الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
حب القوة.. رابطة الدين
قد بينا هنا لكم أن رابطة القومية لا يعدو نفعها قدرًا طفيفًا كأن يعين الرجل
رجلاً من عترته على رجل من عترة أخرى. وإن هذا القدر لو لبث عليه الإنسان
لما تميز على الحيوانات التي ينهش بعضها بعضًا. وهنا نبين كيف حدثت لهذا
النوع رابطة أخرى، وكيف أورثته قوة عظمى، وسارت به في الارتقاء مسافة
كبرى.
تأسيس
إن من المحقق المحسوس أن الأقاليم والأعمال والأعمار تحدث في أهلها ثم في
أعقابهم من الصفات الجسدية ما يجعل بينهم وبين الآخرين فروقًا تبتدئ صغيرة ثم
تكبر. فهذه من جملة الأسباب التي أوجبت - على التمادي - الفروق التي بين أبدان
البشر. وليس من صددنا الآن التصدي لذكر الأسباب الأخر؛ بل نكتفي بهذه لندعم
بها مقدمة أردنا إثباتها هنا وهي أنه (كما تتفاوت الأبدان لأسباب تتفاوت الأفكار
لأسباب) ، (ولم أر أمثال الرجال تفاوتًا) .
ومن المحقق المحسوس والمعقول أن بين القوى الثلاثة التي في الإنسان
ارتباطًا فالقوى الظاهرة مسخرة للنوعين الآخرين من قواه نعني بهما قوة الإدراك -
التي نسميها الفكر أو العقل - وقوة الطلب والإرادة - التي نسميها القلب - وإننا نجد
أن العقل والقلب يكونان على مبلغ البدن من الصحة والاعتدال والقوة. ثم نجد لصحة
البدن أسبابًا منها صحة الإدراك واعتدال الإرادة، هذا الارتباط دقيق جدًّا وفيه شبه
الدور الذي يمنعه علماء التصور والتصديق (المنطق) ولدقته خفي على أكثر الناس
إنافة كل قوة على أختها في التأثير.
فمن الناس من ظن أن صحة البدن هي التي تنتج صحة الفكر والإرادة. وقد
نسوا أن أصح البهائم بدنًا لا تفوق بالفهم أضعفها. ونسوا أن الذين ليس لهم نصيب
كبير من الحياة النوعية - كرعاء الإبل - أقرب إلى صحة الأبدان منهم إلى صحة
الأفكار ونحن بهذا الاحتجاج لم نرد تفنيد ذلك الرأي من كل الوجوه بل من وجه
الجمود على هذه الجهة وحدها.
وآخرون ظنوا أن الأصل صحة العقل فهي التي تنتج صحة البدن والإرادة.
وقد نسو أن أقوى الناس عقلاً لا يفوق بصحة البدن ضعاف الإدراك وبصحة الإرادة
ضعاف الأبدان.
كل هذه الظنون نشأت من الشعور بذلك الارتباط ولكن لم يرافقها التدقيق
فسيمت بالارتباك. والظن السديد الموطود هو أن الارتباط موجود، والدور مفقود،
والأمر دائر على فضل طفيف بينها. فهبة القلب للعقل والبدن تنيف إنافة قليلة على
اتهابه منهما. وهبة العقل للبدن تنيف قليلاً على اتهابه منه. ثم وراء الكل للعقل
والقلب جاذبان ضدان مستتران قد أوجدهما بارئ الكل محكًا للعقول؛ ليخلص الطيب
كما يخلص النور من الغثاء الأحوى. ولا يسأل من خلق الأضداد عما خلق.
سبحانه هو المنزه وحده عن الأضداد والأنداد.
هذا ما ظهر لنا من كيفية الارتباط بين قوى الجسد الظاهرة والباطنة ثم
علاقتها بالأمرين الغيبيين، وهو يعرفنا أنه مهما يكن للأمور الحسيّة من تأثير فإن
وراءها أمورًا غيبية. وأنه مهما يكن للأمور الغيبية من تأثير فإن للأمور الحسية
دخلاً وشركة. وتثمر هذه المعرفة احترام الأسباب الظاهرة أدبًا مع من لم يوجدها
عبثًا، وتشوف النفوس إلى ما وراء المعارف الحاضرة، وبمثل هذا كان رقي النوع
في المعارف.
ويؤخذ من هذا أن أوائل علم البشر كلها إلهامية وحيية وأن إلهام كل فرد يكون
بحسب قواه.
ومعنى الإلهام أو الوحي في اللغة: الإلقاء في الروع؛ أي: الإخطار على
البال. بيد أنه يكون على ثلاثة أنواع يختلف تعريفه اصطلاحًا بحسبها:
النوع الأول: عام وهو ما تكون به هداية كل نوع لما يصلح له قوامه كالذي
نراه في فطر آكلة العشب من اجتناب الأعشاب التي لا تلائمها من غير معلم ومن
غير تجربة سابقة؛ كالخيل والبقر والأنعام. وكالذي نراه من اتخاذ كل نوع من
الأنواع المتعادية أسباب الدفاع والهجوم من صياصي وخدائع. اعتبر بذلك من
صغار الحشرات إلى كبار السباع. وكالذي نشاهده من استشفاء البعض منها ببعض
الأعشاب كالسنانير والكلاب. وكالذي نراه من نظام الحيوانات المنقادة لرئيس منها
كالنحل والنمل [*] .
والنوع الثاني: خاص وهو ما تكون به هداية هذا النوع الإنساني في حياته
النوعية وشؤونه الخصوصية. ومن هذا الباب الرجاء الفجائي وأوائل الاختراعات
على اختلافها [**] .
والنوع الثالث: أخص وهو ما تكون به هداية بعض الأفراد في معرفة
شيء من عالم الغيب الذي من نحوه وردت نواميس عالم الحس فكان بها قوامه
ونظامه [****] .
ويقابل هذه الهدايات في النوعين الأخيرين الضلالات تأتي من جانب أحد
الضدين المجتنَّين المتجاذبين لعقل الإنسان وقلبه. حتى يصعد ذو هدى من النوع
الأخير إلى أعلى عالين، وينزل ذو ضلال يضاد إلى أسفل سافلين [****] .
ومن ثمة لا يكون هذان النوعان الأخيران لأفراد أهليهما على وتيرة واحدة،
وإلا لما كان التفاوت المكتوب؛ وإنما يكون أهلوهما متفاوتين على مقدار قابلياتهم
في الاتهاب.
فمن الناس من يتعلم من معلم صنعة ثم يوحى إليه أن يجرب تجربة لم يتعلمها
ليزيد في تلك الصنعة شيئًا جديدًا، ومنهم من لا يوحى إليه ذلك أو يوحى إليه أن
ينقص منها.
ومنهم من يوحى إليه أن يبتدئ، ويخترع أمرًا لم يكن من قبل ولم يعلمه إياه
معلم. ثم يوحى إليه أن يعلمه للغير أو أن لا يعلمه.
ومنهم من يلهم علم أمر سيكون [1] ومنهم من يلقى في روعه أن ينفع غيره،
ومنهم من يلقى إليه أن يضر الغير، ومنهم من ينشرح صدره لتصديق الملهم ومن لا
ينشرح صدره وهكذا.
هذا وربما طالبنا مطالب بتسمية ذينك المتجاذبين المجتنين فأقول: إنه قد سمي
من قبل جاذب الخير والسعادة والفضيلة بالروح الطاهر (القدس) ، والأمين،
وعون الله، وحبر الله، ونصر الله، وأمر الله، وروح الله، وبالنور، والشفاء،
وكل جميل. وسمي جاذب الشر والشقاء والرذيلة بالروح النجس (الرجس)
واللعين، ولعن الله، وغضب الله، وخزي الله، وبالظلام، والمرض، وكل قبيح.
ولكني أحب الذين يدركون خواص المسمى أولاً ثم يلتفتون إلى الأسماء، فإن
وافقت المطلوب كما هنا؛ وإلا التمسوا المطابق، وأكره الذين يلتفتون للأسماء أولاً
ثم يتجافون عن الخواص التي ربما لا تظهر لهم من الأسماء. أو يتجافون عن
أسماء لم يسمعوها لخواص كانوا قد سمعوا بها.
بناء
بناءً على هذا الأساس الذي مكناه نخال أو نقول:
إن البشر لما تفاوتت أبدانهم وعقولهم وقلوبهم للأسباب الظاهرة والباطنة
تفاوتت محبوباتهم ومشتهياتهم، وحرص كل منهم على مشتهاه، واتخذ إلهه هواه،
وافق ذلك المشتهى لغيره أو لم يوافق، طابق ذلك التأليه للإنسانية أو لم يطابق،
فتكونت بينهم العداوة والبغضاء، وأمسى القرباء بعداء، وزين للأقوياء منهم حطم
الضعفاء، وماذا تكون عاقبة الأقوام إذا ألَّهوا الحكام، وتعبدوا بدم الحسام، ألا
يستجير الضعاف ويجأرون، ألا يسرون بطلب المناص ويجهرون، فمن ذا الذي
يجيب دعوة المضطرين، أفتسمعها الحجار، أفتستجيب لها الأشجار، أفتغيثها
الحشرات، أفتلبيها العجماوات، أفترحم لها نفوس الذين من نارهم تضج، ومن
غبارهم تعج، لمن يشكون، أتسمعهم الكواكب وتبصرهم. أتجبر كسرهم وتنصرهم،
أتقدر ولا تريد، أم كل ذلك عنها بعيد؟ تجل يا عالم الغيب فليس إلا من لدنك
يرسل الخالق هذا المدد الذي يحتاجه أكمل عوالم الأرض خاصة، وأشرفها مزية
وأعظمها قوة، وأكرمها منزلة.
ألم تسبق عناية الفاطر أن تعد لهذا المصنوع البديع ما لا تراه الأبصار،
ولا تسمعه الآذان، ولا تبلغه الأذهان، فها هو ذا لم يجد حاجته هذه عند تلك
المحسوسات، من الجمادات الأرضية فصاعدًا إلى نيرات السموات، فهل خُبِّئ له
هذه الحاجة إلا في خزائنك يا عالم الغيب، تجل لنا بأنوارك، أشرق علينا بأسرارك،
متعنا بجمالك، هبنا من كمالك.
بل قد سبقت عناية الفاطر وهذا برهانها، وظهرت منحته وهذا سلطانها:
إنه كان رجال مطهرون مصلحون يرشدون الأقوياء إلى العدل الذي ينفعهم
أنفسهم وغيرهم يرشدون الضعاف إلى أسباب القوة التي يدفعون بها ظلم
الظالمين وعلى هذا النحو أسسوا أول ميزان في الأرض لتوزن به ذات كل بالسوى،
وتعرف به حدود القوى، فيكون الرجاء والتقوى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الحَيَاةَ
الدُّنْيَا} (النازعات: 37 - 38) وهي القريبة التي لها بعد {* فَإِنَّ الجَحِيمَ} (النازعات: 39) على أنواعها الحسية والمعنوية {هِيَ المَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ} (النازعات: 39 - 40) الذي يربي غيره كما يربيه، ويقويه كما يقويه
{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ} (النازعات: 40 -41) على أنواعها
الحسية والمعنوية {هِيَ المَأْوَى} (النازعات: 41) .
تالله الخدا. لم نُخلق سدى، وإن لَلَّحظة الدنيا غدا، إن هذا لقول من دعوا إلى
الهدى، في كل الأمم واللغى، من أول الأزمان حتى المدى.
هذا الذي أشرنا إليه هو مبدأ تاريخ الدين القويم ولزيادة التوضيح نقول:
لما كان الفساد يكثر كان رجال ممن تغلب فيهم الروح الطاهرة يقومون
للإصلاح، ويبرهنون للناس على أنه إذا لم توضع للمطالب والمحبوبات حدود
يخضعون لها يفسد النظام، ويفني بعضهم بعضًا، من حيث لا يستفيد آخر من يفني
الكل. وكان الناس منهم من يقبل، ومنهم من يُعرِض؛ إذ لو قبل الكل لمن أصلح
لما كان اليوم من فساد قط. ولو قبل الكل لمن أفسد لما كان اليوم من نظام قط؛ بل
قد كان اتباع المفسدين أكثر؛ لأن الفرق بين المصلح والمفسد كبير، هو فرق ما
بين الضدين.
وإذا كانت درجة المصلح عالية كان الأقربون منها أقل من الأبعدين. ولولا أن
للإصلاحات قوة تؤيدها لتلاشى كل إصلاح قام به مصلح منذ الدور الأول حتى هذا
الدور؛ ولكن تلك القوة المؤيدة هي التي تقوم للمصلح ومن يقاربه مقام الكثرة فقد
تكون عظيمة ويطيف من الإصلاح بنفوس المفسدين خطرات موقظة مزعجة فتجذب
فريقًا منهم وترجعهم عن غيرهم. وقد تكون ضعيفة ويطيف بنفوس المفسدين طائف
من الروح الخبيث فيُهلك المفسدون دعاة الإصلاح ومتبعيهم؛ ولكن لا يلبثون بعدهم إلا
قليلاً حتى تبيدهم طبيعة الفساد لتقوم الحجة فيما بعد.
وهذه خلاصة هذا الأمر:
(1)
أنه في القديم فسدت العشائر.
(2)
فقام في كل قوم مصلح منهم.
(3)
فلم يؤمن للإصلاح إلا قليل.
(4)
وزاد المفسدون.
(5)
فأبادت طبيعة الفساد مَن أبادت منهم من الطاغين.
(6)
واعتبر آخرون.
(7)
ثم نسوا ما ذُكروا به فأصابهم ما أصاب الأولين.
(8)
لتكون آية في الآخرين.
(9)
وما برحوا حتى تواتر الهادون.
(10)
وعلا شأن الميزان والوازنون.
(11)
وخسر هنالك الطاغون والمطففون {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 2-3) .
هذا هو تاريخ هذا الأمر فيما قبل التاريخ.
وأما من بعد ذلك فلكل أمة كتب، منكم من يعلمها تقص عليهم أنباء مصلحين
عرفوهم ولم تعرفهم أمة أخرى.
والجدير بالذكر بعد كل ما تقدم أن الدعاة الهادين الذين قاموا في أقوامهم
بألسنتهم قد أثمر عملهم من بعد حين ثمرة كبيرة جدًّا، وهي ربط أقوام كثيرين
مختلفي الأنساب واللغات بمبادئ واحدة يدينون جميعًا بها؛ حتى يكون اسم إمامهم فيما
بينهم جميعًا مقدسًا؛ بل حتى يكون خلف الشغاف من أفئدتهم، وعمدة الحلف
والأقسام في ألسنتهم، فمثل هذه الحال من قوم أو أقوام، تقوى بينهم أواصر القلوب
ووشائج الأفكار وهي أهم من أواصر الأبدان ووشائج الأرحام.
هذه هي القرابة التي تقرب البعيد، وتحبب بالغريب، وتحمي الضعيف من كيد
القوي، هذه رابطة الدين إن سألتم عن اسمها، وإحدى مراقي الإنسانية إن سألتم عن
رسمها.
وقد عرفتم الآن كيف كان كونها ، وكيف صار لونها، وأوصيكم أن لا تجمدوا
وتظنوا أن وحي الأنبياء هو من قبيل ما ذكرناه فقط؛ بل هو من أفق آخر أعلى.
أتيناكم من أجله بالأشباه والأمثال، وأريناكم في مرائي الكون الإنساني أسفل سافل
وأعلى عال. ومن لم يَرَ ينابيع العيون الصغيرة فربما لا يعرف كيف تنفجر الأنهار
العظيمة من الأرض وقد يظنها من السماء. وإنما الفرق بينها وبين الصغيرة بحسب
المدد فتفكروا وتذكروا.
ومعنى الدين الطاعة للتعاليم ويتكون من هذه الطاعة العمومية قوة قد يكون
عظمها على مبلغ أهليها من قوة الأبدان والعقول والقلوب وكثرة الأفراد. وكيف ما
كانت فإن هذه الرابطة تقضي أن يكون الكل في أنفسهم وأمام غيرهم كرجل واحد.
ويظهر أن من مقتضياتها إيجاد نانية كبرى تتضاءل بل تتلاشى فيها الغيرية حتى لا
يكون لا متغير. ولكن هذا لا يتم من جهتها حتى يعلم أفراد كل أمة حق العلم ما هو
الجوهر الحقيقي للدين القويم. ويعملوا حق العمل بما يطبع في النفس ذلك الجوهر
المطلوب.
وقد استبعد هذا قوم فحكموا أن الأديان لم تُزد الناس إلا تعاديًا، وزعموا أنها لم
تكُ إلا زيًّا من أزياء رابطة القومية مزركشًا قليلاً بما هذبت فيه يد التجارب ونقموا
منها تضييق الدائرة على الناس في تصوراتهم وفي عاداتهم وأعمالهم بكثرة ما يأتيهم
مؤسسوها من فروع الأمر والنهي والقطع والجزم، في مسائل يحتاج في إدراك
أسرارها إلى تبصر عقل سليم، وتروِّي إرادة معتدلة. ويغرق هؤلاء بما تصف
ألسنتهم وأقلامهم من الأديان؛ حتى يبعدوا عن الحكمة وهم يظنون القرب منها،
ويضلوا الحقيقة وهم يرون أنهم وجدوها؛ ولذلك ناسب أن نأتي في نبذتنا هذه بما
يفند من مزاعمهم ونبين لهم ولغيرهم منشأ هذه المزاعم؛ ليتفكر من يتفكر، ويتذكر
من يتذكر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز.)
(ثمة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) شاهد هذا النوع من القرآن المجيد: [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ 000](النحل: 68) .
(**) الشاهد: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى 000](القصص: 7) الآية.
(***) الشاهد: [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ](النساء: 163) الآية.
(****) الشاهد: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً](الأنعام: 112) .
(1)
إن علم كل شيء من الأمور الغيبية لا يكون لأحد من البشر، كما لا يكون العلم لأحد منهم بكل شيء من الأشياء المحسوسة أما الأمور الخفية التي هي من عالم الحس فالعلم ببعضها ليس بغريب بالنسبة لمن فطر هذه الفطرة الغريبة وإنما الغريب العلم بالأمور التي هي من عالم الغيب فهذه هي التي يوحى بعضها للرسل المطهرين.
الكاتب: سائح بصير
بلرم - صقلية
مسينا ومقبرتها
نسيت أن أضع في جانب المقابر مقبرة مسينا وهي مقبرة في الجنوب الغربي
من المدينة، وإنك إذا قلت لصقلي: إني ذاهب إلى مسينا. يقول لك في الحال: لا بد
أن ترى المقبرة، وهي جزء من المدينة تحسب مدينة بنفسها فيها مدافن للأمراء
والأعيان مبنية على أجمل نظام، وأقربه إلى السذاجة، وفيها مكان شامخ رفيع يدفن
فيه أرباب الشهرة من المهندسين والشعراء ونحوهم.
وطريقة الدفن في تلك الأماكن تختلف، فبعضها على الطريقة المعهودة من
وضع صندوق الجثة تحت الأرض، وبعضها بوضعه في صندوق ضخم كبير لا
تمكن سرقته على ظهر الأرض، وبعضها في بيوت تفرض في عرض الجدر
العريضة وهكذا. والمقبرة مزينة بأغراس من شجر الصنوبر وضرب من فصيلة
الصنوبر يشبه الأثل، وليس به ولا أعرف اسمه بالعربية سوى أنه شيء من كبار
الطرفاء؛ لكنها نظمت بيد أوربية تعرف كيف تخضع النبات لإرادتها فتوجهه إلى
الوجهة التي تريد.
والطرق فيها على غاية ما يرام من النظافة والانتظام، وهي أنظف وأجمل من
كثير من شوارع مدينة لأحياء (مسينا) ثم إنها تأخذ من أسفل الطريق إلى قمة جبل
إذا صعدت عليه نظرت وأنت في المقبرة من البحر والساحل أجمل ما تنظر عيناك
من اللألاء والنضرة في المواقع المختلفة، ومن الأشكال الطبيعية، وبدائع الأعمال
الصناعية.
يظهر أن المقبرة أعجبتني حتى انطلق قلمي في وصفها؛ كأنه قلم صاحب جريدة ينطلق في السياسة المصرية لبيان مناحيها، ووصف ضواحيها - أعوذ بالله -
يوجد في هذه المقبرة مواضع مخصوصة للفقراء قد صُفت فيها قبورهم على نظام محكم تراها كأنها خطوط مزارع القطن في أرض غير معتدلة تقصر وتطول، وعلى
رأس كل قبر صليب أسود يخيل للرائي من بعيد أنها أجنحة الغربان الجاثمة على بقايا
الجثمان. لا أزال في وصف المقبرة كما يزال بعض الغافلين عن أنفسهم في بلادنا
يشتغلون بالسياسة عن الأدب والكياسة.
ماذا أقول في وصف هذه المقبرة؟ مدينة جميلة المناظر؛ بديعة المداخل،
بعيدة المخارج، الداخل فيها أكثر من الخارج منها، قد اختير لها شجر الصنوبر
زينة من بين الأشجار؛ لأنه في خضرة دائمة وحياة مستمرة؛ كأن أرواح من يموت
تنتقل إليه بعد مفارقة الأجساد؛ فهو لا يزال دائم الحياة في الصيف وفي الشتاء
والخريف والربيع، مدينة زينها الأحياء في حياتهم، ليعدوها لإقامتهم فيما يزعمون
بعد مماتهم، وهكذا من كان على يقين من الرحيل إلى دار هيأ تلك الدار للسكنى،
وأعد لنفسه فيها أنواع النعيم ليطيب له المقام، ولا يقلق به المكان؛ لكن هل يكفي
أن تزين لنفسك مقرًّا لجثتك وأنت لا تدري هل تشعر هناك بما زينت، أو تؤخذ
عنه إذا مت، فهل زينت دارًا لروحك بالطيبات، كما زينت دارًا لجثتك بالزهر
والنبات؟ أخاطبك وأنت مصري من سكان القاهرة لا ترى في مقبرتك، ولا في
الطريق الموصلة إليها إلا ما يخيفك من الموت، وينغصك فيه؛ غمر من الغبار،
وتلول من التراب، تتذكر بها أنك من التراب وإلى التراب.
إذا بنيت فيها مسكنًا فلست تبنيه لنفسك يوم تموت؛ ولكن تبنيه لتقيم فيه
بجانب الأموات وتشاركهم في المسكن وأنت حي تقضي فيه الأيام من رجب ومن
شعبان ومن شوال ومن ذي الحجة، وبعض أيام من بقية الشهور تأكل وتشرب وتنام
ولا تشبه جيرانك من أهل المقابر إلا في النوم الثقيل ولا تستحي من معاشرتهم وأنت
تأكل وهم لا يأكلون، وتضحك وهم ربما يبكون، وتلعب وهم لا يلعبون، تلهو
بالقيل والقال، وملاعبة النساء والأطفال، وربما أقمت في المقبرة ما تسميه بالموالد
وجلبت بذلك إليها من المغنين والمطربين والعازفين ونصبت فيها الخيام وصنعت
من لذيذ الطعام، ما تدعو إلى تناوله العلماء الأعلام والأتقياء الكرام؛ فيلبّوا دعوتك
زُرافات ووحدانًا، مشاة وركبانًا، ويخوضون في غمار اللاهين إلى أن يصلوا إلى
حيث نصبت خيامك، وهيأت طعامك، على ظهور الأموات، وبجوار تلك الرفات،
وتبيت ليلتك تلهو وتلعب، وتصيح وتصخب، كأن الموت قد فارق ديارك، وكره
جوارك، وفر من بين يديك، مشمئزًّا مما يرى لديك، أما مقبرة مسينا فلا ترى فيها
آكلاً ولا شاربًا وإنما ترى الزائرين في سكينة ووقار، لا يتكلمون إلا همسًا،
تماشيهم ولا تكاد تسمع لهم جرسًا.
صخب الصقليين وتسولهم وكسلهم
أهل مسينا من أهالي سيسيليا، وسيسيليا هي جزيرة صقلية التي ملك فيها
العرب نحو مائتي سنة، وكان منها كثير من العلماء والفقهاء والمؤرخين والفلاسفة
والصوفية وبعض الزنادقة وكل صنف من صنوف أهل العلم والمنتسبين إليه كما كان
في العراق والشام والأندلس. وقد ترك العرب آثارًا في البلاد منها ما تقدم ذكره
وهو مما لا يُذكر، ومنها كلمات في لسانهم كثيرة كالشروق للريح الشرقية وكالقبة
والطلعة والشر، ونحو ذلك من الكلمات التي ترشدك لأول وهلة إلى أصلها وإلى
البلاد التي حملت منها.
ولا أظن أن الصياح والصخب الذي اختص به أهالي سيسيليا يكون من ميراث
العرب رحمهم الله؛ فإن أصوات السيسيليين أشد قرعًا، وآلم في الأذن وقعًا، وإني لا
أشك في أن حناجرهم أشد تمرنًا على الصراخ بغير داعٍ من حناجر أهل كفر الجاموس
[*] أو سكان عرب يسار، أما العرب فكانوا يصيحون في الحرب والجلاد، ويسكتون
عند الرجوع إلى البلاد، ولعل هؤلاء استعملوا في السلم ما كان يستعمله أولئك في
الحرب كما يفعل بَحريُّةُ يافا وبيروت من ثغور سوريا، أما الإهمال والكسل فلا
أدري هل هو من طبيعة البلاد أو من ميراث تركه بعض السلف من الفاتحين؟
ويل لك إذا عُرِفْتَ بأنك غريب فإنه يتبعك السائلون الملحفون، والمكتدون
المجدون، ويلزمونك حتى تعطي شيئًا من النقد، ولا فرق في حالك بين أن تجلس
في قهوة، أو تكون في زيارة معبد، أو في تفقد مكتبة أو دار آثار، تجد من ذلك ما
لا تجده عند المتبولي ولا عند ضريح الأستاذ البيومي رضي الله عنه ثم تجد
الناس في الساحات وقوفًا أو جوالين لا يدرون ماذا يعملون، وإنما يتقرب إلى
الغرباء من يظن القدرة في نفسه على أن يفترس منه فريسة؛ لكن يمكنك إن كان
عندك صبر أيوب وسماجة بعض السبَّابين عندنا من المصريين أو السوريين أن لا
تعطي شيئًا أو تهرب إذا أردت.
لعلّك تفرست شيئًا من الكسل في حكاية ما وقع في فهرس الكتب العربية في
المكتبة العمومية، ودفتر الأسماء في دار المحفوظات، وأزيدك أنك إذا ذهبت عند
شركة المِلَاحة (بكسر الميم وتخفيف اللام لا المَلَاّحة بفتح الميم وتشديد اللام كما
يقول بعض أكابرنا؛ فإن التشديد يجعل الكلمة موضعًا للمِلح الذي يوضع على الطعام
ويُتناوَل أحيانًا للإسهال. أما التخفيف فهو اللازم في اسم الشركة لخفة مراكبها في
السفر على البحر الملح، وأظن اللفظ يرجع أيضًا إلى رفيقه؛ فإن في البحر ملحًا
أيضًا، لكنه ليس يكثر كالذي في تلك الكلمة المشددة) وجئت مكتب الشركة لتطلب
تذكرة سفر مثلاً تجد العامل يحرك يده ببطء كأن بعض أجزائه ينازع بعضًا؛ فإذا
فرغ من الكتابة على هذا الوجه القتَّال أسرع بمد يده إليك لطلب المبلغ فإذا دفعته
إليه وكانت لك بقية من النقد يلزمه ردها إليك كادت يده تشل بجانبه، وأنت تنظر
إليه وتنتظر أن تتناول مالك، وتنصرف وهو ينظر إليك كأنه يتمنى أن تنسى ما لك
عنده أو تمل الانتظار ويأخذك الوقت فتتركه له، وهذا ضرب من الكسل في أداء
الحق ونوع من البطء في العمل لا تجده حتى في مصر حرسها الله؛ فإن العمال
عندنا حتى في زمن الصيف لا يسمحون لأعضائهم أن تتعود هذه العادة الرديئة!
رثاثة الصقليين ووساختهم ومقابلتهم بالمصريين
أما رثاثة الملبس عند الفقراء ودنس الثياب، وعدم العناية بالنظافة في كثير
من الشؤون فذلك مما لا تجد له مثالاً في كثير من الأحياء عندنا، وإني أقص عليك
فكاهتين وقعتا في النزل الكبير التي نزلت فيه - رفع الله عماده -:
كنت أطالع في جريدة خطابًا ألقاه بعض أساتذة السوبون في باريس لمناسبة
رفع تمثال للكاتب المؤرخ الفرنسي رنان ألقاه في بلدة رنان التي ولد فيها، وكنت
مستغرقًا فيما يقول الخطيب عن القسيسين وتعاليمهم، وعن الأحرار أطال الله في
ألسنتهم، وما يرونه في فلسفتهم، وإذا بخادم النزل دخل عليّ وتحت إبطه ولد
صغير في الخامسة من سنه تقريبًا، وقد علا الوسخ وجه الصبي، وهجم القذر على
عينيه يريد أكلهما. وأنفه وفمه يسيلان؛ ذاك بما تعرف، وهذا بما لا يخفى عليك
وبيده عنقود عنب يتناول منه حبة بعد حبة، وماء كل حبة يسيل من شدقيه؛ إذا
رأيته أمكنك أن تحلف بشيء من الطلاق أو العتاق إن أمكن أن هذا من ذرية الشيخ
الدعكي رحمه الله أو أن روح الأستاذ ظهرت في مظهره اللطيف! وإذا كنت واحدًا
من بعض الأعيان أو بعض من يزج بنفسه في العلماء الذين تعهدهم أقسمت في
الحال أنه ولي من الأولياء مجذوب من المجاذيب. فإذا ذكرك مذكّر أنه إيطالي؛
قلت: لا يبعد على الله أن يكون قد ملأ قلبه جذبًا وولهًا ورزقه من ذلك في صغره، ما
لم ينله الدعكي في كبره، وإلا فكيف تسيل سعابيبه إلى هذا الحد ويكون ليس
بمجذوب؟ هذا خلف.
وربما حملك حسن الاعتقاد على أن تذهب إلى المحمل الذي تعرفه، وتستخرج
من بحر الأنساب، وأصل نسبه بمن لا يصح لأحد أن ينتسب إليه مادام على مثل هذا
الاعتقاد. فانظر بعيشك إلى هذا الطباق والتقابل بين ما كنت مستغرقًا فيه وبين ما
فاجأني من هذا المنظر الكريه، هل يمكنك أن تحدث نفسك بماذا دافعت عن نفسي في
هذه الشدة؟ دفعت فرنكًا واحدًا رميته على الأرض فالتقطه الصبي كما يلتقط العصفور
حبة الأرز وكرّ راجعًا لا يبالي بتأخر أبيه عنه ليشكرني على ذلك الإحسان كأن
الصبي كان يخاف أن أتبعه لأخذ الفرنك منه. لا تظن أني أبالغ في كلمة مما قلت فما
رأيك بهذه الوساخة؟ !
أما الفكاهة الثانية؛ فقد كنت على مائدة الطعام في محل نومي من ذلك النزل
لقلة السياح وسعة قاعة الطعام بحيث تكبر عن أن يجلس فيها شخص واحد فلما جاء
صنف من الطعام يحتاج إلى الملح تنبهت إلى المَلَاّحة (هذه المرة بتشديد اللام؛ لأن
فيها مِلحًا) كما سترى. نظرت إلى الملح فإذا فيه النقط السوداء أكثر من نزغات
الشيطان في قلوب أهل الفسق والعصيان، وأغزر من الخطيئات في بعض
المزارات، فنظرت إلى الخادم وأخذت الملاحة، وأنشأت أنكث ما فيها من النقط
السوداء نكتة نكتة وأصعّد نظري في وجه الخادم وأقطب وأظهر التقزز ولا زلت
كذلك حتى فهم أن هذا شيء من الوسخ لا أستطيع تناوله فعند ذلك تناول مني
الملاحة بغاية الكسل ثم ذهب وأطال الغيبة، وبعدما كدت أغضب مع سعة حلمي في
السفر جاء بملاحة أخرى أوسع من الأولى، وأطهر منها ملحًا فكأنه يفهم أن الوساخة
مما لا يليق؛ لكن لا يتم له هذا الفهم إلا إذا قال له شخص آخر: إن النظافة خير
منها، وإن الوسخ شيء تتقزز منه النفس وينفر منه الحس.
أما مثال هذه الواقعة الثانية فممّا يكثر في خدمنا؛ بل في بعض ساداتنا رفَّه الله
حياتهم - فإنهم ينظرون بأعينهم إلى الخبيث والخبائث، وربّما حكموا فيه بوصفه؛
لكنهم لا ينزهون المكان عنه؛ بل ربما لا ينزهون أنفسهم عن التلوث به إلا إذا
أمرهم بذلك آمر فعند ذلك يمتثلون الأمر بغيرة المختار، وعزيمة الجبار، ثم يحدثك
أحدهم بحسن ما صنع مما أمر به كأنه هو الذي اندفع إليه من نفسه كأن الأمر
الصادر إليه هو الذي أكسب الشيء حسنه وحلاه بوصفه. وأعوذ بالله أن يكون هذا
هو مذهب الأشاعرة الذين يقولون: إن حسن الفعل هو الأمر به وقبحه هو النهي عنه،
وإنه لا حسن ولا قبح للشيء في ذاته؛ فإني على يقين أنهم لا يعنون به ما يجده
أولئك الآلات في أنفسهم. وما عليك إلا أن تبحث في رأي الفريقين حتى تقف بنفسك
على تحقيق الشبه أو نفيه فإني الآن لا أكتب كتابًا في علم الكلام، ولا أكتب أسطري
هذه للأفاضل من أهل الفن فإنهم أعلى من أن يستفيدوا من قراءة أمثال هذه القصص
أوسع الله من عقولهم حتى تسع أهالي بلرم ومسينا معًا وما ذلك على الله بعزيز!
الذي يخطر ببالي من أسباب ذلك إذا أخذنا بالجد أن هذا شأن العامة من الأمم
التي طال فيها زمن الاستبداد وتصرف الإرادة الواحدة في جميع الإرادات مع ما
يطرأ على تلك الإرادة الواحدة من الاختلال وفساد المزاج فتأمر بالشيء اليوم؛ لأنه
من هواها، وتنهى عنه غدًا؛ لأنه لم يبق من مشتهاها، وأمرها واجب الإطاعة،
وفي مخالفته إضاعة أي إضاعة. فتتعود الأنفس على تعاطي الأعمال لا لأنها مما
تختاره؛ بل لأنها مما تؤمر به، ويخفى عليها وجه الحسن والقبح؛ لأن التعود على
العمل مهما كان قبيحًا يزينه للنفس أو يسهل عليها مقارفته. وسهولة المقارفة إنما
تنشأ عن عدم الإحساس برائحة القبيح، ولو بقي نتنه في شامة النفس لعافته ولما
أمكنها تعاطيه. وكذلك يخفى وجه الحسن في الشيء متى خفي وجه القبح في ضده
كما لا يخفى عليك، إن كنت من المدققين خصوصًا في علم أصول الفقه الحنفي
وقرأت ما كتبه العلامة الغُزي والمحقق الحفيد وغيرهما على التلويح للعلامة الثاني
سعد الدين التفتازاني حاشية التوضيح على مختصر البزدوي.
أما إذا سألتني عن العلامة الأول في مقابلة العلامة الثاني؛ فإني لا أتذكره الآن،
وإن صدق ظني يكون هو عبد القاهر الجرجاني؛ ولكن الأفضل لك أن تسأل شخصًا
آخر من مدرسي حاشية التجريد للبناني فإن من يقرأ هذه الحاشية يسهل عليه وزن
العلمين، وتحديد الفرق بين العلامتين، وربما قال لك: إن الأول هو القطب
الشيرازي؛ لأن سهولة كلام الإمام عبد القاهر وسلاسته تمنعهم من جعله العلامة
الأول، وإن شئت أن لا تشتغل بهذه المسألة، فهو أفضل من ذلك الأفضل، ويكون
أفعل التفضيل الأول على غير بابه والسلام.
وإنما المهم فيما نحن بصدده أن الإرادة السليمة، والطبيعة المستقيمة يمكنها أن
تميز الملح النظيف من الوسخ، وتعتني بتقديم النظيف إلى الضيف من أول الأمر،
بدون احتياج إلى إصدار أمر، وقس على ملح الطعام بقية الأملاح كالنحو ملح العلم،
والعلماء ملح العالم وهكذا كل ما يحتاج إليه في إصلاح الأغذية بدنية كانت أو
روحية دنيوية كانت أو دينية. أما إذا كنت لا تميز ولا تفهم إلا بأمر فتربص حتى
يأتي الله بأمره والله شديد العقاب.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) كفر الجاموس مزرعة بالقرب من عين شمس في ضواحي مصر.