الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين،
وإمام الهداة والمصلحين، وعلى آله وصحبه الراشدين المهديين، وعلى من تبعهم
بهديهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد بلغ المنار - بفضل الله وتوفيقه - السنة السادسة وهذا أول جزء منها،
ولله مزيد الشكر والثناء أن أعطانا فوق ما تعلق به الأمل والرجاء، وزادنا على ما
كنا نتوقع من زيادة القراء والمشتركين، عددًا صالحًا يدخل في عقود المِئِين، من
غير دعاة مندوبين، ولا وكلاء مُسْتَخْدَمين؛ إلا ترغيب أهل الغيرة الملية، وتنبيه
ذوي الأريحية الإسلامية، صادفًا من قلوب إخواننا المسلمين شعورًا ينمو، ووجدانًا
يسمو، وعلمًا بالحاجة الشديدة إلى توثيق الرابطة الدينية، وإحكام عقدة العقائد
الإسلامية، والجمع بين مجاورة الأمم المعاصرة، وحفظ ما فيه حياة الدار الآخرة،
من العقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال النافعة، وهذا ما أنشئ المنار
للدعوة إليه، وهو عين ما يدعو إليه الإسلام، ما زدنا فيه ولا نقصنا منه، وإنما
نتوخى بيانه، ونقيم برهانه، بما يناسب حال الزمان، وما انتهى إليه رُقِيُّ
الإنسان.
لقد أتى على المسلمين حِينٌ من الدهر وهم في مرض اجتماعي يشبه داء
السكتة، تعيث في جامعتهم جراثيم المرض وهم لا يشعرون، وتهددهم بالفناء
والزوال ولا يعلمون، حتى إذا فار التنور، وجاء القدر المقدور، تخرق حجاب
الغرور، وطفق يدب دبيب الشعور؛ ولكنه شعور يظهر أنه زاد الأمة مرضًا،
حتى كادت تكون حَرَضًا، شعور هبط ببعض ذويه في مهاوي الإياس، وطوح
ببعضهم إلى موامي الوسواس؛ فكان انتقالاً من طور الخدر والسبات، إلى طور
الحيرة والشتات، ولَحيرةٌ في الفكر وشتات في الأمر خير من خدر الحواس،
وفقد الإحساس؛ لأن هذا من أمارات العدم والزوال، وذاك من علامات الحياة على
كل حال.
ذهب أقوام في هذه الحيرة إلى أن وقاية المسلمين من الخطر إنما تكون
بالاعتماد على الأمراء والسلاطين، والاستماتة في الخضوع لهم وتقديس سلطتهم؛
ولأن الخطر إنما ينذرنا من الجانب الغربي جانب القوة القاهرة، والمدنية الساحرة
وملوكنا - وإن جاروا - هم القابضون على بقايا ما عندنا من القوة التي نكافح بها
تلك القوى، فلا بد من تعزيزهم وتعزيرهم، وإجلالهم وتوقيرهم؛ بل لا بد لنا من
تنزيههم وتقديسهم بكرة وأصيلاً!
وذهب آخرون إلى أن الملوك والأمراء قد استبدوا بسياسة الأمة بدون
مشاورتها قرونًا طويلة فما كان منهم إلا أن أوقعوها في هذا الضعف والهوان،
والفقر والخذلان، والجهل بأمر الدنيا والدين؛ لأجل الخضوع الأعمى لهم وإن
كانوا ظالمين، وإذا كانوا هم مصدر الشرور والفتن ، ومثار البلايا والمحن، فأول
واجب على الأمة مقاومة استبدادهم، ومقاومة استعبادهم، وإلزامهم بالمشاورة في
الأمر، وتقييد السلطة في الحكم، وإعلامهم بأنهم أجراء الرعية، كما قال أبو العلاء
حكيم الشعراء:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
…
فعدَوْا مصالحها وهم أُجراؤها
وبذلك يصلح الحال، وتتحقق الآمال، ونثق من حسن الاستقبال، وأما دوام
الاستماتة في الخضوع للمستبدين فإنه يردينا في أسفل سافلين، فهم الذين يُجْهِزُونَ
على ما أبقى أسلافهم من قوى الأمة الحسية والمعنوية، وهم الذين يسلمون بقية
بلادها للدول الأجنبية، إلا أن الفريق الأول أكثر عددًا، وأغزر مددًا، والفريق
الثاني أكثر علمًا، وأبعد فهمًا، ولكل منهما صحف منشَّرة، وجرائد محررة؛ ولكن
جرائد حزب القوة أعز أنصارًا، وأكثر دينارًا والنجاح من حجج القوة على الضعف
وما كل ناجح محق، وما كل خائب مظلوم.
وقد فات حزب المحافظين أنهم يطلبون بناءَ ما كان على ما كان. فإذا طلب
أحدهم إصلاحًا فإنما يطلبه في فرع من الفروع، ولا إصلاح إلا بصلاح الأصول.
(متى يستقيم الظل والعود أعوج؟ !) .
وفات حزب المعارضين أنهم لا يدرون من يطالبون، ولو دروا لعلموا أنهم
يلغون ويعبثون، فإنه لا يقوِّم الحكام إلا الأمة المتعلمة المهذبة، فالسعي في تكوين
أمة عالمة مهذبة هو الواجب الأول على الذين شعروا بمُصَاب المسلمين وأبصروا
من وراء الحجاب ما كمن لهم من الغوائل والرزايا.
ولا طريق لهذا التكوين إلا التربية الملية الصحيحة والتعليم العام، ولا يكمل
هذا إلا في المدارس الكلية كما سبق لنا القول.
هذا رأي لا يختلف فيه أهل البصيرة من عقلاء المسلمين؛ ولكن هؤلاء لم
يبلغوا أن تكون لهم صحف تنشر، وجرائد تدعو - على أن كل الصحف عون لهم -
حتى إذا ما أنشئ المنار كان هو صحيفتهم؛ لأنه لم ينشأ لمقاومة سلطة ولا
حكومة ولا لمدح سلطان أو أمير ولا لذمهما وإنما أنشئ لمساعدة العقلاء على السعي
في (تكوين الأمة) من طريق التربية الملية والتعليم النافع؛ ولذلك قلنا في مقدمة
العدد الأول: إن الغرض الأول من المنار الحث على التربية والتعليم، لا الحط على
الأمراء والسلاطين.. إلخ. وقلنا في أواخر مقالة نشرت في العدد 16 من السنة
الأولى عنوانها (إلى تربية وتعليم نحن أحوج) - بعد كلام في تعلم الفنون
العصرية بصبغة أوربية - ما نصه:
(فيجب على العلماء والكُتاب الشرقيين أن يوجهوا عنايتهم الكبرى إلى هذا
الأمر - تكوين الأمة -، ويجتهدوا فيه قولاً وعملاً، ويجب على مؤسسي المكاتب
والمدارس الوطنية ومعلميها وأساتذتها أن يجعلوه نصب أعينهم وأهم ما تدور عليه
تعاليمهم بحيث يغرسون في قلب كل تلميذ أن حياته كلها لأمته وبلاده وأن علمه
وعمله لا شرف له فيهما إلا إذا صرفهما لمنفعة الأمة والبلاد..) إلخ.
في طريق هذه التربية وهذا التعليم عقبة في طريق المسلمين يتعسر اقتحامها
وهي سوء فهم الدين وتقليد الجاهلين بعضهم بعضًا فيه، لهذا كان الذي جمع بين
مصالح الدارين. وليس المراد من جعْل المنار دينيًا إلا بيان ما هو الدين على وجهه
الحق والتفرقة بينه وبين ما ليس من الدين في شيء وكيفية الجمع بين مصالح
الروح والجسد، وكل هذا مما يتقبله جميع المسلمين بالإجمال، وفي التفصيل مزلة
الأقدام، ومضلة الأقوام.
ومن مقدمات الإصلاح إحياء اللغة؛ إذ لا أمة بدون لغة حية ومنها إزالة
حجب الغرور عن حقائق الأمور، ومن هذا القبيل ما ينشر أحيانًا من النبذ الأدبية
والتاريخية ومن جوائب الأخبار، التي تتضمن العظة والاعتبار.
هذا هو موضوع المنار نشير إليه على رأس كل سنة، لا ينازع حزبًا من
الأحزاب في مشربه ولذلك سالمه أصحاب الجرائد السياسية، من وقف نفسه منهم
على مدح الأمراء والسلاطين ومن وقفها على ذمهم، ومن رضي بنفوذ الحكومات
الأجنبية في البلاد التي يسكنها ومن سخط عليها. وسالمه أيضًا أصحاب المجلات
العلمية والدينية وسالمهم، إلا مَن استهواه الغرور فطعن في أصول الإسلام
الاعتقادية أو الأدبية أو العلمية فردَّ المنار طعنه، وأخرج ضغنه.
وجملة القول: إن المنار قد جاء بمشرب جديد استعذبه الأقلون، ومجّه
الأكثرون، استعذبه من ذاقه فعرفه، ومجّه من جهله فما أنصفه، أولئك أسرى
التقليد، ينفرون من كل جديد إلا أن يكون بدعة دينية، ويفرون من كل داعٍ إلا أن
يدعو إلى لذة بهيمية يألمون مما هم فيه، ويتنكبون طريق تلافيه، يطلبون النجاة
من الشقاء ويصرون على أسباب البلاء؛ يهرب مدعي العلم فيهم من المناظرة،
وينبري المعترف بالجهل منهم إلى المماراة والمهاترة، يتبرأ زعيمهم من الدليل
المعقول والمنقول ويحاول أن يقلّد في كل ما يقول، حجتهم استبداد الأمراء،
واعتقاد الدهماء، وقد سحل مرير هذا الاعتقاد وانتكث فتل ذلك الاستبداد؛ وتقلص
ظل ذلك الزمان؛ الذي كان يحتكر فيه الدين والإيمان، وخلّى بين العقول
والاستقلال، وبين الإرادة والأفعال، فساء صباح المقلدين، وأذن مؤذن بينهم
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) ، فخذل الجاهلون {أُوْلَئِكَ
حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .
هذا ما كان في كثير من بلاد المسلمين، وهذا ما سيكون في باقيها بعد حين،
ولحرّيةٌ تبيح بعض المنكر ولا تمنع شيئًا من المعروف أهون من عبودية تنهى
عن المعروف وتأمر بالمنكر، فالعبوية تطفئ نور الفطرة البشرية، والحرية تظهر
مبلغ استعداد القوى الإنسانية.
فيا حسرة على سلطة تهدم بمعاول الاستبداد والاستعباد، ويا ضيعة لحرية
يفسدها سوء الاختيار وضعف الاستعداد، ويا طوبى لمن اغتنم فرص الزمان؛
فعمل في نفسه لنفسه، وعمل في أمته لأمته، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الثامنة في
(منفعة الاعتقاد بها ومضرته)
يذهب كثير من الناس إلى أن جميع الأديان وثنية وسماوية قائمة على قواعد
الخوارق فإذا تزلزلت هذه القواعد في دين انقضّ الجدار وخر السقف وذهب بناء
الدين حتى لا يبقى له أثر.
قول يقوله الملاحدة، ويوافقهم عليه رجال كل دين على حدة، فهو حجة الدين
عند أهله، وهو الحجة عليه عند أعدائه، وتلك عضلة العقد، ومحك المنتقد، يقول
كل ذي دين: إن الخوارق التي نعتقد بها قد ثبتت عندنا بالمشاهَدة بالنسبة إلى قوم،
وبالنقل عن الثقات بالنسبة إلى آخرين وقد بلغ عدد الناقلين في بعضها مبلغ التواتر
الحقيقي وفي بعضها الآخر مبلغ التواتر المعنوي أو الاستفاضة أو الشهرة بين
الآحاد الثقات على الأقل.
وأما ما يدعيه أهل الملل الأخرى فهو كذب وافتراء، أو شعوذة وسيمياء،
ويقول الملحد - لا سيّما إذا دُعي إلى الدين -: إنه ليس من العدل، ولا من
مقتضى العقل أن ينظر طالب الحقيقة في قول أحد المدعين، ويغفل أقوال الآخرين؛
بل الصواب أن ينظر في جملتها ليتسنى له الترجيح، وقد فعلنا ذلك فألفينا أن
الآية الكبرى في كل دين هي دعوى الخوارق لزعماء الدين. وإننا لنعلم أن كل دين
من هذه الأديان يحرم الكذب، ونعلم أن من أهل كل منها الأخيار والأشرار فلا وجه
لترجيح أحدها على الآخر فلم يبق إلا تصديق الجميع أو تكذيب الجميع!
والتصديق يستلزم التكذيب؛ إذ لو قلت: كل واحد من هؤلاء صادق لدخل في
تصديق كل واحد تكذيب الآخرين؛ لأنه يدعيه وهو صادق فتكون النتيجة أن كل
واحد صادق كاذب في حال واحد وهو محال فتعين إذن تكذيب الجميع.
ثم إن هؤلاء المنكرين يقولون أيضًا: إن من ينشأ في دين يجوِّز وقوع
الخوارق آنًا بعد آن من كبار المتمسكين يكون عقله دائمًا متقلقلاً أسير الأوهام
والخرافات؛ بل يكون ألعوبة في أيدي الدجالين والمشعوذين، الذين يلبَسون ثياب
الصالحين، أو الذين يتخذون الدين حرفة يعيشون بها في سوق الغرور والغفلة.
ولذلك نرى هذه الخوارق التي يدعونها تكثر ويكثر مدعوها في البلاد التي
خيَّمت فيها الجهالة، وعُرِفَ أهلُها بالغباوة والبلادة، وإننا نعرف كثيرًا من البلاد
الأوربية كان أهلها يدعون كثيرًا من هذه العجائب ويزعمون أنهم يروون ما يرون
بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويحسون في أنفسهم، ومن ذلك زعمهم أن القديسين
والشهداء يخرجون من قبورهم في صورة نورانية فيطوفون في الأرض ويأتون
بعض الأعمال، ثم لما تقشعت عنها سُحُب الجهل، وأشرقت عليها شمس العلم
بطلت هذه الدعاوى، وانتقضت هاته القضايا، وطاحت تلك الإشارات، وذهبت
هاتيك العبارات، ومحيت آيات الليل بآية النهار، وصار النور بدلاً من الظلام
شرطًا في الإبصار.
ويقولون أيضًا: إن العلم قد كشف الستار عن أكثر هذه الخوارق للعادات،
وعرف علة ما أدركه من هذه العجائب والكرامات، وقد حاكى العلماء بعض ما
رأوه من مدهشات سحرة إفريقيَّة وكهنة الهنود وعرفوا علة بعض وإن لم يحاكوه
فمنهم من توصل إلى الجلوس في الهواء بحيلة صناعية ومنهم من أظهر للملأ أنه
أطاح رأس إنسان عن بدنه، ثم أعاده إليه.
فتبين من استقراء هذه الأمور والبحث فيها أن منها ما له أسباب علمية
صحيحة كان يعرفها بعض الناس فيكتمها عن الآخرين لما يكون له بها من
السلطان عليهم. ومنها ما هو حيل وشعوذة يخيل المتمرنون عليها إلى الناس أنهم
يوجدون أشياء وما هم بموجديها ولكنهم قوم يخدعون.
وقد رأى هؤلاء الناس ما كتب كثير من القسيسين في إنكار نبوة نبينا - عليه
الصلاة والسلام - واحتجاجهم بأنه لم يكن يحتج على نبوته إلا بما جاء به من العلم
والهدى في الكتاب وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وزعمهم أن هذا لا يكفي في إثبات
النبوة، وأنه لا بد من إظهار الخوارق الكونية، فضحكوا من احتجاجهم وزعمهم
وقالوا: إن صح ما ذكرتموه فهو أقوى البراهين على صدقه وبراءته من الغش
والتمويه الذي كان يتيسر له لو أراده لعلو فكره وقوة ذهنه. وقال بعض فلاسفة
فرنسا منهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن محتاجًا إلى عمل العجائب
لمثل ما كان يحتاجها الأنبياء من جذب النفوس إلى الإيمان به فإنه كان يقرأ
القرآن باسم الله في حال وَجْد ووَلَه روحاني ينتقل تأثيره من نفسه إلى نفوس من
يسمعه فيكون ذلك جاذبًا لهم إلى الإيمان بجاذبَيْ الإذعان والوجدان إيمانًا يملك على
النفس أمرها حتى لا يمكنها الانسلال منه، وإن قاست في سبيله من الأهوال ما
يشيب النواصي، ويدك الصَّيَاصِي، فأين هذا الإيمان من إيمان قوم رأوا أعجوبة لا
يدركون سرها فخضعوا لصاحبها وسلموا بما يقول، وإن لم تدرك فائدته العقول،
حتى إذا ما غاب عنهم برهة من الزمان عبدوا ما يصوغون من الأوثان، فإذا كانت
فائدة المعجزات جذب النفوس إلى الإيمان فلا شك أن هذه الفائدة أظهر في القرآن منها
في سائر المعجزات؛ لذلك كان إيمان المسلمين أشد من إيمان جميع أتباع الأنبياء
الآخرين.
وقال أحد القسيسين العلماء: إننا نفضل الإنجيل بما فيه من كثرة الخوارق
والعجائب المنسوبة إلى صاحبه على أن القرآن لم يسند إلى من جاء به عجيبة واحدة
وإنما ذكرت فيه العجائب حكاية عن السابقين ويقول في جواب الذين طالبوا محمدًا
بالآيات: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) ،
(قال) : ولكننا صرنا إلى عصر تعد فيه الخوارق من العقبات في طريق الإيمان،
ويفضل فيها القرآن على الإنجيل بذلك!
هذا مجمل اعتقاد خواص الناس في الأقطار الغربية في الخوارق والعجائب
وهو اعتقاد أكثر الذين يتعلمون على طريقهم في البلاد المشرقية، وهذا الصنف
المتعلم هو صاحب السلطة على غير المتعلم وإنَّا لنراه لا يوجد في بلاد إلا وينمو نموًّا
مستمرًّا بطيئًا كان أو سريعًا ونرى أهله يتسللون من الدين لِوَاذًا ويمرقون
منه زُرافات وأفذاذًا؛ ولهذا رسخ في أكثر الأذهان أن العلم والدين ضدان، وصار
المستمسكون بالدين ينفرون من العلم؛ ولكن أهله يسودون عليهم تارة بالحرب
وتارة بالسلم، ولهذا يظن الناظرون في سير الإنسان أن العلم يفتأ يفتك بالدين،
حتى يمحوه من لوح الوجود ولو بعد حين، وما لهؤلاء الظانين من علم بأن في
العالم دينًا حل جميع المشكلات، وأزال جميع الشبهات وهو دين العلم والعرفان
إلى آخر الزمان.
فعُلم - مما شرحناه - أن أهل الأديان يرون للخوارق التي تجري على أيدي
رجال الدين فائدة عظيمة وهي تأييد الدين بها في أثنائه، كما قام بها في أول ظهوره؛
ولذلك قال بعض علمائنا: إن كرامات الأولياء شعبة من معجزات الأنبياء فيخشى
على منكر الفرع أن ينكر الأصل ، وقد شرحنا هذا أتم شرح في المقالة الأولى
فلتراجع في المجلد الثاني، ويذكرون لها فائدة أخرى وهي انتفاع الناس بالكرامة فإنها
إما أن تكون جلب منفعة لإنسان، أو دفع مضرة عنه، أو إيقاع سوء بمنكر أو فاسق
ليرتدع غيره.
وعُلِم أن من غوائل الاعتقاد بالخوارق ومضراتها تنفير خواصِّ أهل الدنيا من
الدين وهذه غائلة تتبعها غوائل أشرنا إليها آنفًا وهي تتطرق إلى معجزات الأنبياء
كما تقدم، ولم يكن ذلك من موضوعنا هنا وقد سبق لنا القول في إثبات آيات الأنبياء
فليراجع في الأمالي الدينية من المجلد الرابع. ونزيد الآن أنها كانت في أزمنة
تحقق فيها أن البشر كانوا في أشد الحاجة إليها، وثبت أنهم انتفعوا بها في عقولهم
ونفوسهم وفي أعمالهم ومعايشهم؛ ذلك لأنهم كانوا لم يرتقوا إلى معرفة العقائد
ببراهينها وكانوا ألاعيب في أيدي السحرة والدجالين يتصرفون في عقولهم ونفوسهم
وأموالهم فأنقذهم الأنبياء بإذن الله تعالى وتأييده من ذلك كله، وعلموهم أن أولئك
السحرة قوم مبطلون وأنه ليس لهم من الأمر - الذي يزعمونه - شيء وأن
التصرف فيما وراء الأسباب التي يقدر على الوصول إليها الناس خاص بالله تعالى
وحده وأن تلك الأعمال التي يظهر بادي الرأي أنها عن اقتدار إنما هي {كَيْدُ
سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) ، ولولا أن جاء كل نبي
بمعجزة أو أكثر لما تسنَّى له جذب أولئك القوم الغلف القلوب، الغلاظ الرقاب،
الضعاف الاستعداد.
والدليل على أن المراد من بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تطهير
العقول من لوث الخرافات والأوهام وعتقها من أسر السحرة والدجالين وأن الآيات
الكونية كانت هي الآلات الجاذبة لهم إلى الإيمان بالتوحيد الذي هو المطهر الأكبر
للعقول، وأنه لو أمكن جذبهم بالآيات العلمية الأدبية لما خرق الله على أيديهم شيئًا من
الأمور العادية هو بناء نبوة خاتم النبيين على الآية العلمية الكبرى. والهداية الأدبية
العظمى وهي القرآن الحكيم، المنزل على النبي الأمي اليتيم، الذي علَّم به
الأميين الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ومكَّن به لهم في
الأرض وجعلهم أئمة وارثين، وبلّغ رسالة ربه الأممَ المجاورةَ وأَمرَ بأن يبلغ
الشاهدُ الغائبَ.
ومن أصول دينه أن زمن الوحي والمعجزات قد انتهى به فلن يعود، وأن لله
في الخلق سننًا لن تتغير ولن تتبدل، وأن الأمور تُطلب بأسبابها، وأنه ليس وراء
الأسباب شيء إلا معونة الله تعالى وتوفيقه، فليس لمؤمن أن ييئس إذا تقطَّعت به
الأسباب من خير يتطلبه أو النجاة من سوء يترقَّبه، فثبت بهذا أن الدين القيم الذي
يمكن أن يتفق مع العلم في كل زمان هو هذا الدين الذي يحكم بأن زمن المعجزات
قد مضى ولا يُكَلَّف الآخذ به بأن يعتقد بخارقة على يد أحد الناس بعد الأنبياء - عليهم
الصلاة والسلام -.
أما البحث في آيات الأنبياء كيف وجدت وهل كانت كلها بمحض قدرة الله
تعالى التي قامت بها السماوات والأرض أم كانت لها سنن روحانية خفية عن
الجمهور خصَّهم الله تعالى بها كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور؟
فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارًّا. ومبلغ العلم فيها أنها كما قال
ابن رشد: قد وجدت ونقلت نقلاً متواترًا اعترف به المؤمنون بهم والكافرون الذين
سموها سحرًا لجهلهم بالتفرقة بينها وبين تلك الشعوذات والحيل الباطلة، وفي شرح
المواقف أن (المعجزة كل ما يراد به إثبات النبوة وإن لم يكن من الخوارق) .
فعلم بهذا أن آيات الأنبياء عليهم السلام مصونة من إنكار
المنكرين، واعتراض الواهمين، وأنها قد انتهت فلا يُخشى أن يضر الاعتقاد بها في
الزمن الحاضر وما بعده، كما أنه لم يكن ضارًّا في الماضي، وإنما كان نافعًا.
وبقي القول في كرامات الأولياء ومقتضى ما تقدم أن الاعتقاد بها يضر كما
يضر الاعتقاد بالخوارق عند كهنة الوثنيين وقدّيسي المسيحيين. والمنفعة التي
تدعيها كل الطوائف من الاحتجاج بهذه الخوارق على صحة الدين أو الاستعانة بها
على تمكين اعتقاد المؤمنين، ممنوعة بأنها من المشترك الإلزام كما تقدم في الجزء
الماضي.
فإذا دعوت إنسانًا إلى دينك بحجة أن من قومك من يعمل العجائب وتظهر
على يديه الخوارق يلزمك بأن في قومه أيضًا مَن له مثل ذلك أو ينازعك في
دعوته داعٍ آخر يحتج بمثل هذا الاحتجاج.
ووجه آخر للدفع وهو أن أهل العلم والبحث يرون دعوى الخوارق من الأدلة
على بطلان الدين كما سبق آنفًا، وأما العوام فإنهم أسرى التقليد ولذلك يصدقون ما
يسمعون من قومهم من الأخبار ويكذبون ما تدعيه لقومك، هذا وإن دعوة الإسلام قد
انتشرت في الأرض انتشارًا لم يعرف ما يقاربه في دين آخر، وما ذاك إلا أن
الدعاة إليه ما كانوا يعتمدون في الدعوة إلا على كون ما يدعون إليه صوابًا، عقائده
معقولة، وأحكامه مقبولة، ولم يُعْرَف أنه كان للإسلام دعاة قد استحوذوا على
النفوس بما أدهشوها بالكرامات والخوارق كما هو المنقول عن دعاة النصارى
وغيرهم، نعم، إنه قد نقل عن بعض الأولياء من الكرامات أضعاف ما نقل عن
المسيح وتلامذته وعن جميع الأنبياء والمرسلين؛ ولكن أولئك الأولياء لم يعرف في
التاريخ الصحيح أنهم كانوا دعاة وأن الناس آمنوا بكراماتهم، اللهم إلا بعض الحكايات
التي توجد في بعض كتب المناقب وقلما يوثق بشيء من رواياتها لا سيما إذا
انفردت بها.
ووجه آخر للدفع: وهو أن أمر الخوارق صار عند العامة من جميع الأمم
كالصناعة المحترمة لشدة الحاجة إليها ولا ينظر فيها إلى الدلالة على صحة دين مَن
ظهرت على يديه لا سيما بعد موته؛ ولذلك ترى كثيرًا من عامة النصارى يقصدون
من اشتهر من أولياء المسلمين لقضاء الحاجات ببركاتهم وهم على نصرانيتهم. ولقد
كان عم والدي (السيد الشيخ أحمد رحمه الله تعالى) مشهورًا بالصلاح والبركة
فكان يرد عليه وفود الناس من المسلمين والنصارى يلتمسون بركته بالرُّقَى والتمائم
ويأخذون منه البشارات.
وقد كدت أكون خليفة له رغم أنفي لأمور اتفقت لي في سن الحداثة، من ذلك
أن بعض الأعراب أخذوا مني ورقة فعلقوها على كبش في غنم موبوءة فزعموا
أن الموت أدبر والصحة أقبلت منذ عُلِّقت الورقة على الكبش! ومن ذلك أن
إنسانًا كان يُصْرع ويرى نفرًا من الجن يضربونه فدُعِيت إليه فأبيت مؤكدًا لهم
أنه لا فائدة من زيارتي له ألبتَّة فألحوا وتوسلوا بالوالدة فعدت مريضهم فشفي.
واتفق لي أمثال هذه الوقائع من كثير من المسلمين والنصارى فانتشر خبرها
وكدت أكون مقصودًا بها كعم الوالد الذي كنت أنكر عليه (رحمه الله تعالى) لولا
أن بادرت إلى محاربة هذه الاعتقادات وعدم إجابة القاصدين إلى ما يطلبون.
وكذلك نرى كثيرًا من المسلمات والمسلمين يقصدون بعض الأديار وقبور
القديسين بالزيارة، ويحملون إليها النذور كما يحملونها إلى قبور الأولياء متوسلين
بهؤلاء وأولئك وطالبين منهم قضاء الحاجات! ومن ذلك دير مَار جرجس في
مصر العتيقة، والمير تادرس بكنيسة القبط بحارة الروم، وغير ذلك مما لا يُحصَى.
وكذلك يقصد بعض المسلمين والمسلمات بعض القسيسين الذين يشتهرون في
قومهم بالعجائب وقضاء الحاجات. ولا يكاد يعتقد أحد من هؤلاء وأولئك بصحة
دين غير دينه الذي نشأ عليه. وذلك أن الخوارق صارت عندهم من قبيل الصناعة
والدين صار من قبيل الجنسية.
وقد طال بنا المقال أكثر مما كنا نتوقع فنرجئ إتمام المبحث على الجزء الآتي
وفيه نبين وجود التأويل ومناشئ القال والقيل. وما ينبغي اعتقاده في الكرامات التي
أثبتناها في المقالات الأولى وقد سئلنا عن الثابت من معجزات نبينا غير القرآن
وسنجيب عنها في الجزء الآتي أيضًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفد بني تميم
عن جابر قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم -، فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زَيْن، وإن سبنا شَيْن. فسمعهم
النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله عز وجل فما
تريدون؟ قالوا: نحن ناس من بني تميم جئناك بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك
ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالشعر بُعثنا ولا بالفخار أُمرنا
ولكن هاتوا. فقال الأقرع بن حابس لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك وفضل
قومك. فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء،
فنحن من خير أهل الأرض وأكثرهم عددًا وأكثرهم سلاحًا، فمَن أنكر قولنا فليأتِ
بقول هو أحسن من قولنا وبفَعَال (كرمٍ) هو أفضل من فعالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري -
وكان خطيبه -: (قم فأجبْه) فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به
وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله، دعا المهاجرين من بني نمر أحسن الناس وجوهًا وأعظم الناس أحلامًا
فأجابوه، الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزًّا لدينه، فنحن نقاتل الناس
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمَن قالها منع منا ماله ونفسه ومن أباها قاتلناه وكان
رغمه في الله علينا هينًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
قال الزبرقان بن بدر لرجل منهم: يا فلان قم واذكر أبياتًا تذكر فيها فضلك
وفضل قومك، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
…
نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند المحل كلهم
…
من السديف إذا لم يؤنس الفزع [1]
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد
…
إنَّا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بحسان بن ثابت. فذهب إليه
الرسول فقال: وما يريد مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كنت عنده آنفًا.
قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فتكلم خطيبهم فأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه ، وتكلم شاعرهم فأرسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليك لتجيبه. فقال حسان: قد آن لكم أن تبعثوا إلى هذا العود (والعود
الجمل الكبير) . فلما أن جاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، قم
فأجبه. فقال: يا رسول الله مُره فليُسمعْنِي ما قال. قال: أسمعْه ما قلت. فأسمعه،
فقال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة
…
على رغم باد من معدٍّ وحاضر
بضرب كإيزاع المخاض مشاشه
…
وطعن كأفواه اللقاح الصوادر [2]
وسلْ أُحدًا يوم استقلت شعابه
…
بضرب لنا مثل الليوث الخوادر [3]
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى
…
إذا طاب ورد الموت بين العساكر؟ !
ونضرب هام الدارعين وننتمي إلى حسب من جِذم غسان قاهر [4]
فأحياؤنا من خير مَن وطئ الحصى وأمواتنا من خير أهل المقابر
فلولا حياء الله قلنا تكرُّمًا على الناس بالخيفين هل من منافر؟ [5]
فقام الأقرع بن حابس فقال: إني - والله - يا محمد لقد جئت لأمر ما جاء له
هؤلاء، إني قد قلت شعرًا فاسمعْه. قال: هاتِ. فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا
…
إذا اختلفوا عند اذِّكار المكارم
وأنَّا رؤوس الناس من كل معشر
…
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وأن لنا المرباع في كل غارة
…
تكون بنجد أو بأرض التهايم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسّان فأجبه. فقام وقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم
…
يعود وبالاً بعد ذكر المكارم
هُبلتُم علينا تفخرون وأنتم
…
لنا خَوَلٌ ما بين قِنٍّ وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كنت غنيًّا يا أخا بني دارم أن
نذكر منك ما قد كنت ترى أن الناس قد نسوه منك "، فكان قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشد عليه من قول حسان ثم رجع حسان إلى قوله:
وأفضل ما نلتم من الفضل أنكم
…
ردافتنا من بعد ذكر المكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم
…
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا
…
ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا - ورب البيت - مالت أكفّنا
…
على رأسكم بالمراهفات الصوارم
فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء ما أدري ما هذا الأمر؟ ! تكلم
خطيبنا؛ فكان خطيبهم أرفع صوتًا وأحسن قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع
صوتًا وأحسن قولاً، ثم دنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا
الله وأنك رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يضرك ما كان قبل هذا) ا. هـ رواه الروياني وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر. وقد طعنوا بالمعلى
بن عبد الرحمن بن الحكيم الواسطي راويه، حتى رماه الدارقطني بالكذب، ولا
يستلزم هذا أن يكون الحديث بطوله غير واقع فإن احتمل أن فيه زيادة أدرجها
المعلى فذلك لا يمنع أن يستفاد من الحديث ما فيه من الأدب والعبرة، وإنما يمنع
الاحتجاج به في إثبات الأحكام ورُوي في السير بألفاظ أخرى.
_________
(1)
السديف: شحم السنام.
(2)
قال - في التاج عند قول القاموس -: والتوزيع القسم والتفريق كالإيزاع، وبه يروى شعر حسان رضي الله عنه * بضرب كإيزاع المخاض مشاشه * جعل الإيزاع موضع التوزيع، وهو التفريق، وأراد بالمشاش هنا البول، وقيل: هو بالغين المعجمة وهو بمعناه اهـ.
(3)
الليث الخادر: المقيم في خدره، وهو أشد بأسًا منه خارج العرين لمكان الحماية ومنع الأشبال.
(4)
جذم غسان: أصله وهو بكسر الجيم ويُفتح.
(5)
نافره منافرة: حاكمه في الحسب والنسب، وقيل: فاخره مطلقًا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ورع أبي بكر رضي الله عنه
عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر مملوك يغلّ عليه فأتاه ليلة فتناول منه
لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال:
حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت
لهم فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت فإذا عرس لهم فأعطوني. قال: أفٍّ لك
كدت أن تهلكني. فأدخل بيده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلتْ لا تخرج فقيل له: إن
هذا لا يخرج إلا بالماء. فدعا بعسّ [1] من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها.
فقيل له: يرحمك الله، كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي
لأخرجتها؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من
سُحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. رواه
الحسن بن سفيان وأبو نعيم في الحِلية والدِّينوري في المجالسة بهذا السياق.
وروى أحمد في الزهد من طريق ابن سيرين والبيهقي عن زيد بن أرقم ما يؤيد
الواقعة.
وعن أبي بكر حفص بن عمر قال: جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو ما يعالج
الميت ونفسه في صدره فتمثلت هذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين (وفي رواية: ليس
كما قلت يا بنية) ؛ ولكن: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19) ، إني كنت قد نحلتك حائطًا وإن في نفسي منه شيئًا فرُدِّيه على
الميراث قالت: نعم. فَرَدَّتْهُ، أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل دينارًا ولا
درهمًا ولكن قد أكلنا من جريش طعامهم [2] في بطوننا، ولبِسنا من خشن ثيابهم على
ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا
البعير الناضح وجرد هذه القطيفة [3] فإذا متّ فابعثي بها إلى عمر وأبرئيني منهن.
ففعلت فلما جاء الرسولُ عمرَ بكى حتى جعلت دموعه تسيل على الأرض وجعل
يقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب مَن بعده ، يا غلام، ارفعْهن. فقال عبد الرحمن
بن عوف: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر عبدًا حبشيًّا وبعيرًا ناضحًا وجرد
قطيفة ثمنه خمسة دراهم؟ ! قال: فماذا تأمر؟ قال: تردهن على عياله. قال:
لا والذي بعث محمدًا بالحق لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا يخرج أبو بكر منهن
عند الموت وأردهن أنا على عياله. الموت أقرب من ذلك، رواه ابن سعد.
(المنار)
هكذا تكون خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي السيرة التي كان
يجب على المسلمين أن يُلزموا بها ملوك بني مروان وبني العباس الذين سموا
أنفسهم خلفاء، وكذلك غيرهم من الملوك. والله ما نكل بالإسلام وأوقع المسلمين في
هذا الهوان إلا استبداد أولئك الملوك بالسلطة وجعلهم الرعية وأموالها ملكًا لهم
يتوارثونها ويتصرفون فيها بما شاؤوا، حتى إذا ظهر فيهم عادل يحاول وضع
الحق موضعه - كمعاوية الأصغر وعمر بن عبد العزيز والمأمون - ألزموه بقوة
العصبية على أن يجري في طريقهم أو يخلع من الملك. ولقد تعب عمر بن عبد
العزيز فيما قدر عليه من العدل تعبًا عظيمًا.
نعم، إن هذه السُّنَّة التي سنَّها أبو بكر متعبة لا يقدر عليها إلا مثل عمر
ويظهر أنه كان يعتقد أن ما فرض له من الانتفاع من بيت المال (كما ذكرنا في
السنة الماضية) يجب أن يكون مشروطًا بمدة عمله للمسلمين، وأنه إذا بقي منه بقية
يجب أن ترد إلى بيت المال ولا يجوز لورثته التمتع بها؛ لأنهم لا يعملون للمسلمين
ما كان يعمله.
وإنَّا لنتمنى اليوم أن يأخذ أمراؤنا وملوكنا أضعاف كفايتهم، وأن يورث عنهم ما
بقي عن نفقاتهم بشرط أن يكفوا عن تبذير ما في خزائن الأمة من الأموال والتحف
والإفضاء بها إلى أوليائهم بمجرد شهواتهم وأهوائهم، وقد سبق لنا القول في السنة
الرابعة بأن في خزائن الدولة العلية من الذخائر والجواهر ما يكفي بعضه للقيام
بإنشاء الأساطيل البحرية وترقية القوة الحربية، بحيث تقاوم بها أعظم الدول القوية،
وهذه الذخائر كغيرها تحت تصرف شخص السلطان، ولا يكاد يسمح بشيء منها
إلا لقيصري الروس والألمان.
_________
(1)
العُسّ: بالضم: القدح الكبير.
(2)
الجريش: الدقيق الغليظ، معروف والمِلح لم يطيب.
(3)
القطيفة: دثار مخمل أي: له زغب وجرد قطيفة: يريدون به خلق قطيفة، وأصله شيء جرد أي خَلِق.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ديوان الرافعي
مصطفى أفندي صادق الرافعي يعرف شعره قراء المنار؛ فلا حاجة لتعريفهم
به، وقد جمع منظوماته في ديوان يطبع الآن، وإننا ننشر كلمة له فيه تنويهًا به
وترغيبًا فيه وهي:
كلمة الناظم
أول الشعر اجتماع أسبابه، وإنما يرجع في ذلك إلى طبع صقلته الحكمة،
وفكر جلا صفحة البيان، فما الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب، وسفير
النفس إذا ناجت النفس، ولا خير في لسان غير مبين، ولا في سفير غير حكيم.
ولو كان طيرًا يتغرد لكان الطبع لسانه، والرأس عُشه، والقلب روضته،
ولكان غناؤه ما تسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء، وحسبك بكلام تنصرف إليه
كل جارحة، ويجني من كل شيء حتى لتحسب الشعراء من النحل تأكل من كل
الثمرات، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس.
وكأنما هو بقية من منطق الإنسان اختبأت في زاوية من النفس، فما زالت بها
الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب، وأخرجتها بعد ذلك ألحانًا بغير إيقاع،
ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرغ كلها، ثم تتعاون كأنما تبحث بنور العقل عن
شيء غاب عنها في تفنن الشعراء، حتى لكأن الحُطيئة يعوي في أثر القوافي في
عواء الفصيل في أثر أمه.
وترى المجيد من أهل الغناء إذا رفع عقيرته يتغنى ذهب في التحرك
مذاهب، حتى كأنما ينتزع كل نغمة من موضع في نفسه، فيتألف من ذلك صوت
إذا أجال حلقه فيه وقعت كل قطعة منه في مثل موضعها من كل مَن يسمع فلا يلبث
أن يستفزه طربه، كأنما انجذب قلبه، وتصبو نفسه كأنما أخذ حسّه، لا فرق في
ذلك بين أعجمي وعربي، ومن أجل هذا ترى أحسن الأصوات يغلب على كل طبع،
وإنما الشاعر والمغني في جذب القلوب سواء، وفي سحر النفوس أكْفَاء، إلا أن
هذا يوحى إلى القلب، وذاك ينطق عنه، وأحدهما يفيض عليه، والثاني يأخذ منه،
والويل لكليهما إذا لم يطرب هذا، ولم يعجب ذاك.
والشعر موجود في كل نفس من ذكر وأنثى، فإنك لتسمع الفتاة في خدرها،
والمرأة في كِسر بيتها، والرجل وقد جلس في قومه، والصبي بين إخوته يقصون
عليك أضغاث أحلام، فتجد في أثناء كلامهم من عبق الشعر ما لو نسمته لفغمك،
وحسبك أن تكسر وسادك تتحدث إليهم؛ فتراه طائرًا بين أمثالهم وفي فلتات ألسنتهم،
وهو كأنما قد ضل أعشاشه، ولقد نبغ فيه من نساء هذه الأمة شموس سطعن في
سماء البيان، وطلعن في أفق البلاغة، ولا يزال الناس إلى اليوم يروون للخنساء
وجنوب وعلية وعنان ونزهون وولاّدة وغيرهم وبحسبك قول النواسي: ما قلت
الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى.
ولو كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفَّاة لعددناه ضربًا من قواعد الإعراب،
لا يعرفها إلا مَن تعلمها؛ ولكنه يتنزل من النفس منزلة الكلام، فكل إنسان ينطق
به، ولا يقيمه كل إنسان، وأما ما يعرض له بعد ذلك من الوزن والتقفية، فكما
يعرض للكلام من استقامة التركيب والإعراب، وإنك إنما تمدح الكلام بإعرابه،
ولا تمدح الإعراب بالكلام.
ولم أقرأ أجمع فيه من قول حكيم العصر وإمام الإفتاء في مصر: (لو سألوا
الحقيقة أن تختار لها مكانًا تُشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من
الشعر) ، ولا فيما قالوه في الشعراء أجمع من قول كعب الأحبار: (الشعراء
أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة) .
ولم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا الأبيات يقولها الرجل في الحاجة
تعرض له، كقول دويد بن زيد، حين حضره الموت، وهو من قديم الشعر
العربي:
اليوم يبنى لدويد بيته
…
ولو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدًا كفيته
وإنما قُصِدَت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهناك
رفع امرؤ القيس ذلك اللواء، وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء، وهو لم
يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما اتبعه فيه مَن جاء بعده، فهو أول مَن استوقف على
الطلول ووصف النساء بالظباء والمهى والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعِصي،
وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد
الاستعارة والتشبيه، ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره.
ثم تتابع القارضون من بعده، فمنهم من أسهب فأجاد، ومنه من أكب كما
يكبو الجواد، وبعضهم كان كلامه وحي الملاحظ، وفريق كان مثل سهيل في
النجوم يعارضها، ولا يجري معها، ولقد حدوا في ذلك حتى إن منهم مَن كان يظن
أن لسانه لو وضع على الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه.
ذلك أيام كان للقول غرر في أوجه ومواسم؛ بل أيام كان من قدر الشعراء أن
تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم، حتى لا يعرفون إلا بها كالمرقش والمهلهل والشريد
والممزق والمتلمس والنابغة وغيرهم، ومن قدر الشعراء كانت القبيلة إذا نبغ
فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن
بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وأيام كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر
ينبغ أو فرس تنتج، وكانت البنات ينفقن بعد الكساد إذا شبَّب بهن الشعراء.
ولم يترك العرب شيئًا مما وقعت عليه أعينهم أو وقع إلى آذانهم أو اعتقدوه
في أنفسهم إلا نظموه في سَمْط من الشعر، وادخروه في سفط من البيان؛ حتى إنك
لترى مجموع أشعارهم ديوانًا فيه من عوائدهم وأخلاقهم وآدابهم وأيامهم وما
يستحسنون ويستهجنون حتى من دوابهم، وكان القائل منهم يستمد عفو هاجسه
وربما لفظ الكلمة تحسبها من الوحي وما هي من الوحي ولم يكن يفاضل بينهم إلا
أخلاقهم الغالبة على أنفسهم، فزهير أشعرهم إذا رغب، والنابغة إذا رهب،
والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب، وهلم جرًّا.
ولكل زمن شعر وشعراء ولكل شاعر مرآة من أيامه؛ فقد انفرد امرؤ القيس
بما علمت واختص زهير بالحوليات واشتهر النابغة بالاعتذارات وارتفع الكميت
بالهاشميات وشمخ الحطيئة بأهاجيه، وساق جرير قلائصه وبرز عدي في صفات
المطية وطفيل في الخيل والشماخ في الحمير، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك
شيئًا من شعره فيها فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارًا!
وحسبك من ذي الرمة رئيس المشبهين الإسلاميين أنه كان يقول: (إذا قلت
(كأن) ولم أجد مخلصًا منها، فقطع الله لساني) ! ! وقد فتن الناسُ ابنُ المعتز
بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، ورقت قلوبهم على زهديات أبي العتاهية
وجرت دموعهم لمراثي أبي تمام، وابتهجت أنفسهم بمدائح البحتري،
وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم.
فمن رجع بصره في ذلك وسلك في الشعر ببصيرة المعري، وكانت له أداة
ابن الرومي، وفيه غزل ابن ربيعة وصبابة ابن الأحنف وطبع ابن برد وله اقتدار
مسلم، وأجنحة ديك الجن ورقة ابن الجهم وفخر أبي فراس وحنين ابن زيدون وأنفة
الرضي وخطرات ابن هانئ، وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينه بصر ابن خفاجة
بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطيب، فقد استحق أن يكون شاعر دهره،
وصناجة عصره.
ولا يهولنّك ذلك إذا لم تستطع عد الشعراء الذين انتحلوا هذا الاسم ظلمًا،
وألحقوه بأنفسهم إلحاق الواو بعمرو، فكلهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
وأبرع الشعراء مَن كان خاطره هدفًا لكل نادرة، فربما عرضت للشاعر
أحوال مما لا يعني غيره، فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر؛
فجاءت بها كالمعجزات وهي ليست من الإعجاز في شيء، ولا فضل للشاعر فيها
إلا أنه تنبه لها، ومَن شدَّ يده على هذا جاء بالنادر، من حيث لا يتيسر لغيره، ولا
يقدر هو عليه في كل حين.
وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك، وأن عينك
تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء، وإذا تحمس فزعت
لمساقط رأسك، وإذا وصف لك شيئًا هممت بلمسه، حتى إذا جئته لم تجده شيئًا.
وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نثل كنانته رأيت مَن
يرميه صريعًا، لا أثر فيه لقذيفة ولا مدية، وإنما هي كلمة فتحت عليها عينه، أو
ولجت إلى قلبه من أذنه، فاستقرت في نفسه، وكأنما استقر على جمر.
وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه، وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعًا،
وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعًا، وإذا فخر اشتم من لحيته
رائحة الملك؛ فحسبت إنما حفت به الأملاك والمواكب.
وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه؛ فإن الكلمة إذا
خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.
ولقد رأينا في الناس مَن تكلف الشعر على غير طبع فيه، فكان كالأعمى
يتناول الأشياء ليقرها في مواضعها، وربما وضع الشيء الواحد في موضعين أو
مواضع وهو لا يدري!
وأبصرنا فيهم كذلك مَن يجىء باللفظ المونق والوشي والنضر، فإذا نثرت
أوراقه لم تجد فيها إلا ثمرات فجة.
ورأينا في المطبوعين مَن أثقل شعره بأنواع من المعاني، فكان كالحسناء
تزيدت من الزينة، حتى سمجت فصرفت عنها العيون بما أرادت أن تلفتها به!
على أن أحسن الشعر ما كانت زينته منه وكل ثوب لبِسته الغانية فهو معرضها.
وهو عندي أربعة أبيات: بيت يُستحسن، وبيت يسير، وبيت يندر، وبيت
يجن به جنونًا، وما عدا ذلك فكالشجرة التي نقض ثمرها، وجني زهرها، لا
يرغب فيها إلا محتطب.
أما مذاهبه التي أبانوها من الغزل والنسيب والمدح والهجاء والوصف والرثاء
وغيرها - فهي شعوب منه، وما انتهى المرء من مذهب فيه إلا إلى مذهب، ولا
خرج من طريق إلا إلى طريق {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء:
225) وما دامت الأعمار تتقلب بالناس فالشعر أطوار، آونة تخطر فيه نسمات
الصبا ما بين أفنان الوصف إلى أزهار الغزل، ويتسبسب فيه ماء الشباب من نهر
الحياة إلى مشرعة الأمل، وطورًا تراه جم النشاط تكاد تصقل بمائه السيوف،
وتفرق بحده الصفوف، وحينًا تجده وقد ألبسه المشيب ثوب الاعتبار، وجمَّله
بمسحة من الوقار، وهو في كل ذلك يروي عن الأيام وتروي عنه، وما أكثر فنون
الشعر إذا رويت عن أفانين الأيام.
وأما ميزانه فاعمد إلى ما تريد نقده فرده إلى النثر، فإن استطعت حذف شيء
منه لا ينقص من معناه أو كان في نثره أكمل منه منظومًا؛ فذلك الهذر بعينه أو
نوع منه، ولن يكون الشعر شعرًا حتى تجد الكلمة من مطلعها لمقطعها مفرغة في
قالب واحد من الإجادة، وتلك مقلدات الشعراء، إليك مثلاً قول ابن الرومي -
يصف منهزمًا -:
لا يعرف القرن وجهه ويرى
…
قفاه من فرسخ فيعرفه
فقلِّبْ نظرك بين ألفاظه وأجِلْه في نفسك، ثم ارجع إلى قول ذلك الخارجي،
وقد قال له المنصور: أخبرني أي أصحابي كان أشد إقدامًا في مبارزتك؟ فقال: ما
أعرف وجوههم ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم: يديروا أعرفك، ألست ترى في ذلك
النظم من كمال المعنى وحلاوة الألفاظ ما لا تراه في هذا النثر.
ولقد بقي أن قومًا لم يهتدوا إلى الفرق بين منثور القول ومنظومه، والذي أراه
أن النظم لو مد جناحيه وحلق في جو هذه اللغة ثم ضمهما لما وقع إلا في عش النثر
وعلى أعواده، ولن تجد لمنثور القول بهجة إلا إذا صدح فيه هذا الطائر الغرد، بل
لو كان النثر ملِكًا لكان الشعر تاجه، ولو استضاء لما كان غيره سراجه.
ومازال الشعراء يأتون بجمل منه كأنها قطع الروض إذا تورَّد بها خد الربيع،
وهذا ابن العباس وكتبه، وابن المعتز وفصوله والمعري ورسائله، وانظر إلى قول
بشار وقد مدح المهدي فلم يعطه شيئًا، فقيل له: لم تجد في مدحه، فقال: (والله
لقد مدحته بشعر لو قلت مثله في الدهر لما حتف صرفه على حر، ولكني أكذب في
العمل فأكذب في الأمل) ، وبشار هو ذلك الغواص على المعاني الذي يزعم ابن
الرومي أنه أشعر مَن تقدم وتأخر، وهو القائل في شعره مفتخرًا:
إذا ما غضبنا غضبة مُضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة
…
ذرى منبر صلى علينا وسلما
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُعد، وأوسع من أن تُحد.
ولا تجد الناظم وقد أصبح لا يحسن هذا الطراز إلا إذا كان جافي الطبع، كدر
الحس غير ذكي الفؤاد، لم تجتمع له آلة الشعر وهو إذا كان هناك وجاء من
صنعته بشيء، فإنما هو نظام وليس بشاعر.
أما الفرق بين المترسلين والشعراء، فإن كان كما يقول الصابي: (إن
الشعراء إنما أغراضهم التي يرتمون إليها وصف الديار والآثار، والحنين إلى
الأهواء والأوطار، والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء، وأما
المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على
جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن
فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك، فذلك زمن قد درج
فيه أهله، وبساط طوي بما عليه، ولم يعد أحد يحذر مؤاخاة الشاعر؛ لأنه يمدحه
بثمن ويهجوه مجانًا، وإنما الفرق بين الفريقين أن مسلك الشاعر أوعر ومركبه
أصعب وأسلوبه أدق، وكلامه مع ذلك أوقع في النفس وعلى قدر إجادته يكون
تأثيره، فالمجيد من الشعراء أفضل من غيره في صناعة الكلام، وإنك إنما تزين
النثر بالشعر، ولا تزين الشعر بالنثر.
وفي الحديث الشريف: (إنا قد سمعنا كلام الخطباء وكلام أبي سُلمى، فما
سمعنا مثل كلامه من أحد) ، وقال الشافعي - في كتاب (الأم) -: (الشعر كلام
كالكلام، فحَسَنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، وفضله على سائر الكلام أنه سائر في
الناس يبقى على الزمان، فينظر فيه) .
هذا، وإن من الشعر حكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة تقريظ
(أحسن الكلام)
أورد المصنف - بعد مقدمته تلك - حديث أبي هريرة الصحيح في النهي عن
الكلام وقت خطبة الجمعة وهو (إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصتْ. والإمام
يخطب فقد لغوتَ) ، وقال: إنه قد أخرجه الستة، ونقول: إن ابن ماجه لم يخرجه.
وأورد بعده احتجاج أبي حنيفة بأقوال الصحابة على منع الكلام من وقت
خروج الإمام، وأن صاحبيه خالفاه؛ لأنهما لا يحتجّان برأي الصحابي؛ لأن
المجتهد لا يقلد مجتهدًا، واستنتج من ذلك أن الترقية المتعارفة في زماننا جائزة عند
الصاحبين ما لم تشتمل على تغنٍّ وتلحين مخل، قال:(وإلا فهي مكروهة اتفاقًا) ،
ثم قال: إنه لا وجه للإنكار على الترقية مع هذا الخلاف بين المجتهدين، (وإنما
يجب الإنكار فيما اتفق الكل، وأجمعوا على عدم جوازه) .
ونقول: الظاهر أن مصنف الرسالة هو الذي استنبط هذا الجواز من قواعد
الصاحبين، فإن كان يدعي أن بدعة الترقية كانت في عهدهما، وأنهما نصَّا على
جوازها فليدلنا على النص، وإذا كان هو المستنبط للجواز فلنا في استنباطه
إشكالات:
أحدها: إنه ليس لمثله أن يستنبط ولا أن يرجح، وإنما هو من الطبقة التي لا
يُقبل منها إلا نقل نصوص المذهب كابن عابدين، ولا يدعي أنه فوق طبقة ابن
عابدين الذي صرح بأنه لا يُقبل منه إلا النقل لنصوص المذهب المرجحة، بل قالوا:
إن أبحاث الكمال بن الهمام لا يعمل بها إذا خالفت نصوص المذهب.
ثانيها: إذا فرضنا أنه ادّعى أنه فوق الكمال في الفقه، وأن له أن يستنبط من
نصوص أئمته فلماذا لا يستعمل هذه الموهبة في وظيفة ويزحزح عن المحكمة
بعض قيود الفقهاء الذين ضيقوا مذهب الحنفية؟! وأكثرهم من الذين لم يبلغوا هذه
الدرجة - درجة الاستنباط من أصول المذهب - وإذا كان المؤلف وصل إليها فلا
يجوز له التقيد بأقوال مَن هم دونه من الفقهاء، وأي نعمة على المحاكم الشرعية في
مصر؛ بل على مذهب الحنفية من وجود مجتهد فيه ينقحه، ويسهل وعورته،
فيصلح به حال هذه المحاكم التي يحتج قضاتها بأنهم ممنوعون عن الإصلاح بقيود
الفقهاء التي كُلفوا بالجمود عليها، وعدم التصرف فيها كأنما ألفاظها قرآن تعبّدوا به
تعبدًا.
ثالثها: أن ما يُنقل عن الصحابة عليهم الرضوان إن كان من قبل الرأي فهو
الذي لا يكلف المجتهد باتباعهم فيه إلا إذا وافق دليله دليلهم، وأما إذا كان مما لا
مجال للرأي فيه كالعبادات، فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
والأقرب أن مسألتنا من هذا القسم، فإن لم يسلم بأنه الأقرب فلا أراه ينكر أنه
الأحوط.
رابعها: أن الكلام الذي أجازوه في المسجد في غير وقت الخطبة ليس فيه
شبهة التعبد به، واتخاذه شعارًا لازمًا، كما هو الشأن في الترقية المعروفة في هذه
الأزمنة، فقياس الترقية على الكلام قياس مع الفارق، على أن ما كان من قبيل
الشعائر الدينية والتعبد لا يجوز القياس فيه، كما تقدم في النبذة الماضية؛ لأنه مما
يجب فيه الوقف عند نص الشارع؛ فثبت بهذا أن الترقية بدعة منكرة لا وجه
لجوازها في مذهب من المذاهب.
خامسها: أن الترقية المسؤول عنها مشتملة على التغني والتلحين المخل،
فهي منكرة حتى في رأي المصنف؛ ولكن إيراد قياسه على تقدير خلوها من ذلك
والحكم بأنه لا وجه لإنكارها يوهم من يطلع على الرسالة من غير أهل التدقيق أنه
بذلك القياس يجيز ما عليه الناس، وهو إنما أجاز صورة من صور الترقية غير
موجودة، وخلاصة القول إن هذه الرسالة لا تبيح الترقية المعهودة الآن، وإنما تبيح
ترقية مشروطة بشرط غير موجود بناءً على قياس في غير محله.
ثم تكلم المصنف في حكم قراءة سورة الكهف، فقال: (إنها جائزة اتفاقًا،
ولا وجه للقول بمنعها) ، ثم ذكر أنها عبادة لم يرد النهي عنها بخصوصها، (ولم
يدخل ذلك تحت نهي عام، واستثنى من ذلك القراءة وقت الخطبة، أو عند خروج
الإمام على الخلاف المار) ، ثم صرح بأن قراءتها برفع الصوت في المسجد لا
تمنع، وأورد حديث:(لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)، وقال: إنه على
فرض صحته لا يصلح حجة للمنع وكذلك حديث: (لا ضرر ولا ضرار) قال:
(وعلى فرض وجود مصلٍّ لنحو تحية مسجد وقت قراءتها فلا يحصل من ذلك
تشويش عليه) ، ثم قال:(إنه ورد أحاديث كثيرة بطلب قراءتها) ، وأورد منها
حديثين، ثم نفى أن يكون الاجتماع الخاص في المسجد لسماعها بدعة لدخوله في
عموم الترغيب في الاجتماع للذكر.
نقول: إن في هذا الاستدلال نظرًا ظاهرًا، لا سيما على قواعد الحنفية الذين
يقلدهم المصنف، فإنهم نصوا في كتبهم على أن قراءة (الم.. السجدة)
و (الإنسان) في فجر الجمعة مكروهة، مع أن الأحاديث فيها صحيحة ليست
كأحاديث قراءة سورة الكهف، وعللوا الكراهة بأن فيها هجرًا لباقي القرآن، بل
قالوا باتجاه التحريم في ذلك، فإن قيل: إنهم قالوا بذلك لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لم يلتزم قراءة (الم.. السجدة) و (الإنسان) في فجر الجمعة؛ بل
ورد أنه قرأ غيرهما أيضًا، فقالوا بكراهة المواظبة عليهما، نقول: إن ما ورد
فيهما أصح مما ورد في غيرهما، ويدل على التكرار، ولم يرد حديث صحيح في
قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والناس يواظبون عليها مع الاجتماع والتوقيت،
حتى كأنها من شعائر الإسلام المنصوصة، مع أنها معارَضة بأحاديث منها ما رواه
الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعًا: (مَن قرأ السورة التي يُذكر فيها آل
عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته، حتى تحجب الشمس) ، ومنها ما
رواه ابن مردويه عن كعب مرفوعًا بسند صحيح: (اقرؤوا سورة هود يوم
الجمعة) ، نعم، إنه مرسل، ولكن الحنفية يحتجون بالمرسل، وإن لم يحتج به
مصنف الرسالة في منع الكلام عند خروج الإمام إلى الجمعة، ومنها حديث
الطبراني في الكبير عن أبي أمامة: (مَن قرأ حم.. الدخان في ليلة الجمعة أو يوم
الجمعة بنى الله له بيتًا في الجنة) ، ومنها أحاديث في قراءة سورة في ليلة الجمعة.
وأما الأحاديث التي اختارها مما ورد في قراءة سورة الكهف فهي كما ذكرها
بالنص، قال: منها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعًا: (مَن قرأ
سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عَنان السماء، يضيء
له إلى يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين) . وما رواه غير واحد عن أبي
سعيد الخدري: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه
وبين البيت العتيق) .
أقول: قد طعن في سند كل منهما، بل قال الحافظ ابن حجر في تخريج
أحاديث الأذكار: إن أقوى ما ورد في قراءة سورة الكهف حديث أبي سعيد عند الحاكم
في التفسير والبيهقي في السنن: (مَن قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له
من النور ما بين الجمعتين) ، وقد أورده الحاكم من طريق نعيم بن حماد عن هشيم
عن أبي هاشم وصححه؛ ولكن قال الذهبي في الميزان: بل نعيم بن حماد ذو
مناكير، وقد ورد في قراءة آيات مخصوصة من الكهف بدون ذكر الجمعة روايات
قوية، وبعضها في صحيح مسلم.
وأما تشويش هؤلاء القراء في المساجد على المصلين فهو مما لا شك فيه،
وما فرضه صاحب الرسالة من وجود المصلين وقت قراءة سورة الكهف في المسجد
أمر واقع مشاهَد؛ ولكن هؤلاء الفقهاء يتكلمون بالفروض كأنهم في كون مفروض
غير موجود.
وكون التشويش على المصلين غير جائز مما لا ينبغي أن يشك فيه، والصلاة
هي المقصودة من المساجد بالذات؛ ولذلك صرح الفقهاء بمنع الجهر بالتلاوة في
المسجد إذا كان فيه مَن يصلي. وقد أوَّل المصنف حديث: (لا يجهر بعضكم على
بعض بالقراءة) ورواه (بالقرآن) بأن معناه الظاهر: (لا يذم أحد أحدًا بالقرآن،
أو لا يشتم بعضكم بالقرآن انتصارًا على البعض الآخر) ، ولم يعلم أنه عُلل بإيذاء
المصلي، رواه الخطيب عن جابر.
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم
مناجٍ لربه، فلا يؤذِ بعضكم بعضًا، ولا يرفعْ بعضكم على بعض في القراءة) ؛
ولكن أكثر المشتغلين بالفقه لا يطلعون على كتب السنة إلا قليلاً. ولا يخفى أن
إيذاء من يجهر لمَن يسر بالصلاة أو القراءة أشد من إيذائه لمن يجهر مثله؛ لأن
الجهر يُدفع بالجهر. فسقط جميع استدلال المصنف، وثبت أن قراءة سورة الكهف
في المسجد يوم الجمعة - في الوقت الذي يجتمع الناس فيه للصلاة - بدعة
محظورة، لا سُنة مطلوبة.
(للتقريظ بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
…
...
(كتاب إصابة السهام فؤادَ مَن حاد عن سنة خير الأنام)
أهدانا الشيخ محمود محمد أحمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر نسخة من
كتاب له جديد سمّاه بهذا الاسم، وهو في بيان البدع والمنكرات الفاشية بين أهل
العلم والدين، وفي المساجد وحلقات الدروس وغير ذلك، ولم تتيسر لنا مطالعته،
وإنما أخذناه الآن في يدنا، وقرأنا جملة من فهرسه، فإذا فيها:
(مطلب تحريم القراءة إذا لزم عليها تشويش خلافًا لمن قال بالكراهة) ، فراجعنا
هذا المطلب، وأحببنا أن ننقل منه تأييدًا لما ذكرنا آنفًا في الانتقاد على رسالة الشيخ
بخيت ما يأتي، قال المصنف - في سياق الكلام على المنكرات الفاشية في الجامع
الأزهر ومنها التشويش على المصلين برفع الصوت بالنية - ما نصه:
(قال ابن العماد: لو توسوس المأموم من تكبيرة الإحرام على وجه يشوش
على غيره من المأمومين حرم عليه ذلك، كمن قعد يتكلم بجوار المصلي، وكذا
تحرم عليه القراءة جهرًا على وجه يشوش على المصلي بجواره) . اهـ
وقوله: (من المأمومين) : يعني مثلاً، وكذا قوله:(على المصلي) ، وإلا
فالتشويش حرام، ولو على النائم، وأما قول ابن حجر بكراهة القراءة عند التشويش،
وردّه قول ابن العماد بالحرمة فهو المردود، وكيف لا، وقد أضر بقراءته المتعبدين،
ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) . اهـ
ثم رأيت فيه مبحث قراءة سورة الكهف في المساجد فأحببت نقله أيضًا، وهو:
ومنها - أعني البدع التي اخترعوها في الجامع الأزهر ونحوه - قراءة سورة
الكهف يوم الجمعة بصوت مرتفع وترجيع، والمسجد ممتلئ من الناس ما بين راكع
وساجد وذاكر وقارئ ومتفكّر إلى غير ذلك، ومع ذلك يرتبون للقارئ لها أجرة من
الوقف، وذلك ممنوع من وجوه:
(الأول) كونه مخالفًا لما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمن
أصحابه والسلف، والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع والأحاديث في
ذلك معلومة.
(الثاني) أن فيه تشويشًا على مَن بالمسجد متلبّسًا بعبادة، وقد تقدم غير مرة
أن التشويش ممنوع بالإجماع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ملعون مَن
ضارَّ مؤمنًا) .
(الثالث) فيه صرف المال في غير مصرف شرعي؛ بل هو منكر، وهو
ممنوع، ولا سيّما من مال الوقف.
(الرابع) أن ذلك كان سببًا في اعتقاد العوام أن قراءة السورة المذكورة بهذه
الصفة من معالم الدين، فأدخلوا في الدين ما ليس منه، وتقدّم أنه ممنوع بنص
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الخامس) فيه رفع الأصوات في المسجد لغير ضرورة شرعية، وقد ورد
النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجهر بعضكم على بعض في
القراءة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا عليُّ، لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك
حيث يصلي الناس؛ فإن ذلك يفسد عليهم صلاتهم) .
وقال في الدر المختار للسادة الحنفية: (يحرم رفع الصوت في المسجد بذكر
إلا للمتفقهة) . اهـ.
ولعل موضوعه فيما إذا كان في تشويش، وقال ابن العماد الشافعي: (تحرم
القراءة جهرًا على وجه يشوش على نحو مصلٍّ) اهـ ومر.
ويأتي النص على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون
رفع الصوت بالذكر والقرآن، ولا سيّما في المساجد، فإذًا عند التشويش لا يشك
في التحريم، نعم، ورد النص على فضل قراءة هذه السورة ليلة الجمعة ويومها،
ولكن ليس كما اعتاده هؤلاء الناس، بل يقرأ لنفسه في بيته مطلقًا، أو في المسجد
بدون رفع صوت؛ حذرًا من التشويش، وعبارة (قرة العين) مع شرحها (فتح
المعين) للعلامة زين الدين المليباري الشافعي نصها: (وسُن قراءة سورة الكهف
يوم الجمعة وليلتها لأحاديث فيها، وقراءتها نهارًا أوكد، وأولاها بعد الصبح
مسارعة للخير، وأن يكثر منها ومن سائر القرآن فيهما، ويكره الجهر بقراءة
الكهف وغيرها إن حصل به تأذٍّ لمصلٍّ أو نائم، كما صرّح به النووي في كتبه)
وقال شيخنا في شرح الباب: (ينبغي حرمة الجهر بالقراءة في المسجد، وحمل
كلام النووي بالكراهة على ما إذا خِيفَ التأذي، وعلى كون القراءة في غير المسجد)
اهـ.
قال محشيّه السيد علوي قوله: (.. لأحاديث) فقد صح أن من قرأها
ليلتها أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. اهـ
وفي فتاوى قاضي خان: (رجل يقرأ وبجنبه رجل يكتب الفقه لا يمكنه أن
يستمع كان الإثم على القارئ؛ لأنه قرأ في موضع يشتغل الناس بأعمالهم، ولا
شيء على الكاتب) . اهـ
فما بالك بمَن كان مشغولاً بنحو صلاة، ويشوش القارئ عليه كالحاصل
بقراءة سورة الكهف يوم الجمعة، ونحوه في الفتح عن الخلاصة قال: (وعلى هذا
لو قرأ على السطح والناس نيام يأثم) . اهـ، قال ابن عابدين: (أي لأنه يكون
سببًا لإعراضهم عن استماعه، أو لأنه يؤذيهم بإيقاظهم) ، ثم قال: (يجب على
القارئ احترام القرآن بأن لا يقرأه في الأسواق ومواضع الاشتغال، فإذا قرأ فيها
كان هو المضيع لحرمته، فيكون الإثم عليه دون أهل الاشتغال دفعًا للحرج)
اهـ
(وكذا في مذهب السادة الحنبلية وغيرهم، فتحصل أن قراءة السورة
المذكورة بهذه الكيفية التي اعتادها كثير من الناس ممنوعة بإجماع المسلمين،
وكيف لا وهي من الحدث في الدين لمخالفتها لما كان عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وآله وأصحابه وصالح السلف، ومعلوم أن كل ما خالف ذلك فهو في
شَرَك الوبال والتلف) . اهـ.
هذا ما رأينا نقله الآن من كتاب السبكي من غير بحث فيه، وسنعود إلى
النقل عن هذا الكتاب الذي نودّ أن يطلع عليه جميع المسلمين، ونشكر لمؤلفه
عنايته بخدمة الدين.
***
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الجديدة، وفيه من الفوائد والمباحث العلمية
والتاريخية والسياسية والأدبية ما جمع - على اختصاره - بين الفائدة واللذة، وقد
توسع فيه بالكلام عن مصر والسودان، حتى إنه يُغني عن كتاب (دليل مصر)
لما فيه من بيان أحوال البريد والسكك الحديد
…
وذكر في باب وفيات الأعيان
ملخص تراجم كبار الرجال الذين ماتوا في العام الماضي، ومنهم باي تونس والسيد
الكواكبي، وذكر في باب القضاء أهم المسائل التي يحتاج إلى معرفتها المتخاصمون
في المحاكم المصرية مرتبة على حروف المعجم، وفي باب الإحصاء طلبة العلم
والعلماء بمساجد مصر، البريد المصري، سكك الحديد في العالم، الأمم المدمنة
السكر، نسبة المتعلمين في الأمم، العائلات وضعف التناسل، الجرائد في العالم،
سكان الأرض، السفن، اللغات، الزنا في فرنسا، النساء في الولايات المتحدة،
أعمار النساء، وغير ذلك.
وجملة القول في هذا التقويم: إنه نديم المقيم، ورفيق المسافر، وقاموس العلم،
ومكتبة الحبيب، وهو يُطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر بالمؤيد، ومن
المكاتب الشهيرة، وثمنه خمسة قروش.
***
(النخبة الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية)
كتاب حافل في تقويم البلدان يدخل في أربعة أجزاء:
الجزء الأول: عموميات على الدنيا، الجزء الثاني: مصر والحكومة
السودانية، الجزء الثالث: إفريقيا وأوربا، الجزء الرابع: آسيا وأمريكا
والأقيانوسية والأقاليم القطبية، وفيه 47 خريطة ملونة و66 صورة وشكلاً، ومؤلفه
إسماعيل أفندي علي الموظف بنيابة الاستئناف الأهلية، ومدرس علم تقويم
البلدان بالجامع الأزهر الشريف.
هذا ملخص التعريف بالكتاب، ونقول إن قُراء العربية في أشد الحاجة إلى
كتب مطولة في هذا الفن ومن العجيب أن وُجدت كتب مطولة في أكثر العلوم
العصرية دون هذا العلم الذي يجب أن يكون عامًّا، ومن الفضائح أن يجهله ذكر أو
أنثى، فمن نعم الله تعالى على قراء العربية أن سخر لهم رجلاً من أوسعهم اطلاعًا
وتدقيقًا فيه، فوضع لهم هذا الكتاب، وهو مؤلفه إسماعيل أفندي علي الذي زاول
تعليمه في المدارس الأميرية أعوامًا طويلة، ثم لا يزال يعلّمه في الأزهر إلى
اليوم.
ومن شكر النعم أن يبادورا إلى اقتناء الكتاب والاستفادة منه؛ لأن الشكر إنما
يكون بوضع النعمة في موضعها الذي وجدت لأجله، ومن آيات الجهل الفاضحة أن
يحبس هذا الكتاب الجليل في مكاتب الباعة زمنًا طويلاً، ومن الإساءة أن ينفق هذا
المؤلف زمنًا طويلاً من وقته في التعريب والتأليف ووضع الخرائط بالعربية، ثم
يصرف مبلغًا كبيرًا من ماله في نفقات طبع الكتاب، ولا تكون أقل مكافأة له من
الأمة سرعة الإقبال على كتابه.
أما صفحات الكتاب فهي 640 من الشكل الكبير جدًّا، وثمنه أربعون قرشًا
صحيحًا، ومَن لاحظ الصعوبة في طبع الخرائط الملونة بالألوان الكثيرة، وصعوبة
وضعها يعلم أن ثمن الكتاب رخيص بصرف النظر عن فائدته.
إننا تصفحنا بعض الكتاب بالإجمال، وإنما نثق به لثقتنا بسعة اطلاع مؤلفه
على كتب الإفرنج الحديثة، وله العذر إذا وقع فيه شيء من الخطأ في إحصاء
أهالي بلاد كالبلاد العثمانية، لا يتيسر له الوقوف على كتب حديثة فيها كما يتيسر
له في غيرها، وقد كان أول مَن انتقد ذلك في الكتاب هو أول المعجبين به صديقنا
رفيق بك العظم، قال:(إنه اعتمد على الإحصاءات القديمة) ، كقوله - عن
سكان دمشق - إن عددهم 60 ألفًا، مع أن الإحصاء الجديد الوارد ذكره في سلنامة
الولاية الرسمية هو 143321، وفي الحقيقة إنه يزيد عن هذا العدد أيضًا؛ إذ يقدر
العارفون سكان دمشق بمائة وستين ألفًا، وعلى هذا يقاس ما ذكره عن عدد نفوس
بقية البلدان الكبيرة في الزيادة والنقصان كحلب وبيروت وحماة وغيرها، ولو
اعتمد في النقل على سلنامات الدولة الرسمية لكانت خدمته العظيمة أتم، ووضعه
الجميل أكمل، وانتقد عليه أيضًا عدم تعيينه درجات العرض للبلدان الكبيرة
بالتفصيل، أو الأقطار بالإجمال، ولو فعل لأغنى المطالع عن مراجعة الخرائط
الموجودة في الكتاب لمعرفة عرض كل بلد أو قطر، كما فعل غيره في كتب أصغر
من كتابه، وانتقد أيضًا اختصار الكلام في المملكة العثمانية، وهو يرجو - كما
نرجو - أن يضع لها كتابًا مخصوصًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدولة العلية ومكدونية
نجم من عدة أشهر ناجم من الثورة في بلاد مكدونية فشخصت له أوربا
وأسرعت روسيا والنمسا إلى الدولة العلية بالنصيحة والحث على تلافي الأمر
والمسارعة إلى إصلاح البلاد ووضعتا للإصلاح (لائحة) عرَّفتا بها سائر الدول ثم
قدمتاها إلى الدولة ملحّتين في المبادرة إلى قبولها فلم تلبث الدولة أن قبلتها على
عِلَاّتها خلافًا لعادتها في التريث والليِّ.
ومن موضوع اللائحة وجوب استعمال الأوربيين في الإصلاح؛ لأنه لا ثقة
لأوربا برجال الدولة وقد ساء هذا معشر الألبانيين ولم يقع موقعه من نفوس معاشر
المسيحيين؛ لأن نفوسهم طمعت بالاستقلال، فكل ما دونه يعد عندهم من ألاعيب
الأطفال.
كان في أثر ذلك أو معه حركة في البلغار وهزة في (السرب) ، وطاف في
الأذهان أن هذه الفتنة ستعم بلاد البلقان، وظهرت من بعض الدول العظام أمارات
الاتفاق مع روسيا والنمسا، ومن بعضهن علائم السكوت وعدم المعارضة،
واختلفت الظنون في نية روسيا فجنح بعضٌ إلى ترجيح كفة السلم من جانبها؛ بدليل
نصائحها المتتابعة للبلغاريين وغيرهم من شعوب البلقان بأن يخلدوا إلى السكينة
ويتفيّؤوا ظلال الهدوء والمسالمة، ومال بعض إلى ترجيح كفة الحرب بدليل التقاليد
القديمة التي وضعها بطرس الأكبر في وصيته (التي نشرناها في الجزء الماضي)
وما يصدق ذلك من أخبار استعدادها الحربي في هذه الأيام.
الحق أن لكل من الرأيين وجهًا وجيهًا، وأن سياسة روسيا أصبحت دقيقة
المسالك مشتبهة الأعلام فبينا ترى قيصرها ينادي بوجوب تعميم الأمن والسلام،
ومد ظلاله على رؤوس جميع الأنام، تراه يستعد للكفاح استعدادًا صوريًّا ومعنويًّا.
فأما الصوري فبإنشاء الأساطيل وتكثير الأسلحة وإتقان العلوم العسكرية، وأما
المعنوي: فبمحالفة بعض الدول القوية ومسالمة بعض. ولقد كان الإنكليز عون الدولة
العثمانية على روسيا فحال لوْن السياسة الجامعة بينهما وتغير شكلها وتبدل السلطان
عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ شديد الجشع، قوي الطمع إذا رأى
روسيا وقد جدَّ جدها يكتفي منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا
يطوف في خاطر عاقل أنه يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان إذا نزل مع
الروس في ميدان الطعان!
كانت قلوب المسلمين في العيدين محوّمة فوق بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج،
كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من
هم مراكش، همّ الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله تعالى) ولا خوف عليها إلا من
روسيا. فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم بنيران الثورة اضطرامًا ولا
تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة تنتظر حينئذ استقلال مكدونية
أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب الجديد في سير أوربا بالمسألة
الشرقية مذهب التفكيك وتحليل العناصر، وهذا المذهب خير لدول أوربا وأسهل
طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتوح والتغلب؛ لأن هذا يعوزه الاتفاق على ما
يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة، وسفك دماء عزيزة هو خير
للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر ينحل من عناصر بلادهم
وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم كيف يحفظ الباقي فإذا لم
يتعلموا بتكرار النُّذر وأنواع العبر، وكانوا يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا
يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، فهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّان يبعثون!
مسألة مكدونية مسألة عشواء والحكم فيها غامض لما تقدم؛ ولأن النصارى فيها
وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوربا وما يدانيها كبلاد الأرمن قد
توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوربا نصيرة لهم وأن الذريعة الوحيدة
لإثارة نعرتها عليهم وتصدِّيها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي تضطر
الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم ولعل أوربا في مجموعها وروسيا
حاضنة جراثيم فكر الاستقلال في البلقان في خاصتها تعجز عن ضبط حركة هذه
الثورة التي تولدت وتأصلت ورسخت واندفعت عن بصيرة أو غير بصيرة.
هذا ما يُخشى على تقدير إرادة روسيا إطفاء الثورة والاكتفاء بما طلبت من
الإصلاح فكيف إذا كانت تريد شيئًا آخر؟ !
وماذا يجب على الدولة أن تفعله في هذه الفتنة وماذا يجب عليها أن تفعله في
نفسها لأجل مستقبلها؟
أما الأول: فالظاهر أن الذي تعمله الآن من إجابة طلب روسيا والنمسا إلى
الإصلاح الذي طلبتاه بدون تحوير ولا تأخير ومن اختيار الموظفين الأوربيين
للإصلاح من الأمم الأوربية الضعيفة ومن الاستعداد للكفاح إذا طرأ ما هو أعظم من
ذلك هو الواجب الذي لا يمكن غيره.
وأما الثاني: فإن الجواب عنه لا يفهم ويقبل إلا بعد العلم بأمور كثيرة أهمها
(مالية الدولة) وإن لدينا رسالة مطولة أو كتابًا صغيرًا في ذلك لأحد الكُتاب
العثمانيين مستقًى من الينابيع الرسمية وإننا ننشره تِبَاعًا في أجزاء المنار ليصح
للقارئين معرفة الدولة وما يجب أن تعمله لتنجو من الخطر.
وإن فهم حقيقة الدولة مما لا بد منه للمشتغلين بمسألة الإصلاح الإسلامي لما
لهذه الدولة من المكانة في الوجود ومن المكانة في نفوس المسلمين في جميع أقطار
الأرض. ولهذا أخذنا على أنفسنا أن نكتب في كل جزء من منار هذه السنة شيئًا
عن الدولة العلية من بيان حقيقة وجودية ورأي معقول نرجو الانتفاع به. ونتجنب
في ذلك المدح والذم للأشخاص المعينين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سلطان زنجبار والأمير العربي
نحمد الله تعالى أن حفظ البلاد المقدسة في هذه السنة من الوباء والأمراض، وقد
كتب إلينا من مكة المكرمة بأن صديقنا الأمير العربي الكريم محمد باشا عبد الوهاب
شيخ دارين قد كان له من الحفاوة والاحترام عن سيادة الشريف ودولة والي الحجاز ما
يليق بمقامه، وأنه قد وُفِّقَ إلى توزيع ألف وخمسمائة جنيه على علماء الحرم الشريف
وخدمته وغمر بصدقاته الفقراء والمعوزين، وأنه تبرع بمئة جنيه وعشرة جنيهات
إعانة لسكة حديد الحجاز وأن سلطان زنجبار تبرع لهذه السكة أيضًا بمئة جنيه وخمسة
جنيهات ووزع على المجاورين والمستخدمين في الحرم الشريف ست مئة ريال
(بوم) .
(تنبيه)
كل مَن قبل هذا الجزء من المنار فهو مشترك إلى آخر السنة ويجب عليه دفع
القيمة المعينة على غلاف المجلة. ونستثني عمال البريد خاصة، فنقبل منهم نصف
القيمة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة التاسعة
فيما ينبغي عليه التعويل
علم مما تقدم أن الأمور الغريبة التي تسمى خوارق عادات وعجائب منقولة
عن جميع الأمم فهي واقعة حتمًا، ومنقولة بالتواتر اللفظي وبالتواتر المعنوي، وإن
ادعاها كثيرون من الناس كذبًا وتعمَّلوا للاشتهار بها تعملاً. ثم إن هذه الأمور على
ضربين: ضرب عرف عن أهله أنه صناعي يتوصل إليه بالعلم والعمل كالسحر
والشعوذة، فهو من الخوارق بالنسبة إلى الذين لا يعرفون طريقه ولم يقفوا على عِلَله
قال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة: 102) وقال عز وجل: {يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) أي: والحقيقة خلاف ذلك التخيل وقال:
{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ} (الأعراف: 116) وقال - حكاية عن
فرعون -: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (طه: 71) وضرْبٌ عُرِفَ عن
أهله أنه ليس له طريق صناعي يوصل إليه العلم، وإنما هو وراء الأسباب والثابت
القطعي من هذا القسم آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدم الكلام عليها في
المقالة الأولى وفي الأمالي الدينية ومنه ما يدعيه أو يُدَّعى لكبار رجال الدين من أهل
الملل والكلام فيه، والمقصود منه بالذات ما عندنا معشر المسلمين وقد ذكرنا حجج
مثبتي الكرامات وحجج منكريها وأوردنا ما رواه المثبتون من الكرامات المأثورة
عن الصحابة والتابعين، وبينا ما صح منها وما لم يصح فليراجع كله في المجلد الثاني
من المنار.
وإننا نختم القول في مبحث الكرامات بمسائل أكثرها مستفاد من المقالات
السابقة، وهذه المسائل هي خلاصة رأينا في الموضوع فمن أنكر علينا منها شيئًا
فليكتب إلينا مدليًا بحجته، ونعده بأننا ننشر ما يكتب بمعناه أو بلفظه إذا كان صحيحًا
ومختصرًا وغير خارج عن محل النزاع استطرادًا إلى مسائل أخرى. فإن كانت
الحجة ناهضة سلمنا وإن كانت داحضة بيَّنَّا. ولا ينبغي لأحد أن يرد علينا في
الموضوع إلا بعد الاطلاع على المقالات التسع؛ لئلا يبحث في شيء سبق بيانه
فيُهمَل كلامه:
(المسألة الأولى) إن الأصل في كل ما يحدث في الكون أن يكون له سبب
وأن يجري على سنة من سنن الله تعالى في الخلق، وهذه الأسباب مطردة متى تمت
شروطها (كما قال الغزالي) وتلك السنن ثابتة لا تبدل ولا تحول كما علم بالمشاهدة
والاختبار وبنص القرآن، فهي مسألة اتفق فيها الحس والعقل مع نصوص الشرع،
فهي قطعية.
(المسألة الثانية) إن من قضايا العقول - التي نصها علماء الأصول - أن
الظن الراجح لا يعارض العلم اليقين وأيد هذا القرآن أيضًا بمثل قوله تعالى: {إِن
يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وقوله عز وجل:
{وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) وغير ذلك من الآيات
الواردة في إبطال عقائد أهل الزيغ والجحود.
(المسألة الثالثة) أجمع العلماء من الأصوليين والمحدثين على أن روايات
الآحاد العدول الثقات كالصحابة وأئمة التابعين المعروفين ومن عُرف بالصدق
وحسن السيرة مثلهم لا يفيد أكثر من الظن، وأجمعوا على أنه إذا روي عنهم ما
يخالف المعقول القطعي والمنقول القطعي كنص القرآن فإنه لا يعتد بالرواية ولا
يعول عليها إلا أن يوفق بينها وبين القطعي منقولاً كان أو معقولاً فقط.
(المسألة الرابعة) إن العجائب والخوارق قد نقلت عن جميع الأمم فليس من
الصواب التفاضل بينها وادعاء أن بعضها على حق وبعضها على باطل بسبب ذلك
وإنما يجب تمحيص النقول وتحريرها فإن الناس مولعون أشد الولع بالغرائب،
وأكثر ما يتحدثون به منها كاذب.
(المسألة الخامسة) كما يجب تمحيص النقل والرواية يجب تمحيص المرويّ
المنقول من الغرائب؛ ليعلم أنه واقع حقيقة ولم يكن تخييلاً للأنظار أو خداعًا
للأبصار أو الأفكار.
(المسألة السادسة) قد كشف العلم أسبابًا لأمور كثيرة كانت تسمى خوارق
وكرامات، فإذا علم بعد تمحيص الرواية والمروي أن شيئًا من هذه الغرائب وقع لا
محالة، فينبغي الرجوع لالتماس الأسباب من مظانها في العلم الطبيعي وعلم النفس
فإن لم يظهر له سبب يحمل عليه، ولا وجه يمكن أن يؤوَّل إليه فهو الذي يصح
أن يسمى خارقة أو أعجوبة والنظر فيه من وجهين: حال مَن ظهر على يده، وإمكان
قياسه على غيره.
(المسألة السابعة) لثبوت الخارقة - على ما ذُكر - طريقان: الحسّ السليم
والتواتر الصحيح وكلاهما عسر جدًّا؛ لأن الحواس تُخدع حتى تكذب صاحبها فيما
ترى وتسمع، وأمر التواتر أبعد في العسر وصعوبة التحقق فإن من شرطه أن
ينتهي إلى حس محقق باليقين، وقد علمت أن الحس يخدع في هذا المقام.
ومنها أن يكون الناقلون لذلك الخبر المحسوس جمعًا يستحيل في العقل السليم
تواطؤهم على الكذب وانخداعهم بما أدركوه بحسهم وأن ينقل عنهم مثلهم في كل
طبقة من الطبقات وإنك ترى أكثر الناس يسمون الأمور المشهورة بينهم متواترة، لا
سيما إذا كثر تحدث الناس بها فإذا استقريت حلقات سلاسل الروايات وجدتها كلها
معلقة في آخرها بحلقة واحدة أو حلقتين أو ثلاث مثلاً.
وما انتهى إلى واحد أو آحاد فهو خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، وربما
رجحتَ الكذب في أكثر الغرائب المشهورة التي يسمونها متواترة.
الحق أن الإنسان متهم طبعًا بإذاعة كل غريب لا سيما إذا صادف هوى في
النفس أو طابق التقاليد والاعتقادات المسلّمة. فالحمد لله الذي جعل آية نبينا بينة
قائمة على وجه الدهر محفوظة من المعارضة والنقض مادامت السموات والأرض.
(المسألة الثامنة) إنك إذا بحثت في حال الذين يدعون الخوارق تجدهم
طلاب مال، وطلاب جاه وأنهم يقصدون بما يأتون استرهاب الناس بما يوهمونهم من
قدرتهم على إيذائهم متى شاءوا أو تعليق آمالهم بهم وإيهامهم أن بأيديهم مقاليد الرزق
ومفاتح الخير، أو الجمع بين الأمرين حتى إنهم جعلوا إرادة الله تابعة لإرادتهم! كما
قالوا في الكلمة المأثورة عن الربانيين منهم وهي:
(إن لله عبادْ، إذا أرادوا أرادْ) ! (هكذا يقولونها بالوقف على العباد على لغة
ربيعة) .
وينقلون عنهم من مثل هذه الجرأة على الله تعالى كلمات كبيرة وأشعارًا
وأغانٍ تختلب قلوب العامة. وفي كتب العقائد التي تُقرأ في الأزهر وغيره من
المدارس الدينية (كحواشي الباجوري على الجوهرة والسنوسية) أن خوارق
العادات تظهر على أيدي جميع أصناف الناس حتى الكفار والفساق، وتسمى إذا
صدرت من هؤلاء على نحو ما يحبون (استدراجًا) ؛ لأنها تغرهم بما هم فيه من
الباطل فيسترسلون فيه حتى لا مطمع في هدايتهم، وإذا ظهرت على يد مستور الحال
تسمى (معونة) . ويخصون اسم الكرامة بالخارقة التي تكون للمتمسك بالشريعة
اعتقادًا وتخلقًا وعملاً في الظاهر والباطن.
وإننا نقول لمن يأخذون أقوال هؤلاء العلماء بالتسليم: إذا كانت الخوارق تقع
على أيدي جميع طبقات الناس فلا يجوز الاستدلال بها على أن من تظهر على يديه
محق في اعتقاده أو مرضي عند ربه، وإنما يعرف ولي الله تعالى والصالح من عباده
بأمر واحد وهو مطابقة اعتقاده للحق المؤيد بالبراهين الصحيحة، وموافقته في أخلاقه
وسجاياه وأعماله السرية والجهرية لما أرشد إليه الدين والعقل من الفضائل والمنافع
العامة والخاصة بقدر الاستطاعة.
ونحن نرى العامة يبيحون لمن يجري على يديه شيء من الغرائب جميع
المنكرات، فهم يحكّمون خوارقه في حاله من الاعتقاد والعمل، والعلماء يحكّمون
حاله في خوارقه، فقد تناقض اعتقاد العامة مع اعتقاد العلماء ولا نرى أحدًا منهم
ينكر على الآخر ولا يجذبه إليه؛ لأن حرية الإسلام قد انقلبت إلى فوضى بعد
ذهاب منصب الخلافة وتولية الجاهلين بالدين أمور المسلمين!
(المسألة التاسعة) مَن رأى بعينه خارقة للعادة أو نُقلت إليه بطريقة التواتر
الصحيح وعرف أنها لم تكن خداعًا ولا تخييلاً وعلم أن من ظهرت على يديه ليس
من أهل التلبيس والشعوذة، ولا من طلاب المال والجاه واستمالة القلوب إلى الاعتقاد
به، وصعب عليه أن يحملها على وجه من وجوه التأويل الآتية - فإن له أن يقيسها
على ما عرف تأويله بأن يقول: إن كثيرًا من الغرائب وخوارق العادات المألوفة قد
كان يظن أنها خارجة عن نظام الخليقة وسنن الكون ومنتثرة من سمط الأسباب التي
تنتظم بها المسببات ثم ظهر أنها لم تكن شاذة عن تلك السنن الإلهية، ولا نادَّة من
دائرة الأسباب الكونية، وهذا الذي أراه الآن هو مثل تلك في ذاك الزمان، فيجوز
أن يظهر له مثل ما ظهر لها من السبب، وتزول الغرابة ويبطل العجب، وهذا
الرأي هو الذي عليه جميع العقلاء والحكماء في هذا العصر وإنهم ليتوقعون ظهور
علل جميع الغرائب التي حدثت في العالم حتى معجزات الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام.
(المسألة العاشرة) إذا فرضنا أن العلم أظهر لما يُؤثَر من المعجزات عللاً
روحانية وأسبابًا خفية فلا يَهِمَنَّ واهِمٌ أن ذلك قدح في النبوة، أو ظهور لبطلانها. كلا، إنه إن تحقق فلا يبعد أن يكون تحققه مظهرًا لحقية النبوة؛ كأن يتبين أن
الأرواح العالية تتصل بالعالم الأعلى وتستمد من عالمه الذي يسمى الملائكة قوة العلم
والهداية وقوة الأعمال الغريبة كإحياء الموتى وقلب العصا حية. فإن لم يتبين به
صدقها فلا وجه لظهور عدمه؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يدَّعون أن
الآيات التي يؤيدهم الله تعالى بها خارجة من سننه الظاهرة والخفية، وما كانوا
يدعون أن لهم سلطانًا في ملك الله تعالى يتصرفون فيه بمشيئتهم وإرادتهم متى
شاءوا وكيفما شاءوا وإنما كانوا يتبرؤون من حولهم وقوتهم ويسندون ما يؤيدهم الله
سبحانه به إليه، ويقولون: إنه واقع بإذنه، وقد كان اعتمادهم في دعوتهم
إلى الله على البرهان وكانوا لا يُعطون الآيات إلا بعد معاندة ومجاحدة من قومهم
وإلحاح في طلب آية لا يعرف مثلها عن البشر في أفعالهم السببية، وكان الله تعالى
يقيم عليهم الحجة التي يطلبونها، ولم تكن هي العمدة في إثبات الدعوة إلى الله وبيان
وحدانيته وقدرته وعلمه ووحيه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي
أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ
رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9 - 11) .
فهذه هي سنة الله في الأنبياء والأمم، يدعو النبي قومه إلى الله بالبينة وهي
كل ما يتبين به الحق من برهان عقلي ودليل إقناعي فيطلبون منه آية كونية فيتبرأ
من حوله وقوته إلى حول الله وقوته فيعطيه آية يخوفهم بها فيخضع له المستعد
لقبول ذلك ويعاند الآخرون فتحق عليهم كلمة العذاب قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ
بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59) فإذا فرضنا أن العلم أظهر سببًا معقولاً لآيات
موسى عليه السلام فهل ينافي ذلك أنها كانت تخويفًا لفرعون وقومه، وجاذبة لبني
إسرائيل إلى طاعة موسى بالإرهاب اللائق بأمثالهم في بلادتهم وجفوتهم؟
نعم، إن ما يتوقع كشفه بالعلم سيكون القاضي على بقايا دين لا يُحْتَج على
صحته إلا بالعجائب وليس لأصحابه برهان على عقائدهم، ولا سند متواتر في
صحة كتابهم، أولئك الذين ينعقون في كل بلاد إسلامية: إن القرآن لم يُثبت لمحمد
(عليه أفضل الصلاة والسلام) العجائب والخوارق فهو ليس بنبي ودعوته ليست
صحيحة، فالعلم الإلهي والشرائع الدينية والمدنية والحربية والسياسية وتكوين الأمم
وتربيتها من رجل أمي تربى يتيمًا في جاهلية جهلاء وأمة أمية لا يرونه تأييدًا إلهيًا،
وبرهانًا على صدقه قطعيًا، وإنما البرهان عندهم تلك الحكايات التي ينقلونها في
عجائب مقدسيهم وينقل الوثنيون عن كهنتهم أعظم منها.
(المسألة الحادية عشرة) يؤيد ما ذكرناه في معني آيات الأنبياء، وكونها لم
تكن براهين لإثبات الدين ما جاء في الباب الثالث عشر من تثنية الاشتراع آخر
أسفار التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهو:
(1)
إذا قام في وسطك نبي أو حالم حُلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة.
(2)
ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً لنذهب وراء آلهة
أخرى لم تعرفها ونعبدها.
(3)
فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم؛ لأن الرب إلهكم يمتحنكم
لكي يعلم هل تحبون الرب من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم.
وما جاء في الباب السابع من إنجيل متى وهو: (كثيرون سيقولون لي في
ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك
صنعنا قوات كثيرة (23) فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا
فاعلي الإثم) .
وفي الباب (24) منه: (لأنه سيقوم مُسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات
عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا) .
فعلم من هذا أن اليهود والنصارى يجب أن يوافقوا علماء الكلام من المسلمين
على أن الخوارق الكونية ليست دلائل برهانية قطعية على أصول الدين وعقائده
وصدق دعاته كما أوضحنا ذلك في الدرسين 29 و30 من الأمالي الدينية (راجع
ص371 و688، م4) وقد اختلف المتكلمون في دلالة المعجزة على النبوة هل هي
عادية أو عقلية أو وضعية؟ وقد رجح الأخير بناءً على أنها بمعنى تصديق الله لهم
بالقول.
(المسألة الثانية عشرة) سبق في المقالات الأولى أن أصحابنا فرقوا بين
معجزة النبي وكرامة الولي بأن الأولى لا بد أن تكون مقرونة بدعوى النبوة، وطلب
المعارضة الذي يسمونه التحدي. والثانية لا تكون كذلك وبأن الأولى يجب إظهارها
لإقامة الحجة، والثانية يجب إخفاؤها خوف الفتنة، وزاد بعضهم كالقشيري من
أئمة الصوفية والسبكي في الطبقات الكبرى أن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة
كإحياء الموتى، وإنما تكون فيما دون ذلك كشفاء مرض ومكاشفة خلافًا للقول
المشهور (ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي) ! ، ولقائل أن
يقول جمعًا بين القولين: إذا جاز ذلك في تصور العقل فإنه ما وقع ولا يقع بالفعل.
(المسألة الثالثة عشرة) قال الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية
إن خارق العادة لا يتكرر فإن كل ما يتكرر يكون معتادًا سواء عرف سببه أو لم
يعرف. وهذا القول معقول وهو يقضي القضاء المبرم على تلك الزحوف والفيالق
من حكايات الكرامات التي يحارب بها العامة عقلاء الناس الذين لا يستخذون
ويخنعون لأولئك الجهال الذين يدعون الولاية بحجة أنهم في كل يوم يخبرون الناس
بالمغيبات ويبرؤون المرضى من الأسقام ببركاتهم ونحو ذلك. ويسمون هذا على
تكراره كل يوم كرامة وما هو بكرامة وإنما بعضه كذب واختلاق وبعضه واقع
بالأسباب التي سننبه عليها؛ ولكنه أسند إلى غيرها أو ادَّعى فيه الكرامة.
…
...
…
... (للمسائل بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوى صلب المسيح
(1)
جاء في الجزء الأخير من الجريدة البروتستنتية نبذتان في الطعن بالإسلام:
إحداهما محاورة في صلب المسيح، والثانية طعن في القرآن وقيح، وقد كانت هذه
المجلة تطعن في الإسلام وكتابه ونبيه مع شيء من الأدب ونراها في هذه المدة
هتكت ستار الأدب وتجاوزت حدوده، مع أننا كنا نرجو أن تزيد في تحريه بعدما
أسند تحريرها إلى نقولا أفندي روفائيل الذي نعرفه دمثًا لطيف الشمائل، ولكنها نشوة
الحرية في مصر، والشعور بضعف نفوس المسلمين في هذا القطر فَعَلا في
نفوس هؤلاء الدعاة إلى النصرانية ما لا تفعل الخمر، فصار الواحد منهم إذا نسب
الافتراء إلى سيد الأنبياء بالتصريح وكتبه ونشره يرى نفسه كأنه قد جلس على
كرسي ميناس الأول أو رعمسيس الأكبر.
ونحن نقول: إن الحرية تنفع الحق ولا تضره، وإن سوء الأدب يضر صاحبه
ولا ينفعه وإن الشعب الضعيف قد يقوى بشدة الضغط المعنوي عليه فيتنبه إلى
التمسك بحقه والدفاع دونه وعند ذلك تزهق الأباطيل. وإننا لم نطلع على ما ذكر
إلا بعد تهيئة أكثر مواد هذا الجزء من المنار فاختصرنا مقالة الخوارق والكرامات
وكتبنا بدل تتمتها هذه الكلمات، ونرجئ تفنيد أقوالهم في القرآن إلى الجزء الثالث
من المنار، ونخص كُليماتنا هذه في مغامز ذلك الحوار.
ذكرت المجلة أن الحوار كان في مكتبة البروتستان في السويس بين محررها
وبعض المسلمين، وأن المسلم احتج بالقرآن على نفي الصلب فأجابه المحرر:
هبْ أنك كنت معاصرًا للمسيح وممن يعرفونه شخصيًّا وحضرت في مشهد
الصلب خارج أورشليم فماذا كنت ترى؟ قال: كنت أرى - ولا شك - المسيح
مصلوبًا كما رآه الجمهور، قلت: وماذا يكون إيمانك ويقينك حينئذ؟ قال: كنت
أوقن وأؤمن وأشهد أنه صُلب حقًّا كما أبصرت بعيني وأبصر الجمهور في رائعة النهار.
قلت: افرض أنك فيما أنت مؤكد بهذا التأكيد عن صلب المسيح وإذا برجل
أمي من العرب - أولئك القوم المشركين - يقول لك: أنت المؤمن وقد مضى على
حادثة الصلب نحو سبعمائة سنة عبارة القرآن هذه: (وما صلبوه وما قتلوه)(كذا)
فهل تستطيع أن تكذب عيانك وعيان الجمهور وتصدق خبر هذا الأمي؟ وهل الخبر
أصدق من العيان؟ قال: إذا كنت أعلم أن هذا الأمي المكذب للصلب رسول الله
فأصدق خبره وأكذب عياني وعيان الجمهور؛ لأن الله أعلم منا بحقائق الأمور.
قلت: وهل علمت أنه رسول الله وأن هذه العبارة من وحي الرحمن لا من
تلقين الشيطان؟ قال: نعم علمت ذلك بدون شك، أجبت: كيف علمته؟ قال: إن
محمدًا صلى الله عليه وسلم لما بعث رسولاً أيده الله بالمعجزات الباهرة.
قلت: ليس لمحمد معجزة بدليل قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن
كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولكن هب أن له معجزة وأنت رأيتها فبأي
حق تُرجح حكم حسك في رؤية معجزات محمد على حكمه في رؤية صلب المسيح
أَوَ لست تعلم أنه إذا أرى اللهُ الناسَ شيئًا على خلاف حقيقته ثم كذَّب ما أراهم إياه لا
يعود الناس يصدقونه إذا أراهم شيئًا على حقيقته! تعالى الله عن ذلك التلاعب، وهل
هذا هو الدليل القرآني الذي تحاول أن تنفي به حقيقة شهدت لها الكتب المقدسة من
قبل ومن بعد، وأثبتها التاريخ والآثار وعاينها جمهور عظيم من كل أمة تحت
السماء؟ !
وعند سماعه حجتي لم يكن عنده رد عليها وأمسك عن الكلام وخرج هو
وأصحابه!
وعدا ذلك اعلم - أيها القارئ العزيز - أن عبارة القرآن: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) منقولة عن بقايا فرقة صغيرة من النصارى قد مرقت عن الحق
يقال لها (الدوسيتيين) الذين اعتقدوا بلاهوت المسيح تمامًا كما تعتقد النصارى
اليوم ومن البدء؛ ولكنهم أنكروا ناسوته وزعموا أن الجسد الذي ظهر به المسيح إنما
كان صورة فقط لا حقيقة له أشبه بالظل والخيال وأوَّلوا الآيات الإنجيلية التي تثبت
كون جسده كسائر الأجساد ما عدا الخطيَّة فقالوا عن نموه في القامة: ما كان ينمو
ولكن شبه لهم وعن تناوله الطعام قالوا: ما كان يأكل ولا يشرب؛ ولكن شبه لهم،
وعن نومه وسائر أعماله الجسدية المشار إليها في الإنجيل قالوا: لم تكن حقيقية بل
شبهت لهم وعن صلبه وموته قالوا: (ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم) فمحمد
إذ سمع مقالتهم بصلب المسيح صورة دون الحقيقة ولم يكن يعلم المبدأ الذي ترتب
عليه هذا القول بادر بالمصادقة عليه رغبة في تنزيه المسيح عن الموت المهين
ونكاية في اليهود، والدليل على ذلك أن مقالة التشبيه هذه لا يمكن أن تخطر مباشرة
على بال عاقل ما لم يكن لها مبدأ كالذي ذكرناه اهـ.
هذه هي المحاورة التي أوردها بحروفها ونقول له في الجواب:
إن الإسلام سيهدم الوثنية التي غشيت جميع الأديان السماوية حتى يرجع
الناس إلى الدين القيم دين التوحيد القائم على أساس الفطرة المطابق للعقل حتى
يعترف الناس أن الوثنية السفلى كعبادة الحجر والشجر مثل الوثنية العليا، وهي عبادة
البشر، فهو يهدم كل دين بالبراهين الراجحة، فكيف تقوى عليه هذه السفسطة
الفاضحة؟ !
إذا فرضنا أن أجوبة المسلم له كانت قاصرة في معناها على ما كتبه فلا شك
أن ذلك المسلم عامي غِرٌّ، والظاهر أنه زاد في القول ما شاء وحرَّف فيه ما شاء
كما هي عادتهم، وكما تدل عليه المبالغة في تأكيد الصلب من المسلم بناءً على ذلك
الفرض ككلمة (كنت أرى ولا شك) وكلمة (كما رآه الجمهور) وكلمة (كنت
أوقن وأؤمن وأشهد) ومن عادة المنكِر إذا أقر بشيء على سبيل التسليم الجدلي
الفرضي أنه لا يؤكده بمؤكد ما فكيف نصدق أن ذلك المسلم انسلَّ من هذه العادة
الطبيعية العامة وغلا كل هذا الغلو في تأكيد الصلب ثم انقطع عن المناظرة وتوهم
أنه رأى المسيح مصلوبًا حقيقة وحار في التطبيق بين مشاهدته، وقول مَن قام
البرهان على عصمته؟ ! ونحن نذكر للكاتب البارع جواب المسلم العالم بدينه عن
هذه المسائل.
أما الجواب عن السؤال الأول: فكل من يعرف الإسلام يقول فيه: إنني لو
كنت في زمن المسيح وكنت أعرف شخصه لجاز أن يشتبه عليَّ أمر تلك الإشاعة
كما اشتبه على غيري، فالنصارى أنفسهم لا ينكرون أنه وقع خلاف في الصلب، وأن
بعض الأناجيل التي حذفتها المجامع بعد المسيح بقرون كانت تنفي الصلب ومنها
إنجيل برنابا الذي لا يزال موجودًا رغمًا عن اجتهاد النصارى في محوه من الأرض
كما محوا غيره. وإذا كانت المسألة خلافية وكان الذين اختلفوا فيه ما لهم به من
علم إلا اتباع الظن فما علينا الآن إلا أن نأخذ بما قاله عالِم الغيب والشهادة في كتابه
المنزل على نبيه المرسل. وبهذا الجواب سقط السؤال الثاني وجوابه وكذلك السؤال
الثالث. ومع هذا نقول: إن السؤال الثالث غير وارد بحال فإنه ليس عندنا مسألة
مشاهَدة وجاءنا رجل أمي من المشركين يكذبها ولو وقع هذا لكذبنا المشرك الأمي
وصدقنا بصرنا.
وإنما عندنا مسألة تاريخية اختلف فيها الناس وظهر فينا نبي أمي باتفاق جميع
الأمم؛ ولكنه علمنا الكتاب والحكمة وهدم الشرك والوثنية من معظم الممالك بقوة إلهية
أعطاه الله إياها. ومما جاء به حل عُقد الخلاف بين الملل الكبيرة ومنها هذه العقدة
فوجب اتباعه في ذلك.
وعجيب من نصراني يبني دينه على التسليم بأقوال مناقضة للحس والعقل في
كتب ليس له فيها سند متصل ثم يحاول هدم كتاب سماوي منقول بالتواتر الصحيح
حفظًا في الصدور والسطور بمعول وهمي، وهو فرض أننا رأينا المسيح مصلوبًا وما
رأيناه مصلوبًا، والفرض الموهوم لا يمس الثابت المعلوم، يقول هذا النصراني: إن
التوراة التي يحملها هي كتاب موحى من الله تعالى وكله حق. وفي هذه التوراة
مسائل كثيرة مخالفة للحس والبرهان العلمي فكيف يؤمن بها؟ كيف يؤمن بقولها إن
الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) وهذه العبارة تفيد بتقديم المفعول
أنها لا تأكل غير التراب وقد ثبت بالمشاهدة أنها تأكل غير التراب كالحشرات
والبيض ولا تأكل التراب مطلقًا، وكيف يؤمن بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن
كلاً من هذه الوحدة وهذا التعدد حقيقي؟ وأمثال ذلك كثير في الكتابين.
وأما السؤال الرابع فجوابه أننا علمنا أن محمدًا رسول الله، وأن ما جاء به
وحي من الله بالبراهين القطعية، ومنها ما أشرنا إليه آنفًا في مقالات الكرامات
والخوارق (راجع المسألة العاشرة) ، وقررناه بالتفصيل في مقالات سابقة، وأثبتنا
آنفًا من نص توراتكم وإنجيلكم أن الآيات والعجائب الكونية لا تدل على النبوة وأنها
تصدر على أيدي الكذبة والمضلين.
هذا إذا سلمنا أن النبي e لم يؤتَ إلا آيات الكتاب العلمية، وما كان على يديه
من الهداية العملية وكلاهما يدل على نبوته كما تدل المؤلفات النفيسة في علم الطب
والمعالجات الناجعة النافعة على أن صاحبها طبيب بخلاف عمل العجائب، إذا جعل
دليلاً على أن صاحبه طبيب؛ لأنه لا ينخدع به إلا الجاهلون؛ لأنه لا علاقة بين
معرفة الطب وبين عمل الأعجوبة وللمسلم أن يقول: إن النبي الأعظم e قد أُوتي
آيات كونية كثيرة ولكنه لم يجعلها هو ولا أتباعه من بعده عمدة في الدعوة إلى دينه؛
لأن دلالة هذا النوع من الآيات أضعف ولأن خاتم النبيين جاء يخاطب العقول ويؤيد
العلم ويحدد الأسباب ويبطل السحر والكهانة والعرافة والدجل؛ ليرتقي الإنسان بعلمه
وعمله ولا يستخذي لعبد من عبيد الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) فهو مخصوص بالآيات التي تقترحها الأمة، فتعريف الآيات فيه
للعهد بدليل ما رواه أحمد والنسائي والحاكم والطبراني وغيرهم في سبب نزوله وهو
أن قريشًا اقترحت على النبي e أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن ينحّي عنهم الجبال
فيزرعوا! ولا يخفى أن هذه أسئلة تعنت وعناد وإلا فالآية أو الآيات التي أيده الله
تعالى بها بينة لم يقدروا على معارضتها ولا نقضها. ولما طلبوا آية غير معينة كما
هنا نزل قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) .
وأما قول النصراني: إن محمدًا أخذ إنكار الصلب عن الدوستيين. فهو من اللغو
الذي يعرض عنه المسلم؛ ولكننا نذكر بمناسبته خليقة من خلائق هؤلاء المعتدين من
دعاة النصارى وطريقتهم في الاعتراض على القرآن وهي أنهم يقولون فيما ورد
فيه عن الأنبياء والأمم مما هو معروف ويعترف به أهل مذهبهم: إنه أخذه عنا
وليس وحيًا من الله. وفيما هو معروف عند غيرهم ولم يوافق أهواءهم: إنه مأخوذ
عن الطائفة الفلانية الكاذبة الضالة المبتدعة وليس وحيًا! وفيما لا يعرف عندهم ولا
عند غيرهم كالأمور التي جهل تاريخها واندرست رسومها: إنه غير صحيح ولا
وحي؛ لأنه لا يعرفه أحد، ولا يخلو الكلام في الأمم من هذه الأقسام، والنبي الأمي
لم يتعلم من أحد مذاهب الأمم وآراء الفرق المختلفة؛ لأنه لم يكن في بلاده من
يعرفها؛ ولأنه لم يكن يعرف غير لغة قومه الأميين الجاهلين؛ ولأنه لم يوافق طائفة
في كل ما تقول وتَدين بل اتبع الوحي المنزل عليه من الله والله علام الغيوب.
وإن لنا في هذا المقام تنبيهًا آخر: وهو أن اعتداء هؤلاء المعتدين على الإسلام
وتصدينا للرد على أباطيلهم عقبة في طريق الدعوة إلى الاتفاق، وإزالة الضغن
والشقاق والتعاون على عمارة البلاد؛ فإن المسلمين يعلمون أن هؤلاء الطاعنين في
الإسلام مستأجَرون من قِبل الجمعيات الدينية؛ لتشكيك عامة المسلمين في دينهم
وإهانة كتابهم ونبيهم، وأن هذه الجمعيات تنفق على دعاتها في كل سنة أكثر من
ثلاثة ملايين جنيه لأجل هذا الغرض، ونتيجة هذا أن النصارى بمجموعهم لا يمكن
أن يرضوا عن الأمة الإسلامية حتى تتبع ملتهم؛ فالذنب في كل عداوة وشقاق على
النصارى دون المسلمين.
وأما ردنا عليهم وتصدينا لبيان أباطيلهم فلا ينبغي أن يكون له تأثير سيئ في
النصارى؛ لأنه دفاع لا اعتداء فإن رد الشبهات الواردة على الدين فريضة دينية على
جميع المسلمين إذا لم يقم بها أحد كانوا جميعًا عصاة لله تعالى فاسقين عن أمره،
فنحن ندفع الحرج عن نفسنا وعن جميع المسلمين في هذه البلاد بحكم الاعتقاد
المالك لروحنا والمتصرف في إرادتنا وهم ليسوا كذلك.
ومن البلاء أن هؤلاء الطاعنين لا يؤثر فيهم البرهان؛ لأنهم لا يطلبون الحق
وإنما يطلبون المال فإذا استطعنا إسكات غيرهم ممن يكتب لمنفعة شخصه فلا يتيسر
لنا إسكاتهم لأن منفعتهم الشخصية مرتبطة بهذا الطعن؛ ولذلك نضطر إلى الرد
عليهم دائمًا عملاً بالواجب المحتم علينا في الدين فلا يلومنا عقلاء النصارى الذين
عرفوا مضرة التعصب الذميم بل يجب عليهم أن يساعدونا عليهم بتخطئتهم في
سيرهم. وإن كانوا راضين منهم فهم أنصارهم وأولياؤهم. والله وليّ المؤمنين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
معجزات نبينا عليه السلام
(س) علي أفندي مهيب بتفتيش عموم التلغرافات بمصر: أرجو أن تبينوا
لنا كل المعجزات الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن الشريف؛ لأن
الناس في اختلاف كثير فيما جاء عن معجزاته عليه الصلاة والسلام وسيكون قولكم
هو الفصل في هذا الموضوع. جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
(ج) إن آيات النبوة أعم من المعجزات، فمن آيات نبوته بشائر الأنبياء
السابقة وهي لا تسمى معجزات، وإن في مكتبة الفاتكان برومية إنجيلاً مكتوبًا بالقلم
الحِمْيَري قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه هذه العبارة بحروفها:
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6) ، ثم إن معجزة القرآن
تتضمن معجزات كثيرة، كما علم من مباحث المنار السابقة، وسنبين ذلك في
الأمالي الدينية والرد على شبهات النصارى.
والظاهر أنكم تسألون عن المعجزات الكونية لا العلمية والأدبية، وهذه كثيرة
جدًّا ومستفيضة؛ ولكنها لم تُجعل عمدة في الدعوة إلى الإسلام وطريق إثباته للحكمة
التي بيناها في مقالات متعددة آخرها المقالتان الثامنة والتاسعة من الكرامات
والخوارق وأوضحها مقالة (الآيات البينات على صدق النبوات) في المجلد الرابع
ولهذا لم يعتنِ بنقلها الصحابة والتابعون لتنقل عنهم بالتواتر، وإنما اشتهرت ثم
تواترت من بعدهم وتنتهي أسانيدها إلى أفراد فنقْلها شبيه بنقل معجزات المسيح
عليه الصلاة والسلام من حيث استفاضت على ألسنة المتأخرين ولم تؤْثر إلا عن
أفراد من أهل القرآن الأول.
إلا أن نقل معجزات نبينا الكونية أضبط وأصح من نقل معجزات المسيح
عليهما السلام لأن لها أسانيد متصلة، أشخاصها معروفون؛ إذ وضع لهم كتب
مخصوصة في تاريخهم؛ ولذلك ترى المحدثين يقولون: إن سند هذه المعجزة صحيح
وسند هذه ضعيف وهذه ثابتة وهذه مكذوبة أو واهية؛ لأن في سندها فلانًا الذي كان
يكذب في بعض الأحيان، أو فلان الذي كان كثير النسيان، وليس للنصارى مثل
هذه الأسانيد المتصلة، أما استقصاء ما كان سنده صحيحًا أو حسنًا وما كان مختلفًا
فيه لترجيح أحد الوجهين فليس جواب السؤال بمحل له على أنه غير ضروري
ويتوقف على مراجعة جميع ما نقل بأسانيده وتاريخ رجالها، وهو كثير جدًّا حتى إن
بعض المتأخرين ألَّف في المعجزات كتابًا يدخل في ثمان مائة صفحة ونيف.
ومن المروي في الصحيحين خبر انشقاق القمر روياه كغيرهم عن جماعة من
الصحابة، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق ونقلوه
بالتواتر، وإن لم يذكروا سببه بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم وأن القمر لا
يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع، وإن بعض المشركين لما
قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفَّار وانتظروهم جاؤوا فأخبروا بأنهم
رأوا القمر من ليلتهم تلك قد انشق ثم التأم وبأنه يجوز أن يكون رآه غيرهم وأخبر
به فكذبه من أخبرهم أو خشي أن يكذبوه فلم يخبر، وليس بضروري أن يراه في تلك
اللحظة علماء الفلك على قِلتهم في الجهة التي رؤي فيها. ولكنني لا أذكر أن أحدًا
أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم لم يعطِ الآيات المقترحة؛ لأنها سبب نزول العذاب بالأمم إذا لم يؤمنوا.
وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب بكفار قريش ولا أذكر لهم أيضًا جمعًا
بين آية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ، وآية {وَمَا مَنَعَنَا أَن
نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولا بد من تأويل
إحداهما وقد أوّل بعضهم الأولى فقط وليس هذا المقام مقام التطويل في هذه المباحث.
ومن المعجزات الواردة في الصحيح أيضًا إطعامه عليه السلام النفر القليل من
الطعام القليل جدًّا رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر ومن حديث أنس وقد وقع
ذلك مرات كثيرة. ومنها نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى كفى
الجيش وقد تكرر هذا أيضًا وبعض رواياته في الصحيحين. وقالوا: إن هذه المعجزة
أعظم من انفجار الماء من الحجر على يد موسى عليه السلام فإن من شأن المياه أن
تنبع من الأحجار، ومنها الإخبار بالغيوب في وقائع كثيرة جدًّا وبعضها في
الصحيحين وغيرهما كقوله: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) قال السيوطي في
الخصائص: هذا متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر وقد قتلته فئة معاوية عند
خروجها على علي أمير المؤمنين عليه السلام ولما ذكر لهم الحديث لم ينكروه؛
لأن منهم مَن كان يرويه قبل هذه الفتنة كعمرو بن العاص، وإنما أوَّلوه بتأويل
سخيف فقالوا: إنما قتله مَن أخرجه ويلزم من هذا أن يكون النبي عليه الصلاة
والسلام هو القاتل لعمه حمزة ولسائر أصحابه الذين دافعوا معه عن الدين، وتُروى
هذه الحجة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
ومن اللطائف في هذا الباب ما رواه ابن سعد في الطبقات من طريق عمارة
بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة الجمل وهو لا يسل سيفًا، وشهد صفين وقال:
أنا لا أضل أبدًا حتى يقتل عمار، فأنظر مَن يقتله؛ فإني سمعت رسول الله e
يقول: (تقتله الفئة الباغية)، قال: فلما قتل عمّار، قال خزيمة: قد بانت لي
الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتى قُتل.
ومن قبيل حديث عمّار قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن عليه السلام:
(ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) رواه أحمد
والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني عن أبي بكرة عن الحسن
ومع هذا قد بحث بعضهم في سماع أبي بكرة عن الحسن؛ لأن بعض المحدثين
أنكره، والصحيح أنه سمع والمثبت مقدم على النافي.
ومنها حنين الجذع الذي كان يخطب عليه رواه البخاري وغيره، وقال التاج
السبكي: إنه متواتر كانشقاق القمر، روي عن نحو عشرين صحابيًّا من طرق
صحيحة وتفصيل للوقائع التي كانت فيها هذه الآيات يطول فليطلب من مواضعه
ومنها إبراء كثير من العاهات والأمراض باللمس أو التفل.
ولو أردنا أن نذكر طعن المحدثين في بعض أسانيد المعجزات التي لم تصح -
كقول ابن كثير في حديث إحياء البنت الميتة: إنه منكر جدًّا. وقول ابن الجوزي في
حديث نطق الحمار: إنه موضوع. وقول المُزني في حديث نطق الضب: لا
يصح لا سندًا ولا متنًا.. إلخ - لكانت عبرة للموافق والمخالف في تحري المسلمين
وتثبُّتهم في نقل معجزات نبيهم.
فليأتنا المخالفون بضبط كهذا الضبط وأسانيد كهذه الأسانيد فيما يروون عن
رسلهم ومقدسيهم ثم ليتبجحوا على عامتنا بعجائبهم وغرائبهم.
وفرق أكبر من هذا بيننا وبينهم، وهو أنهم إذا عجزوا عن إثبات عجائبهم لا
يبقى لهم شيء ونحن عندنا آيات الله الكبرى (القرآن) والعلم الأعلى من الأمي وما
يتبع ذلك وبهذا القدر كفاية.
_________
الكاتب: مؤرخ عثماني
الدولة العلية وماليتها
بقلم المؤرخ العثماني صاحب التوقيع الرمزي
إن بالمال قوام الدول وعزها وقد كثر الكلام في إصلاح الدولة العلية ما كان
منه وما يجب أن يكون، وأكثر المتكلمين في ذلك على جهل بحقيقة الحال فرأينا أن
نكتب في مالية الدولة وأحوالها كتابًا نستقي مسائله من الموارد الرسمية.
لا يظن ظانٌّ أن الخلل في مالية الدولة حديث بل هو قديم يصعد تاريخه إلى
أواسط حكم السلطان عبد العزيز، وإنما زاد في الأدوار الأخيرة الإسراف والترف من
جهة وسوء سلوك المستخدمين بتحصيل الأموال من جهة أخرى، فسرى داء الخلل
في سائر فروع الحكومة حتى استعصى الداء وعز الدواء.
وأضحت الخزينة العثمانية يضرب بها المثل في الإفلاس، وصارت تؤخر دفع
رواتب المستخدمين أشهرًا متصلة فكان لذلك ضرر عظيم حتى على سياسة
السلطنة؛ إذ لو كانت الحكومة تدفع رواتب المستخدمين في أوقاتها كباقي
الحكومات المنظمة لما كان الظلم وصل إلى هذا الحد، ولما كان ظهر هذا التألم
العام والشكوى من الحكومة وأعمالها ولما كان للأجانب منفذ للتداخل في شؤون الدولة
الداخلية ويا ليتهم يتداخلون لمصلحة جميع رعايا الدولة بدون تفريق بين الملل
والأجناس إنما يتداخلون انتصارًا لفئة دون أخرى، فإذا كان المستخدم لا يقبض
راتبه في السنة سوى شهرين أو ثلاثة شهور فلا بد أن يظلم العباد لسلب أموالهم حتى
يسد رمقه ورمق عياله وأولاده، على أن أكثر صغار المستخدمين في الحكومة
العثمانية هم من أفقر الناس لا يملكون شروى نقير سوى الراتب الرسمي الذي
تجده قليلاً جدًّا بالنسبة إلى الوظيفة.
وكثيرًا ما نسمع بأن الحكومة ألفت لجنة لإيجاد طريقة تعطي بها الرواتب
لأربابها، وبعد أن تعقد تلك اللجنة بضع جلسات وتنشر بعض شذرات عن أعمالها
في الجرائد يختفي أثرها ولا نعود نسمع لها ذكرًا حتى تنقضي شهور فتزف الجرائد
حينئذ إلينا بشرى تأليف لجنة أخرى بناءً على إرادة سنية ولم نَرَ حتى الآن نتيجة
تلك اللجان الكثيرة العدد.
تقسم دواوين الحكومة من حيث دفع الرواتب في عاصمة الدولة إلى ثلاثة
أقسام:
قسم تغطي رواتب مستخدميه كل شهر بصورة منظمة مثل نظارة البوستة
والتلغراف وأمانة الرسومات (الجمارك) وما يتبعها من الفروع ونظارة الدفتر
الخاقاني وصندوق الدين العثماني والبنك الزراعي؛ ولهذا السبب يتهافت طلاب
الاستخدام على الدواوين المذكورة تهافت الجياع على القصاع.
وقسم يقبض ثمانية أو تسعة شهور في السنة ومن هذا القسم وزارة المعارف
ووزارة العدلية (الحقانية) وأمانة الشهر (مشيخة المدينة) .
والقسم الثالث لا يقبض إلا أربعة شهور أو أقل مثل وزارة المالية والخارجية
والداخلية ويستثنى من هذه مصلحة النفوس ذات الريع؛ لأنها تدخل في القسم الأول
وشورى الدولة ونظارة الضبطية ومستخدمي المابين الهمايوني ووزارتي البحرية
والحربية، وهذه الأخيرة هي أسوأ حالاً من جميع الوزارات لكثرة المطالب عليها
واتساع نفقاتها وكثرة عدد الضباط العظام.
أما الحالة المالية في الولايات، فهي أسوأ منهما بالعاصمة؛ لأن الولاة
يضطرون إلى امتثال الأوامر التي تصدر دائمًا من الآستانة قاضية بإرسال كل ما
جمع عندهم من الدراهم قليلاً كان أو كثيرًا إلى الآستانة، وإذا لم يتمكن الوالي من
سرعة الامتثال يأتيه التوبيخ وراء التوبيخ حتى يعزل من وظيفته شر عزلة؛ فلذا
ترى الولاة يتسابقون إلى إرسال الدراهم إلى العاصمة ولا يبقون عندهم لدفع
الرواتب أو للمشروعات المفيدة شيئًا.
وقد كانت الحكومة في السنين الأخيرة اتخذت طريقة زعمت أنها ترضي
الناس فما كان منها اتساع دائرة الخلل اتساعًا عظيمًا واشتداد الأزمة المالية وهذه
الطريقة هي إرضاء كل من يشكو أو يتألم من شيء أو ينتسب إلى أحد العظماء
بوظيفة عضو في أحد المجالس أو بإعطائه راتبًا كبيرًا يقبضه وهو جالس في منزله
والإنعام بالرتب ذات الرواتب الكبيرة جزافًا بدون تفريق بين المستحق وغير
المستحق. والجدول الآتي المستخرج من سجلات الحكومة العثمانية الرسمية لسنة
1218 هجرية يظهر صدق ما نقول.
* * *
شورى الدولة
هذا المجلس ينقسم إلى ثلاثة فروع: الأول دائرة الملكية، والثاني دائرة
التنظيمات، والثالث دائرة المحاكمات.
ودائرة المحاكمات هذه تنقسم إلى محاكم ابتدائية استئنافية ويحاكَم فيهما أكابر
المستخدمين الذين يرتكبون ما يحط بقدر وظيفتهم، أو يخل بمواد القانون.
وكان الأعضاء في مجالس شورى الدولة الثلاثة قبلاً لا يتجاوزون الأربعين
أما الآن فإن عددهم يزيد على مئة وخمسين بينهم 7 برتبة وزير و5 برتبة بالا
وواحد برتبة صدر روم إيلى وواحد برتبة صدر أناطولي و20 برتبة أولى من
الصنف الأول و12 برتبة روم إيلي بكلر بكي و20 برتبة أولى من الصنف الثاني
والباقون من أصحاب رتبة المتمايز فما دونها.
ولا يخفى أن عضو شورى الدولة الذي هو أعظم مجالس الدولة الحائز لرتبة
وزير أو بالا أو روم إيلي بكلر بكي لا يمكن أن يكون راتبه أقل من مائة
وخمسين جنيهًا في الشهر وليس بين أعضاء هذا المجلس من يقبض أقل من
عشرين جنيهًا في الشهر فإذا فرضنا لكل عضو في المجلس - ومنهم أصحاب
الرتب السامية وهم الأكثرون - 40 جنيهًا شهريًّا يكون المجموع 6000 جنيه، هذا
أقل ما يمكن تصوره للأعضاء ويزيد عليه رواتب المستخدمين من الرؤساء والكُتَّاب
وغيرهم.
* * *
وزارة المعارف
يوجد في وزارة المعارف مجلسان يقال لأحدهما مجلس المعارف والآخر
يسمى (أنجمن تفتيش) وكان هذا قبل أن تعطى الوظائف جزافًا يتألف من بضعة
أعضاء مقتدرين ذوي أهلية واستعداد لإدارة معارف السلطنة بخلاف ما نرى عليه
أعضاءهما الآن، ولا نخوض غمار هذا الباب؛ لأنه ليس من خصائص رسالتنا هذه
وربما عدنا إليه في رسالة أخرى.
أعضاء المجلسين اليوم هم خمسة وستون ماعدا الرؤساء وكتبة أقلامهما
وراتب كل منهم لا يقل عن 15 ج ولا يزيد عن 50 ج في الشهر فإذا فرضنا لكل
منهم 10 جنيهات يكون المجموع 650 ج شهريًّا ولا يدخل في هذا الحساب رواتب
الكتبة والرؤساء.
والمدارس التابعة لوزارة المعارف كثيرة جدًّا وأغلبها مجانية وهذا هو سبب
الإقبال عليها. ويوجد في الآستانة وحدها 42 مدرسة تتبع الوزارة المذكورة منها
ست عالية، وهي المكتب الملكي ومكتب الحقوق ومكتب الطب الملكي ودار الشفقة
ودار المعلمين ومدرسة الفنون الجميلة وخمس تجهيزية، واحدة منهن خاصة
بالتجارة. وللبنات ثلاث عشرة مدرسة واحدة منها عالية وهي مدرسة المعلمات
وثلاث للصنائع وتسع ابتدائية.
أما مدرسة الصنائع للذكور فإنها تتبع ديوان الأشغال كما أن كثيرًا من
المدارس عالية وتجهيزية وابتدائية تتبع ديوان المعارف العسكري التابع لوزارة
الحرب، وسيجيء بيانه في الكلام على الوزارة المذكورة. ولهذه الوزارة في أغلب
عواصم الولايات وبعض حواضر الألوية (اللواء في الولايات كالمديرية في مصر)
مدرسة تجهيزية ماعدا بعض الولايات الآسيوية ومدارس ابتدائية وأما مراكز
القضاء فقلما يوجد فيها مدارس.
والتعليم في المملكة العثمانية إجباري قانونًا لا عملاً وكل من لا يعلم ابنه أو
بنته يعاقَب حسب المادة الواردة في نظام المدارس فيجب - والحالة هذه - على
الدولة أن تعتني اعتناءً تامًّا بإدارة هذه المدارس المهمل أمرها وتختار لها أساتذة
مقتدرين ذوي كفاءة تامة، وتحور بروجراماتها وتجعلها على أساس متين كمدارس
أوربا مع العناية بالعلوم الدينية والعقائد وتنفذ أحكام القانون القاضي بإجبار الناس
على تعليم أولادهم وتنشئ مدارس ابتدائية في كل مركز قضاء ومدارس تجهيزية
في حواضر الألوية وتكثر من مدارس الصنائع والتجارة في عواصم الولايات ولا
بأس من فرض مبلغ جزئي على تلميذ نظير أجرة التعليم ليساعد على نفقات
المعارف.
ولهذه الوزارة حصة معلومة من أعشار الدولة قدرها اثنان في المئة غير
إيراداتها الخاصة بها. فلو أُنفقت هذه الأموال في الوجوه الموضوعة لها لعادت
على الأمة بالنفع العظيم.
…
...
…
...
…
...
…
... (العثماني)(م. ق.)
…
(لها بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب من صديق إلى صديق في هذه الديار
يصف له فيه حال بعض الأقطار
سيدي الأخ.. إذا تذكرت مصر فلا أذكرها إلا بك، وإذا جنحت إليها فلا أجنح
إلا إليك، قلبي يهواك، ولساني يذكرك؛ لأنك مطلب الروح ومبتغى النفس. فإن
كرمك وحلمك وفضلك وعلمك ونبلك وفخرك - تلك نياشين المجد - جعلت لك سناءً
يخطف أبصار عشاق الخلال الكاملة وإن لم يروك فما بالك مولاي وأنا ذاك الذي مَلَّكك
قلبه على بينة بعد درس جدك ونشاطك وعزمك وحزمك وعفتك ونزاهتك وغيرتك
على دينك، وشدتك في الحق ونزوعك إلى نصرته خلال تفوق عدد رمال الدهناء،
وتربو على نجوم السماء، فكيف أتبين منك هذه الخلال العظيمة وأستطيع مع البعد
سلوًا؟
هذا وإنني بين قوم تتعالى نفوسهم عن الحق، وتتجافى جنوبهم عن مضاجع
الصدق، لا هم ماتوا فاستراحوا، ولا هم انتبهوا فأراحوا، غشيهم طائف من
الجهل جعلهم يخبطون في بعضهم بعض [1] كالذي يتخبطه الشيطان من المس حتى
اضطررت أن أعتصم بحبل العزلة وأنزوي في ركن بيتي على خلاف عادتي التي
تعرفها. أستقذر - والله - مخاطبة واحد من هؤلاء القوم لما هم عليه من الغباوة
الزائدة والجهل المطبق والحمق الشديد والعياذ بالله تعالى فلا بلاهة المصري، ولا
غباوة السوري ولا استبداد التركي ولا جهل الأعجمي [2] ولا غطرسة الأفغاني بأشد
على نفوس العقلاء من تمخرق هؤلاء.. [3] فإن أولئك القوم مع ما هم عليه قد
نجب فيهم أحرار أبرار يفرد واحدهم بأمة كاملة فحيا الله بلادًا وسقيًا لها ورعيًا
تنجب أمثال عبده وعثمان [4] والكواكبي ورفيق ورشيد وكمال ومدحت
وعالي وفؤاد والباب وقرة العين وجمال الدين وسحقًا لأمة
…
[5] .
مولاي: لا يستطيع القلم أن يصف لك ولو شيئًا قليلاً مما رُزئتْ به هذه البلاد
من نكد الطالع وجهل بأمر وطيش حلم وافن رأي بهذه الورقة الصغيرة؛ ولكن لا
أظنه ينحل عليك ببيان رؤوس منها ومنها تعلم البقية.
(لنا علماء) ولكنهم جاهلون متكبرون متغابنون متغابون وهم آلهتنا (يريد
أنهم عبَّدوا الناس باستعلائهم) ، حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثهم خاصة بعجائب
التكايا وكرامات القبور، وعلمهم كعلم آلهة الآشوريين لا يزيد ولا ينقص ولا يتجدد
ولا ينعدم وهو محصور في تصريف: أكل يأكل أكلاً! وفي إعراب هذه الجملة:
ليت لي قنطارًا من الذهب فأحجَّ به، وهو عندهم من تمني ما لا طمع فيه أو ما فيه
عسر، وفي اكتشاف متعلق الجار والمجرور في إعراب البسملة، وفي فرض وجه
للحكم في عدة زوج الممسوخ هل تعتد عدة طلاق أو عدة وفاة، وفي جواز تزوج
الجني بالإنسية والإنسي بالجنية أو عدمه، وفي اختراع نكت في التفسير في معنى
تفاخر فرعون بجريان الأنهار من تحته في حكاية القرآن فغاصت أفكارهم في النهر
ولم يوقف لهم فيه على أثر! !
إذا قلت لهم: إن هذه أوهام في أوهام زمجروا واستكبروا ومزقوا ثيابهم
وطمبروا [6] وصخبوا ونعبوا وبكوا وانتحبوا وقالوا: هذا آخر الزمان، ووشوا
عنك أنك كافر، لا تؤمن باليوم الآخر، واستعانوا عليك بخلطاء العامة فيسكتونك
إما طوعًا وإما كرهًا - طوعًا إذا وثقت بعجزك عنهم وكرهًا إذا وثقوا بقدرتك عليهم
فاستعملوا معك سلطة الحكومة [7] التي لا ينحل بها عليهم الدخلاء - وربما كان ذلك
من مقتضى سياستهم؛ لأنهم لا يودون أن يتبصر الناس ولا أن يرفعوا رؤوسهم من
شبكة الاستبداد. وهناك يتحكم القضاء. ويجري البلاء. وأين الصابرون الذين
يوفون أجرهم بغير حساب؟ !
(لنا حكام) ولكنهم أميون جبناء متخاذلون إرادتهم شريعة قاهرة، وحكمهم
سلطان نافذ، لا رادّ لقولهم ولا ممانع لحكمهم، فالحاكم منهم يجمع في شخصه
ثلاث سلطات فهو مشرع منفذ مراقب كأنه المسيح عند النصارى يجمع في شخصه
ثلاثة أقانيم. أستغفر الله من أين للمسيح المقهور أن ينال سلطة من السلطتين
الأخيرتين ولو نالها لتمكن بها على الأقل من تخفيف وطأة أكليروس اليهود. آهٍ!
دعني أنفث الآهات حتى يفرغ الصدر فإن الناس عندنا أرقاء وأسواق المحاكم
أسواق الاسترقاق، فلا قانون يزَع ولا مسؤولية تردع.
حكامنا إما قضاة شرعيون، وإما حكام سياسيون فالقضاة الشرعيون يتولون
الخطة بعد دراسة تلك الكتب القديمة التي أخنى عليها الذي أخنى على لبد فيعطي
أحدهم راتبًا قليلاً فيمد يده بسائق الضرورة إلى الرشوة ويستعمل الغبن في وظيفته
ويجور، ويعبد الدرهم والدينار لا يكتفي بأحدهم فلا يمر عليه زمن قليل حتى تتعدد
مركباته بعدد أنواعها وتكثر قصوره بعد مواقعها ويكثر خدمه وحشمه وعبيده
وجواريه فلا الخديوي في مركبه، ولا السلطان في موكبه، بأعظم من قاضٍ شرعي
في بلاد إذا تمشَّّى في الأسواق أو دخل المحكمة. هذا والعامة والخاصة يعتقدون أنهم
سجادة الرسول وشرع المصطفى، وأن ما يحكمون به في الأرض يبرم في السماء
وإذا تظلم منهم مظلوم تقوم على رأسه القيامة، وتأتي عليه الآخرة بعذابها. أولئك
يشيعون أنه مارق من الدين لا يرضى بالشرع ولا يقبل حكم الله فيه فتكفره العامة -
وأنت أدرى بعاقبة هذا التكفير -. على أن أهل الحل والعقد لا يجدونه نفعًا [8]
ابتغاء مرضاة القضاة حتى يفشو الاختلال في الشريعة وتأنف الأمة من نفسها التقاضي
لدي حكامها وتطلب استبدال الشريعة بالقانون [9] .
وليس رجال محاكمنا الأهلية بأقل خطرًا على الأمة من قضاة الشريعة؛ لأن
مصدر تربيتهم واحدة.. فأعمالهم بالطبع تكون متقاربة متشابهة ولا يكون هناك
فرق بينهم اللهم إلا في الشكل فإن القاضي الشرعي يتردى بأردية الإهمال والكسل،
والآخر يلبَس لبوس النشاط والعمل، وهذه غاية الفرق بينهم.
أما الأحكام: فالقاضي الشرعي يرجع فيها إلى قواعد مشتتة متضاربة متخالفة
يطبقها على القضايا بحسب ما يراه، والقاضي الأهلي يعتمد فيها العادات
والاصطلاحات التي جرت عليها السياسة السالفة بدون أن يكون لديه قانون يرجع
إليه، أو دستور يعول عليه، فالطريقة الأولى كسيت صبغة الشرع اسمًا، وهذه
أعطيت لقب القانون رسمًا، وفي الواقع لا شرع ولا قانون.
(أحداثنا) هم مطمح آمالنا وزهرة حياتنا وهم ينقسمون إلى قسمين: قسم
عامة وهم لا كلام عليهم. وقسم خاصة وعددهم لا يزيد على رُبع! عُشر! تسع!
ثمن! سدس! خمس! معشار الأربعين من مجموع الأمة وهم ينقسمون على أنفسهم
إلى قسمين: قسم تربى في المعهد الديني.. وأهل هذا القسم عبارة عن مختصر
أزهري فهذا أيضًا لا كلام عليه. بقي الكلام على القسم الثاني وهو المراد من قولنا:
(أحداثنا هم مطمح آمالنا) : فإن هذا القسم مع قلة عدده وضعف مدده ليس بكامل
التربية، هذا إن لم نقل إنه لا تربية له؛ لأنه لم يتعلم شيئًا يرقي ذهنه عن أفراد قومه
وغاية ما تلقنه من التربية قشور عارية عن اللب كدرس اللغة الأجنبية ومبادئ تقويم
البلدان وقواعد من الطبيعة وشيءٍ من الحساب، وكل ذلك لا يخرج عن درس الأشياء
التي يتلقاها تلامذة المدارس الابتدائية في البلاد المتمدنة ولا حظ له من تعلم اللغة
العربية مطلقًا حتى يعرف أن لديه لغة وافرة المواد كثيرة المصادر لديها من ألفاظ
موسعات العلوم ما يكفي لتلقيح نهضة جديدة إذا أفرغت في قوالبها الحقائق المكتشفة
والاختراعات المتجددة. وعلى فرض وجود من درس هذه اللغة فإن معلوماته لم
تتجاوز الحلقة الضيقة من التعليم الابتدائي فضلاً عن الثانوي والعالي فهل معرفته
لها والحالة هذه تجدى نفعًا؟ !
فهذا القسم الذي نظن فيه خيرًا ونعلق عليه آمالاً هو من العامة ولا شك (وأي
نفع من العامة؟ !) وإن ضرره أكبر من نفعه. ما ظنك بشاب دخل المدرسة ولا
يدري أبواه ما سيتعلمه فيها، وما سيكون من أمره فخرج منها متعودًا التأنق في
الملبس والمأكل والمشرب وحب الرياضة مع العوانس والأبكار والجلوس في
المحلات العمومية للمقامرة والتسلي بالمشروبات الغولية، وذلك بلا ريب يستلزم
كثرة الأموال واتساع نطاق المكاسب فإن كان غنيًّا بعثر المال واستنزف الدينار
استنزافًا، وإن كان فقيرًا أهراق ماء الحياء وعبث بشرفه واستهان بناموسه وراء
دريهمات يسد بها حاجات تربيته الجديدة الناقصة. ومن يهُن عليه العبث
بشرف نفسه فشرف أمته لديه أهون ولا شك.
وهذا لا يعزب عنك أن هذه المفقِدات لجامعة الأمة والمحللات لعناصرها إذا
كانت تدفعها يد ماهرة كيد الدخلاء فإنها تلم بها من طرق مجهولة كثيرة الشعاب
وخطرها متوقع لا محالة. وهذه الأخطار الحافة بهؤلاء القوم المساكين ليست بنت
زمن ولا منشأ سبب بل هي نتيجة اشتركت في تربية مقدماتها الأزمان والأسباب
وصعب على عاجز مثلي أن يُفهم هؤلاء القوم خطر موقفهم مادامت النفس غير
قابلة والقلوب واهنة والبصائر مطموسة والحواس مغشوشة وثائرة الجهل قائمة،
فعبثًا أحاول إصلاح ما فسد من أخلاقهم وتجديد ما اخلولق من خلائقهم.
ما يجدي الإصلاح في قوم يعتقدون أن كل كلمة طيبة (هرتقة) وكل كلمة
حادة زندقة، وكل خلق جدير كفر، وكل سعي إلى الأمام خطوة من خطوات
الشيطان، ماذا يجدي الإصلاح في قوم ينتظرون خروج الدابة وقيام الدجال وظهور
المهدي، ونزول المسيح وطلوع الشمس من مغربها ونفخة إسرافيل، وهذه
أشراط الساعة والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق! ماذا يجدي الإصلاح في قوم
خلقوا أشرارًا فجارًا فساقًا ضُلالاً كتب الله عليهم أن يكونوا عائثين في الأرض مفسدين
في السماءلإنشاء دولة وتكوين أمة أهون على نفوس العانين بالإصلاح من
إصلاح أمة من الإسلام!
عفوًا يا مولاي فإني قد أطلت عليك وحمَّلتك همًّا على همّك وزدتك غمًّا على
غمك فلا تلُمني فصدري ضاق على اتساعه وحمل همومًا ناءت أمة كاملة بحملها
فكيف يستطيع حملها ذلك الشكل الصنوبري؟ فسل لأخيك قرب المخرج من هذه
الديار فإن العيش على شوك السيال في منقطع العمران لأهون عليَّ من معاشرة
قومي ما تنكر شخص قومه كما تنكرتهم وما بئس ساعٍ لرشد كما يئست. قوم لو
حاولت أن أحصي لك العقلاء فيهم لما أكملت شناتر اليد عدًّا. أليس هذا من بواعث
اليأس ودواعي البأس؟ اهـ. المراد منه.
(المنار)
هذا كتاب رجل كنا نَصفُه أيام كان بيننا بأكثر مما وصف به نفسه من سعة
الصدر. كنا نصفه بأنه لو تفطَّرت السموات وانشقت الأرض وخرت الجبال هدًّا
لما بالى ولا اهتم وها هو يشكو هذه الشكوى المُرة من حال بلاده.
أليس في هذا عبر لمن يعقل، أليس دالاًّ على الفرق بين هذه البلاد وغيرها
فأين شكر النعمة من المنعَم عليهم؟ وأين الاعتبار بالبلاء ممن حل بهم؟ !
وقد ختم الكتاب بأن الرأي الوحيد في تحريك أذهان قومه نشر المجلات
والجرائد النافعة والكتب المفيدة.
نجَّح الله مقاصده وهيأ له من المصطفَيْن الأخيار مَن يشد عضده.
_________
(1)
كان الصواب أن يقول: يخبط بعضهم في بعض.
(2)
يريد بالأعجمي: العجمي وهو من جنسه العجم ويراد منهم الفرس وأما الأعجمي فهو نسبة من الأعجم وهو مَن لا يفصح في القول وإن كان عربيًّا وينسب إلى نفسه مبالغة وظاهر أن هذه الأوصاف لا تنطبق كلها على الموصوفين بها.
(3)
ورد: مخرق الرجل: أي موه وكذب واختلف في أصالته في العربية ولم أجد تمخرق ولكنه مستعمل في الكلام العرفي الذي قلما تخلو منه الرسائل الشخصية الآن.
(4)
ظاهر أنه يعني بعبده الأستاذ الإمام وأما عثمان فهو الدكتور عثمان بك غالب العالم الطبيعي المشهور وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالعطف على العامل في الثاني.
(5)
ذكر هنا حادثة رأينا السكوت عنها على فظاعتها إخفاءً لتلك الأمة.
(6)
لا أعرف هذه الكلمة إلا في كلام العامة ومعناها: انتفخوا.
(7)
كان ينبغي أن يقول: فاستعانوا عليك بسلطة الحكومة.
(8)
المعروف: (ما يجدي عنه) .
(9)
الصواب: استبدال القانون بالشريعة: أي جعل القانون بدلاً عنها وهذا مما يغلط فيه أكثر الكُتاب تبعًا للجرائد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الدولة العلية والحرب)
تستعد الدولة العلية للحرب؛ لأن الفتنة في بلادها لا تزال تزداد وقد كنا في
خوف عظيم من روسيا حتى أعطتنا الجوائب الأوربية بعض الاطمئنان من جهة
روسيا نفسها ومن جهة الدول العظمى. أما روسيا فقد قررت ترك منشوريا بسبب
العسر المالي والمعسر لا يضرم نارًا للحرب مختارًا لا سيما إذا كان خصمه من
أقرانه في ميادين الكفاح. وأما أوربا فإننا نرى إنكلترا تتقرب من فرنسا، وفرنسا
تقبل تقربها بقبول حسن ولا نرى سببًا لزيارة ملك الإنكليز للجمهورية الفرنسية إلا
إقناعها بعدم إعانة روسيا على حرب تركيا؛ بل عدم إجازتها على الحرب لما في ذلك
من الخطر العظيم على أوربا كلها. أما الحركات العسكرية التي تجريها روسيا
فليست أكبر مما يعتاد في أيام السلم من الاستعداد والتمرين ولله في غيبه شؤون.
فإذا كان استمرار بغاة مكدونية على بغيهم وتماديهم في ثورتهم اتكالاً على
البلغار والصرب فلا خطر على الدولة من ذلك، وهي قادرة على تدويخهم وإن لم
تستفد من ذلك شيئًا لما علمناه من تعصب أوربا عليها، واتفاق الدول الكبرى على
منع المسلمين من الانتفاع من النصارى أو التسلط عليهم ولو بحق، والناس يوجسون
خيفة من تألب الألبانيين وخروجهم لعدم الرضى بمطالب أوربا. وروسيا والنمسا
تلحان على الدولة بوجوب كبحهم وإخضاعهم دون المكدونيين؛ لأنهم مسلمون،
ولعل حكمة مولانا السلطان تكفي الدولة مغبتهم بالتي هي أحسن.
***
(ثورة مراكش)
لا يزال أمر الخارج على سلطان مراكش في استفحال وقد طمع في الملك
وتجرأ على خطاب بعض الدول بالاعتراف بكونه السلطان الرسمي لمراكش ويقال
إنه سيزحف على فاس وهذه عواقب الجهل والإهمال، وسننشر في جزء تالٍ
شروط الصلح بين صاحب مراكش ولويس السادس عشر ملك فرنسا؛ ليعلم مَن لم
يقرأ التاريخ أن عهد مراكش بالعزة والقوة غير بعيد.
***
(فرنسا والجزائر)
كنا كتبنا مقالة عنوانها (فرنسا والإسلام) ، نصحنا فيها لهذه الدولة العظيمة
بأن تعامل مسلمي مستعمراتها بالحسنى لتملك قلوبهم وتأمن غائلتهم.
ونحن نعلم أن فرنسا لم تكن مرتاحة إلى تلك المعاملة القاسية التي كانت تعامل
بها مسلمي الجزائر ولكنها كانت ترى أنها هي الطريقة المتعينة، وأنه يجوز أن
يظهر لها خير منها. وفي هذه الأيام قد زار الجزائر رئيس الجمهورية وبشر
الأهلين بأن هذه الزيارة مبدأ معاملة جديدة مرضية وبالغ في استمالة القلوب وطلب
الائتلاف، ولولا العزم على حسن الفعل لما صدر عنه مثل هذا القول وما جزاء
الإحسان إلا الإحسان!
***
(المدرسة القضائية في السودان)
علمنا أن حكومة السودان قد قررت إنشاء مدرسة لتخريج القضاة الشرعيين
واشترطت في تلامذتها أن يكونوا قبل الدخول فيها معروفين بالاستمساك بالدين
تخلقًا وعملاً، وأن يكونوا عارفين ما تجب معرفته من العقائد الإسلامية والعبادات
وصاحِبِِي إلمام بأحكام المعاملات. ومدة الدراسة أربع سنين والعلوم التي تعلم فيها
هي الخط والإملاء والحساب والهندسة وتقويم البلدان والتجويد والتوحيد والمنطق
والحديث والتفسير والفقه وأصوله، والنحو والصرف والبلاغة والإنشاء وتاريخ
الإسلام والآداب الدينية، وحكمة التشريع والتمرينات القضائية والتوثيقات ونظام
المحاكم، ومما يدرس فيها كتاب إحياء العلوم وكتاب حجة الله البالغة.
وإننا نتمنى لو يبادر أولياء الأمر في مصر إلى مثل العمل الذي كنا اقترحناه
على مشيخة الأزهر من نحو أربع سنين، فإن داء المحاكم الشرعية في مصر لا
يمكن برؤه إلا بتربية القضاة تربية تؤهلهم للقيام بأعبائه كما صرح به اللورد
كرومر في تقريره وكما يعلمه كل عاقل بصير. وهذه الدولة العلية لها مدرسة
مخصوصة لتخريج القضاة (مكتب النواب) وهي غير مدرسة الحقوق فالواجب
على أولي الأمر في مصر العمل بما كنا اقترحناه من انتخاب طائفة من نابغي
الأزهر يعلمون فيه التعليم القضائي ليكون قضاة فإن كان هناك مانع من تعصب
المشيخة فالمتعين إنشاء مدرسة مخصوصة لذلك.
وإننا لنتنسم من حكومة السودان أنها ستحمي الإسلام في تلك الأقطار وتقيم
أحكامه فإن هي فعلت فلا شك أنها تمتلك جميع ما بقي مستقبلاً من الممالك السودانية؛
لأن المسلمين في تلك الأقطار شديدو التمسك بدينهم والتعصب له كأهل الجزائر فإذا
قيدوا به سلسوا للانقياد. وإلا أصروا على العدوان والعناد. وإن لدينا نبأ من تقرير
قاضي قضاة السودان عن المحاكم الشرعية يبشر بسير حسن وعاقبة حميدة، ونية
للحكومة سليمة وسننشره في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
***
(تنبيه)
ضاق هذا الجزء عن باب التقريظ ومنه تتمة الكلام في انتقاد رسالة الشيخ
محمد بخيت ولدينا انتقاد على عبارة في التفسير وموعدنا في ذلك الجزء الآتي إن
شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النبأ العظيم
آثار جديدة. هدم دين أو دينين. ملك أم إله. مذهب جديد في النصرانية،
قيصران أم نبيان. خطوة من أوربا. وثبة إلى الإسلام. ظهور آية من آيات
القرآن.
حيَّا الله التاريخ والمؤرخين فكم كَشَفا من خفايا الأكوان، وأظهرا من خبايا
الأزمان، وكم أضل الجهل بالتاريخ من إمام كبير، وعالم نحرير، فانحرف عن
سبيل، وأخطأ محجة تأويل، فقد كان مثل الإمام فخر الدين الرازي يتوهم أن
التوراة منقولة بالتواتر، ويحيل لذلك أن يكون وقع في ألفاظها التحريف والتبديل
ويصرف الآيات الواردة في ذلك إلى التحريف المعنوي، وسبقه إلى هذا الرأي مثل
الحافظ البخاري قياسًا على نقل المسلمين لكتابهم وما كان ينبغي لأمثال هؤلاء أن
يضعوا الأقيسة النظرية، حيث يجب أن تكون البراهين اليقينية؛ ولذلك خالفهم
الأكثرون. وإننا لنسمع في كل يوم ناعقًا من دعاة النصرانية يصيح محتجًّا على
عوام المسلمين بقول فلان وفلان من علمائهم أن التوراة التي بين الأيدي سالمة من
التحريف اللفظي محفوظة من التبديل. وكيف نقبل قول أحد في أمر عندنا فيه
الحكم العدل، والقول الفصل، وهو كتاب الله تعالى. ولسان الوجود أفصح مفسر
لكتاب الله تعالى.
كان علماء المسلمين يحكمون على التوراة والإنجيل ولا يطلعون عليهما فلما
اطلعوا سددوا وقاربوا؛ ولكن لم يتجلَّ حكم القرآن إلا بعلم علماء أوربا وبحثهم عن
آثار الأولين، ووقوفهم على تاريخ الأقدمين.
بيَّن هؤلاء العلماء أن كلام التوراة في الخليقة مخالف لما أثبته العلم في مسائل
كثيرة فقام أهل التأويل يقولون: إن العلم غير الدين، وإن كتب الدين إذا تكلمت عن
الخليقة فإنما تتكلم بما هو معروف عند الناس؛ لأنه ليس من غرضها بيان حقائق
الموجودات وإنما غرضها إصلاح القلوب، وهذا الكلام صحيح ولكنه ليس عذرًا
مقبولاً عند العلماء عن ذكر أمور مخالفة للواقع لا حاجة إليها في إصلاح القلوب
وإذا سكتوا لهم على هذا فبأي تأويل يدفعون ما أظهرته الاكتشافات الأثرية من
مخالفة تاريخ التوراة للآثارات التي حفظها بطن الأرض للأمم؟ ! أم كيف يدفعون تلك
القوارع التي تظهر من علماء الألمان قارعة بعد قارعة؟ ! وبها استبان أن التوراة
مقتبسة من البابليين بعد السبي حتى شرائعها وأحكامها.
كتب بعض هؤلاء العلماء كتابًا حديثًا أودعه جداول أحصى فيها ما وقف عليه
من الكلمات البابلية في كتب العهد القديم التي يطلق على مجموعها لفظ (التوراة)
وبيَّن أن تلك الكلمات التي مازجت لغة هذه الكتب العبرية لم تكن معروفة على عهد
موسى عليه السلام واستنتج من مباحثه أن هذه الكتب أُلفت بعد أن سبى البابليون
بني إسرائيل بأزمنة مختلفة؛ ولعل هذا الكتاب النفيس يُنقل إلى العربية في زمن
قريب فإن اعتداء دعاة البروتستانت قد أعد النفوس للعناية بمثل هذه الكتب فكانوا
نافعين للإسلام والمسلمين، خلافًا لما يتوهم بعض الغافلين!
بعد هذا ظهر من علماء الألمان نبأ أخص من هذا وهو أنه وُجد في الآثار
التي اكتشفت من عهد قريب في خرائب سوس من بلاد بابل شريعة (حمورابي) أو
(ملكي صادق) منقوشة على عمود من صم الصفا (الصوان) فإذا هي متفقة مع
شريعة التوراة في أكثر الأحكام فجزم الباحثون بأن الإسرائيليين قد اقتبسوا شريعتهم
التي يسمونها التوراة من هذه الشريعة أيام كانوا في أسر البابليين. وكانت النتيجة
عند هؤلاء العلماء أن موسى لم يكن نبيًّا وشريعة قومه لم تكن وحيًا! ! اشتبه عليهم
الباطل بالحق والحق بالباطل وإننا نجلِّي الحقيقة في هذا المقال بما هو لب اللباب،
والعجب العُجاب.
حمورابي أو ملكي صادق
يقول علماء ألمانيا الأعلام كغيرهم: إن حمورابي هذا هو أمرافل المذكور في
الفصل الرابع عشر من سفر التكوين في قصة لا تنطبق تمامًا على الاكتشافات
الحديثة وهو هو (ملكي صادق) ؛ لأن معنى هذه الكلمة العبرانية (ملك البر أو
ملك السلام) وهو يلقب نفسه بهذا اللقب في شريعته المذكورة آنفًا، ومما جاء في
الفصل الرابع عشر من سفر التكوين أن ملكي صادق هذا قد بارك على إبراهيم
عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام) وأن إبراهيم أعطاه العشور. قال بعد ذكر
محاربة إبراهيم لكدر لعومر واسترجاعه الأسرى ومنهم لوط أخوه: (17 فخرج
ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه إلى عمق
شوى الذي هو عمق الملك 18 وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزًا وخمرًا وكان
كاهنًا لله العلي 19 وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي مالك السموات
والأرض 20 ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك، فأعطاه عشرًا من كل
شيء) .
وقال بولس زعيم الديانة النصرانية المعروفة لهذا العهد في آخر الفصل
السادس وأول الفصل السابع من الرسالة إلى العبرانيين ما نصه: (19 حيث دخل
يسوع كسابق لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد (1) لأن
ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك
وباركه (2) الذي قسم له إبراهيم عشرًا من كل شيء. المترجم أولاً ملك البر ثم
أيضًا ملك ساليم أي ملك السلام (3) بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداءة أيام له ولا
نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله. هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد (4) ثم انظروا ما
أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء عشرًا أيضًا من رأس الغنائم) .
هذا هو ملكي صادق بشهادة العهدين العتيق والجديد فإذا كان الله - تبارك
وتعالى - يحل في الأجسام كما يقول النصارى فمَن أجدر بهذا الحلول من ملكي
صادق وهو يمتاز على المسيح بكونه من غير أم ولا أب وكونه بلا بداية ولا
نهاية؟ ! وهو الذي بارك إبراهيم أبا الأنبياء وهو واضع الشرائع التي اقتبست
منها التوراة والنتيجة أنه بشهادة العهدين أعظم من إبراهيم وموسى وعيسى وإن
شئت فقل: إن بولس نزهه عن البشرية، ووصفه بأخص صفات الألوهية، والتاريخ
يشهد أنه وثني أفليست هذه الكتب أيضًا كتبًا وثنية؟ !
***
هذه التوراة
لا خلاف ولا نزاع بين أهل الكتاب في أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام
قد فُقدت. ثم وجد عندهم غيرها وفقد ثم وجد غيره. والأخبار عندهم في ذلك معمَّاة
وطرقها مشتبهة الأعلام، حالكة الظلام، جاء في الفصل الرابع والثلاثين من
أخبار الأيام الثاني: (14 وعند إخراجهم الفضة المدخلة إلى بيت الرب وجد
(حلقيا) الكاهن سِفر شريعة الرب بيد موسى 15 فأجاب حلقيا وقال لشافان
الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب وسلم حلقيا السفر إلى شافان 16
فجاء شافان بالسفر إلى الملك..) إلخ.
وفي دائرة المعارف أنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجده حلقيا هو الذي كتبه
موسى (قال) : ولا دليل لهم على ذلك.
وأقول: إن ادعاء شخص بمثل هذه الدعوى لا يوثق به فإنه مهما كان عادلاً لا
يزيد خبره عن كونه مظنون الصدق محتمل الكذب. ثم إن هذه النسخة التي وجدوها
قد فُقدت أيضًا، والمعتمد عليه عندهم أخيرًا هو ما كتبه عزرا كما فصلناه من قبل في
المجلد الرابع من المنار. ففي الفصل السابع من سفر عزرا ما نصه: (وبعد هذه
الأمور في ملك أرتحشستا ملك فارس عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا 2 بن
شلوم بن صادوق بن أخيطوب 3 بن أمريا بن عزريا بن مرايوث 4 بن زرحيا بن
عزي بن يقي 5 بن أبيشوع بن فينحاس بن العازار بن هرون الكاهن الرأس 6
عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله
إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه كل سؤاله - إلى أن قال - (8
وجاء إلى أورشليم في الشهر الخامس في السنة السابعة للملك 9 لأنه في الشهر
الأول ابتدأ يصعد من بابل وفي أول الشهر الخامس جاء إلى أورشليم حسب يد الله
الصالحة عليه 10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعلم بها وليعلم إسرائيل
فريضة وقضاءً) .
وذكر بعد هذا صورة الكتاب الذي كتبه هذا الملك لعزرا الكاهن بالإذن لبني
إسرائيل بالعودة إلى أورشليم معه من شاء منهم وفيه ما نصه: (25 أما أنت يا
عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب..)
- إلى أن قال - (16 وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقضَ عليه
عاجلاً إما بالموت..) إلخ.
بهذه العبارة يستدلون على أن عزرا كتب التوراة بعد فقدها وهو لا يدل على
زعمهم وأنَّى له أن يكتب التوراة كما أنزلت وقد مضت القرون عليها وهي مفقودة
ولم ينقل أن أحدًا حفظها كما يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم. نعم، لا يعقل
أن أمة تُؤْتَى شريعة وتعمل بها وتساس بأحكامها ثم تنساها بالترك كلها بحيث لا
تحفظ منها شيئًا بل المعقول أن العمل من أسباب الحفظ فالإسرائيليون - وإن طال
عليهم أمد السبي وحُكموا زمنًا طويلاً بغير شريعتهم - لا بد أن يكون أهل الفهم
والبصيرة منهم قد ظلوا يذكرون كثيرًا من تلك الأحكام الإلهية فلما رحمهم أرتحشستا
ملك بابل وأذن لهم بالعودة إلى بلادهم وأمر كاهنهم عزرا بأن يضع لهم قضاة
وحكامًا يعملون بشريعة إلههم وشريعة الملك كتب لهم عزرا هذه التوراة الحاضرة
وأودعها ما كان لا يزال يحفظه من وصايا الرب وأضاف إليه ما حفظه من شريعة
الملك فجاءت هذه التوراة الحاضرة وأضاف إليه ما حفظه من شريعة الملك فجاءت
هذه التوراة مزيجًا من الشريعتين كما تبين بالاكتشافات الجديدة. وكتب العهد العتيق
التي يسمون مجموعها التوراة تؤكد كون الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه
السلام قد كُتبت بعده بزمن طويل كما بيناه في الجزء التاسع عشر من المجلد الرابع،
ومن ذلك ما جاء في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ونصه: (24
فعندما كمل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين
حاملي تابوت عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد
الرب..) إلخ.
ومنه ذكر وفاة موسى في الفصل الأخير من هذا السفر المنسوب إليه، وقول
كاتبه بعد ذلك (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (ثم قوله) ولم يقم بعدُ نبي في
إسرائيل مثل موسى) وهاتان الجملتان تدلان على أن هذه التوراة قد كتبت بعد موت
موسى واندراس قبره بزمن طويل.
وقد ذكرنا في ذلك الجزء أن علماء بروتستانت لم يسعهم إلا الاعتراف بفقد
توراة موسى وأن صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة
المسيحية) صرح بفقدها وانقطاع عبادة الله الحقيقية بين الإسرائيليين في مدة ملك
منسا وأمون وأنه قال بعد ذلك (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في
الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها. والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما
خرب بختنصَّر الهيكل وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن
الكتب المقدسة فُقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ المتفرقة من الكتب
المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية) هذا نص عبارته
بالحرف. وقد علمت أن ليس في سفر عزرا ذكر نسخ ولا كتب وإنما قصارى ما
يفهم منه أن الملك البابلي أمره بتعيين حكام لإسرائيل يحكمون بما يعرف من شريعة
إلهه وشريعة الملك.
ونتيجة ما تقدم كله أن أسفار التوراة الحاضرة نفسها تؤيد الاكتشافات الحديثة
وأنه ثبت بمجموع الأمرين أن التوراة الحاضرة ليست توراة موسى وإنما فيها شيء
منها لاستحالة أن تكون نسيت كلها وذلك كافٍ في هدم الديانة اليهودية والديانة
المسيحية المبنية على كتبها.
* * *
زلزال النصرانية في أوربا
أنس النصارى واليهود بما في كتبهم من الدلائل على عدم الثقة بنقل التوراة
والإنجيل وكابروا أنفسهم والناس بدعوى تواترهما، إن شرط التواتر أن ينتهي سند
الرواة الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب لكثرتهم إلى من جاء بالكتاب كأن ينتهي
تواتر التوراة إلى موسى نفسه لا إلى عزرا الذي لا يعلم أحد من أين جاء بما جاء
به هل هو من البابليين أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته
البابليين؟ ! أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته البابليين. ولكن
القيامة اليوم قائمة في أوربا لاكتشاف شريعة حمورابي (ملكي صادق) وبيان أنها
توافق هذه التوراة في أحكامها وتخالفها بعض المخالفة في تاريخها؛ لأنهم لم يروا
مجالاً في هذا للمكابرة والمواربة.
وقد حكم العلماء بأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي حمل نسخة
هذه الشريعة من بابل إلى فلسطين عند قدومه إليها وأن موسى (عليه الصلاة
والسلام) قد اقتبس منها كل ما رآه يصلح لسياسة بني إسرائيل كما اقتبس بعض
ذلك من الشريعة المصرية التي تربى في بيت ملكها وبذلك تكون هذه الشريعة التي
يفتخر اليهود والنصارى بأنها إلهية مقتبسة من الشرائع الوثنية ويكون موسى مزورًا
بادعاء أنها أوحيت إليه من الله! (حاشاه حاشاه) .
خطب العلامة اللاهوتي الأثري (دليتش) أحد أعضاء (جمعية الشرق) في
هذا الموضوع خطبة مطولة في برلين حضرها قيصر الألمان والقيصرة وجماهير
العلماء والكبراء وقال في خطبته على رؤوس الأشهاد: إن شرائع التوراة منقولة
عن الشرائع البابلية وليست وحيًا من الله واستنتج من ذلك أنه لا حاجة إلى دين
وراء وجدان الخير المغروس في الفطرة؛ وذلك أنه ختم الخطابة بقوله: إننا نضع
أيدينا على قلوبنا ولا نحتاج إلى وحي غير الوحي الذي يصدر عنها! .
قرع هذا العالِم النصرانية بهذا القارعة في ذلك الملأ العظيم فتزلزلت هي ولم
تزلزل مكانته من نفوس القوم وإن كان فيهم مَن استاء منه؛ لأن تقاليد الدين مطبوعة
في وجدانه فهو يأنس بانطباعها، ويتألم لانتزاعها، أو لأن السياسة تقضي
بالمحافظة على الدين وإن زلزله العقل، وزعزعه النقل، فقد نقلت الجرائد أنه بعد
خطابه جلس إلى القيصر والقيصرة يحادثهما ويحادثانه بكل طلاقة وقبول. وقد
عجب بعض الناس أن رأوا غليوم الثاني الذي أقام أوربا وأقعدها ثم دعاها إلى
محاربة الصين دعا أن أهانت بعض دعاة الدين يلاطف عالمًا لاهوتيًّا أثريًّا بعد
أن قضى على هذا الدين القضاء المبرم. ولا عجب فإن الدين عند هذا القيصر
وأمثاله من آلات السياسة ولا يصح أن تكون السياسة عدوة للعلم الذي هو أقوى
آلاتها.
* * *
المذهب الجديد
بعد هذا اجتمع القيصر بهذا الخطيب مرة أخرى ثم أعلن رأيه في المسألة
فلاح لذهنه الوقاد أن يضع للنصرانية مذهبًا جديدًا يستبقي به كونها آلة سياسية
تنتفع بها أوربا في مقاومة الشرق ويقطع به لسان العلم عن المحاجة والمجادلة فكتب
إلى صديقه الأميرال (هولمن) كتابًا يقول فيه ما تعريبه باختصار قليل جدًّا:
(إن الأستاذ دليتش دخل مع القيصرة والوكيل العام (درياندر) في بحث
استمر عدة ساعات وما كنت أنا إلا من السامعين. ومن سوء الحظ أن الأستاذ انتقل
من البحث التاريخي في المسائل الدستورية إلى مسائل دينية لا محل لها فلبثت
مصغيًا حتى إذا ما انتهى إلى الخوض في العهد الجديد عرفت رأيه فإنه قال في
مخلِّصنا أقوالاً شاذة مناقضة لما أرى وأعتقد؛ ذلك أنه لا يعتقد بلاهوت المسيح
ويرى أن ليس في التوراة شيء من الوحي والنبوة عن يسوع بأنه المسيح.
فهنا يفنى الأستاذ دليتش المؤرخ الأثري في الأستاذ دليتش اللاهوتي فيبقى
هذا اللاهوتي ماثلاً بما فيه من النور والظلام معًا. إنني أنصح له بأن يخطو في
هذه السبيل خطوة بعد خطوة لائذًا بجانب التأني والحذر وأن يختص بهذه الآراء
الدينية رصفاءه اللاهوتيين ويودعها كتبهم وأن يكفينا الخارجين عن هذه الدائرة مثلنا
مؤنة البحث في هذه المسائل ولا سيما (جمعية الشرق) التي لم تنشأ لتكون ندوة
للبحث في جميع الآراء وإنما نبعثر الأرض [1] ونقرأ ما كتب على الآثار
المستخرجة منها لمساعدة العلم والتاريخ لا لتأييد الآراء الدينية أو تفنيدها. ويا ليت
دليتش لم يتجاوز في هذا العام الحد الذي وقف عنده في العام الماضي وهو
الاستدلال بما تستخرجه جمعيتنا من الآثار الشرقية على ما كان للمدينة البابلية
القديمة من التأثير في مدنية الإسرائيليين لنعرف العادات والأخلاق والشرائع التي
أخذوها من البابليين ونرى هل يوجد فيها ما يزكي البابليين مما تصفهم به التوراة
من الأوصاف التي لا شك في كونها شنيعة وغير عادلة، هذا هو حد شرطه الأول
وكان غرضه منه كبيرًا يجب علينا أن نشكره له؛ ولكنه من سوء الحظ قد تجاوزه في
هذه المرة.
(ولو أنه شرح المسألة وترك للسامعين استخراج النتائج الدينية منها لنالت
خطبته استحسان جميع السامعين؛ ولكنه طفق يناقش في مسألة الوحي فأنكرها
بالجملة والتفصيل ثم ظن أنه قادر على إثبات كون أصلها بشريًّا محضًا فارتكب
خطأً عظيمًا بما دمر على النفس [2] في باطنها وعبث بهيكلها المقدس في غير واحد
من سامعيه الذين تختلف عقولهم باختلاف طبقاتهم. سواء كان مخطئًا أو مصيبًا في
الواقع ونفس الأمر فإنه قد نكس في نفوس كثيرين أنفس الصور والاعتقادات
المقدسة عندهم وزلزل أساس إيمانهم إن لم نقل إنه نسفه في اليم نسفًا. وهذا عمل لا
يجسر عليه إلا أصحاب القرائح الملتهبة والعقول الكبيرة) .
***
أقيصران أم نبيان؟ !
(أما الوحي فهو في اعتقادي الذي كاشفتك به أنت وغيرك من قبل نوعان:
أحدهما تاريخي، وهو مستمر لا ينقطع. وثانيهما ديني خاصّ وكان تمهيدًا
لمجيء المسيح. أما الوحي الأول فهو أن الله يظهر دائمًا في الجنس البشري الذي هو
خليقته وصنيعته فإن نفخ في الإنسان من روحه أعني منحه شيئًا من ذاته [3] إذ أعطاه
نَفْسًا حية. وهو يراقب نمو الجنس البشري بعناية الأب ليحسن أحواله فيظهر تارة في
رجل عظيم هنا، وتارة في رجل آخر هناك سواء كان ذلك الرجل كاهنًا أو ملكًا
وسواء كان بين الوثنيين أو اليهود أو النصارى [4] وقد كان (حمورابي) من هؤلاء
الرجال كما كان موسى وإبراهيم وهوميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوته
وقَنْت والإمبراطور غليوم الكبير.
فإن الله اختار هؤلاء ورآهم أهلاً لأن يعملوا بحسب إرادته أعمالاً عظيمة
دائمة خدمة لأممهم، سواء كان ذلك العمل روحانيًّا أو عالميًّا، وكثيرًا ما كان جدي
يقول: إنه لم يكن إلا آلة بيد الله. ولا شك في أن ظهور الله تعالى في الأشخاص
يكون على حسب استعداد أممهم ودرجتها في الحضارة، ولا يزال يظهر هذا الظهور
حتى في عصرنا هذا (كأنه يومئ إلى أنه ظهر فيه الآن كما ظهر في جده من
قبل) .
(أما النوع الثاني من الوحي وهو الديني الروحاني الخالص فقد ابتدأ من
زمن إبراهيم ببطء وحكمة ولولاه لقضي على النوع البشري وقد نما وتسلسل نسل
إبراهيم على الاعتقاد بإله واحد وقد حفظته عناية الله تعالى بحفظه هذا الإيمان حتى
ختم هذا الوحي وانتهى بظهور المسيح الذي كان أعظم مظهر لله تعالى في هذا
العالم. ذلك أن الله ظهر يومئذ في شخص الابن بصورة بشرية (تعالى الله عن هذه
الوثنية) وهو مخلصنا الذي يملأنا حماسة ويدعونا إلى اتباعه وإننا لنشعر بناره
تأجج في أحشائنا، وبرحمته تعزينا. وإننا باتباع وصاياه نقتحم كل شيء لا نبالي
بالتعب ولا بالازدراء ولا بالحزن ولا بالفقر ولا بالموت؛ لأننا واثقون بالنصر
لسماعنا منه الوحي الإلهي الذي يصدق دائمًا.
(هذا هو رأيي في المسألة فإن (الكلمة) عندنا معشر البروتستنت بمنزلة
كل شيء وذلك بفضل (لوثر) علينا. وكان على (دليتش) أن لا ينسى ما كان
يعلمنا إياه لوثرنا العظيم وهو: (يجب عليكم أن تبقوا على الكلمة) .
(ومن البديهي عندنا أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من
البشر لا وحي الله. ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله اعتبر تلك الشريعة
موحى بها من الله إلا اعتبارًا شعريًّا رمزيًّا؛ لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن
شرائع أقدم منها على الأرجح وربما كان أصلها مأخوذًا من شرائع (حمورابي)
ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالاً بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل وبين
شرائع بني إسرائيل باللفظ والفحوى وذلك لا يمنع قطعيًّا من الاعتقاد بوحي الله
لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته. وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي:
(1)
إنني أومن بإله واحد.
(2)
إننا معاشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله إلى شيء يمثل إرادته
وأولادنا أشد احتياجًا منا إلى ذلك.
(3)
إن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا
بالتقليد.
وإذا فندت الاكتشافات الأثرية بعض رواياتها وذهبت بشيء من رونق تاريخ
الشعب المختار - شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك لأن روح التوراة يبقى سليمًا
مهما طرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال وهذا الروح هو الله وأعماله!
(إن الدين لم يكن من محدثات العلم فيختلف باختلاف العلم والتاريخ وإنما
هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله.
هذا وإنني مع الشكر والثناء أظل دائمًا صديقك المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
غليوم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إمبراطور وملك
(المنار)
هذا هو كتاب عظيم الألمان وهو على ما فيه من التمويه والمواربة والتعارض
والتناقض والميل مع ريح السياسة يدل على فهم ثاقب وفكرة وقادة وينبّئ عن بُعد
غور. ومجمل ما يقال فيه: إنه مذهب جديد أو دين جديد ويظهر أن هذا القيصر
يعتقد أو يدَّعي بأن الله جل وعلا قد ظهر فيه كما ظهر في جده غليوم الأول فكانا
نبيَّين أرسل أحدهما لتكوين الوحدة الألمانية، وثانيهما لحفظ مجدها وإطلاع كوكب
سعدها، وقد غمط حق من كان أحق منه ومن جده بهذا الظهور الإلهي المدعى وهو
البرنس بسمرك الذي كان آلة في يد الله وكان جده غليوم الأول آلة بيده. ولئن
غمط حق بسمرك فقد غمط حق من هو أعظم منه ومن إبراهيم وموسى وعيسى
وهو (محمد) عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام فهو الذي جاء عن الله
تعالى بعلوم وعمل بعناية الله تعالى أعمالاً لم يسبق ما يقاربها لغيره ولن يلحقه بما
يقاربها غيره، فشريعته أعدل من شريعة التوراة ولا يمكن أن يوجد اكتشاف يظهر
أنها مستفادة من شريعة أخرى والوحدة التي كونها بنفسه أحوج إلى المعونة الإلهية
المحضة من الوحدة التي كونها بسمرك وغليوم الأول؛ لأن تفرق قبائل العرب
وشعبها كان أشد ولم يكن عندهم من العلوم والمعارف والمدنية التي تقرب بعضهم
من بعض مثلما كان عند الولايات الجرمانية. ثم إن الوحدة العربية قد استتبعت من
الفتوحات ونشر العلم والمدنية في الممالك ما لم يكن مثله أو ما يقاربه للوحدة
الألمانية على أن تبرير هذه الأمة في العلوم غير مجهول؛ ولكن الفرق بين الأمتين أن
ظهور هذه كان في عصر العلوم والاكتشافات والاختراعات وظهور تلك كان في
بداوة وجاهلية وأمة أمية. فأيهما كان بالأسباب العادية، وأيهما كان بمحض العناية
الإلهية؟ !
* * *
الحكم العدل في الكلام
وخطوة أوربا أو وثبتها إلى الإسلام
في كتاب القيصر أفلاذ من الذهب النضار، وفيه كثير من الحصا وقطع
الفخار، وقد كاد يصل بذكائه إلى الحق ولكن بقي دونه حجاب نكشفه بعد بيان
نتائج كتابه وهي:
(1)
أن للعالم إلهًا واحدًا يدبره بقدرته، ويخص بعض العباد بمزيد معونته.
(2)
أن البشر في حاجة شديدة إلى معرفة الله تعالى بأن يكون بينهم وبينه
عهد وصلة ليعرفوا بذلك ما يريد بهم وما يرضاه منهم.
(3)
أن الله تعالى قد وهب البشر هذه الحاجة بالوحي الديني.
(4)
أن حقيقة الوحي هي ظهور الله تعالى في البشر بأن ينفخ فيهم من
روحه - أي يعطيهم شيئًا من ذاته - وهو قسمان: ديني محض، وغير ديني
محض.
هذه أربع نتائج عامة كلها مستفادة من كلامه وهي صحيحة إلا الأخيرة منها
فإنه قارب فيها الحق ولكنه لم يصل إليه. والصواب أن فاطر السموات والأرض لا
تتجزأ ذاته وأن البشر - وإن كانوا مكرمين ومفضلين على كثير من المخلوقات - لا
يخرجون عن كونهم جندًا صغيرًا من جنوده التي لا تحصى فليس من العقل ولا من
الحكمة أن نغتر بأنفسنا حتى نحصر الذات الإلهية في أفراد منا دون هذا العالم
الكبير الذي تعد أرضنا كتلة صغيرة منه، وجميع ما فيها من الأحياء كالذرات
الصغيرة التي نراها تعيش في كتلة من هذه الأرض.
ولكن هذا العالم العظيم الذي يدهش الواقفين على بعض أسراره بنظامه
وإحكامه لم يكن هذا النظام العام فيه بفعل هذه الأجسام التي نعرفها بحواسنا؛ ولكن
الله تعالى بث فيه عالمًا روحانيًّا غير منظور جعله علة لهذا الإحكام والنظام. وقد
لمحت عقول البشر هذا العالم في طور وثنيتهم فسموه عالم الآلهة، وزعموا أن لكل
أمر عام إلهًا خاصًّا يدبره. ولكن الأنبياء سموه عالم الملائكة. وقولهم هو الحق
لأنهم عرفوا ذلك بالوحي.
والوحي عبارة عن اتصال روح النبي بروح من هذه الأرواح واستفادته نوعًا
من العلم منه.
الروح الذي يفيض العلم على الأنبياء يسمى بلسان الدين الروح الأمين وروح
القدس عبر عن اتصاله بروح النبي لإفادة العلم بلفظ النزول قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52) وأما العلم الذي يستفيدونه من هذا الوحي
فأهمه معرفة الله تعالى على الوجه الصحيح ومعرفة الحياة الآخرة، ويلي ذلك بيان
الأعمال النفسية والبدنية التي تؤيد هذا الاعتقاد وتقويه وترقي النفس الإنسانية.
والفرق بين علم الأنبياء الذي يسمي وحيًا وبين علم هوميروس وشارلمان ولوثر
وشكسبير وبسمرك وغليوم الأول وغليوم الثاني وأمثالهم أن علم الأنبياء لم يكن
مكتسبًا وإنما كان يقع لهم بواسطة الروح الذي ينزل على قلوبهم، وأن موضوعه ما
ذكرنا من أمر الإيمان وحفظ الصلة بين العبد وربه.
وأما علم أولئك الملوك والشعراء فقد كان كسبيًّا وموضوعه ليس متعينًا فهو
خيالات وتصورات وحكايات وسياسات منها الحق والباطل، ومنها الحالي والعاطل،
ولا معنى للقول بأن كل نابغ في شيء من الأشياء يسمى نبيًّا وعلمه وعمله وحيًا
إلا إذا أردنا أن نجعل الوحي أمرًا عاديًّا كما يقول الذين أنكروا الوحي في أوربا
لسقوط ثقتهم بالكتب المنسوبة للأنبياء والقيصر أرقى عقلاً أن يقول بذلك وما قلناه
قريب من قوله ولعله لو وقف عليه لقال به.
وأما النتائج الجزئية في كلامه فهي:
(1)
أن الوحي الديني الروحاني المحض قد بدئ بإبراهيم وانتهى بالمسيح.
(2)
أن ظهور الله في المسيح كان أعظم ظهور له في هذا العالم.
(3)
أن اتّباع وصاياه كافية لاقتحام كل شيء ثقة بالنصر.
(4)
أن ما في التوراة من التاريخ والشرائع والأحكام بشري مستفاد من
البشر وليس وحيًا من الله ولا يمنع ذلك كون موسى نبيًّا.
(5)
أنه ليس عندنا شيء نتخذه عهدًا بيننا وبين الله تعالى فنعرف به مراده
بنا وما يرضاه لنا إلا هذه التوراة. وإن ما فيها من الكذب على الله تعالى بنسبة
الشرائع إليه ومن الكذب في التاريخ المقدس لا يحول دون ذلك!
وهذه النتائج كلها غير صحيحة فإن التوحيد قد عرف عند الأمم قبل إبراهيم
وبعث قبله أنبياء دعوا إلى مثل ما دعا إليه هو والأنبياء من ذريته؛ ولكنهم انقرضوا
وعفت آثارهم، وإن ظهور الله - عنايته ووحيه - في المسيح كان دون ظهوره في
موسى فإنه كان متبعًا شريعته مع إصلاح قليل؛ ولذلك قال: (ما جئت لأنقض
الناموس) وإن ظهوره في محمد كان أعظم من ظهوره في إبراهيم وموسى والمسيح
فمَن دونهم من البشر؛ لأنه هو الذي صدق عليه وحده القول المأثور عن المسيح عليه
السلام:
(12 أن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا
الآن 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم
من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية 14 ذاك يمجدني لأنه يأخذ
مما لي ويخبركم) (16 يو) .
فقد صرح بأن الناس لم يكونوا مستعدين في ذلك العصر لمعرفة كل الحقائق
الدينية، وقد علّم محمدٌ الناسَ جميع الحق في العقائد المبنية على البرهان والعبادات
المؤثرة في الروح والأخلاق المبنية على الاعتدال والأحكام المبنية على العدل.
وأسس دينًا - هو وإن ضعف زعماؤه - أرسخ الأديان وأقواها، وشريعة هي - وإن
قل أنصارها - أعدل الشرائع وأعلاها، وأمة كانت باتباعه أعز الأمم وأنماها، نعم،
إنها الآن مريضة ولكنها ستبل إبلالاً، وتعود لها السيادة الأولى إن شاء الله تعالى.
هذه إشارة إلى بطلان النتيجة الأولى والثانية.
وأما الثالثة فبطلانها أظهر؛ لأن هذا القيصر وأمته أبعد الناس عن وصايا
المسيح التي تدور على الزهد المطلق والذل وترك الانتصار للنفس ولو اتبعوا
وصايا الإنجيل لضربتهم فرنسا عن الخد الأيمن (الإلزاس) فأداروا لها الخد
الأيسر (اللورين) .
وأما الرابعة فقد جمعت بين النقيضين، وهما كون موسى يدعي أن شريعته
وحي من الله وما هي بوحي من الله، وإنما نقلها عن شرائع الأمم الوثنية وكونه مع
ذلك نبيًّا موحًى إليه من الله! ولا ندري ما هو هذا الوحي المبهم إذا لم تكن الشريعة
وحيًا ثم لا ندري ما هو الدليل على هذا الوحي؟ ! . هذا رأي يمكن أن يُقبل في
حيز السياسة لا في حيز الدين، ويمكن أن يقال باللسان، ولا يمكن أن يستقر في
الجَنان.
ومن العجائب أن البابا وافق على رأي قيصر الألمان في كون شريعة التوراة
وتاريخها من وضع البشر لا من وحي الله كما جاء في بعض الصحف؛ ولكن ماذا
يصنع البابا إذا لم يجد منفْذًا لدفع الشبهة ولا طريقة لحل الإشكال؟
ماذا يصنع وقد أقنعه بذلك العلم والاكتشافات التي لا يكاد يخفى عليه شيء
منها وهو في الدرجة العليا علمًا وعقلاً وسياسةً؟ لعله لا يوجد في الأرض مَن هو
أحرص من البابا ومن غليوم الثاني على المحافظة على التوراة وتقديسها ولا من هو
مثلهما علمًا، وقد أعياهما حل هذا الإشكال مع طول باعهما وسعة اطلاعهما وكثرة
أتباعهما من العلماء والحكماء.
* * *
آية جديدة للقرآن
وإن تعجب فأعجب العجائب أن القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا قد نطق بما أثبته
العلم وأيدته الاكتشافات في هذا العصر، وحل الإشكال حلاًّ لا بد أن يرجع إليه جميع
العلماء في وقت قريب. وهذه معجزة ظاهرة، أو نبوة باهرة - كما يقولون - ولا
غرو فالقرآن لا تنتهي عجائبه، وهو حجة الله على العالمين منذ أُنزل إلى يوم
الدين، حكم القرآن بأن بني إسرائيل نسوا حظًّا من الوحي الذي ذكرهم الله تعالى به
على لسان موسى عليه الصلاة والسلام وحفظوا حظًّا آخر وقع فيه شيء من
التحريف والكذب. قال تعالى (في سورة آل عمران 23) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم
مُّعْرِضُونَ} (آل عمران: 23) وقال في (سورة النساء) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن
مَّوَاضِعِهِ} (النساء: 44-46) إلخ. وقال بعد آيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: 51) ، وقال تعالى (في سورة المائدة 13) بعد
ذكر أخذ الميثاق على بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًًا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (المائدة: 13) .
وهذا الحكم هو المعقول وإنما ظهر صدقه وكونه معقولاً في هذا العصر فصح
قول المسلمين في القرآن (لا تنقضي عجائبه، ولا تتناهى غرائبه) فيا له من
معجزة تفيض بالمعجزات الكبيرة، ويا له من آية بينة تنطوي على آيات كثيرة،
أنَّى لأمي نبت في أرض جاهلية، وتربى في أمة أمية أن يحكم على شريعة كانت
أم الشرائع، وتاريخ أمة كانت أشرف الأمم حكمًا لم يعرف عن علماء
الشرائع والقوانين، ولا عن مدوني القصص والتواريخ، فيحز في المفصل،
ويقول القول الفصل، ويأتي بكلمتين ثنتين لا تبلغ مساحتهما في الكتابة سطرًا
واحدًا: {فَنَسُوا حَظًًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) ، {.. أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ
الكِتَاب} (آل عمران: 23) ؟ تتمخض الأيام والسنون، وتمر الأجيال والقرون،
ثم لا تظهر حقيقة تأويلهما إلا بعد أن تنبث دفائن الأرضين، وتستخرج منها آثار
الغابرين، ليتم قول الكتاب أيضًا:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وقوله:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:
53) . {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا
كَثِيرًا} (النساء: 82) أفلا يتأملون في قوله للنبي الأمي الذي أنزل عليه: {وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
فإلامَ الشك والارتياب، وقد ظهرت آياته لأولي الألباب؟ !
بهذا الحل يتبرأ موسى عليه السلام من شبهة الكذب على الله تعالى وتتبرأ
شريعته من شبهة الاقتباس من الشرائع البشرية لأن هذه الشريعة لو كانت موجودة
بالنص الذي كتبه موسى عن الوحي الإلهي لظهر الفرق بينها وبين شريعة
(حمورابي) وتبين أن المشابهة بينهما قليلة لا تصلح شبهة على اقتباس المتأخرة
من المتقدمة. على أن التوافق بين الشرائع في بعض المسائل أمر طبيعي سواء
كانت سماوية أو بشرية أو بعضها سماوي وبعضها بشري؛ لأن الوفاق في الطبائع
وحال الاجتماع يقضي بالوفاق في الأحكام. ومازالت تتوارد خواطر العلماء
والشعراء على بُعد الدار، واختلاف الأعصار، وإذا كنا لا نرى دليلاً أو أمارة
على أن أحدهما أخذ عن الآخر فلا يجوز لنا أن نحكم بهذا الأخذ. والدليل على أن
التوراة الحاضرة قد اقتبس بعضها من البابليين واضح مما في سفر عزرا ومما
أظهرته الاكتشافات. ويدل سفر عزرا وغيره أيضًا على ما يقضي به العقل من عدم
نسيان بني إسرائيل شريعة الرب فتعين أن يكون الحاضر مزيجًا. فقد اتفق في
المسألة العقل ونقل كتب العهد العتيق والتاريخ والآثار على تصديق القرآن في
حكمه على بني إسرائيل وشريعتهم.
فعلى عظيم الألمان ومقدس الكاثوليك (البابا) أن يرجعا إلى حكم الله تعالى
في المسألة فهو أفضل من حكمهما الذي يزيل ثقة جميع النصارى بالوحي وكتبه
ويجعلهم إباحيين مفسدين للعمران. وليعلم الزعيمان العظيمان أن دين الله تعالى
واحد، وأن تلك الأديان قد نسي بعضها ونسخ الباقي؛ لأن الله تعالى أراد أن يعطي
البشر ما هو أكمل منها كما قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) فعليهما أن يتركا
التعصب لقومهما وأن يكونا زعيمين للبشر كافة لا للألمان والكاثوليك أو النصارى
خاصة، وذلك بأن يأخذا بجوهر الدين الخالص الذي بيَّنه القرآن وهو الكتاب
المحفوظ الذي لا ريب فيه الذي جاء بالحق وصدق المرسلين وإذا تأملاه بإخلاص
فلا شك أن نور الحق يشرق عليهما كما أشرق على كثير من أهل العلم في أوربا.
جاء في كتاب (ديانات الأمم وعقائدهم) للأستاذ ليننز ما خلاصته:
(إن دين الإسلام دين يوافق الناس كافة ويجعلهم أمة واحدة وإنني أؤمل أن
أرى النصارى بعد حين آخذين بدرس هذا الدين والتدين به وموالاة محمد - عليه
الصلاة والسلام -؛ لأن دينه الدين القويم المبين) (راجع 5 الصفحة 292-300
من هذا الكتاب المطبوع في لندن سنة 1901 ومثل هذا القول أقوال كثيرة) .
وقد بينا في مقالة (مسير الأنام ومصير الإسلام) بعض المبشرات التي تدل
على خطوات أوربا إلى الإسلام من حيث تدري ولا تدري وإننا نعد هذا الاكتشاف
الجديد الذي أيد القرآن وما قاله عظيم الألمان وحبر أحبار الرومان فيه خطوة من
تلك الخطوات، بل وثبة من الوثبات.
…
...
…
والعاقبة للمتقين، والله ولي المؤمنين.
_________
(1)
بعثر الشيء: استخرجه فكشفه وبعثره أثار ما فيه وهو استخراج نحو المدفون والخفي وإظهاره لمعرفة حقيقته ومنه قوله تعالى: [وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ](الانفطار: 4) .
(2)
دمر: دخل بدون استئذان و (ما) مصدرية.
(3)
يتوهم أهل الحلول مثل هذا منشأ وثنيتهم وذات الله تعالى لا تتجزأ وإنما هي عنايته يمنحها من شاء من عباده.
(4)
انظر كيف لم يعد المسلمون أمة منفردة وما كان ذلك جهلاً ولكنه التعصب.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة العاشرة
(فيما ينبغي عليه التعويل)
(المسألة الرابعة عشرة) استدل منكرو الكرامات من المعتزلة وبعض علماء
السنة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي ومن على رأيهم بسبع حجج على
نفي الجواز، وتقدم بسطها وما قالوه في الجواب عن بعضها في المقالة الثالثة
(449-2) واستدل المثبتون بأربع حجج كما ذكر السبكي في الطبقات الكبرى
وهي ترجع إلى شيء واحد هو أنها وقعت بالفعل كما يعلم من بعض قصص القرآن
والآثار المروية عن الصحابة.
وتقدم في المقالة الرابعة بيان أن تلك القصص لا دليل فيها يصلح حجة في
هذا المقام إلا على ما يسمونه الإلهام وما في معناه من مكالمة الملائكة، وكان ذلك لأم
موسى وأم عيسى عليهما السلام (راجع 481-2) وفي المقالة الخامسة والسادسة
أنه لم يثبت بسند صحيح من الكرامات المأثورة عن الصدر الأول إلا مثل ذلك
الإلهام أيضًا، واستجابة الدعاء والبركة في الطعام (راجع 545-2و657-2) .
(المسألة الخامسة عشرة) أن ما يقال عن الصحابة (عليهم الرضوان) من
هذه الكرامات - ما صح سنده منه وما لم يصح - يعد على الأنامل لقلته وصار
المسلمون كلما بَعُد الزمان وقل العلم وكثر الفسوق والعصيان يكثر فيهم القول بهذه
الكرامات حتى إنهم يعدون لبعض الشيوخ المتأخرين ما يكاد يتجاوز عقد المئين. وهم
متفقون على أن الصحابة أفضل ممن بعدهم من الأولياء بلا قيد ولا استثناء. وقد
أجاب بعضهم عن هذا بأن المسلمين كانوا في عصر الصحابة وما يقاربه أقوياء
الإيمان فلم يكونوا محتاجين إلى كرامات وخوارق تقوي إيمانهم. وهذا الجواب مبني
على قاعدتهم التي ذكرها السبكي وغيره وهي أنه لا يجوز إظهار الكرامة إلا عند
ضرورة شديدة كتقوية إيمان شاك، وصواب القول في الجواب أن أهل الصدر الأول
من الصحابة والتابعين كانوا لقوة إيمانهم ويقينهم لا يكذبون ولا يخادعون الناس
بالوهم ولذلك لم يدَّعوا هذه الخوارق التي ربما كانوا أحوج إليها ممن بعدهم لإقامة
الحجة على المشركين والكافرين الذين كانوا مشتغلين بدعوتهم ومجاهدتهم. ولكنهم
لرسوخهم في معرفة مقاصد الإسلام كانوا يكتفون بالحجج المعقولة ولا يعتمدون على
شيء من الخوارق الكونية التي يضل فيها الفهم، ولا يهتدي فيها الوهم، وهذه
المسألة كنا وعدنا ببيانها في المقالة السادسة.
(المسألة السادسة عشرة) أن ما يصح أن يسمى كرامة من هذه الغرائب التي
تظهر على أيدي الناس هو ما كان ثمرة لارتقاء الروح، وصفاء النفس؛ بل هذا هو
معنى ما ذكروه في كتب العقائد كما تقدم في المسألة الثامنة. وإذا كان الأمر كذلك
فالواجب أن تبقى هذه الثمرة معلقة بهذه الشجرة أي: يجب أن لا تتجاوز هذه
الخصوصية أهلها الخواص. فإذا تجاوزتهم إلى من لا يعرف منشأها كانت فتنة له
وضارة به؛ ولذلك قال كبار الصوفية والمتكلمين المثبتين للكرامات بوجوب إخفائها
لأنها فتنة للناس وضارة بهم ومن مبالغتهم في ذلك القول المأثور عن الشيخ أحمد
الرفاعي: إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض! .
(المسألة السابعة عشرة) أكبر ضرر وأعظم فتنة في فشو الاعتقاد
بالكرامات بين العامة وكونها عند الصالحين صناعة من الصناعات، وأنها زلزلت
قاعدة العقائد الكبرى وهي توحيد الله تعالى وأوقعت الناس في ضروب من الشرك
الأصغر والأكبر. وليس زلزال التوحيد محصورًا في اعتقاد تعدد الخالقين
للسموات والأرض المشتركين في الإيجاد والتكوين وإنما الشرك في التماس المنافع
أو دفع المضرات من غير الله تعالى، وبواسطة غير سننه التي أقام بها نظام الكون
وجعل الانتفاع بها عامًّا لجميع خلقه.
بل ورد في الأحاديث تسمية الرياء في العبادة شركًا فكيف لا يكون دعاء
غير الله تعالى شركًا. روى أحمد وابن ماجه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وصححه من حديث شداد بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي
فقلت: ما يبكيك؟ ! فقال: (إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون
صنمًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولكنهم يراؤون بأعمالهم) ! وإنما سمي الرياء
شركًا؛ لأن المرائي يطلب منفعة من المرائَى والمنافع لا تطلب إلا من الله تعالى ومن
الطرق والأسباب التي سنها لها. والغرض من العبادة طبع ملكة الاعتماد على الله
تعالى في القلب لتقوية التوحيد فإذا لوحظ بها الناس وفعلت رئاءهم فقد قطعت
طريق التوحيد ودلت على عدم تمكنه من النفس. فما بالك بمن يعتمد على غير الله
تعالى ابتداءً ويجعله حجابًا بينه وبين الله يزعم أنه يقربه إليه زلفى.
ولو كان الشرك عبارة عن تعدد الخالقين لما كان فيه ما هو أخفى من دبيب
النمل.
روى ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد والطبراني من حديث أبي موسى
الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (أيها الناس
اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل) فقالوا: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب
النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه
ونستغفرك لما لا نعلمه) وروى غيرهم عن غيره أحاديث بمعناه منها حديث ابن
عباس عند الحكيم الترمذي: (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا) .
إذا عدت عيناك عما تشاهد كل يوم من العامة لا سيما في أضرحة
الصالحين. ونبا سمعك عما تسمع منهم من دعاء غير الله، والاستغاثة والاستعانة
بغير الله، وطلب الحوائج ورد البلاء من غير الله والتماس الصدقات (على قبول
فلان وفلانة) من دون الله، وقلت كما قال بعض علماء الأزهر: إن هؤلاء العامة
لا يعقلون التوحيد وإن الإمام محمدًا صاحب أبي حنيفة قال في عامة زمنه وهم خير
منهم: (لو كانوا عبيدى لأعتقتهم وأسقطت حق الولاء) فهل تعدو عينك عما ترى
في الكتب المنتشرة كانتشار الجهل في العبارات الشركية التي تقشعر منه جلود
الموحدين، كقولهم في كتاب ترياق المحبين وكتاب طبقات الوتري وغيرهما من كتب
الرفاعية: (إن عبد الرحيم الرفاعي كان يميت ويحيي ويفقر ويغني ويسعد ويشقي)
وقولهم إن أحمد الرفاعي وصل إلى مرتبة صارت السموات السبع في رِجْله
كالخلخال! . ولهم في هذين وغيرهما أقوال أخرى يتبرأ منها حتى دين بولس ودين
بوذا!
وقد ذكرنا في المسألة الثامنة كلمتهم التي يجعلون إرادة الله تعالى فيها تابعة
لإرادتهم. وإنك لتجد من حَمَلَة العمائم من يصحح مثل هذه الأقوال ويحرف كلام
القرآن عن مواضعه للتوفيق بينه وبينها.
وإذا بحثت عن سبب هذا الغلو كله تجده الاعتقاد بالكرامات بغير قيد ولا حد
ولا حساب. قالوا: يجوز إظهار الكرامة لتقوية الإيمان؛ ولكننا نرى إظهارها كان
أكبر جناية على أساس الإيمان. وأما هؤلاء العامة الذين قوي إيمانهم بأصحاب
القبور المشرفة (خلافًا لنهي الشارع عن تشريفها) فلو لم يعلموا بشيء من هذه
الكرامات لما كان إذعانهم وتسليمهم بالدين ينقص ذرة؛ لأن الدين عندهم تقليدي في
أحكامه وفروعه، وجداني فطري في أصله.
(المسألة الثامنة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بالكرامات إباحة
الموبقات وتحريم الواجبات، وذلك أنه استقر عند العامة وأكثر الذين يعدون من
الخاصة أنه لا يجوز الإنكار على الأولياء وما الأولياء عندهم إلا من تظهر على
أيديهم العجائب والخوارق؛ لأن المعصية التي تشاهد منهم لا بد أن تكون صورية لا
حقيقية ولذلك يجب تأويلها. فإذا رأيت أحدهم يشرب الخمر فاعتقد أنها انقلبت
عينها كرامة له فصارت لبنًا أو عسلاً أو شربًا آخر من الأشربة المباحة، وإذا رأيته
يترك الصلاة فاعتقد أنه يصلي بمكة أخذًا من قول السيد البدوي في الرد على الذين
اتهموه بذلك:
وفي طندتا قالوا صلاتي تركتها
…
ولم يعلموا أني أصلي بمكة
أصلي صلاة الخمس في البيت دائمًا
…
مع السادة الأقطاب أهل الطريقة
ولهم في هذه التأويلات حكايات غريبة يسخر العقلاء من بعض المستفيض
منها، كزعمهم أن بعضه رؤي يأتي الفاحشة ثم تبين أن سفينة كانت خرقت في البحر
وأشرفت على الغرق فبادر ذلك الولي إلى سد الخرق بما كان منه!
(المسألة التاسعة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بهذه الكرامات عدم ثقة
جماهير المعتقدين بها بالعقل وقضاياه ونظام الكون وسننه فهم دائمًا أسرى الأوهام،
وعبيد الخيالات والأحلام، فضعفت بذلك المدارك، وانقلبت في التصور الحقائق،
وصار معظم الناس يخضع للدجالين، ويؤمن بالمشعوذين والعرافين، ومن أنكر
عليهم شيئًا من ذلك اتهموه بالفلسفة ورموه بفساد العقيدة؛ فالعرافة والكهانة عندهم
إيمان، والحكمة (الفلسفة) كفر أو عصيان، والله تعالى يذكر في كتابه أنه بعث
رسوله ليعلم الناس الحكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:
269) ، ويقول نبيه فيما علّمنا من الحكمة: (مَن أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما
يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة. وروى
أحمد ومسلم في صحيحه عن بعض أمهات المؤمنين أن النبي e قال: (من أتى
عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين يومًا) نعم، إنهم لا يسمون هؤلاء
المخبرين عما وقع وعما يتوقع كهانًا وعرافين لما كان من الخلل في اللغة، والعبرة
بالحقائق لا بالأسماء. فإذا كان العراف يخرج عن كونه عرافًا بتسميته وليًّا مكاشفًا
فالخمر تخرج عن كونها خمرًا بتسمية بعض أصنافها كونياك أو شمبانية. ومثل
هذا يقال في تسميتهم الاستعانة بغير الله توسلاً وما أشبه ذلك.
وإن وراء الخضوع للدجالين والعرافين الذين يدعون الكرامات مفاسد لا يكتنه
كنهها ولا تحصي أنواعها وأفرادها فمن الناس من يبذل لهم المال، ومنهم من
يحكمهم في النساء والعيال، وإننا لنعرف أشخاصًا من هؤلاء الدجالين قد اشتهر أن
النساء يتجردن لهم فيكتبون من طلاسمهم وحروفهم على بطونهن ما يزعمون أنه
ينفع لحبل العاقر، أو يحبب البغيض منهن إلى زوجها أو غيره ممن تهوى. ومنهم
من يخلو بالنساء متى شاء من ليل أو نهار برضى أزواجهن الذين يعتقدون أن
هؤلاء من المقربين عند الله تعالى فلا يمكن أن تقع منهم الفاحشة فالرجل يكون ديوثًا
وصاحب الكرامة فاجرًا أو قَوَّادًا وكل ذلك ببركة الاعتقاد بالخوارق والكرامات
ولولاها لما كان شيء من ذلك بهذه الصور.
(المسألة العشرون) من مضرات الاعتقاد بهذه الكرامات ترك مجموع الأمة
الاهتمام بأمورها العامة اعتقادًا بأن هذه الأمور قد وكلها الله تعالى إلى رجال الغيب
فلا يجري في الأمة شيء إلا ما قرروه في الديوان الأعلى، وما قرروه قضاء لا مرد
له إلا أن يكون بتصرفهم. وفي كتب الصوفية كلام كثير عن هذا الديوان ومحله
ورياسته وأعضائه ولغتهم وأعمالهم. وقد كان من أسباب خضوع بعض البلاد
الإسلامية المعروف عن أهلها الشجاعة والأنفة للأجانب قول بعض المعتقدين من
أهل الطريق: إنه علم من أهل الله أن الله قد سلط الأجانب على تلك البلاد عقوبة
لها!
وينقلون أن أهل الشام رغبوا إلى ولي كبير كان عندهم أن يدفع عنهم إغارة
تيمور لنك فخرج فوجد الخضر على مقدمة جيشه، فقال: أنت معه؟ فقال: نعم
أنا وربك! فعلموا أن مقاومته عبث؛ لأنها محاربة لله تعالى!
وقد أشيع في إثر الاحتلال الإنكليزي في هذه البلاد أن بعض الصالحين
استغاث بأهل البيت وبالسيد البدوي لإخراجهم، فكشف عنه الحجاب فرآهم مقيدين
بسلاسل وقيل له: إنهم حاولوا إخراجهم فقُيدوا؛ لأن الله تعالى أراد هذا الاحتلال!
أمثال هذه الحكايات تسري في الأمة سريان الأوبئة، تظهر الحكاية اليوم في
بلد فيسمعها في اليوم التالي أهالي مئة بلد ولا يمر أسبوع إلا وتراها قد عمت
الديار، وجابت الأقطار وقال الأول للآخر: إنها منقولة بالتواتر!
(المسألة الحادية والعشرون) من مضار الاعتقاد بهذه الكرامات أنها حجاب
دون العلوم الكونية في نظر الدهماء وذلك أنهم يرون الذين يأخذون بهذه العلوم
يحتقرون الدجاجلة الذين يدَّعون هذه الكرامات ويحتقرون الذين يخضعون لهم
ويعتقدون بهم فينسبون ذلك إلى العلم ويعدونه من ثماره وهو شر الثمار عندهم،
ويمقتون العلم ومنهم من يجعله يريد الكفر؛ لأجل ذلك وكفى بذلك ضررًا لا سيما في
هذا الزمن الذي بُنيت فيه السيادة والسلطة على العلم.
(المسألة الثانية والعشرون) من مضار الاعتقاد بالكرامات على الوجه
المعروف ومشايعة العلماء للعامة على جميع مظاهرها وما يتعلق بها ولهجهم
بحكاياتها واحترامهم لدعاتها وأدعيائها أنها نزلت منزلة العقائد الدينية والقواعد
الأساسية للدين، وصار غير الراسخ في العلم يعتقد أن منكر هذا الحكايات فيها كافر
وكانت نتيجة هذا أن الذين تعلموا على الطريقة الأوربية وعقلوا فعلموا أن هذه
الحكايات إما دجل وشعوذة، وإما أكاذيب ملفقة صاروا يشكُّون في الدين من أصله
لاعتقادهم التقليدي أن الدين مبني عليها، وما بُني على الفاسد فهو فاسد وقد صرّح
غير واحد من علماء الاجتماع وطبائع الملل بأن العقبة الكبرى في طريق الإيمان
لهذا العهد هي عقيدة كون الخوارق أصل الدين الأساسي. وقد تقدم في المسألة الحادية
عشرة أن ذلك غير صحيح حتى في أديان الشعوب المنحطَّة التي كانت تمهيدًا لدين
الارتقاء (الإسلام) فكيف تكون أصلاً له؟ !
(المسألة الثالثة والعشرون) لا نعرف شعبًا من الشعوب دخل في الإسلام
بسبب هذه الكرامات، وإذا كان وجد في الناس مرتابون أزال ريبهم مشاهدة الكرامات
فلا نظن أنهم يبلغون عشر معشار الذين فسدت عقائدهم بسبب جعل هذه الغرائب
من الدين. وإذا فرضنا التساوي فلنا أن نقول: مصلحة بمفسدة وتبقي مفاسد أخرى
ليس بإزائها مصالح وقد ذكرنا أهمها آنفًا فتكون النتيجة أن إثم هذه الاعتقاد أكبر من
نفعه!
(المسألة الرابعة والعشرون) أن الذي ينبغي أن يعول عليه هو تحكيم قاعدة
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وتعلم الأمة عدم الثقة بهذه الخوارق وعدم
تصديق المنتحلين لها والمبالاة بهم. فإن كانوا من أولياء الله وأصفيائه فحسبهم
عناية الله بهم وكفايته لهم فمن كان وليًّا لله فالله ولي له ومن لم يكتفِ بولاية الله
تعالى عن التعرض للناس فهو ولي الشيطان:
من عرف الله فلم تغنه
…
معرفة الله فذاك الشقي
وإذا كان لهؤلاء الأصفياء مزايا روحانية أكرمهم الله تعالى بها فالواجب كما
قال أئمتهم أن لا يفشوا سر الربوبية وعلى غيرهم من المسلمين أن يعتقد فيهم ذلك
فينكر خلافه.
وهنا نرجع إلى مذهب جمهور أهل السنة فنقول: إن الكرامة جائزة ولكن لا
يجب على أحد أن يعتقد بكرامة معينة لأحد معين، وهذا المذهب موافق لقاعدة
كتمان الكرامة. ونتيجته أن هذه الحكايات التي تُثبت لأشخاص معينين كرامات لا
نهاية لها لا يوثق بها ولا يعول عليها والصواب أن تقاس على أمثالها عند أهل الملل
الأخرى فإن سنة الله فيهم وفينا واحدة. فإن صحت عنده رواية شيء منها بعد
التحري الذي أشرنا إليه في المقالة السابقة فليعرضه على وجوه التأويل في المقالات
اللاحقة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوى صلب المسيح
(2)
تكلمنا في الجزء الماضي عن تمويه محرر مجلة البروتستانت على بعض
عوام المسلمين في هذه المسألة وأقوى ما يخادعون به أنه لا يعقل أن رجلاً مشهورًا
كالمسيح يشتبه على اليهود وشرطة الرومان فلا يميزونه من غيره. وفاتنا أن نذكر
أن في الأناجيل عبارات كثيرة تدل على أن الاشتباه حصل بالفعل. وقد كتب إلينا
من السويس كاتب في ذلك فرأينا أن ننقل عبارته بنصها وهي:
(قد اطَّلعت على ما جاء في المنار ردًّا على بشائر السلام في مسألة صلب
المسيح) .
ولما كنت قد كتبت على المجلة المرسلة إليَّ من نقولا كتابة في هذا الشأن
ورددتها إليه رأيت أن أطلع حضرتكم على مضمون ما كتبت فلعلك تجد فيه ما
يناسب المنار، وإن كان ما كتبته موجزًا فعلى المنار الإيضاح والمراجعة والتفصيل.
قلت عند قوله: (قال المفسرون إن الله ألقى شبهه.. إلخ) إن المفسرين
قسمان قسم يفسر من طريق الإيمان على سنة المسيحية وهم الذين نقلت قولهم، وقسم
يفسر من طريق العلم والعقل على سنة الإسلام وقد فسروا هذه الآية بما لا يبعد عما
ورد في أناجيلكم التي تقرؤونها ولا تفهمونها، ورد في الإنجيل أن المسيح قال
لتلامذته: إنكم ستنكرونني قبل أن يصيح الديك.. إلخ (أنكرت الشيء لم أعرفه)
وورد أيضًا فيه أن المسيح خرج من البستان فوجد أعداءه فقال لهم: مَن تطلبون؟
فقالوا: المسيح. فقال: هو أنا ذا فقالوا: إنما أنت بستاني ولست بالمسيح وهكذا
كانوا كلما وجدوه أنكروه وخانتهم أبصارهم في رؤيته وعمي عليهم واشتبه منظره
(وخيانة النظر ثابتة قطعًا) فلما أعيتهم الحيل استأجروا يهوذا الإسخريوطي بثلاثين
درهمًا ليدلهم عليه لتمكُّّّنه منه فلا يشتبه عليهم، وهذا في الإنجيل أيضًا فهذه الحيرة
المفضية إلى استئجار دليل يدل عليه مع ملاحظة أنه رُبِّيَ في وسطهم وكانوا
يعجبون بفصاحته وحكمته كما هو وارد في الإنجيل أيضًا تدل بأجلى بيان وأوضحه
على أنهم كانوا في شك منه، وكان يشبه لهم بغيره فكلما اجتمعوا عليه اشتبه عليهم
وعمي في نظرهم وخانتهم أبصارهم وظنوه غيره وما حصل لهم حصل لدليلهم
(يهوذا) وقد ورد في الإنجيل أنهم حينما ساقوه للصلب كانوا يستحلفونه: هل أنت
المسيح؟ فكان يقول: هذا ذا فمنه يعلم أنهم كانوا لم يزالوا في شكهم حتى بعد
الاستئجار ووجود المرشد والدليل، فلما أعياهم الأمر عمدوا إلى مَن غلب على ظنهم
أنه هو المسيح والمسيح في السحابة البيضاء مع موسى كما في الإنجيل أيضًا ثم
صلبوا ذلك الرجل الذي كانوا يستحلفونه، وغلب على ظنهم أنه هو المسيح فهل كل
هذا كان لظهور المسيح واضحًا لهم أو لأنهم كلما طلبوه شُبه لهم وألقى شبه غيره
عليه وعمي عليهم وخانتهم أبصارهم فعمدوا إلى يهوذا واستأجروه ليدلهم عليه، فما
كان بأمثل منهم في ذلك وأدتهم خاتمة المطاف إلى أخذ من غلب على ظنهم أنه هو
وصلبوه، وما هو منه بشيء بل المسيح ساخر منهم ضاحك عليهم يقول: أنا المسيح!
فيقولون: لست هو، حتى قتلوا غيره وصلبوه وهو محجوب عن أنظارهم
مشتبه عليهم قد شُبه لهم بالبستاني مرة وبغيره أخرى وبذلك نجَّاه الله من كيدهم فما
نالوه بسوء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّن} (النساء: 157) المبني على إرشاد يهوذا
المشكوك فيه كما علمت من نص الإنجيل {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (النساء: 157) .
هل فهمت يا حضرة المبشر الآية وكيف كانت عبارات الإنجيل حجة للإسلام
لا عليه؟ . فاقرؤوا الأناجيل وافهموها؛ فقد وسع الله لكم على يد البروتستانت ولا
تكونوا كالذي يحمل أسفارًا اهـ.
أركان الدين الصحيح
ضاق هذا الجزء عن رد شبهات النصارى على القرآن وغير ذلك مما كنا
وعدنا به لطول مقالة (النبأ العظيم) أكثر مما كنا نتوقع، وقد صدر الجزء الخامس
من المجلة البروتستنتية قبل صدور هذا المنار قرأنا فيها نبذة في أركان الدين
الصحيح يقول فيه الكاتب الذي ينتمي إلى المسيح ما نصه:
وإن المذهب الذي يجب على كل فرد أن يختاره لنفسه هو أكثر المذاهب
مشابهة لروح الآلهة وأقربها لصفاتهم.. إلى آخر ما قاله وكرر فيه لفظ (الآلهة)
ثم فسر هذا المذهب بقوله: (ذلك المذهب الذي ينادي: أن يا قوم أحسنوا إلى مَن
أساء إليكم فتلك صفات الله، ذلك المذهب إنما هو مذهب إلهي بلا مراء) ، ثم ذكر
أن المذهب إذا قال لتابعيه جاهدوا في سبيل الله ودافعوا عن أنفسكم في سبيل الله
يكون بريئًا من الله والله بريئًا منه؛ لأن العزة الإلهية لا تأمر بالقتال مهما كان
الغرض شريفًا. وأجاب عن أمر التوراة بني إسرائيل بإبادة بعض الأمم
المجاورين لهم (بأنه) كان أمرًا وقتيًّا لازمًا للتوصل إلى المسيحية ديانة السلام
والمحبة) ! .
ثم ذكر اعتراض الناس على هذا المذهب بكون محبة الأعداء وترك المدافعة
عن النفس مستحيل، واعترف بأن هذا صحيح بالنسبة إلى معارف البشر الآن وقال:
إن معارفهم سترتقي في المستقبل إلى فهمه.
فملخص هذا الدين الإلهي:
(1)
أنه يوجد آلهة متعددة وأن أخلاقهم متفقة على محبة أعدائهم ولا شك
أن أعداءهم هم الذين لا يؤمنون بهم، ولا معنى لمحبتهم إلا عدم مؤاخذتهم على الكفر
فالنتيجة أن هذا الدين دين إباحة ومبطل لنفسه ولغيره.
(2)
أنه يأمر بمحبة الأعداء وترك المدافعة وذلك مستحيل بحسب ما
وصلت إليه معارف البشر إلى القرن العشرين من ظهوره؛ ونتيجة هذا أنه لم يتبعه
أحد حتى الآن.
و (3) أن هذا المذهب يخالف قول المسيح: (وهذه هي الحياة الحقيقية أن
يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته) (يوحنا 17)
وقوله: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا؛ بل
سيفًا؛ فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها
وأعداء الإنسان أهل بيته) (متّى 10-34و35) وقوله: (جئت لألقي نارًا على
الأرض) (لوقا 13-94) وقوله: (إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه
وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا)
(لوقا 14-26) وقوله: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا
بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-27) وأمثال ذلك.
فأي الدينين دين المسيح عليه السلام؟ !
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قتل بني إسرائيل أنفسهم
وبعثهم بعد موتهم
جاءنا من حضرة المحامي الشهير صاحب الإمضاء ما يأتي:
رأينا فيما أوردتموه بأحد أعداد المجلة في تفسير قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُم..} (البقرة: 54) إلى قوله جل شأنه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 56) أن سيدنا موسى دعا من يرجع إلى
الرب من قومه، فأجابه بعضهم فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضًا
ففعلوا، وقتل منهم نحو ثلاثة آلاف. وإن البعث بعد الموت عبارة عن كثرة نسلهم
والبركة في أحفادهم تعويضًا لهم عن قتل آبائهم، على أننا لو أعدنا التأمل نرى أن
الأمر والإرشاد للتوبة لا يستلزمه قتل نفوس التائبين وكذلك البعث بعد الموت لا
يكون معناه زيادة النسل.
وحينئذٍ يكون الأقرب هو أن قتل النفس معناه إماتتها عن الفساد والمعصية
بسيف التوبة والندم ليبعثها الله بعد هذا الموت المعنوي إلى عالم الفلاح والتقوى، وأن
البعث هنا معناه هو الوصول إلى الحقيقة بعد ذلك الضلال الذي ماتت عنه عواطفهم.
فأرجوك أيها الصديق الفاضل إنعام النظر في ما أوضحته وإرشادي إلى
الحقيقة. ودمتم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إسماعيل عاصم
(المنار)
تقدم في تفسير الآيات أن سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى الذي عوقبوا
عليه بالصاعقة كان في واقعة مستقلة غير واقعة اتخاذ العجل الذي عوقبوا بالقتل
وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56) وارد على غير الذين
قتلوا أنفسهم بالتوبة، فإذا اعتبر الخطاب لمجموع الأمة فلا فصل فهي التي قتلت
وهي التي صعقت، وهي التي بعثت وهذا ما عليه الأستاذ الإمام في إسناد الله تعالى
أعمال سلف بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل الذين كانوا
في زمن التنزيل، وعليه لا إشكال في إسناد] بَعَثْنَاكُم [إلى الذين ماتوا بالصاعقة أو
غيرها ولا بعد في تفسير هذا البعث بعد الموت بكثرة النسل لا سيما مع ملاحظة أن
المخاطَبين بهذا كله هم اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما قتل بعضهم بعضًا في التوبة فهو المنقول في كتبهم المقدسة والذي يتناقلونه
خلفًا عن سلف، وبه قال جماهير المفسرين، وذهب القاضي عبد الجبار من المعتزلة
إلى أن القتل هنا مجاز وما كان الله ليكلف الناس بالقتل؛ لأن التكليف لمصلحة العبد
ولا مصلحة في القتل لمن يقتل. ووجه الآية توجيهًا مقبولاً في اللغة وأساليبها وهو
نحو ما في السؤال لم يحصل بالفعل وإن كان يجوز التكليف به.
قال الآلوسي: ومن الناس من جوَّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال (معنى
اقتلوا: ذللوا) ومن ذلك قوله:
إن التي عاطيتني فشربتها
…
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرًا، ونقل عن قتادة أنه قرأ
(فاقتلوا أنفسكم) والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل
العظيم الذي تعاطيتموه وقد هلكت فاقتلوها بالتوبة والتزام الطاعة وأزيلوا آثار تلك
المعاصي بإظهار الطاعات اهـ.
وقال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56)
بعدما أورد القول المشهور: ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانًا وهمودًا لا
موتًا حقيقة كما في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: 17) ومنهم من حمل الموت مجازًا كما في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) وقد شاع ذلك نثرًا ونظمًا ومنه قوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته
…
وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى
…
يظن من الأحياء وهو عديم
ومعنى البعث على هذا التعليم أي: ثم علمناكم بعد موتكم اهـ.
فما ورد في السؤال معقول وجيه ولم أذكره في تفسير الآيات؛ لأنني لم أتذكر
أن الأستاذ الإمام أورده على أنه ما كان ليغفل مثل هذه الوجوه المعقولة ولعلي نسيت
وسبحان مَن لا ينسى.
_________