الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
كلمة في القبور [*]
لا نريد بهذا العنوان البحث عن تاريخ القبور كالنواويس والأهرام وما شاكلها
من معالم الوثنية الأولى، وإنما نريد الوقوف بفكرة القارئ عند اختلاف المؤرخين
في مكان قبر أبي عبيدة كاختلافهم في تعيين كثير من قبور رجلة الصحابة الكرام
الذين دوخوا هذا الملك العظيم وتحلوا بتلك الشيم الشماء وبلغوا من الفضل والتفضل
والتقوى والصلاح غاية لم يبلغها أحد من الأولين ولا الآخرين. وقد بسط
المؤرخون أخبار أولئك الرجال العظام وعنوا بتدوين آثارهم العظيمة في فتوح
الممالك والبلدان حتى لم يتركوا في النفوس حاجة للاستزادة ونعم ما خدموا به الأمة
والدين.
إن القارئ إذا وقف بفكره عند هذا الأمر وقفة المتأمل لا يلبث أن يأخذه
العجب لأول وهلة من ضياع قبور أولئك الرجال العظام، واختفاء أمكنتها عن نظر
نقلة الأخبار ومدوني الآثار على جلالة قدر أصحابها وشهرتهم التي طبقت الآفاق
وملأت النفوس وإعظامًا لقدرهم وإكبارًا لجلائل أعمالهم وثناءً عليهم وتكريمًا لذكر
أسمائهم وشكرًا لآلائهم واعترافًا بجميلهم وإقرارًا بفضيلة سبقهم بالإيمان ونشرهم
دعوة القرآن.
لا جرم أن القارئ أقل ما تحدثه به النفس عند التأمل في هذا الأمر أن أولئك
الرجال ينبغي أن تعلم قبورهم بالتعيين، وتشاد عليها القباب العاليات ذات الأساطين،
إذا لم يكن لشهرتهم بالصلاح والتقوى وصدق الإيمان وصحبتهم للنبي عليه
الصلاة والسلام فلما أتوه من كبار الأعمال، التي تعجز عنها أعاظم الرجال، فكيف
غابت قبورهم عن نظر المؤرخين، ودرست أجداثهم التي تضم أكابر الصحابة
والتابعين، حتى اختلف في تعيين أمكنتها أرباب السير، وعفا من أكثرها الأثر،
إلا ما علموه بعدُ بالحدس والتخمين، وأظهروا أثره بالبناء عليه بعد ذلك الحين، مع
أن المشاهَد عند المسلمين صرف العناية إلى قبور الأموات بما بلغ الغاية بالتأنق في
رفعها وتشييدها ورفع القباب عليها واتخاذ المساجد عندها لا سيما قبور الأمراء
الظالمين الذين لم يظهر لهم أثر يشكر في الإسلام، والمتمشيخة والدجالين الذين كان
أكثرهم يجهل أحكام الإيمان، ولا نسبة بينهم وبين أولئك الرجال العظام كأبي عبيدة
ابن الجراح وإخوانه من كبار الصحابة الكرام الذين تلقوا الدين غضًّا طريًّا، وبلغوا
بالتقوى والفضيلة مكانًا قصيًّا.
والجواب عن هذا أن الصحابة والتابعين لم يكونوا في عصرهم بأقل تقديرًا
لقدر الرجال وتعظيمًا لشأن من نبغ فيهم من مشاهير الأبطال وأخيار الأمة إلا أنهم
كانوا يأنفون من تشييد قبور الأموات وتعظيم الرفات لتحققهم النهي الصريح عن
ذلك من صاحب الشريعة الغراء الحنيفية السمحة التي جاءت لاستئصال شأفة
الوثنية ومحو آثار التعظيم للرفات، أو العكوف على قبور الأموات، ويرون أن
خير القبور الدوارس وأن أشرف الذكر في أشرف الأعمال.
لهذا اختفت عمن أتى بعد جيلهم ذلك قبور كبار الصحابة وجلة المجاهدين إلا
ما ندر ثم اختلف نقلة الأخبار في تعيين أمكنتها باختلاف الرواة وتضارب ظنون
الناقلين. ولو كان في صدر الإسلام أثر لتعظيم القبور والاحتفاظ على أماكن
الأموات بتشييد القباب والمساجد عليها لما كان شيء من هذا الاختلاف ولما غابت
عنا إلى الآن قبور أولئك الصحابة الكرام كما لم تغب قبور الدجاجلة والمتمشيخين
التي ابتدعها بعد العصور الأولى مبتدعة المسلمين وخالفوا فعل الصحابة والتابعين.
حتى باتت أكثر هذه القباب تمثل هياكل الأقدمين وتعيد سيرة الوثنية بأقبح أنواعها
وأبعد منازعها عن الحق. وأقربها من الشرك.
ولو اعتبر المسلمون بعدُ باختفاء قبور الصحابة الذين عنهم أخذوا هذا الدين
وبهم نصر الله الإسلام لما اجترؤوا على إقامة القباب على القبور وتعظيم الأموات
تعظيمًا يأباه العقل والشرع وخالفوا في هذا كله الصحابة والتابعين الذين أدوا إلينا
أمانة نبيهم فأضعناها وأسرار شريعته، فعبثنا بها، وإليك ما رواه في شأن القبور
مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا أدَع
تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّيته.
وفي صحيحه أيضًا عن ثمامة بن شُفَيّ، قال: كنا مع فضالة بن عبيد
بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسُوِّي. ثم قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها [1] .
هكذا بلغونا الدين وأدوا إلينا أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تأكيدًا لعهد
الأمانة بدؤوا بكل ما أمرهم به الرسول بأنفسهم لنستن بسنتهم ونهتدي بهدي نبيهم
ولكن قصرت عقولنا عن إدراك معنى تلك الجزئيات. وانحطت مداركنا عن مقام
العلم بحكمة التشريع الإلهي والأمر النبوي القاضي بعدم تشييد القبور اتقاء التدرج
في مدارج الوثنية. فلم نحفل بتلك الحكمة وتحكمنا بعقولنا القاصرة بالشرع فحكمنا
بجواز تشييد القبور استحبابًا لمثل هذه الجزئيات حتى أصبحت كليات وخرقًا في
الدين وإفسادًا لعقيدة التوحيد، إذ مازلنا نتدرج حتى جعلنا عليها المساجد وقصدنا
رفاتها بالنذور والقربات ووقعنا من ثم، فيما لأجله أمرنا الشارع بطمس القبور كل
هذا ونحن لا نزال في غفلة عن حكمة الشرع نصادم الحق ويصادمنا حتى نهلك مع
الهالكين. اهـ.
_________
(*) نبذة من الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام، الذي يطبع بمطابعنا في هذه الأيام.
(1)
الأحاديث الواردة بالنهي عن تشييد القبور وتعظيمها ولعن من يتخذها مساجد ويقصدها بالنذور كثيرة قد استقصى الكلام عليها كثير من الأئمة المصلحين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمثالهما، فلتراجع في مظانها من كتب القوم كالواسطية وإغاثة اللهفان وغيرهما اهـ من هامش الأصل، ويعلم القراء أن المنار وفَّى هذا الموضوع حقه.