ومَن أعرض عنه
أخزاه وأرداه، وبثوب الهوان كساه، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه
وأستغفره، وأسأله التوفيق للسعي والعمل، والابتعاد عن الخمول والكسل، وأشهد
أن لا إله إلا الله، الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والصاحبة والولد، وأشهد أن
سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، قام بأمر ربه خير قيام، اللهم صلِّ عليه وعلى
آله وأصحابه، الذين أزالوا ظلمات الكفر بنور الإسلام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الناس:
اعلموا أن السبق في مضمار الحياة الدنيوية لا يُنال إلا بالمثابرة على العمل،
والسعي الحثيث، وتقوية الأمل، والاتحاد والاتفاق، والمحبة والوفاق، والتكافل
والتضامن، والتناصر والتعاون، كما لا يأتي التقصير والفشل إلا من الضجر
والكسل، وترك الأسباب والتمسك بشعرات الاتكال، وفتور العزائم في الأعمال،
والتباغض والتخاذل والتحاسد، والتفرق والاختلاف وعدم التعاضد.
ألا وإن الديانة الإسلامية والشريعة المحمدية أمرت بالاشتغال للمعاش والمعاد،
وحثَّت على ترقية النفوس وتقوية الأجساد، وبينت مطالب الحياتين الدنيوية
والأخروية، ووضعت قوانين للعمل لها واضحة جلية، وقد رتبت حصول الدنيا
على إقامة الدين، والتمسك بحبله المتين، كما جعلت أكثر أسباب الفوز بالسعادة
الأخروية موقوفًا على إصلاح الحالة الدنيوية، فلا ينال المسلمون في الدنيا فلاحًا
وعزة ونجاحًا إلا بالدين، ولا يحصدون في الآخرة خيرًا ورضوانًا إلا بإصلاح
مزرعتها ورب العالمين.
فقد دلت الآثار وأفادت الأخبار أن المسلمين لما كانوا متمسكين بالدين،
عاملين بالقرآن العظيم، وسُنة خاتم المرسلين - انقادت لهم الدنيا بأسرها،
وأطاعتهم أمم المعمورة من عربها وعجمها؛ فدوخوا الممالك، ووطأوا بسنابك
خيولهم معظم عواصم المعمور، وما استقروا في مكان إلا مصَّروا الأمصار،
وشيدوا للعلوم خير دار، وأقاموا للمجد والسيادة دعائم، وأحْيَوْا للسياسة معالم،
ورفعوا للدين المنار؛ فأضاءوا للإسلام طريق الانتشار، فانتشر شرقًا وغربًا،
وشمالاً وجنوبًا، ينصب أعمدة المدنية الإسلامية على أساس المحبة القومية،
والمساواة بين أفراد الأمم بلا استثناء، ويُفهمهم أن الأمة كجسم واحد لا تستقيم
أمورها إلا بانتظام سائر الأعضاء، على تلك الحال قضت تلك العصابة المؤمنة
حياتها النشيطة، وها هي آثارها نصب أعيننا منتشرة في أطراف البسيطة -
تخبرنا بأنها فازت من قداح العز والعظمة والجاه في الدنيا بالمعلى والرقيب،
وستنال في العُقبى من الرضاء والخير أوفر نصيب.
أما نحن الخلف الطالح لذلك السلف الصالح فقد هدمنا كل ما شادوه، وأتلفنا
جميع ما أوجدوه وضيعنا سائر ما تركوه، وطمسنا معالم ما أوضحوه، وشوهنا
وجه ما زينوه، وتسربلنا بثياب الرضوخ للمهانة والضَّعَة، وفقدنا أخلاق الشهامة
والشمم والشجاعة، فلم نفُز من الدنيا بغير الخسران، والعِوَز والهوان، ولَجزاءُ
الآخرة أشد وأخزى، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء:
227) ، وما كان تغيُّر حال المسلمين من ذلك العز والرفعة إلى هذا الذل والضعة إلا
بعد أن أعرضوا عن الدين، ولم يأتمروا بأوامر ربهم، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ?، أفليس من الفضيحة والعار أن
تصيروا - معاشر المسلمين - إلى هذا الصَّغار، والإسلام أمامكم، والقرآن مرشدكم،
وكذلك كان بين الأمم شأنكم، ألم يأنِ لكم أن تتركوا الأباطيل والأوهام، وتتجنبوا
الخرافات التي ألحقت بكم الأضرار الجِسام، وتقيموا الدين الصحيح غير مشوب
ببدعة؛ لتنالوا رضوان الله والغِنَى والرفعة، فاتقوا الله عباد الله، وعودوا إلى التمسك
بالدين يَعُدْ لكم عز آبائكم الأولين، وارجعوا إلى العمل بالقرآن العظيم يرجع لكم بين
الأمم مقامكم القديم، وحافظوا على إقامة السُّنّة يحفظْكم الله من كل محنة، وأنيبوا إلى
الله فإنه يقبل مَن أناب، وتضرّعوا إليه قائلين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) .
(الحديث) : عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (مَن تعلَّم كتاب الله،
ثم اتبع ما فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب) ،
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنِ اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا، ولا
يشقى في الآخرة) ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد تركتكم على مثل
البيضاء، ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها إلا هالك) .
(التلاوة) {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي
هُدًى} (طه: 123) 0 0 0الآيات.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة والأجوبة
هل الدراسة عذر في ترك الصوم؟!
(س1) هل الدراسة عذر في ترك الصوم؟ - من تلميذ بمدرسة مسيحية
في مصر!
أرجوكم أن تتكرموا بإجابة سؤالي هذا، لا زال مناركم ضياء المسلمين، وكعبة
السائلين: كنت السنة الماضية بإحدى المدارس الأميرية، وكنت أستيقظ (في
رمضان) الساعة 8 ونصف، وأحضر من المدرسة، وأنام توًّا إلى المغرب ثم
أفطر وأذاكر دروسي إلى الساعة 10 وأنام، وأستيقظ للسحور الساعة 3، وأنام
ثانية الساعة 5 وأستيقظ صباحا الساعة 8 ونصف وهلم جرًّا.
وأما في هذه السنة فأصبحت في مدرسة أهلية مسيحية، وأريد أن أشتغل في
دروسي زيادة عن المطلوب! ولا يمكنني أن أنقطع عن الحصص أو بعضها؛
لأنني إذا فعلت ذلك لا يمكنني إلا أن أنقطع النهار كله فإذا لازمت الطريقة التي
كنت أفعلها وأنا في المدرسة الأميرية تعطلت عن المدرسة مدة شهر رمضان
وناهيك بعطلة شهر للتلميذ، فأنا إذن ملزم بأن أستيقظ الساعة 7، وأحضر من
المدرسة الساعة 5 تقريبًا؛ ولكنني لا أقدر أن أصوم مع الشغل طول النهار، فهل
يجوز لي أن أفطر أم لا يا مولاي؟ !
(ج) إن أكثر المسلمين يعملون في رمضان من أول النهار؛ أي قبل
اشتغال المدارس بدروسها إلى قبيل المغرب، فلا أرى أن السائل وقع في عمل شاق
لا يستطيعه الشاب في هذه الأيام القصيرة المعتدلة التي لا حر فيها، ولا زمهرير،
وما هو إلا أن عادته تغيرت بعض التغيير، ولو كان رمضان في الصيف لكان
تلامذة المدارس الأميرية يشتغلون بالمدارسة مع مكابدة مشقة الحر في الصيام أكثر
مما يشتغل غيرهم في المدارس النصرانية الآن، ولا شك أن المسلمين منهم
يصومون في الصيف كما يصومون في الشتاء. وأعني بالمسلمين الذين عرفوا
الإسلام وتربّوا عليه لا المسلمين الجغرافيين، الذين يعدون في إحصاء الحكومة
المصرية بتسع ملايين.
وأرى أنه عرض للسائل وهْم من زيادة الدراسة عليه في هذه السنة ساعتين
وتوهم أن سيصيبه من ذلك الجهد والمشقة، وأن هذا عذر يبيح الإفطار ولا مشقة
هناك تبيح الفطر في هذا العمل الاختياري إلا أن يكون هناك ضعف أو مرض.
وإنني أرجو الله تعالى أن يعينه إذا غلَّب دينَه وعقلَه على وَهْمِه، وجرّب
وصام، فلا يجد من الجهد ما يتوهمه الآن.
* * *
سؤال المَلَكين
(س2) - محمد أفندي حلمي كاتب سجون حلفا: هل يوجد حقيقةً ملكان
يسألان في القبر وما هي كيفية سؤالهم؟
ورد في أخبار صحيحة أن هناك ملكين يسألان الميت بعد موته عن الإيمان
بالله ورسوله وأن السؤال يكون بصيغة التشكيك مثل: (ما تقول في هذا الرجل
الذي بُعث فيكم؟) ، ويسمى هذا السؤال فتنة القبر ويسمى الملكان السائلان فتَّانا
القبر. والفتنة معناها الاختبار. وقد حمل أكثر المسلمين القول على ظاهره وأوَّله
بعضهم كالمعتزلة. أما كيفية السؤال فلا يعرفها إلا مَن عرف حقيقة الملائكة
والأرواح المجردة، ونكتفي بأن نقول: إنها أمور غيبية تُبنَى على التسليم كسائر
أمور الآخرة التي يصح النقل عندنا بها ولا حاجة إلى تأويل ما لم يكن ظاهره
مستحيلاً عقلاً، ولا نكفّر مَن أوَّل الخبر وأخرجه عن ظاهره، ولا من أنكر صحته
إذا لم يكن متواترًا معلومًا من الدين بالضرورة. وليراجع ما كتبناه في مسألة عذاب
القبر في المجلد الخامس.
***
كروية الأرض
(3)
ومنه: هل يوجد دليل في القرآن الحكيم على أن الأرض كروية؟
(ج) إن الله تعالى أنزل القرآن هاديًا للناس، ومصلحًا لأرواحهم ومبينًا لهم
ما يتعذر عليهم الوصول إليه بغير الوحي، ولو أنزله لبيان أحوال المخلوقات لكان
ألوفًا من المجلدات، ولكن فيما يذكره تعالى في الاستدلال على قدرته وحكمته ما
يفهم منه أن الأرض كروية كقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ
عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5)، وقوله تعالى:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54) .
***
ليلة نصف شعبان
(س4) ومنه: هل ورد في ليلة النصف من شعبان والدعاء المختص بها
أحاديث صحيحة يعمل بها؟
(ج) إن اتخاذ هذه الليلة موسمًا من مواسم الدين من البدع الحادثة في
القرون المتوسطة، وهذا الدعاء ابتدعه أحد الجهال وما يقولونه في فضائل الليلة
غير صحيح، وقد رأيتم في النبذة السادسة من رد شبهات النصارى على القرآن
العزيز (في الجزء الثاني عشر) بيان خطأ القائلين: إن ليلة النصف من شعبان هي
الليلة التي فيها قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) ،
وإثبات أن هذه هي ليلة القدر المجهولة وأن الأمر الحكيم هو أمر الوحي والشريعة؛
لأنها الليلة التي نزل فيها الكتاب المبين. وقد ذكرنا في الجزء الذي صدر في 16
شعبان سنة 1318 (من السنة الثالثة) بدع ليلة النصف من شعبان ومنكراتها،
وهي 15 بدعة وسادس عشرها الدعاء المعروف الذي لم ينزل الله به من سلطان.
وذكرنا في موضع آخر من المنار أن الصلاة التي يروون استحبابها فيها من البدع
باتفاق المحدثين والفقهاء ولا عبرة بذكر الغزالي إياها في (الإحياء) بصيغة
الضعف فإنها مكذوبة لا ضعيفة.
وأمثل ما ورد في ليلة النصف من شعبان حديث ابن ماجه عن علي: (إذا
كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها) ، وهو حديث ضعيف
إلا أن العُبَّاد عملوا به من زمن طويل وأكثر الفقهاء على أن الضعيف يعمل به في
فضائل الأعمال المشروعة في جنسها؛ لأنها إذا لم تصح لم يكن العامل قد جاء
بمنكر. وقد زاد فيه عبد الرزّاق في مصنفه: (فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس
إلى السماء فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه حتى يطلع
الفجر) . قالوا أي ينزل أمره أو ملك بإذنه.
أورد في شرح الإحياء ما ورد في شعبان من الأحاديث وقول المحدثين في
وضعها واختلاقها، ثم قال ما نصه: وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في (العلم
المشهور) : حديث ليلة النصف من شعبان موضوع. قال أبو حاتم: محمد بن
حبان بن مهاجر يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث أنس
فيها موضوع أيضًا لأن فيه إبراهيم بن إسحق. قال أبو حاتم: كان يقلب الأخبار
ويسرق الحديث وفيه وهب بن وهب القاضي أكذب الناس) . ا. هـ وقال التقي
السبكي في (تقييد التراجيح) : الاجتماع لصلاة ليلة النصف من شعبان ولصلاة
الرغائب بدعة مذمومة. ا. هـ
وقال النووي: هاتان الصلاتان بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا
تغتر بذكرهما في كتاب القوت والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما
بقوله صلى الله عليه وسلم: (والصلاة خير موضوع) ؛ فإن ذلك يختص
بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في
الأوقات المكروهة اهـ.
قلت: وقد ذكر التقي السبكي في تفسيره أن إحياء ليلة النصف من شعبان
يكفر ذنوب السنة وليلة الجمعة تكفر ذنوب الأسبوع وليلة القدر تكفر ذنوب
العمر اهـ.
وقد توارث الخلف عن السلف في إحياء هذه الليلة بصلاة ست ركعات بعد
صلاة المغرب، كل ركعتين بتسليمه يقرأ في كل ركعة منها بالفاتحة مرة
والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة (يس) مرة
ويدعو بالدعاء المشهور بدعاء ليلة النصف، ويسأل الله تعالى البركة في العمر ثم
في الثانية البركة في الرزق ثم في الثالثة حسن الخاتمة، وذكروا أن مَن صلى هكذا
بهذه الكيفية أُعطي جميع ما طلب، وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين من
السادة الصوفية، ولم أَرَ لها ولا لدعائها مستندًا صحيحًا في السنة؛ إلا أنه من عمل
المشايخ، وقد قال أصحابنا إنه يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي
المذكورة في المساجد وغيرها. وقال النجم الغيطي في صفة إحياء ليلة النصف من
شعبان بجماعة إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء وابن
أبي مليكة وفقهاء أهل المدينة وأصحاب مالك، وقالوا ذلك كله بدعة ولم يثبت في
قيامها جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه شيء، واختلف
علماء الشام على قولين: أحدهما: استحباب إحيائها بجماعة في المسجد، وممن
قال بذلك من أعيان التابعين خالد بن معدان وعثمان بن عامر ووافقهم إسحق بن
راهويه. والثاني: كراهة الاجتماع لها في المساجد للصلاة وإليه ذهب الأوزاعي
فقيه الشام ومفتيهم اهـ.
يعني بقوله (أصحابنا) الحنفية. وإذا اتفق لبعض عباد التابعين إحياؤها
وزاد عليهم المتأخرون دعاءها وسائر البدع التي ذكرها ابن الحاج في (المدخل)
فهل ذلك ينافي كون صلاتها وكل ما يعملونه فيها بدعة مذمومة؟ كلا، إنها بدعة
زاد في قبحها جعْلها شعارًا دينيًا.
***
صيام رجب
(س5) : ومنه: هل ورد في صوم ثلاثة أيام من رجب، أو أقل قول؟
(ج) ورد في ذلك أحاديث موضوعة وواهية، وقد بيَّنَّا ذلك في المجلدين
الثاني والثالث، فلتراجع فيهما، وربما سقنا تلك الأحاديث كلها في فرصة أخرى
بالتفصيل.
***
التداوي بالخمر
(س6) : ومنه: إذا أمر أحد الأطباء المسلمين مريضًا مسلمًا بشرب مقدار
من الخمر لأجل التداوي فهل يوجد مانع شرعي من ذلك؟
(ج) اختلف العلماء في التداوي بالخمر، فمنعه بعضهم مطلقًا، وأجازه
بعضهم بشرط أن لا يقوم مقام الخمر غيرها في ذلك، ومَن عرف حكمة تحريم
الخمر وأسبابه (علم أن) التداوي الحقيقي لا يتحقق فيه التحريم؛ لأنه لا يسكر ولا
يضر، ولا يكون سببًا للعداوة والبغضاء، ولا يصد عن ذكر الله، ولا عن الصلاة؛
ولكن المؤمن المتقي يبعد عن المحرم بقدر الاستطاعة لئلا يأنس به، وكم من
متدين سولت له نفسه شرب الخمر بحجة التداوي مكابرة لشعورها الخفي بالشهوة،
ولم يكن هناك حاجة حقيقية إلى التداوي بالخمر إلا أن تكون كلمة يرمي بها فساق
الأطباء: اشرب كذا لأجل تقوية المعدة، فيشرب المغرور فينتعش فيعتاد فيدمن
فيكون من الفاسقين، ويضيع الدنيا والدين!
***
المرور بين يدي المصلي
(س7) ومنه: هل المرور من أمام المصلي يبطل صلاته ويوجب عليه
إعادتها وهل هو حرام أو مكروه كما شاع عند أغلب الناس؟
(ج) ورد في الأحاديث الصحيحة الأمر بأن يصلي المصلي إلى جدار أو
سارية أو سترة ولو عصا يغرزها أمامه ليعلم أنه يصلي. وورد في أحاديث
صحيحة النهي عن المرور بين يدي المصلي والأمر بمدافعة المار لإرجاعه حتى
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن
يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن
الأربعة وغيرهم، وظاهر النهي والوعيد أن ذلك حرام. وفي رواية للبخاري زيادة:
ماذا عليه من الإثم، وقيد أكثر العلماء ذلك بالمرور بين يدي المصلي إلى سترة وأن
من قصر في ذلك لا يحترم بترك المرور بين يديه وجوبًا، والظاهر أن ذلك ممنوع
على كل حال قصر المصلي أم لم يقصر. وما بين يدي المصلي هو ما بين موقفه
وسجوده وهو نحو ثلاثة أذرع وقد أخذوا هذا القيد من أحاديث وردت فيه لا محل
هنا لذكرها.
وأما قطع الصلاة وبطلانها إذا مر بين يدي المصلي مار فقد وردت فيها
روايات في أشياء مخصوصة ولم يأخذ بها الجمهور وورد أنه يقي من بطلانها أن
يكون بين يدي المصلي سترة مثل آخرة الرحل. فينبغي للمسلم أن يصلي إلى سترة
وأن لا يمر بين يدي مصلٍّ مطلقًا.
* * *
الصلاة بالنعلين
(س8) : إسماعيل أفندي لبيب بمصر: نرجوكم الإجابة عما إذا كان
يجوز للمصلي الصلاة بنعله (جزمته) أم لا وهل ثبت في السنة صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو محتذٍ النعل وإذا ثبت فهل كان ذلك للضرورة أو للتشريع؟
هذا ما نرجوكم التفضل بالإجابة عنه ليكون قولكم فصلاً بيني وبين مناظر آخر.
(ج) الصلاة في النعلين جائزة بالإجماع وقال المحدثون وكثير من الفقهاء
بأنها السنة فقد روى أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) وغيرهم عن أبي مَسْلمة
سعيد بن يزيد قال: سألت أنسًا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟
فقال: نعم. وروى أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه عن شداد بن أوس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في
نعالهم ولا خفافهم) . وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في
نعليه قذرًا أو أذى فليمسحه وليصلِّ فيهما) وروى أيضًا من حديث أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذِ بهما
أحدًا ليجعلهما بين رجليه أو ليصلّ فيهما) وروى أبو داود وابن ماجه من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي حافيًا ومنتعلاً. وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى أبي عبد الرحمن إلى ابن
أبي ليلى أنه قال: صلى رسول الله عليه وسلم في نعليه فصلى الناس في نعالهم فخلع
نعليه فخلعوا فلما صلى قال: (من شاء أن يصلي في نعليه فليفعل ومن شاء أن
يخلع فليخلع) ، قال الحافظ العراقي: وهذا مرسل صحيح الإسناد. وكان الصحابة
عليهم الرضوان يصلون في نعالهم ولكنهم كانوا ينظرون قبل الصلاة فإن رأوا فيها
نجاسة مسحوا بها الأرض حتى تزول عين النجاسة، قال ابن القيم: قيل للإمام
أحمد أيصلي الناس بنعالهم؟ وقال (إي والله) وترى أهل الوسواس إذا صلى
أحدهم صلاة الجنازة في نعليه قام على عقبهما كأنه واقف على الجمر، فاعلم من هذا
أن كلاً من الأمرين جائز فليفعل المسلم في كل وقت ما يكون أيسر له.
* * *
قضاء الفرض مع نية السنة
(س9) ح. ح. في قره طاغ (الجبل الأسود) :
قد شاع - أجلَّكم الله - في بلدنا هذا كتاب (نجاة المؤمنين) بلسان التركية
وهو من تصنيفات الحاج محمد أمين من علماء إسلامبول ونحن نجد فيه مسألة ما
سمعناها من علمائنا السابقين، ولا رأيناها في غير كتابه المسمّى بنجاة المؤمنين؛
فلهذا حصل لنا شبهة في صحة هذه المسألة، وهذه صورتها بالتركية:
مسألة سنتلري قضا نيتله قيلمق
جمله نك معلوميدركه فرض نمازلري ترك وقتندن جيقارمق بيوك عصيان
وقضايه قالمش نمازلري قيلمق فرضدر قيلمه ماس وتأخيري بيوك عصيان ونافله
عملري ترك ايتمك عصيان دكلدر وبوبيان اتفاقلدر.
خصوصيله أوزرنده فرض قضاسي أولو بده قضابي إيتمزدن نافله نماز قيلسه
قبول أولميوب ثوابي أولماز رسولمزك قول شربفي مجمع الفتاوى دن معلوم
أولمشدر كناري أوقويه لرديمشدر وكناره هكذاي:
رجل عليه صلاة مفروضة لا يجوز له التطوع؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (لا يقبل الله تعالى نافلة حتى يؤدى الفرائض) مجمع الفتوى، وفي
المضمرات: سئل ابن نجيم عمن عليه قضاء الصلاة فنوى سنة الفجر والظهر
والعصر والمغرب والعشاء عند قضاء فرض كل منهن، هل يكون تاركًا للسنة أم لا؟
فأجاب لا يكون تاركًا للسنة؛ لأن المقصود منها أن تجد صلاة في ذلك الوقت غير
فرضه رغمًا للشيطان وقد حصل، وفي النوادر قال: هذا أولى بعد ما حصل هذا؛
لأنه رُب رجل لا يقضي ما فاته من الفرائض ويصلي السنة؛ فيستحق العذاب ولا
يستحق العذاب لو ترك السنة. انتهى من (عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر) .
إنبهي كناره زيد بش وقت نمازي أزي إداي إيدركن أوقات خمسة نك
سنتلريني قضاي قلان نماز لرينه تعيين أيدوب قيلسه قضايه قالمش نمازي أداي
إيتمش أولورمي؟ الجواب أولور بوصورة مزبوره ده زيد قضا وسنت نماز لري
ثوابته نائل أولورمي؟
الجواب أولور مضمراتك فتواى سي بودر (ديمشدر) زيد أوز رنده فرض
قضاسي أولو بده قضائي قيلمز دن سنتلرى قبلرسه عذابه مستحق أولورمى؟
الجواب أولور. بوصورتده سنتلري ترك إيلسه عذابه مستحق أولورمي؟ الجواب
أولماز (نوادرك) فتواي سي (عيون بصائر) دن. بوصور تلرده زيد سنتلري
قضاي فيلمق مراد إيتد كده نه شكل نيت أيده جكدر؟ الجواب نيت إيلدم أولكي
أوزريمه قالمش صباح نمازينه بو وقتك سنتي مقامنه تكبير آله وسائر نماز لري
دخي بو يله نيت إيده. انتهى كلام الحاج محمد أمين في كتابه المسمى بنجاة
المؤمنين.
لنتعجب كيف يمكن قضاء الفوائت وأداء السنة بصلاة واحدة فينال الرجل
قضاء الفرض الذي فاته، ولا يكون تاركًا للسنة وكل ذلك بعمل واحد، نعم، إن الله
على كل شيء قدير ولكن ما تقولون أنتم - رحمكم الله - في هذه المسألة؛ لأن منا
من ذهب للعمل بقوله ومنا من لم يذهب وليس فينا عالم ليستيقظنا بحل المسألة ولا
كتاب كمجمع الفتوى والنوادر وغيرها مما ذكره الحاج محمد أمين أفندي، فالآن كما
هو فرض عليكم في كل حين وآن أن تنبهوا الغافلين من إخوانكم المسلمين بتحليل
المسائل الشرعية أينما كانوا.
أرجو توضيح هذه المسألة في مناركم في أسرع وقت؛ لأننا منتظرون جوابكم
كالمبرود ينتظر الشمس.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أفيدوا تؤجروا ثوابًا من عند الله الملك الديان.
(ج) ما ذكره مؤلف كتاب نجاة المؤمنين هو المعروف في كتب الحنفية،
وقد ثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نام مع أصحابه عن صلاة الصبح
حتى طلعت الشمس وأيقظهم حرها فصلاها بهم كما يصليها في وقتها، أذن بلال
وصلوا ركعتي السنة ثم صلوا الفريضة. والحديث في مسند الإمام أحمد وصحيحي
البخاري ومسلم وغيرهما، وهو يدل على أن السنن الراتبة تُقضى، وأنها تقدَّم
على الفريضة. وهنا مسألة أخرى وهي أن من فاتته فريضة بعذر كنوم ونسيان
وجب عليه قضاؤها، قيل فورًا، وقيل على التراخي، وقيل إنها تُصلَّى أداءً،
ومن فاتته بغير عذر وجب عليه قضاؤها على الفور لا أذكر في ذلك خلافًا. فإذا
كانت هذه الفوائت كثيرة فلا معنى لصرف الوقت بالنفل الذي معناه الزيادة على
الفرض، وكيف تتحقق الزيادة بدون تحقق الشيء المزيد عليه. وكيف يصرف
المكلف وقته في عمل لا يطالبه الله به بعد الموت ويترك فيه العمل الذي يطالَب به
ويعاقَب على تركه؟ !
هذا هو فقههم في الاقتصار على الفرض ولكننا قيدناه بترك الصلاة لغير عذر،
وأما الفقه في كونه يثاب على الفرض ثواب السنة والفرض جميعًا فهو من حيث
النية فقط كأن العبد يخاطب ربه: يا رب إنني أصرف وقتي هذا كله في الإنابة
إليك، وقضاء ما فاتني مما افترضت عليَّ وإن نفسي متوجهة إلى الزيادة والنفل؛
ولكنني بدأت بالأهم فأثبني على نيتي هذه بمضاعفة الأجر. وإذا كان الأصل في
الثواب هو تأثير العمل الصالح في إصلاح النفس وترقية الروح - فلا شك أن
الزيادة بالفعل، وهي صلاة السنة يكون لها أثر زائد على أثر الفرض فلا يكون
ثواب من يصلي السنة كثواب من يتركها وينويها مع الفرض.
وقد توسط علماء الشافعية فقالوا: إن السنن التي تتداخل ويُستغنَى ببعضها عن
الآخر هي التي لا تُقصد لذاتها كسنة الوضوء، وتحية المسجد، فإذا توضأ الإنسان
ودخل المسجد ووجد الإمام منتصبًا ونوى الفريضة مع سنة الوضوء وتحية المسجد
كان له ثواب الجميع؛ لأنه أدى الغرض من السُّنتين، فإن المراد أن يصلي الإنسان
بعد كل وضوء وعند دخول كل مسجد وقد فعل. وأما الرواتب ونحوها فلا بد
عندهم من فعلها لتحصيل ثوابها؛ لأنها مقصودة بذاتها، والحكمة فيها تكميل ما
يكون من التقصير في الفريضة، فإذا غفل القلب في الفريضة عن الله تعالى دقيقة
أو دقيقتين، وحضر مثل هذه المدة في السنة كان ذلك جبرًا للنقص وتكميلاً للفرض،
والله أعلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الهدايا والتقريظ
(النظام والإسلام)
للشيخ طنطاوي الجوهري أستاذ العربية في المدرسة الخديوية، ولوع بمزج
العظات والحِكَم الدينية بالكلام في محاسن الكون الطبيعية، وقد ألف في هذا كتابيه
(ميزان الجواهر) و (جواهر العلوم) اللذين سبق لنا تقريظهما وبيان مزيَّة هذه
الطريقة، ثم كتب بعدهما مقالات في ذلك جمعها محمد أفندي مسعود المحرر بالمؤيد،
وطبعها بمطبعة الجمهور فكانت كتابًا صفحاته نحو 320 من القطع اللطيف، وقد
قال المؤلف في مقدمة الكتاب ما نصه:
ولقد حدا بي شدة ولوعي وشوقي لمعرفة الكون أن جعلت أوقات الرياضة
لصرف عنان الفكر للتأمل في مصنوعات الله جل وعلا مؤثرًا تلك اللذة على ما
سواها بالطبع والغريزة، فكنت إذا هبت النسمات في الخلوات أو بين أغصان
الأشجار، أو غردت الأطيار وسمعت خرير ماء الأنهار تمثل لي من تلك الأصوات،
تجلي من مباهج تلك الألوان بهجة العلم وحكمة المبدع بأظهر مجلى، وأبدع
معنى، ومن هذا كانت هذه الخواطر المودعة في هذا الكتيب الذي سميته (النظام
والإسلام) ، ورتبته على مقدمة وثلاثة أقسام:(القسم الأول) في جمال الكون
ونظامه وميزانه؛ إذ يتجلى لقارئه كيف انتظم النبات ووزن بميزان حقيقي ويفهم
السر المكنون المعبر عنه بالميزان في آيات كثيرة كقوله: {وَوَضَعَ المِيزَانَ} (الرحمن: 7) ، ونحوه وبهذا قرنت الإسلام بالنظام تذكيرًا بأنه هو الذي أيقظني
إلى النظر في هذه العلوم النظامية في الكون. و (القسم الثاني) نموذج في كيفية
فهم قَصص القرآن الشريف، وما المقصود منها كسورة يوسف وسورة سليمان
عليهما السلام مما يتساءل عنه الدارسون للعلوم، المتشوقون للاطلاع، وكيف تدعو
تلك القصص إلى الملاينة والنظام كحكمة سليمان وآداب يوسف الخلقية ليزداد
المؤمن يقينًا، ويوقن الشاكُّون من إخواننا الشبان المسلمين. (القسم الثالث) فيما
يجب على الملوك والرؤساء والعلماء والحكام ودعاة الأمة والخطباء من الآداب
العامة الكافلة لنظامها كما انتظم الكون أجمعه بالنواميس العالية والملائكة الصافين.
والكتاب يطلب من طابعه وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة.
***
(واقعة السلطان عبد العزيز)
سبق لنا القول في مقالات (الترك والعرب) بأن إخواننا الترك قد سبقونا في
هذه الأيام بالاشتغال وتحصيل العلم، ومن جملة مزاياهم العلمية: تدوين تاريخهم
على الطريقة الحديثة في تأليف التاريخ وهي بيان الحوادث بعللها ونتائجها وبيان
العبرة فيها. ومن الكتب الحديثة في ذلك كتاب (واقعة السلطان عبد العزيز)
وضعه باللغة التركية أحمد صائب بك الكاتب التركي المشهور في مصر، وبعد أن
طبع بالتركية عرَّبه محمد توفيق أفندي جانا وطبع بالعربية.
وقد مهد المؤلف للكلام في السلطان عبد العزيز تمهيدًا بيَّن فيه ما توجه إليه
السلطان سليم الثالث من إصلاح الخلل الذي طرأ على الدولة العثمانية من أول
القرن الحادي عشر (الهجري) ، وما وضعه لذلك من القوانين والقواعد الوافية
بذلك ثم ما قام به بعده السلطان محمود من إصلاح الجيش وزلزلة التقاليد الزمنية
بتغيير زي رجال الدولة في اللبوس ثم ما وضع على عهد السلطان عبد المجيد من
قواعد المساواة بين الرعية.
ثم بين أن كل ذلك لم يؤثر في نهوض الدولة تحت أثقالها لسببين: أحدهما
معارضة الروسية للدولة. وثانيهما إهمال المعارف. ثم تكلم عن أحوال الباب العالي
في عهد السلطان عبد العزيز، وعن الصدور العظام في زمنه والإسراف والثورات
الداخلية في عهده وبيّن بعض فضائل فؤاد باشا وعالي باشا أعظم صدور الترك في
هذا العصر. (رحمهما الله تعالى) وما تشبَّثا به من أمور الإصلاح. ثم ما قام به
محمود نديم باشا الداماد من التخريب والهدم لكل جدار أقيم وركن بني خدمة للروسية،
ثم بين في فصل آخر سوء حال الإدارة في أواخر مدة السلطان عبد العزيز؛ أي بعد
موت عالي وفؤاد، وفيه الكلام عن تربية أولاد الأسرة المالكة، وعن صدارة
مدحت باشا وخدمة حسين عوني باشا العسكرية، وعن أحوال المالية، ومن ذلك
أن الدولة اقترضت في مدة إحدى عشرة سنة 4 مليارات و571 مليونًا و800 ألف
فرنك، ثم تكلم عن سعي أغناتيف سفير الروسية في الآستانة باستمالة السلطان
بمساعدة محمود نديم باشا، ونجاحه في ذلك، وعن الخلل الذي سرى في الدولة
بدسائس السفير البارع الصادق في خدمة دولته وعن تألُّب عقلاء العثمانيين لذلك،
وعن المطبوعات والجرائد والمطابع وتألف حزب العثمانيين الأحرار، وأولهم
الأمير مصطفى فاضل باشا المصري، وعن القصر السلطاني وحال النساء فيه،
وعن تكبر السلطان عبد العزيز وتعاظمه، وعن سوء استعمال الامتيازات التي
مُنحت لمصر وغير ذلك. وبعد ذلك كله انتقل إلى سعي مدحت باشا في مقاومة
هذا الاستبداد وظفره أخيرًا بخلع السلطان وتولية السلطان مراد.
من قرأ الكتاب لا يشك في أن الكاتب متحرٍّ للصدق محب مخلص لدولته
وجنسه، وقد انتقدنا اختصاره الذي قضى أن يكون سرد الحوادث والوقائع فيه قليلاً،
أما التعريب فسهل منسجم؛ ولكن فيه غلطًا كثيرًا، لا يخفى على العارف وثمن
النسخة منه عشرة قروش، وهو يطلب من إدارة جريدة (شوراي امت) بمصر.
***
(مراثي الأمة القبطية)
انتقد شاب قبطي رؤساء الدين في ملته بمقالات نشرها في بعض الجرائد
اليومية ثم رأى أن يجمعها ويزيد عليها، ويطبع ذلك كله ويوزعه رسائل متتابعة
يطلق عليها (النبذات) ، وقد صدرت النبذة الأولى منها، فعُلِمَ مما كتب على
غلافها أن سيكون مجموعها 12 نبذة، وقد قرأناها فعلمنا أن هناك شيئًا حقيقًا بأن
يُشكى منه، وليس لأمثالنا الحكم في جزئيات هذه الشكوى، وإنما ننظر في هذه
المسائل نظرًا عامًا، فنقول إن انتقاد نابتة الأمة لتقاليد الرؤساء، وتصرفهم هو من
علامات الحياة فيها، وإنّ تلقِّي الجماهير لهذا الانتقاد بالاستحسان والقبول دليل على
أن الحياة متمكنة، ومقابلتهم إياه بالسخط والاستهجان مِن أمارات ضعف الحياة،
وأن لنا في نهضة القبط الحديثة رأيًا ننشره في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
وثمن النبذة من هذه النبذ نصف قرش، وهي تطلب من المكتبة الشرقية ومن
كاتبها توفيق أفندي حبيب.
***
(مضار الزار)
الزار بدعة من أقبح البدع التي تُحدِثها النزعات الوثنية والاعتقادات الخرافية؛
كاعتقاد دخول الشياطين في أجسام الناس، وإحداث الأمراض فيها، وتعاصيها
عن الخروج منها إلا بأسرار الشيوخ التي تستنجد بها شيخة الزار في حفلته التي لا
تعرف في غير هذه البلاد الموبوءة بالشيوخ والشيخات والبدع والخرافات.
كان العقلاء يمقتون بدعة (الزار) ، وأهل الدين ينكرون ما فيها من الأوزار،
ولم يكن الأكثرون يعرفون منها إلا مَحْملاً من قبائحها، ورموزًا خفية من
فضائحها؛ لأنها من أسرار النساء المكتومة، ومكايدهن المشئومة، التي استعبدن
بها الرجال، وأفسدن بها عليهم الدين والعرض والمال، حتى شَمَّرَ في هذه الأيام
عن ساعد الجد والاجتهاد الشاب النشيط محمد حلمي أفندي زين الدين مترجم ديوان
الأوقاف وكشف الحجب والأستار، عن تلك المُخبآت والأسرار، فجمع إلى ما اكتشفه
بعض الناس من قبله ما لم يكتشفوه وأورد ذلك كله في قصة سمّاها (رواية مضار
الزار) بيَّن فيها كيف تستهوي شيخة الزار أفئدة النساء إلى هذا العمل الذميم حتى
تفتك بهن الأوهام فتكًا، بدايته الأمراض، ونهايته الموت الزؤام، وذكر في آخر
القصيدة الأناشيد التي ينشدونها في حفلة الزار، وهي جديرة بأن تكون فتنة للنساء
الجاهلات، ومؤثرة في نفوسهن الضعيفة، وعقولهن السخيفة، وربما ننشرها أو
نموذجًا منها في باب البدع والخرافات من جزء آخر، وقد طبعت هذه القصة
المفيدة على ورق جيد، وثمن النسخة منها نصف قرش فقط.
***
(الذمار)
جريدة اجتماعية أسبوعية يصدرها في الإسكندرية الشيخ شاهين الخازن
والشيخ نسيم العاذار، وغرضها الأول خدمة السوريين، والمدافعة عن حقوقهم،
والمنشئان أهلٌ لذلك فيما نعرف عنهما، والسوريون أجدر بالقيام بحقوق من يخدمهم،
فنتمنى للرصيفة الجديدة ما تستحقه من الرواج والانتشار.
وقيمة الاشتراك فيها 13 فرنكًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الجامعة الدينية والوطنية)
كتب إلينا صديقنا نسيم بك خلاط من وجهاء طرابُلس الشام ما يأتي (تأخر
وروده ثم نشره) .. مولاي الجهبذ الهمام:
أمسكت الكتابة عن سيدي أمدًا كاد يكون في نظري دهرًا وأنا - كما علمت -
يقيمني الشوق ويقعدني كل يوم إليه وذاك لأني كنت أُسَوِّف اللقاء، وأعلل النفس
بقرب الملتقى، في ربوع ظللها الصفا وتحت سماء خلت من أكدار العاذل والرقيب،
وكنت أقول للنفس المشتاقة: عنك ومشقة الكتابة ما دام لك في مغامزة الأرواح، ما
يغني عن مراسلة الأحباب، لكن وقد طال لهذا الآن الموعد خفت أن يحسب
السكوت لدى مولاي مللاً أو نكرانًا لجميله في تقريظ رحلتي في غربي أوربا جئت
الآن وأنا في أعالي لبنان بين رياض وغياض حيث الهواء بليل والماء نمير أبثه
أشواقي وأنفحه من خالص التحية ما ينفحني المكان من خالص النعيم وأبدي إليه
امتناني وأشهد القرطاس على شغفي به واشتياقي إليه ولي فيما عدا ذلك - باعث
يحملني لو سمح سيدي أن أشرح له إعجابي بما حواه مناره الأسنى من جلائل
المواعظ القمين بها والمحتاج إليها أهل العصر عمومًا والإسلام خصوصًا.
فإنك يا مولاي لم تألُ جهدًا في تقويم ما اعوجَّ من أفنان العبادة، ولم ترهب من
تقريع مَن شطّوا فيها عن سواء السبيل حتى استغابك مَن ألفوا التُّرَّهَات أو حادوا عن
محجَّة الدين القويم فلا سد فوك، ولا عاش من يشنوك، إنما لي عليك سؤال عساك
لا تستنكر صدوره من عاجز مثلي يشفع به علم الجميع بأني لم أبغِ عمري غير تمكين
الوئام وتوثيق الألفة وإعلاء منار الجامعة الوطنية؛ لأني منذ بلوغي الرشد (إذا
كنت للآن رشدت) رأيت وخبرت أن مصيبة الشرق وبلادنا على نوع أخص؛ إنما
كانت وتكون أبد الدهر في ظل المذاهب والأديان فلو أريد تسويد دين على آخر أو
تعميمه وجمع العالمين في كنفه ليتم هناء الناس كما زعم البعض لكان المطلب وعرًا
لأسباب جمّة أخصها ما جاء في نص: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ..} (هود: 118) إلخ،
وما علم بالاختبار الطويل العريض من أن الإنسان حليف التخاذل وولوع بالخلف
وشتات الآراء، وأن من المستحيل اجتماعه على رأي واحد فيما سوى النظريات؛
فما معنى القول إذن بالجامعة الدينية وتخيل اعتبارها من الممكنات والإعراض عن
الجامعة الوطنية الميسورة والمشهود لها قديمًا وحديثًا بأنها داعية العمران ومصدر
القوة والحضارة.
فمَن لي بمثل منارك المضيء في ظلمات الأفهام أن يزين للقوم فضلها
ومنافعها أن يجهر بالقول: (إن ما رام في الوطنية؛ بقطع النظر عن اختلاف
الأديان ما يقوم بما أنزل الرحمن من وجوب الألفة والنصفة بين الناس، والتساوي
وأحكام القسط بينهم، وتكليفهم للذب يدًا واحدة عن أعراضهم ومرافقهم، وفيها
إعلاء شأن من يحسن صنعًا؛ ولو كان من أحطهم قومًا وأخسهم محتدًا تكن في
منارك يا مولاي فعلت ما أنت أهله من الإحسان وكسرت قيودًا طالما أن منها -
واأسفَى - الشرق، فإن شئت إدراج كتابي أو ملخصه في منارك الأغر، ولعلي
أظنك فاعلاً رجوت الاتِّئاد إذ لاح لك تعقيبه وكان لاتِّئادك بي من مكان) اهـ.
(المنار)
نشكر للصديق الفاضل وفاءه، ونحمل عليه حمده وثناءه، ثم نشكر له هذا
النصح الذي تجلى بلسان السائل، وقلب المحب المخلص، ولو كان الصديق قرأ
جميع أجزاء المنار واستقرأ ما كتبته في الجامعتين الدينية والوطنية لوجد فيه جواب
سؤاله، أو العمل بنصحه وإرشاده. ولا بد لي من كلمة وجيزة أقولها الآن:
الجامعة الدينية لا تنافي عندنا الجامعة الوطنية بل تستلزمها كما أوضحنا ذلك
في مقالة عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) ولا يقصد الداعون إلى الجامعة
الإسلامية أن يجعلوا جميع الناس مسلمين، فيقال إنهم مخطئون في نظر العقل
ونص قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118) وإنما هم يدعون المسلمين إلى العلم والمدنية الفاضلة التي لا فحش
فيها ولا فسوق ومجاراة غيرهم من أهل الملل في فنون العلم والعمل، فإنهم على
كونهم العنصر الأقوى في الشرق الأدنى قد أصبحوا وراء جميع العناصر في هذه
الفنون، ويحتج الأكثرون منهم على عداوة العلم بالدين فوجب أن يحاجوا من طريق
الدين. وأن يدعوا باسم الدين. فإنه صاحب السلطان الأعلى على نفوس هؤلاء
المتخلفين، ولكنهم لبسوه كما يلبس الفرو مقلوبًا (الكلمة لأمير المؤمنين علي كرم
الله وجهه) فنكروا معروفه وجعلوه سبب الجهل وداعية التفريق وآلة الاستعلاء
والإيذاء بعد أن كان في أول نشأته سبب العلم وداعية الوفاق وآلة العدل والمساواة
بين جميع الناس.
وللأهرام كلمة حق تقولها دائمًا وهي: إن الشرق لا يرتقي إلا بارتقاء
المسلمين، وللمقتطف كلمة حق قالها وهي: إن المسلمين لا يرتقون إلا بعد
الإصلاح الديني، وذكر هناك أن المنار داعية لهذا الإصلاح وأن صاحبه من
زعمائه، فالمنار مشتغل بدعوة المسلمين إلى الإسلام لا بدعوة النصارى وغيرهم
إليه؛ وإنما يرد شبهات دعاة النصرانية التي ينشرونها في كتبهم وجرائدهم المنشرة؛
لأنه اعتداء يجب في اعتقاده رده؛ ولأنه معارض له في دعوته، ويبين في
محاسن الإسلام ويُرَغِّب فيها من غير إيذاء لأحد.
فإذا قال الصديق: إذا كانت الجامعة الوطنية من لوازم الجامعة الإسلامية
فلماذا لا يدعو المنار إليها بالتصريح؟ فإني أذكره أو أذكر له أنني لم أقصر في
ذلك؛ ولكنني أكثرت منه في السنة الأولى أيام كان المنار منتشرًا بين أهل الوطن
الذين هم في أشد الحاجة إلى الوفاق والتعاون؛ حتى لامني بعض المسلمين
المتحمسين ولم يعضدني أحد من غيرهم. وأقللت من ذلك بعد منع المنار من تلك
البلاد وانتشاره في بلاد أفرط فيها أحداث دعاة الوطنية حتى خرجوا عن الوطنية.
لا خلاف ولا نزاع في هذه البلاد بين المسلمين والقبط باسم الدين؛ ولكن بعض
الأحداث يحرضون المصريين عامة على عداوة السوريين خاصة، وهم من أبناء
لغتهم وأتباع دولتهم والمساوين لهم في قوانين حكومتهم، وذلك بعد أن استوطنوا
بلادهم وخدموها خدمة علمية أدبية لم يخدموا أنفسهم بمثلها، ولا حجة لهؤلاء
الأحداث إلا أن السوريين ليسوا بوطنيين وإنما هم (دخلاء) فإن كان الوطني في
عرفهم هو مَن ثبت اتصال نسبه بالفراعنة؛ فالواجب عليهم أن يُخرجوا منها
أمراءها وأكثر أهلها. وإلا فليفقهوا أن الدخيل هو الأجنبي عن لغتك وحكومتك الذي
لا يخضع لقانونك ولا لشريعتك، والذي يمتص ثروة بلادك فيحولها إلى بلاده ليُغنى
من حيث تفتقر ويُعز من حيث تذل.
المنار يدافع عن الإسلام، ولا ينسى الوصية بالوفاق والوئام، وأنه يرى
المسلمين أقرب إلى معنى الوطنية الصحيحة من غيرهم، فهذه جرائد المسيحيين
حتى الدينية البحتة منها يشترك فيها المسلمون بالمئات والألوف، وقد وجد للإسلام
جريدة واحدة أو مجلة (وهي المنار) فلم تجد في المسيحيين عشرة نفر يشتركون
فيها مع اعتراف فضلائهم بأنها نافعة ومفيدة، وهناك شواهد أخرى.
المنار يدعو المسلمين إلى العلم، والعلم هو الذي يعرِّف الناس بمكانة اتفاق
عناصر الوطن على ترقيته وإعلاء شأنه. أما الذين ليس لهم من علوم العمران ما
يقرب بعضهم من بعض فإقناعهم بالوفاق والوئام باسم الوطنية غير متيسر ولكن
المتيسر هو إقناعهم بذلك من طريق الدين وهو ما نحاوله.
فالمنار يخدم الوطن الخدمة النافعة ولكنه لا يلغو باسم الوطن والوطنية؛ لأن
هذا اللغو من شِنْشِنَة الذين يقولون ما لا يفعلون.
***
(مكتبة إسلامية عمومية في روسيا)
تتضافر الأنباء على حسن حال إخواننا المسلمين في بلاد روسيا وعنايتهم
بالعلم والتربية الإسلامية، حتى إن العارفين يفضلونهم على جميع المسلمين في
مكارم الأخلاق، وفي الاتحاد والاتفاق. وقد كتب إلينا من مدينة خاركوف أن
مسلميها على قلة عددهم يشتغلون الآن بإنشاء مكتبة عمومية لا نظير لها في بلاد
روسيا، وقد انبرى لهذا الأمر وتبرع له بالمال الكثير محمد غني أفندي بن سعد
الدين أحد قراء المنار الأخيار، فجلب الكتب الكثيرة من البلاد، فنسأل الله تعالى أن
يكثر من أمثال هذا الشاب الغيور في المسلمين. ومن هنا نستدل على حسن معاملة
حكومة القيصر للمسلمين، وعلى حرية العلم فيهم، لولا أن مراقبي المطبوعات في
موسكو وغيرها يمنعون عنهم بعض أجزاء المنار بسوء فهم مترجميه لهم، لا
بشيء فيه يقتضي ذلك فإنه لم يعب السياسة الروسية لهم فقط.
***
(مسألة مراكش رأي المنار ومكاتب التيمس)
كتبنا في الجزء العاشر مقالة في الخطر المحدق ببلاد مراكش قلنا فيها: إن
الفتنة أقوى من سلطان تلك البلاد، ويوشك أن تذهب بملكه وأن ما ارتآه بعض
الناس من وجوب استيلاء فرنسا على بلاد الغرب الأقصى لا يوافق مصلحتها؛ فإن
المسلمين أشداء لا يتيسر تذليلهم إلا بأمرائهم وحكامهم.. إلخ، ثم بعد عشرين يومًا
من انتشار المنار نشرت جريدة الأهرام مثل هذا الرأي للمستر هاريس مراسل
التيمس في مراكش (صاحب العلامة الكبرى والزلفى العظمى لدى مولاي عبد
العزيز) ، فأشار باستيلاء فرنسا على الإدارة، واستخدام سلطة السلطان الدينية
لذلك، ويفهم من كلامه أن السلطان مستعد لذلك والدول موافقة
…
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
زكاة الفطر
زكاة الفطر هي أول زكاة فُرضت على هذه الأمة وهي أخف الزكوات
وأيسرها؛ لأنها عبارة عن قيام كل واجد زيادة عما يكفيه في يوم عيد الفطر بكفاية
واحد من المسلمين عادم ما يكفيه في ذلك اليوم. وهي منسوبة إلى الفطر؛ لأنها تجب
به؛ أي: بالفطر من رمضان كله وذلك بالدخول في ليلة العيد وقيل: بطلوع فجره
وقال بعض العلماء: إن المراد بالفطر الفطرة والخلقة؛ لأنها تجب على الواجد الذي
لم يصم لعذر أو لغير عذر ويجب على المكلف أن يخرجها أيضًا عن أولاده الصغار
الذين لا يصومون. والصواب الأول.
والحكمة في وجوبها على مَن ذكر ظاهرة؛ فإنها شرعت لكفاية جميع الفقراء
وإغنائهم عن ذل السؤال في يوم العيد الذي هو يوم ضيافة الله تعالى للمؤمنين فلما
دخل في الفقراء أطفالهم وجب على الأغنياء أن يزكوا عن أطفالهم أيضًا، وكذلك
السيد يُخرج زكاة الفطر عن عبده وقالوا: إن الصغير إذا كان ذا مال فإنها تجب في
ماله ويخرجها الولي وإن كان أبًا وإلا أخرج عنه من مال نفسه. وقد ورد أنها كفارة
للصائم تكفر عنه ما عساه يقع منه مما ينافي حكمة الصيام فهي كالرواتب للصلاة
تجبر ما يقع من النقص فيها. ولنذكر ما ورد في مشروعيتها وأحكامها من
الأحاديث الشريفة:
(1)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله
عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد
والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) رواه أحمد والشيخان
وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم.
(2)
عن أبي سعيد قال: (كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو
صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة
فقال: إني لأرى مُدين من سمراء الشام يعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك)
رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم وزاد مَن عدا البخاري: قال
أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه.
(3)
وعن أبي سعيد أنه قال: (ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا صاعًا من دقيق أو صاعًا من تمر أو صاعًا من سلت أو صاعًا من
زبيب أو صاعًا من شعير أو صاعًا من أقط) رواه الدارَقُطني عن ابن عيينة عن
ابن عجلان عن عياض بن عبد الله عنه وفيه: (قال ابن المديني لسفيان بن عيينة:
يا أبا محمد إن أحدًا لا يذكر في هذا الدقيق. فقال: بلى هو فيه) ، أورد الحديث
صاحب (منتقى الأخبار) وذكر أن الإمام أحمد احتج به على إجزاء الدقيق. وقد ورد
ذكر الدقيق في غير هذه الرواية وطعن الجمهور في روايتها وقد قال أبو داود في
سننه: إن ذكر الدقيق وَهْمٌ من ابن عيينة.
(شرح الألفاظ)
الطعام في الحديث الحنطة؛ لأنه الغالب فيها عرفًا عن العرب كالمال في الإبل
ويصرف اللفظ إلى ما غلب استعماله فيه عند الإطلاق ولكن روى البخاري وغيره
عن أبي سعيد أنه قال: (وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر) ؛ ولذلك
ذهب ابن المنذر إلى أن ذكر الطعام مجمل فسره ما بعده من تعدد أصنافه ولكن نظم
الحديث يأبى هذا وإن كان لفظ الطعام يشمل ما ذكر؛ لأنه في الأصل ما يطعم
ويذاق، وقوله: حتى قدم معاوية. زاد مسلم: (حاجًّا أو معتمرًا وكلم الناس على
المنبر) ، وسمراء الشام: حنطتها. وقد بيَّن النووي أن قول معاوية هذا ليس بحجة؛
لأنه رأي له لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك لم يأخذ به أبو
سعيد راوي الحديث. والأقط بتثليث الهمزة مع سكون القاف وبتثليث القاف مع فتحها
هو الجبن يُتخذ من اللبن الحامض غير منزوع الزبد، والسُّّّلت بالضم: نوع من
الشعير أملس كالحنطة ولكن برودته وطبعه كالشعير.
أما الصاع فهو خمسة أرطال وثلث عراقية كما قدره الإمام مالك وعليه
الحجازيون وعامة أهل الحديث وقال الحنفية إنه ثمانية أرطال؛ لأن الصاع الذي
يتعامل به أهل العراق كذلك. ولكن أبا يوسف رجع أخيرًا عن قول أبي حنيفة إلى
قول مالك لما ناظره ووقف على حجته.
روى الدارقطني والبيهقي عن إسحق بن سليمان الرازي أنه قال: قلت لمالك
بن أنس: أبا عبد الله كم قدر صاع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خمسة أرطال
وثلث بالعراقي أنا حزرته، فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم قال: مَن هو؟
قلت: أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال. فغضب غضبًا شديدًا ثم قال لجلسائنا: يا
فلان هاتِ صاع جدك يا فلان هات صاع عمك يا فلان هات صاع جدتك. قال
إسحق: فاجتمعت آصع فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي عن أبيه
أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال هذا: حدثني أبي
عن أخيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر:
حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. فقال
مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا، ولعمري إنه لا يقدَّم على قول
مالك قول في مثل هذه الأمور التي اختبرها بنفسه في مدينة الرسول عليه السلام مع
قرب العهد وهذه الأرطال تبلغ ست مئة درهم وثمانين وخمسة أسباع درهم من
الحنطة وهي قدحان من أقداح مصر.
***
وقت أداء الفطرة
(4)
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بزكاة الفطر
أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا
ابن ماجه. والمراد بالصلاة هنا صلاة العيد وذلك أن الغرض منها كفاية الفقراء في
ذلك اليوم وروى ابن خزيمة أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى} (الأعلى: 14-15) ، نزل في زكاة الفطر وصلاة العيد ورفع ذلك إلى
النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا ينافي عموم الآية وأن تزكية النفس وتطهيرها
يكون بغير زكاة الفطر من الفضائل والأعمال النافعة كما يكون بها.
(5)
عن ابن عباس قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة
الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي
زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود وابن
ماجه والدارقطني والحاكم وصححه. وهو يدل على عدم جواز تأخير أداء الفطرة
عن صلاة العيد ولكن الجمهور على أن أداءها قبل صلاة العيد هو الأفضل ولا
يجوز تأخيرها عنه إلى آخر النهار، واتفقوا على أنه لا يجوز تأخيرها عن يوم العيد
والحديث حجة قائمة لا ينبغي أن يتهاون به لقول أحد.
وقد جوز بعض العلماء تقديمها على يوم العيد وقال بعضهم: إنها كالصلاة لا
تقدم على وقتها كما أنها لا تؤخر عنه. والمروي في البخاري أنهم كانوا يعطون
قبل الفطر بيوم أو يومين. وبه قال أحمد وعده تعجيلاً وروي أيضًا عن مالك وذهب
الشافعية إلى جواز إخراجها من أول رمضان. وتوسع آخرون فقالوا بجواز إخراجها
قبل دخول رمضان؛ وذلك أنهم أدخلوا فيها القياس وقد علمت أن ذلك ينافي حكمة
إغناء المساكين في يوم العيد عن السؤال فقد روى البيهقي والدارقطني عن ابن عمر
أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: (أغنوهم في
هذا اليوم) وفي رواية للبيهقي: (أغنوهم عن طواف هذا اليوم) وأخرجه ابن
سعد في الطبقات من حديث عائشة ، وأبي سعيد. فمن وفقه الله لاتباع السنة
يتحرى إخراجها بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد فإن رأى في ذلك مشقة أو في
التعجيل مصلحة فليخرجها قبل العيد بيوم أو يومين اتباعًا.
واختلف العلماء في مسائل أخرى من أحكام زكاة الفطر فذهب الشافعية إلى
أنها تجب من القوت الغالب في كل بلد. ولذلك يتعين في مثل هذه البلاد القمح رخص
ثمنه أو غلا وعندهم قول ثانٍ وهو أنه يجب على كل أحد أن يخرجها من غالب
قوته هو وإن لم يكن غالب قوت البلد. وقول ثالث وهو أنه يخيَّر في الأجناس
المنصوصة. وقد رأيت في النصوص أنهم كانوا يخرجونها مما يأكلون ولا أرى من
يرسل إلى الفقير في صبيحة العيد شيئًا من الخبز واللحم والحلوى إلا عاملاً بما ورد
ومتبعًا للسنة لا سيّما مع ملاحظة أن نفوس الفقراء والمساكين تتشوف في يوم العيد
إلى أكل الواجدين الموسرين ولذلك نرى الذين ترسل إليهم زكاة الفطر من الحنطة
يدخرون ما يعطون ثم هم يطوفون في يوم العيد على الأبواب يسألون الموسرين
الطعام. فإن قال الفقهاء: إننا تعبدنا بتلك الأصناف المذكورة في الحديث فلا يحل
لنا أن ننظر في المقصود منها فنعمل به، نقول: إن ظاهر الحديث التخيير بين
الأصناف فعليهم أن لا يقيسوا عليها غيرها من الأقوات وأن لا يجيزوا استبدال
غيرها بها ولا دفع قيمتها.
واختلفوا أيضًا فيما يملكه من تجب عليه زكاة الفطر فقاسها بعضهم كالحنفية
على الزكاة وقال: إنها لا تجب على من لا يملك نصابها وهو قياس مع الفارق؛ لأن
تلك زكاة الأموال وهذه زكاة الأبدان ولهم حديث عام في الصدقة معارَض بما هو
أقوى منه. وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنها تجب على من يملك ما يزيد عن
حاجته وحاجة من تلزمه نفقتهم يوم العيد وليلته عملاً بإطلاق أحاديث الوجوب
واعتبارًا بما ورد في تعليلها من أنها (طهرة للصائم) كما تقدم في حديث ابن
عباس وقد قالوا: إن الحاجة تختلف باختلاف طبقات الناس فلا تجب زكاة الفطر إلا
على مَن عنده فضل عما يليق بأمثاله في طعامه وشرابه ولبوسه وماعونه وأثاثه.
وهو ظاهر لا غبار عليه.
هذا ما نذكره فتحًا لباب النظر في السنة وتحريها في العمل والاعتبار بحكم
الدين والتفقه فيه. وإن خطباء المساجد يبينون في خطبة العيد أقوال أهل المذاهب
الأربعة لمقلديها. وقد أشرنا إلى بعض الخلاف بينهم ومن أهمه أن الحنفية على
اعترافهم بأن الفطرة تجب في الطعام وموافقتهم للآخرين في أن الحنطة في مثل هذه
البلاد هي القوت الغالب الذي ينبغي اعتباره في هذه الزكاة أجازوا أن يقدر ثمن
نصف الصاع من البر ويُعطَى للفقير نقدًا وقالوا: إن هذا أفضل؛ لأنه أنفع وقد أطال
الغزالي في الإحياء البيان في رد هذا القول. والاحتياط أن يتحرى الإنسان موافقة
الأئمة في اتباع السنة ولا خلاف بينهم في جعل زكاة الفطر من الحنطة والله أعلم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مناظرة بين مقلد وصاحب حجة
تابع ويتبع
(الوجه الخامس والثلاثون) : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أرشد
المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه وسنته فقال: (قتلوه قتلهم الله) ،
فدعا عليهم حين أفتَوْا بغير علم وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه ليس علمًا باتفاق
الناس فإن ما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاعله فهو حرام وذلك
أحد أدلة التحريم. فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم والله الموفق.
وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم فإنهم لما
أخبروه بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البكر الزاني أقره على ذلك
ولم ينكره فلم يكن ثَمَّ سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم.
(الوجه السادس والثلاثون) : قولهم: إن عمر قال في الكلالة: إني لأستحي
من الله أن أخالف أبا بكر، وهذا تقليد منه له فجوابه من خمسة أوجه:
(أحدها) : أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم ونحن
نذكره بتمامه. قال شعبة: عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة:
أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان والله
منه بريء، هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر. فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في
اعترافه بجواز الخطأ عليه وإنه ليس كلامه كله صوابًا مأمونًا عليه الخطأ ويدل
على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقضِ في
الكلالة بشيء وقد اعترف أنه لم يفهمها.
(الوجه الثاني) : أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالف
في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغه خلافه إلى أن ردهن حرائر
إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ونقض حكمه ومن جملتهن خولة الحنفية أم
محمد بن علي فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم. وخالفه في أرض العنوة
فقسمها أبو بكر ووقفها عمر. وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأى أبو بكر التسوية
ورأى عمر المفاضلة. ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرّح بذلك فقال: إن
أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لم يستخلف. قال ابن عمر: فو الله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدًا وأنه
غير مستخلف. فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وقول غيره لا يعدلون بالسنة شيئًا سواها، لا كما يصرح به
المقلدون صراحًا. وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضًا.
(الثالث) : أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك
مستراح لمقلدي مَن هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يداني الصحابة ولا يقارنهم
فإن كان - كما زعمتم - لكم أسوة بعمر فقلِّدوا أبا بكر واترُكوا تقليد غيره والله
ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي
بكر.
(الرابع) : أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا كما استحيى منه عمر؛ لأنهم
يخالفون أبا بكر وعمر معه ولا يستحيون من ذلك لقول من قلدوه من الأئمة بل قد
صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ويجب
تقليد الشافعي فيا لله العجب الذي أوجب تقليد الشافعي حرم عليكم تقليد أبي بكر
وعمر ونحن نُشهد الله شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين
الراشدين اللذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهما والاقتداء بهما
قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم ونحمد الله أن عافانا مما
ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة وبالجملة فلو صح تقليد
عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده ولا
جعله عيارًا على كتابه وسنة نبيه ولا هو جعل نفسه كذلك.
(الخامس) : أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة فهل
في هذا دليل على جواز اتخاذ رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى
قول مَن سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت قوله، فهذا - والله - هو
الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض
القرون الفاضلة.
(الوجه السابع والثلاثون) : قولهم: إن عمر قال لأبي بكر: رأينا لرأيك
تبع. فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من
الحديث على هذه الكلمة واكتفى بها، والحديث من أعظم الأشياء إبطالاً لقوله
ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد براخة من أسد وغَطَفان
إلى أبي بكر يسألون الصلح فخيَّرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية. فقالوا:
هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما
أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا وتَدُونَ لنا قتلانا، وتكون قتلاكم في النار
وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل حتى يُرِي الله خليفة رسوله والمهاجرين
والأنصار أمرًا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم. فقام عمر بن
الخطاب فقال: قد رأيت رأيًا سنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية
والسلم المخزية فنِعم ما ذكرت وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما
أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن تدون من قتلانا وتكون قتلاكم في
النار؛ فإن قتلانا قاتلت فقُتلت على أمر الله، أجورها على الله، لها ديات، فتتابع
القوم على ما قال عمر فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه: قد رأيت رأينا
ورأينا لرأيك تبع، فأي مستراح في هذا لفرقة التقليد؟ !
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أسئلة الشيخ محمد نجيب أفندي
وردت علينا الأسئلة الثلاثة الآتية من الشيخ محمد نجيب أفندي ابن الشيخ
شمس الدين محمد المدرس بالمدرسة الشمسية في توفتار (الروسية) فذكرناها
بنصها واختصرنا في جوابها لما سبق لنا من القول في موضوعاتها إلا المسألة
الثانية أطلنا فيها.
المسجد الأقصى وقت الإسراء
(المسألة الأولى) إن بعضًا من المخالفين اعترض على آية الإسراء فقال
ما حاصله: إن المسجد الأقصى كان خرابًا في ذلك الوقت بشهادة التواريخ
الإسلامية فكيف يصح قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ
الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) الآية. انتهى.
وقد خطر في خاطري في الجواب عنه:
(أولاً) أن المسجد الأقصى كما يطلق على بنائه يطلق على محله والمحل
باقٍ ألبتة إلا أن يشكله ما وقع في حديث آحادي من ربط البراق في حلْقة الباب
وهو يفيد الإسراء إلى البناء لا إلى المحل، والآية تحتمل المعنيين.
(وثانيًا) أن أمر المعراج والإسراء من الأمور العادية؛ لكونه من
المعجزات، فهو وإن كان روحانيًّا جسمانيًّا عندنا - إلا أنه ليس بجسماني عادي بل
هو شبيه بالروحاني وأنه من أطوار النبوة ويحصل فيها ما لا يحصل في غيرها
وقد روي في الخبر أن النبي عليه السلام رأى ليلة المعراج طوفان نوح عليه السلام
ونار نمروذ عليه اللعنة، ويونس عليه السلام في بطن الحوت من الأمور الماضية،
وأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من الأمور الآتية، بحيث كُوشِفَ
بجميع تلك الأمور الحادثة وما يحدث بأوقاتها لكونه صلى الله عليه وسلم منخلعًا
عن قيد الزمان عند هذا الحال فحضر الجميع عنده بأوقاته فلا يبعد أن يكون رأى
المسجد الأقصى بوقت معموريته عند هذا المكان وإن لم يره المحبوس في
مطمورة الزمان ولا مانع من تصديقه من جهة العقل أيضًا بعد الإيقان بأنه من
المعجزات؛ لأن شأن المعجزات يكون هكذا فوق طور العقل وإنما حظ العقل منه
العلم بإمكانه وهذا يكفي للإذعان له. وأما تعقل المعجزات فهو ليس من وسع العقل؛
بل هو بمعزل عنه ولا فرق في ذلك بين أمر المعراج وسائر الأمور الخارقة. هذا
ما ظهر لي في الأمر والمأمول من الأستاذ زيادة التحقيق والإتقان.
(ج) إن هذا الاعتراض ليس بشيء، فذلك المكان المعبر عنه بالمسجد
الأقصى كان معروفًا وقد هُدم غير مرة وبُني، وكان يُسمى في حال هدمه وحال بنائه
باسم واحد وهو (هيكل سليمان)، يقولون: هُدم الهيكل وبُني الهيكل وبَقِي الهيكل
مدة كذا خرابًا. وقد بنى أنيبال الروماني على أطلاله هيكلاً للمشترى ولم يتغير
اسمه عند اليهود لاعتبارهم ذلك شيئًا عارضًا لأمر ثابت لا يزول.
ولو استشكل المعترض تسميته مسجدًا لكان له وجه في الجملة ونقول: إنه أطلق
عليه المسجد كما أطلقه على حرم مكة وهو لم يكن يومئذ مسجدًا وإنما كان بيتًا
للأصنام وفي ذلك وجهان: أحدهما أنه سماه مسجدًا باعتبار ما كان عليه وما وضع له
فما بنى إبراهيم وإسماعيل الكعبة ولا سليمان الهيكل إلا للعبادة الصحيحة.
وثانيهما أنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم وهو
كونهما مسجدين للمسلمين. وما ذكره السائل من كون الإسراء والمعراج من الأمور
الروحانية حسن وسبق لنا فيه قول ولكنه ليس الوجه في تسمية ذلك المكان بالمسجد.
ثم إن ربط البراق بالحلقة في بعض الروايات ليس مشكلاً؛ إذ هدم المكان لا ينافي
وجود حلقة في أطلاله تربط بها دابة. هذا إذا كان البراق والربط في عالم الحس
والملك، فما بالك إذا كان أمرًا ملكوتيًّا، أو تمثيلاً روحانيًّا.
(تفسير: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} (الأعراف: 190)
…
الآيات)
(المسألة الثانية) إن أحد المخالفين أيضًا اعترض على قوله تعالى: {فَلَمَّا
آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الأعراف:
190) ، قال ما حاصله: إن قوله تعالى:] جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ [يُشعر بأن آدم
وحواء عليهما السلام كانا مشركين. انتهى. وما ذكر في كتب التفاسير من
التوجيهات من تقدير همزة الاستفهام أو المضاف أو التصرف في الشرك فلم يقبلها
المعترض وقال: لا بد من تصحيح الآية على ظاهرها - أيها المسلمون - فإن كان
فيه وجه آخر غير ما ذكر في التفاسير فعليكم بيانه أيها الأستاذ.
(ج) لك أن تحل الآية بهذا التفسير: الله {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف: 189) في جنسها وهي الروح التي تتصل بالأبدان فتحييها بعد موتها
] وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [أي: جعل لها زوجًا من جنسها وذلك بعد دخولها في عالم
الأجسام. وإلى هذا التراخي أشار بقوله تعالى في سورة الزمر: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الزمر: 6) أي: جعل تلك النفس الواحدة زوجين
ذكرًا وأنثى كما قال في سورة النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن
نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (النجم: 45-46) ثم بيَّن علة جعل الزوج من جنس الزوج فقال:
] لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [وسكون كل من الزوجين إلى الآخر معروف بالطبع لجميع البشر
فلا حاجة للإشعار به. ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم
مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) .
وقد علمنا من أسلوب القرآن البديع أنه ينتقل من ذكر الآيات الكلية إلى ذكر
الوقائع الجزئية التي لها أثر عام في عقائد البشر وأخلاقهم كما يذكر الوقائع الجزئية
أحيانًا ويبني عليها الأحكام العامة. وقد انتقل هنا من ذكر خلق الزوجين وبيان
الحكمة في ذلك إلى ما يقع لهما ولنسلهما من الكفر بالنعمة، والجهل بتلك الحكمة،
فقال في ذلك الزوج المبهم مع زوجه: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: 189) ظاهر أن المراد بالتغشي ما يكون سبب الحمل وأصله التغطية
وفيه من النزاهة ما ترى. ومرت به بمعنى استمرت على حالها قبل الحمل] فَلَمَّا
أَثْقَلَت [بالحمل وأصابتها الشدة ووهم الإسقاط والإجهاض] دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا [
قائلين:] لَئِنْ آتَيْتَنَا [ولدًا أو نسلاً صَالِحًا] لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [لنعمتك،
المؤمنين بأن الخير كله بيدك، {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف: 190) بأن نسبا ذلك إلى تأثير ما يسمى سببًا وما لا يصلح أن يكون
سببًا من الأمور الموهومة كالأصنام ونحوها وغفلا عن المؤثر الحقيقي الذي بيده
أزِمَّة الأسباب وهو الفاعل المختار فسرى هذا الشرك في ولدهما] فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ [وهذه الآية كقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) .
هذا الذي قلناه في معنى الآية ظاهر لا إشكال فيه ولا اعتراض عليه. وإنما
جاء الإشكال من تفسير النفس الواحدة بآدم وزوجها بحواء مع اعتقاد عصمة آدم من
الشرك. وليست الآيات نصًّا ولا ظاهرًا في ذلك ويؤيد قولنا تتمة السياق وهو قوله
تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلَا
أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوَهُمْ إِلَى الهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوَهُمْ أَمْ
أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ *
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (الأعراف: 191-196) .
فهذه الآيات الناطقة بأبلغ الحجج على نفي الشرك وبطلانه وفساد آراء
منتحليه من مشركي العرب الذين كانوا يعتزون بأصنامهم ويستنصرون بها على
النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن تكون فاتحتها قد نزلت في الاحتجاج على آدم
وحواء والنعي عليهما ما كانا عليه من الشرك المجهول - إن كان - إذ السياق
صريح في الاحتجاج على مشركي قريش ومن على شاكلتهم ولذلك حمل بعض
المفسرين النفس على قصي وكانت زوجه قرشية مثله ومن الشرك فيما آتاهما الله
من الولد أن سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد
اللات. وإلا ظهر ما قلناه من التعميم.
فإن قيل: هل من جواب معقول عن الآية على القول بأن المراد بها آدم
وحواء؟ أقول: إن أمثل ما يقال إذًا فيها هو ما جاء في الرواية وهو أنهما سميا
ولدهما عبد الحرث فقد روى أحمد والترمذي والحاكم من حديث سمرة بن جندب
مرفوعًا: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها: سميه
عبد الحارث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره)
وأراد بالحارث نفسه فإنه كان يسمى به بين الملائكة. وفي الحديث مقال وإن حسنه
الترمذي وصححه الحاكم وكم صحح الحاكم ضعيفًا وموضوعًا وقد أطال الرازي في
رد كون الآية في آدم وحواء. وإن سلمنا بالصحة نقول: إن الذنب على حواء وإنما
أسند إليها مع زوجها؛ لأنهما متكافلان وكان ينبغي له أن ينهاها عن هذه التسمية
وليس ذلك شركًا حقيقيًّا؛ لأنها لم تكن تعتقد بأن الحارث إله ولكنه صورة للشرك
فأطلق عليه اسم الشرك مبالغة في الزجر والله أعلم.
تعليم النساء الكتابة
(المسألة الثالثة) إن بعضًا من علمائنا لا يجوزون تعليم الكتابة للنساء
وينقلون في ذلك حديثًا وهو: (لا تعلموا النساء الكتابة ولا تنزلوهن الغرف) ،
فهل له أصل بيّنوه؟ أيها الشيخ. وهذا الفقير متردد في قبوله بل يجده مخالفًا
لشرعه عليه السلام فإنه عليه الصلاة والسلام أمر كل مسلم ومسلمة بطلب العلم
والكتابة مقدمة الطلب سيما في هذه الأعصار فإنه لا يمكن فيها الطلب بدونها على
أنه مخالف صريحًا لحديث آخر وهو أنه عليه السلام قال للشَّفَّاء بنت عبد الله وهي
عند حفصة: (ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة) ففيه دلالة على جواز
تعلم الكتابة للنساء؛ لأن حفصه تعلمت الكتابة من الشفاء ولم يمنعها النبي عليه
السلام وهو دليل الجواز. ثم إن حديث النهي هل هو محمول على التنزيه أو
مقصور على مورده أو بينهما تناسخ، فالمرجو من جناب الأستاذ شرح ذلك لكي
يحصل التوفيق بينهما. هذا ما تذكرت وقت تحرير هذا الكتاب.
فلو تفضلتم بالجواب ولكم الأجر والمنة والله لا يضيع أجر المحسنين.
(ج) الحديث رواه الحاكم من حديث عائشة مرفوعًا وصححه، والصواب أنه
موضوع فإن في إسناده عبد الوهاب بن الضحاك الحمصي، قال أبو حاتم الرازي
فيه: كان يكذب، وقال العقيلي والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان
يسرق الحديث لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث وقال أبو داود:
يضع الحديث، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: عبد الوهاب بن الضحاك
بن أبان العُرْضي - بضم المهملة وسكون الراء بعدها معجمة: أبو الحارث الحمصي
نزيل سلمية - متروك كذبه أبو حاتم. وأما حديث تعليم حفصة الكتابة فرواه
الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وأبو نُعيم والطبراني ورجاله ثقات. اهـ من
مقالة في تعليم النساء نشرناها في باب التربية والتعليم من مجلد المنار الثاني
(ص 336) .
_________
(1)
الوجه في حجية هذه الآية أن ما ليس له أعضاء عاملة من الممكنات لا يرتقي إلى أن يكون سببًا من أسباب التعاون فيدعى لذلك، فكيف يدعى لفعل ما هو فوق الأسباب أو الوجه أن هذه الأصنام هي أدنى في مرتبة الوجود من الإنسان الذي له تلك الأعضاء العاملة، فكيف يستعين الأعلى بالأدنى ويدعو الأكمل الأنقص؟!
الكاتب: محمد رشيد رضا
اعتبار رؤية الهلال في الشهور العربية
(س4) : من رضاء الدين أفندي قاضي القضاة في أوفا (الروسية) :
حديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان
ثلاثين يومًا) الذي أخرجه الشيخان وغيرهما يوجب صوم شهر رمضان عند رؤية
هلاله أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا ولكن هذا الحكم هل يتعدى إلى غيره من شهور
السنة بأن يقال: إذا لم يُرَ هلال شعبان يكمل رجب ثلاثين يومًا وإذا لم ير هلال
رجب يكمل جُمادَى الآخرة ثلاثين يومًا وهلم جرًّا على ما يفيده قول ابن الهمام في
حاشيته على الهداية (ج2، ص 60، طبع بولاق بمصر) أم هذا الحكم خاص
بأول شهر رمضان فقط لا يتعداه إلى سواه؟ وأما ابتداء شعبان وسائر الأهلَّة
فيعرف بغير هذا مثل التقويمات المطبوعة في عصرنا أو بعد السنة القمرية ثلاث
مائة وأربعة وخمسين يومًا من ابتداء شعبان الماضي أو غير ذلك مما لا يتعلق به
حكم شرعي أصلاً. فإننا نحن سكان القطبة الشمالية لا يمكن لنا رؤية الهلال في
أول ليلته إلا نادرًا وخصوصًا أيام الشتاء التي يقصر فيها النهار جدًّا.
فعلى الاحتمال الأول أعني لزوم رؤية هلال شعبان ورجب وغيرهما ربما
يتردد ابتداء رمضان وشوال بين ثلاثة أيام أو أزيد ولذلك يكثر فينا الاختلاف بين أئمة
المساجد في الصوم والإفطار وقد صار هذا الاختلاف في هذه الأيام أضحوكة عند أهل
سائر الملل الذين يعيشون معنا فكثيرًا ما يصوم أهل محلة ويفطر أهل محلة
أخرى والمسافة بينهما قريبة، بل ربما يختلف إمامان لمسجد واحد وأشخاص من أهل
بيت واحد.
ولما كانت هذه المسألة من المسائل الشرعية وحَرية بالاهتمام وجريدة المنار
هي المجلة الوحيدة التي تذب عن الدين - نرجو الإجابة عن هذا السؤال ولعلّي
أستفيد من جوابكم عن هذا أيضًا، كما استفدت من أجوبتكم المتقدمة ويستفيد أيضًا
سائر الإخوان وطلاب الحقيقة.
(ج) قد علم مما كتبناه في الجزء الماضي حكمة الشارع في جعل المواقيت
الدينية مما يشترك في معرفته العامة والخاصة، وعلم أيضًا أن اتفاق المسلمين في
كل قطر من الأقطار على هذه المواقيت ممكن، ولا أرى كثرة الخلاف في رؤية
الهلال من أهل البلاد المتجاورات إلا بسبب استحلال الكذب أو الاستهانة في
الشهادة برؤية هلال رمضان، بحيث يشهدون بتوهم الرؤية، لا سيما في بلاد
يكرمون فيها أولئك الشهود وأذكر أنني رأيت في بعض السنين الشمس قد غربت
كاسفة ثم شهد رجلان أظن فيهما العدالة - بأنهما رأيا الهلال فحكم القاضي
بشهادتهما في الدعوى التي جرت البدعة الذميمة بها في إثبات شهري الصيام
والإفطار وصام الناس. ولا شك أنهما كانا كاذبين في شهادتهما؛ إذ لا معنى
لغروب الشمس كاسفة إلا غروبها مع القمر. ولا أزال ألتمس لهما العذر بأنهما
لكثرة التحديق تخيلا أنهما رأيا الهلال فشهدا بالتوهم. وإذا كان الهلال بحيث يُرى
فإنه يراه في كل بلد كثيرون من المستهلين إلا أن تختلف المطالع ولما كان إخواننا
من الشيعة يعملون بالرؤية نراهم قليلي الاختلاف فيها وذلك أنهم لا يحاولون موافقة
تقاويم الحاسبين فهذه المحاولة وتلك المساهلة هما السبب عند السنيين في كثرة
الخلاف التي صاروا بها سخرية إلا حيث يتلافون ذلك كما يفعلون في مصر وقد
ذكرناه في الجزء الماضي.
وحاصل القول في الجواب أن اعتبار رؤية الهلال في المواقيت الدينية لازم
متعين وهو لا يجب في الأمور الدنيوية، وإذا دقق الحكام فإنهم يمنعون الخلاف إلا
قليلاً، وإن الاختلاف في الرؤية لا يقتضي من الخلاف في إثبات الشهور القمرية
بالرؤية أو إكمال العدة أكثر مما يقتضيه الاعتماد على التقاويم فإننا نرى التقاويم
التي تطبع في مصر كل عام تختلف في إثبات هذه الشهور. وماذا علينا إذ كان من
مقتضى عرفنا الشرعي أن يكون أول الشهر القمري في الشرع متأخرًا يومًا واحدًا
عن أول الشهر الفلكي، ولماذا لا يعمل المسلمون في كل قطر بما يثبت عند حاكم
عاصمته والمسلمون أمة واحدة، هذا ما نراه كافيًا وإن استُزِدْنَا زدنا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حديث غريب
حديث في جمع الجوامع
وصدى دعوة المنار لتعميم العربية
(س5) من عبد الرحمن أفندي مستقيم بقرية زويه التابعة لمركز سينبر
(الروسية) قال - بعد الثناء والدعاء -:
أما بعد فقد قرأت في مناركم الأغر جوابكم لسؤال عبد الحق الأعظمي في
شأن قراءة الخطبة بغير العربية فوجدت كل كلمة منه شجرة طيبة أصلها ثابت
وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها كما تحب وترضى وتشاء
فهذه جنات تجري من تحتها الأنهار، وهذه أشجار تنثر على المستظلين بها أحلى
الثمار، وقلت في نفسي: كيف لا وهو جواب مَن امتزجت العلوم بروحه امتزاج
الماء بالراح، ورسخت الفهوم في صدره مع عظيم الانشراح، كشفتم الحجب
والأستار من بيننا؛ لأن هذه المسألة كانت متنازعة من منذ زمان بيننا، زاد الله
عمركم وإقبالكم، وكثّر أمثالكم.
(سترون جرًّا جديدًا بحبل حديد)، بعض العلماء يقول: هو حديث نبينا
صلى الله عليه وسلم مذكور في جامع الجوامع للسيوطي. وبعضهم يقول: ليس
بحديث؛ لأن ألفاظه تأبى أن يكون حديثًا. والحقير رجعت إلى (كشف الظنون)
فما وجدت كتابًا اسمه جامع الجوامع للسيوطي وراجعت أيضًا كتاب السيوطي
المسمى بحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة وعد كتب المؤلف فيه فما
وجدت فيه أيضًا الكتاب المذكور فنرجو من سيادتكم أن تبين لنا القول المذكور هل
هو حديث أم لا؟ وإن كان حديثًا ففي أي الكتب هو مذكور؟ في مناركم الغراء ليقف
عليه كل من يريد الاستفهام عنه ودمتم وعناية المولى ترعاكم.
(ج) للسيوطي كتاب جمع فيه كتب الحديث المعروفة للحُفاظ والمحدثين
وجميع ما وقف عليه من الأحاديث المتفرقة في غيرها من الكتب وسماه (جمع
الجوامع) ويطلق عليه أيضًا اسم الجامع الكبير. وكتابه الجامع الصغير المشهور
مختصر من قسم الأقوال من ذلك الكتاب. والكتاب جامع للأحاديث الصحيحة
والضعيفة وكثير من الموضوعات فوجود الحديث المسؤول عنه فيه لا يقتضي إثبات
إسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبحث بعض العلماء في أسلوبه وزعمهم
أنه على غير الأساليب المعهودة في الحديث له وجه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سكنى الشيطان في بدن الإنسان
(س6) : محمد فؤاد أفندي بأنشاص الرمل:
جاء في كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) صحيفة 60 التابعة
للقول في تمهيد للأصل الأول من القسم الثاني من الكتاب في الإسلام ما يأتي:
قال الأستاذ الإمام في ص 59: معجزة القرآن أجمع من القول والعلم وكل
منهما مما يتناوله العقل بالفهم، إلى أن قال ص 60: فهي معجزة أعجزت كل
طوق أن يأتي بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها، وأما معجزة
موت حي بلا سبب معروف للموت أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم.. إلخ.
فهل يسكن الشيطان جسم الإنسان؟ فإن كان الأمر كذلك وكما فهمته أنا من هذه
العبارة السابقة فيصدق قول من قالوا بالزار فإنهم يعتقدون بأن العفاريت إِبَّان
هيجانها تقف عن حدها بدق الطبول. فالأمل تفسير هذا المقال ولكم الشكر الجزيل
منها.
(ج) يشير الإمام الحكيم بعبارته تلك إلى أنواع المعجزات المعزوَّة في
التواريخ الأربعة التي تسمى الأناجيل إلى المسيح عليه السلام فهو يذكرها على
سبيل الحكاية ولا يستلزم ذلك إثباتها ولا نفيها؛ بل ربما فُهم من العبارة التعريض
بأن تلك الكتب تسند إلى المسيح ما لا يصح إسناده إليه، ونحن - المسلمين - لا
نعتقد بمعجزة للمسيح وراء ما أثبته له القرآن العزيز. على أننا إذا سلّمنا بأن
بعض الشياطين دخلت في أجسام بعض الناس وأنها خرجت على يد المسيح معجزة له
فلا يلزم من ذلك أن نقيس خرافات عجائز (الزار) على معجزات الأنبياء المصطفَيْن
الأخيار.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة
أو التشبه بالنصارى
يسافر في كل سنة عدد عظيم من أمراء المصريين وحكامهم ووجهائهم إلى
أوربا فيلبَسون فيها لَبوس الإفرنج ويتزيَّوْن بزيهم لا يدعون منه شيئًا على أن زي
هؤلاء في الأغلب هو الزي الإفرنجي لا فرق إلا فيما يوضع على الرأس فأكثر
المصريين يتبعون حكامهم بلبس الطربوش الذي أخذه الترك عن الروم وهم في
أوربا يلبسون البرنيطة لا فرق في ذلك بين الأمير والمأمور إلا أفرادًا يعدهم
الجمهور شذاذًا ويلومون بعضهم على محافظتهم على لبس الطربوش هناك.
ويظن أكثر المسلمين أن لبس البرنيطة مخل بالدين الإسلامي حتى إن جريدة
(الحاضرة) تجرأت منذ عامين على التعريض بعزيز مصر لما بلغها من لبسه
البرنيطة في أوربا وقالت: إن هذا ممنوع في الإسلام. وأجبناها يومئذ في المنار.
ونرى الناس يلهجون في هذه الأيام بخبر فتوى من بعض العلماء بعدم إخلال
لبس البرنيطة بالدين الإسلامي. قالوا: إن رجلاً من مسلمي الترانسفال سأل العالِم
عن ذلك، وقال له: إن المسلمين في تلك البلاد مضطهَدون ومهضومو الحقوق لأنهم
مسلمون وأنه لا طريق إلى معاملة حكامهم وجيرانهم لهم بالمساواة إلا مساواتهم لهم
في زيهم ولا يتم ذلك إلا بلبس البرنيطة.
فأجابه العالم بأن اللبس من أمور العادات لا من أمور الدين وأن ما قاله بعض
الفقهاء من كراهة التشبه بالكافر في عاداته قد قيدوه بقصد التعظيم لدينه لا بقصد
المصلحة وأهل الترانسفال على ما يقول السائل لا يقصدون إلى ذلك بل تحملوا
كثيرًا من الأذى في تركه والضرورات تبيح المحظورات، فأمر الكراهة أهون.
هذا ما سمعناه في المسألة ويقال: إن بعض المتفقهة استكبروا الأمر وعدّوه من
المشكلات الدينية وطفقوا يتهامسون ويتباحثون فيه، وما ذاك إلا من قلة الفقه ومن
عدم النظر في السنة وفي تاريخ الأمة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لبِس الجبة الرومية وهي من لبوس النصارى ولبس
الطيالسة الكسروية وهي من لبوس مجوس الفرس. وكذلك الصحابة عليهم
الرضوان لبسوا في كل بلاد فتحوها من لبوس أهلها حتى قلنسوة النصارى بغير
نكير إلا ما كتبه عمر إلى عتبة بن فرقد لما خشي على قومه الترف والسرف
وفساد البأس والمنعة فقد كتب إليه يأمره بالبروز إلى الشمس وبالخشونة وبترك زي
الأعاجم وهو أمر للمصلحة لا للتشريع، كيف وعمر يعلم أن الشارع قد لبس لبوس
الأعاجم. وقد لبس المسلمون بأمر المنصور قلانس كقلانس الكفار ولم ينكر ذلك
أحد إلا ما كان من هزل بعض الشعراء؛ ولكن المسلمين وجموا واستنكروا تغيير
السلطان محمود العثماني زي قومه بزي الإفرنج لما كانوا عليه من الجمود على
العادات ولكن عقلاء الترك الآن يعدون ذلك أصلاً من أصول الإصلاح؛ لا لأن
تغيير الزي كبير النفع؛ ولكن لما فيه من زلزال ذلك الجمود الذي كان مانعًا من
اقتباس الدولة كثيرًا من النظام النافع في الجند والإدارة والسياسة عن أوربا التي
سبقت وبرزت فيه وقد رأينا أثر سبقها وجمودنا باستيلائها على معظم بلاد المسلمين.
نعم، إنني لا أنكر أن اختيار التشبه بالأجنبي هو أثر الضعف القاضي
باحتذاء المغلوب مثال الغالب في زيه وعاده وأنه ينبغي للأمة أن تحافظ
على عادتها أشد المحافظة ما لم تكن ضارة وإذا أرادت استبدال عادة بأخرى فليكن
ذلك بحسب المصلحة لا تقليدًا محضًا للأجنبي.
ولا أنكر أن المصريين الذين يلبسون البرنيطة في أوربا ملومون وأن سبب
لبسهم إياها ضعف العزيمة ولكنني لا أقول: إنهم قد عصوا الله تعالى واستحقوا عقوبته بذلك. ولو كان أمر اللبس من أمور الدين لوجب أن نتبع فيه الشارع وقد كان يلبَس الإزار والرداء ولم يلبس السراويل قط بل لم يلبس هذه الجبة
والفرجية ذات الأكمام الواسعة والأذيال الطويلة التي جمد عليها علماء المسلمين لهذا
العهد ولكنه نهى عنها ولبس الجبة الرومية الضيقة الأكمام فكان يتعذر الوضوء بها
حتى كان يخرج يديه من أسفلها عند الوضوء ليغسلهما. وقد كنت كتبت في
موضوع اللباس والتشبه فيه بالأجانب عشرات من الصحائف في كتاب (الحكمة
الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) ، ذكرت فيه حكم الملابس في الدين وفي
المنفعة وفي الذوق وفي عرف الصوفية وفي السياسة وذكرنا حكم التقليد فيها وقد
جاء في أول الفصل المعقود للبحث في (كيفية اللبوس والتقليد فيه) ما نصه:
قد علم مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أصحابه عليهم
الرضوان قد لبسوا القباء والفروج والطيالسة الكسروية واستعملوا المياثر [1] وكل
ذلك من لبوس الفرس وأنهم لبسوا أيضًا البرانس والجبب الرومية وهي من لبوس
النصارى. والجبة الرومية لم يتقدم لها ذكر وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى
الله عليه وسلم لبسها فكان يخرج يديه من أسفلها عند إرادة غسلهما في الوضوء
لضيق أكمامها الذي لا يمكن معه التشمير. ولبسوا أيضًا البرود والحبر المخططة
والمعلمة وهي من لبوس اليمن. وتلك الثياب كانت كغيرها تُجلب إليهم من العراق
والشام ومصر واليمن، لا أنهم كانوا يحتذون مثال هذه الشعوب في صنع لبوسها؛
إذ لم يكونوا أصحاب صنائع. وفي ذلك دليل على أن الشرع ينيط أمر اللباس من
حيث كيفية الأثواب وتفاصيلها باختيار اللابس ولا يحظر على شعب وقبيل
استعمال جديلة شعب آخر؛ لأنها أمور عادية لا تتعلق بحقوق الله تعالى ولا بحقوق
الخلق لذاتها.
نعم، كان أكثر ما يلبس النبي وأصحابه الرداء والإزار تبعًا لعادة قومه لا
لوحي نزل بأولوية ذلك وأفضليته شرعًا. على أنه مناسب لحلة القطر الحجازي
الحار. وإذ لم يرد في الشرع تفضيل كيفية مخصوصة وشكل معين في الملابس،
لأن الشرع نزل فيما هو أهم من ذلك فينبغي أن يناط ذلك بالرأي الصحيح وهو إنما
يرجح ما يوافق حالة المكان والزمان) . اهـ المراد منه. وبعد هذا تفصيل في
تفضيل بعض الملابس على بعض لاختلاف الزمان والمكان.
وقد حكَّم الفقهاء العادة في أمر الملابس حتى في الشرع فاستحبوا ما كرهته
السنة لمعنى يقتضي الكراهة مع بقاء ذلك المعنى وحجتهم أنه صار عادة. فقد ورد
في الحديث النهي عن إطالة الثياب ووعيد الذي يجر ثوبه خيلاء واتفق الفقهاء على
أن إطالة الأذيال أو الأكمام للخيلاء حرام ولغير الخيلاء مكروه شرعًا. ثم إنك ترى
مثل الشيخ الحفني يقول في تفسير الحديث من حاشيته على الجامع الصغير: إن
كراهة زيادة طول الثوب عن الكعبين لغير المختال مخصوصة بمن لم يصِر ذلك
عادة لهم كأهل مصر. وقال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي عياض وأقره:
وبالجملة يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة والله
أعلم، وذكر الشمس الرملي في شرح المنهاج أن إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة
وسرف وتضييع للمال ثم قال: نعم ما صار شعارًا للعلماء يندب لهم لبسه ليعرفوا
بذلك فيسألوا، وليطاوعوا فيما عنه زجروا، فأنت ترى أنهم جعلوا المحظور بنص
الشارع مندوبًا شرعًا وقد رأيت ضعف شبهتهم فإننا إذا سلمنا لهم بأنه ينبغي أن
يكون للعلماء زي خاص نقول: إنه ينبغي أن يكون ذلك الزي مما لم ينهَ عنه الشارع
نهيًا صريحًا.
ولئن صح ما يقولون من تحكيم العادة بالشرع من غير ضرورة ولا حاجة
ليكوننَّ وزر هذا الزي المنهي عنه في السنة على مَن اخترعه لهؤلاء العلماء من
سلفهم الذين كانوا خيرًا منهم باعترافهم. ولا أعرف المخترع الأول لزي علماء
مصر، وهو أبعد الأزياء عن أدب السنة وعن الذوق وعن المصلحة من حيث
السعة والطول؛ ولكنني أعلم أن أول مَن اتخذ لأهل العلم زيًّا مخصوصًا فقلدوه فيه
بالتدريج هو القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمه الله وما أظن أنه كان
من السعة والطول بالقدر الذي نشاهد ولا براءة من هذا إلا بجعل ابتداء العادة
كاستمرارها.
ولقد بلغ من سلطان العادة على علمائنا أنهم صاروا ينكرون على من يخالفهم
من أبناء صنفهم في الأردان المكبرة، والأذيال المجررة، فلا عجب إذا حملت
العادة بعضهم على إنكار لبس قلنسوة النصارى ولو لضرورة دفع مفسدة أو جلب
مصلحة مع العلم بأن الصحابة والتابعين لبسوا في صدر الإسلام البرانس وهي من
قلانس النصارى كما في البخاري وشرحه.
أما حجة هؤلاء وأمثالهم التي تروج عند العامة فهي أن ذلك تشبُّه بالنصارى
الذين يجب علينا مخالفتهم و
…
وهذا الكلام غير صحيح على إطلاقه وإنما هو مقيد
بالمخالفة في الأمور الدينية التي لا يوجد في ديننا ما يؤيدها كالأناشيد في الجنائز
وحمل المباخر ونحوها أمام النعش واتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد وغير
ذلك مما تشبهنا بهم فيه، بل جعلناه من شعائر ديننا مع النهي عنه في الأحاديث
الصحيحة. وأما الأمور الدنيوية كالأكل والزي فليس مما تجب فيه المخالفة بل
تقارب الناس في العادات يؤلف بينهم ويزيل التنافر الذي يعمي كل فريق عن
فضائل الآخر وإذا زال التنافر ظهر الحق على الباطل.
وقد علمت أن النبي وأصحابه لبسوا زي المشركين والمجوس بله النصارى
الذين نطق القرآن الحكيم بأنهم أقرب مودةً لنا. وأكثر ما قاله الفقهاء في هذا أنه
يكره أن يأتي المسلم أمرًا بقصد التشبه بالأجنبي عن دينه بل يأتيه أو يتركه للفائدة
والمصلحة أو عدمهما. ولا أرى من مصلحة المصريين أن يلبسوا قلنسوة الإفرنج
(البرنيطة) ؛ لأن هذا من مضعفات الرجاء باستقلالهم، وأما أهل الترانسفال
وأهل الرجاء الصالح فلا رجاء في استقلالهم لقلتهم وغلبة الإفرنج عليهم في كل
شيء، على أنه ينبغي لهم المحافظة على كل ما لا تضرهم المحافظة عليه من
عاداتهم التي لا تخالف الشرع. أما اتقاء الضرر فواجب شرعًا إن كان محققًا،
ومندوب إن كان مظنونًا، هذه هي القاعدة الشرعية ولكن أكثر الناس عبيد العادات
إلا الذين انسلخوا من التقليد الأعمى.
وقد فصلنا القول في مضار تقليد الأجانب في الأثاث والماعون والزينة في
كتاب (الحكمة الشرعية) ، ونقلنا منه نبذة في منار السنة الأولى، فلتراجع.
_________
(1)
الجبة: ثوب طويل مقطوع الكمين ، والطيالسة: جمع طيلسان وهو ضرب من أكسية العجم معرب (تالسان) ويقال: تطلس وتطيلس به إذا لبسه ، وكانت العرب تتحامى لبسه قبل الإسلام؛ ولذلك كانوا يقولون: يا ابن الطيلسان؛ أي: يا عجمي، لكن الإسلام لا يأمر إلا بتحامي المساوي والمستقبح الضار من عوائد الأمم دون غيره؛ ولذلك تطيلس المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والميثرة: من مراكب العجم أو شيء كالفِرَاش الصغير يُحشى بقطن ونحوه ويجعل على الرحل ليكون وثيرًا وكانوا أكثر ما يتخذون المياثر من الأُرُجوان - وهو بضم الهمزة والجيم - صبغ شديد الحمرة ، وقال الجوهري: هو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون، وكأن ذلك الصبغ من ذلك الشجر ، والفَرُّوج كتنور: قباء شُق من خلفه وقميص الصغير ،
والبرنس: قلنسوة طويلة. وفي البخاري أن أنسًا لبِس برنسًا أصفر من خز قال القسطلاني في شرحه: إن الناس أو النساء كانوا يلبسون هذه القلنسوة في صدر الإسلام وذكر أنها من لبوس النصارى اهـ من شرح الأحاديث في الكتاب المذكور ملخصًا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية
تقيم هذه الجمعية احتفالها السنوي المعتاد في مساء عيد الفطر المبارك وهو
اليوم الذي تستحب فيه الزينة وإظهار السرور، واليوم الذي تترك فيه الأعمال
لأجل تلاقي الناس وتزاورهم، واليوم الذي تنبسط فيه الأيدي بالبذل والإنفاق،
واليوم الذي يجتمع فيه بالقاهرة وجهاء القطر من كل ناحية. واحتفال الجمعية
الخيرية نِعم المساعد على ذلك كله فإنها ستزين حديقة الأزبكية زينة بديعة وتجعل
فيها جميع ضروب اللهو المباح فهناك يكون ملتقى الأصدقاء والمتحابين، وهناك
تكون نزهة الوافدين مع المقيمين، وهناك تكون لذة البذل للأجواد والمحسنين،
وهناك تكون فرحة الفقراء والمعوزين، وهناك ينمو الشعور بحب الوطن في نفوس
جميع الوطنيين، وهناك تكون المزية الكبرى ألا وهي الجمع بين زينة الحياة الدنيا
والعمل بروح الدين.
فإن الله ما شرع الدين إلا لمصلحة العباد وإنما قوام هذه المصلحة بالتراحم بين
الناس والتعاون على البر والتقوى وكل من يشتري ورقة من أوراق احتفال الجمعية
الخيرية يشعر في نفسه بأنه قد بذل ثمنها في إعانة إخوانه الفقراء والمستحقين للإعانة
والمساعدة من حيث قد متع نفسه بأبهج المناظر وأشهى النغمات والاجتماع بمن يحب
من الناس في يوم مشهود تتلألأ فيه على الوجوه أنوار البهجة والسرور وشكر نعمة الله
تعالى. فحيّا الله تعالى أولئك الرجال رجال الجمعية الخيرية لا سيّما ركنيها
الركينين رئيسها الشيخ محمد عبده ووكيلها حسن باشا عاصم، فهما الحاملان لها على
كاهليهما وسائر الأعضاء الكرام أعوان لهما وأنصار.
ونسأل الله تعالى أن يعرِّف المصريين بفائدة هذه الجمعية ويلهم قلوبهم
مساعدتها وشد أزرها فإننا - نحن المسلمين - لا نزال وراء الأمم كلها في التعاون
على الأعمال الخيرية الاجتماعية بعد أن كنا في مقدمتها وناصيتها. وعار على
أغنياء المصريين المسلمين أن لا تنتشر مدارس جمعيتهم الوحيدة ومبراتها في كل
رجا من أرجاء القطر ولن تنتشر إلا إذا اشترك فيها الناس من جميع بلاد القطر،
والله الموفق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ربح صندوق التوفير في إدارة البريد
أشيع في هذه الأيام أن الحكومة استفتت مفتي الديار المصرية في ربا صندوق
التوفير الذي أُنشئ في إدارة البريد، فأفتاها به، والحق أن الحكومة لم تستفتِ في
ذلك؛ إذ لا معنى للاستفتاء في شيء صدر به الأمر العالي ونُفذ منذ سنين. ولكن
بعض رجال الحكومة - ومنهم مدير البوسطة - قالوا للمفتي في حديث عادي: إن
أكثر من ثلاثة آلاف مسلم من مودعي النقود في صندوق التوفير - لم يأخذوا الفائدة
المخصوصة بذلك بمقتضى الدكريتو الخديوي تدينًا، فهل توجد طريقة شرعية تبيح
للمسلمين أخذ ربح أموالهم من صندوق التوفير؟ فقال: إن الربا المنصوص لا يحل
بحال، ولما كانت مصلحة البريد تستغل الأموال التي تأخذها من الناس - لا أنها
تقترضها للحاجة - فمن الممكن تطبيق استغلال هذه الأموال على قواعد شركة
المضاربة، ويقال: إن الحكومة كلفت المفتي ببيان هذا التطبيق لتُغير قانون صندوق
التوفير، وتجعله مطابقًا لأحكام الشريعة رعاية لمصلحة رعيتها المسلمين، وإنه
شرع في ذلك بمساعدة بعض العلماء.
ويقال أيضًا: إنه لما علم الأمير بذلك افترصه، وأمر بتأليف لجنة من علماء
الأزهر ليبينوا كيفية هذا التطبيق على الوجه الشرعي، حتى إذا عُرض عليه
القانون المنقح لإصدار أمره به يكون على بصيرة من المشروع. ويقال: إن اللجنة
التي ندبها الأمير هي غير اللجنة التي تشتغل مع المفتي بالتطبيق الذي طلبته
الحكومة. وفي هذا مزيد عناية ببيان الحق، ولكن الناس فهموا منه أن الأمير على
خلاف مع حكومته في ذلك، فعسى أن يزول سوء الفهم، ويرجع إلى الحق أهل
الوهم.
وإن لنا في موضوع الربا والمصارف قولاً مبينًا، نرجئه لفرصة أخرى.
(تنبيه) تأخر باقي الرد على مقالة الألماني لكثرة المواد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأحاديث الموضوعة في الصيام ورمضان
حديث: (إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو
لليلتين) ، قال ابن حِبَّان: لا أصل له.
حديث: (إذا كان أول ليلة من رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنة،
فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: هيئ جنتي وزينها للصائمين من أمة أحمد ولا تغلقها
عنهم حتى ينقضي شهرهم. ثم ينادي جبريل: يا جبريل. فيقول: لبيك ربي
وسعديك. فيقول: انزل إلى الأرض فغل مردة الشياطين عن أمة أحمد لا يفسدوا
عليهم صيامهم. ولله في كل ليلة من رمضان عند طلوع الشمس وعند وقت الإفطار
عتقاء يعتقهم من النار عبيد وإماء وله في كل سماء ملك ينادي.. إلخ) الحديث
بطوله لا يصح؛ لأن أصرم راويه كذَّاب.
حديث: (لو علم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة
كلها) فقال رجل من خزاعة: حدثنا به. قال: (إن الجنة تزين لرمضان من
رأس الحول إلى الحول حتى إذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت
العرش فصفقت ورق الجنة فينظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا رب اجعل لنا
من عبادك في هذا الشهر أزواجًا تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا.. إلخ) . موضوع،
آفته جرير بن أيوب. قال الشوكاني بعد الإشارة إلى الحديث وما قبله في فوائده:
وسياقه (أي: الأخير) وسياق الذي قبله مما يشهد العقل بأنهما موضوعان فلا معنى
لاستدراك السيوطي لهما على ابن الجوزي بأنه قد رواهما غير مَن رواهما عنه ابن
الجوزي؛ فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعًا برواية الرواة.
حديث: (إن الله يعتق في كل ليلة رمضان ستمائة ألف عتيق من النار..
إلخ) موضوع، وله روايات بألفاظ أخرى ما زادته إلا نكارة وتوغلاً في الوضع
والبعد من العقل والدين. وقد كنا ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها من موضوعات
رمضان في المجلد الرابع، وإنما أعدنا التذكير ببعضها الآن لكثرة تداولها وغرور
الناس بها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الولدان في الحمامات
من العادات السيئة في مصر غشيان الولدان الحمامات في ليالي رمضان فإنك
لتراهم عامة الليل يلعبون ويمرحون فيها وكثير منهم ينامون فيها حتى إذا كانت ليلة
العيد كثروا فيها كثرة فاحشة وزاحموا الرجال في المغطس وغيره والأكثرون من
الفريقين مكشوفو العورات كما هي عادتهم السوءى.
ومن العجيب أن كثيرًا من هؤلاء الولدان يحضرون إلى الحمام مع آبائهم
وقرابتهم أو بإذنهم؛ فأولياؤهم هم - في الحقيقة - أعداؤهم؛ لأنهم يفسدون آدابهم
ويعودونهم على القحة وقلة الحياء.
وإنه ليتعذر تربية الأولاد بغير الاستعانة بالحياء الذي هو أصل الفضائل كلها،
وقد ورد في الحديث المتفق عليه: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) وورد: (إن لكل
دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء) رواه ابن ماجه عن أنس وابن عباس بسند صحيح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إعلان الفسق في موسم العبادة
بلغ من استهانة قادة الفسق ودعاة الفحش بمسلمي مصر أن ينشروا لهم في
رمضان شهر الطاعة وموسم العبادة هذا (الإعلان) الذي ننشره بنصه الفاسد ما
عدا اسم المحل وأسماء الفواسق فيه وهو:
(نعلن حضرات العموم أنه قد حضر حديثًا لهذا الطرف حضرات الرقاصات
والمشخّصات الشهيرات اللتين حازا قصب السبق في ميادين هذا الفن وهن
…
،
وبالنسبة لشهر رمضان المعظم وإرضاءً لخاطر زبايننا الكرام قد اتفقنا معهن
بتعاطي صناعتهم التي تأخذ بمجامع القلوب في محلنا المذكور أعلاه ابتداءً من هذه
الليلة. فالأمل من العموم التشريف كي يشنّفوا أسماعهم من الأنغام الشجية النادرة
في الوجود ومَن تأخر ندم، حيث لا ينفعه الندم، وليس الخبر كالعيان والاعتماد
على الله) ! اهـ.
(المنار)
لو بقي لفساق مسلمي مصر بقية من الغيرة الملية أو الحياء الإسلامي أو
الشرف الإنساني لتجنبوا هذه المواضع النجسة المعدة لإعلان الفسق ولو في شهر
رمضان ونحوه من الأيام التي يعدونها مواسم دينية كليلة المولد النبوي، فإننا نتذكر
أننا في السنة التي قدِمنا فيها إلى مصر رأينا إعلانًا مثل هذا (الإعلان) ، فيه أن
فلانة قد استحضرت من الراقصات من استحضرت (لإحياء ليالي المولد النبوي
الشريف) ! وإنها لسخرية من أئمة الفسق بالإسلام والمسلمين، وما جرَّأهم عليها
إلا فساق المسلمين! وإن الإسلام ليتبرأ من هؤلاء الفاقدي النخوة والشرف ولو
أظهروا التبرؤ منه لكان اللوم أخف عليهم من انتسابهم إلى دين جعلوه هزؤًا ولعبًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
بِتْخِسِّي
كلمة شيطانية هدمت ركنًا من أركان الدين في نفوس نساء مصر، هو أقوى
الأركان عندهن وهو ركن الصوم الذي عهدنا النساء أشد تمسكًا به من الرجال. تلك
الكلمة هي كلمة (بتخسي)، يقول الشيطان للمرأة: لا تصومي بتخسي؛ أي: تذبلي
وتهزلي، ويقول ذلك بعضهن لبعض. والحق أن الصيام من أسباب الصحة، وإذا
فشا ترك الصوم في النساء فهناك الطامة الكبرى في الفساد العام، فليتنبه الرجال
لتلافي هذا الأمر إن كانوا يعقلون.
_________