الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
الشبهة الثانية على القرآن
زعمهم التعارض في كلامه
استشهد ذلك الكاتب على سخافته هذه بأمور نأتي عليها واحدة واحدة ونبين
الصواب كما فعلنا في الشبهة الأولى:
(الشاهد الأول) زعم أن وجود الآيات المتشابهات فيه ينافي كونه مبينًا.
وهذا دليل على أنه لم يفهم معنى المتشابهات ولا معنى البيان فهذا المسيح عليه
السلام يزعم المنتقد أنه إله وقد كان الكثير من كلامه مع تلاميذه وهم الراسخون في
دينه - غير مفهوم لهم فهل يرى هذا دليلاً على عجز مقام الألوهية عن البيان أم
يستدل بالشيء في مكان ويترك الاستدلال به في مكان؟ ولم ينقل عن الراسخين من
الصحابة شئ من الاشتباه في القرآن كما ينقل النصارى عن تلاميذ المسيح
(رضي الله عن الجميع) .
المتشابهات في القرآن آيات تشابهت وجوه دلالتها على معانيها القريبة
والبعيدة حتى ليتسنى لأصحاب الزيغ تأويلها بالباطل وصرفها إلى غير الصواب،
وهذا أمر لا مندوحة عنه؛ لأنه ضروري في ذاته وذلك أن أهم ما يجيء به
الوحي هو العلم بالله تعالى وبعالم الغيب لترتفع بذلك مدارك العقول وتعلو همم
النفوس، ومن المعلوم أن الناس وضعوا ألفاظ اللغات لما يعرفون من المعاني في
هذا العالم فيتعين على من يريد إخبارهم بشيء مما لا يعرفون أن يستعير بعض
ألفاظهم الموضوعة لما يعرفون وينصب القرائن لمنع الاشتباه، ولا شك أن أفهام
الناس تختلف في فهم القرائن وأن الذي يريد الفتنة يسهل عليه أن يتبع ما تشابه من
القول لأن له معنى يدل على ما وضع له في الأصل ومعنى آخر تناوله بالكناية أو
الاستعارة وغيرها من ضروب التجوز وهو المراد فيحمله على غير المراد ويضل
به الناس فإذا أطلق النبي على الله تعالى لفظ (الأب) في مقام بيان الرحمة والعناية
حمله أهل الزيغ على الأبوة الحقيقية وقالوا: إنه أبوه الذي ولده، ويصرفون من
يفتنونهم عن القرائن العقلية التي تحيل الأبوة الحقيقية على الله تعالى، والقرائن
القولية التي تطلق لفظ الأب على غير النبي كقول المسيح عليه السلام إن صح
النقل -: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) وكذلك يقال في لفظ الابن إذا أطلقه النبي
على نفسه يحمله أهل الزيغ على البنوة الحقيقية مع قيام القرائن العقلية واللفظية
على إحالته كسابقه، ومن ذلك إطلاقه على صانعي السلام فيما ينقلونه عن المسيح
عليه السلام.
وإذا أراد المعترض أن يعرف الفرق بين بيان القرآن وبيان الإنجيل وبين
أتباعهما، فلينظر إلى أثر المتشابهات في الأمتين، يجد أن قومه (النصارى) كلهم
قد اتبعوا ما تشابه مما حفظوا من كتابهم ابتغاءَ تأويله. وأن المسلمين قد اتبعوا
المحكم وردوا المتشابه إليه فجمعوا بين العقل والنقل إلا فريقًا منهم لا يقام له وزن
كالباطنية والمجسمة.
(الشاهد الثاني) زعم أن قوله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: 28)، وقوله: عز وجل في سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَن
لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) يناقضان قوله
جل شأنه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) قال: لأنه أثبت فيها الأمر بالفسق وهو أمر
بالفحشاء، وإهلاك أهل قرية لأن مترفيهم فسقوا فيها كما أمروا ظلم.
لا أقول إن صاحب هذا القول سيئ الفهم إلى هذه الدرجة ولكنني أرجح أنه
متعمد للتحريف فإن من له أدنى شمة من فهم اللغة والعقل لا يستجيز أن يعمد إلى
قول سيد في عبده: إنني أمرت عبدي فخرج عن طاعتي فعاقبته، فيفسره بأنه أمره
بالخروج عن طاعته فخرج فعاقبه على الامتثال. الفسوق في اللغة: الخروج عن
الشيء يقال: فسقت الرطبة عن قشرها وفسقت الفأرة عن جحرها، والفسوق عن
أمر الله هو الخروج عنه وعدم امتثاله. أما حذف معمول (أمرنا) فهو ما تقتضيه
البلاغة هنا؛ لأن المقام مقام بيان جزاء الفسوق عن أمر الله تعالى أيًّا كان، لا بيان
ضروب التكليفات الشرعية، وما يأمر الله تعالى به معروف بالإجمال. ولا يخطر
على بال عاقل أن يقدِّر أحد هذا المعمول بنقيض ما تقضي به الضرورة فيقول: إن
الله قال أنه أمر هؤلاء الناس ولم يقل بماذا أمرهم، ونقول نحن: إنه أمرهم
بالفسوق! ! هذا غير معقول في نفسه ثم إن العبارة تنافيه بذاتها فإن الفسوق يقتضي
أن يكون هناك شئ يفسق عنه، فإذا كان الأمر متعلقًا بالفسوق نفسه يكون أمرًا بلا
شيء، مثاله أن تقول لرجل: أمرتك بأن تخرج، ولم يكن في شيء يخرج عنه
حين أمرته لا حسي كبيت ولا معنوي كعمل.
فإن قيل: إن الأمر في الآية ينصرف إلى الفسوق عما هم فيه مما يختص بهم
في الجملة، نقول إن ما كانوا فيه هو الترف فيكون معنى قوله في الآية (ففسقوا
فيها) أنهم خرجوا من الترف ورجعوا إلى القصد وهذا نقيض ما تدل عليه الآية
بالبداهة وهو أن الاستمرار على الترف بعد الأمر بما جرت عادة الله تعالى أن ينزل
وحيه به من الأمر بالقصد والاعتدال في الأخلاق والأعمال هو الذي يكون سبب
التدمير، وينتهي بالآثم إلى شر مصير.
هذا الذي قلناه متبادر إذا تجلى لأي عامي في لغته يتيسر له أن يفهمه بلا
توقف، وليس هو من المتشابهات التي تبتغى بها الفتنة بالتأويل والتحريف. وللآيات
وراء هذا معانٍ عالية، وفيها معارف سامية، وهي أرفع من أن يدركها ذلك
الطرف الحسير، أو يتطاول إليها ذلك الفهم القصير، ذلك أن آية (الأنعام) وآية
(الإسراء) تهديان إلى أنفع سنن الله في نظام نوع الإنسان ونواميس الاجتماع
البشري. تدل آية (الأنعام) على أن الأمم لا تهلك بمجرد التلبس بظلم تكون
عليه مادام أهلها غافلين عما يجب عليهم الأخذ به من ضده، لا ينذرهم به منذر ولا يدعوهم إلى الحق داعٍ. فإذا جاء النذير وقذف بحقه على باطلهم وبعدله على
ظلمهم يدمغه؛ فإذا هو زاهق وإذا بالأمة في عداد الهالكين وفي آية أخرى:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ؛ والمراد
بالظلم: الشرك، كما روي من حديث ابن مسعود مرفوعًا عن أحمد والبخاري
ومسلم والترمذي في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام: 82) يعني أن الأمم لا تهلك وإن كانت مشركة
بالله تعالى مادامت مُصلحة في أعمالها وأحكامها. ويطابق هذا قوله تعالى:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً 0000} (الإسراء: 16) الآية، فهذه الآيات
تعلمنا أن سعادة الأمم أو شقاءها في هذه الحياة إنما هو نتيجة سيرتها في أعمالها.
لا أن السعادة هبة إلهية على ما لا يُعلم سره والشقاوة نقمة إلهية على ما جُهل أمره،
وتعلمنا أيضًا أن الباطل إنما يطول أمده وتُبطئ نتيجته في الإهلاك، إذا لم يكن هنالك
حق يصادمه. ومن هنا أخذ الأستاذ الإمام كلمته الحكيمة: إنما بقاء الباطل في غفلة
الحق عنه، ومن هنا نفهم السر في استيلاء الإفرنج على الأمم الشرقية وهو أنهم
مصلحون في أعمالهم، وقد أوضحنا هذه المسائل من قبل في مقالات متعددة. وحسبنا
هذا في الرد على شبهة المحرفين.
(الشاهد الثالث) زعم أن قوله تعالى في فرعون {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ
جَمِيعاً} (الإسراء: 103) يناقض قوله عز وجل فيه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ، وقد شنع هنا على المسلمين أنهم أوَّلوا
الآية وهو يزعم أنه نجا ببدنه وروحه وإن كانت الآية ناطقة بأن بدنه هو الذي
ينجو. ومحل الشبهة عنده في لفظ (ننجيك) فإن ظهور الجثة بعد الموت بالغرق لا
يسمى تنجية، وفاته أن هذا التعبير للتهكم على حد {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: 21) ومن تتبع ضروب التجوز في كلام البلغاء وحاول حملها على
الحقيقة - وهي لا تصح عليها - يمكنه أن يموه بأن أكثر الكلام البليغ كذب، على أن
الذي ينجو من الغرق يطلق عليه اسم الغريق فلو فرضنا أن الله تعالى نجى فرعون من
الغرق الذي ألمَّ به وبقومه لما كان قوله (أغرقناه) مناقضًا لقوله (ننجيك) فقد
يغرق إنسان إنسانًا ويريه خطر الهلاك ثم ينتشله وينجيه، ولكن هذا ليس مرادًا هنا.
الحكمة في ظهور بدن فرعون موسى بعد الغرق ظاهرة فإنه استعبد الناس
وادعى الألوهية بما موّه على الجاهلين بسحره. ولو لم يظهر بدنه لادعى
المغرورون فيه ما يدعي عبَدَة الحاكم العُبَيدي إلى اليوم - من أنه قد عرج إلى عالم
أعلى. وارتقى إلى مقام أسمى. فهذا هو معنى قوله تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ولو نجا بروحه وبدنه لما كان في ذلك
آية على انتقام الله منه لكفره بنبيه وإيذائه لقومه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الثالثة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل
(النوع الثالث: انفلاق البحر وجفافه والمشي على الماء)
قال السبكي: وكل ذلك كثير وقد اتفق مثله لشيخ الإسلام وسيد المتأخرين تقي
الدين بن دقيق العيد، وأقول: يا ليت لنا من هذا الكثير الذي يدعيه واقعة واحدة
منقولة بالتواتر الصحيح المستوفي الشروط التي يذكرها السبكي في جمع الجوامع
الذي ألفه لكد الأفهام، لا لتُراعَى أحكامه في مثل هذا المقام. وفي خاتمة الفتاوى لابن
حجر الهيتمي قال في الرسالة عن بعضهم: كنا في مركب فمات رجل منا فأخذنا في
جهازه فلما أردنا أن نلقيه في البحر جف، فحفرنا له قبرًا ودفناه فارتفع الماء
والمركب وسرنا.
وكل ما في المباحث حكايات عن مثل هذا البعض المجهول وأصحاب المراكب
المجهولين. ولو حكَّمنا فيها أصول المسلمين لعددناها من الموضوعات أو الواهيات،
وإن رويت على أنها من المعجزات لانقطاع أسانيدها، وجهالة رواتها، وأضف إلى
ذلك هنا شبهة الهوى ومخالفة شروطهم في الكرامة، فقد علمت ما قاله السبكي من
اشتراط الضرورة والخفاء وأين هما مما نحن فيه؟ نعم، إن قبول هذه الحكايات
يليق بأهل دين لا سند لهم في أصوله ولا في فروعه، وإنما هي الثقة العمياء بأن
روح القدس حل في رؤسائهم وقدّيسيهم فعملوا العجائب، ووجب قبول كل ما يؤثر
عنهم وإن تناقضت قضاياه، واستحال مغزاه.
إذا ثبت انفلاق البحر ثبوتًا قطعيًّا فلا شك أنه يكون من الخوارق التي يتعذر
تأويلها وتعليلها. وأما المشي على الماء فيحتمل التلبيس والتأويل بحسب الأشخاص
والمواقع والأزمنة، ففي بعض البلاد يجمد ماء النهر لشدة البرد مدة ثم يسيل، ويقال
أن الإفرنج اخترعوا أحذية يمشون بها على الماء. بل الذي يعول عليه حقيقة في
تعليل المشي على الماء إذا فرضنا أنه ثبت ثبوتًا قطعيًّا لا يحتمل التأويل هو
غلبة الروحانية التي يخف معها الجسد خفة عجيبة على نحو ما يحكونه عن
المشتغلين باستحضار الأرواح في أوربا، فإن لهم في ذلك حكايات تقرب من بعض
حكايات الصوفية، على أن هؤلاء إنما يوجهون نفوسهم إلى الأرواح يكلمونها
ويرونها ولم يعنوا بأن يكونوا هم روحانيين كما يفعل الصوفية في رياضاتهم. نعم،
إن من الناس من لا يصدق ما ينقل عن هؤلاء وعن أولئك ومن الناس من يصدق لأن
تشابه الحوادث وتصور العلة العامة لها يقربها من العقل.
وما نبغي إثبات ما ينقل ولا نفيه وإنما نبغي إقناع من يصدق لثقته بالناقلين أو
من يشاهد شيئًا من أعمال الحاضرين بأن ذلك غير خارج عن سنن الله تعالى في
الخلق وأنه ليس من الخوارق الحقيقية وإنما هو من الخوارق الإضافية أي التي تعد
خوارق بالإضافة إلى من لا يعرف طريقها كالأعمال الصناعية التي لا يعرفها إلا
بعض الناس. أرأيت إذا تعلم بعض الناس التخاطب (بتلغراف ماركوني) الذي
يكون التخاطب به بدون واسطة الأسلاك وذهبوا إلى بلد أو مملكة وجعلوا يتخاطبون
به على البعد الشاسع، ألا يعد ذلك الناس منهم أكبر الخوارق؟
وقد ذكروا أن الواسطة الذي يحضر الروح يخف وزنه مدة حضور الروح إلى
نصف ما كان ومن كان بهذه الخفة يمشي على الماء بسهولة، وسيأتي أن بعضهم
كان يطير في الهواء، ونقل مثل هذا أيضًا عن بعض الفلاسفة وسنوسع القول في
الأمور الروحية في موضع آخر.
(النوع الرابع: انقلاب الأعيان)
قال السبكي: حكي أن الشيخ عيسي الهتار اليمني أرسل إليه شخص مستهزئ
إناءين ممتلئين خمرًا فصب أحدهما في الآخر وقال (بسم الله كلوا) فإذا هو سمن لم
يُر مثل لونه وريحه (قال) وقد أكثروا في ذكر نظير هذه الحكايات.
أقول: لا يوجد نوع من الأنواع يأتي فيه التلبيس والشعوذة مثل هذا النوع ولذلك
ترى أكثر أعمال المشعوذين منه، وهو على ضربين: أحدهما الخفة والمهارة في
إخفاء شيء وإحضار غيره. وثانيهما: الاستعانة بالأعمال الكيماوية. فمن غرائبهم
في الضرب الأول أن أحدهم يأخذ ماءً من البحر في كوب ويعطيه آخر فيشربه، فإذا
هو شراب سكري. والحيلة فيه أن يكون تحت إبط المشعوذ أو الدجال (مدعي
الولاية) إناء من الجلد أو الكاوتشتك له أنبوبة دقيقة تصل إلى يده فإذا غمس الكوب
في البحر يوهم الرائي أنه ملأه ماءً - وما ملأه - ويفرغ فيه الشراب من الأنبوبة
بلطف، وقد أخبرني بعض الناس أن رجلاً من المعتقدين تناول كوبًا من زيت
البترول وسقاه فإذا هو ماء فيه سخونة وما جاءت السخونة إلا من حرارة إبطه حيث
كان الماء.
ومن الضرب الثاني أن بعض الدجاجلة الفسّاق الذين يخدعون الناس بانتحال
الكرامات أخذ أمام بعض العامة كوبًا زجاجيًّا فيه شيء من الخمر فوضعه على فيه،
فإذا هو في أعينهم لبن أبيض. والحيلة فيه أن الخمر التي كانت فيه هي من النوع
الذي يسمونه (عرقي الزبيب) ولونها كالماء حتى إذا مزجت بالماء ابيضت وصار
لونها كلون اللبن الممزوج وقد كان الماء في فم الدجال فمجه في الكأس بلطف. ولو
أردنا أن نملأ المنار بمثل هذه الوقائع التي تستغرب قبل كشف الستار عن وجه
التلبيس فيها لفعلنا، فنقل أمثالها إذا صح سنده فهناك ما يمنع من التصديق بمتنه
لاحتمال دخول الغش والتلبيس فيه على الناقلين، وأنت ترى أن هذا النوع كان من
أبواب الفسق والدجل والشعوذة والحيل.
(النوع الخامس: انزواء الأرض أو طيّها)
قال السبكي: حكوا أن بعض الأولياء كان في جامع طرسوس فاشتاق إلى
زيارة الحرم فأدخل رأسه في جيبه ثم أخرجه وهو في الحرم (قال) : والقدر
المشترك من الحكايات في هذا النوع بالغ مبلغ التواتر ولا ينكره إلا مباهت. أقول:
إن السبكي تحمس هنا فرجع إلى كتابه جمع الجوامع وتقلد حججه في الاستدلال
فزعم أن الحكايات في انزواء الأرض متواترة تواترًا معنويًّا، أي أن كثرتها تدل على
أن لها أصلاً وإن كانت كل حكاية منها لم تثبت بخصوصها وستعلم ما فيه، واعلم
أنهم لا يقصدون بانزواء الأرض وطيها أن أطرافها تجتمع وتطوى كالثوب، وإنما
يعنون بذلك قطع المسافة في زمن قصير وهو مجاز صحيح واستعمله الشعراء
وغيرهم قال:
وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها
…
أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها
وما ذكره السبكي من حكاية ولي جامع طرسوس ليس من هذا النوع وإنما تلك
زيارة خيالية أو روحانية لأنه لم يكن فيها مسير وإنما قبع ذلك الولي في مكانه
كالقنفذ فرأى نفسه في الحرم كما يرى ذلك في الحلم، فإذا كان مثل صاحب جمع
الجوامع قد اشتبه عليه الأمر فعدَّ في هذا النوع ما ليس منه فكيف تثق بسائر الناقلين
لهذه الحكايات وهم في العادة الغالبة من جهلة العوام؟ ! وإذا لم تكن الوقائع
صحيحة بالمرة فكيف يتألف من غير الصحيح دليل صحيح فنقول: إن في مجموع
الحكايات تواترًا معنويًّا؟ !
ثم إن في أنباء قطع المسافات البعيدة في الزمن القريب مواضع للتلبيس
والإيهام؛ فإن الحكايات في ذلك تؤْثر عن السائحين المتجردين، وأكثر هؤلاء خفاف
سراع أهون سيرهم الوجيف، فإذا مر أحدهم بمكان ثم رؤي في مكان آخر لا يكفي
الزمن لبلوغه إياه في السير المعتاد يتناقل الناس هذا ويعدونه كرامة ويبالغون فيه
ويغلون وينتشر الخبر لغرام الناس بنقل مثله. وعلى هذا النحو تكثر هذه الأخبار
حتى يدعي مثل التاج السبكي أنها كرامة متواترة تواترًا معنويًّا. ويدعي من لا يفهم
مثله معنى التواتر أنها متواترة تواترًا حقيقيًّا، وينسى هؤلاء أنه يوجد في البوادي
من يسابق عتاق الخيل وعشار النياق فيسبقها. والناس يعلمون أن هذا النوع من
المعاول التي هدمت الدين، فإن كثيرًا من الدجالين الذين يدعون الولاية يتركون
الصلاة ويزعمون أنهم لا يصلون إلا في حرم مكة فيصدقهم الجاهلون المخدوعون.
هذه إشارة إلى طريق التأويل والتلبيس التي تقل معها الثقة بالنقل. وأما
التعليل بعد الاختبار الصحيح والثقة التامة بأن إنسانًا انتقل بجسمه من قطر إلى آخر
في زمن قصير لا يكفي لبلوغه إياه وإن كان أسرع من العتاق السبق، والجياد القرّح
فهو أن يقال: إن ذلك المنتقل من الروحانيين الذين تحمل أرواحهم أبدانهم فتمر بها مر
النسيم، وذلك داخل في السنن الروحية. وربما تكون في يوم من الأيام مشهورة جلية
فيعذر من كان في غير هذه الأوقات ينظمها في سمط الخوارق والكرامات ويظهر
فضل الدين بأن الروح والنفس لها وجود مستقل وسنن غير سنن الحس.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________