الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
فاتحة السنة السادسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين،
وإمام الهداة والمصلحين، وعلى آله وصحبه الراشدين المهديين، وعلى من تبعهم
بهديهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد بلغ المنار - بفضل الله وتوفيقه - السنة السادسة وهذا أول جزء منها،
ولله مزيد الشكر والثناء أن أعطانا فوق ما تعلق به الأمل والرجاء، وزادنا على ما
كنا نتوقع من زيادة القراء والمشتركين، عددًا صالحًا يدخل في عقود المِئِين، من
غير دعاة مندوبين، ولا وكلاء مُسْتَخْدَمين؛ إلا ترغيب أهل الغيرة الملية، وتنبيه
ذوي الأريحية الإسلامية، صادفًا من قلوب إخواننا المسلمين شعورًا ينمو، ووجدانًا
يسمو، وعلمًا بالحاجة الشديدة إلى توثيق الرابطة الدينية، وإحكام عقدة العقائد
الإسلامية، والجمع بين مجاورة الأمم المعاصرة، وحفظ ما فيه حياة الدار الآخرة،
من العقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال النافعة، وهذا ما أنشئ المنار
للدعوة إليه، وهو عين ما يدعو إليه الإسلام، ما زدنا فيه ولا نقصنا منه، وإنما
نتوخى بيانه، ونقيم برهانه، بما يناسب حال الزمان، وما انتهى إليه رُقِيُّ
الإنسان.
لقد أتى على المسلمين حِينٌ من الدهر وهم في مرض اجتماعي يشبه داء
السكتة، تعيث في جامعتهم جراثيم المرض وهم لا يشعرون، وتهددهم بالفناء
والزوال ولا يعلمون، حتى إذا فار التنور، وجاء القدر المقدور، تخرق حجاب
الغرور، وطفق يدب دبيب الشعور؛ ولكنه شعور يظهر أنه زاد الأمة مرضًا،
حتى كادت تكون حَرَضًا، شعور هبط ببعض ذويه في مهاوي الإياس، وطوح
ببعضهم إلى موامي الوسواس؛ فكان انتقالاً من طور الخدر والسبات، إلى طور
الحيرة والشتات، ولَحيرةٌ في الفكر وشتات في الأمر خير من خدر الحواس،
وفقد الإحساس؛ لأن هذا من أمارات العدم والزوال، وذاك من علامات الحياة على
كل حال.
ذهب أقوام في هذه الحيرة إلى أن وقاية المسلمين من الخطر إنما تكون
بالاعتماد على الأمراء والسلاطين، والاستماتة في الخضوع لهم وتقديس سلطتهم؛
ولأن الخطر إنما ينذرنا من الجانب الغربي جانب القوة القاهرة، والمدنية الساحرة
وملوكنا - وإن جاروا - هم القابضون على بقايا ما عندنا من القوة التي نكافح بها
تلك القوى، فلا بد من تعزيزهم وتعزيرهم، وإجلالهم وتوقيرهم؛ بل لا بد لنا من
تنزيههم وتقديسهم بكرة وأصيلاً!
وذهب آخرون إلى أن الملوك والأمراء قد استبدوا بسياسة الأمة بدون
مشاورتها قرونًا طويلة فما كان منهم إلا أن أوقعوها في هذا الضعف والهوان،
والفقر والخذلان، والجهل بأمر الدنيا والدين؛ لأجل الخضوع الأعمى لهم وإن
كانوا ظالمين، وإذا كانوا هم مصدر الشرور والفتن ، ومثار البلايا والمحن، فأول
واجب على الأمة مقاومة استبدادهم، ومقاومة استعبادهم، وإلزامهم بالمشاورة في
الأمر، وتقييد السلطة في الحكم، وإعلامهم بأنهم أجراء الرعية، كما قال أبو العلاء
حكيم الشعراء:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
…
فعدَوْا مصالحها وهم أُجراؤها
وبذلك يصلح الحال، وتتحقق الآمال، ونثق من حسن الاستقبال، وأما دوام
الاستماتة في الخضوع للمستبدين فإنه يردينا في أسفل سافلين، فهم الذين يُجْهِزُونَ
على ما أبقى أسلافهم من قوى الأمة الحسية والمعنوية، وهم الذين يسلمون بقية
بلادها للدول الأجنبية، إلا أن الفريق الأول أكثر عددًا، وأغزر مددًا، والفريق
الثاني أكثر علمًا، وأبعد فهمًا، ولكل منهما صحف منشَّرة، وجرائد محررة؛ ولكن
جرائد حزب القوة أعز أنصارًا، وأكثر دينارًا والنجاح من حجج القوة على الضعف
وما كل ناجح محق، وما كل خائب مظلوم.
وقد فات حزب المحافظين أنهم يطلبون بناءَ ما كان على ما كان. فإذا طلب
أحدهم إصلاحًا فإنما يطلبه في فرع من الفروع، ولا إصلاح إلا بصلاح الأصول.
(متى يستقيم الظل والعود أعوج؟ !) .
وفات حزب المعارضين أنهم لا يدرون من يطالبون، ولو دروا لعلموا أنهم
يلغون ويعبثون، فإنه لا يقوِّم الحكام إلا الأمة المتعلمة المهذبة، فالسعي في تكوين
أمة عالمة مهذبة هو الواجب الأول على الذين شعروا بمُصَاب المسلمين وأبصروا
من وراء الحجاب ما كمن لهم من الغوائل والرزايا.
ولا طريق لهذا التكوين إلا التربية الملية الصحيحة والتعليم العام، ولا يكمل
هذا إلا في المدارس الكلية كما سبق لنا القول.
هذا رأي لا يختلف فيه أهل البصيرة من عقلاء المسلمين؛ ولكن هؤلاء لم
يبلغوا أن تكون لهم صحف تنشر، وجرائد تدعو - على أن كل الصحف عون لهم -
حتى إذا ما أنشئ المنار كان هو صحيفتهم؛ لأنه لم ينشأ لمقاومة سلطة ولا
حكومة ولا لمدح سلطان أو أمير ولا لذمهما وإنما أنشئ لمساعدة العقلاء على السعي
في (تكوين الأمة) من طريق التربية الملية والتعليم النافع؛ ولذلك قلنا في مقدمة
العدد الأول: إن الغرض الأول من المنار الحث على التربية والتعليم، لا الحط على
الأمراء والسلاطين.. إلخ. وقلنا في أواخر مقالة نشرت في العدد 16 من السنة
الأولى عنوانها (إلى تربية وتعليم نحن أحوج) - بعد كلام في تعلم الفنون
العصرية بصبغة أوربية - ما نصه:
(فيجب على العلماء والكُتاب الشرقيين أن يوجهوا عنايتهم الكبرى إلى هذا
الأمر - تكوين الأمة -، ويجتهدوا فيه قولاً وعملاً، ويجب على مؤسسي المكاتب
والمدارس الوطنية ومعلميها وأساتذتها أن يجعلوه نصب أعينهم وأهم ما تدور عليه
تعاليمهم بحيث يغرسون في قلب كل تلميذ أن حياته كلها لأمته وبلاده وأن علمه
وعمله لا شرف له فيهما إلا إذا صرفهما لمنفعة الأمة والبلاد..) إلخ.
في طريق هذه التربية وهذا التعليم عقبة في طريق المسلمين يتعسر اقتحامها
وهي سوء فهم الدين وتقليد الجاهلين بعضهم بعضًا فيه، لهذا كان الذي جمع بين
مصالح الدارين. وليس المراد من جعْل المنار دينيًا إلا بيان ما هو الدين على وجهه
الحق والتفرقة بينه وبين ما ليس من الدين في شيء وكيفية الجمع بين مصالح
الروح والجسد، وكل هذا مما يتقبله جميع المسلمين بالإجمال، وفي التفصيل مزلة
الأقدام، ومضلة الأقوام.
ومن مقدمات الإصلاح إحياء اللغة؛ إذ لا أمة بدون لغة حية ومنها إزالة
حجب الغرور عن حقائق الأمور، ومن هذا القبيل ما ينشر أحيانًا من النبذ الأدبية
والتاريخية ومن جوائب الأخبار، التي تتضمن العظة والاعتبار.
هذا هو موضوع المنار نشير إليه على رأس كل سنة، لا ينازع حزبًا من
الأحزاب في مشربه ولذلك سالمه أصحاب الجرائد السياسية، من وقف نفسه منهم
على مدح الأمراء والسلاطين ومن وقفها على ذمهم، ومن رضي بنفوذ الحكومات
الأجنبية في البلاد التي يسكنها ومن سخط عليها. وسالمه أيضًا أصحاب المجلات
العلمية والدينية وسالمهم، إلا مَن استهواه الغرور فطعن في أصول الإسلام
الاعتقادية أو الأدبية أو العلمية فردَّ المنار طعنه، وأخرج ضغنه.
وجملة القول: إن المنار قد جاء بمشرب جديد استعذبه الأقلون، ومجّه
الأكثرون، استعذبه من ذاقه فعرفه، ومجّه من جهله فما أنصفه، أولئك أسرى
التقليد، ينفرون من كل جديد إلا أن يكون بدعة دينية، ويفرون من كل داعٍ إلا أن
يدعو إلى لذة بهيمية يألمون مما هم فيه، ويتنكبون طريق تلافيه، يطلبون النجاة
من الشقاء ويصرون على أسباب البلاء؛ يهرب مدعي العلم فيهم من المناظرة،
وينبري المعترف بالجهل منهم إلى المماراة والمهاترة، يتبرأ زعيمهم من الدليل
المعقول والمنقول ويحاول أن يقلّد في كل ما يقول، حجتهم استبداد الأمراء،
واعتقاد الدهماء، وقد سحل مرير هذا الاعتقاد وانتكث فتل ذلك الاستبداد؛ وتقلص
ظل ذلك الزمان؛ الذي كان يحتكر فيه الدين والإيمان، وخلّى بين العقول
والاستقلال، وبين الإرادة والأفعال، فساء صباح المقلدين، وأذن مؤذن بينهم
{هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) ، فخذل الجاهلون {أُوْلَئِكَ
حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .
هذا ما كان في كثير من بلاد المسلمين، وهذا ما سيكون في باقيها بعد حين،
ولحرّيةٌ تبيح بعض المنكر ولا تمنع شيئًا من المعروف أهون من عبودية تنهى
عن المعروف وتأمر بالمنكر، فالعبوية تطفئ نور الفطرة البشرية، والحرية تظهر
مبلغ استعداد القوى الإنسانية.
فيا حسرة على سلطة تهدم بمعاول الاستبداد والاستعباد، ويا ضيعة لحرية
يفسدها سوء الاختيار وضعف الاستعداد، ويا طوبى لمن اغتنم فرص الزمان؛
فعمل في نفسه لنفسه، وعمل في أمته لأمته، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الثامنة في
(منفعة الاعتقاد بها ومضرته)
يذهب كثير من الناس إلى أن جميع الأديان وثنية وسماوية قائمة على قواعد
الخوارق فإذا تزلزلت هذه القواعد في دين انقضّ الجدار وخر السقف وذهب بناء
الدين حتى لا يبقى له أثر.
قول يقوله الملاحدة، ويوافقهم عليه رجال كل دين على حدة، فهو حجة الدين
عند أهله، وهو الحجة عليه عند أعدائه، وتلك عضلة العقد، ومحك المنتقد، يقول
كل ذي دين: إن الخوارق التي نعتقد بها قد ثبتت عندنا بالمشاهَدة بالنسبة إلى قوم،
وبالنقل عن الثقات بالنسبة إلى آخرين وقد بلغ عدد الناقلين في بعضها مبلغ التواتر
الحقيقي وفي بعضها الآخر مبلغ التواتر المعنوي أو الاستفاضة أو الشهرة بين
الآحاد الثقات على الأقل.
وأما ما يدعيه أهل الملل الأخرى فهو كذب وافتراء، أو شعوذة وسيمياء،
ويقول الملحد - لا سيّما إذا دُعي إلى الدين -: إنه ليس من العدل، ولا من
مقتضى العقل أن ينظر طالب الحقيقة في قول أحد المدعين، ويغفل أقوال الآخرين؛
بل الصواب أن ينظر في جملتها ليتسنى له الترجيح، وقد فعلنا ذلك فألفينا أن
الآية الكبرى في كل دين هي دعوى الخوارق لزعماء الدين. وإننا لنعلم أن كل دين
من هذه الأديان يحرم الكذب، ونعلم أن من أهل كل منها الأخيار والأشرار فلا وجه
لترجيح أحدها على الآخر فلم يبق إلا تصديق الجميع أو تكذيب الجميع!
والتصديق يستلزم التكذيب؛ إذ لو قلت: كل واحد من هؤلاء صادق لدخل في
تصديق كل واحد تكذيب الآخرين؛ لأنه يدعيه وهو صادق فتكون النتيجة أن كل
واحد صادق كاذب في حال واحد وهو محال فتعين إذن تكذيب الجميع.
ثم إن هؤلاء المنكرين يقولون أيضًا: إن من ينشأ في دين يجوِّز وقوع
الخوارق آنًا بعد آن من كبار المتمسكين يكون عقله دائمًا متقلقلاً أسير الأوهام
والخرافات؛ بل يكون ألعوبة في أيدي الدجالين والمشعوذين، الذين يلبَسون ثياب
الصالحين، أو الذين يتخذون الدين حرفة يعيشون بها في سوق الغرور والغفلة.
ولذلك نرى هذه الخوارق التي يدعونها تكثر ويكثر مدعوها في البلاد التي
خيَّمت فيها الجهالة، وعُرِفَ أهلُها بالغباوة والبلادة، وإننا نعرف كثيرًا من البلاد
الأوربية كان أهلها يدعون كثيرًا من هذه العجائب ويزعمون أنهم يروون ما يرون
بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويحسون في أنفسهم، ومن ذلك زعمهم أن القديسين
والشهداء يخرجون من قبورهم في صورة نورانية فيطوفون في الأرض ويأتون
بعض الأعمال، ثم لما تقشعت عنها سُحُب الجهل، وأشرقت عليها شمس العلم
بطلت هذه الدعاوى، وانتقضت هاته القضايا، وطاحت تلك الإشارات، وذهبت
هاتيك العبارات، ومحيت آيات الليل بآية النهار، وصار النور بدلاً من الظلام
شرطًا في الإبصار.
ويقولون أيضًا: إن العلم قد كشف الستار عن أكثر هذه الخوارق للعادات،
وعرف علة ما أدركه من هذه العجائب والكرامات، وقد حاكى العلماء بعض ما
رأوه من مدهشات سحرة إفريقيَّة وكهنة الهنود وعرفوا علة بعض وإن لم يحاكوه
فمنهم من توصل إلى الجلوس في الهواء بحيلة صناعية ومنهم من أظهر للملأ أنه
أطاح رأس إنسان عن بدنه، ثم أعاده إليه.
فتبين من استقراء هذه الأمور والبحث فيها أن منها ما له أسباب علمية
صحيحة كان يعرفها بعض الناس فيكتمها عن الآخرين لما يكون له بها من
السلطان عليهم. ومنها ما هو حيل وشعوذة يخيل المتمرنون عليها إلى الناس أنهم
يوجدون أشياء وما هم بموجديها ولكنهم قوم يخدعون.
وقد رأى هؤلاء الناس ما كتب كثير من القسيسين في إنكار نبوة نبينا - عليه
الصلاة والسلام - واحتجاجهم بأنه لم يكن يحتج على نبوته إلا بما جاء به من العلم
والهدى في الكتاب وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وزعمهم أن هذا لا يكفي في إثبات
النبوة، وأنه لا بد من إظهار الخوارق الكونية، فضحكوا من احتجاجهم وزعمهم
وقالوا: إن صح ما ذكرتموه فهو أقوى البراهين على صدقه وبراءته من الغش
والتمويه الذي كان يتيسر له لو أراده لعلو فكره وقوة ذهنه. وقال بعض فلاسفة
فرنسا منهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن محتاجًا إلى عمل العجائب
لمثل ما كان يحتاجها الأنبياء من جذب النفوس إلى الإيمان به فإنه كان يقرأ
القرآن باسم الله في حال وَجْد ووَلَه روحاني ينتقل تأثيره من نفسه إلى نفوس من
يسمعه فيكون ذلك جاذبًا لهم إلى الإيمان بجاذبَيْ الإذعان والوجدان إيمانًا يملك على
النفس أمرها حتى لا يمكنها الانسلال منه، وإن قاست في سبيله من الأهوال ما
يشيب النواصي، ويدك الصَّيَاصِي، فأين هذا الإيمان من إيمان قوم رأوا أعجوبة لا
يدركون سرها فخضعوا لصاحبها وسلموا بما يقول، وإن لم تدرك فائدته العقول،
حتى إذا ما غاب عنهم برهة من الزمان عبدوا ما يصوغون من الأوثان، فإذا كانت
فائدة المعجزات جذب النفوس إلى الإيمان فلا شك أن هذه الفائدة أظهر في القرآن منها
في سائر المعجزات؛ لذلك كان إيمان المسلمين أشد من إيمان جميع أتباع الأنبياء
الآخرين.
وقال أحد القسيسين العلماء: إننا نفضل الإنجيل بما فيه من كثرة الخوارق
والعجائب المنسوبة إلى صاحبه على أن القرآن لم يسند إلى من جاء به عجيبة واحدة
وإنما ذكرت فيه العجائب حكاية عن السابقين ويقول في جواب الذين طالبوا محمدًا
بالآيات: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) ،
(قال) : ولكننا صرنا إلى عصر تعد فيه الخوارق من العقبات في طريق الإيمان،
ويفضل فيها القرآن على الإنجيل بذلك!
هذا مجمل اعتقاد خواص الناس في الأقطار الغربية في الخوارق والعجائب
وهو اعتقاد أكثر الذين يتعلمون على طريقهم في البلاد المشرقية، وهذا الصنف
المتعلم هو صاحب السلطة على غير المتعلم وإنَّا لنراه لا يوجد في بلاد إلا وينمو نموًّا
مستمرًّا بطيئًا كان أو سريعًا ونرى أهله يتسللون من الدين لِوَاذًا ويمرقون
منه زُرافات وأفذاذًا؛ ولهذا رسخ في أكثر الأذهان أن العلم والدين ضدان، وصار
المستمسكون بالدين ينفرون من العلم؛ ولكن أهله يسودون عليهم تارة بالحرب
وتارة بالسلم، ولهذا يظن الناظرون في سير الإنسان أن العلم يفتأ يفتك بالدين،
حتى يمحوه من لوح الوجود ولو بعد حين، وما لهؤلاء الظانين من علم بأن في
العالم دينًا حل جميع المشكلات، وأزال جميع الشبهات وهو دين العلم والعرفان
إلى آخر الزمان.
فعُلم - مما شرحناه - أن أهل الأديان يرون للخوارق التي تجري على أيدي
رجال الدين فائدة عظيمة وهي تأييد الدين بها في أثنائه، كما قام بها في أول ظهوره؛
ولذلك قال بعض علمائنا: إن كرامات الأولياء شعبة من معجزات الأنبياء فيخشى
على منكر الفرع أن ينكر الأصل ، وقد شرحنا هذا أتم شرح في المقالة الأولى
فلتراجع في المجلد الثاني، ويذكرون لها فائدة أخرى وهي انتفاع الناس بالكرامة فإنها
إما أن تكون جلب منفعة لإنسان، أو دفع مضرة عنه، أو إيقاع سوء بمنكر أو فاسق
ليرتدع غيره.
وعُلِم أن من غوائل الاعتقاد بالخوارق ومضراتها تنفير خواصِّ أهل الدنيا من
الدين وهذه غائلة تتبعها غوائل أشرنا إليها آنفًا وهي تتطرق إلى معجزات الأنبياء
كما تقدم، ولم يكن ذلك من موضوعنا هنا وقد سبق لنا القول في إثبات آيات الأنبياء
فليراجع في الأمالي الدينية من المجلد الرابع. ونزيد الآن أنها كانت في أزمنة
تحقق فيها أن البشر كانوا في أشد الحاجة إليها، وثبت أنهم انتفعوا بها في عقولهم
ونفوسهم وفي أعمالهم ومعايشهم؛ ذلك لأنهم كانوا لم يرتقوا إلى معرفة العقائد
ببراهينها وكانوا ألاعيب في أيدي السحرة والدجالين يتصرفون في عقولهم ونفوسهم
وأموالهم فأنقذهم الأنبياء بإذن الله تعالى وتأييده من ذلك كله، وعلموهم أن أولئك
السحرة قوم مبطلون وأنه ليس لهم من الأمر - الذي يزعمونه - شيء وأن
التصرف فيما وراء الأسباب التي يقدر على الوصول إليها الناس خاص بالله تعالى
وحده وأن تلك الأعمال التي يظهر بادي الرأي أنها عن اقتدار إنما هي {كَيْدُ
سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) ، ولولا أن جاء كل نبي
بمعجزة أو أكثر لما تسنَّى له جذب أولئك القوم الغلف القلوب، الغلاظ الرقاب،
الضعاف الاستعداد.
والدليل على أن المراد من بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تطهير
العقول من لوث الخرافات والأوهام وعتقها من أسر السحرة والدجالين وأن الآيات
الكونية كانت هي الآلات الجاذبة لهم إلى الإيمان بالتوحيد الذي هو المطهر الأكبر
للعقول، وأنه لو أمكن جذبهم بالآيات العلمية الأدبية لما خرق الله على أيديهم شيئًا من
الأمور العادية هو بناء نبوة خاتم النبيين على الآية العلمية الكبرى. والهداية الأدبية
العظمى وهي القرآن الحكيم، المنزل على النبي الأمي اليتيم، الذي علَّم به
الأميين الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ومكَّن به لهم في
الأرض وجعلهم أئمة وارثين، وبلّغ رسالة ربه الأممَ المجاورةَ وأَمرَ بأن يبلغ
الشاهدُ الغائبَ.
ومن أصول دينه أن زمن الوحي والمعجزات قد انتهى به فلن يعود، وأن لله
في الخلق سننًا لن تتغير ولن تتبدل، وأن الأمور تُطلب بأسبابها، وأنه ليس وراء
الأسباب شيء إلا معونة الله تعالى وتوفيقه، فليس لمؤمن أن ييئس إذا تقطَّعت به
الأسباب من خير يتطلبه أو النجاة من سوء يترقَّبه، فثبت بهذا أن الدين القيم الذي
يمكن أن يتفق مع العلم في كل زمان هو هذا الدين الذي يحكم بأن زمن المعجزات
قد مضى ولا يُكَلَّف الآخذ به بأن يعتقد بخارقة على يد أحد الناس بعد الأنبياء - عليهم
الصلاة والسلام -.
أما البحث في آيات الأنبياء كيف وجدت وهل كانت كلها بمحض قدرة الله
تعالى التي قامت بها السماوات والأرض أم كانت لها سنن روحانية خفية عن
الجمهور خصَّهم الله تعالى بها كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور؟
فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارًّا. ومبلغ العلم فيها أنها كما قال
ابن رشد: قد وجدت ونقلت نقلاً متواترًا اعترف به المؤمنون بهم والكافرون الذين
سموها سحرًا لجهلهم بالتفرقة بينها وبين تلك الشعوذات والحيل الباطلة، وفي شرح
المواقف أن (المعجزة كل ما يراد به إثبات النبوة وإن لم يكن من الخوارق) .
فعلم بهذا أن آيات الأنبياء عليهم السلام مصونة من إنكار
المنكرين، واعتراض الواهمين، وأنها قد انتهت فلا يُخشى أن يضر الاعتقاد بها في
الزمن الحاضر وما بعده، كما أنه لم يكن ضارًّا في الماضي، وإنما كان نافعًا.
وبقي القول في كرامات الأولياء ومقتضى ما تقدم أن الاعتقاد بها يضر كما
يضر الاعتقاد بالخوارق عند كهنة الوثنيين وقدّيسي المسيحيين. والمنفعة التي
تدعيها كل الطوائف من الاحتجاج بهذه الخوارق على صحة الدين أو الاستعانة بها
على تمكين اعتقاد المؤمنين، ممنوعة بأنها من المشترك الإلزام كما تقدم في الجزء
الماضي.
فإذا دعوت إنسانًا إلى دينك بحجة أن من قومك من يعمل العجائب وتظهر
على يديه الخوارق يلزمك بأن في قومه أيضًا مَن له مثل ذلك أو ينازعك في
دعوته داعٍ آخر يحتج بمثل هذا الاحتجاج.
ووجه آخر للدفع وهو أن أهل العلم والبحث يرون دعوى الخوارق من الأدلة
على بطلان الدين كما سبق آنفًا، وأما العوام فإنهم أسرى التقليد ولذلك يصدقون ما
يسمعون من قومهم من الأخبار ويكذبون ما تدعيه لقومك، هذا وإن دعوة الإسلام قد
انتشرت في الأرض انتشارًا لم يعرف ما يقاربه في دين آخر، وما ذاك إلا أن
الدعاة إليه ما كانوا يعتمدون في الدعوة إلا على كون ما يدعون إليه صوابًا، عقائده
معقولة، وأحكامه مقبولة، ولم يُعْرَف أنه كان للإسلام دعاة قد استحوذوا على
النفوس بما أدهشوها بالكرامات والخوارق كما هو المنقول عن دعاة النصارى
وغيرهم، نعم، إنه قد نقل عن بعض الأولياء من الكرامات أضعاف ما نقل عن
المسيح وتلامذته وعن جميع الأنبياء والمرسلين؛ ولكن أولئك الأولياء لم يعرف في
التاريخ الصحيح أنهم كانوا دعاة وأن الناس آمنوا بكراماتهم، اللهم إلا بعض الحكايات
التي توجد في بعض كتب المناقب وقلما يوثق بشيء من رواياتها لا سيما إذا
انفردت بها.
ووجه آخر للدفع: وهو أن أمر الخوارق صار عند العامة من جميع الأمم
كالصناعة المحترمة لشدة الحاجة إليها ولا ينظر فيها إلى الدلالة على صحة دين مَن
ظهرت على يديه لا سيما بعد موته؛ ولذلك ترى كثيرًا من عامة النصارى يقصدون
من اشتهر من أولياء المسلمين لقضاء الحاجات ببركاتهم وهم على نصرانيتهم. ولقد
كان عم والدي (السيد الشيخ أحمد رحمه الله تعالى) مشهورًا بالصلاح والبركة
فكان يرد عليه وفود الناس من المسلمين والنصارى يلتمسون بركته بالرُّقَى والتمائم
ويأخذون منه البشارات.
وقد كدت أكون خليفة له رغم أنفي لأمور اتفقت لي في سن الحداثة، من ذلك
أن بعض الأعراب أخذوا مني ورقة فعلقوها على كبش في غنم موبوءة فزعموا
أن الموت أدبر والصحة أقبلت منذ عُلِّقت الورقة على الكبش! ومن ذلك أن
إنسانًا كان يُصْرع ويرى نفرًا من الجن يضربونه فدُعِيت إليه فأبيت مؤكدًا لهم
أنه لا فائدة من زيارتي له ألبتَّة فألحوا وتوسلوا بالوالدة فعدت مريضهم فشفي.
واتفق لي أمثال هذه الوقائع من كثير من المسلمين والنصارى فانتشر خبرها
وكدت أكون مقصودًا بها كعم الوالد الذي كنت أنكر عليه (رحمه الله تعالى) لولا
أن بادرت إلى محاربة هذه الاعتقادات وعدم إجابة القاصدين إلى ما يطلبون.
وكذلك نرى كثيرًا من المسلمات والمسلمين يقصدون بعض الأديار وقبور
القديسين بالزيارة، ويحملون إليها النذور كما يحملونها إلى قبور الأولياء متوسلين
بهؤلاء وأولئك وطالبين منهم قضاء الحاجات! ومن ذلك دير مَار جرجس في
مصر العتيقة، والمير تادرس بكنيسة القبط بحارة الروم، وغير ذلك مما لا يُحصَى.
وكذلك يقصد بعض المسلمين والمسلمات بعض القسيسين الذين يشتهرون في
قومهم بالعجائب وقضاء الحاجات. ولا يكاد يعتقد أحد من هؤلاء وأولئك بصحة
دين غير دينه الذي نشأ عليه. وذلك أن الخوارق صارت عندهم من قبيل الصناعة
والدين صار من قبيل الجنسية.
وقد طال بنا المقال أكثر مما كنا نتوقع فنرجئ إتمام المبحث على الجزء الآتي
وفيه نبين وجود التأويل ومناشئ القال والقيل. وما ينبغي اعتقاده في الكرامات التي
أثبتناها في المقالات الأولى وقد سئلنا عن الثابت من معجزات نبينا غير القرآن
وسنجيب عنها في الجزء الآتي أيضًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفد بني تميم
عن جابر قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم -، فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زَيْن، وإن سبنا شَيْن. فسمعهم
النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله عز وجل فما
تريدون؟ قالوا: نحن ناس من بني تميم جئناك بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك
ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالشعر بُعثنا ولا بالفخار أُمرنا
ولكن هاتوا. فقال الأقرع بن حابس لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك وفضل
قومك. فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء،
فنحن من خير أهل الأرض وأكثرهم عددًا وأكثرهم سلاحًا، فمَن أنكر قولنا فليأتِ
بقول هو أحسن من قولنا وبفَعَال (كرمٍ) هو أفضل من فعالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري -
وكان خطيبه -: (قم فأجبْه) فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به
وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده
ورسوله، دعا المهاجرين من بني نمر أحسن الناس وجوهًا وأعظم الناس أحلامًا
فأجابوه، الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزًّا لدينه، فنحن نقاتل الناس
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمَن قالها منع منا ماله ونفسه ومن أباها قاتلناه وكان
رغمه في الله علينا هينًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
قال الزبرقان بن بدر لرجل منهم: يا فلان قم واذكر أبياتًا تذكر فيها فضلك
وفضل قومك، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
…
نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند المحل كلهم
…
من السديف إذا لم يؤنس الفزع [1]
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد
…
إنَّا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بحسان بن ثابت. فذهب إليه
الرسول فقال: وما يريد مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كنت عنده آنفًا.
قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فتكلم خطيبهم فأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه ، وتكلم شاعرهم فأرسل رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليك لتجيبه. فقال حسان: قد آن لكم أن تبعثوا إلى هذا العود (والعود
الجمل الكبير) . فلما أن جاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، قم
فأجبه. فقال: يا رسول الله مُره فليُسمعْنِي ما قال. قال: أسمعْه ما قلت. فأسمعه،
فقال حسان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة
…
على رغم باد من معدٍّ وحاضر
بضرب كإيزاع المخاض مشاشه
…
وطعن كأفواه اللقاح الصوادر [2]
وسلْ أُحدًا يوم استقلت شعابه
…
بضرب لنا مثل الليوث الخوادر [3]
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى
…
إذا طاب ورد الموت بين العساكر؟ !
ونضرب هام الدارعين وننتمي إلى حسب من جِذم غسان قاهر [4]
فأحياؤنا من خير مَن وطئ الحصى وأمواتنا من خير أهل المقابر
فلولا حياء الله قلنا تكرُّمًا على الناس بالخيفين هل من منافر؟ [5]
فقام الأقرع بن حابس فقال: إني - والله - يا محمد لقد جئت لأمر ما جاء له
هؤلاء، إني قد قلت شعرًا فاسمعْه. قال: هاتِ. فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا
…
إذا اختلفوا عند اذِّكار المكارم
وأنَّا رؤوس الناس من كل معشر
…
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وأن لنا المرباع في كل غارة
…
تكون بنجد أو بأرض التهايم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسّان فأجبه. فقام وقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم
…
يعود وبالاً بعد ذكر المكارم
هُبلتُم علينا تفخرون وأنتم
…
لنا خَوَلٌ ما بين قِنٍّ وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كنت غنيًّا يا أخا بني دارم أن
نذكر منك ما قد كنت ترى أن الناس قد نسوه منك "، فكان قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشد عليه من قول حسان ثم رجع حسان إلى قوله:
وأفضل ما نلتم من الفضل أنكم
…
ردافتنا من بعد ذكر المكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم
…
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا
…
ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا - ورب البيت - مالت أكفّنا
…
على رأسكم بالمراهفات الصوارم
فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء ما أدري ما هذا الأمر؟ ! تكلم
خطيبنا؛ فكان خطيبهم أرفع صوتًا وأحسن قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع
صوتًا وأحسن قولاً، ثم دنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا
الله وأنك رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يضرك ما كان قبل هذا) ا. هـ رواه الروياني وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر. وقد طعنوا بالمعلى
بن عبد الرحمن بن الحكيم الواسطي راويه، حتى رماه الدارقطني بالكذب، ولا
يستلزم هذا أن يكون الحديث بطوله غير واقع فإن احتمل أن فيه زيادة أدرجها
المعلى فذلك لا يمنع أن يستفاد من الحديث ما فيه من الأدب والعبرة، وإنما يمنع
الاحتجاج به في إثبات الأحكام ورُوي في السير بألفاظ أخرى.
_________
(1)
السديف: شحم السنام.
(2)
قال - في التاج عند قول القاموس -: والتوزيع القسم والتفريق كالإيزاع، وبه يروى شعر حسان رضي الله عنه * بضرب كإيزاع المخاض مشاشه * جعل الإيزاع موضع التوزيع، وهو التفريق، وأراد بالمشاش هنا البول، وقيل: هو بالغين المعجمة وهو بمعناه اهـ.
(3)
الليث الخادر: المقيم في خدره، وهو أشد بأسًا منه خارج العرين لمكان الحماية ومنع الأشبال.
(4)
جذم غسان: أصله وهو بكسر الجيم ويُفتح.
(5)
نافره منافرة: حاكمه في الحسب والنسب، وقيل: فاخره مطلقًا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ورع أبي بكر رضي الله عنه
عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر مملوك يغلّ عليه فأتاه ليلة فتناول منه
لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال:
حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت
لهم فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت فإذا عرس لهم فأعطوني. قال: أفٍّ لك
كدت أن تهلكني. فأدخل بيده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلتْ لا تخرج فقيل له: إن
هذا لا يخرج إلا بالماء. فدعا بعسّ [1] من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها.
فقيل له: يرحمك الله، كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي
لأخرجتها؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من
سُحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. رواه
الحسن بن سفيان وأبو نعيم في الحِلية والدِّينوري في المجالسة بهذا السياق.
وروى أحمد في الزهد من طريق ابن سيرين والبيهقي عن زيد بن أرقم ما يؤيد
الواقعة.
وعن أبي بكر حفص بن عمر قال: جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو ما يعالج
الميت ونفسه في صدره فتمثلت هذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين (وفي رواية: ليس
كما قلت يا بنية) ؛ ولكن: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19) ، إني كنت قد نحلتك حائطًا وإن في نفسي منه شيئًا فرُدِّيه على
الميراث قالت: نعم. فَرَدَّتْهُ، أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل دينارًا ولا
درهمًا ولكن قد أكلنا من جريش طعامهم [2] في بطوننا، ولبِسنا من خشن ثيابهم على
ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا
البعير الناضح وجرد هذه القطيفة [3] فإذا متّ فابعثي بها إلى عمر وأبرئيني منهن.
ففعلت فلما جاء الرسولُ عمرَ بكى حتى جعلت دموعه تسيل على الأرض وجعل
يقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب مَن بعده ، يا غلام، ارفعْهن. فقال عبد الرحمن
بن عوف: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر عبدًا حبشيًّا وبعيرًا ناضحًا وجرد
قطيفة ثمنه خمسة دراهم؟ ! قال: فماذا تأمر؟ قال: تردهن على عياله. قال:
لا والذي بعث محمدًا بالحق لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا يخرج أبو بكر منهن
عند الموت وأردهن أنا على عياله. الموت أقرب من ذلك، رواه ابن سعد.
(المنار)
هكذا تكون خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي السيرة التي كان
يجب على المسلمين أن يُلزموا بها ملوك بني مروان وبني العباس الذين سموا
أنفسهم خلفاء، وكذلك غيرهم من الملوك. والله ما نكل بالإسلام وأوقع المسلمين في
هذا الهوان إلا استبداد أولئك الملوك بالسلطة وجعلهم الرعية وأموالها ملكًا لهم
يتوارثونها ويتصرفون فيها بما شاؤوا، حتى إذا ظهر فيهم عادل يحاول وضع
الحق موضعه - كمعاوية الأصغر وعمر بن عبد العزيز والمأمون - ألزموه بقوة
العصبية على أن يجري في طريقهم أو يخلع من الملك. ولقد تعب عمر بن عبد
العزيز فيما قدر عليه من العدل تعبًا عظيمًا.
نعم، إن هذه السُّنَّة التي سنَّها أبو بكر متعبة لا يقدر عليها إلا مثل عمر
ويظهر أنه كان يعتقد أن ما فرض له من الانتفاع من بيت المال (كما ذكرنا في
السنة الماضية) يجب أن يكون مشروطًا بمدة عمله للمسلمين، وأنه إذا بقي منه بقية
يجب أن ترد إلى بيت المال ولا يجوز لورثته التمتع بها؛ لأنهم لا يعملون للمسلمين
ما كان يعمله.
وإنَّا لنتمنى اليوم أن يأخذ أمراؤنا وملوكنا أضعاف كفايتهم، وأن يورث عنهم ما
بقي عن نفقاتهم بشرط أن يكفوا عن تبذير ما في خزائن الأمة من الأموال والتحف
والإفضاء بها إلى أوليائهم بمجرد شهواتهم وأهوائهم، وقد سبق لنا القول في السنة
الرابعة بأن في خزائن الدولة العلية من الذخائر والجواهر ما يكفي بعضه للقيام
بإنشاء الأساطيل البحرية وترقية القوة الحربية، بحيث تقاوم بها أعظم الدول القوية،
وهذه الذخائر كغيرها تحت تصرف شخص السلطان، ولا يكاد يسمح بشيء منها
إلا لقيصري الروس والألمان.
_________
(1)
العُسّ: بالضم: القدح الكبير.
(2)
الجريش: الدقيق الغليظ، معروف والمِلح لم يطيب.
(3)
القطيفة: دثار مخمل أي: له زغب وجرد قطيفة: يريدون به خلق قطيفة، وأصله شيء جرد أي خَلِق.
الكاتب: محمد رشيد رضا
ديوان الرافعي
مصطفى أفندي صادق الرافعي يعرف شعره قراء المنار؛ فلا حاجة لتعريفهم
به، وقد جمع منظوماته في ديوان يطبع الآن، وإننا ننشر كلمة له فيه تنويهًا به
وترغيبًا فيه وهي:
كلمة الناظم
أول الشعر اجتماع أسبابه، وإنما يرجع في ذلك إلى طبع صقلته الحكمة،
وفكر جلا صفحة البيان، فما الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب، وسفير
النفس إذا ناجت النفس، ولا خير في لسان غير مبين، ولا في سفير غير حكيم.
ولو كان طيرًا يتغرد لكان الطبع لسانه، والرأس عُشه، والقلب روضته،
ولكان غناؤه ما تسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء، وحسبك بكلام تنصرف إليه
كل جارحة، ويجني من كل شيء حتى لتحسب الشعراء من النحل تأكل من كل
الثمرات، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس.
وكأنما هو بقية من منطق الإنسان اختبأت في زاوية من النفس، فما زالت بها
الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب، وأخرجتها بعد ذلك ألحانًا بغير إيقاع،
ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرغ كلها، ثم تتعاون كأنما تبحث بنور العقل عن
شيء غاب عنها في تفنن الشعراء، حتى لكأن الحُطيئة يعوي في أثر القوافي في
عواء الفصيل في أثر أمه.
وترى المجيد من أهل الغناء إذا رفع عقيرته يتغنى ذهب في التحرك
مذاهب، حتى كأنما ينتزع كل نغمة من موضع في نفسه، فيتألف من ذلك صوت
إذا أجال حلقه فيه وقعت كل قطعة منه في مثل موضعها من كل مَن يسمع فلا يلبث
أن يستفزه طربه، كأنما انجذب قلبه، وتصبو نفسه كأنما أخذ حسّه، لا فرق في
ذلك بين أعجمي وعربي، ومن أجل هذا ترى أحسن الأصوات يغلب على كل طبع،
وإنما الشاعر والمغني في جذب القلوب سواء، وفي سحر النفوس أكْفَاء، إلا أن
هذا يوحى إلى القلب، وذاك ينطق عنه، وأحدهما يفيض عليه، والثاني يأخذ منه،
والويل لكليهما إذا لم يطرب هذا، ولم يعجب ذاك.
والشعر موجود في كل نفس من ذكر وأنثى، فإنك لتسمع الفتاة في خدرها،
والمرأة في كِسر بيتها، والرجل وقد جلس في قومه، والصبي بين إخوته يقصون
عليك أضغاث أحلام، فتجد في أثناء كلامهم من عبق الشعر ما لو نسمته لفغمك،
وحسبك أن تكسر وسادك تتحدث إليهم؛ فتراه طائرًا بين أمثالهم وفي فلتات ألسنتهم،
وهو كأنما قد ضل أعشاشه، ولقد نبغ فيه من نساء هذه الأمة شموس سطعن في
سماء البيان، وطلعن في أفق البلاغة، ولا يزال الناس إلى اليوم يروون للخنساء
وجنوب وعلية وعنان ونزهون وولاّدة وغيرهم وبحسبك قول النواسي: ما قلت
الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى.
ولو كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفَّاة لعددناه ضربًا من قواعد الإعراب،
لا يعرفها إلا مَن تعلمها؛ ولكنه يتنزل من النفس منزلة الكلام، فكل إنسان ينطق
به، ولا يقيمه كل إنسان، وأما ما يعرض له بعد ذلك من الوزن والتقفية، فكما
يعرض للكلام من استقامة التركيب والإعراب، وإنك إنما تمدح الكلام بإعرابه،
ولا تمدح الإعراب بالكلام.
ولم أقرأ أجمع فيه من قول حكيم العصر وإمام الإفتاء في مصر: (لو سألوا
الحقيقة أن تختار لها مكانًا تُشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من
الشعر) ، ولا فيما قالوه في الشعراء أجمع من قول كعب الأحبار: (الشعراء
أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة) .
ولم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا الأبيات يقولها الرجل في الحاجة
تعرض له، كقول دويد بن زيد، حين حضره الموت، وهو من قديم الشعر
العربي:
اليوم يبنى لدويد بيته
…
ولو كان للدهر بلى أبليته
أو كان قرني واحدًا كفيته
وإنما قُصِدَت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهناك
رفع امرؤ القيس ذلك اللواء، وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء، وهو لم
يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما اتبعه فيه مَن جاء بعده، فهو أول مَن استوقف على
الطلول ووصف النساء بالظباء والمهى والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعِصي،
وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد
الاستعارة والتشبيه، ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره.
ثم تتابع القارضون من بعده، فمنهم من أسهب فأجاد، ومنه من أكب كما
يكبو الجواد، وبعضهم كان كلامه وحي الملاحظ، وفريق كان مثل سهيل في
النجوم يعارضها، ولا يجري معها، ولقد حدوا في ذلك حتى إن منهم مَن كان يظن
أن لسانه لو وضع على الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه.
ذلك أيام كان للقول غرر في أوجه ومواسم؛ بل أيام كان من قدر الشعراء أن
تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم، حتى لا يعرفون إلا بها كالمرقش والمهلهل والشريد
والممزق والمتلمس والنابغة وغيرهم، ومن قدر الشعراء كانت القبيلة إذا نبغ
فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن
بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وأيام كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر
ينبغ أو فرس تنتج، وكانت البنات ينفقن بعد الكساد إذا شبَّب بهن الشعراء.
ولم يترك العرب شيئًا مما وقعت عليه أعينهم أو وقع إلى آذانهم أو اعتقدوه
في أنفسهم إلا نظموه في سَمْط من الشعر، وادخروه في سفط من البيان؛ حتى إنك
لترى مجموع أشعارهم ديوانًا فيه من عوائدهم وأخلاقهم وآدابهم وأيامهم وما
يستحسنون ويستهجنون حتى من دوابهم، وكان القائل منهم يستمد عفو هاجسه
وربما لفظ الكلمة تحسبها من الوحي وما هي من الوحي ولم يكن يفاضل بينهم إلا
أخلاقهم الغالبة على أنفسهم، فزهير أشعرهم إذا رغب، والنابغة إذا رهب،
والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب، وهلم جرًّا.
ولكل زمن شعر وشعراء ولكل شاعر مرآة من أيامه؛ فقد انفرد امرؤ القيس
بما علمت واختص زهير بالحوليات واشتهر النابغة بالاعتذارات وارتفع الكميت
بالهاشميات وشمخ الحطيئة بأهاجيه، وساق جرير قلائصه وبرز عدي في صفات
المطية وطفيل في الخيل والشماخ في الحمير، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك
شيئًا من شعره فيها فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارًا!
وحسبك من ذي الرمة رئيس المشبهين الإسلاميين أنه كان يقول: (إذا قلت
(كأن) ولم أجد مخلصًا منها، فقطع الله لساني) ! ! وقد فتن الناسُ ابنُ المعتز
بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، ورقت قلوبهم على زهديات أبي العتاهية
وجرت دموعهم لمراثي أبي تمام، وابتهجت أنفسهم بمدائح البحتري،
وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم.
فمن رجع بصره في ذلك وسلك في الشعر ببصيرة المعري، وكانت له أداة
ابن الرومي، وفيه غزل ابن ربيعة وصبابة ابن الأحنف وطبع ابن برد وله اقتدار
مسلم، وأجنحة ديك الجن ورقة ابن الجهم وفخر أبي فراس وحنين ابن زيدون وأنفة
الرضي وخطرات ابن هانئ، وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينه بصر ابن خفاجة
بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطيب، فقد استحق أن يكون شاعر دهره،
وصناجة عصره.
ولا يهولنّك ذلك إذا لم تستطع عد الشعراء الذين انتحلوا هذا الاسم ظلمًا،
وألحقوه بأنفسهم إلحاق الواو بعمرو، فكلهم أموات غير أحياء وما يشعرون.
وأبرع الشعراء مَن كان خاطره هدفًا لكل نادرة، فربما عرضت للشاعر
أحوال مما لا يعني غيره، فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر؛
فجاءت بها كالمعجزات وهي ليست من الإعجاز في شيء، ولا فضل للشاعر فيها
إلا أنه تنبه لها، ومَن شدَّ يده على هذا جاء بالنادر، من حيث لا يتيسر لغيره، ولا
يقدر هو عليه في كل حين.
وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك، وأن عينك
تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء، وإذا تحمس فزعت
لمساقط رأسك، وإذا وصف لك شيئًا هممت بلمسه، حتى إذا جئته لم تجده شيئًا.
وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نثل كنانته رأيت مَن
يرميه صريعًا، لا أثر فيه لقذيفة ولا مدية، وإنما هي كلمة فتحت عليها عينه، أو
ولجت إلى قلبه من أذنه، فاستقرت في نفسه، وكأنما استقر على جمر.
وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه، وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعًا،
وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعًا، وإذا فخر اشتم من لحيته
رائحة الملك؛ فحسبت إنما حفت به الأملاك والمواكب.
وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه؛ فإن الكلمة إذا
خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.
ولقد رأينا في الناس مَن تكلف الشعر على غير طبع فيه، فكان كالأعمى
يتناول الأشياء ليقرها في مواضعها، وربما وضع الشيء الواحد في موضعين أو
مواضع وهو لا يدري!
وأبصرنا فيهم كذلك مَن يجىء باللفظ المونق والوشي والنضر، فإذا نثرت
أوراقه لم تجد فيها إلا ثمرات فجة.
ورأينا في المطبوعين مَن أثقل شعره بأنواع من المعاني، فكان كالحسناء
تزيدت من الزينة، حتى سمجت فصرفت عنها العيون بما أرادت أن تلفتها به!
على أن أحسن الشعر ما كانت زينته منه وكل ثوب لبِسته الغانية فهو معرضها.
وهو عندي أربعة أبيات: بيت يُستحسن، وبيت يسير، وبيت يندر، وبيت
يجن به جنونًا، وما عدا ذلك فكالشجرة التي نقض ثمرها، وجني زهرها، لا
يرغب فيها إلا محتطب.
أما مذاهبه التي أبانوها من الغزل والنسيب والمدح والهجاء والوصف والرثاء
وغيرها - فهي شعوب منه، وما انتهى المرء من مذهب فيه إلا إلى مذهب، ولا
خرج من طريق إلا إلى طريق {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء:
225) وما دامت الأعمار تتقلب بالناس فالشعر أطوار، آونة تخطر فيه نسمات
الصبا ما بين أفنان الوصف إلى أزهار الغزل، ويتسبسب فيه ماء الشباب من نهر
الحياة إلى مشرعة الأمل، وطورًا تراه جم النشاط تكاد تصقل بمائه السيوف،
وتفرق بحده الصفوف، وحينًا تجده وقد ألبسه المشيب ثوب الاعتبار، وجمَّله
بمسحة من الوقار، وهو في كل ذلك يروي عن الأيام وتروي عنه، وما أكثر فنون
الشعر إذا رويت عن أفانين الأيام.
وأما ميزانه فاعمد إلى ما تريد نقده فرده إلى النثر، فإن استطعت حذف شيء
منه لا ينقص من معناه أو كان في نثره أكمل منه منظومًا؛ فذلك الهذر بعينه أو
نوع منه، ولن يكون الشعر شعرًا حتى تجد الكلمة من مطلعها لمقطعها مفرغة في
قالب واحد من الإجادة، وتلك مقلدات الشعراء، إليك مثلاً قول ابن الرومي -
يصف منهزمًا -:
لا يعرف القرن وجهه ويرى
…
قفاه من فرسخ فيعرفه
فقلِّبْ نظرك بين ألفاظه وأجِلْه في نفسك، ثم ارجع إلى قول ذلك الخارجي،
وقد قال له المنصور: أخبرني أي أصحابي كان أشد إقدامًا في مبارزتك؟ فقال: ما
أعرف وجوههم ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم: يديروا أعرفك، ألست ترى في ذلك
النظم من كمال المعنى وحلاوة الألفاظ ما لا تراه في هذا النثر.
ولقد بقي أن قومًا لم يهتدوا إلى الفرق بين منثور القول ومنظومه، والذي أراه
أن النظم لو مد جناحيه وحلق في جو هذه اللغة ثم ضمهما لما وقع إلا في عش النثر
وعلى أعواده، ولن تجد لمنثور القول بهجة إلا إذا صدح فيه هذا الطائر الغرد، بل
لو كان النثر ملِكًا لكان الشعر تاجه، ولو استضاء لما كان غيره سراجه.
ومازال الشعراء يأتون بجمل منه كأنها قطع الروض إذا تورَّد بها خد الربيع،
وهذا ابن العباس وكتبه، وابن المعتز وفصوله والمعري ورسائله، وانظر إلى قول
بشار وقد مدح المهدي فلم يعطه شيئًا، فقيل له: لم تجد في مدحه، فقال: (والله
لقد مدحته بشعر لو قلت مثله في الدهر لما حتف صرفه على حر، ولكني أكذب في
العمل فأكذب في الأمل) ، وبشار هو ذلك الغواص على المعاني الذي يزعم ابن
الرومي أنه أشعر مَن تقدم وتأخر، وهو القائل في شعره مفتخرًا:
إذا ما غضبنا غضبة مُضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة
…
ذرى منبر صلى علينا وسلما
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُعد، وأوسع من أن تُحد.
ولا تجد الناظم وقد أصبح لا يحسن هذا الطراز إلا إذا كان جافي الطبع، كدر
الحس غير ذكي الفؤاد، لم تجتمع له آلة الشعر وهو إذا كان هناك وجاء من
صنعته بشيء، فإنما هو نظام وليس بشاعر.
أما الفرق بين المترسلين والشعراء، فإن كان كما يقول الصابي: (إن
الشعراء إنما أغراضهم التي يرتمون إليها وصف الديار والآثار، والحنين إلى
الأهواء والأوطار، والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء، وأما
المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على
جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن
فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك، فذلك زمن قد درج
فيه أهله، وبساط طوي بما عليه، ولم يعد أحد يحذر مؤاخاة الشاعر؛ لأنه يمدحه
بثمن ويهجوه مجانًا، وإنما الفرق بين الفريقين أن مسلك الشاعر أوعر ومركبه
أصعب وأسلوبه أدق، وكلامه مع ذلك أوقع في النفس وعلى قدر إجادته يكون
تأثيره، فالمجيد من الشعراء أفضل من غيره في صناعة الكلام، وإنك إنما تزين
النثر بالشعر، ولا تزين الشعر بالنثر.
وفي الحديث الشريف: (إنا قد سمعنا كلام الخطباء وكلام أبي سُلمى، فما
سمعنا مثل كلامه من أحد) ، وقال الشافعي - في كتاب (الأم) -: (الشعر كلام
كالكلام، فحَسَنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه، وفضله على سائر الكلام أنه سائر في
الناس يبقى على الزمان، فينظر فيه) .
هذا، وإن من الشعر حكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة تقريظ
(أحسن الكلام)
أورد المصنف - بعد مقدمته تلك - حديث أبي هريرة الصحيح في النهي عن
الكلام وقت خطبة الجمعة وهو (إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصتْ. والإمام
يخطب فقد لغوتَ) ، وقال: إنه قد أخرجه الستة، ونقول: إن ابن ماجه لم يخرجه.
وأورد بعده احتجاج أبي حنيفة بأقوال الصحابة على منع الكلام من وقت
خروج الإمام، وأن صاحبيه خالفاه؛ لأنهما لا يحتجّان برأي الصحابي؛ لأن
المجتهد لا يقلد مجتهدًا، واستنتج من ذلك أن الترقية المتعارفة في زماننا جائزة عند
الصاحبين ما لم تشتمل على تغنٍّ وتلحين مخل، قال:(وإلا فهي مكروهة اتفاقًا) ،
ثم قال: إنه لا وجه للإنكار على الترقية مع هذا الخلاف بين المجتهدين، (وإنما
يجب الإنكار فيما اتفق الكل، وأجمعوا على عدم جوازه) .
ونقول: الظاهر أن مصنف الرسالة هو الذي استنبط هذا الجواز من قواعد
الصاحبين، فإن كان يدعي أن بدعة الترقية كانت في عهدهما، وأنهما نصَّا على
جوازها فليدلنا على النص، وإذا كان هو المستنبط للجواز فلنا في استنباطه
إشكالات:
أحدها: إنه ليس لمثله أن يستنبط ولا أن يرجح، وإنما هو من الطبقة التي لا
يُقبل منها إلا نقل نصوص المذهب كابن عابدين، ولا يدعي أنه فوق طبقة ابن
عابدين الذي صرح بأنه لا يُقبل منه إلا النقل لنصوص المذهب المرجحة، بل قالوا:
إن أبحاث الكمال بن الهمام لا يعمل بها إذا خالفت نصوص المذهب.
ثانيها: إذا فرضنا أنه ادّعى أنه فوق الكمال في الفقه، وأن له أن يستنبط من
نصوص أئمته فلماذا لا يستعمل هذه الموهبة في وظيفة ويزحزح عن المحكمة
بعض قيود الفقهاء الذين ضيقوا مذهب الحنفية؟! وأكثرهم من الذين لم يبلغوا هذه
الدرجة - درجة الاستنباط من أصول المذهب - وإذا كان المؤلف وصل إليها فلا
يجوز له التقيد بأقوال مَن هم دونه من الفقهاء، وأي نعمة على المحاكم الشرعية في
مصر؛ بل على مذهب الحنفية من وجود مجتهد فيه ينقحه، ويسهل وعورته،
فيصلح به حال هذه المحاكم التي يحتج قضاتها بأنهم ممنوعون عن الإصلاح بقيود
الفقهاء التي كُلفوا بالجمود عليها، وعدم التصرف فيها كأنما ألفاظها قرآن تعبّدوا به
تعبدًا.
ثالثها: أن ما يُنقل عن الصحابة عليهم الرضوان إن كان من قبل الرأي فهو
الذي لا يكلف المجتهد باتباعهم فيه إلا إذا وافق دليله دليلهم، وأما إذا كان مما لا
مجال للرأي فيه كالعبادات، فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
والأقرب أن مسألتنا من هذا القسم، فإن لم يسلم بأنه الأقرب فلا أراه ينكر أنه
الأحوط.
رابعها: أن الكلام الذي أجازوه في المسجد في غير وقت الخطبة ليس فيه
شبهة التعبد به، واتخاذه شعارًا لازمًا، كما هو الشأن في الترقية المعروفة في هذه
الأزمنة، فقياس الترقية على الكلام قياس مع الفارق، على أن ما كان من قبيل
الشعائر الدينية والتعبد لا يجوز القياس فيه، كما تقدم في النبذة الماضية؛ لأنه مما
يجب فيه الوقف عند نص الشارع؛ فثبت بهذا أن الترقية بدعة منكرة لا وجه
لجوازها في مذهب من المذاهب.
خامسها: أن الترقية المسؤول عنها مشتملة على التغني والتلحين المخل،
فهي منكرة حتى في رأي المصنف؛ ولكن إيراد قياسه على تقدير خلوها من ذلك
والحكم بأنه لا وجه لإنكارها يوهم من يطلع على الرسالة من غير أهل التدقيق أنه
بذلك القياس يجيز ما عليه الناس، وهو إنما أجاز صورة من صور الترقية غير
موجودة، وخلاصة القول إن هذه الرسالة لا تبيح الترقية المعهودة الآن، وإنما تبيح
ترقية مشروطة بشرط غير موجود بناءً على قياس في غير محله.
ثم تكلم المصنف في حكم قراءة سورة الكهف، فقال: (إنها جائزة اتفاقًا،
ولا وجه للقول بمنعها) ، ثم ذكر أنها عبادة لم يرد النهي عنها بخصوصها، (ولم
يدخل ذلك تحت نهي عام، واستثنى من ذلك القراءة وقت الخطبة، أو عند خروج
الإمام على الخلاف المار) ، ثم صرح بأن قراءتها برفع الصوت في المسجد لا
تمنع، وأورد حديث:(لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)، وقال: إنه على
فرض صحته لا يصلح حجة للمنع وكذلك حديث: (لا ضرر ولا ضرار) قال:
(وعلى فرض وجود مصلٍّ لنحو تحية مسجد وقت قراءتها فلا يحصل من ذلك
تشويش عليه) ، ثم قال:(إنه ورد أحاديث كثيرة بطلب قراءتها) ، وأورد منها
حديثين، ثم نفى أن يكون الاجتماع الخاص في المسجد لسماعها بدعة لدخوله في
عموم الترغيب في الاجتماع للذكر.
نقول: إن في هذا الاستدلال نظرًا ظاهرًا، لا سيما على قواعد الحنفية الذين
يقلدهم المصنف، فإنهم نصوا في كتبهم على أن قراءة (الم.. السجدة)
و (الإنسان) في فجر الجمعة مكروهة، مع أن الأحاديث فيها صحيحة ليست
كأحاديث قراءة سورة الكهف، وعللوا الكراهة بأن فيها هجرًا لباقي القرآن، بل
قالوا باتجاه التحريم في ذلك، فإن قيل: إنهم قالوا بذلك لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - لم يلتزم قراءة (الم.. السجدة) و (الإنسان) في فجر الجمعة؛ بل
ورد أنه قرأ غيرهما أيضًا، فقالوا بكراهة المواظبة عليهما، نقول: إن ما ورد
فيهما أصح مما ورد في غيرهما، ويدل على التكرار، ولم يرد حديث صحيح في
قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والناس يواظبون عليها مع الاجتماع والتوقيت،
حتى كأنها من شعائر الإسلام المنصوصة، مع أنها معارَضة بأحاديث منها ما رواه
الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعًا: (مَن قرأ السورة التي يُذكر فيها آل
عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته، حتى تحجب الشمس) ، ومنها ما
رواه ابن مردويه عن كعب مرفوعًا بسند صحيح: (اقرؤوا سورة هود يوم
الجمعة) ، نعم، إنه مرسل، ولكن الحنفية يحتجون بالمرسل، وإن لم يحتج به
مصنف الرسالة في منع الكلام عند خروج الإمام إلى الجمعة، ومنها حديث
الطبراني في الكبير عن أبي أمامة: (مَن قرأ حم.. الدخان في ليلة الجمعة أو يوم
الجمعة بنى الله له بيتًا في الجنة) ، ومنها أحاديث في قراءة سورة في ليلة الجمعة.
وأما الأحاديث التي اختارها مما ورد في قراءة سورة الكهف فهي كما ذكرها
بالنص، قال: منها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعًا: (مَن قرأ
سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عَنان السماء، يضيء
له إلى يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين) . وما رواه غير واحد عن أبي
سعيد الخدري: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه
وبين البيت العتيق) .
أقول: قد طعن في سند كل منهما، بل قال الحافظ ابن حجر في تخريج
أحاديث الأذكار: إن أقوى ما ورد في قراءة سورة الكهف حديث أبي سعيد عند الحاكم
في التفسير والبيهقي في السنن: (مَن قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له
من النور ما بين الجمعتين) ، وقد أورده الحاكم من طريق نعيم بن حماد عن هشيم
عن أبي هاشم وصححه؛ ولكن قال الذهبي في الميزان: بل نعيم بن حماد ذو
مناكير، وقد ورد في قراءة آيات مخصوصة من الكهف بدون ذكر الجمعة روايات
قوية، وبعضها في صحيح مسلم.
وأما تشويش هؤلاء القراء في المساجد على المصلين فهو مما لا شك فيه،
وما فرضه صاحب الرسالة من وجود المصلين وقت قراءة سورة الكهف في المسجد
أمر واقع مشاهَد؛ ولكن هؤلاء الفقهاء يتكلمون بالفروض كأنهم في كون مفروض
غير موجود.
وكون التشويش على المصلين غير جائز مما لا ينبغي أن يشك فيه، والصلاة
هي المقصودة من المساجد بالذات؛ ولذلك صرح الفقهاء بمنع الجهر بالتلاوة في
المسجد إذا كان فيه مَن يصلي. وقد أوَّل المصنف حديث: (لا يجهر بعضكم على
بعض بالقراءة) ورواه (بالقرآن) بأن معناه الظاهر: (لا يذم أحد أحدًا بالقرآن،
أو لا يشتم بعضكم بالقرآن انتصارًا على البعض الآخر) ، ولم يعلم أنه عُلل بإيذاء
المصلي، رواه الخطيب عن جابر.
وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم
مناجٍ لربه، فلا يؤذِ بعضكم بعضًا، ولا يرفعْ بعضكم على بعض في القراءة) ؛
ولكن أكثر المشتغلين بالفقه لا يطلعون على كتب السنة إلا قليلاً. ولا يخفى أن
إيذاء من يجهر لمَن يسر بالصلاة أو القراءة أشد من إيذائه لمن يجهر مثله؛ لأن
الجهر يُدفع بالجهر. فسقط جميع استدلال المصنف، وثبت أن قراءة سورة الكهف
في المسجد يوم الجمعة - في الوقت الذي يجتمع الناس فيه للصلاة - بدعة
محظورة، لا سُنة مطلوبة.
(للتقريظ بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
…
...
(كتاب إصابة السهام فؤادَ مَن حاد عن سنة خير الأنام)
أهدانا الشيخ محمود محمد أحمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر نسخة من
كتاب له جديد سمّاه بهذا الاسم، وهو في بيان البدع والمنكرات الفاشية بين أهل
العلم والدين، وفي المساجد وحلقات الدروس وغير ذلك، ولم تتيسر لنا مطالعته،
وإنما أخذناه الآن في يدنا، وقرأنا جملة من فهرسه، فإذا فيها:
(مطلب تحريم القراءة إذا لزم عليها تشويش خلافًا لمن قال بالكراهة) ، فراجعنا
هذا المطلب، وأحببنا أن ننقل منه تأييدًا لما ذكرنا آنفًا في الانتقاد على رسالة الشيخ
بخيت ما يأتي، قال المصنف - في سياق الكلام على المنكرات الفاشية في الجامع
الأزهر ومنها التشويش على المصلين برفع الصوت بالنية - ما نصه:
(قال ابن العماد: لو توسوس المأموم من تكبيرة الإحرام على وجه يشوش
على غيره من المأمومين حرم عليه ذلك، كمن قعد يتكلم بجوار المصلي، وكذا
تحرم عليه القراءة جهرًا على وجه يشوش على المصلي بجواره) . اهـ
وقوله: (من المأمومين) : يعني مثلاً، وكذا قوله:(على المصلي) ، وإلا
فالتشويش حرام، ولو على النائم، وأما قول ابن حجر بكراهة القراءة عند التشويش،
وردّه قول ابن العماد بالحرمة فهو المردود، وكيف لا، وقد أضر بقراءته المتعبدين،
ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) . اهـ
ثم رأيت فيه مبحث قراءة سورة الكهف في المساجد فأحببت نقله أيضًا، وهو:
ومنها - أعني البدع التي اخترعوها في الجامع الأزهر ونحوه - قراءة سورة
الكهف يوم الجمعة بصوت مرتفع وترجيع، والمسجد ممتلئ من الناس ما بين راكع
وساجد وذاكر وقارئ ومتفكّر إلى غير ذلك، ومع ذلك يرتبون للقارئ لها أجرة من
الوقف، وذلك ممنوع من وجوه:
(الأول) كونه مخالفًا لما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمن
أصحابه والسلف، والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع والأحاديث في
ذلك معلومة.
(الثاني) أن فيه تشويشًا على مَن بالمسجد متلبّسًا بعبادة، وقد تقدم غير مرة
أن التشويش ممنوع بالإجماع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ملعون مَن
ضارَّ مؤمنًا) .
(الثالث) فيه صرف المال في غير مصرف شرعي؛ بل هو منكر، وهو
ممنوع، ولا سيّما من مال الوقف.
(الرابع) أن ذلك كان سببًا في اعتقاد العوام أن قراءة السورة المذكورة بهذه
الصفة من معالم الدين، فأدخلوا في الدين ما ليس منه، وتقدّم أنه ممنوع بنص
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الخامس) فيه رفع الأصوات في المسجد لغير ضرورة شرعية، وقد ورد
النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجهر بعضكم على بعض في
القراءة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا عليُّ، لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك
حيث يصلي الناس؛ فإن ذلك يفسد عليهم صلاتهم) .
وقال في الدر المختار للسادة الحنفية: (يحرم رفع الصوت في المسجد بذكر
إلا للمتفقهة) . اهـ.
ولعل موضوعه فيما إذا كان في تشويش، وقال ابن العماد الشافعي: (تحرم
القراءة جهرًا على وجه يشوش على نحو مصلٍّ) اهـ ومر.
ويأتي النص على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون
رفع الصوت بالذكر والقرآن، ولا سيّما في المساجد، فإذًا عند التشويش لا يشك
في التحريم، نعم، ورد النص على فضل قراءة هذه السورة ليلة الجمعة ويومها،
ولكن ليس كما اعتاده هؤلاء الناس، بل يقرأ لنفسه في بيته مطلقًا، أو في المسجد
بدون رفع صوت؛ حذرًا من التشويش، وعبارة (قرة العين) مع شرحها (فتح
المعين) للعلامة زين الدين المليباري الشافعي نصها: (وسُن قراءة سورة الكهف
يوم الجمعة وليلتها لأحاديث فيها، وقراءتها نهارًا أوكد، وأولاها بعد الصبح
مسارعة للخير، وأن يكثر منها ومن سائر القرآن فيهما، ويكره الجهر بقراءة
الكهف وغيرها إن حصل به تأذٍّ لمصلٍّ أو نائم، كما صرّح به النووي في كتبه)
وقال شيخنا في شرح الباب: (ينبغي حرمة الجهر بالقراءة في المسجد، وحمل
كلام النووي بالكراهة على ما إذا خِيفَ التأذي، وعلى كون القراءة في غير المسجد)
اهـ.
قال محشيّه السيد علوي قوله: (.. لأحاديث) فقد صح أن من قرأها
ليلتها أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. اهـ
وفي فتاوى قاضي خان: (رجل يقرأ وبجنبه رجل يكتب الفقه لا يمكنه أن
يستمع كان الإثم على القارئ؛ لأنه قرأ في موضع يشتغل الناس بأعمالهم، ولا
شيء على الكاتب) . اهـ
فما بالك بمَن كان مشغولاً بنحو صلاة، ويشوش القارئ عليه كالحاصل
بقراءة سورة الكهف يوم الجمعة، ونحوه في الفتح عن الخلاصة قال: (وعلى هذا
لو قرأ على السطح والناس نيام يأثم) . اهـ، قال ابن عابدين: (أي لأنه يكون
سببًا لإعراضهم عن استماعه، أو لأنه يؤذيهم بإيقاظهم) ، ثم قال: (يجب على
القارئ احترام القرآن بأن لا يقرأه في الأسواق ومواضع الاشتغال، فإذا قرأ فيها
كان هو المضيع لحرمته، فيكون الإثم عليه دون أهل الاشتغال دفعًا للحرج)
اهـ
(وكذا في مذهب السادة الحنبلية وغيرهم، فتحصل أن قراءة السورة
المذكورة بهذه الكيفية التي اعتادها كثير من الناس ممنوعة بإجماع المسلمين،
وكيف لا وهي من الحدث في الدين لمخالفتها لما كان عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وآله وأصحابه وصالح السلف، ومعلوم أن كل ما خالف ذلك فهو في
شَرَك الوبال والتلف) . اهـ.
هذا ما رأينا نقله الآن من كتاب السبكي من غير بحث فيه، وسنعود إلى
النقل عن هذا الكتاب الذي نودّ أن يطلع عليه جميع المسلمين، ونشكر لمؤلفه
عنايته بخدمة الدين.
***
(تقويم المؤيد)
صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الجديدة، وفيه من الفوائد والمباحث العلمية
والتاريخية والسياسية والأدبية ما جمع - على اختصاره - بين الفائدة واللذة، وقد
توسع فيه بالكلام عن مصر والسودان، حتى إنه يُغني عن كتاب (دليل مصر)
لما فيه من بيان أحوال البريد والسكك الحديد
…
وذكر في باب وفيات الأعيان
ملخص تراجم كبار الرجال الذين ماتوا في العام الماضي، ومنهم باي تونس والسيد
الكواكبي، وذكر في باب القضاء أهم المسائل التي يحتاج إلى معرفتها المتخاصمون
في المحاكم المصرية مرتبة على حروف المعجم، وفي باب الإحصاء طلبة العلم
والعلماء بمساجد مصر، البريد المصري، سكك الحديد في العالم، الأمم المدمنة
السكر، نسبة المتعلمين في الأمم، العائلات وضعف التناسل، الجرائد في العالم،
سكان الأرض، السفن، اللغات، الزنا في فرنسا، النساء في الولايات المتحدة،
أعمار النساء، وغير ذلك.
وجملة القول في هذا التقويم: إنه نديم المقيم، ورفيق المسافر، وقاموس العلم،
ومكتبة الحبيب، وهو يُطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر بالمؤيد، ومن
المكاتب الشهيرة، وثمنه خمسة قروش.
***
(النخبة الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية)
كتاب حافل في تقويم البلدان يدخل في أربعة أجزاء:
الجزء الأول: عموميات على الدنيا، الجزء الثاني: مصر والحكومة
السودانية، الجزء الثالث: إفريقيا وأوربا، الجزء الرابع: آسيا وأمريكا
والأقيانوسية والأقاليم القطبية، وفيه 47 خريطة ملونة و66 صورة وشكلاً، ومؤلفه
إسماعيل أفندي علي الموظف بنيابة الاستئناف الأهلية، ومدرس علم تقويم
البلدان بالجامع الأزهر الشريف.
هذا ملخص التعريف بالكتاب، ونقول إن قُراء العربية في أشد الحاجة إلى
كتب مطولة في هذا الفن ومن العجيب أن وُجدت كتب مطولة في أكثر العلوم
العصرية دون هذا العلم الذي يجب أن يكون عامًّا، ومن الفضائح أن يجهله ذكر أو
أنثى، فمن نعم الله تعالى على قراء العربية أن سخر لهم رجلاً من أوسعهم اطلاعًا
وتدقيقًا فيه، فوضع لهم هذا الكتاب، وهو مؤلفه إسماعيل أفندي علي الذي زاول
تعليمه في المدارس الأميرية أعوامًا طويلة، ثم لا يزال يعلّمه في الأزهر إلى
اليوم.
ومن شكر النعم أن يبادورا إلى اقتناء الكتاب والاستفادة منه؛ لأن الشكر إنما
يكون بوضع النعمة في موضعها الذي وجدت لأجله، ومن آيات الجهل الفاضحة أن
يحبس هذا الكتاب الجليل في مكاتب الباعة زمنًا طويلاً، ومن الإساءة أن ينفق هذا
المؤلف زمنًا طويلاً من وقته في التعريب والتأليف ووضع الخرائط بالعربية، ثم
يصرف مبلغًا كبيرًا من ماله في نفقات طبع الكتاب، ولا تكون أقل مكافأة له من
الأمة سرعة الإقبال على كتابه.
أما صفحات الكتاب فهي 640 من الشكل الكبير جدًّا، وثمنه أربعون قرشًا
صحيحًا، ومَن لاحظ الصعوبة في طبع الخرائط الملونة بالألوان الكثيرة، وصعوبة
وضعها يعلم أن ثمن الكتاب رخيص بصرف النظر عن فائدته.
إننا تصفحنا بعض الكتاب بالإجمال، وإنما نثق به لثقتنا بسعة اطلاع مؤلفه
على كتب الإفرنج الحديثة، وله العذر إذا وقع فيه شيء من الخطأ في إحصاء
أهالي بلاد كالبلاد العثمانية، لا يتيسر له الوقوف على كتب حديثة فيها كما يتيسر
له في غيرها، وقد كان أول مَن انتقد ذلك في الكتاب هو أول المعجبين به صديقنا
رفيق بك العظم، قال:(إنه اعتمد على الإحصاءات القديمة) ، كقوله - عن
سكان دمشق - إن عددهم 60 ألفًا، مع أن الإحصاء الجديد الوارد ذكره في سلنامة
الولاية الرسمية هو 143321، وفي الحقيقة إنه يزيد عن هذا العدد أيضًا؛ إذ يقدر
العارفون سكان دمشق بمائة وستين ألفًا، وعلى هذا يقاس ما ذكره عن عدد نفوس
بقية البلدان الكبيرة في الزيادة والنقصان كحلب وبيروت وحماة وغيرها، ولو
اعتمد في النقل على سلنامات الدولة الرسمية لكانت خدمته العظيمة أتم، ووضعه
الجميل أكمل، وانتقد عليه أيضًا عدم تعيينه درجات العرض للبلدان الكبيرة
بالتفصيل، أو الأقطار بالإجمال، ولو فعل لأغنى المطالع عن مراجعة الخرائط
الموجودة في الكتاب لمعرفة عرض كل بلد أو قطر، كما فعل غيره في كتب أصغر
من كتابه، وانتقد أيضًا اختصار الكلام في المملكة العثمانية، وهو يرجو - كما
نرجو - أن يضع لها كتابًا مخصوصًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الدولة العلية ومكدونية
نجم من عدة أشهر ناجم من الثورة في بلاد مكدونية فشخصت له أوربا
وأسرعت روسيا والنمسا إلى الدولة العلية بالنصيحة والحث على تلافي الأمر
والمسارعة إلى إصلاح البلاد ووضعتا للإصلاح (لائحة) عرَّفتا بها سائر الدول ثم
قدمتاها إلى الدولة ملحّتين في المبادرة إلى قبولها فلم تلبث الدولة أن قبلتها على
عِلَاّتها خلافًا لعادتها في التريث والليِّ.
ومن موضوع اللائحة وجوب استعمال الأوربيين في الإصلاح؛ لأنه لا ثقة
لأوربا برجال الدولة وقد ساء هذا معشر الألبانيين ولم يقع موقعه من نفوس معاشر
المسيحيين؛ لأن نفوسهم طمعت بالاستقلال، فكل ما دونه يعد عندهم من ألاعيب
الأطفال.
كان في أثر ذلك أو معه حركة في البلغار وهزة في (السرب) ، وطاف في
الأذهان أن هذه الفتنة ستعم بلاد البلقان، وظهرت من بعض الدول العظام أمارات
الاتفاق مع روسيا والنمسا، ومن بعضهن علائم السكوت وعدم المعارضة،
واختلفت الظنون في نية روسيا فجنح بعضٌ إلى ترجيح كفة السلم من جانبها؛ بدليل
نصائحها المتتابعة للبلغاريين وغيرهم من شعوب البلقان بأن يخلدوا إلى السكينة
ويتفيّؤوا ظلال الهدوء والمسالمة، ومال بعض إلى ترجيح كفة الحرب بدليل التقاليد
القديمة التي وضعها بطرس الأكبر في وصيته (التي نشرناها في الجزء الماضي)
وما يصدق ذلك من أخبار استعدادها الحربي في هذه الأيام.
الحق أن لكل من الرأيين وجهًا وجيهًا، وأن سياسة روسيا أصبحت دقيقة
المسالك مشتبهة الأعلام فبينا ترى قيصرها ينادي بوجوب تعميم الأمن والسلام،
ومد ظلاله على رؤوس جميع الأنام، تراه يستعد للكفاح استعدادًا صوريًّا ومعنويًّا.
فأما الصوري فبإنشاء الأساطيل وتكثير الأسلحة وإتقان العلوم العسكرية، وأما
المعنوي: فبمحالفة بعض الدول القوية ومسالمة بعض. ولقد كان الإنكليز عون الدولة
العثمانية على روسيا فحال لوْن السياسة الجامعة بينهما وتغير شكلها وتبدل السلطان
عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ شديد الجشع، قوي الطمع إذا رأى
روسيا وقد جدَّ جدها يكتفي منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا
يطوف في خاطر عاقل أنه يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان إذا نزل مع
الروس في ميدان الطعان!
كانت قلوب المسلمين في العيدين محوّمة فوق بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج،
كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من
هم مراكش، همّ الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله تعالى) ولا خوف عليها إلا من
روسيا. فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم بنيران الثورة اضطرامًا ولا
تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة تنتظر حينئذ استقلال مكدونية
أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب الجديد في سير أوربا بالمسألة
الشرقية مذهب التفكيك وتحليل العناصر، وهذا المذهب خير لدول أوربا وأسهل
طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتوح والتغلب؛ لأن هذا يعوزه الاتفاق على ما
يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة، وسفك دماء عزيزة هو خير
للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر ينحل من عناصر بلادهم
وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم كيف يحفظ الباقي فإذا لم
يتعلموا بتكرار النُّذر وأنواع العبر، وكانوا يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا
يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، فهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّان يبعثون!
مسألة مكدونية مسألة عشواء والحكم فيها غامض لما تقدم؛ ولأن النصارى فيها
وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوربا وما يدانيها كبلاد الأرمن قد
توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوربا نصيرة لهم وأن الذريعة الوحيدة
لإثارة نعرتها عليهم وتصدِّيها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي تضطر
الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم ولعل أوربا في مجموعها وروسيا
حاضنة جراثيم فكر الاستقلال في البلقان في خاصتها تعجز عن ضبط حركة هذه
الثورة التي تولدت وتأصلت ورسخت واندفعت عن بصيرة أو غير بصيرة.
هذا ما يُخشى على تقدير إرادة روسيا إطفاء الثورة والاكتفاء بما طلبت من
الإصلاح فكيف إذا كانت تريد شيئًا آخر؟ !
وماذا يجب على الدولة أن تفعله في هذه الفتنة وماذا يجب عليها أن تفعله في
نفسها لأجل مستقبلها؟
أما الأول: فالظاهر أن الذي تعمله الآن من إجابة طلب روسيا والنمسا إلى
الإصلاح الذي طلبتاه بدون تحوير ولا تأخير ومن اختيار الموظفين الأوربيين
للإصلاح من الأمم الأوربية الضعيفة ومن الاستعداد للكفاح إذا طرأ ما هو أعظم من
ذلك هو الواجب الذي لا يمكن غيره.
وأما الثاني: فإن الجواب عنه لا يفهم ويقبل إلا بعد العلم بأمور كثيرة أهمها
(مالية الدولة) وإن لدينا رسالة مطولة أو كتابًا صغيرًا في ذلك لأحد الكُتاب
العثمانيين مستقًى من الينابيع الرسمية وإننا ننشره تِبَاعًا في أجزاء المنار ليصح
للقارئين معرفة الدولة وما يجب أن تعمله لتنجو من الخطر.
وإن فهم حقيقة الدولة مما لا بد منه للمشتغلين بمسألة الإصلاح الإسلامي لما
لهذه الدولة من المكانة في الوجود ومن المكانة في نفوس المسلمين في جميع أقطار
الأرض. ولهذا أخذنا على أنفسنا أن نكتب في كل جزء من منار هذه السنة شيئًا
عن الدولة العلية من بيان حقيقة وجودية ورأي معقول نرجو الانتفاع به. ونتجنب
في ذلك المدح والذم للأشخاص المعينين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
سلطان زنجبار والأمير العربي
نحمد الله تعالى أن حفظ البلاد المقدسة في هذه السنة من الوباء والأمراض، وقد
كتب إلينا من مكة المكرمة بأن صديقنا الأمير العربي الكريم محمد باشا عبد الوهاب
شيخ دارين قد كان له من الحفاوة والاحترام عن سيادة الشريف ودولة والي الحجاز ما
يليق بمقامه، وأنه قد وُفِّقَ إلى توزيع ألف وخمسمائة جنيه على علماء الحرم الشريف
وخدمته وغمر بصدقاته الفقراء والمعوزين، وأنه تبرع بمئة جنيه وعشرة جنيهات
إعانة لسكة حديد الحجاز وأن سلطان زنجبار تبرع لهذه السكة أيضًا بمئة جنيه وخمسة
جنيهات ووزع على المجاورين والمستخدمين في الحرم الشريف ست مئة ريال
(بوم) .
(تنبيه)
كل مَن قبل هذا الجزء من المنار فهو مشترك إلى آخر السنة ويجب عليه دفع
القيمة المعينة على غلاف المجلة. ونستثني عمال البريد خاصة، فنقبل منهم نصف
القيمة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة التاسعة
فيما ينبغي عليه التعويل
علم مما تقدم أن الأمور الغريبة التي تسمى خوارق عادات وعجائب منقولة
عن جميع الأمم فهي واقعة حتمًا، ومنقولة بالتواتر اللفظي وبالتواتر المعنوي، وإن
ادعاها كثيرون من الناس كذبًا وتعمَّلوا للاشتهار بها تعملاً. ثم إن هذه الأمور على
ضربين: ضرب عرف عن أهله أنه صناعي يتوصل إليه بالعلم والعمل كالسحر
والشعوذة، فهو من الخوارق بالنسبة إلى الذين لا يعرفون طريقه ولم يقفوا على عِلَله
قال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة: 102) وقال عز وجل: {يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) أي: والحقيقة خلاف ذلك التخيل وقال:
{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ} (الأعراف: 116) وقال - حكاية عن
فرعون -: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (طه: 71) وضرْبٌ عُرِفَ عن
أهله أنه ليس له طريق صناعي يوصل إليه العلم، وإنما هو وراء الأسباب والثابت
القطعي من هذا القسم آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدم الكلام عليها في
المقالة الأولى وفي الأمالي الدينية ومنه ما يدعيه أو يُدَّعى لكبار رجال الدين من أهل
الملل والكلام فيه، والمقصود منه بالذات ما عندنا معشر المسلمين وقد ذكرنا حجج
مثبتي الكرامات وحجج منكريها وأوردنا ما رواه المثبتون من الكرامات المأثورة
عن الصحابة والتابعين، وبينا ما صح منها وما لم يصح فليراجع كله في المجلد الثاني
من المنار.
وإننا نختم القول في مبحث الكرامات بمسائل أكثرها مستفاد من المقالات
السابقة، وهذه المسائل هي خلاصة رأينا في الموضوع فمن أنكر علينا منها شيئًا
فليكتب إلينا مدليًا بحجته، ونعده بأننا ننشر ما يكتب بمعناه أو بلفظه إذا كان صحيحًا
ومختصرًا وغير خارج عن محل النزاع استطرادًا إلى مسائل أخرى. فإن كانت
الحجة ناهضة سلمنا وإن كانت داحضة بيَّنَّا. ولا ينبغي لأحد أن يرد علينا في
الموضوع إلا بعد الاطلاع على المقالات التسع؛ لئلا يبحث في شيء سبق بيانه
فيُهمَل كلامه:
(المسألة الأولى) إن الأصل في كل ما يحدث في الكون أن يكون له سبب
وأن يجري على سنة من سنن الله تعالى في الخلق، وهذه الأسباب مطردة متى تمت
شروطها (كما قال الغزالي) وتلك السنن ثابتة لا تبدل ولا تحول كما علم بالمشاهدة
والاختبار وبنص القرآن، فهي مسألة اتفق فيها الحس والعقل مع نصوص الشرع،
فهي قطعية.
(المسألة الثانية) إن من قضايا العقول - التي نصها علماء الأصول - أن
الظن الراجح لا يعارض العلم اليقين وأيد هذا القرآن أيضًا بمثل قوله تعالى: {إِن
يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وقوله عز وجل:
{وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) وغير ذلك من الآيات
الواردة في إبطال عقائد أهل الزيغ والجحود.
(المسألة الثالثة) أجمع العلماء من الأصوليين والمحدثين على أن روايات
الآحاد العدول الثقات كالصحابة وأئمة التابعين المعروفين ومن عُرف بالصدق
وحسن السيرة مثلهم لا يفيد أكثر من الظن، وأجمعوا على أنه إذا روي عنهم ما
يخالف المعقول القطعي والمنقول القطعي كنص القرآن فإنه لا يعتد بالرواية ولا
يعول عليها إلا أن يوفق بينها وبين القطعي منقولاً كان أو معقولاً فقط.
(المسألة الرابعة) إن العجائب والخوارق قد نقلت عن جميع الأمم فليس من
الصواب التفاضل بينها وادعاء أن بعضها على حق وبعضها على باطل بسبب ذلك
وإنما يجب تمحيص النقول وتحريرها فإن الناس مولعون أشد الولع بالغرائب،
وأكثر ما يتحدثون به منها كاذب.
(المسألة الخامسة) كما يجب تمحيص النقل والرواية يجب تمحيص المرويّ
المنقول من الغرائب؛ ليعلم أنه واقع حقيقة ولم يكن تخييلاً للأنظار أو خداعًا
للأبصار أو الأفكار.
(المسألة السادسة) قد كشف العلم أسبابًا لأمور كثيرة كانت تسمى خوارق
وكرامات، فإذا علم بعد تمحيص الرواية والمروي أن شيئًا من هذه الغرائب وقع لا
محالة، فينبغي الرجوع لالتماس الأسباب من مظانها في العلم الطبيعي وعلم النفس
فإن لم يظهر له سبب يحمل عليه، ولا وجه يمكن أن يؤوَّل إليه فهو الذي يصح
أن يسمى خارقة أو أعجوبة والنظر فيه من وجهين: حال مَن ظهر على يده، وإمكان
قياسه على غيره.
(المسألة السابعة) لثبوت الخارقة - على ما ذُكر - طريقان: الحسّ السليم
والتواتر الصحيح وكلاهما عسر جدًّا؛ لأن الحواس تُخدع حتى تكذب صاحبها فيما
ترى وتسمع، وأمر التواتر أبعد في العسر وصعوبة التحقق فإن من شرطه أن
ينتهي إلى حس محقق باليقين، وقد علمت أن الحس يخدع في هذا المقام.
ومنها أن يكون الناقلون لذلك الخبر المحسوس جمعًا يستحيل في العقل السليم
تواطؤهم على الكذب وانخداعهم بما أدركوه بحسهم وأن ينقل عنهم مثلهم في كل
طبقة من الطبقات وإنك ترى أكثر الناس يسمون الأمور المشهورة بينهم متواترة، لا
سيما إذا كثر تحدث الناس بها فإذا استقريت حلقات سلاسل الروايات وجدتها كلها
معلقة في آخرها بحلقة واحدة أو حلقتين أو ثلاث مثلاً.
وما انتهى إلى واحد أو آحاد فهو خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، وربما
رجحتَ الكذب في أكثر الغرائب المشهورة التي يسمونها متواترة.
الحق أن الإنسان متهم طبعًا بإذاعة كل غريب لا سيما إذا صادف هوى في
النفس أو طابق التقاليد والاعتقادات المسلّمة. فالحمد لله الذي جعل آية نبينا بينة
قائمة على وجه الدهر محفوظة من المعارضة والنقض مادامت السموات والأرض.
(المسألة الثامنة) إنك إذا بحثت في حال الذين يدعون الخوارق تجدهم
طلاب مال، وطلاب جاه وأنهم يقصدون بما يأتون استرهاب الناس بما يوهمونهم من
قدرتهم على إيذائهم متى شاءوا أو تعليق آمالهم بهم وإيهامهم أن بأيديهم مقاليد الرزق
ومفاتح الخير، أو الجمع بين الأمرين حتى إنهم جعلوا إرادة الله تابعة لإرادتهم! كما
قالوا في الكلمة المأثورة عن الربانيين منهم وهي:
(إن لله عبادْ، إذا أرادوا أرادْ) ! (هكذا يقولونها بالوقف على العباد على لغة
ربيعة) .
وينقلون عنهم من مثل هذه الجرأة على الله تعالى كلمات كبيرة وأشعارًا
وأغانٍ تختلب قلوب العامة. وفي كتب العقائد التي تُقرأ في الأزهر وغيره من
المدارس الدينية (كحواشي الباجوري على الجوهرة والسنوسية) أن خوارق
العادات تظهر على أيدي جميع أصناف الناس حتى الكفار والفساق، وتسمى إذا
صدرت من هؤلاء على نحو ما يحبون (استدراجًا) ؛ لأنها تغرهم بما هم فيه من
الباطل فيسترسلون فيه حتى لا مطمع في هدايتهم، وإذا ظهرت على يد مستور الحال
تسمى (معونة) . ويخصون اسم الكرامة بالخارقة التي تكون للمتمسك بالشريعة
اعتقادًا وتخلقًا وعملاً في الظاهر والباطن.
وإننا نقول لمن يأخذون أقوال هؤلاء العلماء بالتسليم: إذا كانت الخوارق تقع
على أيدي جميع طبقات الناس فلا يجوز الاستدلال بها على أن من تظهر على يديه
محق في اعتقاده أو مرضي عند ربه، وإنما يعرف ولي الله تعالى والصالح من عباده
بأمر واحد وهو مطابقة اعتقاده للحق المؤيد بالبراهين الصحيحة، وموافقته في أخلاقه
وسجاياه وأعماله السرية والجهرية لما أرشد إليه الدين والعقل من الفضائل والمنافع
العامة والخاصة بقدر الاستطاعة.
ونحن نرى العامة يبيحون لمن يجري على يديه شيء من الغرائب جميع
المنكرات، فهم يحكّمون خوارقه في حاله من الاعتقاد والعمل، والعلماء يحكّمون
حاله في خوارقه، فقد تناقض اعتقاد العامة مع اعتقاد العلماء ولا نرى أحدًا منهم
ينكر على الآخر ولا يجذبه إليه؛ لأن حرية الإسلام قد انقلبت إلى فوضى بعد
ذهاب منصب الخلافة وتولية الجاهلين بالدين أمور المسلمين!
(المسألة التاسعة) مَن رأى بعينه خارقة للعادة أو نُقلت إليه بطريقة التواتر
الصحيح وعرف أنها لم تكن خداعًا ولا تخييلاً وعلم أن من ظهرت على يديه ليس
من أهل التلبيس والشعوذة، ولا من طلاب المال والجاه واستمالة القلوب إلى الاعتقاد
به، وصعب عليه أن يحملها على وجه من وجوه التأويل الآتية - فإن له أن يقيسها
على ما عرف تأويله بأن يقول: إن كثيرًا من الغرائب وخوارق العادات المألوفة قد
كان يظن أنها خارجة عن نظام الخليقة وسنن الكون ومنتثرة من سمط الأسباب التي
تنتظم بها المسببات ثم ظهر أنها لم تكن شاذة عن تلك السنن الإلهية، ولا نادَّة من
دائرة الأسباب الكونية، وهذا الذي أراه الآن هو مثل تلك في ذاك الزمان، فيجوز
أن يظهر له مثل ما ظهر لها من السبب، وتزول الغرابة ويبطل العجب، وهذا
الرأي هو الذي عليه جميع العقلاء والحكماء في هذا العصر وإنهم ليتوقعون ظهور
علل جميع الغرائب التي حدثت في العالم حتى معجزات الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام.
(المسألة العاشرة) إذا فرضنا أن العلم أظهر لما يُؤثَر من المعجزات عللاً
روحانية وأسبابًا خفية فلا يَهِمَنَّ واهِمٌ أن ذلك قدح في النبوة، أو ظهور لبطلانها. كلا، إنه إن تحقق فلا يبعد أن يكون تحققه مظهرًا لحقية النبوة؛ كأن يتبين أن
الأرواح العالية تتصل بالعالم الأعلى وتستمد من عالمه الذي يسمى الملائكة قوة العلم
والهداية وقوة الأعمال الغريبة كإحياء الموتى وقلب العصا حية. فإن لم يتبين به
صدقها فلا وجه لظهور عدمه؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يدَّعون أن
الآيات التي يؤيدهم الله تعالى بها خارجة من سننه الظاهرة والخفية، وما كانوا
يدعون أن لهم سلطانًا في ملك الله تعالى يتصرفون فيه بمشيئتهم وإرادتهم متى
شاءوا وكيفما شاءوا وإنما كانوا يتبرؤون من حولهم وقوتهم ويسندون ما يؤيدهم الله
سبحانه به إليه، ويقولون: إنه واقع بإذنه، وقد كان اعتمادهم في دعوتهم
إلى الله على البرهان وكانوا لا يُعطون الآيات إلا بعد معاندة ومجاحدة من قومهم
وإلحاح في طلب آية لا يعرف مثلها عن البشر في أفعالهم السببية، وكان الله تعالى
يقيم عليهم الحجة التي يطلبونها، ولم تكن هي العمدة في إثبات الدعوة إلى الله وبيان
وحدانيته وقدرته وعلمه ووحيه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي
أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ
رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9 - 11) .
فهذه هي سنة الله في الأنبياء والأمم، يدعو النبي قومه إلى الله بالبينة وهي
كل ما يتبين به الحق من برهان عقلي ودليل إقناعي فيطلبون منه آية كونية فيتبرأ
من حوله وقوته إلى حول الله وقوته فيعطيه آية يخوفهم بها فيخضع له المستعد
لقبول ذلك ويعاند الآخرون فتحق عليهم كلمة العذاب قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ
بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59) فإذا فرضنا أن العلم أظهر سببًا معقولاً لآيات
موسى عليه السلام فهل ينافي ذلك أنها كانت تخويفًا لفرعون وقومه، وجاذبة لبني
إسرائيل إلى طاعة موسى بالإرهاب اللائق بأمثالهم في بلادتهم وجفوتهم؟
نعم، إن ما يتوقع كشفه بالعلم سيكون القاضي على بقايا دين لا يُحْتَج على
صحته إلا بالعجائب وليس لأصحابه برهان على عقائدهم، ولا سند متواتر في
صحة كتابهم، أولئك الذين ينعقون في كل بلاد إسلامية: إن القرآن لم يُثبت لمحمد
(عليه أفضل الصلاة والسلام) العجائب والخوارق فهو ليس بنبي ودعوته ليست
صحيحة، فالعلم الإلهي والشرائع الدينية والمدنية والحربية والسياسية وتكوين الأمم
وتربيتها من رجل أمي تربى يتيمًا في جاهلية جهلاء وأمة أمية لا يرونه تأييدًا إلهيًا،
وبرهانًا على صدقه قطعيًا، وإنما البرهان عندهم تلك الحكايات التي ينقلونها في
عجائب مقدسيهم وينقل الوثنيون عن كهنتهم أعظم منها.
(المسألة الحادية عشرة) يؤيد ما ذكرناه في معني آيات الأنبياء، وكونها لم
تكن براهين لإثبات الدين ما جاء في الباب الثالث عشر من تثنية الاشتراع آخر
أسفار التوراة التي بين أيدي اليهود والنصارى وهو:
(1)
إذا قام في وسطك نبي أو حالم حُلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة.
(2)
ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً لنذهب وراء آلهة
أخرى لم تعرفها ونعبدها.
(3)
فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم؛ لأن الرب إلهكم يمتحنكم
لكي يعلم هل تحبون الرب من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم.
وما جاء في الباب السابع من إنجيل متى وهو: (كثيرون سيقولون لي في
ذلك اليوم: يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك
صنعنا قوات كثيرة (23) فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا
فاعلي الإثم) .
وفي الباب (24) منه: (لأنه سيقوم مُسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات
عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا) .
فعلم من هذا أن اليهود والنصارى يجب أن يوافقوا علماء الكلام من المسلمين
على أن الخوارق الكونية ليست دلائل برهانية قطعية على أصول الدين وعقائده
وصدق دعاته كما أوضحنا ذلك في الدرسين 29 و30 من الأمالي الدينية (راجع
ص371 و688، م4) وقد اختلف المتكلمون في دلالة المعجزة على النبوة هل هي
عادية أو عقلية أو وضعية؟ وقد رجح الأخير بناءً على أنها بمعنى تصديق الله لهم
بالقول.
(المسألة الثانية عشرة) سبق في المقالات الأولى أن أصحابنا فرقوا بين
معجزة النبي وكرامة الولي بأن الأولى لا بد أن تكون مقرونة بدعوى النبوة، وطلب
المعارضة الذي يسمونه التحدي. والثانية لا تكون كذلك وبأن الأولى يجب إظهارها
لإقامة الحجة، والثانية يجب إخفاؤها خوف الفتنة، وزاد بعضهم كالقشيري من
أئمة الصوفية والسبكي في الطبقات الكبرى أن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة
كإحياء الموتى، وإنما تكون فيما دون ذلك كشفاء مرض ومكاشفة خلافًا للقول
المشهور (ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي) ! ، ولقائل أن
يقول جمعًا بين القولين: إذا جاز ذلك في تصور العقل فإنه ما وقع ولا يقع بالفعل.
(المسألة الثالثة عشرة) قال الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية
إن خارق العادة لا يتكرر فإن كل ما يتكرر يكون معتادًا سواء عرف سببه أو لم
يعرف. وهذا القول معقول وهو يقضي القضاء المبرم على تلك الزحوف والفيالق
من حكايات الكرامات التي يحارب بها العامة عقلاء الناس الذين لا يستخذون
ويخنعون لأولئك الجهال الذين يدعون الولاية بحجة أنهم في كل يوم يخبرون الناس
بالمغيبات ويبرؤون المرضى من الأسقام ببركاتهم ونحو ذلك. ويسمون هذا على
تكراره كل يوم كرامة وما هو بكرامة وإنما بعضه كذب واختلاق وبعضه واقع
بالأسباب التي سننبه عليها؛ ولكنه أسند إلى غيرها أو ادَّعى فيه الكرامة.
…
...
…
... (للمسائل بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوى صلب المسيح
(1)
جاء في الجزء الأخير من الجريدة البروتستنتية نبذتان في الطعن بالإسلام:
إحداهما محاورة في صلب المسيح، والثانية طعن في القرآن وقيح، وقد كانت هذه
المجلة تطعن في الإسلام وكتابه ونبيه مع شيء من الأدب ونراها في هذه المدة
هتكت ستار الأدب وتجاوزت حدوده، مع أننا كنا نرجو أن تزيد في تحريه بعدما
أسند تحريرها إلى نقولا أفندي روفائيل الذي نعرفه دمثًا لطيف الشمائل، ولكنها نشوة
الحرية في مصر، والشعور بضعف نفوس المسلمين في هذا القطر فَعَلا في
نفوس هؤلاء الدعاة إلى النصرانية ما لا تفعل الخمر، فصار الواحد منهم إذا نسب
الافتراء إلى سيد الأنبياء بالتصريح وكتبه ونشره يرى نفسه كأنه قد جلس على
كرسي ميناس الأول أو رعمسيس الأكبر.
ونحن نقول: إن الحرية تنفع الحق ولا تضره، وإن سوء الأدب يضر صاحبه
ولا ينفعه وإن الشعب الضعيف قد يقوى بشدة الضغط المعنوي عليه فيتنبه إلى
التمسك بحقه والدفاع دونه وعند ذلك تزهق الأباطيل. وإننا لم نطلع على ما ذكر
إلا بعد تهيئة أكثر مواد هذا الجزء من المنار فاختصرنا مقالة الخوارق والكرامات
وكتبنا بدل تتمتها هذه الكلمات، ونرجئ تفنيد أقوالهم في القرآن إلى الجزء الثالث
من المنار، ونخص كُليماتنا هذه في مغامز ذلك الحوار.
ذكرت المجلة أن الحوار كان في مكتبة البروتستان في السويس بين محررها
وبعض المسلمين، وأن المسلم احتج بالقرآن على نفي الصلب فأجابه المحرر:
هبْ أنك كنت معاصرًا للمسيح وممن يعرفونه شخصيًّا وحضرت في مشهد
الصلب خارج أورشليم فماذا كنت ترى؟ قال: كنت أرى - ولا شك - المسيح
مصلوبًا كما رآه الجمهور، قلت: وماذا يكون إيمانك ويقينك حينئذ؟ قال: كنت
أوقن وأؤمن وأشهد أنه صُلب حقًّا كما أبصرت بعيني وأبصر الجمهور في رائعة النهار.
قلت: افرض أنك فيما أنت مؤكد بهذا التأكيد عن صلب المسيح وإذا برجل
أمي من العرب - أولئك القوم المشركين - يقول لك: أنت المؤمن وقد مضى على
حادثة الصلب نحو سبعمائة سنة عبارة القرآن هذه: (وما صلبوه وما قتلوه)(كذا)
فهل تستطيع أن تكذب عيانك وعيان الجمهور وتصدق خبر هذا الأمي؟ وهل الخبر
أصدق من العيان؟ قال: إذا كنت أعلم أن هذا الأمي المكذب للصلب رسول الله
فأصدق خبره وأكذب عياني وعيان الجمهور؛ لأن الله أعلم منا بحقائق الأمور.
قلت: وهل علمت أنه رسول الله وأن هذه العبارة من وحي الرحمن لا من
تلقين الشيطان؟ قال: نعم علمت ذلك بدون شك، أجبت: كيف علمته؟ قال: إن
محمدًا صلى الله عليه وسلم لما بعث رسولاً أيده الله بالمعجزات الباهرة.
قلت: ليس لمحمد معجزة بدليل قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن
كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولكن هب أن له معجزة وأنت رأيتها فبأي
حق تُرجح حكم حسك في رؤية معجزات محمد على حكمه في رؤية صلب المسيح
أَوَ لست تعلم أنه إذا أرى اللهُ الناسَ شيئًا على خلاف حقيقته ثم كذَّب ما أراهم إياه لا
يعود الناس يصدقونه إذا أراهم شيئًا على حقيقته! تعالى الله عن ذلك التلاعب، وهل
هذا هو الدليل القرآني الذي تحاول أن تنفي به حقيقة شهدت لها الكتب المقدسة من
قبل ومن بعد، وأثبتها التاريخ والآثار وعاينها جمهور عظيم من كل أمة تحت
السماء؟ !
وعند سماعه حجتي لم يكن عنده رد عليها وأمسك عن الكلام وخرج هو
وأصحابه!
وعدا ذلك اعلم - أيها القارئ العزيز - أن عبارة القرآن: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) منقولة عن بقايا فرقة صغيرة من النصارى قد مرقت عن الحق
يقال لها (الدوسيتيين) الذين اعتقدوا بلاهوت المسيح تمامًا كما تعتقد النصارى
اليوم ومن البدء؛ ولكنهم أنكروا ناسوته وزعموا أن الجسد الذي ظهر به المسيح إنما
كان صورة فقط لا حقيقة له أشبه بالظل والخيال وأوَّلوا الآيات الإنجيلية التي تثبت
كون جسده كسائر الأجساد ما عدا الخطيَّة فقالوا عن نموه في القامة: ما كان ينمو
ولكن شبه لهم وعن تناوله الطعام قالوا: ما كان يأكل ولا يشرب؛ ولكن شبه لهم،
وعن نومه وسائر أعماله الجسدية المشار إليها في الإنجيل قالوا: لم تكن حقيقية بل
شبهت لهم وعن صلبه وموته قالوا: (ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم) فمحمد
إذ سمع مقالتهم بصلب المسيح صورة دون الحقيقة ولم يكن يعلم المبدأ الذي ترتب
عليه هذا القول بادر بالمصادقة عليه رغبة في تنزيه المسيح عن الموت المهين
ونكاية في اليهود، والدليل على ذلك أن مقالة التشبيه هذه لا يمكن أن تخطر مباشرة
على بال عاقل ما لم يكن لها مبدأ كالذي ذكرناه اهـ.
هذه هي المحاورة التي أوردها بحروفها ونقول له في الجواب:
إن الإسلام سيهدم الوثنية التي غشيت جميع الأديان السماوية حتى يرجع
الناس إلى الدين القيم دين التوحيد القائم على أساس الفطرة المطابق للعقل حتى
يعترف الناس أن الوثنية السفلى كعبادة الحجر والشجر مثل الوثنية العليا، وهي عبادة
البشر، فهو يهدم كل دين بالبراهين الراجحة، فكيف تقوى عليه هذه السفسطة
الفاضحة؟ !
إذا فرضنا أن أجوبة المسلم له كانت قاصرة في معناها على ما كتبه فلا شك
أن ذلك المسلم عامي غِرٌّ، والظاهر أنه زاد في القول ما شاء وحرَّف فيه ما شاء
كما هي عادتهم، وكما تدل عليه المبالغة في تأكيد الصلب من المسلم بناءً على ذلك
الفرض ككلمة (كنت أرى ولا شك) وكلمة (كما رآه الجمهور) وكلمة (كنت
أوقن وأؤمن وأشهد) ومن عادة المنكِر إذا أقر بشيء على سبيل التسليم الجدلي
الفرضي أنه لا يؤكده بمؤكد ما فكيف نصدق أن ذلك المسلم انسلَّ من هذه العادة
الطبيعية العامة وغلا كل هذا الغلو في تأكيد الصلب ثم انقطع عن المناظرة وتوهم
أنه رأى المسيح مصلوبًا حقيقة وحار في التطبيق بين مشاهدته، وقول مَن قام
البرهان على عصمته؟ ! ونحن نذكر للكاتب البارع جواب المسلم العالم بدينه عن
هذه المسائل.
أما الجواب عن السؤال الأول: فكل من يعرف الإسلام يقول فيه: إنني لو
كنت في زمن المسيح وكنت أعرف شخصه لجاز أن يشتبه عليَّ أمر تلك الإشاعة
كما اشتبه على غيري، فالنصارى أنفسهم لا ينكرون أنه وقع خلاف في الصلب، وأن
بعض الأناجيل التي حذفتها المجامع بعد المسيح بقرون كانت تنفي الصلب ومنها
إنجيل برنابا الذي لا يزال موجودًا رغمًا عن اجتهاد النصارى في محوه من الأرض
كما محوا غيره. وإذا كانت المسألة خلافية وكان الذين اختلفوا فيه ما لهم به من
علم إلا اتباع الظن فما علينا الآن إلا أن نأخذ بما قاله عالِم الغيب والشهادة في كتابه
المنزل على نبيه المرسل. وبهذا الجواب سقط السؤال الثاني وجوابه وكذلك السؤال
الثالث. ومع هذا نقول: إن السؤال الثالث غير وارد بحال فإنه ليس عندنا مسألة
مشاهَدة وجاءنا رجل أمي من المشركين يكذبها ولو وقع هذا لكذبنا المشرك الأمي
وصدقنا بصرنا.
وإنما عندنا مسألة تاريخية اختلف فيها الناس وظهر فينا نبي أمي باتفاق جميع
الأمم؛ ولكنه علمنا الكتاب والحكمة وهدم الشرك والوثنية من معظم الممالك بقوة إلهية
أعطاه الله إياها. ومما جاء به حل عُقد الخلاف بين الملل الكبيرة ومنها هذه العقدة
فوجب اتباعه في ذلك.
وعجيب من نصراني يبني دينه على التسليم بأقوال مناقضة للحس والعقل في
كتب ليس له فيها سند متصل ثم يحاول هدم كتاب سماوي منقول بالتواتر الصحيح
حفظًا في الصدور والسطور بمعول وهمي، وهو فرض أننا رأينا المسيح مصلوبًا وما
رأيناه مصلوبًا، والفرض الموهوم لا يمس الثابت المعلوم، يقول هذا النصراني: إن
التوراة التي يحملها هي كتاب موحى من الله تعالى وكله حق. وفي هذه التوراة
مسائل كثيرة مخالفة للحس والبرهان العلمي فكيف يؤمن بها؟ كيف يؤمن بقولها إن
الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) وهذه العبارة تفيد بتقديم المفعول
أنها لا تأكل غير التراب وقد ثبت بالمشاهدة أنها تأكل غير التراب كالحشرات
والبيض ولا تأكل التراب مطلقًا، وكيف يؤمن بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن
كلاً من هذه الوحدة وهذا التعدد حقيقي؟ وأمثال ذلك كثير في الكتابين.
وأما السؤال الرابع فجوابه أننا علمنا أن محمدًا رسول الله، وأن ما جاء به
وحي من الله بالبراهين القطعية، ومنها ما أشرنا إليه آنفًا في مقالات الكرامات
والخوارق (راجع المسألة العاشرة) ، وقررناه بالتفصيل في مقالات سابقة، وأثبتنا
آنفًا من نص توراتكم وإنجيلكم أن الآيات والعجائب الكونية لا تدل على النبوة وأنها
تصدر على أيدي الكذبة والمضلين.
هذا إذا سلمنا أن النبي e لم يؤتَ إلا آيات الكتاب العلمية، وما كان على يديه
من الهداية العملية وكلاهما يدل على نبوته كما تدل المؤلفات النفيسة في علم الطب
والمعالجات الناجعة النافعة على أن صاحبها طبيب بخلاف عمل العجائب، إذا جعل
دليلاً على أن صاحبه طبيب؛ لأنه لا ينخدع به إلا الجاهلون؛ لأنه لا علاقة بين
معرفة الطب وبين عمل الأعجوبة وللمسلم أن يقول: إن النبي الأعظم e قد أُوتي
آيات كونية كثيرة ولكنه لم يجعلها هو ولا أتباعه من بعده عمدة في الدعوة إلى دينه؛
لأن دلالة هذا النوع من الآيات أضعف ولأن خاتم النبيين جاء يخاطب العقول ويؤيد
العلم ويحدد الأسباب ويبطل السحر والكهانة والعرافة والدجل؛ ليرتقي الإنسان بعلمه
وعمله ولا يستخذي لعبد من عبيد الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) فهو مخصوص بالآيات التي تقترحها الأمة، فتعريف الآيات فيه
للعهد بدليل ما رواه أحمد والنسائي والحاكم والطبراني وغيرهم في سبب نزوله وهو
أن قريشًا اقترحت على النبي e أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن ينحّي عنهم الجبال
فيزرعوا! ولا يخفى أن هذه أسئلة تعنت وعناد وإلا فالآية أو الآيات التي أيده الله
تعالى بها بينة لم يقدروا على معارضتها ولا نقضها. ولما طلبوا آية غير معينة كما
هنا نزل قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) .
وأما قول النصراني: إن محمدًا أخذ إنكار الصلب عن الدوستيين. فهو من اللغو
الذي يعرض عنه المسلم؛ ولكننا نذكر بمناسبته خليقة من خلائق هؤلاء المعتدين من
دعاة النصارى وطريقتهم في الاعتراض على القرآن وهي أنهم يقولون فيما ورد
فيه عن الأنبياء والأمم مما هو معروف ويعترف به أهل مذهبهم: إنه أخذه عنا
وليس وحيًا من الله. وفيما هو معروف عند غيرهم ولم يوافق أهواءهم: إنه مأخوذ
عن الطائفة الفلانية الكاذبة الضالة المبتدعة وليس وحيًا! وفيما لا يعرف عندهم ولا
عند غيرهم كالأمور التي جهل تاريخها واندرست رسومها: إنه غير صحيح ولا
وحي؛ لأنه لا يعرفه أحد، ولا يخلو الكلام في الأمم من هذه الأقسام، والنبي الأمي
لم يتعلم من أحد مذاهب الأمم وآراء الفرق المختلفة؛ لأنه لم يكن في بلاده من
يعرفها؛ ولأنه لم يكن يعرف غير لغة قومه الأميين الجاهلين؛ ولأنه لم يوافق طائفة
في كل ما تقول وتَدين بل اتبع الوحي المنزل عليه من الله والله علام الغيوب.
وإن لنا في هذا المقام تنبيهًا آخر: وهو أن اعتداء هؤلاء المعتدين على الإسلام
وتصدينا للرد على أباطيلهم عقبة في طريق الدعوة إلى الاتفاق، وإزالة الضغن
والشقاق والتعاون على عمارة البلاد؛ فإن المسلمين يعلمون أن هؤلاء الطاعنين في
الإسلام مستأجَرون من قِبل الجمعيات الدينية؛ لتشكيك عامة المسلمين في دينهم
وإهانة كتابهم ونبيهم، وأن هذه الجمعيات تنفق على دعاتها في كل سنة أكثر من
ثلاثة ملايين جنيه لأجل هذا الغرض، ونتيجة هذا أن النصارى بمجموعهم لا يمكن
أن يرضوا عن الأمة الإسلامية حتى تتبع ملتهم؛ فالذنب في كل عداوة وشقاق على
النصارى دون المسلمين.
وأما ردنا عليهم وتصدينا لبيان أباطيلهم فلا ينبغي أن يكون له تأثير سيئ في
النصارى؛ لأنه دفاع لا اعتداء فإن رد الشبهات الواردة على الدين فريضة دينية على
جميع المسلمين إذا لم يقم بها أحد كانوا جميعًا عصاة لله تعالى فاسقين عن أمره،
فنحن ندفع الحرج عن نفسنا وعن جميع المسلمين في هذه البلاد بحكم الاعتقاد
المالك لروحنا والمتصرف في إرادتنا وهم ليسوا كذلك.
ومن البلاء أن هؤلاء الطاعنين لا يؤثر فيهم البرهان؛ لأنهم لا يطلبون الحق
وإنما يطلبون المال فإذا استطعنا إسكات غيرهم ممن يكتب لمنفعة شخصه فلا يتيسر
لنا إسكاتهم لأن منفعتهم الشخصية مرتبطة بهذا الطعن؛ ولذلك نضطر إلى الرد
عليهم دائمًا عملاً بالواجب المحتم علينا في الدين فلا يلومنا عقلاء النصارى الذين
عرفوا مضرة التعصب الذميم بل يجب عليهم أن يساعدونا عليهم بتخطئتهم في
سيرهم. وإن كانوا راضين منهم فهم أنصارهم وأولياؤهم. والله وليّ المؤمنين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
معجزات نبينا عليه السلام
(س) علي أفندي مهيب بتفتيش عموم التلغرافات بمصر: أرجو أن تبينوا
لنا كل المعجزات الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن الشريف؛ لأن
الناس في اختلاف كثير فيما جاء عن معجزاته عليه الصلاة والسلام وسيكون قولكم
هو الفصل في هذا الموضوع. جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
(ج) إن آيات النبوة أعم من المعجزات، فمن آيات نبوته بشائر الأنبياء
السابقة وهي لا تسمى معجزات، وإن في مكتبة الفاتكان برومية إنجيلاً مكتوبًا بالقلم
الحِمْيَري قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه هذه العبارة بحروفها:
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6) ، ثم إن معجزة القرآن
تتضمن معجزات كثيرة، كما علم من مباحث المنار السابقة، وسنبين ذلك في
الأمالي الدينية والرد على شبهات النصارى.
والظاهر أنكم تسألون عن المعجزات الكونية لا العلمية والأدبية، وهذه كثيرة
جدًّا ومستفيضة؛ ولكنها لم تُجعل عمدة في الدعوة إلى الإسلام وطريق إثباته للحكمة
التي بيناها في مقالات متعددة آخرها المقالتان الثامنة والتاسعة من الكرامات
والخوارق وأوضحها مقالة (الآيات البينات على صدق النبوات) في المجلد الرابع
ولهذا لم يعتنِ بنقلها الصحابة والتابعون لتنقل عنهم بالتواتر، وإنما اشتهرت ثم
تواترت من بعدهم وتنتهي أسانيدها إلى أفراد فنقْلها شبيه بنقل معجزات المسيح
عليه الصلاة والسلام من حيث استفاضت على ألسنة المتأخرين ولم تؤْثر إلا عن
أفراد من أهل القرآن الأول.
إلا أن نقل معجزات نبينا الكونية أضبط وأصح من نقل معجزات المسيح
عليهما السلام لأن لها أسانيد متصلة، أشخاصها معروفون؛ إذ وضع لهم كتب
مخصوصة في تاريخهم؛ ولذلك ترى المحدثين يقولون: إن سند هذه المعجزة صحيح
وسند هذه ضعيف وهذه ثابتة وهذه مكذوبة أو واهية؛ لأن في سندها فلانًا الذي كان
يكذب في بعض الأحيان، أو فلان الذي كان كثير النسيان، وليس للنصارى مثل
هذه الأسانيد المتصلة، أما استقصاء ما كان سنده صحيحًا أو حسنًا وما كان مختلفًا
فيه لترجيح أحد الوجهين فليس جواب السؤال بمحل له على أنه غير ضروري
ويتوقف على مراجعة جميع ما نقل بأسانيده وتاريخ رجالها، وهو كثير جدًّا حتى إن
بعض المتأخرين ألَّف في المعجزات كتابًا يدخل في ثمان مائة صفحة ونيف.
ومن المروي في الصحيحين خبر انشقاق القمر روياه كغيرهم عن جماعة من
الصحابة، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق ونقلوه
بالتواتر، وإن لم يذكروا سببه بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم وأن القمر لا
يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع، وإن بعض المشركين لما
قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفَّار وانتظروهم جاؤوا فأخبروا بأنهم
رأوا القمر من ليلتهم تلك قد انشق ثم التأم وبأنه يجوز أن يكون رآه غيرهم وأخبر
به فكذبه من أخبرهم أو خشي أن يكذبوه فلم يخبر، وليس بضروري أن يراه في تلك
اللحظة علماء الفلك على قِلتهم في الجهة التي رؤي فيها. ولكنني لا أذكر أن أحدًا
أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم لم يعطِ الآيات المقترحة؛ لأنها سبب نزول العذاب بالأمم إذا لم يؤمنوا.
وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب بكفار قريش ولا أذكر لهم أيضًا جمعًا
بين آية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ، وآية {وَمَا مَنَعَنَا أَن
نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولا بد من تأويل
إحداهما وقد أوّل بعضهم الأولى فقط وليس هذا المقام مقام التطويل في هذه المباحث.
ومن المعجزات الواردة في الصحيح أيضًا إطعامه عليه السلام النفر القليل من
الطعام القليل جدًّا رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر ومن حديث أنس وقد وقع
ذلك مرات كثيرة. ومنها نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى كفى
الجيش وقد تكرر هذا أيضًا وبعض رواياته في الصحيحين. وقالوا: إن هذه المعجزة
أعظم من انفجار الماء من الحجر على يد موسى عليه السلام فإن من شأن المياه أن
تنبع من الأحجار، ومنها الإخبار بالغيوب في وقائع كثيرة جدًّا وبعضها في
الصحيحين وغيرهما كقوله: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) قال السيوطي في
الخصائص: هذا متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر وقد قتلته فئة معاوية عند
خروجها على علي أمير المؤمنين عليه السلام ولما ذكر لهم الحديث لم ينكروه؛
لأن منهم مَن كان يرويه قبل هذه الفتنة كعمرو بن العاص، وإنما أوَّلوه بتأويل
سخيف فقالوا: إنما قتله مَن أخرجه ويلزم من هذا أن يكون النبي عليه الصلاة
والسلام هو القاتل لعمه حمزة ولسائر أصحابه الذين دافعوا معه عن الدين، وتُروى
هذه الحجة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
ومن اللطائف في هذا الباب ما رواه ابن سعد في الطبقات من طريق عمارة
بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة الجمل وهو لا يسل سيفًا، وشهد صفين وقال:
أنا لا أضل أبدًا حتى يقتل عمار، فأنظر مَن يقتله؛ فإني سمعت رسول الله e
يقول: (تقتله الفئة الباغية)، قال: فلما قتل عمّار، قال خزيمة: قد بانت لي
الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتى قُتل.
ومن قبيل حديث عمّار قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن عليه السلام:
(ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) رواه أحمد
والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني عن أبي بكرة عن الحسن
ومع هذا قد بحث بعضهم في سماع أبي بكرة عن الحسن؛ لأن بعض المحدثين
أنكره، والصحيح أنه سمع والمثبت مقدم على النافي.
ومنها حنين الجذع الذي كان يخطب عليه رواه البخاري وغيره، وقال التاج
السبكي: إنه متواتر كانشقاق القمر، روي عن نحو عشرين صحابيًّا من طرق
صحيحة وتفصيل للوقائع التي كانت فيها هذه الآيات يطول فليطلب من مواضعه
ومنها إبراء كثير من العاهات والأمراض باللمس أو التفل.
ولو أردنا أن نذكر طعن المحدثين في بعض أسانيد المعجزات التي لم تصح -
كقول ابن كثير في حديث إحياء البنت الميتة: إنه منكر جدًّا. وقول ابن الجوزي في
حديث نطق الحمار: إنه موضوع. وقول المُزني في حديث نطق الضب: لا
يصح لا سندًا ولا متنًا.. إلخ - لكانت عبرة للموافق والمخالف في تحري المسلمين
وتثبُّتهم في نقل معجزات نبيهم.
فليأتنا المخالفون بضبط كهذا الضبط وأسانيد كهذه الأسانيد فيما يروون عن
رسلهم ومقدسيهم ثم ليتبجحوا على عامتنا بعجائبهم وغرائبهم.
وفرق أكبر من هذا بيننا وبينهم، وهو أنهم إذا عجزوا عن إثبات عجائبهم لا
يبقى لهم شيء ونحن عندنا آيات الله الكبرى (القرآن) والعلم الأعلى من الأمي وما
يتبع ذلك وبهذا القدر كفاية.
_________
الكاتب: مؤرخ عثماني
الدولة العلية وماليتها
بقلم المؤرخ العثماني صاحب التوقيع الرمزي
إن بالمال قوام الدول وعزها وقد كثر الكلام في إصلاح الدولة العلية ما كان
منه وما يجب أن يكون، وأكثر المتكلمين في ذلك على جهل بحقيقة الحال فرأينا أن
نكتب في مالية الدولة وأحوالها كتابًا نستقي مسائله من الموارد الرسمية.
لا يظن ظانٌّ أن الخلل في مالية الدولة حديث بل هو قديم يصعد تاريخه إلى
أواسط حكم السلطان عبد العزيز، وإنما زاد في الأدوار الأخيرة الإسراف والترف من
جهة وسوء سلوك المستخدمين بتحصيل الأموال من جهة أخرى، فسرى داء الخلل
في سائر فروع الحكومة حتى استعصى الداء وعز الدواء.
وأضحت الخزينة العثمانية يضرب بها المثل في الإفلاس، وصارت تؤخر دفع
رواتب المستخدمين أشهرًا متصلة فكان لذلك ضرر عظيم حتى على سياسة
السلطنة؛ إذ لو كانت الحكومة تدفع رواتب المستخدمين في أوقاتها كباقي
الحكومات المنظمة لما كان الظلم وصل إلى هذا الحد، ولما كان ظهر هذا التألم
العام والشكوى من الحكومة وأعمالها ولما كان للأجانب منفذ للتداخل في شؤون الدولة
الداخلية ويا ليتهم يتداخلون لمصلحة جميع رعايا الدولة بدون تفريق بين الملل
والأجناس إنما يتداخلون انتصارًا لفئة دون أخرى، فإذا كان المستخدم لا يقبض
راتبه في السنة سوى شهرين أو ثلاثة شهور فلا بد أن يظلم العباد لسلب أموالهم حتى
يسد رمقه ورمق عياله وأولاده، على أن أكثر صغار المستخدمين في الحكومة
العثمانية هم من أفقر الناس لا يملكون شروى نقير سوى الراتب الرسمي الذي
تجده قليلاً جدًّا بالنسبة إلى الوظيفة.
وكثيرًا ما نسمع بأن الحكومة ألفت لجنة لإيجاد طريقة تعطي بها الرواتب
لأربابها، وبعد أن تعقد تلك اللجنة بضع جلسات وتنشر بعض شذرات عن أعمالها
في الجرائد يختفي أثرها ولا نعود نسمع لها ذكرًا حتى تنقضي شهور فتزف الجرائد
حينئذ إلينا بشرى تأليف لجنة أخرى بناءً على إرادة سنية ولم نَرَ حتى الآن نتيجة
تلك اللجان الكثيرة العدد.
تقسم دواوين الحكومة من حيث دفع الرواتب في عاصمة الدولة إلى ثلاثة
أقسام:
قسم تغطي رواتب مستخدميه كل شهر بصورة منظمة مثل نظارة البوستة
والتلغراف وأمانة الرسومات (الجمارك) وما يتبعها من الفروع ونظارة الدفتر
الخاقاني وصندوق الدين العثماني والبنك الزراعي؛ ولهذا السبب يتهافت طلاب
الاستخدام على الدواوين المذكورة تهافت الجياع على القصاع.
وقسم يقبض ثمانية أو تسعة شهور في السنة ومن هذا القسم وزارة المعارف
ووزارة العدلية (الحقانية) وأمانة الشهر (مشيخة المدينة) .
والقسم الثالث لا يقبض إلا أربعة شهور أو أقل مثل وزارة المالية والخارجية
والداخلية ويستثنى من هذه مصلحة النفوس ذات الريع؛ لأنها تدخل في القسم الأول
وشورى الدولة ونظارة الضبطية ومستخدمي المابين الهمايوني ووزارتي البحرية
والحربية، وهذه الأخيرة هي أسوأ حالاً من جميع الوزارات لكثرة المطالب عليها
واتساع نفقاتها وكثرة عدد الضباط العظام.
أما الحالة المالية في الولايات، فهي أسوأ منهما بالعاصمة؛ لأن الولاة
يضطرون إلى امتثال الأوامر التي تصدر دائمًا من الآستانة قاضية بإرسال كل ما
جمع عندهم من الدراهم قليلاً كان أو كثيرًا إلى الآستانة، وإذا لم يتمكن الوالي من
سرعة الامتثال يأتيه التوبيخ وراء التوبيخ حتى يعزل من وظيفته شر عزلة؛ فلذا
ترى الولاة يتسابقون إلى إرسال الدراهم إلى العاصمة ولا يبقون عندهم لدفع
الرواتب أو للمشروعات المفيدة شيئًا.
وقد كانت الحكومة في السنين الأخيرة اتخذت طريقة زعمت أنها ترضي
الناس فما كان منها اتساع دائرة الخلل اتساعًا عظيمًا واشتداد الأزمة المالية وهذه
الطريقة هي إرضاء كل من يشكو أو يتألم من شيء أو ينتسب إلى أحد العظماء
بوظيفة عضو في أحد المجالس أو بإعطائه راتبًا كبيرًا يقبضه وهو جالس في منزله
والإنعام بالرتب ذات الرواتب الكبيرة جزافًا بدون تفريق بين المستحق وغير
المستحق. والجدول الآتي المستخرج من سجلات الحكومة العثمانية الرسمية لسنة
1218 هجرية يظهر صدق ما نقول.
* * *
شورى الدولة
هذا المجلس ينقسم إلى ثلاثة فروع: الأول دائرة الملكية، والثاني دائرة
التنظيمات، والثالث دائرة المحاكمات.
ودائرة المحاكمات هذه تنقسم إلى محاكم ابتدائية استئنافية ويحاكَم فيهما أكابر
المستخدمين الذين يرتكبون ما يحط بقدر وظيفتهم، أو يخل بمواد القانون.
وكان الأعضاء في مجالس شورى الدولة الثلاثة قبلاً لا يتجاوزون الأربعين
أما الآن فإن عددهم يزيد على مئة وخمسين بينهم 7 برتبة وزير و5 برتبة بالا
وواحد برتبة صدر روم إيلى وواحد برتبة صدر أناطولي و20 برتبة أولى من
الصنف الأول و12 برتبة روم إيلي بكلر بكي و20 برتبة أولى من الصنف الثاني
والباقون من أصحاب رتبة المتمايز فما دونها.
ولا يخفى أن عضو شورى الدولة الذي هو أعظم مجالس الدولة الحائز لرتبة
وزير أو بالا أو روم إيلي بكلر بكي لا يمكن أن يكون راتبه أقل من مائة
وخمسين جنيهًا في الشهر وليس بين أعضاء هذا المجلس من يقبض أقل من
عشرين جنيهًا في الشهر فإذا فرضنا لكل عضو في المجلس - ومنهم أصحاب
الرتب السامية وهم الأكثرون - 40 جنيهًا شهريًّا يكون المجموع 6000 جنيه، هذا
أقل ما يمكن تصوره للأعضاء ويزيد عليه رواتب المستخدمين من الرؤساء والكُتَّاب
وغيرهم.
* * *
وزارة المعارف
يوجد في وزارة المعارف مجلسان يقال لأحدهما مجلس المعارف والآخر
يسمى (أنجمن تفتيش) وكان هذا قبل أن تعطى الوظائف جزافًا يتألف من بضعة
أعضاء مقتدرين ذوي أهلية واستعداد لإدارة معارف السلطنة بخلاف ما نرى عليه
أعضاءهما الآن، ولا نخوض غمار هذا الباب؛ لأنه ليس من خصائص رسالتنا هذه
وربما عدنا إليه في رسالة أخرى.
أعضاء المجلسين اليوم هم خمسة وستون ماعدا الرؤساء وكتبة أقلامهما
وراتب كل منهم لا يقل عن 15 ج ولا يزيد عن 50 ج في الشهر فإذا فرضنا لكل
منهم 10 جنيهات يكون المجموع 650 ج شهريًّا ولا يدخل في هذا الحساب رواتب
الكتبة والرؤساء.
والمدارس التابعة لوزارة المعارف كثيرة جدًّا وأغلبها مجانية وهذا هو سبب
الإقبال عليها. ويوجد في الآستانة وحدها 42 مدرسة تتبع الوزارة المذكورة منها
ست عالية، وهي المكتب الملكي ومكتب الحقوق ومكتب الطب الملكي ودار الشفقة
ودار المعلمين ومدرسة الفنون الجميلة وخمس تجهيزية، واحدة منهن خاصة
بالتجارة. وللبنات ثلاث عشرة مدرسة واحدة منها عالية وهي مدرسة المعلمات
وثلاث للصنائع وتسع ابتدائية.
أما مدرسة الصنائع للذكور فإنها تتبع ديوان الأشغال كما أن كثيرًا من
المدارس عالية وتجهيزية وابتدائية تتبع ديوان المعارف العسكري التابع لوزارة
الحرب، وسيجيء بيانه في الكلام على الوزارة المذكورة. ولهذه الوزارة في أغلب
عواصم الولايات وبعض حواضر الألوية (اللواء في الولايات كالمديرية في مصر)
مدرسة تجهيزية ماعدا بعض الولايات الآسيوية ومدارس ابتدائية وأما مراكز
القضاء فقلما يوجد فيها مدارس.
والتعليم في المملكة العثمانية إجباري قانونًا لا عملاً وكل من لا يعلم ابنه أو
بنته يعاقَب حسب المادة الواردة في نظام المدارس فيجب - والحالة هذه - على
الدولة أن تعتني اعتناءً تامًّا بإدارة هذه المدارس المهمل أمرها وتختار لها أساتذة
مقتدرين ذوي كفاءة تامة، وتحور بروجراماتها وتجعلها على أساس متين كمدارس
أوربا مع العناية بالعلوم الدينية والعقائد وتنفذ أحكام القانون القاضي بإجبار الناس
على تعليم أولادهم وتنشئ مدارس ابتدائية في كل مركز قضاء ومدارس تجهيزية
في حواضر الألوية وتكثر من مدارس الصنائع والتجارة في عواصم الولايات ولا
بأس من فرض مبلغ جزئي على تلميذ نظير أجرة التعليم ليساعد على نفقات
المعارف.
ولهذه الوزارة حصة معلومة من أعشار الدولة قدرها اثنان في المئة غير
إيراداتها الخاصة بها. فلو أُنفقت هذه الأموال في الوجوه الموضوعة لها لعادت
على الأمة بالنفع العظيم.
…
...
…
...
…
...
…
... (العثماني)(م. ق.)
…
(لها بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب من صديق إلى صديق في هذه الديار
يصف له فيه حال بعض الأقطار
سيدي الأخ.. إذا تذكرت مصر فلا أذكرها إلا بك، وإذا جنحت إليها فلا أجنح
إلا إليك، قلبي يهواك، ولساني يذكرك؛ لأنك مطلب الروح ومبتغى النفس. فإن
كرمك وحلمك وفضلك وعلمك ونبلك وفخرك - تلك نياشين المجد - جعلت لك سناءً
يخطف أبصار عشاق الخلال الكاملة وإن لم يروك فما بالك مولاي وأنا ذاك الذي مَلَّكك
قلبه على بينة بعد درس جدك ونشاطك وعزمك وحزمك وعفتك ونزاهتك وغيرتك
على دينك، وشدتك في الحق ونزوعك إلى نصرته خلال تفوق عدد رمال الدهناء،
وتربو على نجوم السماء، فكيف أتبين منك هذه الخلال العظيمة وأستطيع مع البعد
سلوًا؟
هذا وإنني بين قوم تتعالى نفوسهم عن الحق، وتتجافى جنوبهم عن مضاجع
الصدق، لا هم ماتوا فاستراحوا، ولا هم انتبهوا فأراحوا، غشيهم طائف من
الجهل جعلهم يخبطون في بعضهم بعض [1] كالذي يتخبطه الشيطان من المس حتى
اضطررت أن أعتصم بحبل العزلة وأنزوي في ركن بيتي على خلاف عادتي التي
تعرفها. أستقذر - والله - مخاطبة واحد من هؤلاء القوم لما هم عليه من الغباوة
الزائدة والجهل المطبق والحمق الشديد والعياذ بالله تعالى فلا بلاهة المصري، ولا
غباوة السوري ولا استبداد التركي ولا جهل الأعجمي [2] ولا غطرسة الأفغاني بأشد
على نفوس العقلاء من تمخرق هؤلاء.. [3] فإن أولئك القوم مع ما هم عليه قد
نجب فيهم أحرار أبرار يفرد واحدهم بأمة كاملة فحيا الله بلادًا وسقيًا لها ورعيًا
تنجب أمثال عبده وعثمان [4] والكواكبي ورفيق ورشيد وكمال ومدحت
وعالي وفؤاد والباب وقرة العين وجمال الدين وسحقًا لأمة
…
[5] .
مولاي: لا يستطيع القلم أن يصف لك ولو شيئًا قليلاً مما رُزئتْ به هذه البلاد
من نكد الطالع وجهل بأمر وطيش حلم وافن رأي بهذه الورقة الصغيرة؛ ولكن لا
أظنه ينحل عليك ببيان رؤوس منها ومنها تعلم البقية.
(لنا علماء) ولكنهم جاهلون متكبرون متغابنون متغابون وهم آلهتنا (يريد
أنهم عبَّدوا الناس باستعلائهم) ، حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثهم خاصة بعجائب
التكايا وكرامات القبور، وعلمهم كعلم آلهة الآشوريين لا يزيد ولا ينقص ولا يتجدد
ولا ينعدم وهو محصور في تصريف: أكل يأكل أكلاً! وفي إعراب هذه الجملة:
ليت لي قنطارًا من الذهب فأحجَّ به، وهو عندهم من تمني ما لا طمع فيه أو ما فيه
عسر، وفي اكتشاف متعلق الجار والمجرور في إعراب البسملة، وفي فرض وجه
للحكم في عدة زوج الممسوخ هل تعتد عدة طلاق أو عدة وفاة، وفي جواز تزوج
الجني بالإنسية والإنسي بالجنية أو عدمه، وفي اختراع نكت في التفسير في معنى
تفاخر فرعون بجريان الأنهار من تحته في حكاية القرآن فغاصت أفكارهم في النهر
ولم يوقف لهم فيه على أثر! !
إذا قلت لهم: إن هذه أوهام في أوهام زمجروا واستكبروا ومزقوا ثيابهم
وطمبروا [6] وصخبوا ونعبوا وبكوا وانتحبوا وقالوا: هذا آخر الزمان، ووشوا
عنك أنك كافر، لا تؤمن باليوم الآخر، واستعانوا عليك بخلطاء العامة فيسكتونك
إما طوعًا وإما كرهًا - طوعًا إذا وثقت بعجزك عنهم وكرهًا إذا وثقوا بقدرتك عليهم
فاستعملوا معك سلطة الحكومة [7] التي لا ينحل بها عليهم الدخلاء - وربما كان ذلك
من مقتضى سياستهم؛ لأنهم لا يودون أن يتبصر الناس ولا أن يرفعوا رؤوسهم من
شبكة الاستبداد. وهناك يتحكم القضاء. ويجري البلاء. وأين الصابرون الذين
يوفون أجرهم بغير حساب؟ !
(لنا حكام) ولكنهم أميون جبناء متخاذلون إرادتهم شريعة قاهرة، وحكمهم
سلطان نافذ، لا رادّ لقولهم ولا ممانع لحكمهم، فالحاكم منهم يجمع في شخصه
ثلاث سلطات فهو مشرع منفذ مراقب كأنه المسيح عند النصارى يجمع في شخصه
ثلاثة أقانيم. أستغفر الله من أين للمسيح المقهور أن ينال سلطة من السلطتين
الأخيرتين ولو نالها لتمكن بها على الأقل من تخفيف وطأة أكليروس اليهود. آهٍ!
دعني أنفث الآهات حتى يفرغ الصدر فإن الناس عندنا أرقاء وأسواق المحاكم
أسواق الاسترقاق، فلا قانون يزَع ولا مسؤولية تردع.
حكامنا إما قضاة شرعيون، وإما حكام سياسيون فالقضاة الشرعيون يتولون
الخطة بعد دراسة تلك الكتب القديمة التي أخنى عليها الذي أخنى على لبد فيعطي
أحدهم راتبًا قليلاً فيمد يده بسائق الضرورة إلى الرشوة ويستعمل الغبن في وظيفته
ويجور، ويعبد الدرهم والدينار لا يكتفي بأحدهم فلا يمر عليه زمن قليل حتى تتعدد
مركباته بعدد أنواعها وتكثر قصوره بعد مواقعها ويكثر خدمه وحشمه وعبيده
وجواريه فلا الخديوي في مركبه، ولا السلطان في موكبه، بأعظم من قاضٍ شرعي
في بلاد إذا تمشَّّى في الأسواق أو دخل المحكمة. هذا والعامة والخاصة يعتقدون أنهم
سجادة الرسول وشرع المصطفى، وأن ما يحكمون به في الأرض يبرم في السماء
وإذا تظلم منهم مظلوم تقوم على رأسه القيامة، وتأتي عليه الآخرة بعذابها. أولئك
يشيعون أنه مارق من الدين لا يرضى بالشرع ولا يقبل حكم الله فيه فتكفره العامة -
وأنت أدرى بعاقبة هذا التكفير -. على أن أهل الحل والعقد لا يجدونه نفعًا [8]
ابتغاء مرضاة القضاة حتى يفشو الاختلال في الشريعة وتأنف الأمة من نفسها التقاضي
لدي حكامها وتطلب استبدال الشريعة بالقانون [9] .
وليس رجال محاكمنا الأهلية بأقل خطرًا على الأمة من قضاة الشريعة؛ لأن
مصدر تربيتهم واحدة.. فأعمالهم بالطبع تكون متقاربة متشابهة ولا يكون هناك
فرق بينهم اللهم إلا في الشكل فإن القاضي الشرعي يتردى بأردية الإهمال والكسل،
والآخر يلبَس لبوس النشاط والعمل، وهذه غاية الفرق بينهم.
أما الأحكام: فالقاضي الشرعي يرجع فيها إلى قواعد مشتتة متضاربة متخالفة
يطبقها على القضايا بحسب ما يراه، والقاضي الأهلي يعتمد فيها العادات
والاصطلاحات التي جرت عليها السياسة السالفة بدون أن يكون لديه قانون يرجع
إليه، أو دستور يعول عليه، فالطريقة الأولى كسيت صبغة الشرع اسمًا، وهذه
أعطيت لقب القانون رسمًا، وفي الواقع لا شرع ولا قانون.
(أحداثنا) هم مطمح آمالنا وزهرة حياتنا وهم ينقسمون إلى قسمين: قسم
عامة وهم لا كلام عليهم. وقسم خاصة وعددهم لا يزيد على رُبع! عُشر! تسع!
ثمن! سدس! خمس! معشار الأربعين من مجموع الأمة وهم ينقسمون على أنفسهم
إلى قسمين: قسم تربى في المعهد الديني.. وأهل هذا القسم عبارة عن مختصر
أزهري فهذا أيضًا لا كلام عليه. بقي الكلام على القسم الثاني وهو المراد من قولنا:
(أحداثنا هم مطمح آمالنا) : فإن هذا القسم مع قلة عدده وضعف مدده ليس بكامل
التربية، هذا إن لم نقل إنه لا تربية له؛ لأنه لم يتعلم شيئًا يرقي ذهنه عن أفراد قومه
وغاية ما تلقنه من التربية قشور عارية عن اللب كدرس اللغة الأجنبية ومبادئ تقويم
البلدان وقواعد من الطبيعة وشيءٍ من الحساب، وكل ذلك لا يخرج عن درس الأشياء
التي يتلقاها تلامذة المدارس الابتدائية في البلاد المتمدنة ولا حظ له من تعلم اللغة
العربية مطلقًا حتى يعرف أن لديه لغة وافرة المواد كثيرة المصادر لديها من ألفاظ
موسعات العلوم ما يكفي لتلقيح نهضة جديدة إذا أفرغت في قوالبها الحقائق المكتشفة
والاختراعات المتجددة. وعلى فرض وجود من درس هذه اللغة فإن معلوماته لم
تتجاوز الحلقة الضيقة من التعليم الابتدائي فضلاً عن الثانوي والعالي فهل معرفته
لها والحالة هذه تجدى نفعًا؟ !
فهذا القسم الذي نظن فيه خيرًا ونعلق عليه آمالاً هو من العامة ولا شك (وأي
نفع من العامة؟ !) وإن ضرره أكبر من نفعه. ما ظنك بشاب دخل المدرسة ولا
يدري أبواه ما سيتعلمه فيها، وما سيكون من أمره فخرج منها متعودًا التأنق في
الملبس والمأكل والمشرب وحب الرياضة مع العوانس والأبكار والجلوس في
المحلات العمومية للمقامرة والتسلي بالمشروبات الغولية، وذلك بلا ريب يستلزم
كثرة الأموال واتساع نطاق المكاسب فإن كان غنيًّا بعثر المال واستنزف الدينار
استنزافًا، وإن كان فقيرًا أهراق ماء الحياء وعبث بشرفه واستهان بناموسه وراء
دريهمات يسد بها حاجات تربيته الجديدة الناقصة. ومن يهُن عليه العبث
بشرف نفسه فشرف أمته لديه أهون ولا شك.
وهذا لا يعزب عنك أن هذه المفقِدات لجامعة الأمة والمحللات لعناصرها إذا
كانت تدفعها يد ماهرة كيد الدخلاء فإنها تلم بها من طرق مجهولة كثيرة الشعاب
وخطرها متوقع لا محالة. وهذه الأخطار الحافة بهؤلاء القوم المساكين ليست بنت
زمن ولا منشأ سبب بل هي نتيجة اشتركت في تربية مقدماتها الأزمان والأسباب
وصعب على عاجز مثلي أن يُفهم هؤلاء القوم خطر موقفهم مادامت النفس غير
قابلة والقلوب واهنة والبصائر مطموسة والحواس مغشوشة وثائرة الجهل قائمة،
فعبثًا أحاول إصلاح ما فسد من أخلاقهم وتجديد ما اخلولق من خلائقهم.
ما يجدي الإصلاح في قوم يعتقدون أن كل كلمة طيبة (هرتقة) وكل كلمة
حادة زندقة، وكل خلق جدير كفر، وكل سعي إلى الأمام خطوة من خطوات
الشيطان، ماذا يجدي الإصلاح في قوم ينتظرون خروج الدابة وقيام الدجال وظهور
المهدي، ونزول المسيح وطلوع الشمس من مغربها ونفخة إسرافيل، وهذه
أشراط الساعة والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق! ماذا يجدي الإصلاح في قوم
خلقوا أشرارًا فجارًا فساقًا ضُلالاً كتب الله عليهم أن يكونوا عائثين في الأرض مفسدين
في السماءلإنشاء دولة وتكوين أمة أهون على نفوس العانين بالإصلاح من
إصلاح أمة من الإسلام!
عفوًا يا مولاي فإني قد أطلت عليك وحمَّلتك همًّا على همّك وزدتك غمًّا على
غمك فلا تلُمني فصدري ضاق على اتساعه وحمل همومًا ناءت أمة كاملة بحملها
فكيف يستطيع حملها ذلك الشكل الصنوبري؟ فسل لأخيك قرب المخرج من هذه
الديار فإن العيش على شوك السيال في منقطع العمران لأهون عليَّ من معاشرة
قومي ما تنكر شخص قومه كما تنكرتهم وما بئس ساعٍ لرشد كما يئست. قوم لو
حاولت أن أحصي لك العقلاء فيهم لما أكملت شناتر اليد عدًّا. أليس هذا من بواعث
اليأس ودواعي البأس؟ اهـ. المراد منه.
(المنار)
هذا كتاب رجل كنا نَصفُه أيام كان بيننا بأكثر مما وصف به نفسه من سعة
الصدر. كنا نصفه بأنه لو تفطَّرت السموات وانشقت الأرض وخرت الجبال هدًّا
لما بالى ولا اهتم وها هو يشكو هذه الشكوى المُرة من حال بلاده.
أليس في هذا عبر لمن يعقل، أليس دالاًّ على الفرق بين هذه البلاد وغيرها
فأين شكر النعمة من المنعَم عليهم؟ وأين الاعتبار بالبلاء ممن حل بهم؟ !
وقد ختم الكتاب بأن الرأي الوحيد في تحريك أذهان قومه نشر المجلات
والجرائد النافعة والكتب المفيدة.
نجَّح الله مقاصده وهيأ له من المصطفَيْن الأخيار مَن يشد عضده.
_________
(1)
كان الصواب أن يقول: يخبط بعضهم في بعض.
(2)
يريد بالأعجمي: العجمي وهو من جنسه العجم ويراد منهم الفرس وأما الأعجمي فهو نسبة من الأعجم وهو مَن لا يفصح في القول وإن كان عربيًّا وينسب إلى نفسه مبالغة وظاهر أن هذه الأوصاف لا تنطبق كلها على الموصوفين بها.
(3)
ورد: مخرق الرجل: أي موه وكذب واختلف في أصالته في العربية ولم أجد تمخرق ولكنه مستعمل في الكلام العرفي الذي قلما تخلو منه الرسائل الشخصية الآن.
(4)
ظاهر أنه يعني بعبده الأستاذ الإمام وأما عثمان فهو الدكتور عثمان بك غالب العالم الطبيعي المشهور وقد فصل بين المضاف والمضاف إليه بالعطف على العامل في الثاني.
(5)
ذكر هنا حادثة رأينا السكوت عنها على فظاعتها إخفاءً لتلك الأمة.
(6)
لا أعرف هذه الكلمة إلا في كلام العامة ومعناها: انتفخوا.
(7)
كان ينبغي أن يقول: فاستعانوا عليك بسلطة الحكومة.
(8)
المعروف: (ما يجدي عنه) .
(9)
الصواب: استبدال القانون بالشريعة: أي جعل القانون بدلاً عنها وهذا مما يغلط فيه أكثر الكُتاب تبعًا للجرائد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الدولة العلية والحرب)
تستعد الدولة العلية للحرب؛ لأن الفتنة في بلادها لا تزال تزداد وقد كنا في
خوف عظيم من روسيا حتى أعطتنا الجوائب الأوربية بعض الاطمئنان من جهة
روسيا نفسها ومن جهة الدول العظمى. أما روسيا فقد قررت ترك منشوريا بسبب
العسر المالي والمعسر لا يضرم نارًا للحرب مختارًا لا سيما إذا كان خصمه من
أقرانه في ميادين الكفاح. وأما أوربا فإننا نرى إنكلترا تتقرب من فرنسا، وفرنسا
تقبل تقربها بقبول حسن ولا نرى سببًا لزيارة ملك الإنكليز للجمهورية الفرنسية إلا
إقناعها بعدم إعانة روسيا على حرب تركيا؛ بل عدم إجازتها على الحرب لما في ذلك
من الخطر العظيم على أوربا كلها. أما الحركات العسكرية التي تجريها روسيا
فليست أكبر مما يعتاد في أيام السلم من الاستعداد والتمرين ولله في غيبه شؤون.
فإذا كان استمرار بغاة مكدونية على بغيهم وتماديهم في ثورتهم اتكالاً على
البلغار والصرب فلا خطر على الدولة من ذلك، وهي قادرة على تدويخهم وإن لم
تستفد من ذلك شيئًا لما علمناه من تعصب أوربا عليها، واتفاق الدول الكبرى على
منع المسلمين من الانتفاع من النصارى أو التسلط عليهم ولو بحق، والناس يوجسون
خيفة من تألب الألبانيين وخروجهم لعدم الرضى بمطالب أوربا. وروسيا والنمسا
تلحان على الدولة بوجوب كبحهم وإخضاعهم دون المكدونيين؛ لأنهم مسلمون،
ولعل حكمة مولانا السلطان تكفي الدولة مغبتهم بالتي هي أحسن.
***
(ثورة مراكش)
لا يزال أمر الخارج على سلطان مراكش في استفحال وقد طمع في الملك
وتجرأ على خطاب بعض الدول بالاعتراف بكونه السلطان الرسمي لمراكش ويقال
إنه سيزحف على فاس وهذه عواقب الجهل والإهمال، وسننشر في جزء تالٍ
شروط الصلح بين صاحب مراكش ولويس السادس عشر ملك فرنسا؛ ليعلم مَن لم
يقرأ التاريخ أن عهد مراكش بالعزة والقوة غير بعيد.
***
(فرنسا والجزائر)
كنا كتبنا مقالة عنوانها (فرنسا والإسلام) ، نصحنا فيها لهذه الدولة العظيمة
بأن تعامل مسلمي مستعمراتها بالحسنى لتملك قلوبهم وتأمن غائلتهم.
ونحن نعلم أن فرنسا لم تكن مرتاحة إلى تلك المعاملة القاسية التي كانت تعامل
بها مسلمي الجزائر ولكنها كانت ترى أنها هي الطريقة المتعينة، وأنه يجوز أن
يظهر لها خير منها. وفي هذه الأيام قد زار الجزائر رئيس الجمهورية وبشر
الأهلين بأن هذه الزيارة مبدأ معاملة جديدة مرضية وبالغ في استمالة القلوب وطلب
الائتلاف، ولولا العزم على حسن الفعل لما صدر عنه مثل هذا القول وما جزاء
الإحسان إلا الإحسان!
***
(المدرسة القضائية في السودان)
علمنا أن حكومة السودان قد قررت إنشاء مدرسة لتخريج القضاة الشرعيين
واشترطت في تلامذتها أن يكونوا قبل الدخول فيها معروفين بالاستمساك بالدين
تخلقًا وعملاً، وأن يكونوا عارفين ما تجب معرفته من العقائد الإسلامية والعبادات
وصاحِبِِي إلمام بأحكام المعاملات. ومدة الدراسة أربع سنين والعلوم التي تعلم فيها
هي الخط والإملاء والحساب والهندسة وتقويم البلدان والتجويد والتوحيد والمنطق
والحديث والتفسير والفقه وأصوله، والنحو والصرف والبلاغة والإنشاء وتاريخ
الإسلام والآداب الدينية، وحكمة التشريع والتمرينات القضائية والتوثيقات ونظام
المحاكم، ومما يدرس فيها كتاب إحياء العلوم وكتاب حجة الله البالغة.
وإننا نتمنى لو يبادر أولياء الأمر في مصر إلى مثل العمل الذي كنا اقترحناه
على مشيخة الأزهر من نحو أربع سنين، فإن داء المحاكم الشرعية في مصر لا
يمكن برؤه إلا بتربية القضاة تربية تؤهلهم للقيام بأعبائه كما صرح به اللورد
كرومر في تقريره وكما يعلمه كل عاقل بصير. وهذه الدولة العلية لها مدرسة
مخصوصة لتخريج القضاة (مكتب النواب) وهي غير مدرسة الحقوق فالواجب
على أولي الأمر في مصر العمل بما كنا اقترحناه من انتخاب طائفة من نابغي
الأزهر يعلمون فيه التعليم القضائي ليكون قضاة فإن كان هناك مانع من تعصب
المشيخة فالمتعين إنشاء مدرسة مخصوصة لذلك.
وإننا لنتنسم من حكومة السودان أنها ستحمي الإسلام في تلك الأقطار وتقيم
أحكامه فإن هي فعلت فلا شك أنها تمتلك جميع ما بقي مستقبلاً من الممالك السودانية؛
لأن المسلمين في تلك الأقطار شديدو التمسك بدينهم والتعصب له كأهل الجزائر فإذا
قيدوا به سلسوا للانقياد. وإلا أصروا على العدوان والعناد. وإن لدينا نبأ من تقرير
قاضي قضاة السودان عن المحاكم الشرعية يبشر بسير حسن وعاقبة حميدة، ونية
للحكومة سليمة وسننشره في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.
***
(تنبيه)
ضاق هذا الجزء عن باب التقريظ ومنه تتمة الكلام في انتقاد رسالة الشيخ
محمد بخيت ولدينا انتقاد على عبارة في التفسير وموعدنا في ذلك الجزء الآتي إن
شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النبأ العظيم
آثار جديدة. هدم دين أو دينين. ملك أم إله. مذهب جديد في النصرانية،
قيصران أم نبيان. خطوة من أوربا. وثبة إلى الإسلام. ظهور آية من آيات
القرآن.
حيَّا الله التاريخ والمؤرخين فكم كَشَفا من خفايا الأكوان، وأظهرا من خبايا
الأزمان، وكم أضل الجهل بالتاريخ من إمام كبير، وعالم نحرير، فانحرف عن
سبيل، وأخطأ محجة تأويل، فقد كان مثل الإمام فخر الدين الرازي يتوهم أن
التوراة منقولة بالتواتر، ويحيل لذلك أن يكون وقع في ألفاظها التحريف والتبديل
ويصرف الآيات الواردة في ذلك إلى التحريف المعنوي، وسبقه إلى هذا الرأي مثل
الحافظ البخاري قياسًا على نقل المسلمين لكتابهم وما كان ينبغي لأمثال هؤلاء أن
يضعوا الأقيسة النظرية، حيث يجب أن تكون البراهين اليقينية؛ ولذلك خالفهم
الأكثرون. وإننا لنسمع في كل يوم ناعقًا من دعاة النصرانية يصيح محتجًّا على
عوام المسلمين بقول فلان وفلان من علمائهم أن التوراة التي بين الأيدي سالمة من
التحريف اللفظي محفوظة من التبديل. وكيف نقبل قول أحد في أمر عندنا فيه
الحكم العدل، والقول الفصل، وهو كتاب الله تعالى. ولسان الوجود أفصح مفسر
لكتاب الله تعالى.
كان علماء المسلمين يحكمون على التوراة والإنجيل ولا يطلعون عليهما فلما
اطلعوا سددوا وقاربوا؛ ولكن لم يتجلَّ حكم القرآن إلا بعلم علماء أوربا وبحثهم عن
آثار الأولين، ووقوفهم على تاريخ الأقدمين.
بيَّن هؤلاء العلماء أن كلام التوراة في الخليقة مخالف لما أثبته العلم في مسائل
كثيرة فقام أهل التأويل يقولون: إن العلم غير الدين، وإن كتب الدين إذا تكلمت عن
الخليقة فإنما تتكلم بما هو معروف عند الناس؛ لأنه ليس من غرضها بيان حقائق
الموجودات وإنما غرضها إصلاح القلوب، وهذا الكلام صحيح ولكنه ليس عذرًا
مقبولاً عند العلماء عن ذكر أمور مخالفة للواقع لا حاجة إليها في إصلاح القلوب
وإذا سكتوا لهم على هذا فبأي تأويل يدفعون ما أظهرته الاكتشافات الأثرية من
مخالفة تاريخ التوراة للآثارات التي حفظها بطن الأرض للأمم؟ ! أم كيف يدفعون تلك
القوارع التي تظهر من علماء الألمان قارعة بعد قارعة؟ ! وبها استبان أن التوراة
مقتبسة من البابليين بعد السبي حتى شرائعها وأحكامها.
كتب بعض هؤلاء العلماء كتابًا حديثًا أودعه جداول أحصى فيها ما وقف عليه
من الكلمات البابلية في كتب العهد القديم التي يطلق على مجموعها لفظ (التوراة)
وبيَّن أن تلك الكلمات التي مازجت لغة هذه الكتب العبرية لم تكن معروفة على عهد
موسى عليه السلام واستنتج من مباحثه أن هذه الكتب أُلفت بعد أن سبى البابليون
بني إسرائيل بأزمنة مختلفة؛ ولعل هذا الكتاب النفيس يُنقل إلى العربية في زمن
قريب فإن اعتداء دعاة البروتستانت قد أعد النفوس للعناية بمثل هذه الكتب فكانوا
نافعين للإسلام والمسلمين، خلافًا لما يتوهم بعض الغافلين!
بعد هذا ظهر من علماء الألمان نبأ أخص من هذا وهو أنه وُجد في الآثار
التي اكتشفت من عهد قريب في خرائب سوس من بلاد بابل شريعة (حمورابي) أو
(ملكي صادق) منقوشة على عمود من صم الصفا (الصوان) فإذا هي متفقة مع
شريعة التوراة في أكثر الأحكام فجزم الباحثون بأن الإسرائيليين قد اقتبسوا شريعتهم
التي يسمونها التوراة من هذه الشريعة أيام كانوا في أسر البابليين. وكانت النتيجة
عند هؤلاء العلماء أن موسى لم يكن نبيًّا وشريعة قومه لم تكن وحيًا! ! اشتبه عليهم
الباطل بالحق والحق بالباطل وإننا نجلِّي الحقيقة في هذا المقال بما هو لب اللباب،
والعجب العُجاب.
حمورابي أو ملكي صادق
يقول علماء ألمانيا الأعلام كغيرهم: إن حمورابي هذا هو أمرافل المذكور في
الفصل الرابع عشر من سفر التكوين في قصة لا تنطبق تمامًا على الاكتشافات
الحديثة وهو هو (ملكي صادق) ؛ لأن معنى هذه الكلمة العبرانية (ملك البر أو
ملك السلام) وهو يلقب نفسه بهذا اللقب في شريعته المذكورة آنفًا، ومما جاء في
الفصل الرابع عشر من سفر التكوين أن ملكي صادق هذا قد بارك على إبراهيم
عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام) وأن إبراهيم أعطاه العشور. قال بعد ذكر
محاربة إبراهيم لكدر لعومر واسترجاعه الأسرى ومنهم لوط أخوه: (17 فخرج
ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه إلى عمق
شوى الذي هو عمق الملك 18 وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزًا وخمرًا وكان
كاهنًا لله العلي 19 وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي مالك السموات
والأرض 20 ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك، فأعطاه عشرًا من كل
شيء) .
وقال بولس زعيم الديانة النصرانية المعروفة لهذا العهد في آخر الفصل
السادس وأول الفصل السابع من الرسالة إلى العبرانيين ما نصه: (19 حيث دخل
يسوع كسابق لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد (1) لأن
ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك
وباركه (2) الذي قسم له إبراهيم عشرًا من كل شيء. المترجم أولاً ملك البر ثم
أيضًا ملك ساليم أي ملك السلام (3) بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداءة أيام له ولا
نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله. هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد (4) ثم انظروا ما
أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء عشرًا أيضًا من رأس الغنائم) .
هذا هو ملكي صادق بشهادة العهدين العتيق والجديد فإذا كان الله - تبارك
وتعالى - يحل في الأجسام كما يقول النصارى فمَن أجدر بهذا الحلول من ملكي
صادق وهو يمتاز على المسيح بكونه من غير أم ولا أب وكونه بلا بداية ولا
نهاية؟ ! وهو الذي بارك إبراهيم أبا الأنبياء وهو واضع الشرائع التي اقتبست
منها التوراة والنتيجة أنه بشهادة العهدين أعظم من إبراهيم وموسى وعيسى وإن
شئت فقل: إن بولس نزهه عن البشرية، ووصفه بأخص صفات الألوهية، والتاريخ
يشهد أنه وثني أفليست هذه الكتب أيضًا كتبًا وثنية؟ !
***
هذه التوراة
لا خلاف ولا نزاع بين أهل الكتاب في أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام
قد فُقدت. ثم وجد عندهم غيرها وفقد ثم وجد غيره. والأخبار عندهم في ذلك معمَّاة
وطرقها مشتبهة الأعلام، حالكة الظلام، جاء في الفصل الرابع والثلاثين من
أخبار الأيام الثاني: (14 وعند إخراجهم الفضة المدخلة إلى بيت الرب وجد
(حلقيا) الكاهن سِفر شريعة الرب بيد موسى 15 فأجاب حلقيا وقال لشافان
الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب وسلم حلقيا السفر إلى شافان 16
فجاء شافان بالسفر إلى الملك..) إلخ.
وفي دائرة المعارف أنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجده حلقيا هو الذي كتبه
موسى (قال) : ولا دليل لهم على ذلك.
وأقول: إن ادعاء شخص بمثل هذه الدعوى لا يوثق به فإنه مهما كان عادلاً لا
يزيد خبره عن كونه مظنون الصدق محتمل الكذب. ثم إن هذه النسخة التي وجدوها
قد فُقدت أيضًا، والمعتمد عليه عندهم أخيرًا هو ما كتبه عزرا كما فصلناه من قبل في
المجلد الرابع من المنار. ففي الفصل السابع من سفر عزرا ما نصه: (وبعد هذه
الأمور في ملك أرتحشستا ملك فارس عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا 2 بن
شلوم بن صادوق بن أخيطوب 3 بن أمريا بن عزريا بن مرايوث 4 بن زرحيا بن
عزي بن يقي 5 بن أبيشوع بن فينحاس بن العازار بن هرون الكاهن الرأس 6
عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله
إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه كل سؤاله - إلى أن قال - (8
وجاء إلى أورشليم في الشهر الخامس في السنة السابعة للملك 9 لأنه في الشهر
الأول ابتدأ يصعد من بابل وفي أول الشهر الخامس جاء إلى أورشليم حسب يد الله
الصالحة عليه 10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعلم بها وليعلم إسرائيل
فريضة وقضاءً) .
وذكر بعد هذا صورة الكتاب الذي كتبه هذا الملك لعزرا الكاهن بالإذن لبني
إسرائيل بالعودة إلى أورشليم معه من شاء منهم وفيه ما نصه: (25 أما أنت يا
عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب..)
- إلى أن قال - (16 وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقضَ عليه
عاجلاً إما بالموت..) إلخ.
بهذه العبارة يستدلون على أن عزرا كتب التوراة بعد فقدها وهو لا يدل على
زعمهم وأنَّى له أن يكتب التوراة كما أنزلت وقد مضت القرون عليها وهي مفقودة
ولم ينقل أن أحدًا حفظها كما يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم. نعم، لا يعقل
أن أمة تُؤْتَى شريعة وتعمل بها وتساس بأحكامها ثم تنساها بالترك كلها بحيث لا
تحفظ منها شيئًا بل المعقول أن العمل من أسباب الحفظ فالإسرائيليون - وإن طال
عليهم أمد السبي وحُكموا زمنًا طويلاً بغير شريعتهم - لا بد أن يكون أهل الفهم
والبصيرة منهم قد ظلوا يذكرون كثيرًا من تلك الأحكام الإلهية فلما رحمهم أرتحشستا
ملك بابل وأذن لهم بالعودة إلى بلادهم وأمر كاهنهم عزرا بأن يضع لهم قضاة
وحكامًا يعملون بشريعة إلههم وشريعة الملك كتب لهم عزرا هذه التوراة الحاضرة
وأودعها ما كان لا يزال يحفظه من وصايا الرب وأضاف إليه ما حفظه من شريعة
الملك فجاءت هذه التوراة الحاضرة وأضاف إليه ما حفظه من شريعة الملك فجاءت
هذه التوراة مزيجًا من الشريعتين كما تبين بالاكتشافات الجديدة. وكتب العهد العتيق
التي يسمون مجموعها التوراة تؤكد كون الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه
السلام قد كُتبت بعده بزمن طويل كما بيناه في الجزء التاسع عشر من المجلد الرابع،
ومن ذلك ما جاء في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ونصه: (24
فعندما كمل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين
حاملي تابوت عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد
الرب..) إلخ.
ومنه ذكر وفاة موسى في الفصل الأخير من هذا السفر المنسوب إليه، وقول
كاتبه بعد ذلك (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (ثم قوله) ولم يقم بعدُ نبي في
إسرائيل مثل موسى) وهاتان الجملتان تدلان على أن هذه التوراة قد كتبت بعد موت
موسى واندراس قبره بزمن طويل.
وقد ذكرنا في ذلك الجزء أن علماء بروتستانت لم يسعهم إلا الاعتراف بفقد
توراة موسى وأن صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة
المسيحية) صرح بفقدها وانقطاع عبادة الله الحقيقية بين الإسرائيليين في مدة ملك
منسا وأمون وأنه قال بعد ذلك (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في
الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها. والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما
خرب بختنصَّر الهيكل وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن
الكتب المقدسة فُقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ المتفرقة من الكتب
المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية) هذا نص عبارته
بالحرف. وقد علمت أن ليس في سفر عزرا ذكر نسخ ولا كتب وإنما قصارى ما
يفهم منه أن الملك البابلي أمره بتعيين حكام لإسرائيل يحكمون بما يعرف من شريعة
إلهه وشريعة الملك.
ونتيجة ما تقدم كله أن أسفار التوراة الحاضرة نفسها تؤيد الاكتشافات الحديثة
وأنه ثبت بمجموع الأمرين أن التوراة الحاضرة ليست توراة موسى وإنما فيها شيء
منها لاستحالة أن تكون نسيت كلها وذلك كافٍ في هدم الديانة اليهودية والديانة
المسيحية المبنية على كتبها.
* * *
زلزال النصرانية في أوربا
أنس النصارى واليهود بما في كتبهم من الدلائل على عدم الثقة بنقل التوراة
والإنجيل وكابروا أنفسهم والناس بدعوى تواترهما، إن شرط التواتر أن ينتهي سند
الرواة الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب لكثرتهم إلى من جاء بالكتاب كأن ينتهي
تواتر التوراة إلى موسى نفسه لا إلى عزرا الذي لا يعلم أحد من أين جاء بما جاء
به هل هو من البابليين أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته
البابليين؟ ! أم هو مزيج مما حفظ عن أجداده واقتبس عن ساداته البابليين. ولكن
القيامة اليوم قائمة في أوربا لاكتشاف شريعة حمورابي (ملكي صادق) وبيان أنها
توافق هذه التوراة في أحكامها وتخالفها بعض المخالفة في تاريخها؛ لأنهم لم يروا
مجالاً في هذا للمكابرة والمواربة.
وقد حكم العلماء بأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي حمل نسخة
هذه الشريعة من بابل إلى فلسطين عند قدومه إليها وأن موسى (عليه الصلاة
والسلام) قد اقتبس منها كل ما رآه يصلح لسياسة بني إسرائيل كما اقتبس بعض
ذلك من الشريعة المصرية التي تربى في بيت ملكها وبذلك تكون هذه الشريعة التي
يفتخر اليهود والنصارى بأنها إلهية مقتبسة من الشرائع الوثنية ويكون موسى مزورًا
بادعاء أنها أوحيت إليه من الله! (حاشاه حاشاه) .
خطب العلامة اللاهوتي الأثري (دليتش) أحد أعضاء (جمعية الشرق) في
هذا الموضوع خطبة مطولة في برلين حضرها قيصر الألمان والقيصرة وجماهير
العلماء والكبراء وقال في خطبته على رؤوس الأشهاد: إن شرائع التوراة منقولة
عن الشرائع البابلية وليست وحيًا من الله واستنتج من ذلك أنه لا حاجة إلى دين
وراء وجدان الخير المغروس في الفطرة؛ وذلك أنه ختم الخطابة بقوله: إننا نضع
أيدينا على قلوبنا ولا نحتاج إلى وحي غير الوحي الذي يصدر عنها! .
قرع هذا العالِم النصرانية بهذا القارعة في ذلك الملأ العظيم فتزلزلت هي ولم
تزلزل مكانته من نفوس القوم وإن كان فيهم مَن استاء منه؛ لأن تقاليد الدين مطبوعة
في وجدانه فهو يأنس بانطباعها، ويتألم لانتزاعها، أو لأن السياسة تقضي
بالمحافظة على الدين وإن زلزله العقل، وزعزعه النقل، فقد نقلت الجرائد أنه بعد
خطابه جلس إلى القيصر والقيصرة يحادثهما ويحادثانه بكل طلاقة وقبول. وقد
عجب بعض الناس أن رأوا غليوم الثاني الذي أقام أوربا وأقعدها ثم دعاها إلى
محاربة الصين دعا أن أهانت بعض دعاة الدين يلاطف عالمًا لاهوتيًّا أثريًّا بعد
أن قضى على هذا الدين القضاء المبرم. ولا عجب فإن الدين عند هذا القيصر
وأمثاله من آلات السياسة ولا يصح أن تكون السياسة عدوة للعلم الذي هو أقوى
آلاتها.
* * *
المذهب الجديد
بعد هذا اجتمع القيصر بهذا الخطيب مرة أخرى ثم أعلن رأيه في المسألة
فلاح لذهنه الوقاد أن يضع للنصرانية مذهبًا جديدًا يستبقي به كونها آلة سياسية
تنتفع بها أوربا في مقاومة الشرق ويقطع به لسان العلم عن المحاجة والمجادلة فكتب
إلى صديقه الأميرال (هولمن) كتابًا يقول فيه ما تعريبه باختصار قليل جدًّا:
(إن الأستاذ دليتش دخل مع القيصرة والوكيل العام (درياندر) في بحث
استمر عدة ساعات وما كنت أنا إلا من السامعين. ومن سوء الحظ أن الأستاذ انتقل
من البحث التاريخي في المسائل الدستورية إلى مسائل دينية لا محل لها فلبثت
مصغيًا حتى إذا ما انتهى إلى الخوض في العهد الجديد عرفت رأيه فإنه قال في
مخلِّصنا أقوالاً شاذة مناقضة لما أرى وأعتقد؛ ذلك أنه لا يعتقد بلاهوت المسيح
ويرى أن ليس في التوراة شيء من الوحي والنبوة عن يسوع بأنه المسيح.
فهنا يفنى الأستاذ دليتش المؤرخ الأثري في الأستاذ دليتش اللاهوتي فيبقى
هذا اللاهوتي ماثلاً بما فيه من النور والظلام معًا. إنني أنصح له بأن يخطو في
هذه السبيل خطوة بعد خطوة لائذًا بجانب التأني والحذر وأن يختص بهذه الآراء
الدينية رصفاءه اللاهوتيين ويودعها كتبهم وأن يكفينا الخارجين عن هذه الدائرة مثلنا
مؤنة البحث في هذه المسائل ولا سيما (جمعية الشرق) التي لم تنشأ لتكون ندوة
للبحث في جميع الآراء وإنما نبعثر الأرض [1] ونقرأ ما كتب على الآثار
المستخرجة منها لمساعدة العلم والتاريخ لا لتأييد الآراء الدينية أو تفنيدها. ويا ليت
دليتش لم يتجاوز في هذا العام الحد الذي وقف عنده في العام الماضي وهو
الاستدلال بما تستخرجه جمعيتنا من الآثار الشرقية على ما كان للمدينة البابلية
القديمة من التأثير في مدنية الإسرائيليين لنعرف العادات والأخلاق والشرائع التي
أخذوها من البابليين ونرى هل يوجد فيها ما يزكي البابليين مما تصفهم به التوراة
من الأوصاف التي لا شك في كونها شنيعة وغير عادلة، هذا هو حد شرطه الأول
وكان غرضه منه كبيرًا يجب علينا أن نشكره له؛ ولكنه من سوء الحظ قد تجاوزه في
هذه المرة.
(ولو أنه شرح المسألة وترك للسامعين استخراج النتائج الدينية منها لنالت
خطبته استحسان جميع السامعين؛ ولكنه طفق يناقش في مسألة الوحي فأنكرها
بالجملة والتفصيل ثم ظن أنه قادر على إثبات كون أصلها بشريًّا محضًا فارتكب
خطأً عظيمًا بما دمر على النفس [2] في باطنها وعبث بهيكلها المقدس في غير واحد
من سامعيه الذين تختلف عقولهم باختلاف طبقاتهم. سواء كان مخطئًا أو مصيبًا في
الواقع ونفس الأمر فإنه قد نكس في نفوس كثيرين أنفس الصور والاعتقادات
المقدسة عندهم وزلزل أساس إيمانهم إن لم نقل إنه نسفه في اليم نسفًا. وهذا عمل لا
يجسر عليه إلا أصحاب القرائح الملتهبة والعقول الكبيرة) .
***
أقيصران أم نبيان؟ !
(أما الوحي فهو في اعتقادي الذي كاشفتك به أنت وغيرك من قبل نوعان:
أحدهما تاريخي، وهو مستمر لا ينقطع. وثانيهما ديني خاصّ وكان تمهيدًا
لمجيء المسيح. أما الوحي الأول فهو أن الله يظهر دائمًا في الجنس البشري الذي هو
خليقته وصنيعته فإن نفخ في الإنسان من روحه أعني منحه شيئًا من ذاته [3] إذ أعطاه
نَفْسًا حية. وهو يراقب نمو الجنس البشري بعناية الأب ليحسن أحواله فيظهر تارة في
رجل عظيم هنا، وتارة في رجل آخر هناك سواء كان ذلك الرجل كاهنًا أو ملكًا
وسواء كان بين الوثنيين أو اليهود أو النصارى [4] وقد كان (حمورابي) من هؤلاء
الرجال كما كان موسى وإبراهيم وهوميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوته
وقَنْت والإمبراطور غليوم الكبير.
فإن الله اختار هؤلاء ورآهم أهلاً لأن يعملوا بحسب إرادته أعمالاً عظيمة
دائمة خدمة لأممهم، سواء كان ذلك العمل روحانيًّا أو عالميًّا، وكثيرًا ما كان جدي
يقول: إنه لم يكن إلا آلة بيد الله. ولا شك في أن ظهور الله تعالى في الأشخاص
يكون على حسب استعداد أممهم ودرجتها في الحضارة، ولا يزال يظهر هذا الظهور
حتى في عصرنا هذا (كأنه يومئ إلى أنه ظهر فيه الآن كما ظهر في جده من
قبل) .
(أما النوع الثاني من الوحي وهو الديني الروحاني الخالص فقد ابتدأ من
زمن إبراهيم ببطء وحكمة ولولاه لقضي على النوع البشري وقد نما وتسلسل نسل
إبراهيم على الاعتقاد بإله واحد وقد حفظته عناية الله تعالى بحفظه هذا الإيمان حتى
ختم هذا الوحي وانتهى بظهور المسيح الذي كان أعظم مظهر لله تعالى في هذا
العالم. ذلك أن الله ظهر يومئذ في شخص الابن بصورة بشرية (تعالى الله عن هذه
الوثنية) وهو مخلصنا الذي يملأنا حماسة ويدعونا إلى اتباعه وإننا لنشعر بناره
تأجج في أحشائنا، وبرحمته تعزينا. وإننا باتباع وصاياه نقتحم كل شيء لا نبالي
بالتعب ولا بالازدراء ولا بالحزن ولا بالفقر ولا بالموت؛ لأننا واثقون بالنصر
لسماعنا منه الوحي الإلهي الذي يصدق دائمًا.
(هذا هو رأيي في المسألة فإن (الكلمة) عندنا معشر البروتستنت بمنزلة
كل شيء وذلك بفضل (لوثر) علينا. وكان على (دليتش) أن لا ينسى ما كان
يعلمنا إياه لوثرنا العظيم وهو: (يجب عليكم أن تبقوا على الكلمة) .
(ومن البديهي عندنا أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من
البشر لا وحي الله. ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله اعتبر تلك الشريعة
موحى بها من الله إلا اعتبارًا شعريًّا رمزيًّا؛ لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن
شرائع أقدم منها على الأرجح وربما كان أصلها مأخوذًا من شرائع (حمورابي)
ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالاً بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل وبين
شرائع بني إسرائيل باللفظ والفحوى وذلك لا يمنع قطعيًّا من الاعتقاد بوحي الله
لموسى وظهوره لبني إسرائيل بواسطته. وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي:
(1)
إنني أومن بإله واحد.
(2)
إننا معاشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله إلى شيء يمثل إرادته
وأولادنا أشد احتياجًا منا إلى ذلك.
(3)
إن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا
بالتقليد.
وإذا فندت الاكتشافات الأثرية بعض رواياتها وذهبت بشيء من رونق تاريخ
الشعب المختار - شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك لأن روح التوراة يبقى سليمًا
مهما طرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال وهذا الروح هو الله وأعماله!
(إن الدين لم يكن من محدثات العلم فيختلف باختلاف العلم والتاريخ وإنما
هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله.
هذا وإنني مع الشكر والثناء أظل دائمًا صديقك المخلص
…
...
…
...
…
...
…
...
…
غليوم
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إمبراطور وملك
(المنار)
هذا هو كتاب عظيم الألمان وهو على ما فيه من التمويه والمواربة والتعارض
والتناقض والميل مع ريح السياسة يدل على فهم ثاقب وفكرة وقادة وينبّئ عن بُعد
غور. ومجمل ما يقال فيه: إنه مذهب جديد أو دين جديد ويظهر أن هذا القيصر
يعتقد أو يدَّعي بأن الله جل وعلا قد ظهر فيه كما ظهر في جده غليوم الأول فكانا
نبيَّين أرسل أحدهما لتكوين الوحدة الألمانية، وثانيهما لحفظ مجدها وإطلاع كوكب
سعدها، وقد غمط حق من كان أحق منه ومن جده بهذا الظهور الإلهي المدعى وهو
البرنس بسمرك الذي كان آلة في يد الله وكان جده غليوم الأول آلة بيده. ولئن
غمط حق بسمرك فقد غمط حق من هو أعظم منه ومن إبراهيم وموسى وعيسى
وهو (محمد) عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام فهو الذي جاء عن الله
تعالى بعلوم وعمل بعناية الله تعالى أعمالاً لم يسبق ما يقاربها لغيره ولن يلحقه بما
يقاربها غيره، فشريعته أعدل من شريعة التوراة ولا يمكن أن يوجد اكتشاف يظهر
أنها مستفادة من شريعة أخرى والوحدة التي كونها بنفسه أحوج إلى المعونة الإلهية
المحضة من الوحدة التي كونها بسمرك وغليوم الأول؛ لأن تفرق قبائل العرب
وشعبها كان أشد ولم يكن عندهم من العلوم والمعارف والمدنية التي تقرب بعضهم
من بعض مثلما كان عند الولايات الجرمانية. ثم إن الوحدة العربية قد استتبعت من
الفتوحات ونشر العلم والمدنية في الممالك ما لم يكن مثله أو ما يقاربه للوحدة
الألمانية على أن تبرير هذه الأمة في العلوم غير مجهول؛ ولكن الفرق بين الأمتين أن
ظهور هذه كان في عصر العلوم والاكتشافات والاختراعات وظهور تلك كان في
بداوة وجاهلية وأمة أمية. فأيهما كان بالأسباب العادية، وأيهما كان بمحض العناية
الإلهية؟ !
* * *
الحكم العدل في الكلام
وخطوة أوربا أو وثبتها إلى الإسلام
في كتاب القيصر أفلاذ من الذهب النضار، وفيه كثير من الحصا وقطع
الفخار، وقد كاد يصل بذكائه إلى الحق ولكن بقي دونه حجاب نكشفه بعد بيان
نتائج كتابه وهي:
(1)
أن للعالم إلهًا واحدًا يدبره بقدرته، ويخص بعض العباد بمزيد معونته.
(2)
أن البشر في حاجة شديدة إلى معرفة الله تعالى بأن يكون بينهم وبينه
عهد وصلة ليعرفوا بذلك ما يريد بهم وما يرضاه منهم.
(3)
أن الله تعالى قد وهب البشر هذه الحاجة بالوحي الديني.
(4)
أن حقيقة الوحي هي ظهور الله تعالى في البشر بأن ينفخ فيهم من
روحه - أي يعطيهم شيئًا من ذاته - وهو قسمان: ديني محض، وغير ديني
محض.
هذه أربع نتائج عامة كلها مستفادة من كلامه وهي صحيحة إلا الأخيرة منها
فإنه قارب فيها الحق ولكنه لم يصل إليه. والصواب أن فاطر السموات والأرض لا
تتجزأ ذاته وأن البشر - وإن كانوا مكرمين ومفضلين على كثير من المخلوقات - لا
يخرجون عن كونهم جندًا صغيرًا من جنوده التي لا تحصى فليس من العقل ولا من
الحكمة أن نغتر بأنفسنا حتى نحصر الذات الإلهية في أفراد منا دون هذا العالم
الكبير الذي تعد أرضنا كتلة صغيرة منه، وجميع ما فيها من الأحياء كالذرات
الصغيرة التي نراها تعيش في كتلة من هذه الأرض.
ولكن هذا العالم العظيم الذي يدهش الواقفين على بعض أسراره بنظامه
وإحكامه لم يكن هذا النظام العام فيه بفعل هذه الأجسام التي نعرفها بحواسنا؛ ولكن
الله تعالى بث فيه عالمًا روحانيًّا غير منظور جعله علة لهذا الإحكام والنظام. وقد
لمحت عقول البشر هذا العالم في طور وثنيتهم فسموه عالم الآلهة، وزعموا أن لكل
أمر عام إلهًا خاصًّا يدبره. ولكن الأنبياء سموه عالم الملائكة. وقولهم هو الحق
لأنهم عرفوا ذلك بالوحي.
والوحي عبارة عن اتصال روح النبي بروح من هذه الأرواح واستفادته نوعًا
من العلم منه.
الروح الذي يفيض العلم على الأنبياء يسمى بلسان الدين الروح الأمين وروح
القدس عبر عن اتصاله بروح النبي لإفادة العلم بلفظ النزول قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ
الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} (الشورى: 52) وأما العلم الذي يستفيدونه من هذا الوحي
فأهمه معرفة الله تعالى على الوجه الصحيح ومعرفة الحياة الآخرة، ويلي ذلك بيان
الأعمال النفسية والبدنية التي تؤيد هذا الاعتقاد وتقويه وترقي النفس الإنسانية.
والفرق بين علم الأنبياء الذي يسمي وحيًا وبين علم هوميروس وشارلمان ولوثر
وشكسبير وبسمرك وغليوم الأول وغليوم الثاني وأمثالهم أن علم الأنبياء لم يكن
مكتسبًا وإنما كان يقع لهم بواسطة الروح الذي ينزل على قلوبهم، وأن موضوعه ما
ذكرنا من أمر الإيمان وحفظ الصلة بين العبد وربه.
وأما علم أولئك الملوك والشعراء فقد كان كسبيًّا وموضوعه ليس متعينًا فهو
خيالات وتصورات وحكايات وسياسات منها الحق والباطل، ومنها الحالي والعاطل،
ولا معنى للقول بأن كل نابغ في شيء من الأشياء يسمى نبيًّا وعلمه وعمله وحيًا
إلا إذا أردنا أن نجعل الوحي أمرًا عاديًّا كما يقول الذين أنكروا الوحي في أوربا
لسقوط ثقتهم بالكتب المنسوبة للأنبياء والقيصر أرقى عقلاً أن يقول بذلك وما قلناه
قريب من قوله ولعله لو وقف عليه لقال به.
وأما النتائج الجزئية في كلامه فهي:
(1)
أن الوحي الديني الروحاني المحض قد بدئ بإبراهيم وانتهى بالمسيح.
(2)
أن ظهور الله في المسيح كان أعظم ظهور له في هذا العالم.
(3)
أن اتّباع وصاياه كافية لاقتحام كل شيء ثقة بالنصر.
(4)
أن ما في التوراة من التاريخ والشرائع والأحكام بشري مستفاد من
البشر وليس وحيًا من الله ولا يمنع ذلك كون موسى نبيًّا.
(5)
أنه ليس عندنا شيء نتخذه عهدًا بيننا وبين الله تعالى فنعرف به مراده
بنا وما يرضاه لنا إلا هذه التوراة. وإن ما فيها من الكذب على الله تعالى بنسبة
الشرائع إليه ومن الكذب في التاريخ المقدس لا يحول دون ذلك!
وهذه النتائج كلها غير صحيحة فإن التوحيد قد عرف عند الأمم قبل إبراهيم
وبعث قبله أنبياء دعوا إلى مثل ما دعا إليه هو والأنبياء من ذريته؛ ولكنهم انقرضوا
وعفت آثارهم، وإن ظهور الله - عنايته ووحيه - في المسيح كان دون ظهوره في
موسى فإنه كان متبعًا شريعته مع إصلاح قليل؛ ولذلك قال: (ما جئت لأنقض
الناموس) وإن ظهوره في محمد كان أعظم من ظهوره في إبراهيم وموسى والمسيح
فمَن دونهم من البشر؛ لأنه هو الذي صدق عليه وحده القول المأثور عن المسيح عليه
السلام:
(12 أن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا
الآن 13 وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم
من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية 14 ذاك يمجدني لأنه يأخذ
مما لي ويخبركم) (16 يو) .
فقد صرح بأن الناس لم يكونوا مستعدين في ذلك العصر لمعرفة كل الحقائق
الدينية، وقد علّم محمدٌ الناسَ جميع الحق في العقائد المبنية على البرهان والعبادات
المؤثرة في الروح والأخلاق المبنية على الاعتدال والأحكام المبنية على العدل.
وأسس دينًا - هو وإن ضعف زعماؤه - أرسخ الأديان وأقواها، وشريعة هي - وإن
قل أنصارها - أعدل الشرائع وأعلاها، وأمة كانت باتباعه أعز الأمم وأنماها، نعم،
إنها الآن مريضة ولكنها ستبل إبلالاً، وتعود لها السيادة الأولى إن شاء الله تعالى.
هذه إشارة إلى بطلان النتيجة الأولى والثانية.
وأما الثالثة فبطلانها أظهر؛ لأن هذا القيصر وأمته أبعد الناس عن وصايا
المسيح التي تدور على الزهد المطلق والذل وترك الانتصار للنفس ولو اتبعوا
وصايا الإنجيل لضربتهم فرنسا عن الخد الأيمن (الإلزاس) فأداروا لها الخد
الأيسر (اللورين) .
وأما الرابعة فقد جمعت بين النقيضين، وهما كون موسى يدعي أن شريعته
وحي من الله وما هي بوحي من الله، وإنما نقلها عن شرائع الأمم الوثنية وكونه مع
ذلك نبيًّا موحًى إليه من الله! ولا ندري ما هو هذا الوحي المبهم إذا لم تكن الشريعة
وحيًا ثم لا ندري ما هو الدليل على هذا الوحي؟ ! . هذا رأي يمكن أن يُقبل في
حيز السياسة لا في حيز الدين، ويمكن أن يقال باللسان، ولا يمكن أن يستقر في
الجَنان.
ومن العجائب أن البابا وافق على رأي قيصر الألمان في كون شريعة التوراة
وتاريخها من وضع البشر لا من وحي الله كما جاء في بعض الصحف؛ ولكن ماذا
يصنع البابا إذا لم يجد منفْذًا لدفع الشبهة ولا طريقة لحل الإشكال؟
ماذا يصنع وقد أقنعه بذلك العلم والاكتشافات التي لا يكاد يخفى عليه شيء
منها وهو في الدرجة العليا علمًا وعقلاً وسياسةً؟ لعله لا يوجد في الأرض مَن هو
أحرص من البابا ومن غليوم الثاني على المحافظة على التوراة وتقديسها ولا من هو
مثلهما علمًا، وقد أعياهما حل هذا الإشكال مع طول باعهما وسعة اطلاعهما وكثرة
أتباعهما من العلماء والحكماء.
* * *
آية جديدة للقرآن
وإن تعجب فأعجب العجائب أن القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا قد نطق بما أثبته
العلم وأيدته الاكتشافات في هذا العصر، وحل الإشكال حلاًّ لا بد أن يرجع إليه جميع
العلماء في وقت قريب. وهذه معجزة ظاهرة، أو نبوة باهرة - كما يقولون - ولا
غرو فالقرآن لا تنتهي عجائبه، وهو حجة الله على العالمين منذ أُنزل إلى يوم
الدين، حكم القرآن بأن بني إسرائيل نسوا حظًّا من الوحي الذي ذكرهم الله تعالى به
على لسان موسى عليه الصلاة والسلام وحفظوا حظًّا آخر وقع فيه شيء من
التحريف والكذب. قال تعالى (في سورة آل عمران 23) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم
مُّعْرِضُونَ} (آل عمران: 23) وقال في (سورة النساء) : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن
مَّوَاضِعِهِ} (النساء: 44-46) إلخ. وقال بعد آيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: 51) ، وقال تعالى (في سورة المائدة 13) بعد
ذكر أخذ الميثاق على بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجعَلْنَا قُلُوبَهُمْ
قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًًا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (المائدة: 13) .
وهذا الحكم هو المعقول وإنما ظهر صدقه وكونه معقولاً في هذا العصر فصح
قول المسلمين في القرآن (لا تنقضي عجائبه، ولا تتناهى غرائبه) فيا له من
معجزة تفيض بالمعجزات الكبيرة، ويا له من آية بينة تنطوي على آيات كثيرة،
أنَّى لأمي نبت في أرض جاهلية، وتربى في أمة أمية أن يحكم على شريعة كانت
أم الشرائع، وتاريخ أمة كانت أشرف الأمم حكمًا لم يعرف عن علماء
الشرائع والقوانين، ولا عن مدوني القصص والتواريخ، فيحز في المفصل،
ويقول القول الفصل، ويأتي بكلمتين ثنتين لا تبلغ مساحتهما في الكتابة سطرًا
واحدًا: {فَنَسُوا حَظًًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) ، {.. أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ
الكِتَاب} (آل عمران: 23) ؟ تتمخض الأيام والسنون، وتمر الأجيال والقرون،
ثم لا تظهر حقيقة تأويلهما إلا بعد أن تنبث دفائن الأرضين، وتستخرج منها آثار
الغابرين، ليتم قول الكتاب أيضًا:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وقوله:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:
53) . {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا
كَثِيرًا} (النساء: 82) أفلا يتأملون في قوله للنبي الأمي الذي أنزل عليه: {وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
فإلامَ الشك والارتياب، وقد ظهرت آياته لأولي الألباب؟ !
بهذا الحل يتبرأ موسى عليه السلام من شبهة الكذب على الله تعالى وتتبرأ
شريعته من شبهة الاقتباس من الشرائع البشرية لأن هذه الشريعة لو كانت موجودة
بالنص الذي كتبه موسى عن الوحي الإلهي لظهر الفرق بينها وبين شريعة
(حمورابي) وتبين أن المشابهة بينهما قليلة لا تصلح شبهة على اقتباس المتأخرة
من المتقدمة. على أن التوافق بين الشرائع في بعض المسائل أمر طبيعي سواء
كانت سماوية أو بشرية أو بعضها سماوي وبعضها بشري؛ لأن الوفاق في الطبائع
وحال الاجتماع يقضي بالوفاق في الأحكام. ومازالت تتوارد خواطر العلماء
والشعراء على بُعد الدار، واختلاف الأعصار، وإذا كنا لا نرى دليلاً أو أمارة
على أن أحدهما أخذ عن الآخر فلا يجوز لنا أن نحكم بهذا الأخذ. والدليل على أن
التوراة الحاضرة قد اقتبس بعضها من البابليين واضح مما في سفر عزرا ومما
أظهرته الاكتشافات. ويدل سفر عزرا وغيره أيضًا على ما يقضي به العقل من عدم
نسيان بني إسرائيل شريعة الرب فتعين أن يكون الحاضر مزيجًا. فقد اتفق في
المسألة العقل ونقل كتب العهد العتيق والتاريخ والآثار على تصديق القرآن في
حكمه على بني إسرائيل وشريعتهم.
فعلى عظيم الألمان ومقدس الكاثوليك (البابا) أن يرجعا إلى حكم الله تعالى
في المسألة فهو أفضل من حكمهما الذي يزيل ثقة جميع النصارى بالوحي وكتبه
ويجعلهم إباحيين مفسدين للعمران. وليعلم الزعيمان العظيمان أن دين الله تعالى
واحد، وأن تلك الأديان قد نسي بعضها ونسخ الباقي؛ لأن الله تعالى أراد أن يعطي
البشر ما هو أكمل منها كما قال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) فعليهما أن يتركا
التعصب لقومهما وأن يكونا زعيمين للبشر كافة لا للألمان والكاثوليك أو النصارى
خاصة، وذلك بأن يأخذا بجوهر الدين الخالص الذي بيَّنه القرآن وهو الكتاب
المحفوظ الذي لا ريب فيه الذي جاء بالحق وصدق المرسلين وإذا تأملاه بإخلاص
فلا شك أن نور الحق يشرق عليهما كما أشرق على كثير من أهل العلم في أوربا.
جاء في كتاب (ديانات الأمم وعقائدهم) للأستاذ ليننز ما خلاصته:
(إن دين الإسلام دين يوافق الناس كافة ويجعلهم أمة واحدة وإنني أؤمل أن
أرى النصارى بعد حين آخذين بدرس هذا الدين والتدين به وموالاة محمد - عليه
الصلاة والسلام -؛ لأن دينه الدين القويم المبين) (راجع 5 الصفحة 292-300
من هذا الكتاب المطبوع في لندن سنة 1901 ومثل هذا القول أقوال كثيرة) .
وقد بينا في مقالة (مسير الأنام ومصير الإسلام) بعض المبشرات التي تدل
على خطوات أوربا إلى الإسلام من حيث تدري ولا تدري وإننا نعد هذا الاكتشاف
الجديد الذي أيد القرآن وما قاله عظيم الألمان وحبر أحبار الرومان فيه خطوة من
تلك الخطوات، بل وثبة من الوثبات.
…
...
…
والعاقبة للمتقين، والله ولي المؤمنين.
_________
(1)
بعثر الشيء: استخرجه فكشفه وبعثره أثار ما فيه وهو استخراج نحو المدفون والخفي وإظهاره لمعرفة حقيقته ومنه قوله تعالى: [وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ](الانفطار: 4) .
(2)
دمر: دخل بدون استئذان و (ما) مصدرية.
(3)
يتوهم أهل الحلول مثل هذا منشأ وثنيتهم وذات الله تعالى لا تتجزأ وإنما هي عنايته يمنحها من شاء من عباده.
(4)
انظر كيف لم يعد المسلمون أمة منفردة وما كان ذلك جهلاً ولكنه التعصب.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة العاشرة
(فيما ينبغي عليه التعويل)
(المسألة الرابعة عشرة) استدل منكرو الكرامات من المعتزلة وبعض علماء
السنة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي ومن على رأيهم بسبع حجج على
نفي الجواز، وتقدم بسطها وما قالوه في الجواب عن بعضها في المقالة الثالثة
(449-2) واستدل المثبتون بأربع حجج كما ذكر السبكي في الطبقات الكبرى
وهي ترجع إلى شيء واحد هو أنها وقعت بالفعل كما يعلم من بعض قصص القرآن
والآثار المروية عن الصحابة.
وتقدم في المقالة الرابعة بيان أن تلك القصص لا دليل فيها يصلح حجة في
هذا المقام إلا على ما يسمونه الإلهام وما في معناه من مكالمة الملائكة، وكان ذلك لأم
موسى وأم عيسى عليهما السلام (راجع 481-2) وفي المقالة الخامسة والسادسة
أنه لم يثبت بسند صحيح من الكرامات المأثورة عن الصدر الأول إلا مثل ذلك
الإلهام أيضًا، واستجابة الدعاء والبركة في الطعام (راجع 545-2و657-2) .
(المسألة الخامسة عشرة) أن ما يقال عن الصحابة (عليهم الرضوان) من
هذه الكرامات - ما صح سنده منه وما لم يصح - يعد على الأنامل لقلته وصار
المسلمون كلما بَعُد الزمان وقل العلم وكثر الفسوق والعصيان يكثر فيهم القول بهذه
الكرامات حتى إنهم يعدون لبعض الشيوخ المتأخرين ما يكاد يتجاوز عقد المئين. وهم
متفقون على أن الصحابة أفضل ممن بعدهم من الأولياء بلا قيد ولا استثناء. وقد
أجاب بعضهم عن هذا بأن المسلمين كانوا في عصر الصحابة وما يقاربه أقوياء
الإيمان فلم يكونوا محتاجين إلى كرامات وخوارق تقوي إيمانهم. وهذا الجواب مبني
على قاعدتهم التي ذكرها السبكي وغيره وهي أنه لا يجوز إظهار الكرامة إلا عند
ضرورة شديدة كتقوية إيمان شاك، وصواب القول في الجواب أن أهل الصدر الأول
من الصحابة والتابعين كانوا لقوة إيمانهم ويقينهم لا يكذبون ولا يخادعون الناس
بالوهم ولذلك لم يدَّعوا هذه الخوارق التي ربما كانوا أحوج إليها ممن بعدهم لإقامة
الحجة على المشركين والكافرين الذين كانوا مشتغلين بدعوتهم ومجاهدتهم. ولكنهم
لرسوخهم في معرفة مقاصد الإسلام كانوا يكتفون بالحجج المعقولة ولا يعتمدون على
شيء من الخوارق الكونية التي يضل فيها الفهم، ولا يهتدي فيها الوهم، وهذه
المسألة كنا وعدنا ببيانها في المقالة السادسة.
(المسألة السادسة عشرة) أن ما يصح أن يسمى كرامة من هذه الغرائب التي
تظهر على أيدي الناس هو ما كان ثمرة لارتقاء الروح، وصفاء النفس؛ بل هذا هو
معنى ما ذكروه في كتب العقائد كما تقدم في المسألة الثامنة. وإذا كان الأمر كذلك
فالواجب أن تبقى هذه الثمرة معلقة بهذه الشجرة أي: يجب أن لا تتجاوز هذه
الخصوصية أهلها الخواص. فإذا تجاوزتهم إلى من لا يعرف منشأها كانت فتنة له
وضارة به؛ ولذلك قال كبار الصوفية والمتكلمين المثبتين للكرامات بوجوب إخفائها
لأنها فتنة للناس وضارة بهم ومن مبالغتهم في ذلك القول المأثور عن الشيخ أحمد
الرفاعي: إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض! .
(المسألة السابعة عشرة) أكبر ضرر وأعظم فتنة في فشو الاعتقاد
بالكرامات بين العامة وكونها عند الصالحين صناعة من الصناعات، وأنها زلزلت
قاعدة العقائد الكبرى وهي توحيد الله تعالى وأوقعت الناس في ضروب من الشرك
الأصغر والأكبر. وليس زلزال التوحيد محصورًا في اعتقاد تعدد الخالقين
للسموات والأرض المشتركين في الإيجاد والتكوين وإنما الشرك في التماس المنافع
أو دفع المضرات من غير الله تعالى، وبواسطة غير سننه التي أقام بها نظام الكون
وجعل الانتفاع بها عامًّا لجميع خلقه.
بل ورد في الأحاديث تسمية الرياء في العبادة شركًا فكيف لا يكون دعاء
غير الله تعالى شركًا. روى أحمد وابن ماجه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وصححه من حديث شداد بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي
فقلت: ما يبكيك؟ ! فقال: (إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون
صنمًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولكنهم يراؤون بأعمالهم) ! وإنما سمي الرياء
شركًا؛ لأن المرائي يطلب منفعة من المرائَى والمنافع لا تطلب إلا من الله تعالى ومن
الطرق والأسباب التي سنها لها. والغرض من العبادة طبع ملكة الاعتماد على الله
تعالى في القلب لتقوية التوحيد فإذا لوحظ بها الناس وفعلت رئاءهم فقد قطعت
طريق التوحيد ودلت على عدم تمكنه من النفس. فما بالك بمن يعتمد على غير الله
تعالى ابتداءً ويجعله حجابًا بينه وبين الله يزعم أنه يقربه إليه زلفى.
ولو كان الشرك عبارة عن تعدد الخالقين لما كان فيه ما هو أخفى من دبيب
النمل.
روى ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد والطبراني من حديث أبي موسى
الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (أيها الناس
اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل) فقالوا: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب
النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه
ونستغفرك لما لا نعلمه) وروى غيرهم عن غيره أحاديث بمعناه منها حديث ابن
عباس عند الحكيم الترمذي: (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا) .
إذا عدت عيناك عما تشاهد كل يوم من العامة لا سيما في أضرحة
الصالحين. ونبا سمعك عما تسمع منهم من دعاء غير الله، والاستغاثة والاستعانة
بغير الله، وطلب الحوائج ورد البلاء من غير الله والتماس الصدقات (على قبول
فلان وفلانة) من دون الله، وقلت كما قال بعض علماء الأزهر: إن هؤلاء العامة
لا يعقلون التوحيد وإن الإمام محمدًا صاحب أبي حنيفة قال في عامة زمنه وهم خير
منهم: (لو كانوا عبيدى لأعتقتهم وأسقطت حق الولاء) فهل تعدو عينك عما ترى
في الكتب المنتشرة كانتشار الجهل في العبارات الشركية التي تقشعر منه جلود
الموحدين، كقولهم في كتاب ترياق المحبين وكتاب طبقات الوتري وغيرهما من كتب
الرفاعية: (إن عبد الرحيم الرفاعي كان يميت ويحيي ويفقر ويغني ويسعد ويشقي)
وقولهم إن أحمد الرفاعي وصل إلى مرتبة صارت السموات السبع في رِجْله
كالخلخال! . ولهم في هذين وغيرهما أقوال أخرى يتبرأ منها حتى دين بولس ودين
بوذا!
وقد ذكرنا في المسألة الثامنة كلمتهم التي يجعلون إرادة الله تعالى فيها تابعة
لإرادتهم. وإنك لتجد من حَمَلَة العمائم من يصحح مثل هذه الأقوال ويحرف كلام
القرآن عن مواضعه للتوفيق بينه وبينها.
وإذا بحثت عن سبب هذا الغلو كله تجده الاعتقاد بالكرامات بغير قيد ولا حد
ولا حساب. قالوا: يجوز إظهار الكرامة لتقوية الإيمان؛ ولكننا نرى إظهارها كان
أكبر جناية على أساس الإيمان. وأما هؤلاء العامة الذين قوي إيمانهم بأصحاب
القبور المشرفة (خلافًا لنهي الشارع عن تشريفها) فلو لم يعلموا بشيء من هذه
الكرامات لما كان إذعانهم وتسليمهم بالدين ينقص ذرة؛ لأن الدين عندهم تقليدي في
أحكامه وفروعه، وجداني فطري في أصله.
(المسألة الثامنة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بالكرامات إباحة
الموبقات وتحريم الواجبات، وذلك أنه استقر عند العامة وأكثر الذين يعدون من
الخاصة أنه لا يجوز الإنكار على الأولياء وما الأولياء عندهم إلا من تظهر على
أيديهم العجائب والخوارق؛ لأن المعصية التي تشاهد منهم لا بد أن تكون صورية لا
حقيقية ولذلك يجب تأويلها. فإذا رأيت أحدهم يشرب الخمر فاعتقد أنها انقلبت
عينها كرامة له فصارت لبنًا أو عسلاً أو شربًا آخر من الأشربة المباحة، وإذا رأيته
يترك الصلاة فاعتقد أنه يصلي بمكة أخذًا من قول السيد البدوي في الرد على الذين
اتهموه بذلك:
وفي طندتا قالوا صلاتي تركتها
…
ولم يعلموا أني أصلي بمكة
أصلي صلاة الخمس في البيت دائمًا
…
مع السادة الأقطاب أهل الطريقة
ولهم في هذه التأويلات حكايات غريبة يسخر العقلاء من بعض المستفيض
منها، كزعمهم أن بعضه رؤي يأتي الفاحشة ثم تبين أن سفينة كانت خرقت في البحر
وأشرفت على الغرق فبادر ذلك الولي إلى سد الخرق بما كان منه!
(المسألة التاسعة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بهذه الكرامات عدم ثقة
جماهير المعتقدين بها بالعقل وقضاياه ونظام الكون وسننه فهم دائمًا أسرى الأوهام،
وعبيد الخيالات والأحلام، فضعفت بذلك المدارك، وانقلبت في التصور الحقائق،
وصار معظم الناس يخضع للدجالين، ويؤمن بالمشعوذين والعرافين، ومن أنكر
عليهم شيئًا من ذلك اتهموه بالفلسفة ورموه بفساد العقيدة؛ فالعرافة والكهانة عندهم
إيمان، والحكمة (الفلسفة) كفر أو عصيان، والله تعالى يذكر في كتابه أنه بعث
رسوله ليعلم الناس الحكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:
269) ، ويقول نبيه فيما علّمنا من الحكمة: (مَن أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما
يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة. وروى
أحمد ومسلم في صحيحه عن بعض أمهات المؤمنين أن النبي e قال: (من أتى
عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين يومًا) نعم، إنهم لا يسمون هؤلاء
المخبرين عما وقع وعما يتوقع كهانًا وعرافين لما كان من الخلل في اللغة، والعبرة
بالحقائق لا بالأسماء. فإذا كان العراف يخرج عن كونه عرافًا بتسميته وليًّا مكاشفًا
فالخمر تخرج عن كونها خمرًا بتسمية بعض أصنافها كونياك أو شمبانية. ومثل
هذا يقال في تسميتهم الاستعانة بغير الله توسلاً وما أشبه ذلك.
وإن وراء الخضوع للدجالين والعرافين الذين يدعون الكرامات مفاسد لا يكتنه
كنهها ولا تحصي أنواعها وأفرادها فمن الناس من يبذل لهم المال، ومنهم من
يحكمهم في النساء والعيال، وإننا لنعرف أشخاصًا من هؤلاء الدجالين قد اشتهر أن
النساء يتجردن لهم فيكتبون من طلاسمهم وحروفهم على بطونهن ما يزعمون أنه
ينفع لحبل العاقر، أو يحبب البغيض منهن إلى زوجها أو غيره ممن تهوى. ومنهم
من يخلو بالنساء متى شاء من ليل أو نهار برضى أزواجهن الذين يعتقدون أن
هؤلاء من المقربين عند الله تعالى فلا يمكن أن تقع منهم الفاحشة فالرجل يكون ديوثًا
وصاحب الكرامة فاجرًا أو قَوَّادًا وكل ذلك ببركة الاعتقاد بالخوارق والكرامات
ولولاها لما كان شيء من ذلك بهذه الصور.
(المسألة العشرون) من مضرات الاعتقاد بهذه الكرامات ترك مجموع الأمة
الاهتمام بأمورها العامة اعتقادًا بأن هذه الأمور قد وكلها الله تعالى إلى رجال الغيب
فلا يجري في الأمة شيء إلا ما قرروه في الديوان الأعلى، وما قرروه قضاء لا مرد
له إلا أن يكون بتصرفهم. وفي كتب الصوفية كلام كثير عن هذا الديوان ومحله
ورياسته وأعضائه ولغتهم وأعمالهم. وقد كان من أسباب خضوع بعض البلاد
الإسلامية المعروف عن أهلها الشجاعة والأنفة للأجانب قول بعض المعتقدين من
أهل الطريق: إنه علم من أهل الله أن الله قد سلط الأجانب على تلك البلاد عقوبة
لها!
وينقلون أن أهل الشام رغبوا إلى ولي كبير كان عندهم أن يدفع عنهم إغارة
تيمور لنك فخرج فوجد الخضر على مقدمة جيشه، فقال: أنت معه؟ فقال: نعم
أنا وربك! فعلموا أن مقاومته عبث؛ لأنها محاربة لله تعالى!
وقد أشيع في إثر الاحتلال الإنكليزي في هذه البلاد أن بعض الصالحين
استغاث بأهل البيت وبالسيد البدوي لإخراجهم، فكشف عنه الحجاب فرآهم مقيدين
بسلاسل وقيل له: إنهم حاولوا إخراجهم فقُيدوا؛ لأن الله تعالى أراد هذا الاحتلال!
أمثال هذه الحكايات تسري في الأمة سريان الأوبئة، تظهر الحكاية اليوم في
بلد فيسمعها في اليوم التالي أهالي مئة بلد ولا يمر أسبوع إلا وتراها قد عمت
الديار، وجابت الأقطار وقال الأول للآخر: إنها منقولة بالتواتر!
(المسألة الحادية والعشرون) من مضار الاعتقاد بهذه الكرامات أنها حجاب
دون العلوم الكونية في نظر الدهماء وذلك أنهم يرون الذين يأخذون بهذه العلوم
يحتقرون الدجاجلة الذين يدَّعون هذه الكرامات ويحتقرون الذين يخضعون لهم
ويعتقدون بهم فينسبون ذلك إلى العلم ويعدونه من ثماره وهو شر الثمار عندهم،
ويمقتون العلم ومنهم من يجعله يريد الكفر؛ لأجل ذلك وكفى بذلك ضررًا لا سيما في
هذا الزمن الذي بُنيت فيه السيادة والسلطة على العلم.
(المسألة الثانية والعشرون) من مضار الاعتقاد بالكرامات على الوجه
المعروف ومشايعة العلماء للعامة على جميع مظاهرها وما يتعلق بها ولهجهم
بحكاياتها واحترامهم لدعاتها وأدعيائها أنها نزلت منزلة العقائد الدينية والقواعد
الأساسية للدين، وصار غير الراسخ في العلم يعتقد أن منكر هذا الحكايات فيها كافر
وكانت نتيجة هذا أن الذين تعلموا على الطريقة الأوربية وعقلوا فعلموا أن هذه
الحكايات إما دجل وشعوذة، وإما أكاذيب ملفقة صاروا يشكُّون في الدين من أصله
لاعتقادهم التقليدي أن الدين مبني عليها، وما بُني على الفاسد فهو فاسد وقد صرّح
غير واحد من علماء الاجتماع وطبائع الملل بأن العقبة الكبرى في طريق الإيمان
لهذا العهد هي عقيدة كون الخوارق أصل الدين الأساسي. وقد تقدم في المسألة الحادية
عشرة أن ذلك غير صحيح حتى في أديان الشعوب المنحطَّة التي كانت تمهيدًا لدين
الارتقاء (الإسلام) فكيف تكون أصلاً له؟ !
(المسألة الثالثة والعشرون) لا نعرف شعبًا من الشعوب دخل في الإسلام
بسبب هذه الكرامات، وإذا كان وجد في الناس مرتابون أزال ريبهم مشاهدة الكرامات
فلا نظن أنهم يبلغون عشر معشار الذين فسدت عقائدهم بسبب جعل هذه الغرائب
من الدين. وإذا فرضنا التساوي فلنا أن نقول: مصلحة بمفسدة وتبقي مفاسد أخرى
ليس بإزائها مصالح وقد ذكرنا أهمها آنفًا فتكون النتيجة أن إثم هذه الاعتقاد أكبر من
نفعه!
(المسألة الرابعة والعشرون) أن الذي ينبغي أن يعول عليه هو تحكيم قاعدة
(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وتعلم الأمة عدم الثقة بهذه الخوارق وعدم
تصديق المنتحلين لها والمبالاة بهم. فإن كانوا من أولياء الله وأصفيائه فحسبهم
عناية الله بهم وكفايته لهم فمن كان وليًّا لله فالله ولي له ومن لم يكتفِ بولاية الله
تعالى عن التعرض للناس فهو ولي الشيطان:
من عرف الله فلم تغنه
…
معرفة الله فذاك الشقي
وإذا كان لهؤلاء الأصفياء مزايا روحانية أكرمهم الله تعالى بها فالواجب كما
قال أئمتهم أن لا يفشوا سر الربوبية وعلى غيرهم من المسلمين أن يعتقد فيهم ذلك
فينكر خلافه.
وهنا نرجع إلى مذهب جمهور أهل السنة فنقول: إن الكرامة جائزة ولكن لا
يجب على أحد أن يعتقد بكرامة معينة لأحد معين، وهذا المذهب موافق لقاعدة
كتمان الكرامة. ونتيجته أن هذه الحكايات التي تُثبت لأشخاص معينين كرامات لا
نهاية لها لا يوثق بها ولا يعول عليها والصواب أن تقاس على أمثالها عند أهل الملل
الأخرى فإن سنة الله فيهم وفينا واحدة. فإن صحت عنده رواية شيء منها بعد
التحري الذي أشرنا إليه في المقالة السابقة فليعرضه على وجوه التأويل في المقالات
اللاحقة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دعوى صلب المسيح
(2)
تكلمنا في الجزء الماضي عن تمويه محرر مجلة البروتستانت على بعض
عوام المسلمين في هذه المسألة وأقوى ما يخادعون به أنه لا يعقل أن رجلاً مشهورًا
كالمسيح يشتبه على اليهود وشرطة الرومان فلا يميزونه من غيره. وفاتنا أن نذكر
أن في الأناجيل عبارات كثيرة تدل على أن الاشتباه حصل بالفعل. وقد كتب إلينا
من السويس كاتب في ذلك فرأينا أن ننقل عبارته بنصها وهي:
(قد اطَّلعت على ما جاء في المنار ردًّا على بشائر السلام في مسألة صلب
المسيح) .
ولما كنت قد كتبت على المجلة المرسلة إليَّ من نقولا كتابة في هذا الشأن
ورددتها إليه رأيت أن أطلع حضرتكم على مضمون ما كتبت فلعلك تجد فيه ما
يناسب المنار، وإن كان ما كتبته موجزًا فعلى المنار الإيضاح والمراجعة والتفصيل.
قلت عند قوله: (قال المفسرون إن الله ألقى شبهه.. إلخ) إن المفسرين
قسمان قسم يفسر من طريق الإيمان على سنة المسيحية وهم الذين نقلت قولهم، وقسم
يفسر من طريق العلم والعقل على سنة الإسلام وقد فسروا هذه الآية بما لا يبعد عما
ورد في أناجيلكم التي تقرؤونها ولا تفهمونها، ورد في الإنجيل أن المسيح قال
لتلامذته: إنكم ستنكرونني قبل أن يصيح الديك.. إلخ (أنكرت الشيء لم أعرفه)
وورد أيضًا فيه أن المسيح خرج من البستان فوجد أعداءه فقال لهم: مَن تطلبون؟
فقالوا: المسيح. فقال: هو أنا ذا فقالوا: إنما أنت بستاني ولست بالمسيح وهكذا
كانوا كلما وجدوه أنكروه وخانتهم أبصارهم في رؤيته وعمي عليهم واشتبه منظره
(وخيانة النظر ثابتة قطعًا) فلما أعيتهم الحيل استأجروا يهوذا الإسخريوطي بثلاثين
درهمًا ليدلهم عليه لتمكُّّّنه منه فلا يشتبه عليهم، وهذا في الإنجيل أيضًا فهذه الحيرة
المفضية إلى استئجار دليل يدل عليه مع ملاحظة أنه رُبِّيَ في وسطهم وكانوا
يعجبون بفصاحته وحكمته كما هو وارد في الإنجيل أيضًا تدل بأجلى بيان وأوضحه
على أنهم كانوا في شك منه، وكان يشبه لهم بغيره فكلما اجتمعوا عليه اشتبه عليهم
وعمي في نظرهم وخانتهم أبصارهم وظنوه غيره وما حصل لهم حصل لدليلهم
(يهوذا) وقد ورد في الإنجيل أنهم حينما ساقوه للصلب كانوا يستحلفونه: هل أنت
المسيح؟ فكان يقول: هذا ذا فمنه يعلم أنهم كانوا لم يزالوا في شكهم حتى بعد
الاستئجار ووجود المرشد والدليل، فلما أعياهم الأمر عمدوا إلى مَن غلب على ظنهم
أنه هو المسيح والمسيح في السحابة البيضاء مع موسى كما في الإنجيل أيضًا ثم
صلبوا ذلك الرجل الذي كانوا يستحلفونه، وغلب على ظنهم أنه هو المسيح فهل كل
هذا كان لظهور المسيح واضحًا لهم أو لأنهم كلما طلبوه شُبه لهم وألقى شبه غيره
عليه وعمي عليهم وخانتهم أبصارهم فعمدوا إلى يهوذا واستأجروه ليدلهم عليه، فما
كان بأمثل منهم في ذلك وأدتهم خاتمة المطاف إلى أخذ من غلب على ظنهم أنه هو
وصلبوه، وما هو منه بشيء بل المسيح ساخر منهم ضاحك عليهم يقول: أنا المسيح!
فيقولون: لست هو، حتى قتلوا غيره وصلبوه وهو محجوب عن أنظارهم
مشتبه عليهم قد شُبه لهم بالبستاني مرة وبغيره أخرى وبذلك نجَّاه الله من كيدهم فما
نالوه بسوء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّن} (النساء: 157) المبني على إرشاد يهوذا
المشكوك فيه كما علمت من نص الإنجيل {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (النساء: 157) .
هل فهمت يا حضرة المبشر الآية وكيف كانت عبارات الإنجيل حجة للإسلام
لا عليه؟ . فاقرؤوا الأناجيل وافهموها؛ فقد وسع الله لكم على يد البروتستانت ولا
تكونوا كالذي يحمل أسفارًا اهـ.
أركان الدين الصحيح
ضاق هذا الجزء عن رد شبهات النصارى على القرآن وغير ذلك مما كنا
وعدنا به لطول مقالة (النبأ العظيم) أكثر مما كنا نتوقع، وقد صدر الجزء الخامس
من المجلة البروتستنتية قبل صدور هذا المنار قرأنا فيها نبذة في أركان الدين
الصحيح يقول فيه الكاتب الذي ينتمي إلى المسيح ما نصه:
وإن المذهب الذي يجب على كل فرد أن يختاره لنفسه هو أكثر المذاهب
مشابهة لروح الآلهة وأقربها لصفاتهم.. إلى آخر ما قاله وكرر فيه لفظ (الآلهة)
ثم فسر هذا المذهب بقوله: (ذلك المذهب الذي ينادي: أن يا قوم أحسنوا إلى مَن
أساء إليكم فتلك صفات الله، ذلك المذهب إنما هو مذهب إلهي بلا مراء) ، ثم ذكر
أن المذهب إذا قال لتابعيه جاهدوا في سبيل الله ودافعوا عن أنفسكم في سبيل الله
يكون بريئًا من الله والله بريئًا منه؛ لأن العزة الإلهية لا تأمر بالقتال مهما كان
الغرض شريفًا. وأجاب عن أمر التوراة بني إسرائيل بإبادة بعض الأمم
المجاورين لهم (بأنه) كان أمرًا وقتيًّا لازمًا للتوصل إلى المسيحية ديانة السلام
والمحبة) ! .
ثم ذكر اعتراض الناس على هذا المذهب بكون محبة الأعداء وترك المدافعة
عن النفس مستحيل، واعترف بأن هذا صحيح بالنسبة إلى معارف البشر الآن وقال:
إن معارفهم سترتقي في المستقبل إلى فهمه.
فملخص هذا الدين الإلهي:
(1)
أنه يوجد آلهة متعددة وأن أخلاقهم متفقة على محبة أعدائهم ولا شك
أن أعداءهم هم الذين لا يؤمنون بهم، ولا معنى لمحبتهم إلا عدم مؤاخذتهم على الكفر
فالنتيجة أن هذا الدين دين إباحة ومبطل لنفسه ولغيره.
(2)
أنه يأمر بمحبة الأعداء وترك المدافعة وذلك مستحيل بحسب ما
وصلت إليه معارف البشر إلى القرن العشرين من ظهوره؛ ونتيجة هذا أنه لم يتبعه
أحد حتى الآن.
و (3) أن هذا المذهب يخالف قول المسيح: (وهذه هي الحياة الحقيقية أن
يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته) (يوحنا 17)
وقوله: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا؛ بل
سيفًا؛ فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها
وأعداء الإنسان أهل بيته) (متّى 10-34و35) وقوله: (جئت لألقي نارًا على
الأرض) (لوقا 13-94) وقوله: (إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه
وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا)
(لوقا 14-26) وقوله: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا
بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-27) وأمثال ذلك.
فأي الدينين دين المسيح عليه السلام؟ !
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قتل بني إسرائيل أنفسهم
وبعثهم بعد موتهم
جاءنا من حضرة المحامي الشهير صاحب الإمضاء ما يأتي:
رأينا فيما أوردتموه بأحد أعداد المجلة في تفسير قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُم..} (البقرة: 54) إلى قوله جل شأنه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 56) أن سيدنا موسى دعا من يرجع إلى
الرب من قومه، فأجابه بعضهم فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضًا
ففعلوا، وقتل منهم نحو ثلاثة آلاف. وإن البعث بعد الموت عبارة عن كثرة نسلهم
والبركة في أحفادهم تعويضًا لهم عن قتل آبائهم، على أننا لو أعدنا التأمل نرى أن
الأمر والإرشاد للتوبة لا يستلزمه قتل نفوس التائبين وكذلك البعث بعد الموت لا
يكون معناه زيادة النسل.
وحينئذٍ يكون الأقرب هو أن قتل النفس معناه إماتتها عن الفساد والمعصية
بسيف التوبة والندم ليبعثها الله بعد هذا الموت المعنوي إلى عالم الفلاح والتقوى، وأن
البعث هنا معناه هو الوصول إلى الحقيقة بعد ذلك الضلال الذي ماتت عنه عواطفهم.
فأرجوك أيها الصديق الفاضل إنعام النظر في ما أوضحته وإرشادي إلى
الحقيقة. ودمتم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
إسماعيل عاصم
(المنار)
تقدم في تفسير الآيات أن سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى الذي عوقبوا
عليه بالصاعقة كان في واقعة مستقلة غير واقعة اتخاذ العجل الذي عوقبوا بالقتل
وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56) وارد على غير الذين
قتلوا أنفسهم بالتوبة، فإذا اعتبر الخطاب لمجموع الأمة فلا فصل فهي التي قتلت
وهي التي صعقت، وهي التي بعثت وهذا ما عليه الأستاذ الإمام في إسناد الله تعالى
أعمال سلف بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل الذين كانوا
في زمن التنزيل، وعليه لا إشكال في إسناد] بَعَثْنَاكُم [إلى الذين ماتوا بالصاعقة أو
غيرها ولا بعد في تفسير هذا البعث بعد الموت بكثرة النسل لا سيما مع ملاحظة أن
المخاطَبين بهذا كله هم اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
أما قتل بعضهم بعضًا في التوبة فهو المنقول في كتبهم المقدسة والذي يتناقلونه
خلفًا عن سلف، وبه قال جماهير المفسرين، وذهب القاضي عبد الجبار من المعتزلة
إلى أن القتل هنا مجاز وما كان الله ليكلف الناس بالقتل؛ لأن التكليف لمصلحة العبد
ولا مصلحة في القتل لمن يقتل. ووجه الآية توجيهًا مقبولاً في اللغة وأساليبها وهو
نحو ما في السؤال لم يحصل بالفعل وإن كان يجوز التكليف به.
قال الآلوسي: ومن الناس من جوَّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال (معنى
اقتلوا: ذللوا) ومن ذلك قوله:
إن التي عاطيتني فشربتها
…
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرًا، ونقل عن قتادة أنه قرأ
(فاقتلوا أنفسكم) والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل
العظيم الذي تعاطيتموه وقد هلكت فاقتلوها بالتوبة والتزام الطاعة وأزيلوا آثار تلك
المعاصي بإظهار الطاعات اهـ.
وقال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56)
بعدما أورد القول المشهور: ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانًا وهمودًا لا
موتًا حقيقة كما في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: 17) ومنهم من حمل الموت مجازًا كما في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) وقد شاع ذلك نثرًا ونظمًا ومنه قوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته
…
وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى
…
يظن من الأحياء وهو عديم
ومعنى البعث على هذا التعليم أي: ثم علمناكم بعد موتكم اهـ.
فما ورد في السؤال معقول وجيه ولم أذكره في تفسير الآيات؛ لأنني لم أتذكر
أن الأستاذ الإمام أورده على أنه ما كان ليغفل مثل هذه الوجوه المعقولة ولعلي نسيت
وسبحان مَن لا ينسى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
استدراك
ذكرنا في هامش صفحة 123 أننا لا نتذكر في أي موضع من التوراة ذُكر
ذلك الحكم الذي أشار إليه الأستاذ الإمام في تفسير الآية ثم ذكرنا أنه في أول الفصل
الحادي والثلاثين من سفر تثينة الاشتراع ونصه:
(إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعًا في الحفل
لا يعلم مَن قتله 2 يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل 3
فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث فيه ولم
يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي 5 ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي؛ لأنه إياهم
اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون لك خصومة
وكل ضربة 6 ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على
العجلة المكسورة العنق في الوادي 7 ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم
وأعيننا لم تبصر 8 اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بريء
في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم) اهـ. وقد ذكر معنى ذلك الأستاذ الإمام
في الدرس؛ ولكن جاءت عبارتنا عنه غير كافية، فأوضحناها بهذا الاستدراك.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإنجيل الصحيح
(مقدمة كتاب الفيلسوف تولستوي الروسي الذي سماه الأناجيل)
(تمهيد)
ينعق دعاة النصرانية فينا دائمًا: أن القرآن شهد بأن الإنجيل كتاب الله المنزل
على المسيح وأنه حق، فإذا لم تكن هذه الأناجيل الأربعة التي في أيدينا هي كتاب
المسيح فأين هو كتابه؟ وقد سبق لنا في المنار الجواب عن هذا السؤال وبيان أن
إنجيل المسيح - في اعتقاد المسلمين - هو مجموع المواعظ والحكم والأحكام التي
جاء بها المسيح وعلمها بني إسرائيل مع تصديقه للتوراة وأن ذلك لم يحفظ كله، وإنما
حفظ منه شيء ونسيت أشياء كما قال تعالى في أهله {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظُّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) وما كانوا يعترفون
بهذا ولكن الله عرف نبيه الأمي به فعلم الناس ما لم يكونوا يعلمون.
كانت تعاليم الدين محسوبة في هذه الأمة عند الرؤساء؛ ولكن ما أحدثه
البروتستنت من حرية البحث فيه وما كتبه مؤرخو أوربا الأحرار في التاريخ العام
قد أظهر لنا تفسير قول الله في الإنجيل فكان ذلك من دلائل نبوة نبينا صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم؛ لأنه ضرب من ضروب إعجاز القرآن وآية من آياته
البينات. فإن التواريخ الكنيسية وغير الكنيسية أظهرت لنا أن أتباع المسيح في
زمنه كانوا من العوام الجاهلين، وأنهم مُزِّقوا من بعده في الأرض كل ممزق وكانوا
مُضطهَدين من اليهود والرومان جميعًا حتى قضت السياسة على الملك قسطنطين
بالدخول في النصرانية واتخاذ عصبة جديدة منها. فلما صار لهذه الديانة سلطة
طفقت تنشئ المجامع وتجمع الآثار فظهر عندها أناجيل كثيرة تحكَّم فيها الرؤساء
كما شاءوا وأقروا منها أربعة وحكموا ببطلان ما عداها. وإن كانت هذه الأربعة إلا
تواريخ للمسيح فيها بعض كلامه المأثور عنه منقولاً عن آحاد لا يجزم العقل بصحة
روايتهم كلها ولا بكذبها كلها؛ فالذي يمكن الوثوق به في الجملة أن فيها حظًّا من كلام
المسيح وبقي حظ آخر هو الذي نسوه وليس فيها كلمة تدل على أن أحد مؤلفيها
يدعي أنه جمع فأوعى كل ما قال المسيح؛ بل كانت آخر جملة في الرابع منها قول
يوحنا مؤلفه: (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن
أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة) اهـ.
وإننا بغض الطرف عن الغلو في العبارة نقول: إن الأفعال الكثيرة المرادة لا بد
أن تكون مصحوبة بأقوال وتعاليم تُركت كتابتها كما تركت كتابة الأفعال، ولعلنا في
جزء آخر نورد بعض أقوال مؤرخي أوربا في ذلك. ونقول الآن: إن العقول المطلقة
من أسر تقليد الكنيسة قد اهتدت إلى ما حكم به الإسلام في الجملة. ومن أكبر هذه
العقول عقل الفيلسوف تولستوى الروسي الشهير فقد ألف كتابًا أرجع فيه الأناجيل
الأربعة إلى إنجيل واحد وحذف منها ما لا يوثق به من الأقوال التاريخية والخوارق
الكونية، وإن كان بعضه صحيحًا. وإننا ننشر في المنار مقدمة كتابه هذا معربة عن
الفرنسية لتكون عبرة للعقلاء وإن كنا لا نسلم بكل ما فيها تسليمًا.
ذكر في أول المقدمة أن كتابه هذا (واسمه الأناجيل) ملخص ارتقائه في
الفكر الذي أعانه على معرفة الحق والصواب في التعاليم المسيحية كما يعتقد الآن.
وثانيها في خلاصة المذهب المسيحي المعروف عند الكنائس لخصه مما يؤثر
عن الحواريين والمجامع وجمهور القسيسين وأضاف إليه شرحًا (يوضح فساد تلك
التعاليم الكنائسية) وثالثها في خلاصة الأناجيل الأربعة وجعلها إنجيلاً واحدًا يحتوي
على التعاليم المسيحية الصحيحة - بحسب ما وصل إليه اجتهاده - ورابعها خلاصة
عامة للمعنى الحقيقي الذي تدل عليه التعاليم النصرانية وللأسباب التي أوجدتها
والنتائج التي تستلزمها.
(قال) : وهذا الكتاب الذي أنشره الآن على رؤوس الأشهاد هو خلاصة
القسم الثالث. ثم قال: (ولقد حاولت في القسم الثالث من مؤلَّفي الكبير الذي سبقت
إليه الإشارة أن أترجم وأنشر الأناجيل الأربعة جملة جملة لا أغفل منها سطرًا واحدًا؛
ولكن رأيت من الواجب أن أتعمد في هذه الخلاصة حذف كل العبارات التي ترتبط
بهذه الموضوعات وهي: الحمل بالمسيح وميلاد القديس يوحنا المعمدان وسجنه
وقطع رقبته وميلاد المسيح ونسبه وهروبه إلى مصر، والمعجزات التي حصلت في
كانا وكفر ناحوم والعزائم لإخراج الجن من أجساد الناس والسير على سطح البحر
ولعن شجرة التين والقيامة وكل ما يشير إلى النبوات التي جاء مصداقها في حياة
المسيح) .
طويت كشحًا عن هذه العبارات لأنها لا تحتوي على شيء مما يتعلق بالتعاليم
المسيحية وإنما لها علاقة ببيان الحوادث التي حصلت قبل تصدر المسيح للتعليم
وفي أثنائه وبعده فليس فيها فائدة في إيضاح حقيقة التعاليم التي جاء بها المسيح بل
يسوغ لنا أن نقول: إنها موجبة للتشويش في فهمها والارتباك في إدراكها ومهما كانت
الوسيلة في ترتيب المعاني على هذه الموضوعات فإنها لا تغير تعاليم المسيح نقضًا
ولا إثباتًا وإنما الغرض منها إقناع الذين لا يعتقدون بألوهية عيسى المسيح ولذلك لم
يكن فيها أقل فائدة لرجل لا يؤثر حكايات الخوارق والعجائب في إقناعه فضلاً عن
كون في نفس تعاليم المسيح الدلائل الكافية على ثبوت ألوهيته) .
(ثم قال) : (وأقول بوجه العموم فيما يتعلق بمخالفة ترجمتي في بعض
المواضع للنص الرسمي المعتمد في الكنيسة: إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أنه من
الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال: إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في
جميع آياتها وفي جميع مقاطع كلماتها وإنها مقدسة بحيث يحرم تبديل شيء منها فلا
يصح للقارئ أن ينسى أن عيسى لم يؤلف كتابًا قط كما فعل أفلاطون وفيلون
ومارك أوريل، وأنه لم يلقِ تعاليمه مثل سقراط على رجال من أهل العلم والأدب
وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم، كان يصادفهم في طريقه.
وإنما جاء بعد مماته بزمان يقارب المئة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر ببالهم
أن يدونوها بالكتابة ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن مثل هذه المدونات كانت كثيرة وقد
ضاع معظمها وإن منها ما كان محشوًّا بالخطأ والغلط وأن النصارى قد استخدموا كل
هذه المدونات في أول الأمر حتى اختاروا منها مع توالي الأيام ما ظهر لهم أنه أقرب
للكمال وللصواب - وإن الكنائس حينما اختارت أحسن الأناجيل بين مئات الألوف
من المصنفات التي جادت بها قرائح المشتغلين بالعلم في أوائل النصرانية وقعت
فيما يقوله المثل الروسي: (لا يخلو القضيب من العقد) فأخذت عقدًا كثيرًا من هذه المجامع وأن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل
المهملة لاعتبارها محلاًّ للشك والارتياب. وإن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل على
أشياء جميلة قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية! . لا ينبغي للقارئ أنه ينسى
أن تعاليم المسيح هي المقدسة وأن ذلك التقديس لا يتعدى إلى عبارات مسطورة
وكلمات مرقومة وأن اعتبار بعض الكتب مقدسة لا يكفي في إحاطة التقديس بكل ما
جاء فيها إلى آخر سطر منها. فليس الآن في عالم المدنية من يجهل أعمال النقد
التاريخي منذ مئة عام سوى جمهور الناس في بلادنا الروسية فإنهم لا يزالون يعتقدون
بهذا الرأي الساذج وهو أن أناجيل متّى ومرقس وبولس قد كُتبت كما هي الآن وأن
المؤلفين المنسوبة إليهم قد كتب كل واحد منهم ما كتبه على حدته دفعة واحدة.
لا ينبغي للقارئ أن ينسى أن هذا الرأي المبني على الجهل بالمباحث العلمية
إنما تعادل قيمته اليوم قول أسلافنا في القرن الماضي: إن الشمس تدور حول
الأرض.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل المجملة المندمجة في بعضها إنما هي
ثمرة المباحث الطويلة ونتيجة سلسلة من أعمال الحذف والزيادة وأنها أثر من
آثار ما أوحاه الخيال على آلاف من الرجال وأنها ليست بنتيجة ما نطق به الروح
القدس على لسان الإنجيليين كما يزعمون.
ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل بشكلها الحاضر لا تتضمن ألبتة شهادة
الحواريين وتلامذة عيسى مباشرة وأن القول بذلك من الخرافات التي لا تصبر على
محك الانتقاد فضلاً عن عدم بنائها على أدنى أساس سوى رغبة نفوس أرباب
التقوى والورع في أن تكون كذلك. فقد توالت القرون والناس يدونون الأناجيل
ويهذبون موضوعاتها، ويتوسعون في عباراتها، ويشرحون أقوالها، فإن أقدم
النسخ التي وصلت إلينا قد تمت كتابتها في القرن الرابع للميلاد وهي مكتوبة على
نسق واحد من أولها إلى آخرها أي بلا فواصل ولا غير ذلك من الإشارات التي
تستعمل لإيضاح الكلمات وبيان الجمل؛ ولذلك دعت الضرورة حتى بعد القرنين
الرابع والخامس إلى تفسيرها بطرائق متخالفة من كل الوجوه وصارت نسخ هذه
الأناجيل تقارب الخمسين ألفًا!
بل يجب على القارئ أن يستحضر في ذهنه كل هاتيك الاعتبارات حتى لا
يعول على هذا الرأي السائد فيما بيننا وهو أن الأناجيل وصلت إلينا صادرة مباشرة
عن الروح القدس بشكلها الحاضر ويجب عليه أيضًا أن يسلم معنا بأنه ليس من
المحرم علينا أن نحذف من الأناجيل العبارات التي لا فائدة فيها وأن نستعين ببعض
معانيها على بيان معاني البعض الآخر بل إن الحرام والكفر كل الكفر هو عدم
التجاسر على فعل ذلك! ! ! وأن نعتقد بتقديس بعض العبارات، وطائفة من
الكلمات، بحيث نرى أنه لا يجوز مساسها على الإطلاق.
هذا، وإنني أسال القارئ الكريم أن يتذكر أنني إذا كنت لا أعتبر الأناجيل
كتبًا مقدسة قد نزلت علينا من السماء مباشرة بوحي من الروح القدس الذي جعلها لنا
عهدًا ووصية، فإنني لا أذهب أيضًا إلى أن هذه الأناجيل ليست إلا آثارًا تاريخية
تدل على حالة التأليف في العلوم الدينية بل إنني مصدق بما حوته من التصور
الديني والتاريخي؛ ولكنني أتصورها بطريقة أخرى ولذلك أرجو من القارئ الكريم
الذي يمعن نظره في ترجمتي بأن لا يترك نفسه في أثناء تلاوتها تسير في طريق
الضلال من حيث الوجهة الدينية أو من حيث الوجهة التاريخية اللتين أقر عليهما
أرباب الآداب وعنوا بهما في هذه الأيام فلست أذهب إلى واحدة منهما دون الأخرى،
فكلاهما في نظري سواء.
لا جرم أنه يستحيل عليَّ أن أعتبر النصرانية وحيًا لا يشوبه شيء أو مظهرًا
مجردًا من مظاهر التاريخ في هذا الوجود؛ ولكنني أذهب إلى أن النصرانية هي
النحْلَة الوحيدة التي تجعل معنى لهذه الحياة ولم يدفعني اللاهوت ولا التاريخ إلى
اعتناق النصرانية! ولكن الأسباب التي حملتني على قبول هذا المذهب هي ما
يأتي:
…
...
…
...
…
(لها بقية)
…
...
…
...
((يتبع بمقال تالٍ))
…
...
…
...
…
...
…
...
…
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تتمة تقريظ رسالة الشيخ محمد بخيت
قال المؤلف بعد ما تقدم: ومن هذا القبيل بلا شبهة الاجتماع للصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم لأنها جماع الخير ومفتاح البركات بإجماع المسلمين.
أقول: إن الصلاة على النبي والدعاء له مشروع ولكن لم يقل أحد من السلف
ومن ينظر إلى قوله من الخلف بمشروعية الاجتماع لها وكونها شعارًا دينيًّا يُعيَّن له
وقت مخصوص وصيغ مخصوصة واجتماع مخصوص. وإذا كان الشعار لا يثبت
إلا بشرع كما تقدم فعلى المصلين أن يتحاموا ذلك وليصلوا ويدعوا مجتمعين وفرادى
ما تحاموا جعل ذلك شعارًا. ولا معنى لهذا الإجماع الذي ذكره. فالذين ينعقد بهم
الإجماع لم يُنقَل عنهم هذا القول: (إنها جماع الخير ومفتاح البركات) وإن أراد
أنهم قالوا ما هو بمعناه قلنا: إن معناه غير محدد متعين وما ذاك الذي قالوه بمعناه ومن
الذي نقله بالإجماع؟ الذي يقوله كل مسلم إنها مشروعة وكل مشروع خير نافع
ومفيد وبهذا القدر كفاية.
بدع المواسم:
ثم قال: ومن هذا القبيل الاجتماع لقراءة وسماع نحو قصة المعراج وفضائل
ليلة النصف من شعبان وليلة القدر في لياليها المشهورة؛ لأن الأولى سيرة النبي
وأحاديثه الصحيحة والثانية والثالثة آيات قرآنية وأحاديث نبوية جاءت في فضل
الليلتين وبيان معاني ذلك مما يرغّب في العمل الصالح.
ونقول: الاجتماع لهذه القصص صار له كيفية مخصوصة، ووقت مخصوص
ويكون في المساجد ويقتضي نفقات كثيرة تؤخذ من أوقاف المسلمين بغير حق
فيكثرون فيه إضاءة القناديل والشموع في المساجد والمنائر وتدار في بعض المساجد
أقداح الشراب الحلو على الحاضرين وقد تكون هذه الأقداح من الذهب أو الفضة
وذلك حيث يكون الأمراء ومن يتبعهم من الحكام والعلماء وبعض القصص التي تقرأ
فيها تشتمل على الأحاديث المكذوبة والواهية، لا سيّما قصة المولد التي تدخل في
كلامه بمقتضى كلمة (نحو) .
ثم إن هذا الشعار المبتدع يستتبع بدعًا أخرى كاجتماع أهل اللهو الباطل
المصبوغ بصبغة الدين بطبولهم ومزاميرهم في المسجد يعزفون ويغنون ويصفقون
ويهزأون بأسماء الله تعالى إذ يذكرونها في لهوهم هذا ويجتمع عليهم في بعض
المساجد (كمسجد القلعة) الغوغاء والإفرنج نساءً ورجالاً فيكونون في نظر هؤلاء
سخرية وآية على أن دين الإسلام دين المجانين والحمقى (حاشاه) .
هذا بعض وصف هذه الاجتماعات التي جعلت شعائر إسلامية تقام في بيوت
الله تعالى، ومن يقرأ رسالة المؤلف لا يفهم منها إلا كون هذا الاجتماع المعروف
مشروعًا في الإسلام ومن القرائن أن الناس يرون العلماء يحضرون هذه الاحتفالات،
نعم، إنه قال في جملة أخرى: لا يجوز التكلف في تغيير الصوت في الذكر
والصلاة على النبي e كما يفعله العوام فيمنع، ثم قال: وكذا يمنع كل منكر وكل
شيء اشتمل عليه مجلس الذكر والخير دون نفس الذكر والخير، وهذا القول يشبه
أن يكون احتراسًا من الانتقاد فإن الاجتماعات التي ذكرها معظمها بدع ومنكرات
حتى صار الأقرب أن يؤمر بتكريم ذكر الله أن يكون فيها احترامًا له فإن هذه
الاجتماعات قد تكونت هكذا من المنكرات فلا سبيل إلى إجازتها وجعلها مشروعة
واعتبار المنكرات عرضًا لاحقًا بها يخص بالإنكار دونها. وهذه الآيات وتفسيرها
والأحاديث وشرحها تقرأ في مجالس العلم ولا يخطر في بال أحد أن يقول إنها منكرة.
بل نقول: إن مجالس العلم في نحو الأزهر لا تخلو من منكر في الغالب ولكن ذلك
هو المنكر العارض والأصل في المجلس والاجتماع إفادة العلم واستفادته.
بدع الجنائز:
وقد أحسن المصنف عقيب ذلك في الجزم بحظر ما يكون في الجنائز من
(رفع أصوات المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر أو قصيدة بردة أو يمانية) وعده
ذلك من البدع المذمومة وعلل ذلك بأن النبي e تركه مع قيام المقتضى لفعله قال:
(فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة) كما هو الحكم في مثله بل نقل حديثًا رواه
أبو داود مرفوعًا وهو: (لا تتبع الجنائز بصوت ولا نار) . ثم ذكر أن بعض
المتأخرين جوز رفع الصوت بالذكر (مخالفة لأهل الكتاب؛ لأنهم يمشون في الجنائز
ساكتين) رد عليه هذا القول بوجهين: أحدهما اتباع النص الناهي عنه والنافي أن
العلة ممنوعة فإن أهل الكتاب يرفعون أصواتهم في الجنائز لهذا العهد ونزيد عليه
أن هذه العادات سرت إلى المسلمين منهم. ثم قال ما نصه: (وأما ما يفعل في
زماننا أمام الجنائز من الأغاني ورفع الصوت بالبردة واليمانية على الوجه الذي
يفعل في هذا الزمان والمشي بالمباخر فلا يقول بجوازه أحد) ثم بيَّن أن عرف
الناس لا يعتبر في هذا الزمان كما صرح به فقهاؤهم.
أقول قد أحسن في القول بحظر هذه البدع ومثل هذا الذي ذكره في كونه مبتدعًا
مذمومًا ما تقدم الكلام فيه من الاجتماع لقصة المعراج وليلة النصف وليلة القدر وليلة
المولد. وأما العرف المحكم شرعًا فلا معين لاشتراط كونه جرى في عهد الصحابة
وإلحاقه بالإجماع كما قال، وإنما هو العرف الذي يجري في المعاملات الدنيوية
ويتواطأ الناس عليه لموافقته لمصلحتهم وهو لا يخالف نص الكتاب والسنة ولا
يتعلق بالأمور الدينية المحضة.
لا عبرة بسكوت العلماء على المنكر:
وأحسن أيضًا كل الإحسان في قوله بعد إبطال عرفهم فيما ذكر: (وكذا ما
تعارفوه من التغني أي بمدح السلاطين والترضي وغير ذلك وقت الخطبة فإن كل
ذلك ممنوع اتفاقًا يثاب من منعه أو أمر بمنعه كما أن فعل شيء مما علم أنه بدعة
مذمومة شرعًا في بعض المواضع التي يكون بها العلماء كالجامع الأزهر مع
سكوتهم عليه لا يصلح دليلاً على الحل؛ لأن المعول عليه في الأحكام الشرعية هو ما
ذكرنا من الأدلة الأربعة) ، فليتأمل قول هذا العالم الأزهري أولئك العوام الذين
يحتجون على المنار في إنكار بدع الموالد والمساجد بأن العلماء يشاهدونها ولا
ينكرونها بل يقرون الناس عليها. وهذا آخر ما أردنا كتابته في تقريظ هذه الرسالة
الوجيزة انتقادًا واستحسانًا وذلك عناية منا بمؤلفها فما كل مَن كتب يبالى بكلامه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
آثار علمية أدبية
(مختصر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله)
كنا نسمع بكتاب العلم لحافظ المغرب الإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر
ونرى النقل عنه في كتب الحديث والأثر فنشتهي أن نراه ونتمنى لو يطبع. وقد
أعطانا الله ما نتمنى، إذ أظفر الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي الأزهري
المعروف بحسن اختيار الكتب بنسخة من هذا الكتاب ووفقه لاختصارها وطبعها.
وما كان اختصاره إلا حذف الأسانيد والمكرر. وقد ذيّله بهوامش فسر بها الغريب
من الكلم، ونوه ببعض الفوائد والحكم وجعل في آخره فهرسًا للأعلام ذكر فيه جميع
أسماء الصحابة والعلماء الذين جاء ذكرهم فيه مبينًا مواضعها من الصفحات
والأسطر، وقد بلغت صفحات الكتاب 232 وهو بشكل المنار وطبع بحروف
كحروفه الصغيرة ولا أجد قولاً أقرظه بعد شهرته وبعد صيت مؤلفه إلا أن أتحف
القراء ببعض فوائده وسيكون ذلك في غير هذا الجزء؛ ولكنني أعجل بالنصيحة لأهل
العلم الإسلامي ومحبيه بأن يقرؤوا هذا الكتاب ويقتنوه وثمن النسخة منه خمسة
قروش صحيحة وهو يطلب من مؤلفه بالأزهر ومن إدارة مجلة المنار. ومن جميع
المكاتب الشهيرة في مصر وغيرها.
***
(إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان
وطريق الهجرتين وباب السعادتين)
كتابان جليلان للإمام الحجة شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف
بابن قيّم الجوزية، موضوعهما النهي عن البدع والمحرمات والكلام في الأخلاق
والآداب الدينية والمواعظ والرقاق والاعتصام بالكتاب والسنة، ومثل هذا الإمام
الحافظ هو الجدير بالتأليف في ذلك؛ فقد كان هو وشيخه؛ بل شيخ الإسلام وعلم
الأعلام أحمد ابن تيمية أعلم أهل الأرض بالكتاب والسنة وعندي أنه لا يستغني أحد
يطلب علم الدين عن الاطِّلاع على كتبهما وأن هذين الكتابين يصلحان لإفادة العوام
وإن كان لا يستغني عنهما الخواص. وقد طبع الثاني منهما في هامش الأول وبلغت
صفحات المجلد الذي جمعهما 423 من القطع الكامل وهو يطلب من مطبعة
ومكتبة الحلبي بمصر.
***
(غنية المؤدبين في الطرق الحديثة للتربية والتعليم)
كان حديث الوضع والطبع ألفه الشيخ عبد العزيز شاويش أحد مفتشي نظارة
المعارف العمومية بدأه بمقدمة في تاريخ التربية وجاء فيه بفصول في علم النفس
وفصول في التربية على اختلاف ضروبها، وفصول في أساليب التعليم ونظام
المدارس وفي هذه الفصول فوائد ومسائل لا تكاد توجد في كتاب عربي؛ لأنها
مقبوسة من علوم العرب - وقد تربى المؤلف في أحسن مدرسة لهم وهي مدرسة دار
العلوم بمصر - ومن علوم الإفرنج - وقد تخرج في مدرسة من أحسن مدارس
الإنكليز - وقد تصفحنا صفحات من الكتاب فاستحسنا وضعه ورجونا نفعه ولم ننتقد
فيه شيئًا يضع لذاك الوضع أو يحول دون هذا النفع، وإنما هي كلمات نبت عن
مواضعها، وقضايا لا تؤخذ على إطلاقها.
أما الكلمات فبعضها من تحريف الطبع وبعضها من استعمال المدارس ككلمة
(تخته) فإنها فارسية معناها (الخشب) وتعريبها (تخت) وهو وعاء تصان فيه
الثياب وسرير من خشب أو غيره غلبت في عرش السلطان، واستعمال المؤلف في
اللوح الذي يكتب عليه ومنها ضرب من ضروب التجوز أو التوسع في الكلام بنحو
التعدية والتقديم والتأخير كقوله: (كفى لهم معلم واحد) وقوله في ابتداء كلام:
(كانت تعلم اليهود القراءة) يريد كانت اليهود تعلم. ونحو ذلك من الجمل التي تنكر
بعضها البلاغة وإن عرفها النحو، ومثلها كثير في كلام المعاصرين من الكتاب
والمؤلفين الذين يغفر لهم ما لا يغفر لمعلمهم فن التربية والتعليم مثل صديقنا مؤلف
كتاب (غنية المؤدبين) .
وأما القضايا التي يتنقد إطلاقها فمثل ما حكاه في أول الكتاب عن التربية عند
اليهود وعند العرب فقد ذكر أن التربية كانت عند الإسرائيليين إلى سنة 64 قبل
الميلاد منزلة دينية قال: (فيربو الطفل وليس في قلبه شيء غير الله وجلاله)
وهذه نتيجة فيها مبالغة عظيمة ولا بد أن يكون المؤلف نقلها عن كتاب أوربي
يطري اليهود، والتاريخ يدل على أنهم لم يكونوا في عصر من الأعصار آخذين
بروح الدين بمثل هذه العناية. ومثل ما حكاه عن طريق التعليم عند العرب فإنه إنما
ذكر رأي ابن خلدون في ذلك ولم يذكر ما يذكر ما كان عليه العرب في نفس الأمر.
ومثل هذا لا ينافي كون الكتاب لا نظير له في بابه وأنه ينبغي للمعلمين
والمربين الاستعانة به والاستفادة منه. ويا ليت أهل الأزهر يقرأونه ويطلعون على
ما كتبه واحد كان منهم ثم تعلم بعد علومهم ما لم يتعلموا وقد قال بعض أفاضل
المشتغلين بتعليم فن التربية والتعليم في تقريظ هذا الكتاب كلمة ينبغي أن تكون
فصل الخطاب وهي: إنني كنت إذا أردت إلقاء الدرس في هذا الفن لا أجد ما أقول
إلا بعد بحث واستقصاء وجهد وعناء فلما طبع هذا الكتاب نظرت فيه فأصبت في
كل فصل من فصوله ما ينبغي أن يلقى في الدرس الذي يبحث ذلك الفصل في
مسائله مع زيادات لا يستغنى عنها، ولا بد للمعلم منها، والكتاب يطلب من مكتبة
المؤيد ومكتبة الشعب بمصر.
* * *
(المنتحل للإمام أبي منصور الثعالبي)
الثعالبي من أئمة اللغة والأدب المعروفين وله الكتب النافعة فيهما ومنها هذا
الكتاب الذي أودعه مفردات ومقاطيع من مختار الشعر في ضروب الكلام وشجونه
مما يحسن إيراده في الرسائل والفصول الأدبية والأخلاقية والاجتماعية. ولقد كان
سرًّا مضمرًا في خاطر الدهر حتى وقعت نسخة منه للشيخ أحمد أبي علي أمين
مكتبة البلدية في الإسكندرية وهو من أهل العلم والأدب، وعشاق الفنون فأذاعه بما
حرص على نشرها بالطبع بعد عناء في تصحيحها وتعليق شرح وجيز عليها جعله
كالطراز على مطارف بعض الصحائف.
* * *
(المنتخل في تراجم شعراء المنتحل)
كتاب لطيف لشارح المنتحل وطابعه رتب فيه أسماء الشعراء الذين ألف
المنتحل من مختار كلامهم على حروف المعجم وذكر سيرهم مختصرة مفيدة فكانت
صفحات الكتابين معًا 360 والكتاب طِلْبة المتأدبين وقد طبع على ورق جيد وضبط
ما يستحق الضبط من كلِمه بالشكل وثمن النسخة منه 20 قرشًا صحيحًا وأجرة
البريد قرشان وهو يطلب من طابعه ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وإننا نذكر
نموذجًا منه ونبدأ بباب الأمثال والحكم والآداب.
قال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
الله أنجح ما طلبت به
…
والبر خير حقيبة الرحل
* * *
لقد طوقت في الآفاق حتى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
* * *
فإنك لم يفخر عليك كفاخر
…
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
* * *
وجرح اللسان كجرح اليد
…
* * *
وقال طَرَفَة بن العبد:
كفى واعظًا للمرء أيام دهره
…
تروح له بالواعظات وتغتدي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً
…
على المرء من وقع الحسام المهندِ
إذا ما رأيت الشر يعقب أهله
…
وقام جناة للشر فاقعدِ
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
***
يا راقد الليل مسرور بأوله
…
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
***
كلهم أروغ من ثعلب
…
ما أشبه الليلة بالبارحة
***
لنا يوم وللكروان يوم
…
تطير البائسات ولا تطير
***
وأعلم علمًا ليس بالظن أنه
…
إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
***
وقال الأفوه الأودي واسمه صلاة بن عمرو:
تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت
…
وإن تولت فبالأشرار تنقادُ
والبيت لا يُبتنى إلا على عَمَد
…
ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ
فإن تجمع أوتاد وأعمدة
…
وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا [1]
***
وقال محمد بن مناذر:
يا عجبًا من حاله كيف لا
…
يخطئ فينا مرة بالصواب
***
وقال أبو نواس:
كفى حزنًا أن الجواد مقتر
…
عليه ولا معروف عند بخيل
***
وأوبة مشتاق بغير دراهم
…
إلى قومه من أعظم الحدثان
***
وقال محمود الوراق:
وإذا غلا شيء عليَّ تركته
…
فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
***
ولم أر بعد الدين خيرًا من الغنى
…
ولم أر بعد الكفر شرًّا من الفقر
وقال علي بن الجهم:
وعاقبة الصبر الجميل جميلة
…
وأفضل أخلاق الرجال التفضل
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة
…
ولكن عارًا أن يزول التجمل
***
وقال أبو تمام:
ومن لم يسلم للنوائب أصبحت
…
خلائقه طرًّا عليه نوائبا
***
وقال أبو الطيب المتنبي:
أهمّ بشيء والليالي كأنما
…
تطاردني عن كونه وأطارد
وحيد من الخلان في كل بلدة
…
إذا عظم المطلوب قل المساعد
***
إنا لفي زمن ترك القبيح به
…
من أكثر الناس إحسان وإجمال
***
وقال آخر:
فيا نفس صبرًا إنما عفة الفتى
…
إذا عفَّ عن لذاته وهو قادر
دع الوطن المألوف رابك أهله
…
وعد عن الأهل الذين تكاشر
فأهلك من أصغى وعيشك ما صفا
…
وإن نزحت دار وقلت عشائر
وكيف يُنال المجد والجسم وادع
…
وكيف يحاز الحمد والوفر وافر
وهل تحجب الشمس المنيرة ضوءها
…
ويستر نور البدر والبدر زاهر
***
وقال آخر:
وكنت إذا خاصمت خصمًا كببته
…
على الوجه حتى خاصمتني الدراهم
فلما تنازعنا الخصومة غلبت
…
عليَّ وقالوا قم فإنك ظالم
ولما التقينا لجلجت في حديثها
…
ومن آية الشر الحديث الملجلج
***
إن الأمير هو الذي
…
يضحَى أميرًا بعد عزله
إن زال سلطان الولا
…
ية فهو في سلطان فضله
***
شعار الفتى ذم الزمان الذي أتى
…
ومن شأنه مدح الزمان الذي مضى
***
(مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر)
صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب لمؤلفه جُرجي أفندي زيدان منشئ مجلة
الهلال الشهيرة وهو خاص بتراجم رجال العلم والأدب والشعر ومنهم كُتَّاب الجرائد،
وطريقة المؤلف في التأليف وذوقه في تحرير التاريخ مما لا يحتاج إلى تنويه. ولا
يكاد يوجد قارئ بالعربية إلا ويجب أن يطلع فيه على ترجمة فيلسوف الشرق السيد
جمال الدين الأفغاني وغيره من رجال العلم والأدب كالدكتور فانديك والسيد أحمد
خان وبطرس البستاني والشيخ أحمد أفندي فارس وكمال بك نامق ومحمود باشا
الفلكي وأمثالهم.
نعم، قد انتقد عليه أنه ذكر بعض الأدباء الذين لا يعدون من رجال النهضة
والذين يوجد لهم نظائر وأمثال كثيرون.
والكتاب يطلب من مكتبة الهلال وثمنه 15 قرشًا صحيحًا.
***
(ديوان الرافعي)
لم ينسَ القراء أننا نشرنا مقدمة هذا الديوان في الجزء الأول وقد تم طبع
الديوان مذيلاً بشرح وجيز لشقيق الناظم محمد كامل أفندي الرافعي. ومَن أراد أن
يعرف مكانة هذا الديوان في دواوين الشعر والأدب فلينظر ما قرظه به فرسان هذا
الميدان كمحمود باشا سامي البارودي والشيخ عبد المحسن البغدادي وحافظ أفندي
إبراهيم وغيرهم وإننا ننشر تقريظ هذا الأخير لاختصاره قال:
قد قرأنا نظيمكم فقرأنا
…
حكمة كهلة وشعرًا فتيّا
وتلونا نثيركم فشهدنا
…
كاتبًا بارع اليراع سريّا
خاطر يسبق العيون إلى القلـ
…
ب ويطوي منازل البرق طيّا
ومعانٍ كأنها الروح في الصـ
…
يف تهز النفوس هز الحميّا
من بنات المحار يصبو إليها
…
تاج كسرى وتشتهيها الثريّا
إيه يا رافعي أحسنت حتى
…
لا أرى محسنًا بجنبك شيّا
أنت والله كاتب بدوي
…
إن عددناك شاعرًا بدويا
ولا غَرْوَ، فهذا الشاعر في بدايته قد فاق كثيرًا من شيوخ الشعراء في نهايتهم
فنتمنى لو يقبل الناس على ديوانه تنشيطًا للأدب وأهله.
(ورقة الآس)
هي القصة الرابعة عشرة من قصص (مسامرات الشعب) الشهرية كتبها
أحمد بك شوقي شاعر الأمير وقد قرأتها فألفيتها أحسن ما قرأت من هذه القصص
عبارةً وأسلوبًا وتأثيرًا حتى كدت أقول: إنها هي القصة الأولى والأخيرة من هذه
المسامرات. وقد صدر بعدها قصة مصارع الشهوات وقصة الفتاة اليابانية وهي
الأخيرة ومؤلفها حسن أفندي رياض وقد نظرت في التي قبلها فلم أحمد أوائلها وربما
كان ختامها مسكًا.
***
جرائد ومجلات جديدة
(المغرب)
جريدة سياسة اقتصادية علمية أدبية تصدر في مدينة الجزائر باللغة العربية
مرتين في الأسبوع صاحب امتيازها موسيو بيير فونطانا وقيمة الاشتراك فيها
عشرة فرنكات في الجزائر و15 في غيرها وهي على قبح ورقها وسوء طبعها
نافعة للجزائريين المحرومين من الصحف الوطنية العربية التي تعرّفهم بعض
أحوال العالم وشؤون الاجتماع. فنتمنى لها دوام الاعتدال والقصد والرواج في تلك
البلاد.
(الأفكار)
جريدة وطنية إخبارية صحية أسبوعية أنشأها في سان باولو بالبرازيل
الدكتور سعيد أبو جمره صاحب كتابي (حياتنا التناسلية) و (وقاية الشبان) وقيمة
الاشتراك فيها 200 قرش برازيلي في البرازيل وعشرون فرنكًا في سائر الممالك.
وهي جريدة ترجى فائدتها، فعسى أن يتحقق الرجاء.
(الفضيلة)
مجلة أدبية تصدر في مصر آخر كل شهر شمسي لمنشئها سليم أفندي العضم
وقيمة الاشتراك فيها أربعون قرشًا في القطر المصري وثلاثة عشر فرنكًا في غيره
وثلاثون قرشًا لرجال وطلاب العلم. وقد صدر منها جزآن، ثانيهما في شهر أبريل.
(حب العلوم)
مجلة علمية دينية تاريخية انتقادية تصدر بزفتى مرتين في كل شهر لمنشئها
الشيخ عبد الفتاح جاب الله (هكذا) وقيمة الاشتراك فيها خمسة عشر قرشًا ولطلبة
الأزهر وأساتذة المدارس عشرة قروش، وقد أنشئت في أول المحرم من
هذه السنة.
(الصيحة)
جريدة أسبوعية تصدر في طنطا صاحبها محمود أفندي الشاذلي وقيمة
الاشتراك فيها مئة قرش (جنيه مصري) .
(القاهرة)
جريدة تصدر في مصر لصاحبها بشير أفندي يوسف، قيمة الاشتراك فيها
ثلاثون قرشًا وهي تصدر في الشهر مرتين.
(السياسة)
جريدة أسبوعية تصدر في مصر لصاحبها يوسف أفندي كسّاب وقيمة
الاشتراك فيها 60 قرشًا في القطر المصري 25 فرنكًا في سائر الأقطار.
_________
(1)
المنار: كاد الأمر: حاول طلبه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(شرف العرب وفضلهم على الأمم)
صدر الجزء الصادر في هذا الشهر من المقتطف بمقالة في عمران العراق
أورد الكاتب فيها ملخص مقالة لجريدة التيمس في شريعة حمورابي (وضبطه
همورابي) جاء فيها أن هذا الملك الشارع العظيم الذي يرى العلماء في أوربا أن
معظم التوراة مستمدة من شريعته - هو من أسرة عربية الأصل. قال: (فالعرب هم
الذين وضعوا تلك الشريعة) ، فحسب العرب فخرًا وشرفًا أن أقدم شريعة عُرفت
في الأرض إلى هذا العهد هي منهم وآخر شريعة وجدت في الأرض وهم ساسة
الأمم ومهذبوها في القديم والحديث.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
نعم، إنهم قد هضموا أنفسهم منذ قرون فهضمت حقوقهم الأمم حتى صار
يلغط المتطفلون على موائد العلم والكتابة بذمهم والقول بأنهم لا استعداد فيهم للسياسة ،
ولا للحضارة فصدق عليهم قول شاعرهم:
ومَن لم يكرم نفسَه لا يُكرم
ولا طريق لتكريم النفس إلا بالعلم والتهذيب، فأما التهذيب فأهل البداوة منهم
أرسخ الناس عرقًا في أصول الفضائل وهي الشجاعة والشهامة والمروءة والنجدة
والسخاء والوفاء والنصفة. وأهل الحضارة منهم أقوى الناس استعدادًا له. وأما
العلم فآلته الذكاء والعقل، والعرب أذكى الناس أفئدة وأكبرهم حلومًا، ولكن للعلم في
كل زمن طريقًا، فلا بد للعرب كغيرهم من التوصل إلى العلم الدنيوي من الطريق
الذي سار عليه الإفرنج قبلهم فسادوا واعتزوا. وأما علم الدين فهو منهم على طرف
الثمام، فإذا عقل سراتهم هذا فلا يعدون وسيلة لإشراع هذا الطريق وبالله
التوفيق.
***
(البيوت)
المحبة الزوجية
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) وقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: 228) ،
وهي السيادة، فالرجل والمرأة زوجان من نفس واحدة، سعادتهما في سكون كل
منهما إلى الآخر، وشقاؤهما في نفور أحدهما من الآخر. هذا السكون فطري في
البشر والحيوان وإن شئت قلت في الأكوان؛ ولكن البشر أُعطوا علمًا واختيارًا في
التصرف بالفطرة فتارة يكون تصرفهم جاريًا على سننها ونظامها فيرقيها. وتارة
يكون منحرفًا عنه فيفسدها ويدليها، فكل ما تراه من الشقاء في البيوت فسببه فساد
التربية وسوء الاختيار. وقد يصحب هذا الفساد شيء من العلم فيموهه، وقد يكون
مع الجهل فيشوهه، وقد ينتهي الجهل إلى قلب الطباع، وتغيير الأوضاع.
الرجل يسكن إلى الأنثى سكونًا فطريًّا لأنها أنثى وهي تسكن إليه لأنه رجل
وللرجولية صفات تتبعها أعمال كلما قويت في الرجل كان جديرًا بزيادة ميل المرأة
إليه، وللأنوثة صفات تتبعها أعمال كلما قويت في المرأة كانت خليقة بزيادة ميل
الرجل إليها.
فصفات الرجولية الشجاعة والنجدة والسيادة ومن أعمالها الحماية والمدافعة
والكفالة ونحو ذلك، وصفات الأنوثة اللطف والرقة والحياء والدماثة ومن أعمالها
التربية والخدمة كتربية الأطفال وتمريض المرضى؛ ولذلك قلنا في مقالة عقدناها
لبيان مضار تربية النساء الاستقلالية: إن هذه التربية تقرب المرأة من صفات
الرجولية فتفسد فطرتها وتضعف وساطتها بين الأطفال والرجال في نقل الطفل
بالتدريج من طفوليته وإعداده للرجولية؛ وبذلك يقل ميل الرجل وسكونه إليها لأن
الرجل لا يسكن هذا النوع من السكون إلى الأنثى من حيث هي أنثى تمتاز بصفات
مخصوصة تمثل الأنوثة بما يفصلها عن الرجولية.
سكون كل من الصنفين إلى الآخر طبيعي لا يزول ولكن الصفات الطبيعية
المذكورة تزيده قوة وتحفظه برسوخها وتفسده أو تضعفه بضعفها. وقد صارت
الخشونة والزينة من عادة الشبان في المدن التي لا تربية فيها كمصر، فصار
النساء يملن إلى ذلك في الرجال ولو بصرت المرأة التي تحب شابًّا مخنثًا متورنًا
(كثير الزينة والطيب) شابًّا شهم الجَنان شجاع القلب مفردس الصدر ضخم
الكراديس شثن الكفين، سبط الزندين لفضَّلته على حبيبها المخنَّث تفضيلاً! . (هذا
وما، فكيف لو) ولو تربت تربية صحيحة لظهر هذا الميل فيها أقوى فقد جاء في
المقتطف المفيد ما نصه:
ما تستحسنه المرأة في الرجل
(ألقي هذا الموضوع على كثيرات من نخبة الكاتبات الإنكليزيات، فكتبت
سارة يولي تقول: إن المرأة تُعجب بشجاعة الرجل واستقلاله وتود أن يكون زوجها
متسلطًا عليها، ولقد كان ذلك شأنها منذ العصور الغابرة، وإن كان العمران
الحاضر قد ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق؛ لكن الإعجاب بقوة الرجل لا
يزال ديدن المرأة؛ ولذلك تراها تعجب بالجنود لأنهم يمثلون القوة البدنية، وبخَدَمَة
الدين؛ لأن لهم سلطة أدبية ودينية.
وكتبت للياس داندصن: إن المرأة ضعيفة، فتعجب بقوة الرجل سواء كانت
جسدية أو عقلية أو أدبية وهي تطلب رجلاً يسود عليها، فإذا وجدته خضعت له،
وقد غُرس هذا الخلق في فطرتها؛ ولذلك تصف الرجال بما ينقصها، وتعبدهم
ولا يعبأ النساء بالوجه الجميل، ولا ينفرن منه إذا لم يكن جميلاً؛ لأن ليس فيهن
ذوق خاص بالجمال كما في الرجل، وقد خصت الطبيعة الرجل بحب الجمال
وخصت المرأة بالجمال؛ لكي يكون جاذبًا له إليها، وكذلك خص الرجال بالقوة،
فصارت قوتهم جاذبًا للنساء إليهم وهن يُعجبن بالشجاعة والقوة والصبر على
المكاره، هذه هي الفضائل التي تود المرأة أن يكون زوجها متصفًا بها، وهي لا
تسامحه إذا فقد هذه المزايا؛ ولكنها تسامحه إذا فقد غيرها.
وكتبت إدلين سرجنت: إن القوة الجسدية تجذب المرأة والقوة العقلية تسحرها،
والقوة الروحية تتسلط عليها، وسبب ذلك واضح وهو ضعف المرأة، فلا شيء
يستولي على قلبها مثل الاعتقاد بأن زوجها قوي الإرادة أو قوي الذراع.
وكتبت سارة دودني: إن المرأة تعجب بقوة الرجل، ونظرة واحدة إلى رجل
قوي تنسينا مائة وجه جميل، وخطاب فصيح، إلا إذا كانت لنا عيون لا تبصر!
وأقول بالاختصار: إن الشيء الذي تعجب به أكثر من غيره هو القوة والعظمة
مع الميل إلى الحِلم.
وكتبت ماري كنور ليتن: إنه إذا كان في رجل دليل على أنه يفعل فعل
الجبابرة حينما تدعو الحال إلى ذلك فهو الذي تعجب به المرأة أكثر من غيره
وتفضله على غيره، وما من امرأة تعجب بجبان أو تحبه، وليس لجمال المنظر
شأن كبير في عيون النساء.
وكتبت مس إليصابات بنكس: إن الشجاعة والحلم أسمى مناقب الرجال في
عيون النساء، وكل امرأة تحب أن يكون زوجها سيدًا عليها.
وكتبت السيدة ميد: إن المرأة تتبع الرجل إذا كان قويًّا، وتعبده إذا كان مع
قوته كريم الأخلاق.
وكتبت مس أثل هدل: إن كرم الأخلاق خير الصفات التي يتصف بها الرجل.
والكاتبات خمس عشرة من أشهر كاتبات الإنكليز، وقد كدن يتفقن كلهن على
أن المرأة تفضل الشجاعة على غيرها من أوصاف الرجال) اهـ.
وقد سُر القراء بما كتب المقتطف، وكتب إلينا صاحب الإمضاء ما يأتي:
حضرة العلامة المِفضال منشي المنار الزاهر
طالعت في الأخبار العلمية من (مقتطف) شهر مايو الجاري سؤالاً وجهه أحد
علماء الإنكليز لجماعة النساء عن ما تستحسنه المرأة في الرجل، فأجاب عن هذا
السؤال خمس عشرة كاتبة من فُضليات نسائهن، وقد كدن أن يتفقن على أن المرأة
تفضل الشجاعة والقوة على غيرهما من أوصاف الرجل، وقد ذهب بعضهن إلى
ذكر أوصاف لا تخلو من حقيقة، وهو بحث يحق للإنكليزيات أن يفتخرن به؛ إذ
طابق ما جاء في كتابنا الحكيم حكاية عن موسى وابنتي شعيب عليهما السلام في
سورة القصص {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} (القصص: 26) ؛ ذلك بعد أن سألهما موسى عليه السلام عند الماء عن سبب
ذود غنمهما، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
* فَسَقَى لَهُمَا..} (القصص: 23-24) برفْعه الصخرة عن فُوَّهَة البئر
بذراعيه القويتين، وهذا مما يدل على ما كان عليه موسى عليه السلام من القوة
والشجاعة؛ ولذلك أُعجبت إحداهما به، وأرادته زوجًا لها على فقره، وعدم
معرفتها أصله ونسبه، وهذا مما يثبت لنا أن قرآننا الحكيم لم يترك صغيرة ولا
كبيرة إلا أحصاها من أمر هذا الكون العظيم من أخلاق وعادات بني الإنسان، وما
تجري عليه سنن جميع المخلوقات، فسبحان الله العلي العظيم!
ومن موجبات الأسف أنه يوجد بين أيدينا هذا الكتاب الكريم شاملاً لجميع
المطالب، ونحن المسلمين في لهو عنه، وعن محكم آياته، وغيرنا يبحث وينقب
عن الحقائق حتى يجدها، ولو اشتغلنا بما في كتابنا لوجدنا فيه من الفوائد الجليلة
المنافع ما به رفع شأننا دنيا وأخرى، وما كان لأحد أن يسبقنا في مضمار العلوم
والمعارف مادمنا عاكفين عليه؛ ولكن هو الكسل والتقليد الأعمى قد ألقيا على
بصائرنا غشاوة كثيفة لا يزيلها إلا الحض على التعليم الصحيح، دون التفات إلى
ما في المجلدات الضخمة، بل العمل بمقتضى الحال ومجاراة الأمم الراقية بعقول
أفرادها، فإذا نحن جاريناهم في مباحثهم ومطالبهم - وبين أيدينا هذا المرشد
الصادق - فلا شك أننا نصبح على درجة عالية لا يصلها إلا مَن اتبعنا، وعمل
بمقتضى شريعتنا، والسلام.
…
...
…
...
…
... (حسين العقاد)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاحتفال بمدرسة الشوربجي في كفر الزيات
احتفل في يوم الجمعة الماضي بافتتاح مدرسة مصطفى بك الشوربجي التي
أنشأها في كفر الزيات احتفالاً حضره الجم الغفير من وجهاء العاصمة في مقدمتهم
مفتي الديار المصرية وبعض العلماء وعدلي باشا يكن محافظ مصر وبعض
الأعيان، ومن أصحاب الجرائد صاحب المؤيد وصاحب الوطن وصاحب الجوائب
المصرية وصاحب الرائد المصري وبعض وجهاء الإسكندرية وطنطا وغيرهما من
مدن القطر. وقد سبق لنا ذكر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة في شعبان الماضي
وقد تم بناؤها في نحو ستة أشهر لما للمنشئ - حيَّاه الله تعالى - من الهمة العالية
والعناية الصحيحة في هذا العمل العظيم.
بُدئ الاحتفال بتلاوة آيات شريفة من سورة الفتح وبإنشاد التلميذات والتلامذة
بعض الأناشيد والخطب في فضل العلم والتعليم، ومنهم حفيد وحفيدة لصاحب
المدرسة فخرًا بجدهما وحَقَّ لهما الفخر به.
ثم بعد ذلك دُعي كاتب هذه السطور إلى الخطابة، فقمت، وقلت - بعد
البسملة والحمدلة والتصلية - ما خلاصته:
كنت حضرت الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة ودعيت إلى الخطابة فقلت كلمة
شكر وكلمة ترغيب وقد دعيت الآن لقول كلمة أخرى إلا أني أراني في موقفي هذا
غيري في موقفي الأول، أراني في حاجة إلى الاعتذار وما كنت معتذرًا، أعتذر
عن ذنب التقصير قبل ملابسته فإنني أتوقعه؛ لأنه يتنازعني الآن شعوران ملكا
على نفسي أمرها شعور السرور والابتهاج بسماع الكلام العربي الفصيح من
التلميذات، على حين أننا نرى العجائز لا يصححن قراءة الفاتحة، هذا الشعور قد
أبكاني من حيث كان ينبغي أن يضحكني سرورًا ولكن الجو الذي نعيش فيه مملوء
بالمبكيات ولكن تكسرت النصال على النصال، فجفَّت العيون بعد ما كانت تبكي
وصارت لا تجود بالدمع إلا في موقف السرور. والشعور النافي هو أن في هذا
المجلس روحًا عالية تفيض العلم والعرفان في هذه البلاد، وأنا ممن يستمد منها؛
لذلك الخجل أن أعرض شيئًا من العلم في مجلس تحضره هذه الروح العالية.
أعود إلى ذكر الشعور الأول فأقول: إنه منبعث عن روح البر والخير التي
أنشأت هذه المدرسة لإفادة العلم وهي روح مصطفى بك الشوربجي الزكية قد كنت
قلت في كلمتي الأولى: إن إنشاء المدارس أفضل من إنشاء المساجد من حيث إن
المصلي في المسجد إذا كان جاهلاً تكون عبادته فاسدة، وذلك ذنب يستحق العقاب
وفي المدارس يزاح الجهل وتصح أعمال الدين وأعمال وصاحبها يستحق أفضل
الثناء والشكر فيجب أن نشكر لهذا الرجل الجليل عمله والله تعالى يشكره له ويجزيه
عليه أفضل الجزاء.
ثم انتقلت إلى حث الأغنياء على إنشاء المدارس ونشر العلم فقلت: لا أدري
أي فضل وأي فائدة للمال إذا كان صاحبه لا ينفق من فضل ماله في هذا السبيل
وهي أفضل السبل. ثم بينت فساد رأي من يجمع المال لأجل اللذات الحسية وقلت:
لا أرى مثلاً لمن يجمع المال لكنزه في الصناديق أظهر مما ضربه به الإمام
الغزالي للمرابي الذي يجعل المال مقصودًا لذاته في العمل والكسب؛ إذ قال: إنه مثله
مثل من يحبس القاضي العادل الذي يفصل في الخصومات وينصف المظلوم من
الظالم ويترك الناس فوضى يتناهبون ويتواثبون. وإن الذي يقدر على نشر العلم ثم
يقصر فيه أجدر بهذا المثل فإن أهل التعدي ومرتكبي الجرائم إنما يجترحون
السيئات بإغواء الجهل وفساد التربية فإن المربي العالم بما لغيره عليه من الحقوق لا
يسرق ولا يعتدي فإثم جميع الجرائم التي تقع في البلاد على عاتق الأغنياء بل
عليهم تبعة جميع ما نحن فيه من التأخر في العلم والكسب والشئون الاجتماعية.
وإذا كانوا يجمعون المال لأجل الشرف وارتفاع المكانة فقد زال ذلك الزمان
الذي كان يعد فيه التوسع في الإنفاق على احتفالات الأفراح والمآتم والموالد من
الشرف وصارت هذه النفقات منتقَدة ومنظورة بعين السخط من العقلاء والفضلاء.
وأما الإنفاق في طريق العلم فقد كان ولا يزال هو الشرف الأعلى وصاحبه هو
المحمود عند الله وعند الناس بل هو أفضل الناس إذا قام بحقوق المال مع سائر
الحقوق وهو الذي يسمى الغني الشاكر.
يتوهم قوم أن الزهد - الذي يستحبه الدين - عبارة عن اختيار الفقر وتفضيله
والرغبة عن الكسب وهو توهم باطل فإن النبي e فضَّل الأخ المكتسب على الأخ
المنقطع للعبادة. أزيد على هذا أن الحديث الذي استدل به بعض العلماء على أن
الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر قد استدل به نفسه آخرون على أن الغني
الشاكر أفضل، الحديث هو أن بعض الفقراء شكوا للنبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم سبق الأغنياء لهم بالخير والأجر؛ لأنهم يصلون مثلهم ويتصدقون بفضول
أموالهم فأمرهم بالذكر والتسبيح والتحميد فرضوا ثم عادوا وقالوا إنهم يفعلون ذلك
فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} (المائدة: 54) ، والمتبادر أن الإشارة
إلى المال الذي ينفق في سبيل الله - وسبيل الله هو كل ما فيه فائدة ومنفعة للناس -
وإنما الزهد المحبوب هو أن لا يكون الإنسان عبدًا للمال، وهو زهد النفس.
هذا هو الغني الذي يجمع للإنسان بين خيري الدنيا والآخرة. ويظن بعض
الناس أن عمل الخير لأجل الشرف والمحمدة مذموم في نظر الدين ولا ثواب
لصاحبه عند الله تعالى بل هو مؤاخَذ كما يؤخذ من كتب الصوفية. إن هذا الظن
غير صحيح وما كان الله ليؤاخذ الإنسان على شيء أودعه في فطرته وجعله سائقًا
له إلى كماله وهو حب المحمدة الحقة. وأما المذموم عند الله تعالى وعند الناس هو
حب المحمدة الباطلة والثناء الكاذب ما توعد الله الذين يحبون أن يحمدوا بما فعلوا،
وإنما توعد الذين {وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (آل عمران: 188) ،
كيف يكره الله تعالى للعاملين حب الثناء بالحق ورفعة الذكر، وقد امتنَّ بذلك على
أفضل العاملين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى في خطاب خاتم النبيين:
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) ، وقال تعالى في كل من إبراهيم وموسى
وهارون وغيرهم من الأنبياء: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} (الصافات: 78) ،
أي: تركنا عليه الثناء الحسن.
حب المحمدة الحقة لا ينافي كون العمل الصالح لوجه الله تعالى بل هو معنى
من معانيه. وإننا لن نبلغ نفع الله فننفعه ولن نبلغ ضره فنضره كما ورد وإنما كُلفنا
بعمل الخير لأجلنا لا لأجله؛ فابتغاء وجه الله في العمل هو إرادة المنفعة الباقية به
فإن لكل شيء في هذه الدنيا وجهين: وجهًا إلى الحظوظ الجزئية الفانية ووجهًا إلى
المنافع الكلية الباقية وهذا هو وجه الله تعالى والذي يرضيه ويثيب عليه. والثناء
عليه حق. {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .
إذا عرف الناس للعامل المحسن فضله وشكروا له علمه يكون ذلك باعثًا للهمم
إلى المباراة والمسابقة في ميادين الأعمال النافعة، وإن تقدم الأمم وارتقاءها على قدر
مباراة أفرادها في الأعمال النافعة ومسابقتهم في ميادينها. وإذا كان الملوك والأمراء
هم الذين يحفلون بما يكون من أفراد رعاياهم ويقدرون المحسنين قدرهم فلا تسلْ
عن مبلغ تأثير ذلك في تقدم الأمة وارتقائها. أذكر أن السلطان ملكشاه السلجوقي قد
احتفل بعالم نبغ في عصره لا أذكر اسمه الآن وكان من عاداتهم أن يقودوا في
موكب الاحتفال الخيل المسوّمة أمام المحتفَل به وعليها المياثر المونقة. وكان من
عناية السلطان أن مشى في الموكب مشيًا ووضع على عاتقه وظهره ميثرة من
المياثر التي توضع على الخيل، فلامه وزيره نظام الملك في نفسه على هذه
المبالغة في التواضع، وسأله عن السر في ذلك فقال له: سأجيبك عن هذا السؤال
بعد بضع سنين، فلم تمر السنون المعينة إلا وقد نبغ في تلك البلاد عدد عظيم من
العلماء الأعلام، فقال السلطان للوزير: هذا هو جواب سؤالك.
قلت: وأجدر أمراء المسلمين بالعناية بأمر العلم في هذا العصر أمير هذه
البلاد فإنه أعرفهم بقيمة العلم؛ لأنه قد تربى في المدارس العالية وأخذ من العلوم
حظًّا لا نعرف أميرًا مسلمًا يساهمه فيه. فإذا هو أظهر رضاه واغتباطه بمثل هذا
العمل الجليل فلا نلبث أن نرى الأغنياء والوجهاء يتبارون في مثله (قلت هذا
وأمامي مندوب من الأمير يحمل الوسام العثماني من الدرجة الثالثة لمصطفى بك
الشوربجي كما يأتي) .
ثم بعد ختم الكلام بالحث والترغيب دُعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي
فقام واعتذر بمثل ما اعتذرت به وزاد عذرًا ثالثًا وهو أنه لم يكن يتوقع الخطابة ثم
قال إنه يوافق الخطيب الأول في قوله إلا أنه لا يرى حوله إلا ما يسر من الإقبال
على العلم وافتتاح المدارس وذكر حال البلاد قبل ثلاثين سنة وما كانت عليه من
الرغبة عن العلم والتعليم، لا سيما تعليم البنات وقال: إن الأهالي كانوا يعتقدون أن
تعليم العلوم إذا لم يكن مذمومًا بلسان الدين فإنه ليس محمودًا وإن حال العلماء كان
يقوي هذا الاعتقاد فيهم وإن من تحوُّل الحال أن صرنا نرى كبار العلماء تؤسس
المدارس وتحضر احتفالاً وأن أكثرهم يرسلون أولادهم إلى المدارس لابسي
الطرابيش والسراويل الضيقة كسائر أبناء العصر الجديد وخص بالذكر مفتي الديار
المصرية ركن العلم الركين ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية التي تدير عدة
مدارس منتظمة في تأسيسها. وكذلك مدارس جمعية العروة الوثقى. واستطرد من
ذكر الجمعيات إلى الثناء على صاحب الاحتفال مصطفى بك الشوربجي وقال: إنه
صار فينا الفرد يعمل عمل الجمعية كهذا الرجل الفاضل الذي وجه عنايته إلى
تأسيس المدارس المتعددة.
ثم قام بعده جندي أفندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن الغراء خطيبًا وقال في
فاتحة كلامه: إن الخطيبين السابقين اعتذرا بما اعتذرا به عن التقصير الذي تقتضيه
مهابة روح العلم الحاضرة وإنه أجدر بالاعتذار لولا أن جرَّأه اعتقاده بحلم العلماء
وإغضائهم ثم قال: إن الخطيبين تكلما في فضل العلم والحث عليه وإنه اختار أن
يجعل معظم كلامه في مكارم الأخلاق فإن العلم لا يفيد بدون مكارم الأخلاق شيئًا
وأطنب في ذلك ما شاء وأثنى على المحتفل بما هو أهله.
ثم رغب مدير الاحتفال إلى الأستاذ الإمام بأن يشنّف الأذان بدُرَر كَلِمه ويحلي
العقول بعقود الجوهر من حِكَمه، فقام واقفًا ولما وقف اضطرب الجمع وطفقوا
يقتربون حتى كادوا يكونون عليه لِبدًا. ولما تكلم امتدت الأعناق، وشخصت
الأبصار. وأصاخت الآذان وخشعت الأصوات، وأمر العازفون بالموسيقى بالكف
عن عزفهم. ولكن الأستاذ كان - لسوء الحظ - قد عرض له شبه بحّة منعته من
رفع الصوت والاسترسال في الكلام حتى ترك لها الدرس في الجامع الأزهر فلم
يُطل القول كما كان يحب هو ويحب الناس وساوى في الاعتذار الخطباء الذين
اعتذروا بمهابته وإجلاله عن الاسترسال في القول والإجادة في الخطابة.
اعتذر بما ذكر وقال إن هذا العذر كاد يمنعه حضور الاحتفال بالمرة كما منعه
الإجابة إلى حضور الاحتفال التأسيسي؛ ولكنه تحمل المشقة للترغيب والتنشيط في
إنشاء بيوت العلم ورؤية هذا الرجل الموفق للخير المسوق إليه بوازع الفطرة
السليمة.
قال: إنني من زمن بعيد كنت أشتهي أن أرى الخير الفطري البسيط في
الإنسان وما كنت أظفر به، رأيت كثيرًا من الأخيار ولكنني كنت أرى الخير فيهم
مركبًا من الاستعداد الطبيعي والتأديب الصناعي لا بسيطًا ساذجًا حتى إذا رأيت
اليوم هذا الرجل مصطفى الشوربجي، رأيت جمال الفطرة الإنسانية في بساطتها
وسذاجتها، رأيت هذا الرجل مسوقًا إلى عمل الخير بسائق حب الخير لا ينبغي به
حمدًا ولا شكرًا إلا وجه الله ومرضاته وإنني أراه مدفوعًا إلى مثل الاحتفال.
ولولا ذلك لم يكن يخطر له ببال على أني موافق على ما قال الخطيب الأول
في حب المحمدة الحقة ولكن هذه مرتبة أخرى لا تكاد توجد إلا في الفطرة السليمة.
رُزق هذا الرجل مالاً فاهتدى إلى إنفاقه في أفضل وجوهه ووضعه في أشرف
مواضعه وليس هذا بالأمر الصغير فقد قال علماء الاقتصاد: إن الدراية والعناية التي
يحتاج إليها في إنفاق المال تزيدان عما يحتاج إليه في جمعه عشرة أضعاف فقلما
يحسن إنفاق المال مَن لم يتعلم هذا العلم في المدارس العالية. ولكننا نرى أكثر
الذين تقلبوا في المدارس وتوسعوا في درس علم الاقتصاد السياسي من أهل بلادنا
هم أشد الناس إسرافًا في المال وتبذيرًا له وقلما يضعون منه شيئًا في موضعه ونرى
هذا الرجل العامي البحت - الذي تربى في الغيطان والمزارع لا في المدارس، فلم
يسمع بهذا العلم - قد وُفق إلى عمل العلماء الراسخين فيه ثم قام يعلم المتعلمين
بحاله كيف ينفقون ويعلم غير المتعلمين بما ينشئ لهم من المدارس كيف يعملون!
ثم قال: أما العلم وفضله والترغيب في نشره فقد تكلم فيه الخطباء وأنا موافق
لهم فيما قالوا لا خلاف بينهم في الواقع فإن الأول تأسف لتأخرنا في العلم بالنسبة
إلى ما نحن في أشد الحاجة إليه واعتبار أن ما عندنا لا يقع أدنى موقع من حاجتنا.
والثاني أظهر السرور والاستبشار من حالنا العلمية بالنسبة إلى ما كنا فيه ولا شك
أنه يوجد فينا حركة نحمد الله عليها (أي إن الخطيب الأول نظر إلى الحال مع
المستقبل والخطيب الثاني نظر إلى الحال مع الماضي وهذا هو الواقع منا حقيقة)
وأما الثالث فقد تكلم عن مكارم الأخلاق وكون العلم لا يفيد بدونها شيئًا. ولا شك أن
مكارم الأخلاق من لوازم العلم الصحيح الذي مدحه الخطباء. ويمدحه جميع العقلاء،
فإنهم يعنَوْن بالعلم ما كان ملكة في النفس والملكة من مادة الملك فمعناها أن يكون
العلم مالكًا للنفس مصرفًا لها في شؤونها.
ولا معنى لمكارم الأخلاق إلا أن تكون إرادة الإنسان تابعة للعلم الصحيح
بوجوه المصالح والمنافع.
فالعلم ومكارم الأخلاق متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. ومن أطلق العلم
على غير هذا المعنى الذي قلته وقال إنه لا تأثير له في الأعمال ولا في النفس فهو
متجوز أي منتقل عن الحقيقة إلى نقيضها وإن شئت قلت إنه كاذب ولم يفهم معنى
العلم.
ثم ذكر الأستاذ أن الجناب الخديوي قد أرسل مندوبًا من قِبَله لحضور هذا
الاحتفال عناية بصاحبه وإن عنايته بمثل هذا الأمر لها من التأثير في الناس ما
يساوي عناية أمة كاملة به.
قال: وسيكون كلامه هو خاتمة الكلام.
وعند ذلك نهض المندوب وقال الناس وذكر أن مولاه أرسله ليحضر هذا
الاحتفال ويبلِّّّغ صاحبه مصطفى بك الشوربجي أنه مسرور ومغبوط بهذه الخدمة
الجليلة للبلاد ويقلده الوسام العثماني من الدرجة الثالثة وكان الوسام في يده
ومصطفى بك الشوربجي واقف فأعطاه إياه فأخذه ووضعه في جيبه. ولو قلده إياه
تقليدًا لكان أجمل وأكمل. والمزيَّة في هذا الوسام من وجه واحد وهو أن الأمير
أرسله مع مندوب من قبله حضر الاحتفال باسمه فكان كما قال الناس بمثابة حضور
الأمير بنفسه ولولا ذلك لما كان له كبير شأن؛ فإن الرتب والوسامات في مصر
صارت أكثر ابتذالاً منها في الآستانة.
ثم ختم الاحتفال بقراءة آيات من الكتاب العزيز وكان ذلك قبل الظهر، ثم
نُصبت بعده الموائد، فتغدَّى الجموع، وانصرفوا حامدين شاكرين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإصلاح الشرعي في السودان المصري
يتمشى الإصلاح في السودان كتمشي البُرء في السقم ومن فضل الله تعالى
على هذه البلاد أن كان الشيخ محمد شاكر هو قاضي القضاة فيها وحسبك أنه موضع
إعجاب اللورد كرومر فمن دونه من رجال السياسة والإدارة والقضاء الإنكليز الذين
قلما يشهدون لشرقي في هذا الزمن، ولا شك عندي أن رضاء اللورد كرومر وحاكم
السودان العام من هذا الرجل وثناءهما عليه والعناية بإجابة اقتراحاته وتنفيذ
مشروعاته - ولو بالتدريج - من دلائل حسن النية في عمران السودان وإقامة
الشرع الإسلامي فيه إقامة لا نظير لها في بلاد إسلامية في عصرنا هذا.
ذكرنا في الجزء الثاني أن الحكومة السودانية قررت إنشاء مدرسة قضائية
لتخريج القضاة الشرعيين وما ذلك إلا مشروع من مشروعات قاضي القضاة ثم إننا
علمنا مما وصل إلينا من أنباء تقريراته التي رفعها إلى الحكومة آراءً سديدة في
إصلاح المحاكم بجميع فروعها وأعمالها الإدارية والشرعية والمالية. ولم يكتفِ
بهذا حتى اقترح على الحكومة نشر العلم الإسلامي، وعمارة المساجد، وإقامة الشعائر
الدينية.
وقال: إن البلاد السودانية الآن في حاجة إلى بناء خمسين مسجدًا وأن للحكومة
أن تستعين على بنائها بديوان الأوقاف العمومية في مصر. واقترح تعيين رواتب
للعلماء الذين تفلَّتوا من الفتنة السودانية وإعانة تلامذتهم المشتغلين بطلب العلوم
الدينية لتنفخ في الأمة روح الميل إلى العلوم الحقيقة؛ وليكون من هؤلاء التلامذة
طائفة تصلح في المستقبل للوعظ والإرشاد وتعليم العامة وقال في بيان فوائد ذلك ما
معناه:
إن من يتتبع الحوادث المشؤومة الماضية ويسندها إلى عللها وأسبابها الحقيقية
يعلم أن مثارها الأكبر خلط التعاليم الدينية بالتلبيس على العامة والشعوذة والدجل
وإيهام البسطاء بذلك أن أولئك الدجالين المحتالين أولياء الله وأن اتِّّّباعهم واجب
وطاعتهم مفروضة، فعلى الحكومة أن تستأصل جراثيم هذه الخرافات بالتعليم
الإسلامي الصحيح الذي يطهر القول منها تطهيرًا.
ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان - ونرجو أن تلحقها فيه محاكم
مصر - الطلاق على الغائب والمعسر؛ فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر
المحاكم منشورًا تأذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه .
وقد جاء في تقرير لقاضي القضاة بيان فائدة هذا الحكم، وهو إنقاذ النساء
الضعيفات اللاتي يتركهن أزواجهن بلا نفقة ولا عائل حتى يلجأن إلى خدمة دنيئة
أو تكفف الناس أو ما هو شر من ذلك وهو الكسب بأعراضهن. وفيه أن القضاة قد
طلقوا على الغائبين والمعسرين في مائتي قضية أو أكثر؛ ولكن بعضهم لجهله
وغباوته لم يتحرَّ في الأمر كما يجب فطلقوا في وقائع يعرف فيها مكان الزوج
ويسهل على الحكومة إخباره (إعلانه) بالمحاكمة. وذكر أن مثل هذا الخطأ كثير
في كل فروع القضايا لجهل القضاة ووعد بأن سيتبع المنشور الأول بمنشور آخر
يعلم القضاة فيه الغرض من هذا الطلاق ليسهل عليهم الوقوف عند حدود الحق فيه.
وقال - في مقدمة التقرير الذي قدّمه إلى الحاكم العام وطلب فيه تعميم
المحاكم - ما مثاله: إنني أوجه نظر سعادتكم أولاً إلى أن القضاء عند الأمم الحية
لا يعد من موارد الكسب كغيره من مصالح الحكومة التي يقصد أن يكون ريعها أكثر
مما ينفق فيها، وإنما هو من المصالح الكمالية الضرورية؛ لأنه عبارة عن
إقامة العدل في الأمة ولولا اعتبارات خاصة لما ساغ لحكومة أن تضرب على
إقامة العدل في الرعية ضريبة تحت ستائر الرسوم القضائية؛ فوظيفة المحاكم
الحقيقية هي إقامة العدل وفصل الخصومات لا جباية الأموال وتحصيل الضرائب،
ثم قال: (وإنه ليسرني أن سعادتكم أول من نظر إلى القضاء بعين الرعاية
والعناية، ولا أزال أكرر بمزيد السرور تلك الكلمة التي سمعتها من سعادتكم وهي:
أن الدين الإسلامي غير مقام في البلاد بسبب قلة الدوائر القضائية) ، ثم اقترح
تعميم المحاكم.
وربما عدنا إلى الكلام في ذلك بعد حين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المنار
كتب إلينا محسن الملك سيد مهدي خان ناظم مدرسة العلوم في عليكره وأحد
أركان النهضة الإسلامية في الهند كتابًا، ذكر فيه المنار بما يقتضيه الحب وتنظره
عين الرضى فقال ما نصه:
(قرأنا خاتمة المنار للسنة الخامسة بفرحة وامتنان لا مزيد عليهما. وقد
سرَّنا ما علمنا من أن المنار الإسلامي قد ازداد شهرة وقبولاً في جميع أنحاء الكرة
الأرضية، وصار موضع ثقة العلماء والفضلاء في البلاد العجمية والعربية. ولا
غَرْوَ، فإننا نقطع قطعًا أن مجلتكم هي المجلة الوحيدة التي تخدم الأمة المحمدية
والديانة الإسلامية بجد ونشاط وعزم وثبات وعقل وتدبر وإن مقالاتها الطنانة الرنانة
البالغة حد الإعجاز ما كتب مثلها على ما نعلم عرب ولا عجمي. ولا يستطيع كاتب
هندي أن يصف المجلة حق وصفها مهما أوتي من الفصاحة وحسن البيان فغاية ما
نقول: جزاكم الله خير الجزاء. ومَن قال ذلك فقد أبلغ بالدعاء وبلغ غاية الثناء.
لا شك أن المنار في هذه السنة قد نما نموًّا عجيبًا وانتشر انتشارًا غريبًا في
البلاد المصرية، غير أن شهرته وانتشاره في البلاد الهندية لا يقل عن شهرته
وانتشاره في مصر؛ فإن مئات من مقالاته الحكمية والإسلامية نقلناها في لغتنا
الهندية ونشرناها في جريدتنا الأسبوعية (على كدة أنسيثيوت كزت) ، ثم تناقلتها
الجرائد الإسلامية؛ فقرأها ألوف من قرائنا وقراء سائر الجرائد وحازت رضى
العلماء والفضلاء في المدارس والجوامع والمساجد. ومن غريب الاتفاق أن مترجم
مقالاتكم لجريدتنا هو أيضًا سمي حضرتكم اسمه رشيد أحمد الأنصاري وهو من
محرري جريدتنا ومن مشاهير الكُتاب والمترجمين المجيدين في الهند.
يسرنا أن الحرية التي حلت في ربوع مصر بواسطة الاحتلال لا شك أنكم
تعرفون قيمتها وتقدرونها حق قدرها لاقتصاركم على المباحث الدينية الإسلامية
والمقالات العلمية والفضائل الأخلاقية، واجتنابكم المسائل السياسية، وإننا تجزم
جزمًا أن هذه الخطة التي رسمتموها للمنار هي أسلم له وأضمن للوصول إلى
الغرض المقصود وأوفق وأفيد للمسلمين من الخطة التي سار عليها بعض كُتاب
الجرائد المصرية. الإسلام يأمرنا بالمسالمة والمجاملة وحسن القصد مهما كانت
الظروف والأحوال. فلا ينبغي لمسلم أن يكون عليه سلطان (لعفريت الوطنية
الكاذبة) ، وينبذ بها أوامر دينه ومصالح أمته وراء ظهره. وفق المسلمين لما يحب
ويرضى.
_________
(تنبيه) : لم ننشر في هذا الجزء شيئًا من الكرامات وشبهات المسيحيين؛ لأنه صدر مما قبله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
العقائد من الأمالي الدينية [*]
الدرس (37)
في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام
(المسألة ال103) حكمة ظهور الإسلام في العرب:
نذكر هنا كلمة من مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي كتبناها في الجزء الرابع
من المجلد الثالث هي:
كان العالم الإنساني قبل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة وظلمات
من الفتن وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة وصدع بنيانها فأراد الحي
القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ويقيم بناء مدنيته على أساس من الحكمة ليثبت
ويبقى إلى ما شاء الله تعالى، ويبلغ به الإنسان كماله المستعد هو له في أصل الفطرة
القويمة، فأظهر له - جل ثناؤه - الإسلام في الأمة العربية فحملته وطافت به العالم
المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية فما كان إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى
عم نوره المشرق والمغرب، ودخل الإنسان في طور جديد وأقام أركان مدنيته على
أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل مادامت الأرض أرضًا والسماء سماءً.
وكيف تتزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن الخليقة وقد أخبر مبدعها الحكيم
الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل.
لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟
اختارهم وهو أعلم لأسباب ووجوه:
(أحدها) أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي أقيم
فيها من قبل بناء الحضارة وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق وفارس،
حيث كان التمدن الكلداني والآشورى والبابلي والفارسي والفينيقي والمصري
واليوناني والروماني فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في الأرض القابلة
وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة.
(ثانيها) أنها كانت - ولا مدنية لها سابقة (معروفة) - أشد استعدادًا من
تلك الأمم التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه
الأول، وهو استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي؛ لأنه لم يكن لها رؤساء في
الدين والسياسة يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم، وتتلاشى
آراء أفرادها في آرائهم، فلا يرجع إليهم أحد قولاً، ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا
ولا نفعًا، وأما تلك الأمم فقد كان المرؤوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا
حتى لم تبق لهم إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ إرادة الرؤساء ويمثل أفكارهم
وآراءهم (ومن هنا نفهم حكمة ظهور الإسلام بمظهر السيادة وعناية خلفائه بالفتح
والاستيلاء وهي إزالة ذلك السلطان الغاشم والاستبداد القاهر ليكون الناس أحرارًا
فيما يعتقدون ولهم بعد ذلك الخيار في الإسلام وعدمه إذ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: 256) وزال المانع من طريق الإدراك والفهم) .
(ثالثها) أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة الكمال
بمجرد سلامة الفطرة، وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي جاء يخاطب
العقل والوجدان معًا ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى ويطمس رسومه، وتكون
أسرع انفعالاً بالمؤثرات، وأشد تمسكًا بالمعتقدات.
(رابعها) أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة
والحرية الشخصية وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا
والاستماتة في المدافعة عنه على حين أمات نفوس الأمم الأخرى وذهب بإرادتها -
ما تواتر عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة - حتى سهل عليها مشايعة الظالمين
على خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا
العهد. وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني.
(خامسها) أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه على
وحي سماوي على سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به الإسلام
أو يزاحمه. وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان، على
وجه يقبله العقل وينفعل له الوجدان، إذا وجد استقلال الفكر والرأي وكذلك كان اهـ.
ونزيد الآن سببًا سادسًا هو السبب الأظهر، والوجه الأنور، ونذكره على
النسق السابق فنقول:
(سادسها) كون العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولم تمارس الأحكام
السياسية والمدنية والقضائية. وبيان هذا من وجهين:
(أحدهما) ما فهم من الأسباب السابقة وهو وجوب كون الإصلاح الجديد
الذي احتاجته الأمم كلها غير مشوب بشيء من أمشاج الأديان والمدنيات السابقة؛
لأن تلك الأديان قد انطمست وجوهها وتلك المدنيات قد انقلبت إلى ترف مفسد
وبهيمية محضة. فلو ظهر الإصلاح في أهلها لصدهم عنه ما هم فيه ولضاع الزمن
الطويل في مكافحة الجديد للقديم وكانت الأقوام قد تقيدت بما هي فيه حتى لا طريق
لخروجها منه إلا قارعة من دونهم تحل بهم فتزلزل ما هم فيه زلزالاً!
كانت تلك الأمم تقيم بناء مدنيتها على أركان الدين والعلم والسياسة المنتظمة
وأحكامها، وهذه هي أركان السعادة البشرية في هذه الحياة ولكنها أساءت استعمالها
فلفحها هجير الشقاوة فكانت من تلك الأركان في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا
يغني من اللهب، بل كان كل ما حل بها من الشقاء هو من دخان ذلك الظل الذي
ذهب بكل نور، فالأديان كانت قد انقلبت وثنية تضل العقول، وتذل النفوس،
والعلوم كانت وسائل الترف، وذرائع السرف، والأحكام كانت سوط البغي والعتو،
وسيف القهر والعلو، فكانت جميع آلات الرقي آلات للتدلي والهويّ.
وكانت العرب في إبان ذلك خلوًا من كل ذلك ولكنها كانت على جهلها وفساد
أخلاقها ترتقي في بداوتها ارتقاءً فطريًّا، وتستعد لقبول الهداية استعدادًا طبيعيًّا،
حتى إذا جاءها العلم والإصلاح كانت كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
(والوجه الثاني) وهو أوجه الوجوه وأظهر الأسباب والحكم، ظهور الآية
الكبرى والحجة العظمى، ظهور العلم الأعلى، والتعليم الأجلى، على يد أمي نشأ
في الأميين، وتربى بين الجاهلين، ولو نشأ في أمة من تلك الأمم لقيل إنه عالم
نقح العلوم وهذبها، وحرر الشرائع وشذبها، وحكيم نظر في تاريخ البشر فاستخرج
منها الحكم والعبر: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا
لَاّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) .
(م 104) حال النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته:
لم يكتب الكاتبون في هذا المقام مثل ما كتبه في رسالته الأستاذ الإمام ذلك أنه
بيَّن ما كانت عليه الأمم قبل البعثة من الفساد والشرور ثم قال:
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجل منهم يوحي إليه رسالته،
ويمنحه عنايته، ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم، التي أظلت
رءوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك ولله الأمر من قبل ومن بعد.
في الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول عام الفيل (20 أبريل سنة 571 من
ميلاد المسيح عليه السلام ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي
بمكة. ولد يتيمًا توفي والده قبل أن يولد، ولم يترك له من المال إلا خمسة جمال
وبعض نعاج [1] وجارية ويروى أقل من ذلك، وفي السنة السادسة من عمره فقد
والدته أيضًا فاحتضنه جده عبد المطلب وبعد سنتين من كفالته توفي جده فكفله من
بعده عمه أبو طالب وكان شهمًا كريمًا غير أنه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف
أهله. وكان صلى الله عليه وسلم من بني عمه وصبية قومه كأحدهم على ما به من
يُتم فقد فيه الأبوين معًا وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ولم يقم على تربيته مهذِّب،
ولم يُعنَ بتثقيفه مؤدب، بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من حلفاء الوثنية،
وأولياء من عبدة الأوهام، وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنه مع ذلك كان ينمو
ويتكامل بدنًا وعقلاً وفضيلةً وأدبًا حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه
بالأمين، أدب إلهي لم تجرِ العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصًا
مع فقر القَوَّام. فاكتهل e كاملاً والقوم ناقصون، رفيعًا والناس منحطون، موحدًا
وهم وثنيون، سلمًا وهم شاغبون [2] ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعًا
على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون.
ومن السنن المعروفة أن يتيمًا فقيرًا أميًّا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول
نشأته إلى زمن كهولته ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه لا سيّما إن كان من ذوي
قرابته وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم
يؤيده فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم. وأخذ بمذاهبهم إلى
أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له
الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده [3] ولكن الأمر
لم يجرِ على سنته بل بُغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة،
كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} (الضحى: 7) ، لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد أو على
غير السبيل القويم قبل الخُلق العظيم، حاش لله؛ إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما
هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب
السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه
إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير
شريعته.
وجد شيئًا من المال يسد حاجته - وقد كان له في الاستزادة منه ما يرفه
معيشته - بما عمل لخديجة رضي الله عنها في تجارتها وبما اختارته بعد ذلك زوجًا
لها وكان فيما يجتنيه من ثمرة عمله غناءً له وعونًا على بلوغه ما كان عليه أعاظم
قومه؛ لكن لم ترقه الدنيا ولم تُغْرِهِ زخارفها، ولم يسلك ما كان يسلكه مثله في
الوصول إلى ما ترغبه الأنفس من نعيمها، بل كلما تقدم به السن زادت فيه الرغبة
عما كان عليه الناس كافة ونما فيه حب الانفراد والانقطاع إلى الفكر والمراقبة
والتحنث بمناجاة الله تعالى والتوسل إليه في طلب المخرج من همه الأعظم في
تخليص قومه ونجاة العالم من الشر الذي تولاه، إلى أن انفتق له الحجاب عن عالم
كان يحثه إليه الإلهام الإلهي، وتجلي عليه النور القدسي، وهبط عليه الوحي من
المقام العلي، في تفصيل ليس هذا موضعه.
لم يكن من آبائه ملك فيطالب بما سلب من ملكه وكانت نفوس قومه في
انصراف تام عن طلب مناصب السلطان، وفي قناعة بما وجدوه من شرف النسبة
إلى المكان، دل عليهما ما فعل جده عبد المطلب عند زحف أبرهة الحبشي على
ديارهم. جاء الحبشي لينتقم من العرب بهدم معبدهم العام، وبيتهم الحرام، ومنتجع
حجيجهم ومستوى العلية من آلهتهم، ومنتهى حجة القرشيين في مفاخرتهم لبني
قومهم، وتقدم بعض جنده فاستاق عددًا من الإبل فيها لعبد المطلب مئتا بعير وخرج
عبد المطلب في بعض قريش لمقابلة الملك فاستدناه وسأله حاجته فقال: هي أن ترد
إليَّ مئتي بعير أصبتها لي، فلامه الملك على المطلب الحقير، وقت الخطب
الخطير، فأجابه: أنا رب الإبل أما البيت فله رب يحميه، هذا غاية ما ينتهي إليه
الاستسلام وعبد المطلب في مكانه من الرياسة على قريش فأين من تلك المكانة
محمد صلى الله عليه وسلم في حالة من الفقر ومقامه في الوسط من طبقات أهله
حتى ينتجع ملكًا أو يطلب سلطانًا؟ ، لا مال، لا جاه، لا جند، لا أعوان، لا
سليقة في الشعر، لا براعة في الكتاب، ولا شهرة في الخطاب، لا شيء كان عنده
مما يُكسب المكانةَ في نفوس العامة، أو يرقى به إلى مقامٍ ما بين الخاصة.
ما هذا الذي رفع نفسه فوق النفوس، ما الذي أعلى رأسه على الرؤوس، ما
الذي سما بهمته على الهمم، حتى انتدب لإرشاد الأمم وكفالته لهم كشف الغمم بل
وإحياء الرمم؟ ما كان ذلك إلا ما ألقى الله في روعه من حاجة العالم إلى مقوم لما
زاغ من عقائدهم، ومصلح لما فسد من أخلاقهم وعوائدهم، ما كان ذلك إلا وجدانه
ريح العناية الإلهية ينصره في عمله، ويمده في الانتهاء إلى أمله، قبل بلوغ أجله،
ما هو إلا الوحي الإلهي يسعى نوره بين يديه فيضيء له السبيل، ويكفيه مؤنة الدليل،
ما هو إلا الوعد السماوي، قام لديه مقام القائد والجندي، أرأيت كيف نهض
وحيدًا فريدًا يدعو الناس كافة إلى التوحيد، والاعتقاد بالعلي المجيد والكل ما بين
وثنية مفرقة ودهرية وزندقة.
نادى في الوثنيين بترك أوثانهم ونبذ معبوداتهم وفي المشبهين المنغمسين في
الخلط بين اللاهوت الأقدس وبين الجسمانيات بالتطهر من تشبيههم وفي الثنوية
بإفراد إله واحد بالتصرف في الأكوان ورد كل شيء في الوجود إليه، أهاب
بالطبيعين ليمدوا بصائرهم إلى ما وراء حجاب الطبيعة فيتنورا سر الوجود الذي
قامت به، صاح بذوي الزعامة ليهبطوا إلى مصاف العامة في الاستكانة إلى سلطان
معبود واحد هو فاطر السموات والأرض والقابض على أرواحهم في هياكل كل
أجسادهم. تناول المنتحلين منهم لمرتبة التوسط بين العباد وبين ربهم الأعلى فبين
لهم بالدليل وكشف لهم بنور الوحي أن نسبة أكبرهم إلى الله كنسبة أصغر المعتقدين
بهم وطالبهم بالنزول عما انتحلوه لأنفسهم من المكانات الربانية إلى أدني سلم من
العبودية، والاشتراك مع كل ذي نفس إنسانية في الاستعانة برب واحد يستوي
جميع الخلق في النسبة إليه لا يتفاوتون إلا فيما فضل به بعضهم على بعض من علم
أو فضيلة.
وخز بوعظه عبيد العادات وأُسراء التقليد ليعتقوا أرواحهم ما استعبدوا له،
ويحلوا أغلالهم التي أخذت بأيديهم عن العمل، وقطعتهم دون الأمل، مال على
قراء الكتب السماوية والقائمين على ما أودعته من الشرائع الإلهية فبكّت الواقفين
عند حروفها بغباوتهم، وشدد النكير على المحرفين لها الصارفين لألفاظها إلى غير ما
قصد من وحيها اتباعًا لشهواتهم. ودعاهم إلى فهمها، والتحقق بسر علمها، حتى
يكونوا على نور من ربهم. ولفت كل إنسان إلى ما أودع فيه من المواهب الإلهية
ودعا الناس أجمعين ذكورًا وإناثًا عامة وسادات إلى عرفان أنفسهم وأنهم من نوع
خصه الله بالعقل وميزه بالفكر وشرفه بهما وبحرية الإرادة فيما يرشده إليه عقله
وفكره، وأن الله عرض عليهم جميع ما بين أيديهم من الأكوان وسلطهم على فهمها
والانتفاع بها بدون شرط ولا قيد إلا الاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة العادلة
والفضيلة الكاملة. أقدرهم بذلك على أن يصلوا إلى معرفة خالقهم بعقولهم وأفكارهم
بدون واسطة أحد إلا مَن خصهم الله بوحيه. وقد وكل إليهم معرفتهم بالدليل كما كان
الشأن في معرفتهم لمبدع الكائنات أجمع والحاجة إلى أولئك المصطفَين إنما هي في
معرفة الصفات التي أذن الله أن تعلم منه، وليست في الاعتقاد بوجوده.
وقرر أن لا سلطان لأحد من البشر على آخر منه إلا ما رسمته الشريعة
وفرضه العدل ثم الإنسان بعد ذلك يذهب بإرادته إلى ما سخرت له بمقتضى الفطرة،
دعا الإنسان إلى معرفة أنه جسم وروح وأنه بذلك من عالمين متخالفين وإن كانا
ممتزجين وأنه مطالَب بخدمتهما جميعًا وإيفاء كل منهما ما قررت له الحكمة الإلهية
من الحق. دعا الناس كافة إلا الاستعداد في هذه الحياة لما سيلاقون في الحياة
الأخرى وبيّن لهم أن خير زاد يتزوده العامل هو الإخلاص لله في العبادة والإخلاص
للعباد في العدل والنصيحة والإرشاد.
قام بهذه الدعوة العظمى وحده ولا حول له ولا قوة، كل هذا كأنه منه والناس
أحباء ما ألفوا وإن كان خسران الدنيا وحرمان الآخرة أعداء ما جهلوا وإن كان
رغد العيش وعز السيادة ومنتهى السعادة. كل هذا والقوم حواليه أعداء أنفسهم
وعبيد شهواتهم لا يفقهون دعوته. ولا يعقلون رسالته. عقدت أهداب بصائر العامة
منهم بأهواء الخاصة. وحجبت عقول الخاصة بغرور العزة عن النظر في دعوى
فقير أمي مثله لا يرون فيه ما يرفعه إلى نصيحتهم والتطاول إلى مقاماتهم الرفيعة
باللوم والتعنيف.
لكنه في فقره وضعفه كان يقارعهم بالحجة ويناضلهم بالدليل ويأخذهم
بالنصيحة ويزعجهم بالزجر وينبههم للعبر ويحوطهم مع ذلك بالموعظة الحسنة كأنما
هو سلطان قاهر في حكمه، عادل في أمره ونهيه أو أب حكيم في تربية أبنائه شديد
الحرص على مصالحهم رؤوف بهم في شدته رحيم في سلطته.
ما هذه القوة في ذلك الضعف؟ ما هذا السلطان في مظنة العجز؟ ما هذا العلم
في تلك الأمية؟ ما هذا الرشاد في غمرات الجاهلية؟
إن هو إلا خطاب الجبروت الأعلى، قارعة القدرة العظمى نداء العناية العليا.
ذلك خطاب الله القادر على كل شيء الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، ذلك نداء
أمر الله الصادع يقرع الآذان ويشق الحجب ويمزق الغلف، وينفذ إلى القلوب على
لسان من اختاره لينطق به واختصه به وهو أضعف قومه ليقيم من هذا الاختصاص
برهانًا عليه بعيدًا عن الظنة بريئًا من التهمة؛ لإتيانه على غير المعتاد بين خلقه.
أي برهان على النبوة أعظم من هذا؟ أمي قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما
يكتبون وما يقرءون، بعيد عن مدارس العلم، صاح بالعلماء ليمحّصوا ما كانوا
يعلمون، في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء، ناشئ بين الواهمين هب
لتقويم عوج الحكماء. غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة وأبعدها عن
فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة أخذ يقرر للعالم أجمع أصول الشريعة
ويخط للسعادة طرقًا، لن يهلك سالكها ولن يخلص تاركها.
ما هذا الخطاب المفحم؟ ما ذلك الدليل الملجم؟ أأقول: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ
هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31) لا، لا أقول ذلك؛ ولكن أقول كما أمره الله
أن يصف نفسه: إِن هو بشر مثلكم يوحى إِلَيه: نبي صدّق الأنبياء، ولكن لم يأتِ
في الإقناع برسالته بما يلهي الأبصار أو يحير الحواس أو يدهش المشاعر؛ ولكن
طالب كل قوة العمل فيما أعدت له واختص العقل بالخطاب، وحاكم إليه الخطأ
والصواب، وجعل في قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل مبلغ الحجة وآية
الحق الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) . ا. هـ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) نشر الدرس السادس والثلاثون في الكراسة 42 من المجلد الخامس (ص331) وشُغلنا بعد ذلك بمقالات الإسلام والنصرانية - وأم القرى مع التفسير - عن تتابع مقالات العقائد وكان ذلك الدرس في نبوة خاتم النبيين والحاجة إلى عمومها والاستعداد العام لها، ووعدنا فيه ببيان حكمة كونه من العرب وبيان ارتقاء الدين من كلام الأستاذ الإمام، وهذا الثاني قد ذكرناه في غير الأمالي؛ فلا نعيده.
(1)
قيل: خمس وقيل تسع.
(2)
استشهد له بقصة اختلاف القبائل أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه يوم بناء الكعبة، وكادوا يقتتلون لولا أن أصلح بينهم بما أرضاهم جميعًا.
(3)
كأمية بن أبي الصلت وعمرو بن نفيل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
تتمة المقالة العاشرة
(المسألة الخامسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أن الكرامة
على قسمين: كرامة حسية كالمشي على الماء، وكرامة معنوية وهي التوفيق لكمال
المحافظة على حدود الشريعة ظاهرًا وباطنًا وما ينشأ عن ذلك من العلوم والمعارف
الإلهية. وذكر أن الأكابر لا يحفلون بالكرامات الحسية وأن أعظم كرامة عندهم
العلم بالله تعالى والدار الآخرة وما تستحقه الدار الدنيا وما خُلقت له ولأي شيء
وُضعت حتى يكون الإنسان من أمره على بصيرة من حيث كان فلا يجهل من نفسه
ولا من حركاته شيئًا. بل قال: إن الكرامة ليست إلا العلم. أما المعنوية فظاهر أن
العلم بمداها وثمرتها وأما الحسية فإنه يشترط أن تكون بتعريف إلهي وهو عين العلم.
ونقول: إن هذه الكرامة المعنوية لا ينكرها أحد وكلها نفع وليس فيها ضرر ولا
خداع فإن العلم نور لا ظلمة فيه. والولي المحمدي لا يليق به التعويل على غير
هذه الكرامة فإن آية نبيه الكبرى معنوية والكرامة قبس من نور المعجزة كما يقولون.
(المسألة السادسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أيضًا أن
الخوارق التي تحصل على أيدي الصالحين قد يكون فيها مكر خفي واستدراج،
وشرط لصحة كونها كرامة أكرم الله بها العبد لا مكرًا به ولا استدراجًا له أن تكون
ناتجة عن استقامة أو منتجة لاستقامة وأن تكون بتعريف إلهي. هذا ما اشترطه
شيخ الصوفية الأكبر، وهو مخالف لما في كتب علماء الظاهر من كون الكرامة هي
الأمر الخارق للعادة الذي يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح. ولو اعتبر بهذا وما
قبله الذين يعتدون المصادفات الغريبة كرامات وإن ظهرت على أيدي المستورين أو
الفاسقين لكفوا من غلوائهم.
(المسألة السابعة والعشرون) أن الكرامة في عرف العامة هي الفصل الذي
يميز طائفة من الناس يسمونهم الأولياء والولي في اللغة الناصر والمتولي للأمور
وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من دونه أولياء وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 257) ، وأولياء الله هم أنصار دينه والمميز لهم كمال الاتباع المعبر عنه
بالتقوى، فكل مؤمن تقي ولي وليس عمل الغرائب ولا صدور الخوارق دليلاً على
التقوى ولا على الولاية؛ قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) ، وفي الباب السادس
والثمانين بعد المئة من الفتوحات المكية أن تارك الكرامات هو المتحقق باتخاذ الحق
وكيلاً له امتثالاً لقوله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} (المزمل: 9) .
(المسألة الثامنة والعشرون) يستدل العامة على ثبوت وقوع الكرامات
للأولياء بقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} (الزمر: 34) وهي جراءة
على تحريف القرآن فاشية فيهم، وإنما الآية في أهل الجنة في الجنة وقد اختزلوا
منها هذه الجملة فكان استدلالهم بها على أن الأولياء يعطيهم الله في الدنيا ما يشاؤون
من الخوارق كاستدلال بعض المتلاعبين على تحريم الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
…
} (النساء: 43) وترك القيد وهو قوله: {
…
وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: 43) ، وأكثر الذين رأيناهم يستدلون على الكرامة بما
ذُكر جاهلون بما عدا تلك الكلمة من الآية؛ ولهذا نكتبها لهم بتمامها، وهي {تَرَى
الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي
رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ
…
} (الشورى
: 22) ، ثم قال بعدها: {
…
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} (الشورى: 23)
…
إلخ، فأنت تراها بشارة للمؤمنين العاملين بما سيكون لهم من الجزاء في الآخرة،
فهي كقوله تعالى - بعد ذكر الجنة ودخول المتقين فيها -: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا
وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق: 35) ، فأين ذلك من حديث الخوارق في الدنيا؟ !
(المسألة التاسعة والعشرون) أن الاعتقاد بالكرامة ليس من أصول الإيمان،
التي يكلف المؤمن باعتقادها كما تقدم وإنما ذكروها في كتب الدين؛ لما تقدم من
الاستدلال على وقوعها بالكتاب في قصة أم موسى وأم عيسى عليهما السلام. وقد
علم من المقالة الرابعة أن قصارى ما يدل عليه الكتاب هو الإلهام الصحيح للأولى
وتمثل الملك الروح الثانية ومكالمتها وذلك من مقدمات نبوة ولديهما كحبل مريم بنفخ
الروح فيها. فمثل هذا لا يقاس عليه لأنه آية لم تأتِ على قياس؛ لأن زمن النبوة قد
انقطع فلم يبق إلا تحكيم العلم في مسألة الخوارق فما أثبته فهو الثابت وما نفاه فهو
المنفي وما توقف فيه فالوقف حتم إلى أن يتجلى فيه شيء.
(المسألة الثلاثون) لنا أن نجعل الدين معينًا للعلم في البحث عن الخوارق
التي تحقق وقوعها وذلك أن الدين علمنا أن وراء العالم المحسوس عالمًا غيبيًّا لا
تستقل الحواس بإدراكه. ومن حكم الدين في الأخبار بهذا توجيه همة الإنسان إلى
شيء أرقى من هذه المحسوسات التي تشاركه فيها البهائم والحشرات حتى لا يقف
باستعداده غير المحدد عند هذه الحدود القريبة. وإن للعالم الغيبي اتصالاً بعالم
الشهادة المحسوس ومنها أرواحنا التي بها نحيا وندرك.
وهذه المسألة تنفعنا في تعليل كثير من الوقائع التي تسمى خوارق وهي
خوارق عادات حقيقة؛ ولكنها ليست خوارق للسنن الإلهية فإذا لم تظهر لها سنة
حسية جليلة فإن لها سنة معنوية خفية. وهذه التعليلات والتأويلات الآتية من قبيل
تعليل علماء المادة كثيرًا من الظواهر الطبيعية بالأثير يسندون إليه الآثار وإن لم
تدركه الأبصار بل هي أظهر منها وإننا نجعل هذه المسألة آخر المسائل التي نجلي
بها مبحث الخوارق والكرامات. فعلم من هذا أنه ليس في الدين دليل على وقوع
الخوارق لغير الأنبياء إلا في وقائع متصلة بهم ومتعلقة بظهورهم وأن المعول عليه
فيما وراء ذلك هو العلم والاختبار.
وسترى أنواع الخوارق في المقالات التالية وحكم العلم والاختبار فيها.
* * *
المقالة الحادية عشرة
في أنواع الكرامات وضروب التأويل
ما رأيت أحدًا توسع في الكلام على الكرامات كالتاج السبكي في الطبقات
الكبرى؛ ولذلك جعلنا كلامنا في المقالات الأولى معه. وقد تكلم في أنواع الكرامات
وقال: إن بعض المتأخرين عدد أنواع الواقعات من الكرامات فجعلها عشرة وهي
أكثر من ذلك وأنا أذكر ما عندي فيها، ثم ذكر خمسة وعشرين نوعًا لا تخلو من
تكرار وتداخل ثم قال: وأظن أن أنواع كراماتهم تبلغ المئة، وقد زدت عليه في
خاتمة كتاب (الحكمة الشريعة في محاكمة القادرية والأحمدية) أنواعًا مشهورة
عنهم. وإننا نسرد هذه الأنواع المشهورة ونحرر القول فيها. ونشير إلى وجوه
التأويل التي تعتريها فنقول:
(النوع الأول: إحياء الموتى)
ذكر السبكي فيه حكايات في إحياء نحو دابة ودجاجة وحدأة وطفل صغير وقع
من سطح فمات ثم قال: لا يثبت عندي أن وليًّا حيي له ميت مات من أزمان كثيرة
بعد ما صار عظمًا رميمًا ثم عاش بعدما حيي زمانًا كثيرًا، هذا القدر لم يبلغنا ولا
أعتقده وقع لأحد من الأولياء ولا شك في وقوع مثله للأنبياء عليهم السلام. فمثل هذا
يكون معجزة ولا تنتهي إليه الكرامة فيجوز أن يجيء نبي قبل اختتام النبوة بإحياء أمم
انقضت قبله بدهور ثم إذا عاشوا استمروا في قيد الحياة أزمانًا. ولا أعتقد الآن أن
وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمنًا طويلاً كما عمّرا قبل الوفاة
ولا زمانًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء كما خالطاهم قبل الوفاة. اهـ كلامه.
أقول: إذا كان يعترف بأن الشيخ عبد القادر الجيلي أحيا الدجاجة بعد أكلها
مطبوخة! ، فلماذا يستنكر على مثله إحياء الشافعي وأبي حنيفة وبماذا يفرق بين
الإحياءين؟ ! إن كان الكلام في الجواز وعدمه فهو حكم عقلي لا يختلف باختلاف
الأشخاص، وإن كان الكلام في الوقوع فهو يتوقف على المشاهدة أو السماع من
المعصوم أو النقل بالتواتر الصحيح عن أحدهما ولا شيء من ذلك بثابت إلا ما حكى
الله تعالى من قول عيسى عليه السلام: {وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران
: 49) ، ولم يقل إنه أحيا ميتًا أو أمواتًا مضى على موتهم من الزمن الطويل؛
حتى صاروا رممًا بالية ثم عاشوا بين الناس وحدثوهم بما كان من أمرهم بعد الموت،
ولو فعل هذا لما بقي أحد إلا وآمن به.
ولسنا نريد أن عدم النص والتصريح بأنه أحيا الموتى بالفعل يقتضي أنه لم يقع
منه إحياء حقيقي بالفعل أو أن المراد بالموتى موتى الجهل والكفر وبالإحياء الهداية
إلى الإيمان والحق كما قال المأوِّلون وإنما نريد أن السبكي لا يجد نصًّا يؤيد به
دعواه وأنه متحكم، وإن كان مصيبًا في قوله وِفاقًا للقشيري: إن الكرامة لا تبلغ
مبلغ المعجزة ويظهر أن الميزان الذي يزن به هذه الأحكام هو عظمة الأشخاص أو
الأصناف في نفسه فلما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم الناس قدرًا أعطاهم
إحياء العظام الرميم وكون من يحيونه يعيش الزمن الطويل، وأعطى الأولياء إذا
كانوا دونهم إحياء الطيور والأطفال!
كان للنصارى غرام بنقل الآيات والخوارق والأمر الغريب إذا اشتهر بين
الناس لا ينسى وإن كان سنده واهيًا أو موضوعًا. ولم ينقل القوم عن المسيح أنه أحيا
العظام الرميم بل روى لوقا في آخر الفصل الثامن من إنجيله أن ابنة رئيس المجمع
ماتت وأن المسيح قال: (لا تبكوا لم تمُت لكنها نائمة 53 فضحكوا عليه عارفين
أنها ماتت 54 فأخرج الجميع خارجًا وأمسك بيدها ونادى قائلاً: يا صبية قومي،
فرجعت روحها وقامت في الحال) اهـ. وروى يوحنا في الفصل الحادي عشر
من إنجيله قصة إحياء (لعازر) أخي مريم ومرثا وكان المسيح يحبه ويحبهما
وكان مرض فأخبر المسيح تلاميذه بأنه نام وأنه يريد إيقاظه ويعني أنه مات فجاء
معهم من أورشليم إلى قرية بيت عينا، حيث كان لعازر وأختاه وكان قد مات
ووضع في مغارة منذ أربعة أيام فجاءها وأمر برفع الحجر ورفع هو عينيه إلى فوق
وقال: أيها الأب أشكرك؛ لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي
ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني، ولما قال هذا صرخ
بصوت عظيم لعازر هلم خارجًا فخرج الميت
…
إلخ.
هذا ما رووه وهو على انقطاع إسناده ليس في شيء مما قال السبكي. أما حكاية
البنت فيحتمل أنها كانت في نوم حقيقي كما هو ظاهر قوله. وأما الحكاية الثانية
فإننا معشر المؤمنين نسلم بها إذا صح نقلها بالتواتر وإن كان ملاحدة النصارى قالوا
فيها باحتمال المواطأة بين المسيح ولعازر على ما كان (نعوذ بالله من كفرهم)
وباحتمال أن يكون ذلك من قبيل النوم الطويل فقد ثبت أن من الناس من ينام عدة
أسابيع أو عدة أشهر ثم يستيقظ بسبب أو بدون سبب، ولولا ما ثبت في القرآن من
نبوة المسيح وتأييد الله تعالى له بإحياء الموتى لكان التأويل متعينًا فليس عندنا نقل
متواتر يعتد به.
هذا، وإننا خرجنا عن الموضوع بإدخال المعجزة في البحث. والذي نقوله
في هذا النوع من حيث عدُّه في الكرامات إنه لم يثبت والأصل عدمه. وإن ما أورده
السبكي من الحكايات ينطبق على القاعدة التي قررها في طبقاته وهي عدم جواز
إظهار الكرامة إلا لأمر عظيم يضطر إليها حتى إنه انتحل تطبيق ما أورده من
الكرامات المأثورة عليها. وكان ينبغي له أن يطبقها على قاعدته الأخرى وهي عدم
بلوغ الكرامة مبلغ المعجزة فيقول: إن إحياء الموتى لا يكون من الكرامات ولا عبرة
بتلك القصص والحكايات.
هذا، وإن المشعوذين في أوربا وغيرها يخيلون للناس أنهم يذبحون الإنسان
فيبينون رأسه عن جثته ثم يحيونه ويطمع العلماء بأن يرتقي العلم بالناس إلى
مستوى يهتدون فيه إلى إعادة الحياة لمن تفارقه بعد زمن قريب! ومنهم طائفة من
الروحيين تشتغل بالبحث عن طريق مناجاة أرواح الموتى ولا يبعد أن يجيء يوم
يظهر لهم فيه أن ما روي من إحياء سيدنا عيسي للبنت ولعازر.
وإحياء سيدنا محمد لابن جابر قد كان بسُنة إلهية خفية وهو إمداد الأرواح
القوية العلوية للأرواح الضعيفة السفلية حتى تعود بإذن الله إلى التصرف بالجسد
وإذا لم يطل على مفارقته الأمد. وقد سبق الإلماع إلى أن آيات الأنبياء عليهم السلام
إذا كانت جارية على سنن إلهية روحانية يكون ذلك أليق بكمال الله عز وجل مما إذا
كانت بمحض القدرة لما فيه من اتفاق القدرة على النظام والحكمة وذلك كمال في
القدرة لا نقص فيها.
* * *
(النوع الثاني: تكليم الموتى ورؤية الأرواح)
قال السبكي: هو أكثر من النوع الذي قبله وروى مثله عن أبي سعيد الخزاز
رضي الله تعالى عنه ثم عن الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه وعن جماعة
من آخرهم بعض مشايخ الشيخ الإمام الوالد ولست أسميه.
ونقلت في كتاب (الحكمة الشرعية) عن الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي
ما حكاه عن نفسه في الفتوحات المكية (باب 311) وهذا نصه: (ولقد كنت
انقطعت في القبور مدة منفردًا بنفسي فبلغني أن شيخنا يوسف بن يخلف الكرمي قال:
إن فلانًا وسماني ترك مجالسة الأحياء وراح يجالس الموتى، فبعثت إليه وقلت: لو
جئتني لرأيت من أجالس، فصلى الضحى وأقبل إليَّ وحده ما معه أحد، فطلب علي
فوجدني بين القبور قاعدًا مطرقًا وأنا أتكلم على من حضرنى من الأرواح فجلس إلى
جانبي بأدب قليلاً قليلاً فنظرت إليه فرأيته قد تغير لونه وضاق نفسه وكان لا يقدر
يرفع رأسه من الثقل الذي عليه وأنا أنظر إليه وأتبسم، فلا يقدر أن يتبسم لما هو فيه
من الكرب فلما فرغت من الكلام وصدر الوارد خفف عن الشيخ واستراح ورد وجهه
إليَّ فقبل بين عيني فقلت له: يا أستاذ مَن يجالس الموتى أنا أو أنت؟ ! قال: لا
والله بل أنا أجالس الموتى والله لو تمادى علي الحال فطست. وانصرف وتركني
فكان يقول: من أراد أن يعتزل عن الناس فليعتزل مثل فلان) اهـ.
وأقول الآن: إن مثل هذه الحكاية منقول عن الصوفية بكثرة وهو من
خوارق العادات المألوفة المعروفة؛ ولكنه ليس خارجًا عن السنن الإلهية، ولا
خارقًا للنواميس الكونية. ولا علاقة له بالأمور الدينية، وإنما الروح الإنساني مستعد
في أصل الفطرة لإدراك عالمه؛ ولكنه يشغل عنه بعالم الجسد الذي يكون كل شغله
به من أول النشأة وهذا الاستعداد يكون قويًّا في بعض الناس فإذا اهتدى من يكون
قويًّا فيه إلى استعماله يزداد قوة حتى يتمكن من رؤية الأرواح المجردة أي: التي
تفارق الأجساد ويقوى على خطابها وللإفرنج في هذه السنين عناية بهذا الأمر
واشتغال به كبير، ويروى عنهم في استحضار الأرواح ومكالمة الموتى أضعاف ما
روي عن الصوفية من الوقائع؛ ولكنهم مع ذلك لم يبلغوا فيه مبلغ الصوفية فيما أظن
ولا يبعد أن يسبقوهم في يوم من الأيام؛ لأن جد هؤلاء الإفرنج ومثابرتهم على
الأعمال التي يهتدون إلى طريقها من الغرابة بمكان.
هذا ما يقال في التأويل لمن صحت عنده الروايات عن الأولين والآخرين. ومن
الناس من يقول: إن كل ما يروى في هذا المقام غير حقيقي وإنما هو من ضروب
الشعوذة والسيمياء يخيلون فيه للناس ما لا حقيقة له في الواقع وقد ذكر الصوفية أن
بعض المشاهد الروحية يكون في عالم الخيال، وبعضها يكون في عالم المثال، وقد
أطلنا هذا البحث في كتاب (الحكمة الشرعية) فكتبنا فيه 35 صفحة، ومنه: قال
حجة الإسلام الغزالي (رحمه الله تعالى) في كتابه (المنقذ من الضلال) في الثناء
على الصوفية: (حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون
منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد) وفي المواهب اللدنية للقسطلاني أن الغزالي قال
في تفسير حديث: (مَن رآني في المنام فقد رآني حقًّا) وحديث: (مَن رآني في
المنام فسيراني في اليقظة) ، ليس معنى قوله:(فقد رآني) أنه رأى جسمي
وبدني وإنما المراد أنه رأى مثالاً صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في
نفسي إليه. وكذلك قوله (فسيراني في اليقظة) ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني
(قال) : والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل،
فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل
هو مثاله على التحقيق، فعلم بهذا أن الغزالي يريد برؤية الأرواح رؤية مثل
متخيلة لها؛ ولكنه قال في المنقذ بعد ما تقدم: ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور
والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق الناطق.
وذكر الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر) جماعة كانوا يرون النبي e
في اليقظة منهم الشيخ قاسم المغربي، ونقل عن الشيخ قاسم المذكور أنه قال:
وأكثر ما تقع رؤية النبي e يقظة بالقلب ثم تترقى إلى رؤية البصر (قال) :
وليست رؤية النبي e كرؤية بعضنا بعضًا وإنما هي جمعية خيالية وحالة برزخية
وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من به باشره اهـ.
ففهم أن الإنسان لا يزال يفكر في الميت الذي تتوجه إليه نفسه ويعمل في
إخطاره على قلبه حتى يتخيل أنه يراه معه؛ لأنه يغيب عن عالم الحس ويستغرق في
عالم الخيال.
وذكر الشعراني في ميزانه عن شيخه علي الخواص أن الأئمة المجتهدين كانوا
يرون النبي e يقظة ويسألونه عن الأحكام المشكلة. ولو كانت هذه الرؤية حقيقة
مطردة لما اختلفوا؛ إذ لا يمكن أن يجيبهم بأجوبة مختلفة في المسألة الواحدة؛ ولما
توقفوا في بعض المسائل، فإن صح قوله فهي الجمعية الخيالية وهي لا تزيد
الإنسان على ما في نفسه على أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ادعى ذلك.
وفي الذهب الأبرز (ص44 و45) من النسخة المطبوعة بمصر سنة
(1292)
أن ابن المبارك سأل الشيخ عبد العزيز الدباغ عن استحضار صورة النبي
e في ذهن المؤمن هل هي من عالم الروح أو من عالم المثال أو من عالم الخيال؟
قال: فأجاب رضي الله عنه بأن ذلك الاستحضار من روح الشخص وعقله فمن
توجه بفكره إليه صلى الله عليه وسلم ووقعت صورته في ذهنه فإن كان ممن يعلم
صورته الكريمة لكونه صحابيًّا أو من العلماء الذين عنوا بالبحث عنها ثم حصلوها
فإنها تقع في فكره على ما هي عليه في الخارج. وإن كان من غير هذين فإنه
يستحضره في صورة آدمي في غاية الكمال في خلقه وخلقه فقد توافق الصورة التي
في فكره ما في الخارج وقد تخالفه، والحاضر في الفكر هو صورة ذاته صلى الله
تعالى عليه وسلم لا صورة روحه عليه الصلاة والسلام فإن الذي شاهده الصحابة
رضي الله تعالى عنهم وأخبر عنه العلماء هو الذات لا الروح الشريفة ولا يجول
الفكر إلا فيما يعلمه الشخص ويعرفه. فقولكم: هل هو من عالم الروح؟ إن أردتم
به الاستحضار فهو من عالم الروح أي: من روح المتفكر. وإن أردتم به الحاضر
أي: فهل الحاضر في أفكارنا روحه صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقد سبق أنه ليس إياها، وأما المحادثة والمكالمة إذا حصلت لهذا المتفكر فإن كانت ذاته طاهرة
وتحبها روحه ولم تحجب عنه أسرارها وكانت معه كالخليل مع خليله فالمحادثة
معصومة وهي حق وإن كانت الذات على العكس فالأمر على العكس والله الموافق
اهـ.
وما ذكره أخيرًا من الحكم في المحادثة فيه غموض ولا أقول هنا كما قلت في
الحكمة الشرعية: إن فيه وقفة ظاهرة.
ثم قال ابن المبارك: إنه ذكر لشيخه رجلاً من الصالحين كان يذكر الله مع
جماعة من أصحابه فما كان من أحدهم إلا أن تبدل لونه وتغير حاله وبدل جلسته هل
هذه المشاهدة التي وقعت لهذا الرجل مشاهدة فتح أو مشاهدة فكر؟ فقال: مشاهدة
فكر لا مشاهدة فتح ومشاهدة الفكر وإن كانت دون مشاهدة الفتح إلا أنها لا تقع إلا
لأهل الإيمان الخالص والمحبة الصافية والنية الصادقة. وبالجملة فهي لا تقع إلا
لمن كمل تعلقه بالنبي e وكم واحد تقع له هذه المشاهدة فيظنها مشاهدة فتح وإنما
هي مشاهدة فكر. وهذا القسم الذي يقع له هذه المشاهدة وهو غير مفتوح عليه إذا
قيس مع عامة المؤمنين كانوا بالنسبة إليه كالعدم ويكون إيمانهم بالنسبة إليه كلا
شيء والله أعلم.
قال ابن المبارك: ومما يؤكد هذه المشاهدة الفكرية وأنها تقع لغير المفتوح
عليه كونها تقع لمن كملت محبته في شخص، وإن كان غير النبي e ولقد أخبرني
بعض الجزارين أنه مات له ولد كان يحبه كثيرًا وأنه لم يزل شخصه في فكره حتى
أن عقله وجوارحه كلها معه فكان هذا دأبه ليلاً ونهارًا إلى أن خرج ذات يوم إلى
باب الفتوح أحد أبواب (فاس) حرسها الله تعالى لشراء الغنم على عادة الجزارين
فجال فكره في أمر ولده الميت فبينما هو يجول فكره إذ رآه عيانًا وهو قادم إليه
حتى وقف إلى جنبه. قال: فكلمته وقلت له: يا ولدي خذ هذه الشاة - لشاة اشتريتها
-حتى أشتري أخرى، وقد حصلت غيبة قليلة عن حسي فلما سمعني مَن كان قريبًا
أتكلم مع الولد قالوا: مع مَن تتكلم أنت؟ فلما كلموني رجعت إلى حسي وغاب الولد
عن بصري فلا يدري ما حصل في باطني من الوجد عليه إلا الله تبارك وتعالى اهـ.
وقلت بعد إيراد هذا في (الحكمة الشرعية) : وظاهر أن هذا الرجل قد
انطبعت صورة ولده في خياله ، ولشدة اشتغاله به وضعف شأن المحسوس الذي هو
آخذ به بالنسبة إليه غاب عن حسه وتلاشى تحت قوة سلطان خياله فتمثلت له صورة
ولده المطبوعة في خياله بشرًا سويًّا فحدثه وهْمُه بأنه يراه حقيقة فخاطبه بما خاطبه
به حتى إذا تنبه بتنبيه آخر لم يَرَ شيئًا. وهذه الرؤية من قبيل الأحلام المنامية.
وقد رأيت امرأة مخبولة تخاطب الأموات وتخبر عن حالهم عند ما يمرون في خيالها:
هذا فلان يقول كذا هذا فلان يقول كذا، وكثيرًا ما تكون الغيبة عن الحس للعشاق
باستحواذ الخيالات والأوهام عليهم حتى إن أحدهم لفرط شغفه واشتغال فكره
بمعشوقه يمثله له خياله فيتوهم أنه موجود أمامه حقيقة فيقابله بما يليق به من الآداب،
ويرفع إلى أعتاب جنابه ما شاء من العتاب وفي ذلك قال قائلهم:
يمثلك الشوق الشديد لناظري
…
فأطرق إجلالاً كأنك حاضر
ومنه الحكاية عن عاشقة تقول:
فليس نومًا خفض رأسي إنما
…
أسجد للطيف الذي قد سلّما
…
فإنني استزرته توهما
…
فزارني ورقّ لي ترحما
…
لما رأى في الجفن فعل السهدِ
وقال لي بالله ما أضناكي
…
قد كلّ عنك نظر الإدراكِ
…
نامي بجفني فاقصدي مناكي
…
كما تريه أنت أو يراكي
…
فليس لي بغير ذا من جهدِ
ومثل هذا في كلامهم كثير وفيه يقال: الجنون فنون، وكل حزب بما لديهم
فرحون!
(النتيجة)
إن ما نقل عن كثير من عباد المسلمين والنصارى وغيرهم من رؤية الأنبياء
والأولياء والرؤساء الروحيين صحيح فإن حال الأشخاص في الرائين والناقلين في
بعض الوقائع ليس فيها شائبة الكذب؛ ولكن هذا ليس من الخوارق الحقيقية ولا تلك
المشاهدات دليل على أن صاحبها على الحق وإنما هو تأثير الحب والشغف وكثرة
الفكر والتخيل في الشيء مع تأثير الوجدان به يضعف الحواس، ويقوي الوسواس،
فيغيب صاحبه عن حاله، ويحضر مع خياله. ومن الناس من كان يستعين على
إثارة رواكد الخيال بما يضعف الحواس والعقل من المخدرات كالحشيشة المعروفة
فقد كان أول من استعملها الباطنية والمتصوفة ولذلك كانت تسمى حشيشة الفقراء
كان شيوخهم يشغلون فكر المريد ببعض الأموات المعتقدين أو بالجنة مثلاً ويناولونه
شيئًا من الحشيشة فتخدر حواسه فيتجسم ما في خياله من الصورة التي كان وجَّهه
الشيخ إليها فتتمثل له في صورة بديعة وما كان المريدون يعلمون بأن لما تناولوه من
الحشيشة تأثيرًا فيما رأوه وإنما كانوا يعتقدون أنه تصرف روح الشيخ في عوالم
الملكوت وإدناء بعض ما فيها من عالم الملك.
وأنت ترى أن هذا الذي قلناه في تفسير رؤية الأرواح ومكالمتها مأخوذ من
كلام كبار الصوفية ولم نفتحره افتحارًا. وإنني أعترف بأن ما قاله الشيخ عبد
العزيز الدباغ فيه هو كرامة من كراماته المعنوية فإنه كان رجلاً أميًّا وفتح الله عليه
بالمعارف العالية وأكرمه بحل كثير من المشكلات الفلسفية كهذه المسألة والمشكلات
الدينية أيضًا على أنني لا أسلم بكل ما نقل عنه ولا أقول إنه معصوم أو محفوظ من
الخطأ. وما قاله في إيمان من يرى النبي e رؤية فكرية خيالية لا ينافي ما قلناه
آنفًا من كون هذه المشاهدات لا تدل على حقية اعتقاد صاحبها فصاحب الإيمان
الصحيح في الأصل تجعل إيمانه إيمانًا وجدانيًّا فيكون أقوى من إيمان غيره.
وكذلك صاحب الاعتقاد الباطل فهي تقوى في نفس صاحبها ما هو فيها حقًّا كان أو
باطلاً كما فعلت بإيمان الذين تمثلت لهم السيدة مريم عليها السلام وهم يعتقدون أنها
أم الله - تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا - فثبت بهذا أن هذا النوع ليس من الخوارق في
شيء.
ورأيت أن كلام الصوفية الذي حل الإشكال يشير أو يصرح بأن وراء هذه
المشاهدات الخيالية والمكالمات الوهمية شيئًا آخر أعلى منه وهو إدراك الأرواح
إدراكًا صحيحًا، والاستفادة منها استفادة حقيقية لم يكن يعلمها المرء من قبل وهذا
شيء لا يمكن أن يعرفه إلا مَن ذاقه وهو جائز، وإن لنا من الثقة بصدق بعض
المخبرين به أكثر مما لأهل هذا العصر من الثقة بأهل أوربا إذ يصدقونهم بكل
شيء غريب يقطعون بثبوته وإن لم يعرف دليلهم هؤلاء المصدقون.
وإذا ثبت هذا النوع لبعض الأولياء والأصفياء لاستعداد فيهم قوَّاه استعماله
وسمي كرامة لهم فلا ينبغي أن تعتقد أنه جاء مخالفًا للسنن الإلهية في الخلق ولا أن
تصدق أحدًا من الناس بخصوصه يدعيه؛ لأنه مما لا يمكن إثباته لغير من ذاقه ومن
ادعى ما لا يمكن إثباته فهو أحمق أو مجنون لا يبالَى به وهذا الذي قررناه حجاب
دون اغترار العامة ببعض الدجَّالين وهو غرضنا الأول من كل ما كتبناه في
الخوارق والكرامات.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اليهود والماسونية وحَدَثُ الوطنية
اليهود
لا يوجد شعب في الدنيا كشعب إسرائيل في تمسكه بالرابطة الملِّية، والعصبية
الجنسية، فهم يحبون ويحاولون أن يحولوا جميع منافع الشعوب الذين يعيشون
معهم إليهم. ولولا أنهم يعتقدون أن دينهم خاص بهم لا يجب عليهم الدعوة إليه
لحاولوا إرجاع جميع الأديان إليه بالهمة التي يحاولون بها تحويل قوى الشعوب كلها
إلى منفعة بني إسرائيل وكل هذا - لولا غلو فيه - من الفضائل التي يحمد صاحبها
عليها؛ ولكن الغلو في حب الذات كالتقصير فيه كلاهما من الأمور الضارة بصاحبها؛
لهذا نرى هذا الشعب مضطهَدًا من جميع الشعوب والأمم لا يتسع له صدر إلا
صدر المسلمين، ألم تَرَ أن الذين تطردهم الممالك وتخرجهم من أرضها لا يجدون في
الغالب ملجأً إلا بلاد الدولة العلية حتى بلاد فلسطين التي يطمعون أن يستقلوا بها
ويحدثوا فيها ملكًا جديدًا.
* * *
الماسونية
جمعية سياسية سرية تكونت في أوربا - خلافًا لما يزعمون من قدمها -
لمقاومة استبداد رؤساء الدنيا من الملوك والأمراء ورؤساء الدين من البابوات
والقسيسين الذين كانوا متضافرين على استعباد الناس وحرمانهم من نور العلم
والحرية، وقد اتفق على تكوينها اليهود والنصارى؛ ولذلك جعلوا
رموزها وإشاراتها منتزعة من الكتاب المشترك الذي يسمى الكتاب المقدس وأسندوها
إلى بناة الهيكل المقدس هيكل سليمان عليه السلام وهو المسجد الأقصى. وقد قامت
هذه الجمعية بعملها على أحسن وجه ولم يعد لها الآن عمل في تلك البلاد وإذ كان
منشئوها والمنشأة لهم من غير المسلمين كان فيها أمور متعددة تخالف الإسلام، وكان
الداخل فيها عرضة لمخالفة دينه إلا أن يكون عالمًا متمكنًا!
ثم إن الإفرنج عندما تغلغلوا في الشرق ورأوا مزاج السيادة الإسلامية لا يقبل
مشاركًا له في حكمه فهو يجيش انفعال جميع المسلمين لنبذ سلطة كل من يحاول
السيادة عليهم استعانوا بالماسونية على إضعاف هذا المزاج وتوسلوا إلى بعض
كبراء المسلمين وأغنيائهم بما توسلوا واستعانوا عليهم بنصارى بلادهم ويهودها
فأدخلوا طائفة منهم وبقي أكثر المسلمين إلى اليوم يعد الماسونية نزغة من نزغات
الكفر أو وسيلة إليه، إلا أن الشعب المصري سريع الانقياد إلى التقليد؛ ولذلك كثر
الداخلون في هذه الجمعية من أهله على أن أهلها يتنصلون من الأديان ويدعون عدم
التعرض لها بحال.
ولما هاجر السيد جمال الدين حكيم الشرق وموقظه إلى هذه البلاد رأى من
استبداد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق ما يزيد على ما كان في أوربا من الاستبداد
ورأى أن الجمعية الماسونية تجر هذه البلاد إلى أوربا بخيوط سياسية خفية؛ ولكنها
متينة قوية فهي كالخيوط التي يربط بها المشعوذ التماثيل التي يلعب بها وراء الستار
فيحسب الصبيان أنها هي التي تلعب بنفسها، وكذلك كانت مصر ألعوبة في أيدي
الأوربيين. فأراد السيد رحمه الله أن يربي فيها رجالاً يعرفون كيف يحفظون بلادهم
وأنفسهم فوجَّه همته إلى استخدام الماسونية في تعليم تلامذته ما لا يمكن التصريح به
إلا في جمعية سرية فدخل في الماسونية ودخل معه تلامذته النابغون فجعل بهم قوة
للمصريين وصار رئيس محفلهم، ولكنه كان غاليًا في مضادة الإنكليز لما كان من
زحفهم على بلاده ولما كان يعتقد من طمعهم في مصر وقد صرّح به كتابةً فقاوموه
حتى اضطروه إلى ترك الماسونية مع كبار حزبه ولم يكن للماسونية عمل في مصر
لمصر إلا في تلك المدة، ثم إن الماسونية صارت في مصر آلة لبعض زعمائها في
جلب المنافع ثم كثر فيها الغوغاء حتى قلّ احترامها وانطلقت الألسنة بالطعن فيها
وليس هذا مما يعنينا الآن.
* * *
حدث الوطنية
شاب يعرف قراء المنار أنه يلغط بالوطنية على غير هدى وإن له جريدة
أنشأها لتعظيم شخصه باسم الوطنية وللانتقام لشخصه بكل اسم. يمقت كل مَن ليس
مصري الأصل لأجل مصر، ويمقت من المصريين الأصلاء من ليس مسلمًا
لأجل المسلمين، ويمقت كل مصالح المسلمين لأجل شخصه فهو لنفسه علة
العلل. في كل قول له وعمل، وإليك هذا الشاهد العادل:
مفتي الديار المصرية مصري الموطن ويشغل في مصر أكبر الوظائف الدينية
ويرأس جمعية خيرية ليس لها ثانية لخدمة مسلمي مصر وهو في علوم الدين والدنيا
وفي كبر العقل وقوة الإرادة مفخر المسلمين ومفزعهم يرجعون إليه في الدفاع عن
دينهم وفي قضاء حوائجهم ويرون أكبر خدمة قام بها للإسلام تفسير القرآن الشريف
على طريقة روحية عمرانية تظهر أن القرآن الحكيم ينبوع السعادة الدينية والمدنية
في كل عصر.
ولكن هذا الرجل خلق من طينة الجد فهو لا يقيم وزنًا للأحداث المتنفجين
فينزلهم منزلة العدم، لا يحترمهم ولا يحتقرهم. وحدث الوطنية يحب أن يدهن له
كل عظيم فهو لا يحب مفتي الديار المصرية. وكان ينبغي أن يعامله بالمثل لا
يعظمه ولا يتطاول ويتسلق ويتعالى لغمط حقه فإذا لم يستطع صبرًا فلينتظر له هفوة
يتيسر له التلبيس بها على العامة بأنها تضر بالوطن الذي يدعي حبه أو الإسلام
الذي يتألف حزبه؛ ولكن من الناس من يبلغ من نفسه مبلغًا لا يصل أحد إليه إلا
بخذلان من الله! ! !
انظر الفرص التي ينتهز مثلها حدث الوطنية: كان مفتي الإسلام في جماعة
من (كبار الوطن العزيز) قد ركبوا مركبة مما أعدته الحكومة للمدعوين لحضور
احتفال خزان أسوان فحاول أحد الخَدَمة من الإفرنج إنزالهم منها ليركب فيها نساء
من قومه فانتهره المفتي فعاد خائبًا. ولما علم بذلك زعيم الوطنية بزعمه بادر إلى
إرسال رسالة برقية إلى جريدته جعل عنوانها (إهانة المفتي) وحكى القصة على
غير وجهها، فهذه هي الوطنية الحقة التي يتنفج بها يفتخر بأن خادمًا أجنبيًا أهان
أكبر رجال (الوطن المحبوب) وما أهانهم ولكنه يفتخر بما يفتجر ويفتحر.
وإن تعجب فاعجب مما قصصناه من فرصة هذا الوطني التي اغتنمها لخدمة
الوطن ما نقصّه الآن من فرصة هذا المسلم التي اغتنمها لخدمة الإسلام بل لتأييد
بعض ماسون اليهود في الاحتجاج على تفسير القرآن:
إن نبذة التفسير التي نشرناها في الجزء الثاني من منار هذه السنة هي مأخوذة
من الدرس الذي ألقاه المفتي في 6 ذي القعدة سنة 1317 أي منذ ثلاث سنين
وشهور وقد نقلتها عنا جريدة الرائد العثماني التي قامت تندد في هذه السنة بسيئات
اليهود حتى أنهم حاكموا صاحبها وحكم عليه بشدة علم بها أن الحكومة انتصرت لهم
وما كانوا مهضومين ولا مظلومين. توهم بعضهم أن مفتي الديار المصرية صاحب
النفوذين الديني والأدبي كتب الآن يساعد تلك الجريدة بقلمه المؤثر فوجلوا ووجموا
ولجأوا إلى جمعيتهم الماسونية وكتبوا بقلم الطيش والعجلة احتجاجًا باسم الماسونية
على مفتي الديار المصرية الذي يفسر القرآن العزيز في الأزهر باسم الله الرحمن
الرحيم وطلبوا إيقافه عند حده. وأرسلوا نسخًا من احتجاجهم إلى أمير البلاد وإلى
اللورد كرومر وإلى رئيس النظار وإلى جميع الجرائد اليومية فلم يحفل أحد
باحتجاج هذا المحفل إلا رئيس الماسونية العام في هذه الديار (عطوفتلو) إدريس
بك راغب فإنه كتب محتجًّا على الاحتجاج مبينًا للمحفل أنه خالف قانون الجمعية.
ولكن حدث الوطنية نشر صورة الاحتجاج في جريدته وقام ينتصر لعثرة
عثرها بعض يهود الماسون على مفتي الإسلام من حيث هو مفسر للقرآن وسوَّل
إليه غروره أن ذلك انتقام من المفتي فما كان إلا زيادة في إجلاله وتعظيمه حضر
رئيس ذلك المحفل الماسوني من الإسكندرية مخصوصًا لزيارة المفتي في الأزهر
والاعتذار له ثم كتب هذا الرئيس رسالة نشرها في الجرائد المشهورة في ذلك أثنى
فيها بما أثنى وزاره في الأزهر أيضًا الرئيس الأعظم للمحافل الإفريقية إدريس بك
راغب وكتب بعض أدباء اليهود في الجرائد يبين خطأ الاحتجاج ونشره وأثنى على
المفتي بما أثنى وكتبت الجرائد المعتبرة مقالات في ذلك بأقلام كتابها وأقلام غيرهم
من الفضلاء سفهوا فيها منشور الاحتجاج والجريدة التي نشرته وفي مقدمة هذه
الجرائد المؤيد والأهرام والمقطم والبيراميد ولولا أن كان جميع الكاتبين متفقين على
الاعتذار عن المحتجين بسوء الفهم والاعتراف بأن مفتي الديار المصرية لهذا العهد
هو روح الوفاق والوئام وداعية الاتحاد والالتئام وأنه لا يرضيه أن يهضم حق فرد
من الأفراد ولا طائفة من الطوائف لأن الشريعة التي هو أحد أئمتها - قضت بالعدل
والمساواة حتى كان خلفاؤها الراشدون يساوون آحاد اليهود بأكبر كبرائهم - لولا هذا
لأحدث ذلك المنشور ثورة فكرية قلمية على اليهود سيئة المغبة وكان إثم ذلك على
من كتب المنشور بسوء الفهم. ومن نشره بسوء القصد.
{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى} (الروم: 10) وأي شيء أسوأ ممن
أرضى نفسه وأغضب اليهود الذين انتصر لهم بما كاد يوقعهم فيه من الفتنة
وأغضب المسلمين؛ لأنه انتصر لليهود عليهم في أمر ديني محض، وأغضب الله
تعالى؛ لأنه انتصر لأفراد من اليهود على كتابه العزيز وأراد أن يساعدهم على
إيقاف من يبينه للناس عند حده وما هو إلا منعه من بيانه للناس ونقض ميثاق الله
الذي أخذه على العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) .
وههنا نكته لطيفة وهي أن اليهود قد كتبوا ما كتبوا معتزين بالحرية التي في
مصر الآن كما صرحوا بذلك في منشورهم، وحدث الوطنية يتبجح دائمًا بذم هذه
الحرية؛ لأن منبعها الاحتلال الإنكليزي فهل كانت هذه الحرية جديرة بالمقت والذم
من حيث رفعت أثقال الظلم عن كاهل الأمة المصرية وصارت جديرة بالرضى
والمدح من حيث يراد بها منع تفسير القرآن من الجامع الأزهر؟ ! كلا، إن تلك
الحرية ما كانت مذمومة عنده من جهة الأحكام إلا لأنه لم يقدر أن يكون فيها حاكمًا
وصارت ممدوحة عند الاستعانة بها على منع كتاب الله إلا لأن مفسره لا يدهن له
ولا يعتبره زعيمًا للوطن فثبت بهذا أن حدث الوطنية لا يخدم إلا شخصه مباشرة
واسم الوطنية والإسلام إنما يُذكران إذا صلحا للاستخدام!
فعلم مما تقدم أنه لم يكن من مصلحة اليهود أن يطرقوا هذا الباب - دعوى
تحامل المسلمين عليهم وكراهتهم لهم - لئلا يُفتح فيعجزوا عن إغلاقه هم والحرية
التي استنجدوا بها وهي العون عليهم ما لم يخالف أحد القانون في اعتدائه.
والمسلمون أقرب الناس إلى مسالمتهم بما يرشد إليه الإسلام والتاريخ شاهد عدل في
الماضي والحاضر؛ ولكن أهل هذه البلاد يؤثر فيهم القول والوهم فإذا صدقوا أن مفتي
الإسلام قد برى قلمه للنيل منهم يعتقدون أنهم خطر كبير على المسلمين أو
المصريين. ومن يقدر على إزالة اعتقاد العامة بعد رسوخه؟ قدر بعض الأحداث
على تحريك أضغان المصريين على السوريين بكلمات هذوا بها فكان من أثرها أن
الألوف من الناس يعتقدون أن السوري بلاء على مصر، على أن السوريين
موافقون لهم في اللغة والجنسية العثمانية ومنهم من هم على دينهم وليس لهم امتياز
يثقل عليهم كامتياز الأجانب. ثم إنهم أقل الشعوب التي هاجرت إلى هذه البلاد كسبًا
فاليهود والأرمن واليونان وجميع الشعوب الأوربية تفوقهم ثروة ومن هؤلاء من
أفسدوا البلاد بالخمور ولا ترى مع هذا جريدة مصرية تذكر أحدًا منهم بما تذكر به
السوريين مما لا يرضي. والسوريون هم الذين خدموا العلم والأدب خدمة لم يدركهم
بها المصريون إلى الآن، نعم، إن فيهم بعض السفهاء وفاسدي الآداب والجنسية.
وأي شعب ليس منه الصالح والطالح والمصلح والمفسد؟ ! فإذا كان أولئك الأحداث قد
أثروا هذا التأثير بمعونة الاستعداد للشر فما بالك بهذا الإمام الكبير؟ !
كان من حظ اليهود أنهم طرقوا الباب فلم يفتح؛ لأن المفتي وجميع ما يتصل
به من حملة الأقلام لا يحبون فتحه ولو فتح لما أغنت عن اليهود الماسونية شيئًا،
أما كون الماسونية خرجت في هذه المسألة عن حدها فلا نزاع فيه بعدما علمنا من
احتجاج أستاذها الأعظم على كاتبي المنشور. وكل مخطئ قد رجع عن خطئه إلا
حدث الوطنية فعلم أنه هو الذي كان سيء القصد دون اليهود وغيرهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
باب العقائد من الأمالي الدينية
(الدرس 37)
آية الله الكبرى (القرآن)
نبدأ هذا البحث الجليل بما كتبه القاضي عياض في الشفاء من وجوه الإعجاز
وبعد ذلك نذكر ما هو أقوى منها أو أوضح، قال رحمه الله تعالى:
(فصل في إعجاز القرآن)
اعلم - وفقنا الله وإياك - أن كتاب الله العزيز منطوٍ على وجوه من الإعجاز
كثيرة، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه:
م 105: (أولها) حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته
الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام، قد
خُصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم. وأوتوا من ذرابة
اللسان ما لم يؤت إنسان. ومن فصل الخطاب ما يفيد الألباب، جعل الله لهم ذلك
طبعًا وخلقة وفيهم (غريزة) وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى
كل سبب. فيخطبون بديهًا في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن
والضرب، ويمدحون ويقدحون ويتوسلون ويتوصلون ويرفعون ويضعون، فيأتون
من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سَمْط اللآل. فيخدعون
الألباب، ويذللون الصعاب. ويذهبون الإحن ويهيجون الدمن. ويجرّئون الجبان
ويبسطون يد الجعد البنان ويصيرون الناقص كاملاً. ويتركون النبيه خاملاً. منهم
البدوى ذو اللفظ الجزل والقول الفصل والكلام الفخم، والطبع الجوهري والمنزع
القوى ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة والألفاظ الناصعة والكلمات الجامعة،
والطبع السهل. والتصرف في القول القليل الكلفة الكثير الرونق الرقيق الحاشية.
وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة. والقوة الدامغة والقدح الفالج والمهيع
الناهج، لا يشكُّون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم. قد حووا فنونها.
واستنبطوا عيونها. ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحًا لبلوغ أسبابها.
فقالوا في الخطير والمهين. وتفننوا في الغث والسمين، وتقاولوا في القل والكثر.
وتساجلوا في النظم والنثر. فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) ، أُحكمت آياته
وفصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول. وظهرت فصاحته على كل مقول.
وتضافر إيجازه وإعجازه وتظاهرت حقيقته ومجازه. وتبارت في الحسن مطالعه
ومقاطعه وحَوَت كل البيان جوامعه وبدائعه. واعتدل مع إيجازه حسن نظمه
وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه. وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالاً
وأشهر في الخطابة رجالاً وأكثر في السجع والشعر سجالاً، وأوسع في الغريب
واللغة مقالاً، بلُغتهم التي بها يتحاورون ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخًا
بهم في كل حين، ومُقرعًا لهم بضعًا وعشرين عامًا على رؤوس الملأ أجمعين
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} (يونس: 38) ، {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِّن مِّثْلِه
…
} (البقرة: 23) إلى قوله: {.. وَلَن تَفْعَلُوا
…
} (البقرة: 24) ،
و {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ
…
} (الإسراء:
88) الآية [1] و {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (هود: 13) ، وذلك أن
المفترَى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب. واللفظ إذا تبع المعنى
الصحيح كان أصعب، ولهذا قيل: فلان يكتب كما يقال له وفلان يكتب كما يريد
وللأول على الثاني فضل وبينهما شأوٌ بعيد.
فلم يزل يقرعهم صلى الله عليه وسلم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ
ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم ويشتت نظامهم ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح
أرضهم وديارهم وأموالهم [2] وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون
عن مماثلته ويخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء وقولهم:
{
…
إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر: 24)، و {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر:
2) ، و {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} (الفرقان: 4) ، و {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأنعام: 25)
والمباهتة والرضا بالدنيئة، كقولهم:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: 88) ، و [3] {فِي
أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت: 5) ،
و {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ، والادعاء مع
العجز بقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (الأنفال: 31)، وقد قال لهم الله:
{
…
وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) فما فعلوا ولا قدروا. ومن تعاطى ذلك
من سُخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم،
وإلا فلم يخفَ على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم
بل ولوا عنه مدبرين وأتوا مذعنين من بين مهتدٍ وبين مفتون؛ ولهذا لما سمع الوليد
ابن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
…
} (النحل: 90) الآية قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق،
وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر. وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلاً يقرأ:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) ؛ فسجد، وقال: سجدت لفصاحته، وسمع
آخر رجلاً يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًا} (يوسف: 80) ؛ فقال:
(أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام) وحكي أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كان يومًا نائمًا في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه، يتشهد شهادة الحق،
فاستخبره فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها، وأنه سمع
رجلاً من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم، فتأملتها، فإذا قد جُمع فيها ما
أُنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهي قوله: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} (النور: 52) الآية، وحكى الأصمعي أنه سمع كلام
جارية، فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك! فقالت: أوَ يُعد هذا فصاحة بعد قول الله
تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية [4] ، فجمع
في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق
والصحيح من القولين، وكون القرآن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أتى به
معلوم ضرورة وكونه صلى الله عليه وسلم متحديًا به معلوم ضرورة وعجز العرب
عن الإتيان به معلوم ضرورة وكونه في فصاحته خارقًا للعادة معلوم ضرورة للعالمين
بالفصاحة ووجوه البلاغة.
وسبيل من ليس في أهلها علم ذلك بعجز المنكرين من أهلها عند
معارضته واعتراف المفترين بإعجاز بلاغته. وأنت إذا تأملت قوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179)، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا
فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (سبأ: 51)، وقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34)، وقوله: {وَقِيلَ يَا
أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (هود: 44) الآية، وقوله: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ
فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً000} (العنكبوت: 40) الآية وأشباهها من الآي،
بل أكثر القرآن حققت ما بينه في إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عبارتها
وحسن تأليف حروفها وتلاؤم كَلِمها وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة وفصولاً جمة
وعلومًا زواخر مُلئت الدواوين من بعض ما استفيد منها وكثرت المقالات في
المستنبطات عنها.
ثم هو في سرد القصص الطوال وأخبار القرون السوالف التي يضعف في
عادة الفصحاء عندها الكلام ويذهب ماء البيان - آية لمتأمله من ربط الكلام بعضه
ببعض والتئام سرده وتناصف وجوهه كقصة يوسف على طولها. ثم إذا ترددت
قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تُنسي في
البيان صاحبتها وتناصف في الحسن وجه مقابلها، ولا نفور للنفوس في ترديدها،
ولا معادة لمعادها.
* * *
فصل
م 106 (الوجه الثاني من إعجازه) صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب
المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليها ووقفت مقاطع
آيه وانتهت فواصل كلماته إليه. ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد
مماثلة شيء منه بل حارت فيه عقولهم، وتدلهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله
في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر. ولما سمع كلامه صلى الله
عليه وسلم الوليد بن المغيرة وقرأ عليه القرآن رق فجاءه أبو جهل منكرًا عليه قال:
والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا. وفي خبره
الآخر حين جمع قريشًا عند حضور المواسم وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه
رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا. فقالوا: (نقول كاهن) قال: والله ما هو بكاهن ما هو
بزمزمته ولا سجعه. قالوا: (مجنون) قال: وما هو بمجنون ولا بخنقه ولا
وسوسته. قالوا: (فنقول شاعر) قال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه
وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر. قالوا: (فنقول: ساحر)
قال: وما هو بساحر ولا نفثه ولا عُقده. قالوا: (فما نقول؟) قال: وما أنتم بقائلين
في هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل وإن أقرب القول أنه ساحر فإنه سحرٌ
يفرق به بين المرء وابنه [5] والمرء وأخيه والمرء وزوجه والمرء وعشيرته.
فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس فأنزل الله تعالى في الوليد: {ذَرْنِي
وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً 000} (المدثر: 11) الآيات.
وقال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن: (يا قومي قد علمتم أني لم أترك
شيئًا إلا وقد علمته وقرأته والله لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ما هو
بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة) وقال النضر بن الحرث نحوه. وفي حديث إسلام
أبي ذر ووصف أخاه أنيسًا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس لقد ناقض
اثني عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم، وأنه انطلق إلى مكة وجاء إلى أبي ذر
بخبر النبي صلى الله عليه وسلم قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن
ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم
على لسان أحد بعدى [6] أنه شعر وإنه لصادق وإنهم لكاذبون.
والأخبار في هذا صحيحة وكثيرة والإعجاز بكل واحد من النوعين الإيجاز
والبلاغة بذاتهما والأسلوب الغريب بذاته كل واحد منهما نوع إعجاز على التحقيق
لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرتها مباين
لفصاحتها وكلامها وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين. وذهب بعض
المقتدى بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب وأتى على ذلك بقول
تمجه الأسماع. وتنفر منه القلوب. والصحيح ما قدمناه والعلم بهذا كله ضرورة
وقطعًا. ومن تفنن في علوم البلاغة وأرهف خاطره ولسانه أدب هذه الصناعة لم
يخْفَ عليه ما قلناه.
وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه فأكثرهم يقول: إنه ما جمع
في قوة جزالته ونصاعة ألفاظه وحسن نظمه وإيجازه وبديع تأليفه وأسلوبه لا يصح
أن يكون في مقدور البشر، وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها
كإحياء الموتى وقلب العصا وتسبيح الحصا، وذهب الشيخ أبو الحسن إلى أنه مما
يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ويقدرهم الله عليه، ولكنه لم يكن هذا ولا
يكون، فمنعهم الله هذا وعجزهم عنه. وقال به جماعة من أصحابه. وعلى الطريقين
فعجز العرب عنه ثابت، وإقامة الحجة عليهم بما يصح أن يكون في مقدور البشر
وتحديهم بأن يأتوا بمثله قاطع، وهو أبلغ في التعجيز وأحرى بالتقريع، والاحتجاج
بمجيء بشر مثلهم بشيء ليس من قدرة البشر لازم، وهو أبهر آية وأقمع دلالة.
وعلى كل حال فما أتوا في ذلك بمقال بل صبروا على الجلاء والقتل وتجرعوا
كاسات الصغار والذل. وكانوا من شموخ الأنف وإباء الضيم بحيث لا يؤثرون
ذلك اختيارًا ولا يرضونه إلا اضطرارًا. وإلا فالمعارضة لو كانت من قدرهم والشغل
بها أهون عليهم وأسرع بالنجح وقطع العذر وإفحام الخصم لديهم وهم ممن لهم قدرة
على الكلام وقدوة في المعرفة به لجميع الأنام وما منهم إلا من جهد جهده واستنفد ما
عنده في إخفاء ظهوره وإطفاء نوره، فما جلوا في ذلك خبيئة من بنات شفاههم ولا
أتوا بنطفة من معين مياههم مع طول الأمد وكثرة العدد وتظاهر الوالد وما ولد، بل
أبلسوا فما نبسوا ومنعوا فانقطعوا، فهذان النوعان من إعجازه.
* * *
فصل
م 107 (الوجه الثالث من الإعجاز) ما انطوى عليه من الأخبار المغيبات
وما لم يكن ولم يقع فوجد كما ورد وعلى الوجه الذي أخبر كقوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ
المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الفتح: 27)، وقوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (الروم: 3) وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33)
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55)، الآية. وقوله:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر: 1)
…
إلى آخرها، فكان جميع هذا كما قال، فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل
الناس في الإسلام أفواجًا، فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها
موضع لم يدخله الإسلام واستخلف المؤمنين في الأرض ومكن فيها دينهم وملّكهم
إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب كما قال صلى الله عليه وسلم:
(زُويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي
منها) .
وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فكان
كذلك، لا يكاد يعد من سعى في تغييره وتبديل محكمه من الملحدة والمعطلة، لا سيّما
القرامطة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم إلى اليوم نيفًا على خمس مئة عام فما
قدروا على إطفاء شئ من نوره ولا تغيير كلمة من كلامه، ولا تشكيك المسلمين في
حرف من حروفه والحمد لله.
ومنه قوله: {سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45)، وقوله:
{قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة: 14) الآية. وقوله: {هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} (التوبة: 33) الآية، {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَاّ أَذًى وَإِن
يُقَاتِلُوكُمْ..} (آل عمران: 111) الآية فكان كل ذلك.
وما فيه من كشف أسرار المنافقين واليهود ومقالهم وكذبهم في حلفهم وتقريعهم
بذلك، كقوله:{وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة: 8) ،
وقوله {يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ} (آل عمران: 154) ، الآية.
وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} (المائدة: 41) الآية وقوله: {مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
وَرَاعِنَا لَيًًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} (النساء: 46) ، وقد قال مبديًا ما قدَّره
الله واعتقده المؤمنون يوم بدر: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال: 7)، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ
المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95) ، ولما نزلت بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
أصحابه بأن الله كفاه إياهم، وكان المستهزؤن نفرًا بمكة ينفرون الناس عنه ويؤذونه
فهلكوا. وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) فكان كذلك على كثرة
من رام ضره وقصد قتله، والأخبار بذلك معروفة صحيحة.
* * *
فصل
م 108 (الوجه الرابع) : ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة
والشرائع الداثرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب
الذي قطع عمره في تعلُّم ذلك، فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه ويأتي به
على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه. وأن مثله لم ينله بتعليم وقد علموا
أنه صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا اشتغل بمدارسة ولا مثافنة ولم يغب
عنهم. ولا جهل حاله أحد منهم، وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه صلى الله عليه
وسلم عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرًا كقصص الأنبياء مع
قومهم وخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان
وابنه وأشباه ذلك من الأنباء، وبدء الخلق وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف
إبراهيم وموسى مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل
أذعنوا لذلك، فمن موفق آمن بما سبق له من خير ومن شقي معاند حاسد. ومع هذا
لم يحكَ عن واحد من النصارى واليهود على شدة عداوتهم له وحرصهم على
تكذيبه وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم، وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم،
وكثرة سؤالهم له صلى الله عليه وسلم وتعنيهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم،
ومستودعات سيرهم، وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم، ومضمنات كتبهم مثل سؤالهم
عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف وعيسى وحكم الرجم وما حرم إسرائيل
على نفسه وما حُرم عليهم من الأنعام ومن طيبات كانت أُحلت لهم، فحُرمت عليهم
ببغيهم، وقوله:{مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ} (الفتح: 29) وغير ذلك
من أمورهم التي نزل فيها القرآن، فأجابهم وعرفهم بما أوحي إليه من ذلك أنه أنكر
ذلك أو كذبه، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته وصدق مقالته، واعترف بعناده وحسده
إياه، كأهل نجران وابن صوريا وابني أخطب وغيرهم. ومن باهت في ذلك
بعض المباهتة، وادعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفة دُعي إلى إقامة
حجته، وكشف دعوته، فقيل له:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران: 93) - إلى قوله: (الظالمون) ، فقرّع ووبخ، ودعا إلى إحضار
ممكن غير ممتنع، فمن معترف بما جحده، ومتواقح يلقي على فضيحته من كتابة
يده، ولم يؤثر أن واحدًا منهم أظهر بخلاف قوله من كتبه، ولا أبدى صحيحًا ولا
سقيمًا من صحفه، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة: 15)(الآيتين) .
(المنار)
بقي لقول القاضي في شفائه بقية تُذكر في الدرس التالي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
تتمَّتها: [لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا](الإسراء: 88) .
(2)
أي يفعل ذلك بهم بعد ما فعلوا أشد منه به وبمن تبعه، من القتل والنفي والتمثيل، حتى إنه لم يبدأهم بعدوان وإنما كان مدافعًا، حتى أظفره الله تعالى.
(3)
أي: [وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ](فصلت: 5) .
(4)
تتمتها: [فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ](القصص: 7) .
(5)
في نسخة: (وأبيه) .
(6)
لعل الصواب: (يدَّعي) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
باب
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
طعنهم في القرآن العزيز
قل للذين لا يرون الجذوع في عيونهم ويعيبون الكحل (بالتحريك) في عيون
الناس: إذا كان كتاب دينكم لم يُكتب في عهد نبيكم، وإذا كان الذين كتبوا تاريخه من
بعده بأزمنة مختلفة يروون عنه روايات مختلفة لا سند لها بالمرة، وإذا كانت
مجامعكم قد تحكمت بذلك المكتوب بأهوائها وأهواء الرؤساء السياسيين، فحذفت ما
شاءت وشاؤوا وأبقت ما شاءت وشاؤوا ونقحت ما شاءت وشاؤوا، وأنتم تقبلون ذلك
وتعدُّونه أصلاً للدين! فما بالكم لا تخجلون من الكلام في كتاب لم يوجد في العالم
إلى اليوم كتاب مثله، نُقل عن صاحبه بالتواتر الصحيح حفظًا وكتابةً وروايةً ودرايةً
وأداءً، وهو القرآن العزيز: {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .
نرى العالم الشهير والفيلسوف الكبير يؤلف كتابًا في عاصمة من عواصم
أوربا، فتطبع منه مئات الألوف من النسخ ويثق الناس بإسناده إلى صاحبه، وإنما
يكون صاحبه أعطاه إلى صاحب مطبعة أو ملتزم طبع في خلوته، فأخذه وطبعه،
فيكون رواية واحد عن المؤلف، وقد كان الصحابة لا يقبلون رواية الواحد عن
النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من القرآن، وإن كان في نواصيهم علمًا وعدالة
وحفظًا ودراية، وبعد هذا كله تتكلمون في نقل القرآن وجمعه ولا تخجلون من
أنفسكم ولا من الناس. ولا تعلمون أن هذا يزيد المؤمنين إيمانًا بكتابهم، وبحثًا عن
كتابكم، وهذه هي الفضيحة الكبرى!
نشرت مجلة (البروتستنت) المصرية في الجزء الرابع من المجلد الثالث -
نبذة في الطعن بالقرآن نقلتها عن كتاب لهم يقال أن للشيخ إبراهيم اليازجي يدًا في
تصحيحه أو تأليفه أو ترجمته والزيادة فيه، وهو عندهم أقوى طعن في الإسلام على
ما فيه من الكذب والسخافة والتحريف. وإننا نستقصي شبهاته ونبين بطلانها.
قال الكاتب: زعم أهل السنة والجماعة - متابعة لنبيهم - أن القرآن كلام
الله نفسه لفظًا ومعنى وأنه معجز في الفصاحة والبلاغة، إلا أن ذلك باطل
ولنا على بطلانه أدلة متعددة، ثم طفق يسرد تلك الأدلة، وإننا نذكرها ونجيب
عنها بالاختصار اكتفاءً بما نكتبه في دروس الأمالي. وقد بدأ بالطعن في
طريقة كتابته وجمعه، فذكر أمورًا نأتي عليها واحدًا واحدًا، فنقول:
اعلم أولاً أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يُلقِي ما ينزل عليه من
الوحي إلى المؤمنين، فيحفظه الجم الغفير من الرجال والنساء، ويأمر بكتابته،
فيكتبه الكاتبون. وقد حفظ القرآن كله جماعة من الصحابة وقرءوه على النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، إلا أنهم لم يجمعوه في مصحف واحد إلا على عهد أبي بكر
رضي الله تعالى عنه؛ وذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه أشار على أبي بكر
بجمْعه في مصحف يأخذ عنه الناس، لما خشي أن يستحرّ القتل بالقراء في قتال
الردة فيقل عدد من يلقن الناس القرآن، فجمعوا ما كان كتبه الكاتبون وهم يعرفونه؛
لئلا يقع شيء من الغلط باستقلال فرد أو أفراد منهم بإملائه. وكانوا يعرفون ما
يوجد عند كل واحد من أولئك الكاتبين حتى الآية والآيتين من السورة، يقولون إن
آية كذا عند فلان فاطلبوها منه، فيطلبونها وإن كانوا حافظين لها؛ زيادة في التثبت
ومنعًا لما عساه يحدث بعدُ من إبراز منافق آية أو سورة فيها زيادة أو نقص يشكك
به الناس، ومع هذا كله كانوا يطالبون مَن يأتي بشيء منه بالشهود؛ يشهدون أنه
كتبه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد في كل هذا الذي ذكرناه
روايات مسندة، ربما نذكرها مَعْزُوَّة إلى مخرجيها بعد.
إذا علمت هذا فاسمع ما قاله ذلك الكاتب النصراني في الاستدلال على طعنه
بجمع القرآن وحفظه:
(الدليل الأول) : حديث: (رحم الله فلانًا؛ لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت
أسقطتهن) ، ويُروى (أُنسِيتهن) . عزاه إلى (الشفاء) ، وهو فيه غير مسنَد ولا
مخرَّج.
والذي أعرفه أن هذا الإسقاط أو النسيان كان في الصلاة، وربما تعدد، وهو
أنه كان يقرأ سورة فلا يتمها فيسأله بعض الصحابة عن ذلك فيقول نحوه. وقد
يكون الإسقاط عمدًا؛ إذ ليس بواجب على مَن بدأ بسورة في الصلاة أو غير الصلاة
أن يتمها، فإذا ترك من السورة آية أو آيات عمدًا للاختصار، أو لاختبار حفظ
السامعين، أو نسيانًا لمثل هذه الحكمة، أو لما يعرض للبشر عادة، فأي حرج في
ذلك وتلك الآيات قد بُلِّغت وحُفظت في الصدور والسطور؟ وأي دليل في ذلك على
ترك شيء من القرآن الذي بلغه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحفظه عنه
الجماهير في الصدور والمصاحف؟
نعم، إن نسيان التبليغ غير جائز على الأنبياء عليهم السلام، ولكن مثل هذا
النسيان الذي يعرض أحيانًا لما هو محفوظ ومقرر - لا يخل بالتبليغ، وقد أطال
القاضي في (الشفاء) القول في تقرير عصمة الأنبياء من النسيان في التبليغ وفي
حفظ القرآن وعدم ضياع كلمة أو حرف منه، ولكن طلاب الباطل يعمون عن الحق،
ويأخذون بأقل شبهة على تقرير باطلهم.
(الدليل الثاني) قال: (وكذلك ثبت أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما
رأوا المصلحة في حذفه) ، وعزا هذا إلى مقدمة الشاطبية.
والشاطبية قصيدة في القراءات ليس فيها شيء من هذا البهتان. ومَن علم أن
أفسق المسلمين لا يتجرأ على حذف حرف من القرآن لاعتقاده أن متعمد ذلك يخرج
من الدين، ويعد من شرار الكافرين - يتيسر له أن يعرف مكان هذه الفِرْية.
روى مسدّد عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (أي سماء
تُظلُّنِي وأي أرضي تُقلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أسمع) ، وروى نحوه البيهقي
عنه، ورُوي مثل ذلك عن علي كرَّم الله وجهه. ونحن نعلم من التاريخ أنه لم
يُعرف في الناس أشد إيمانًا من الصحابة لا سيما السابقين الأولين، فهؤلاء أصحاب
موسى لم تُغْنِ عنهم مشاهدة آياته عن الميل إلى الوثنية، وإعناته في قبول الشريعة
السماوية، حتى إنهم اتخذوا العجل بأيديهم وعبدوه وهو حي يناجي الله تعالى.
وهؤلاء أصحاب عيسى عليه السلام تشهد عليهم أناجيلهم بأنهم خانوه في وقت
الضيق، حتى إنه طرد أكبرهم وأفضلهم وسمّاه شيطانًا. وأما أصحاب محمد عليه
السلام فقد عرَّضوا أنفسهم للقتل، ورضوا بالنفي والذل. ولم يزحزحهم ذلك شبرًا
عنه، فكيف يصدق مع هذا قول كافر بدينهم يجيء في آخر الزمان، ويدعي أنهم
حذفوا ما شاءوا من القرآن، ولا بينة له ولا برهان؟ !
ولقد نعلم أن الذي ذكَّره بأن يفتري هذه الفرية - هو ما رواه الكثيرون من أن
الصحابة قد تحاموا أن يكتبوا في المصاحف ما ليس قرآنًا كأسماء السور وكلمة
(آمين) في آخر الفاتحة، وكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في أولها،
وكالتفسير المأثور عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، روى ابن أبي شيبة
عن عامر الشعبي، قال: كتب رجل مصحفًا وكتب عند كل آية تفسيرها، فدعا به
عمر، فقرضه بالمقراضين. وإنما فعلوا هذا خشية أن يشتبه بعض التفسير بالقرآن
على بعض الناس، وقد كان هذا التشديد سببًا في قلة ما رُوي صحيحًا من التفسير.
فهذا معنى حذفهم ما رأوا المصلحة في حذفه من القرآن، إن صح أن أحدًا عبر بمثل
هذا التعبير.
وقد نقل الكاتب عن عبد المسيح الكندي أن عليًا عليه السلام حذف من
القرآن آية المتعة وكان يضرب مَن يقرؤها، وأن عائشة رضي الله عنها كانت
تشنع عليه بها وقالت: إنه بدَّل القرآن وحرَّفه. وأن منه ما كان يرويه أُبيّ بن كعب
وهو قوله: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك..... إلخ الوتر) .
ونقول: إن عبد المسيح لم يتقن الأكذوبة الأولى، ولم يقدر على تمويهها،
كما موَّه غيرها من أباطيله؛ فإن أتباع علي وآل بيته (الشيعة) هم الذين يقولون
بالمتعة دون سائر المسلمين، ولو كان علي هو المشدد في منعها وعائشة هي المثبتة
لها لما كانوا إلا أبعد الناس عنها، وإن الآية التي يستدلون بها على المتعة هي قوله
تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: 24) ، وهي
لم تُحذف، ولكن يُروى أن أُبيًّا كان يزيد فيها: (
…
إلى أجل مسمى) ولم يثبت
هذا بالتواتر، فعُدَّ من قبيل التفسير، وهو مثبَت في كتب التفسير والحديث لم يسقط،
ولو تواتر لأُثبت في المصحف، وكان نصًّا في المسألة. وأما صيغة القنوت التي
أولُها: (اللهم إنا نستعينك
…
) فقد روي عن أبيٍّ أنه كان يعدها قرآنًا، وكأن هذا
جاءه من قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لها في الصلاة، ولكن سائر
الصحابة علموا منه عليه السلام أنها ليست بقرآن، وهي لم تسقط ولم تحذف، بل هي
موجودة يحفظها الصبيان، ويقرؤها في الصلاة الملايين من الناس.
(الدليل الثالث) قال: (إن كثيرًا من آيات القرآن لم يكن لها من قيد
سوى تحفظ الصحابة لها، وكان بعضهم قد قُتلوا في مغازي محمد وحروب خلفائه
الأولين وذهب معهم ما كانوا يتحفظونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت
بجمعه؛ فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يتحفظه الأحياء) .
ونقول: إن هذه دعوى باطلة، أقامها مقام الدليل على دعوى أخرى وهي
متهافتة بنفسها كأنها من كلام الصبيان؛ فإن خلفاء محمد عليه الصلاة والسلام هم
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والأول منهم هو الذي جمع في أول خلافته القرآن
في مصحف واحد، وكان مكتوبًا كله في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم،
ومحفوظًا لكثيرين ممن قُتلوا في يوم اليمامة، وممن كانوا في المدينة وفي غيرها
من البلاد، ولم يخرجوا إلى تلك الحرب. روى ابن أبي شيبة عن محمد بن كعب
القرظي قال: (جمع القرآن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة نفر
من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء
وأبو أيوب) وروى ابن سعد ويعقوب بن سفيان والطبراني والحاكم عن الشعبي
مرسلاً أن ممن جمعه من الأنصار أيضًا زيد بن ثابت وسعيد بن عبيد وأبو زيد،
وأكثر هؤلاء قد عاشوا بعده، وبعد جمع أبي بكر وكتابة عثمان زمنًا طويلاً. وقد
وجه عمر ثلاثة منهم إلى بلاد الشام، يعلّمون الناس القرآن، كما سنفصله بعد،
وروى هؤلاء أيضًا أن مجمع بن جارية كان قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثًا. وإنما
يعنون بالجمع الجمع بالكتابة، وأما الحفظ فأهله كثيرون جدًّا، وإنما قالوا إن أبا
بكر جمعه، يعنون بين اللوحين، وقد كان جمع مَن ذكرنا من الأنصار، ومن لم
نذكر من المهاجرين في صحف منشرة. وقد روى ابن الأنباري في (المصاحف) من
عدة طرق أن الذين قتلوا من قراء القرآن يوم اليمامة أربعمائة رجل، فهل يجد
النصارى عندهم رواية عن واحد فقط حفظ إنجيل المسيح كله أو أكثره أو ما هو
دون ذلك؟ !
(الدليل الرابع) : قال: (أما ما كان مكتوبًا منه على العظام وغيرها فإنه
كان مكتوبًا بلا نظام ولا ضبط، وقد ضاع بعضها، وهذا ما حدا بالعلماء إلى الزعم
بأن فيه آيات قد نُسخت حرفًا لا حكمًا، وهو من غريب المزاعم) .
ونقول: إن هذه دعوى مفتراة أيضًا وقد عُلم كذبها مما تقدم. ويا ليت شعري
هل اطَّلع هذا النصراني على تلك العظام وغيرها، فرآها بغير نظام؟ ! وهل كان
عدَّها في أيدي كتاب الوحي في زمنه، ثم عدها في زمن أبي بكر فوجدها قد
نقصت؟ وهل يفقه أن ضياع بعضها لا يضر مع تعدد الكاتبين والحافظين؟ إلا إذا
ثبت أن سورة أو آية بخصوصها قد أضاعها كل مَن كتبها ومن حفظها؟ وأنَّى يثبت
هذا؟
رُوي بأسانيد صحيحة أن المكتوب وافق المحفوظ، ولم يفقدوا منه شيئًا إلا آية
آخر التوبة وجدوها مكتوبة عند واحد فقط، على أنها كانت محفوظة مقروءة في
الصلاة، وأما النَّسْخ الذي قاله فقد أنكره قوم، ومَن أثبته لم يعلله بما ذكر.
(الدليل الخامس) قال: (ولما قام الحجاج بنصرة بني أمية لم يُبقِ
مصحفًا إلا جمعه، وأسقط منه أشياء كثيرة كانت قد نزلت فيهم، وزاد فيه أشياء
ليست منه، وكتب ستة مصاحف جديدة بتأليف ما أراده، ووجه بها إلى مصر
والشام ومكة والمدينة والبصرة والكوفة، وهي القرآن المتداول اليوم) ، ثم زعم
أنه أتلف سائر المصاحف تزلُّفًا إلى بني أمية؛ حتى لا يبقي في القرآن ما يسوءهم!
ونقول: إننا نتخذ مثل هذا الكذب فرصة لتعليم الناس ما كان من عناية هذه
الأمة بحفظ كتابها، ولولا ذلك لكان من اللغو الكلام مع مَن لا يستحي من الكذب.
إن الحجاج لم يكن حاكمًا عامًّا له سلطان على جميع البلاد الإسلامية، فيحاول جمع
القرآن منها وتبديله، على حين يعتقد أهلها أن التصرف بحرف واحد منه كفر
صريح، ولو فرضنا أنه كان حاكمًا عامًّا، فهل كان يستطيع أن يجمع المصاحف
التي لا عدد لها ولا يمكن أن يعرف مواضعها؟ ولو فرضنا أنه قدر، فهل يقدر
على محوه من الصدور، كما يمحوه من السطور؟ لقد حفظ القرآن الألوف،
وانتشروا في الأرض قبل ملك بني أمية، فلماذا لم يوجد إلى اليوم حافظ يخالف
حافظًا في هذا المصحف المروي بالتواتر من كل وجه كما قدمنا. حفظه أولئك
الألوف بباعث الإيمان واليقين، ورغبة في الأجر الذي كتبه الله تعالى لحَفَظَة
القرآن وحَمَلته، كما ورد في الأحاديث الصحيحة. ثم إن الخلفاء كانوا فوق هذا
يرغِّبون الناس في الحفظ. روى أبو عبيد عن سعد بن إبراهيم أن عمر كتب إلى
بعض عماله أن أعطِ الناس على تعلم القرآن، فكتب إليه: إنك كتبتَ أن أعطِ الناس
على تعلم القرآن، فتعلمه مَن ليست له رغبة إلا رغبة الجند، فكتب إليه: أن أعطِ
الناس على المودة والصحابة. وروى البيهقي عن علي قال: مَن وُلد في الإسلام،
فقرأ القرآن، فله في بيت المال في كل سنة مائتا دينار، إن أخذها في الدنيا وإلا
أخذها في الآخرة، وروى أيضًا عن سالم بن أبي الجعد أن عليًا فرض لمَن قرأ
القرآن ألفين ألفين، أرأيت هذا الترغيب في الأجر الدنيوي فوق الأجر عند الله
تعالى، هل يبقي معه أحد لا يحفظ القرآن إلا القليل النادر؟ !
وكتب عمر إلى عامله في بعض البلاد يسأله عن عدد مَن يحفظ القرآن عنده،
فأجاب أنهم ثلثمائة، وقد نسيت اسم البلد، وأراني لم أنسَ العدد. فإذا كان العاقل
يتصور أن يقع - مع هذه العناية التي أشرنا إليها - تحريف أو تصحيف أو نقص
أو زيادة، فبأي كتاب أو بأي شئ يمكن أن يثق؟ ! مثل هذه العناية لم تتفق ولن
تتفق.
(الدليل السادس) أو الفِرية السادسة - وهي كالثانية - قوله: (إن
الخلفاء تصرفوا فيما دعوه كتاب الله تصرف المالك في ملكه) ، وذكر هنا في
الهامش أن ابن عباس أنكر كون المعوذتين من القرآن، ثم ختم لغوه بذم القرآن ذمًّا
شعريًّا، بأنه مبتور؛ لا نظام له، ولا تأليف، ولا معنى يتسق.
فأما دعواه في الخلفاء فلا أرى إلا النصارى واليهود والمجوس والذين أشركوا
يسخرون منها. وأما زعمه أن ابن عباس أنكر كون المعوذتين منه فهو كذب،
وإنما روي هذا عن ابن مسعود وحده، ولكن الجم الغفير من الصحابة رووها
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرآنًا، فعدم رواية ابن مسعود لها لا ينافي
التواتر عن غيره، كما رواه أحمد والحميدي والبخاري ومسلم والنسائي وابن حبان،
وأما ما قاله في النظم والتأليف فإننا - بعد الثقة بأن سيكون سخرية لكل مَن شم
رائحة البلاغة العربية - نحيل القارئ على ما تقدم نقله عن القاضي عياض، ونتمثَّل
بقول شاعرنا الحكيم:
إذا وصف الطائي بالبخل مادر
…
وعير قسًّا بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت خفية
…
وقال الدجى للصبح لونك حائل
فيا موت زُر إن الحياة ذميمة
…
ويا نفس جدّي إن دهرك هازل
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أي الفريقين المتعصب: المسلمون أم النصارى
؟!
نشرت إحدى الجرائد السورية التي تصدر في نيويورك مقالة في أخلاق
(الألبان) وعوائدهم، جاء فيها ما نصه:
(ومن أشد متاعس البلقان وجود الأرناؤوط من النصارى والمسلمين في أرض
واحدة تجمع بينهم لغة واحدة ووطن واحد ونسب يرجع إلى أصل واحد وهم - مع
ذلك - منقسمون على بعضهم بعضًا متطرفون في التعصب الديني وأولئك
المتعصبون من المسلمين هم نصارى من الأصل انقلبوا عن النصرانية ودخلوا في
دين محمد فخلعوا عنهم بذلك الانتقال رداء اللين المسيحي وتقمصوا بقميص القساوة
التركية! وذلك لأن الحياة التي اعتنقوها حديثًا هي ديانة قامت بالسيف مبنية على
أساس الجهاد ولا ثبوت لها إلا بالقوة القاهرة. ومن الغريب أننا نرى أشد المسلمين
تعصبًا وقساوة هم المتحدرون من سلالة نصرانية، فإن أشد الأكراد ضراوة وهمجية
وتعصبًا بين إخوانهم الأكراد القائمين على حدود بلاد العجم هم الأولى تحدَّروا من
نسل نصارى الأرمن وأضرى مسلمي البلغار المقيمين في جبال رودوب هم
المتحدرون من نسل النصارى وكذلك نرى أن مسلمي القراوطين والسرب وأهل
البشناق من المتسلسلين من عيال نصرانية أشد مسلمي تلك البلاد تعصبًا وشرًّا.ا. هـ
بحروفه.
(المنار)
من عجائب تأثير التقليد أنه يجعل نتيجة الدليل الموجبة سالبة والسالبة موجبة
ويجمع لصاحبه بين النقيضين، فيستدل على إقبال الليل بطلوع الشمس وعلى
إقبال النهار بغروبها. شاع بين الناس أن دين الإسلام قام بالسيف وهي قضية
بديهية البطلان، فإن الداعي إلى هذا الدين قام يدعو إليه وحده ولا سيف معه
ولو كان معه سيف لكان من المُحال أن يغلب به سيوف العالمين الذين جاء
لدعوتهم إلى دينه، ثم إنه بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته هاجر مستخفيًا من بلده وليس
معه إلا رجل واحد وذلك لأنه كان على خطر من قومه، ولولا حفظ الله وعنايته
لقتلوه هو وتلك الفئة القليلة التي آمنت به وهربت من مكة مهاجرة إلى الحبشة
لنجاة أرواحها.
ثم إنه لما صار له في مهاجره أتباع يتيسر لهم المدافعة كانوا يدافعون
المشركين ولم يعتدوا عليهم في قتال قط اتباعًا لقوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) ، ولا سعة
في هذا الرد لتطويل في شيء سبق القول فيه، ونرجو أن نوضحه بعدُ أتم الإيضاح
وإنما نقول: إن الناس قلد بعضهم بعضًا في تلك القضية الكاذبة حتى المسلمين، كما
قلد بعضهم بعضًا في أن الدين المسيحي انتشر بالدعوة، مع أن التاريخ يشهد أنه لم
ينتشر لا سيما في أوربا إلا بالقوة القاهرة. كان من تأثير هذا التقليد أن تشاهد القسوة
وشدة التعصب في النصارى أضعاف ما هي في المسلمين حتى أن الجنس الواحد يوجد
فيه العريق في الإسلام والحديث العهد به فيكون الثاني أشد تعصبًا من الأول ويلاحظ
هذا أهل البحث والذكاء ويثبتونه بالكتابة ثم يقرنون به القول بأن شدة التعصب قد
لابست نفوس هؤلاء الداخلين في الإسلام بتأثير الإسلام وكونه دين قسوة وجهاد! ألم
يكن الأقرب إلى الإنصاف أن يقال إن هؤلاء المرتقين إلى الإسلام عن النصرانية قد
حملوا ما كان عندهم من شدة التعصب في دينهم القديم إلى دينهم الجديد وبذلك امتازوا
في التعصب على الأصلاء فيه الذين ورثوا التساهل وتربوا على الدين القاضي باللين
والمجاملة، فلم يكن عندهم شيء من ذلك التعصب الذميم؟ ولكن التقليد يحول دون
هذا الحكم العادل.
_________
الكاتب: بعض الأفاضل
سؤال في التثليث
لبعض الأفاضل
سؤال للمسيحيين أرجو
…
إجابتهم عليه مع اليقين
هل التثليث في المولى قديم
…
أم الأقنوم أُحدث بعد حين
وليس على الحدوث يقر قوم
…
وعن قدم القديم تجاوبوني
أموسى كان يجهل أم بمين
…
أتى أم غيروا أركان دين
وليس بجهله أحد مقرًّا
…
ولا بالمين يرمى والمجون
فقولوا قومه نقصو وزادوا
…
بذلك صح قرآن الأمين
وأما كون موسى قد دعاهم
…
على قدر العقول فسامحوني
وإن الحق يغلب كل ظن
…
دعوا تثليثكم أو جاوبوني
شرح السؤال
أرجو قبل كل شيء من المسيحيين عمومًا - وأخص ذوي العقول السامية
والأفكار الراقية خصوصًا - أن يجاوبوا بما يطمئن إليه فؤادهم وترتاح إليه
ضمائرهم، ويسكن إليه خاطرهم، ولمنع سوء التفاهم أو التجاهل سأشرح السؤال
شرحًا كافيًا، وهو:
هل التثليث في ذات الله سبحانه مع الأقانيم حادث أو قديم؟ فإن كان حادثًا
لزم الغِيَر في ذات الله، وهو مُحال باتفاق، وإن كان قديمًا فمن المعلوم أن الله
أرسل قبل المسيح عليه السلام رسلاً أو آباء - كما تسمون - بشرائع مخصوصة،
نخص من بينهم موسى عليه السلام؛ لوجود بقية من أتباعه، ولاعتراف المسيح
بناموسه وإقراره بأصل شريعته، وأنه مكمل لها فقط، ولو سألنا قومه عن
أصل شريعتهم وعن اعتقادهم في الله المبني على دعوة موسى - لأجابوا
بالتوحيد المطلق المجرد عن التثليث والأقانيم أحد من كتبهم. فهنا نقول: هل
هذه هي دعوة موسى، وأنها كانت للتوحيد المطلق أو أن قومه غيروها وكانت
بالتثليث؟ فإن قالوا بالأخير صدق القرآن في أنهم يغيرون ويبدلون، ويحرفون
الكلم عن مواضعه، وما صدق على أحد المثلين يصدق على الآخر، فلا ثقة إذا في
الديانة المسيحية وكتبها ولا داعي لاعتقاد صحتها، بل يجب أن تكون الثقة
في الموثوق به وهو القرآن المجيد. وإذا أجابوا بالأول وأن دعوة موسى كانت
للتوحيد قلنا: هل كان موسى يجهل ما يجب اعتقاده في مولاه الذي أرسله واصطفاه
من بني إسرائيل المصطفين على العالمين؟ أو كان يكذب على قومه
فيدعوهم إلى أن الله واحد فقط وهو يعلم أنه ثلاثة في واحد أو واحد في ثلاثة أقانيم
؟ أو كان يستعمل التورية في أساس الرسالة؛ إذ معرفة الله أصل كل دين وأساس
كل رسالة وشريعة سماوية، سيقولون: إنه كان يعلم أنه واحد في ثلاثة (أي يعلم
التثليث) ولكن لم يؤمر بتبليغه؛ لأن الشرائع تأتي علي قدر العقول.
ولكن نقول لهؤلاء: إن المعهود في تاريخ البشر هو ميلهم إلي الوثنية والتعدد
وهؤلاء قدماء المصريين ووارثوهم اليونان وبعدهم الرومانيون الذين بنيت دولتهم
بأنقاض دولة اليونان كان تعدد الآلهة فيها وقبلها آخذًا حده - ولعل سر التثليث جاء من
هنا - فلو أتي موسى قومه ودعاهم علي قدر العقول لكان الأليق به أن يدعوهم إلى
التثليث ويقلل تعدد الآلهة نوعًا ما خصوصًا وقد كان ظهوره في مدة مجد المصريين،
وتعدد الآلهة عندهم أشهر من أن يذكر - فهذا قول لا يقوله عاقل.
وإن قالوا: إن قضية التثليث غير معقولة فيجب الإيمان بها اتباعًا للوحي
نقول: فلِمَ لَمْ يدعُ إليها موسى والأنبياء وهي لا يشترط فيها العقل ولا الاستعداد؟ !
والنتيجة أن التثليث ليس بحادث ولا قديم وكل ما كان كذلك فهو باطل، فالتثليث باطل
لأنه لو كان حادثًا للزم التغير في ذات الله وهو باطل، فالتثليث ليس بحادث ولو كان
قديمًا لقال به موسى عليه السلام والأنبياء ولكنهم لم يقولوا به فهو ليس بقديم. ولا
يعقل أن موسى عليه السلام كان جاهلاً أو كاذبًا أو مورِّيًا في أصل الدعوة والمعقول
أنه لم يكن تثليث فثبت ما تقدم من نفيه.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(س ن. ان)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإنجيل الصحيح
(النبذة الثانية من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي)
قال: لما قضيت الخمسين من عمري سألت الحكماء الذين عرفتهم عن كوني
الخاص وعن معنى حياتي. فكان الجواب أنني عبارة عن ذرات اجتمعت ببعضها
وأن حياتي خلو من المعنى بل إنها رديئة. فداخلني اليأس من هذا الجواب وكاد
يحملني على الانتحار ولكنني ذكرت حالتي في عهد الطفولية حينما كان الإيمان
راسخًا في قلبي وكان للحياة معنى عندي، ثم نظرت فرأيت جمهور الناس حولي
راضين بالإيمان ولم يبطرهم المال فيجرهم إلى الفساد؛ فلذلك يعيشون عيشة حقيقية
مملوءة بالمعاني فكان بعد ذلك كله أنني بدأت أرتاب في الجواب الذي أوحت به إلي
حكمتي وحكمة أمثالي وعاودت النظر كرّة أخرى عساني أدرك الجواب الذي تجيب
به النصرانية أولئك القوم الذين كنت أراهم عائشين عيشة حقيقية.
فطفقت حينئذٍ أدرس النصرانية كما كنت أراها في حياة الناس وشرعت في
مقابلة هذه النصرانية المعمول بها على الأصول المنبعثة عنها. وهذه الأصول إنما
هي الأناجيل، وقد وجدت فيها هذا المعنى الذي يسمح للناس أن يعيشوا عيشة
حقيقية. ولكني رأيت فيما آلت إليه النصرانية في هذه الأيام كما يرى الناظر في
الينبوع. رأيت ماءً صافيًا مشوبًا بالأكدار والأوحال، وهذه الشوائب هي التي حالت
بيني وبين رؤية صفاء هذا الماء إلى الآن. رأيت حينئذ أنني خلطت بين سمو
العقيدة النصرانية وبين العقيدة العبرانية والعقيدة الكنائسية وأن كلتا هاتين العقيدتين
أجنبيتان عنها بل مخالفتان لها. فشعرت بما يجده الرجل الذي يعطونه كيسًا من
التراب ولكنه بعد الكد والكدح والتعب والنصب يعثر فيه على بضع لآلئ تعلو
قيمتها الوصف والتقدير، فمثل هذا الإنسان لا يرى أنه قد أذنب في نفوره من التراب
وكذلك الذين جمعوا تلك اللآلي مع بقية ما حواه والكيس وحفظوه بما فيه من ثمين
ومبتذل ليسوا أيضًا بمذنبين، بل يستحقون الإجلال في محل الإكرام والإجلال. ثم
هو يتساءل بعد ذلك عما يجب عليه فعله بهذه الدراري الغالية التي وجدها مختلطة
بالأوحال والرمال. وهذا لعمري موقف حرج. ولقد لبثت فيه إلى أن أدركت في
أحد الأيام أن هذه الأحجار الكريمة لم تكن دائمًا مختلطة بما يشوبها من الأكدار وأنه
يتسنى تخليصها منها وتمييزها عنها.
لم يكن لي علم بماهية النور وكان يخطر ببالي أن هذه الحياة ليس فيها أدنى
حقيقة على الإطلاق ولكنني لما أدركت أن النور وحده هو حياة الناس طفقت أبحث
عن مطالع النور وقد عثرت عليها في الأناجيل بالرغم مما أدخلته الكنائس فيها من
شوائب التوفيق والتطبيق. فلما وصلت إلى هذه المشارق التي ينبعث منها النور
انبهرت من شدة ضيائها ثم وجدت فيها بعد ذلك الجواب السديد عن المسائل التي
كانت تخالج فؤادي فيما يتعلق بمعنى حياتي وحياة سائر الناس، وقد ألفيت هذا
الجواب مطابقًا من كل الوجوه للجواب الذي نالته الأمم الأخرى بل هو في نظري
يزيد عليه زيادة عظيمة، ولقد كنت أبحث عن ماهية الحياة وعن حل مسألة لاهوتية
أو تاريخية ولذلك لم يكن يعنيني العلم بالذي كتب الأناجيل ولا بوقت تسطيرها ولا
بما إذا كانت هذه الأسطورة أو تلك الأمثولة صادرة عن المسيح نفسه أم لا. وإنما
الأمر المهم عندي هو ذلك النور الذي أرسل شعاعه على الناس منذ ألف وثمان مئة
عام والذي استضأت به ولا أزال أستضيء به أيضًا. أما الاسم الذي يليق بمطلع
هذا النور والعناصر التي يتألف منها موجده، فكل هذه أمور لم يكن لها نصيب من
عنايتي على الإطلاق.
ثم أخذت أنظر إلى هذا النور وأراقب وأدرس كل ما يستضيء به، فكنت كلما
تقدمت في هذا السبيل تتضح لي زيادة الفرق المتعاظم على التوالي بين الحق
والكذب، وفي مبادئ عملي كان الشك لا يزال عالقًا بنفسي وكنت أحاول فنونًا من
التأويلات الصناعية، ولكنني كلما واليت البحث كانت الحقيقة تتراءى لي في ثوبها
الناصع الجميل.
وكان مثلي حينئذ كمن يجمع قطع التمثال المتكسر، فإنه في أول الأمر يتشكك
ويسائل نفسه: هل هذه القطعة مما يجب وضعه في الساق أو في الذراع؟ ولكنه متى
تسنى له إعادة الساق تامة كاملة يتحقق أن تلك القطعة ليست من الساق في شيء
ومتى وجد في الذراع نقصًا تنطبق عليه تلك القطعة تمام الانطباق فإنه لا يتردد
لحظة واحدة في تعيين المكان الذي كان مخصصًا في أول الأمر لهذه القطعة من
التمثال. فكنت كلما تقدمت في عملي يزداد هذا الشعور تمكنًا في نفسي. وإذا لم
يكن الجنون قد استولى على عقلي فلا شك أن القارئ يجد في نفسه أيضًا مثل هذا
الوجدان حينما يقرأ ترجمتي الكبيرة للأناجيل، فإن كل نظرية من نظرياتي مشفوعة
بالدليل اللغوي وبمقارنة النصوص المختلفة ببعضها وبانطباقها تمام الانطباق على
الفكرة الأساسية التي بني عليها تعليم المسيح.
وربما ساغ لي الوقوف عند هذا الحد واختتام المقدمة بما أوردته إلى الآن إذا
كانت الأناجيل من الكتب التي عثر عليها الباحثون حديثًا أو كانت التعاليم المسيحية
لم تصادفها على الدوام من ألف وثمان مائة عام سلسلة متوالية من الأباطيل في
التأويل.
ولكي يفهم الناس في هذه الأيام حقيقة دين المسيح كما كان يدركها هو نفسه
أرى من الواجب التنبيه على الأسباب الجوهرية التي أوجبت تلك التأويلات الفاسدة
وتلك التصورات الكاذبة التي جرتها على أثرها. إن السبب الأصلي لهذه التأويلات
الباطلة التي يصعب علينا معها اليوم العثور على حقيقة دين المسيح هو أن هذا
الدين قد اختلط بمقالات وطقوس الفارسيانيين وبما جاء في العهد القديم من الآراء
والمذاهب وكان ذلك منذ أيام بولس الذي لم يدرك قط حقيقة دين المسيح [1] والذي
لم تخطر على باله أيضًا بصيغتها التي عرفها الناس بها من بعده على مقتضى
إنجيل متى، فقد جرت العادة على اعتبار بولس كرسول الوثنيين وكالرسول القائم
بالاحتجاج (البروتستانتي) ولقد كان كذلك في الواقع ونفس الأمر ولكن فيما يتعلق
بالصيغ الخارجية فقط كالختان وغيره. بل هو الذي أدخل في النصرانية تعاليم
اليهود وسننهم بضمّه العهد القديم إلى العهد الجديد وقد كانت هذه التعاليم المشوبة
بسنن اليهود السبب الأساسي في تشويه العقيدة المسيحية وتأويلها على غير وجه
الحق.
فمن عصر بولس كان ابتداء ذلك التلمود المسيحي الذي هو اليوم عبارة عن
تعاليم الكنيسة، ومن ذلك الوقت أصبح دين المسيح لا يعتبر واحدًا وكاملاً وإلهيًّا، بل
مجرد حلقة من حلقات سلسلة الوحي العظيمة التي تبتدئ من يوم الخليقة وتمتد حتى
تصل إلى الكنيسة في أيامنا هذه.
وبنى على هذا التأويل الباطل تسمية المسيح بالإله ولكن الاعتراف بألوهية
المسيح لا يلزم (كما يظهر) على تعليق أدنى أهمية على كلمته الإلهية أكثر من
اهتمامه بكلمات التوراة والمزامير وأعمال الرسل ورسائلهم والرؤيا، بل بقرارات
المجامع وكتابات الآباء [2] .
وهذا التأويل الباطل لا يسوغ مع تصور العقيدة المسيحية إلا إذا كانت موافقة
لكل ما جاء به الوحي قبل المسيح وبعده بحيث يكون الغرض من هذا التأويل هو
التوفيق بقدر الإمكان بين كتب مختلفة يناقض بعضها بعضًا مثل التوراة والمزامير
والأناجيل والرسائل والأعمال وسائر الكتب المعتبرة مقدسة.
ومن البديهي أنه إذا كان المبدأ بهذه الصفة لا يجوز لإنسان أن يطمع في
إدراك تعليم المسيح كما ينبغي. وهذا المبدأ الفاسد هو الذي أوجب تعدد الآراء
واختلافها الكثير في حقيقة معنى الأناجيل. إذ لا يخفى أنه يمكن حدوث عدد غير
محدود من أمثال هذه التأويلات التي لا يقصد منها البحث عن الحقيقة، بل توفيق
النقيضين اللذين لا يتفقان وهما العهد القديم والعهد الجديد. وفي الحقيقة أن هذه
التفاسير لا تدخل تحت حصر ولأجل إظهار هذه التفاسير في مظهر يشابه الحقيقة
اضطر أصحابها إلى الالتجاء إلى وسائل خارجية مثل الخوارق ونزول الروح
القدس عليهم ونحو ذلك.
وقد اجتهد كل واحد منهم - ولا يزال يجتهد - في التوفيق على ما يراه ثم ترى
كلاً منهم يدعي بأن توفيقه هو آخر وحي صادر عن الروح القدس. مثال ذلك ما جاء
في رسائل بولس وفي قرارات المجامع التي تبتدئ بهذه العبارة: (قد وافقنا ووافق
الروح القدس) ومثال ذلك أيضًا الأوامر الصادرة عن الباباوات وعن المجامع
المقدسة للأرثوذكسيين والبولسيين وكل هؤلاء المفسرين الكاذبين في دعوى بيان فكر
المسيح. فكلهم يلتجئون إلى هذه الرسائل الشاذة المستنكرة لتأييد صحة ما يذهبون
إليه من التوفيق، فهم يجزمون بأن هذا التوفيق ليس من نتائج أفكارهم الشخصية
وإنما هو شهادة صادرة عن الروح القدس مباشرة.
ولسنا نحاول البحث والتنقيب في هذه الديانات المتنوعة التي يزعم أصحاب
كل واحدة منها أنها هي الحق دون سواها ولكننا نقول بأننا نرى مع ذلك أنها كلها
تبتدئ بتقديس الكتب الكثيرة التي تضمنها العهد القديم والعهد الجديد وأنها توجب
بنفسها على نفسها حدوث عقبة لا تزول في فهم الدين المسيحي الحقيقي ويترتب
على ذلك حتمًا تعدد الشيع المتناقضة تعددًا لا يدخل تحت حصر.
ولكن هذا التعدد الذي لا يتناهى إنما نشأ عن التزام القوم التوفيق بين عدد
عظيم من آثار الوحي المتعدد فإن تفسير مذهب الشخص الواحد الذي يعتبرونه كإله
لا يمكن أن يستوجب اختلاف النِّحل والشيع مطلقًا إذ لا يصح القول بتفسير التعليم
الذي جاء به إله قد نزل على الأرض ويكون هذا التفسير بطرق مختلفة.
فإذا كان الله نزل على الأرض لإظهار الحق للناس فأقل ما كان يصنعه أنه
يبين لهم هذا الحق بطريقة يفهمها الجميع بلا التباس ولا اشتباه، فإذا لم يكن قد صنع
هذا فذلك دليل على أنه لم يكن إلهًا!!!
وإذا كانت الحقائق الربانية هي بحيث لم يقدر الإله نفسه على إبرازها في
صورة يدركها الناس، فمن الطبيعي أن الناس لا يتمكنون أيضًا من الوصول إلى
هذا الغرض.
ومن جهة أخرى نقول: إذا كان المسيح ليس هو الله وإنما هو من عظماء
الرجال ونوابغهم فإن تعليمه لا يترتب عليه أيضًا كثرة الشيع المتناقضة؛ لأن مذهب
الرجل العظيم لا يكون عظيمًا إلا لكونه أوضح بصفة صريحة واضحة ما قاله غيره
بطريقة مبهمة بعيدة عن الإدراك. وكل ما كان غير مفهوم في خطاب الرجل
العظيم لا يمكن أن يكون عظيمًا فإن مذهب الرجل العظيم ينبغي أن يجمع الناس
كلهم على حقيقة واحدة يشتركون فيها على السواء وإنما التأويل الذي يزعم صاحبه
أنه صادر عن وحي من الروح القدس وأن فيه الحق وحده - هو الذي يثير البغضاء
في النفوس ويوجب اختلاف الشيع والمذاهب ولا عبرة بما يقوله أصحاب بعض
المذاهب من أنهم لا يحكمون بالضلال على من يخالفهم وأنهم لا يودون لهم السوء
وليس في أنفسهم حفيظة عليهم، فإن ذلك مما لا يمكن أن يكون له نصيب من
الحقيقة. فمنذ عهد آريوس لم يوجد مذهب واحد ولدته غير الرغبة في معارضة
المذهب الذي يناقضه! وأقصى درجات الغرور والجنون أن يقال بأن هذه العقيدة هي
صادرة عن الوحي ومقتبسة من الروح القدس ومن منتهى الغرور أن يقول
الإنسان بأن ما يصدر عنه من الآراء إنما هو من قول الله نفسه على لسانه. ولا
أرى أكذب من ذلك الذي يجيب مثل هذا الإنسان بقوله: (كلا، إن الله لم يتكلم
بلسانك، بل بلساني وإنه يقول ما يناقض ما نسبته إليه على خط مستقيم) وهذه
لعمري طريقة المجامع كلها والكنائس بلا استثناء والشيع على اختلاف مقالاتها
وآرائها، وهذا هو الذي أوجب ويوجب الشرور في العالم باسم الدين، هذا هو
العيب الخارجي العظيم، والشيع كلها تتألم من عيب آخر داخلي. يمنعها أن تكون
لها صبغة واضحة مضمونة معينة.
وهذا العيب يتولد من قيام هذه الشيع بإثبات تأويلاتها الفاسدة والقول بأنها
منتهى ما جاء به الوحي عن الروح القدس وهي مع ذلك لا تُعنَى ببيان جوهر هذا
الوحي ولا معناه بطريقة صريحة حاسمة لكل جدال مع أنها تدعي بأنها تلقته عن
الروح القدس وأنها متممة لهذا الروح وهي تسمي هذه التأويلات بالدين المسيحي.
فالمؤمنون الذين يسلمون بصدور الوحي عن الروح القدس إنما يسلمون في
الحقيقة ونفس الأمر بثلاث جهات للوحي، ومثلهم في ذلك مثل المسلمين؛ فإنهم
يعتقدون بالوحي إلى موسى وعيسى ومحمد. والمؤمنون من المسيحيين يعتقدون
بالوحي إلى موسى والمسيح والروح القدس. ولكن الديانة الإسلامية تقول بأن
محمدًا هو آخر الأنبياء وأنه وحده قد فسر بطريقة نهائية الوحي الذي جاء به موسى
وعيسي وقد توَّجهما بإضافة الوحي الذي تلقاه. أما حالة الكنائس المسيحية فهي
على نقيض ذلك بالمرة، فإنها بدلاً من أن تسمي دينها باسم الوحي الأخير الصادر لها
أعني (دين الروح القدس) فإنها تقول وتؤكد بأن دينها هو دين المسيح وأنه مبني
على تعليم المسيح بحيث إنها في الحقيقة ونفس الأمر تقدم لنا تعاليمها الخاصة بها
وتزعم أنها تؤيدها باسم المسيح وبشهادته!
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: هذا هو ما كنا نعتقده، وصرَّحنا به مرارًا، وقد سبق أن سمينا الديانة النصرانية المعروفة بالديانة البولُسية، ولا غَرْوَ فالذين يطلبون الحق كثيرًا ما تتلاقى أفكارهم، وما آفة الحق إلا التقليد.
(2)
هكذا جاءت هذه الجملة في الترجمة، فلتُنظر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الباب وقرة العين
يرى بعض الفضلاء أن من حقوق قراء المنار علينا إذا نحن نشرنا شيئًا من
كلام غيرنا أن ننتقد ما نراه فيه منتقدًا في اللفظ أو الفحوى، سواء كان ذلك مرسلاً
إلينا أو منقولاً من الكتب أو الجرائد والمجلات. ولم نَرَ أحدًا التزم مثل هذا ونظن
أن أكثر الناس لا يقول به إلا في موضوع يقصد صاحب المجلة إلى إثباته فيجيء في
الكلام المنقول ما ينفيه، فينبغي له حينئذٍ أن يحتج لرأيه ولكن لا يجب عليه أن
يصل كل ما ينشره لغيره بمقال ينتقده فيه مطلقًا إذا هو وجد ما يصح أن ينتقد.
ومما انتقد علينا بالنص سكوتنا على ما جاء في ذلك المكتوب المنشور في
الجزء الثاني من ذكر الباب وقرة العين في النابغين الذين يُعَد واحدهم بألف، قال
المنتقد: إن الباب رجل مبتدع دجال لم يأتِ بشيء يرفعه إلى مصاف النابغين وأما
قرة العين فهي بَغي أباحت نفسها للناس وفتنتهم بجمالها وقد عاقبتها الحكومة
الإيرانية بأن ربطتها في أذناب الخيل فعدَتْ بها حتى مزقتها كل ممزق.
ونحن نوافق المنتقد ونظن أن عذر الكاتب عدم الوقوف على كل ما يعرفه
أمثاله؛ فإن هذا إيراني وذلك مغربي، يسمع أن الباب أنشأ مذهبًا تبِعه فيه خلق
كثير وأن قرة العين كانت من دعاة مذهبه وكانت عالمة خطيبة مؤثرة وهذا هو ما
كنا نسمعه قبل الاختبار وتمام الاطلاع. ولا أقول أن الكاتب يعتقد صحة مذهب
الباب، بل أنا أعتقد أنه لا يشك في بطلانه. ومن قدر على إنشاء مذهب باطل
يتبعه فيه ناس كثيرون فهو نابغ في استعداده الفطرى ولكنه وجه استعداده إلى الباطل،
ولو وجهه إلى الحق لنفع نفعًا عظيمًا؛ لأن قوة استعداده تؤيَّد بقوة الحق.
ونعيد هنا ما كنا قلناه من قبل وهو أن البابية أو البهائية لم يأتوا بمذهب جديد
في الإسلام، وإنما أحدثوا دينًا جديدًا كالنصرانية سواء، وأن أتباعهم ليسوا من
الكثرة كما يدعون. وإنما هم قوم يوهمون ويموهون.
_________
الكاتب: أحمد علي ضيف
الطلاق على الغائب والمعسر في السودان
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامي:
اطلعت في المنار الأخير على مدحكم خطة قاضي قضاة السودان وما أدخله
من الإصلاح في المحاكم الشرعية وغيرها، فكنت أشارككم في الشكر له حتى انتهيت
إلى عبارة استوقفت نظري، فكنت محتاجًا لشرحها منكم بأجلى بيان وهي قولكم:
(ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان ونرجو أن تلحقها فيه محاكم مصر
الطلاق على الغائب والمعسر فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر المحاكم
منشورًا تؤذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك) ولقد أردت فهم هذه الجملة
على وجه الوضوح فلم أتمكن وذلك لأن قاضي قضاة السودان مأذون من قاضي مصر
النائب عن الإمام في الحكم على مذهبه فهو حينئذٍ ملزم بأن يحكم ويأمر بالحكم على
مذهب الإمام وأيضًا كثير من هؤلاء القضاة من هو حنفي المذهب فيكون مضطرًّا
لأن يحكم على غير مذهبه ومن المقرر في الفقه أنه إذا قضي القاضي بغير مذهب
الإمام وقد اشترط عليه أن يحكم به يكون حكمه لاغيًا وهو معزولاً من منصبه وكذلك
إذا حكم غير المجتهد بغير مذهب يكون أيضًا حكمه لاغيًا. فكيف يكون حكم هؤلاء
القضاة وهم مأذونون من قاضي مصر النائب عن الإمام وفيهم من هو حنفي
المذهب وليسوا بمجتهدين؟ الرجا توضيح هذه المسألة؛ ليكون لكم الفضل وعظيم الأجر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... كتبه أحمدعلي ضيف
…
...
…
...
…
...
…
... بالأزهر
(المنار)
إن ما قاله الفقهاء من اشتراط كون القاضي الذي ينفذ حكمه منصوبًا من قبل
الإمام أو السلطان ليس أمرًا تعبديًّا فرضه الله تعالى علينا في كتابه أو على لسان
رسوله لنعبده به، وإنما هو أمر لا بد منه لأجل وحدة الأحكام وتنفيذها. والسلطان أو
الإمام عندهم هو من ينفذ الأحكام الشرعية فإذا كان عاجزًا عن ذلك بالفعل فهو ليس
بسلطان ولا إمام. وأنتم تعلمون أن السلطان الذي نصب قاضي القضاة في مصر لا
يقدر على تنفيذ الأحكام الشرعية في السودان بالفعل، وأنتم تعرفون الذي يقدر على
ذلك. وإنما للسلطان العثماني حق الحكم في السودان بالتبعية لمصر، والإنكليز قد
احتلوا مصر بإذنه لمنع الفتن التي كانت فيها فلا يصح لهم أن يتغلبوا على جزء من
أملاكها باسم الفتح لأن يدهم على البلاد يد أمانة. وهذه مسألة سياسية تتبعها رسوم
معروفة، فإذا لم تقل: إن الأحكام في السودان كالأحكام في الهند، فقل: إنها تشبه
الأحكام في الجزائر أو تونس التي تعتبرها الدولة العلية من بلادها إلى الآن أو في
كريد.
الحق أنه ليس للمسلمين الآن إمام قادر على تنفيذ الأحكام الشرعية في بلادهم
كلها حتى البلاد التي ليس فيها أعلام أجنبية. فهذه مصر تحكم محاكمها الشرعية
ببعض الأحكام فلا تنفذ والخديو وقاضي مصر نائبا السلطان صاحب السيادة
(الاسمية الرسمية) على مصر يعلمان ذلك. لأجل هذا نرى بعض المعتقدين
بصحة قول الحنفية أنه يشترط في صلاة الجمعة أن تكون في بلاد تنفذ فيها الأحكام
الشرعية - لا يصلون الجمعة في بلاد مصر ولكنهم يصلون الظهر. وكان الواجب
على كل المعتقدين بهذا المذهب أن يسعوا في تنفيذ الأحكام الشرعية في مصر كحكم
قاضي (أبي كبير) وغيره بإلحاق زوجات الداخلين في الإسلام من القبط بأزواجهم
وأن لا يصلوا الجمعة حتى يتم لهم ذلك.
نرى السائل قد اضطرنا إلى ذكر أمور يجهلها الأكثرون ويستنكرها
المغرورون، وإنما ذكرناها لنذكره أين هو وأين السودان من السلطان. وإننا نرجع
بعد هذا إلى الحجة البيضاء الناصعة وهي أن جميع أئمة المسلمين قد اشترطوا أن
يكون القاضي مجتهدًا يحكم بما يرى فيه المصلحة، ولم يقل بجواز كونه مقلدًا إلا
بعض المقلدين الذين لا يعتد بأقوالهم، ونذكر هنا ما كتبناه في مقدمة طبع (تقرير
مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية) وهو:
(الأمر الثالث) أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام
المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما الأحكام التي
هي من خصائص المحاكم الشرعية يكون سهل العبارة لا خلاف فيه كما عملت
الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية. ولا يكون هذا الكتاب وافيًا بالغرض واقيًا
للمصالح إلا إذا أخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة ليكون اختلافهم
رحمة للأمة. ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور ببطلانه كما لا يخفى. وقد
أشير في صفحتي 38و40 من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي وتوهم بعض
الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة وأن الأحكام بغير مذهب الحنفية لا تصح
ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور:
(1)
جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه (فلو شرط المولي وهو حنفي
أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا
على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام، فهو شرط باطل
سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا
فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب
الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه
النهي - كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن
يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك
قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحًا إن جهل، لكن لا يصح مع
الجهل أن يكون موليًّا ولا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال:
قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت
الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل
الشرط اهـ المراد منه.
(2)
لا يعدل عن مذهب الحنفية إلا في الأحكام التي لا تنطبق على مصلحة
الناس في هذا العصر إذا حكم فيها بمذهبهم وهذه حالة ضرورة أو حاجة تنزل منزلة
الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم لأن الحكم الذي تمس إليه الحاجة أو
يضطر إليه يصير متفقًا عليه. اهـ المراد هنا، ومنه يعلم الجواب والاجتهاد يتجزأ
على الراجح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
الاجتهاد والتقليد
(س1) : م. غ. بالأزهر: طالعت في مجلتكم الغراء (م4) بحث
الوحدة الإسلامية والاجتهاد والتقليد والرجوع إلى بساطة الدين الأولى بأخذ الأحكام
الدينية من الكتاب والسنة اللذين من تمسك بهما نجا ومن حاد عنهما هلك. وقد عثرت
على كتاب (كشف الغمة) للشيخ الشعراني، فإذا هو كتاب في الحديث مرتب
كترتيب كتب الفقه ذكر فيه أدلة الأئمة كلهم ولم يتعصب لمذهب من المذاهب وإذا
تعارض حديثان صحيحان من جهة التخفيف والتشديد حمل أحدهما على الرخصة
والآخر على العزيمة ولا يحكم بنسخ حديث إلا بحديث آخر مصرح بنسخ الأول
كقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا في كل
وعاء ولا تشربوا مسكرًا) فهل أحاديث هذا الكتاب صحيحة، فنعتمد عليه في
العمل؟ وإذا عرض لنا حكم لم نجده فيه ولا في غيره من كتب السنة الصحيحة
كالكتب الستة ومسانيد الأئمة الأربعة فهل يجوز لنا أن نأخذ هذا الحكم من مذهب
أي إمام غلب على ظننا صحة قوله أم يجب علينا أن نجتهد لنأخذ ذلك الحكم؟
أفيدوا تؤجروا.
(ج) هذا الكتاب أحسن ما كتب الشعراني والخلط فيه قليل جدًّا وليست
أحاديثه كلها صحيحة ولا حسنة بل فيها ما لا يصح الاستدلال به. وأحسن منه
في هذا الباب كتاب (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار) فإن مؤلفه الإمام
الشوكاني يخرج أحاديث المنتقى ويأتي بما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها
وباستنباط الأئمة منها، فهو أفضل كتاب يهدي إلى فهم السنة في أحكام العبادات
والمعاملات. أما ما يعرض للإنسان من المسائل التي لا ذكر لها في الكتاب
والمعروف من السنة فالواجب عدم البحث عنها عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:
(وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وإنما يأتي هذا في أحكام
العبادات خاصة التي تمت على عهده صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى في ذلك
قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ؛ فالعبادات لا اجتهاد فيها ولا
استنباط إلا الاجتهاد في التمييز بين الصحيح وغيره من الأخبار وفي تحصيل مَلَكَة
العربية لفهم ذلك والاجتهاد الحقيقي إنما يكون في الأحكام الدنيوية التي يتنازع فيها
الناس ولا تنازع في عبادة الله تعالى. وعندنا أن من يعرف الحق في هذه باقتداره
على الاستنباط يعمل به ومن لم يعرفه أو عرفه وكان له خصم لا يقبل حكمه،
فالواجب عليه رده إلى أولي الأمر، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وأما السؤال عن الأخذ
بقول من يغلب على الظن صحة قوله ففيه أن غلبة الظن لا تأتي إلا من الاطلاع
على الدليل والوقوف على وجه ترجيحه على مخالفه، إن كان هنالك مخالف وهذا لا
نزاع فيه، وصاحبه لا يسمى مقلدًا.
***
مأتم عاشوراء
(س2) ر. ع. بمصر: كنا نتوقع منكم أن تكتبوا في شهر المحرم شيئًا
في انتقاد ما يفعله إخواننا الشيعة من المنكرات في عاشوراء كضرب رؤوسهم
بالسلاح حتى تسيل منها الدماء على وجوههم وثيابهم وما يتبع ذلك مما هو مشاهَد.
وليس المنار خاصًّا بأهل السنة حتى تنتقدوا كل المنكرات الفاشية فيهم وتتركوا
إخوانهم من أهل الشيعة، وإنما هو منار عام. فإن كنتم تجدون لهم وجهًا يسوغ ما
يفعلون فتفضلوا بإعلامنا به.
(ج) لقد صدق السائل في حكمه بأن المنار عام وقد جاءنا بعد ورود هذا
السؤال كتاب من بعض الفضلاء في (تبريز) يقول فيه: إن الأمة الإسلامية أحوج
إلى مثل هذا (المنار) منها إلى سائر المعارف وأنه ينبغي أن يكتب فيها ما يرشد أهل إيران والهند ولا يصح أن يكون خطابه مع أهل مصر خاصة.
ونقول: إن مباحث المنار كلها عامة إلا ما يتعلق ببعض المسائل الجزئية
وأحوال المسلمين فيها متشابهة فالعبرة فيها عامة. وما منعنا أن نتكلم في شؤون
البلاد الإسلامية البعيدة إلا قلة الوقوف على تفصيلها وتأثيرها، وزِد على ذلك قلة
القراء في البلاد الإيرانية على أن قليلهم لا يقال له قليل لأنهم من كبار العلماء
والأمراء أصحاب النفوذ الروحي والاجتماعي. أما ما يفعلونه في عاشوراء من
ضرب أنفسهم وجرحها بالسيوف فهو منكر تقشعرّ منه الجلود ويجعل المسلمين في
نظر الأجانب كالوحوش أو المجانين على أنه لا فائدة فيه مطلقًا. نعم، كان يتصور
أن يفيد لو كان لأولئك الذين قاتلوا آل البيت عليهم السلام عصبية موجودة وشوكة
نافذة وهم على ظلمهم وهضمهم؛ لأن مثل هذه الأعمال تحيي في النفوس شعور
العداوة والانتقام وتوطّنها على سفك دماء أولئك الأعداء، ولكن أولئك الظالمين قد
خضدت شوكتهم، وذهبت سلطتهم؛ بل مُحي اسمهم من لوح الوجود حتى لا نكاد
نرى من ينتسب إليهم. فكان ينبغي الاكتفاء في عاشوراء بمثل ما كنا ارتأيناه في
المولد النبوي والمولد الحسيني وهو أن يخطب الخطباء في سيرة صاحب المولد وما
كان عليه من الخلق العظيم وما وفقه الله تعالى له من العمل النافع مع توجيه النفوس
للتأسي والاقتداء به فإذا كنا لسنا في حاجة إلى الانتقام، وإذا كنا قد ذقنا فعرفنا جناية
سلّ الحسام، وإذا كنا مهددين في كل أرض لأن ديننا الإسلام وإذا كنا - كما نعلم -
على خطر لا ينجي منه إلا الاتحاد والالتئام، وإذا كان هذا الاتحاد متعذرًا من جهة
وحدة السلطة والأحكام - أفلا يجب علينا أن نلتمسه من جهة الوحدة الدينية في العقائد
المتفق عليها والأخلاق التي لا خلاف فيها. والأخوة التي دعانا القرآن إليها؟
أفلا ينبغي أن تتخذ هذه المواسم مذكرات بأفضل ما كان من سلفنا، وأنفع ما
كان من أئمتنا، ونجتهد في أن نجعل شعورنا واحدًا حتى يصدق علينا قول نبينا
صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه الشيخان عن النعمان
بن بشير وفي رواية عنه لمسلم: (المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى
كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) .
***
حبس النساء بالجوع والعري
(س3) أ. ع. بالأزهر: يذكر بعض الناس حديثًا أوله: (أجيعوا المرأة)
ويظهر أنه غير صحيح وإن استشهد به بعض مَن كتب في النساء فالمرجو بيان
ذلك.
(ج) جاء في آخر كتاب النكاح من كتاب (اللآلى المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة) للحافظ السيوطي ما نصه:
(ابن عدي) : حدثنا محمد بن داود بن دينار حدثنا أحمد بن يونس حدثنا
سعدان بن عبدة حدثنا عبيد الله بن عبد الله العتكي عن أنس مرفوعًا: (أجيعوا
النساء جوعًا غير مضر وأعروهن عريًا غير مبرح؛ لأنهن إذا سمنَّ واكتسين
فليس شئ أحب إليهن من الخروج وإن هن أصابهن طرف من العري والجوع فليس
شئ أحب إليهن من البيوت وليس شيء خيرًا لهن من البيوت) لا يصح. العتكي
عنده مناكير، قال ابن عدي: وسعدان مجهول وشيخنا محمد بن داود يكذب. وقال
الشوكانى في فوائده: لا أصل له وكذا (أعروا النساء يلزمن الحجال) لا أصل له،
وكذا: (استعينوا على النساء بالعري) .
أقول: ومثل هذه الأحاديث المفتراة حديث: (لا تسكنوهن الغرف ولا
تعلموهن الكتابة وعلموهن المغزلة وسورة النور) رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا
وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي كان يضع الحديث. وقد أخرجه الحاكم من
غير طريقه وقال: إنه صحيح الإسناد. وما أسرع الحاكم في الحكم بالتصحيح،
وتعقبه الحافظ ابن حجر في أطراقه فقال: إن في إسناد الحاكم عبد الوهاب بن
الضحاك وهو متروك.
***
الاقتداء بالمخالف وطهارة الكلب
(س4) السيد محمد طه في بربر: ما قولكم دام فضلكم في رجل شافعي
المذهب اقتدى بإمام مالكي توضأ بماء دون القلتين ولغ فيه كلب فهل هذه القدوة
صحيحة؟ وما حكم هذا الماء المنجس بفم الكلب؟
(ج) إن المسائل الاجتهادية يعذر فيها كل مجتهد بما يراه ولا يجوز أن
يكون اختلاف الرأي سببًا في التفريق بين المسلمين، فإن كنت تتصور أن الإمام
الشافعي يحرم الاقتداء بشيخه الإمام مالك فحرم أنت الاقتداء بمن يتبع مالكًا اتباعًا
للشافعي، ومعاذ الله أن يظن مسلم ذلك في الأئمة بعد قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، نعم، إن
للفقهاء في هذه المسألة قولين مصححين: أحدهما الذي قلنا، والثاني أن القدوة غير
صحيحة ورجحه بعض المتأخرين سامحهم الله تعالى والحق ما قلنا.
وأما الماء الذي ولغ فيه كلب فقد ذهب الشافعي إلى نجاسته لما ورد من الأمر
بغسل الإناء وتتريبه وغيره يقول بأن الأمر بالغسل سبع مرات مع التتريب ليس
لأجل النجاسة؛ إذ المقصود من غسل النجاسة إزالتها وليس للولوغ تأثير تتوقف
إزالته على التسبيع والتتريب، ومال بعضهم إلى أن الأمر تعبدي وذهب بعض
الصوفية إلى أن له سببًا معنويًّا وهو أن شراب سؤره يقسي القلب، ولا يبعد أن
يكون السبب هو التوقّي من داء الكلب القتّال. ومهما كان السبب فلا يجب على
المسلم أكثر مما ورد في الحديث؛ لأنه إذا لم يظهر السبب يكون الأمر تعبّديًّا لا
يقاس عليه وإن ظهر السبب وقفنا عنده لا نتعداه.
***
أجرة التعدية
(س5) ومنه: إذا كان الحاكم مستوليًا على البحر أو النهر وأذن للناس
بالعبور على المراكب ونحوها من ناحية إلى أخرى وجعل على أصحاب المراكب
ضريبة فهل يجوز للمسلم أن يتخذ له مركبًا يعبر الناس عليه والبهائم بالأجرة؟
(ج) : نعم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مأثرة للمنشاوي
أحمد باشا المنشاوي من أكبر المصريين ثروة ووجاهة وقد وجه في هذه
الأيام نفسه إلى التبرع وحبس الأراضي على معاهد العلم فأوقف على مدرسة محمد
علي الصناعية مائتي فدان، اشترط أن تسلم إليها بعد إنشائها بالفعل. وأوقف ثمانين
فدانًا على طلاب العلم في الجامع الأحمدي بطنطا وتبرع بالقسم السفلي من دار له
فسيحة في طنطا لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فيها. ويقال أنه عزم على
إنشاء مدرسة للبنات في القسم العلوي ويا حبّذا لو أنفذ هذا وعهد بإدارتها إلى
الجمعية الخيرية.
بل يتحدثون عنه بما هو أعظم من هذا يتحدثون عنه بأنه عازم على إنشاء
مدرسة كلية وهذا هو العمل العظيم الذي نحلم به في الليل ونتمناه في النهار ونرى
أن سعادة هذا القطر متوقفة عليه وأن الأمة الإسلامية بمجموعها لم تستعد في مصر
للقيام به تمام الاستعداد. فإذا وفق الله هذا المثري الكبير لإنفاذه فلنا أن نسميه محيي
مصر وعظيمها وصاحب الفضل الكبير عليها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
العقائد من الأمالي الدينية
(الدرس 39)
آية الله الكبرى (القرآن)
فصل [*]
(م109) : (هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها ولا مرية
ومن الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في
قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك، كقوله لليهود: {قُلْ إِن
كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً} (البقرة: 94) ، الآية قال أبو إسحاق
الزجَّاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة لأنه قال:
(فتمنوا الموت) وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدًا فلم يتمنه واحد منهم، وعن النبي صلى
الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يقوله رجل منهم إلا غص بريقه) يعني
يموت مكانه، فصرفهم الله عن تمنيه وجزعهم ليظهر صدق رسوله وصحة ما أوحي
إليه إذ لم يتمنه أحد منهم، وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ولكن الله يفعل ما
يريد، فظهرت بذلك معجزته، وبانت حجته.
قال أبو محمد الأصيلي: من أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ولا واحد
من يوم أمر الله بذلك نبيه يقدم عليه ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد
أن يمتحنه منهم.
وكذلك آية المباهلة من هذا المعني حيث وفد عليه أساقفة نجران وأَبَوا الإسلام
فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ 000} (آل عمران: 61)
الآية فامتنعوا منها ورضوا بأداء الجزية وذلك أن (العاقب) عظيمهم قال لهم: قد
علمتم أنه نبي وأنه ما لاعن قومًا نبي قط فبقي كبيرهم ولا صغيرهم، ومثله قوله:
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: 23) إلى قوله: {فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) ، فأخبرهم أنهم لا يفعلون كما كان [1] وهذه
الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ولكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها.
* * *
فصل
(م110) : ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه
والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره، وهي على المكذبين به
أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا - كما قال تعالى - ويودون
انقطاعه لكراهتهم له، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن صعب مستصعب
على من كره وهو الحكم) وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إيَّاه مع تلاوته
تُولِّيه انجذابًا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23) ،
وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ 000} (الحشر: 21) الآية، ويدل على
أن هذا شيء خص به أنه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره، كما روي عن
نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي فقيل له: مِمَّ بكيت؟ قال: للشجا والنظم،
وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة
وآمن به ومنهم من كفر. فحكي في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ 000} (الطور: 35) إلى قوله {000 المُسَيْطِرُونَ} (الطور: 37) كاد قلبي أن يطير للإسلام. وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإسلام
في قلبي. وعن عتبة بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من
خلاف قومه فتلى عليه (حم فصلت) إلى قوله: {000 صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ
عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت: 13) فأمسك عتبة بيده على فِي النبي صلى الله عليه وسلم
وناشده الرحم أن يكف. وفي رواية: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وعتبة
مُصغٍ مُلقٍ يديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد النبي صلى الله
عليه وسلم وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى
أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما
دريت ما أقول له.
وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة وهيبة كف بها
عن ذلك فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه وشرع فيه فمر بصبي يقرأ: {وَقِيلَ
يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (هود: 44)، فرجع فمحا ما عمل وقال: (أشهد أن هذا لا
يعارَض وما هو من كلام البشر) ، وكان من أفصح أهل وقته. وكان يحيى بن حكم
الغزال بليغ الأندلس في زمنه فحكي أنه رام شيئًا من هذا فنظر في سورة الإخلاص
ليحذو على مثالها وينسج بزعمه على منوالها (قال) : فاعترته خشية ورقّة حملته
على التوبة والإنابة.
* * *
فصل
(م111) : ومن وجوه إعجازه المعدود كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا
مع تكفل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:
9) وقال {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) ، الآية
وسائر معجزات الأنبياء قد انقضت بانقضاء أوقاتها فلم يبقَ إلا خبرها. والقرآن
العزيز الباهرة آياته الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم مدة خمس مائة عام
وخمس وثلاثين سنة لأول نزوله إلى وقتنا هذا حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة
والأعصار كلها طافحة بأهل البيان حملة علم اللسان وأئمة البلاغة وفرسان الكلام
وجهابذة البراعة، والملحد فيهم كثير، والمعادي للشرع عتيد. فما منهم من أتى
بشيء يؤثر في معارضته. ولا ألف كلمتين في مناقضته ولا قدر فيه على مطعن
صحيح. ولا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح بل المأثور عن كل من
رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه.
* * *
فصل
(م112) : وقد عد جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة في إعجازه وجوهًا
كثيرة منها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة
وترديده يوجب له محبة. لا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن
والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد ويعادَى إذا أعيد، وكتابنا يُستلذ به في الخلوات
ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث
أصحابها لحونًا وطرقًا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف
رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي
عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل ولا يشبع منه العلماء ولا تزيغ
به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا:
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ 000} (الجن: 1-2) .
(م 113) : ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد
صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها ولا القيام بها ولا يحيط بها أحد من
علماء الأمم. ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع
والتنبيه على طريق الحجج العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة بينة
سهلة الألفاظ موجزه المقاصد. رام المتحذلقون بعده أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا
عليها. كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ
مِثْلَهُم} (يس: 81)، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 79) ،
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) إلى ما حواه من علوم السير،
وأنباء الأمم، والمواعظ والحكم. وأخبار الدار الآخرة. ومحاسن الآداب والشيم.
قال الله جل اسمه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) ، {وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ 000} (النحل: 89) ، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} (الروم: 58) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله
أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا وسنة خالية ومثلاً مضروبًا، فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم،
ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرد. ولا تنقضي عجائبه، هو
الحق ليس بالهزل، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن
قسم به أقسط ومن عمل به أجر ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن
طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم
والنور المبين والصراط المستقيم وحبل الله المتين والشفاء النافع، عصمة لمن
تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي
عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد) ونحوه عن ابن مسعود وقال فيه: (ولا يختلف
ولا يتشانأ [2] فيه نبأ الأولين والآخرين) وفي الحديث قال الله تعالى لمحمد صلى
الله عليه وسلم: (إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا،
وقلوبًا غلفًا، فيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة وربيع القلوب) وعن كعب: عليكم
بالقرآن فإنه فهم العقول ونور الحكمة، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) وقال: {هَذَا بَيَانٌ
لِّلنَّاسِ وَهُدًى} (آل عمران: 138) الآية فجمع فيه مع وجازة ألفاظه وجوامع
كلمه أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضِّعف منه مرات.
(م114) : ومنها جمعه فيه بين الدليل ومدلوله وذلك أنه احتج بنظم القرآن
وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده،
فالتالي له يفهم موضع الحجة والتكليف معًا من كلام واحد وسورة منفردة.
(م115) : ومنها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ولم يكن في حيز
المنثور؛ لأن المنظوم أسهل على النفوس وأوعى للقلوب وأسمح في الآذان وأحلى
على الأفهام. فالناس إليه أميل والأهواء إليه أسرع.
(م116) : ومنها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه وتقريبه على متحفظيه. قال
الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلْذِكْرِ} (القمر: 17) وسائر الأمم لا يحفظ
كتبها الواحد منهم فكيف الجماعة على مرور السنين عليهم والقرآن ميسر حفظه
للغلمان في أقرب مدة [3] .
(م117) : ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضًا وحسن ائتلاف أنواعه والتئام
أقسامها. وحسن التخلص من قصة إلى أخرى والخروج من باب إلى غيره على
اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد
وإثبات نبوة وتوحيد وتفريد وترغيب وترهيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل
يتخلل فصوله. والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته. ولانت جزالته.
وقل رونقه وتقلقلت ألفاظه. فتأمل أول سورة (ص) وما جمع فيها من أخبار الكفار
وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم وما ذكر من تكذيبهم بمحمد صلى الله
عليه وسلم وتعجبهم مما أتى به، والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر، وما ظهر
من الحسد في كلامهم، وتعجيزهم وتوهينهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة. وتكذيب
الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم ووعيد هؤلاء مثل مصابهم، وتصبير النبي صلى الله
عليه وسلم على أذاهم. وتسليته بكل ما تقدم ذكره، ثم أخذ في ذكر داود وقصص
الأنبياء، كل هذا في أوجز كلام وأحسن نظام.
ومنه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة وهذا كله وكثير مما
ذكرنا، أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة لم نذكرها إذ أكثرها داخل في باب
بلاغته فلا نحب أن يعد فنًّا منفردًا في إعجازه إلا في باب تفصيل فنون البلاغة.
وكذلك كثير مما قدمنا ذكره عنه يعد في خواصه وفضائله لا إعجازه. وحقيقة
الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا فليعتمد عليها وما بعدها من خواص القرآن
وعجائبه التي لا تنقضي، والله ولي التوفيق. اهـ كلام القاضي عياض رحمه الله
تعالى.
_________
(*) تتمة كلام القاضي عياض في الشفا.
(1)
لعل الأصل: فكان كما قال.
(2)
المنار: تشانؤوا: تباغضوا، ولا يظهر هنا. والذي أعرفه في الرواية (يتشانّ) من تشان الجلد: إذا يبس وتشنج، أي أنه يبقى على جدته وبهائه ورونقه دائمًا.
(3)
الإعجاز في إلهام المسلمين حفظه، حتى حفظ به الدين، وهذا لم يُعهد في العالمين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
الشبهة الثانية على القرآن
زعمهم التعارض في كلامه
استشهد ذلك الكاتب على سخافته هذه بأمور نأتي عليها واحدة واحدة ونبين
الصواب كما فعلنا في الشبهة الأولى:
(الشاهد الأول) زعم أن وجود الآيات المتشابهات فيه ينافي كونه مبينًا.
وهذا دليل على أنه لم يفهم معنى المتشابهات ولا معنى البيان فهذا المسيح عليه
السلام يزعم المنتقد أنه إله وقد كان الكثير من كلامه مع تلاميذه وهم الراسخون في
دينه - غير مفهوم لهم فهل يرى هذا دليلاً على عجز مقام الألوهية عن البيان أم
يستدل بالشيء في مكان ويترك الاستدلال به في مكان؟ ولم ينقل عن الراسخين من
الصحابة شئ من الاشتباه في القرآن كما ينقل النصارى عن تلاميذ المسيح
(رضي الله عن الجميع) .
المتشابهات في القرآن آيات تشابهت وجوه دلالتها على معانيها القريبة
والبعيدة حتى ليتسنى لأصحاب الزيغ تأويلها بالباطل وصرفها إلى غير الصواب،
وهذا أمر لا مندوحة عنه؛ لأنه ضروري في ذاته وذلك أن أهم ما يجيء به
الوحي هو العلم بالله تعالى وبعالم الغيب لترتفع بذلك مدارك العقول وتعلو همم
النفوس، ومن المعلوم أن الناس وضعوا ألفاظ اللغات لما يعرفون من المعاني في
هذا العالم فيتعين على من يريد إخبارهم بشيء مما لا يعرفون أن يستعير بعض
ألفاظهم الموضوعة لما يعرفون وينصب القرائن لمنع الاشتباه، ولا شك أن أفهام
الناس تختلف في فهم القرائن وأن الذي يريد الفتنة يسهل عليه أن يتبع ما تشابه من
القول لأن له معنى يدل على ما وضع له في الأصل ومعنى آخر تناوله بالكناية أو
الاستعارة وغيرها من ضروب التجوز وهو المراد فيحمله على غير المراد ويضل
به الناس فإذا أطلق النبي على الله تعالى لفظ (الأب) في مقام بيان الرحمة والعناية
حمله أهل الزيغ على الأبوة الحقيقية وقالوا: إنه أبوه الذي ولده، ويصرفون من
يفتنونهم عن القرائن العقلية التي تحيل الأبوة الحقيقية على الله تعالى، والقرائن
القولية التي تطلق لفظ الأب على غير النبي كقول المسيح عليه السلام إن صح
النقل -: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) وكذلك يقال في لفظ الابن إذا أطلقه النبي
على نفسه يحمله أهل الزيغ على البنوة الحقيقية مع قيام القرائن العقلية واللفظية
على إحالته كسابقه، ومن ذلك إطلاقه على صانعي السلام فيما ينقلونه عن المسيح
عليه السلام.
وإذا أراد المعترض أن يعرف الفرق بين بيان القرآن وبيان الإنجيل وبين
أتباعهما، فلينظر إلى أثر المتشابهات في الأمتين، يجد أن قومه (النصارى) كلهم
قد اتبعوا ما تشابه مما حفظوا من كتابهم ابتغاءَ تأويله. وأن المسلمين قد اتبعوا
المحكم وردوا المتشابه إليه فجمعوا بين العقل والنقل إلا فريقًا منهم لا يقام له وزن
كالباطنية والمجسمة.
(الشاهد الثاني) زعم أن قوله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: 28)، وقوله: عز وجل في سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَن
لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) يناقضان قوله
جل شأنه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) قال: لأنه أثبت فيها الأمر بالفسق وهو أمر
بالفحشاء، وإهلاك أهل قرية لأن مترفيهم فسقوا فيها كما أمروا ظلم.
لا أقول إن صاحب هذا القول سيئ الفهم إلى هذه الدرجة ولكنني أرجح أنه
متعمد للتحريف فإن من له أدنى شمة من فهم اللغة والعقل لا يستجيز أن يعمد إلى
قول سيد في عبده: إنني أمرت عبدي فخرج عن طاعتي فعاقبته، فيفسره بأنه أمره
بالخروج عن طاعته فخرج فعاقبه على الامتثال. الفسوق في اللغة: الخروج عن
الشيء يقال: فسقت الرطبة عن قشرها وفسقت الفأرة عن جحرها، والفسوق عن
أمر الله هو الخروج عنه وعدم امتثاله. أما حذف معمول (أمرنا) فهو ما تقتضيه
البلاغة هنا؛ لأن المقام مقام بيان جزاء الفسوق عن أمر الله تعالى أيًّا كان، لا بيان
ضروب التكليفات الشرعية، وما يأمر الله تعالى به معروف بالإجمال. ولا يخطر
على بال عاقل أن يقدِّر أحد هذا المعمول بنقيض ما تقضي به الضرورة فيقول: إن
الله قال أنه أمر هؤلاء الناس ولم يقل بماذا أمرهم، ونقول نحن: إنه أمرهم
بالفسوق! ! هذا غير معقول في نفسه ثم إن العبارة تنافيه بذاتها فإن الفسوق يقتضي
أن يكون هناك شئ يفسق عنه، فإذا كان الأمر متعلقًا بالفسوق نفسه يكون أمرًا بلا
شيء، مثاله أن تقول لرجل: أمرتك بأن تخرج، ولم يكن في شيء يخرج عنه
حين أمرته لا حسي كبيت ولا معنوي كعمل.
فإن قيل: إن الأمر في الآية ينصرف إلى الفسوق عما هم فيه مما يختص بهم
في الجملة، نقول إن ما كانوا فيه هو الترف فيكون معنى قوله في الآية (ففسقوا
فيها) أنهم خرجوا من الترف ورجعوا إلى القصد وهذا نقيض ما تدل عليه الآية
بالبداهة وهو أن الاستمرار على الترف بعد الأمر بما جرت عادة الله تعالى أن ينزل
وحيه به من الأمر بالقصد والاعتدال في الأخلاق والأعمال هو الذي يكون سبب
التدمير، وينتهي بالآثم إلى شر مصير.
هذا الذي قلناه متبادر إذا تجلى لأي عامي في لغته يتيسر له أن يفهمه بلا
توقف، وليس هو من المتشابهات التي تبتغى بها الفتنة بالتأويل والتحريف. وللآيات
وراء هذا معانٍ عالية، وفيها معارف سامية، وهي أرفع من أن يدركها ذلك
الطرف الحسير، أو يتطاول إليها ذلك الفهم القصير، ذلك أن آية (الأنعام) وآية
(الإسراء) تهديان إلى أنفع سنن الله في نظام نوع الإنسان ونواميس الاجتماع
البشري. تدل آية (الأنعام) على أن الأمم لا تهلك بمجرد التلبس بظلم تكون
عليه مادام أهلها غافلين عما يجب عليهم الأخذ به من ضده، لا ينذرهم به منذر ولا يدعوهم إلى الحق داعٍ. فإذا جاء النذير وقذف بحقه على باطلهم وبعدله على
ظلمهم يدمغه؛ فإذا هو زاهق وإذا بالأمة في عداد الهالكين وفي آية أخرى:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ؛ والمراد
بالظلم: الشرك، كما روي من حديث ابن مسعود مرفوعًا عن أحمد والبخاري
ومسلم والترمذي في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام: 82) يعني أن الأمم لا تهلك وإن كانت مشركة
بالله تعالى مادامت مُصلحة في أعمالها وأحكامها. ويطابق هذا قوله تعالى:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً 0000} (الإسراء: 16) الآية، فهذه الآيات
تعلمنا أن سعادة الأمم أو شقاءها في هذه الحياة إنما هو نتيجة سيرتها في أعمالها.
لا أن السعادة هبة إلهية على ما لا يُعلم سره والشقاوة نقمة إلهية على ما جُهل أمره،
وتعلمنا أيضًا أن الباطل إنما يطول أمده وتُبطئ نتيجته في الإهلاك، إذا لم يكن هنالك
حق يصادمه. ومن هنا أخذ الأستاذ الإمام كلمته الحكيمة: إنما بقاء الباطل في غفلة
الحق عنه، ومن هنا نفهم السر في استيلاء الإفرنج على الأمم الشرقية وهو أنهم
مصلحون في أعمالهم، وقد أوضحنا هذه المسائل من قبل في مقالات متعددة. وحسبنا
هذا في الرد على شبهة المحرفين.
(الشاهد الثالث) زعم أن قوله تعالى في فرعون {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ
جَمِيعاً} (الإسراء: 103) يناقض قوله عز وجل فيه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ، وقد شنع هنا على المسلمين أنهم أوَّلوا
الآية وهو يزعم أنه نجا ببدنه وروحه وإن كانت الآية ناطقة بأن بدنه هو الذي
ينجو. ومحل الشبهة عنده في لفظ (ننجيك) فإن ظهور الجثة بعد الموت بالغرق لا
يسمى تنجية، وفاته أن هذا التعبير للتهكم على حد {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: 21) ومن تتبع ضروب التجوز في كلام البلغاء وحاول حملها على
الحقيقة - وهي لا تصح عليها - يمكنه أن يموه بأن أكثر الكلام البليغ كذب، على أن
الذي ينجو من الغرق يطلق عليه اسم الغريق فلو فرضنا أن الله تعالى نجى فرعون من
الغرق الذي ألمَّ به وبقومه لما كان قوله (أغرقناه) مناقضًا لقوله (ننجيك) فقد
يغرق إنسان إنسانًا ويريه خطر الهلاك ثم ينتشله وينجيه، ولكن هذا ليس مرادًا هنا.
الحكمة في ظهور بدن فرعون موسى بعد الغرق ظاهرة فإنه استعبد الناس
وادعى الألوهية بما موّه على الجاهلين بسحره. ولو لم يظهر بدنه لادعى
المغرورون فيه ما يدعي عبَدَة الحاكم العُبَيدي إلى اليوم - من أنه قد عرج إلى عالم
أعلى. وارتقى إلى مقام أسمى. فهذا هو معنى قوله تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ولو نجا بروحه وبدنه لما كان في ذلك
آية على انتقام الله منه لكفره بنبيه وإيذائه لقومه.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الثالثة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل
(النوع الثالث: انفلاق البحر وجفافه والمشي على الماء)
قال السبكي: وكل ذلك كثير وقد اتفق مثله لشيخ الإسلام وسيد المتأخرين تقي
الدين بن دقيق العيد، وأقول: يا ليت لنا من هذا الكثير الذي يدعيه واقعة واحدة
منقولة بالتواتر الصحيح المستوفي الشروط التي يذكرها السبكي في جمع الجوامع
الذي ألفه لكد الأفهام، لا لتُراعَى أحكامه في مثل هذا المقام. وفي خاتمة الفتاوى لابن
حجر الهيتمي قال في الرسالة عن بعضهم: كنا في مركب فمات رجل منا فأخذنا في
جهازه فلما أردنا أن نلقيه في البحر جف، فحفرنا له قبرًا ودفناه فارتفع الماء
والمركب وسرنا.
وكل ما في المباحث حكايات عن مثل هذا البعض المجهول وأصحاب المراكب
المجهولين. ولو حكَّمنا فيها أصول المسلمين لعددناها من الموضوعات أو الواهيات،
وإن رويت على أنها من المعجزات لانقطاع أسانيدها، وجهالة رواتها، وأضف إلى
ذلك هنا شبهة الهوى ومخالفة شروطهم في الكرامة، فقد علمت ما قاله السبكي من
اشتراط الضرورة والخفاء وأين هما مما نحن فيه؟ نعم، إن قبول هذه الحكايات
يليق بأهل دين لا سند لهم في أصوله ولا في فروعه، وإنما هي الثقة العمياء بأن
روح القدس حل في رؤسائهم وقدّيسيهم فعملوا العجائب، ووجب قبول كل ما يؤثر
عنهم وإن تناقضت قضاياه، واستحال مغزاه.
إذا ثبت انفلاق البحر ثبوتًا قطعيًّا فلا شك أنه يكون من الخوارق التي يتعذر
تأويلها وتعليلها. وأما المشي على الماء فيحتمل التلبيس والتأويل بحسب الأشخاص
والمواقع والأزمنة، ففي بعض البلاد يجمد ماء النهر لشدة البرد مدة ثم يسيل، ويقال
أن الإفرنج اخترعوا أحذية يمشون بها على الماء. بل الذي يعول عليه حقيقة في
تعليل المشي على الماء إذا فرضنا أنه ثبت ثبوتًا قطعيًّا لا يحتمل التأويل هو
غلبة الروحانية التي يخف معها الجسد خفة عجيبة على نحو ما يحكونه عن
المشتغلين باستحضار الأرواح في أوربا، فإن لهم في ذلك حكايات تقرب من بعض
حكايات الصوفية، على أن هؤلاء إنما يوجهون نفوسهم إلى الأرواح يكلمونها
ويرونها ولم يعنوا بأن يكونوا هم روحانيين كما يفعل الصوفية في رياضاتهم. نعم،
إن من الناس من لا يصدق ما ينقل عن هؤلاء وعن أولئك ومن الناس من يصدق لأن
تشابه الحوادث وتصور العلة العامة لها يقربها من العقل.
وما نبغي إثبات ما ينقل ولا نفيه وإنما نبغي إقناع من يصدق لثقته بالناقلين أو
من يشاهد شيئًا من أعمال الحاضرين بأن ذلك غير خارج عن سنن الله تعالى في
الخلق وأنه ليس من الخوارق الحقيقية وإنما هو من الخوارق الإضافية أي التي تعد
خوارق بالإضافة إلى من لا يعرف طريقها كالأعمال الصناعية التي لا يعرفها إلا
بعض الناس. أرأيت إذا تعلم بعض الناس التخاطب (بتلغراف ماركوني) الذي
يكون التخاطب به بدون واسطة الأسلاك وذهبوا إلى بلد أو مملكة وجعلوا يتخاطبون
به على البعد الشاسع، ألا يعد ذلك الناس منهم أكبر الخوارق؟
وقد ذكروا أن الواسطة الذي يحضر الروح يخف وزنه مدة حضور الروح إلى
نصف ما كان ومن كان بهذه الخفة يمشي على الماء بسهولة، وسيأتي أن بعضهم
كان يطير في الهواء، ونقل مثل هذا أيضًا عن بعض الفلاسفة وسنوسع القول في
الأمور الروحية في موضع آخر.
(النوع الرابع: انقلاب الأعيان)
قال السبكي: حكي أن الشيخ عيسي الهتار اليمني أرسل إليه شخص مستهزئ
إناءين ممتلئين خمرًا فصب أحدهما في الآخر وقال (بسم الله كلوا) فإذا هو سمن لم
يُر مثل لونه وريحه (قال) وقد أكثروا في ذكر نظير هذه الحكايات.
أقول: لا يوجد نوع من الأنواع يأتي فيه التلبيس والشعوذة مثل هذا النوع ولذلك
ترى أكثر أعمال المشعوذين منه، وهو على ضربين: أحدهما الخفة والمهارة في
إخفاء شيء وإحضار غيره. وثانيهما: الاستعانة بالأعمال الكيماوية. فمن غرائبهم
في الضرب الأول أن أحدهم يأخذ ماءً من البحر في كوب ويعطيه آخر فيشربه، فإذا
هو شراب سكري. والحيلة فيه أن يكون تحت إبط المشعوذ أو الدجال (مدعي
الولاية) إناء من الجلد أو الكاوتشتك له أنبوبة دقيقة تصل إلى يده فإذا غمس الكوب
في البحر يوهم الرائي أنه ملأه ماءً - وما ملأه - ويفرغ فيه الشراب من الأنبوبة
بلطف، وقد أخبرني بعض الناس أن رجلاً من المعتقدين تناول كوبًا من زيت
البترول وسقاه فإذا هو ماء فيه سخونة وما جاءت السخونة إلا من حرارة إبطه حيث
كان الماء.
ومن الضرب الثاني أن بعض الدجاجلة الفسّاق الذين يخدعون الناس بانتحال
الكرامات أخذ أمام بعض العامة كوبًا زجاجيًّا فيه شيء من الخمر فوضعه على فيه،
فإذا هو في أعينهم لبن أبيض. والحيلة فيه أن الخمر التي كانت فيه هي من النوع
الذي يسمونه (عرقي الزبيب) ولونها كالماء حتى إذا مزجت بالماء ابيضت وصار
لونها كلون اللبن الممزوج وقد كان الماء في فم الدجال فمجه في الكأس بلطف. ولو
أردنا أن نملأ المنار بمثل هذه الوقائع التي تستغرب قبل كشف الستار عن وجه
التلبيس فيها لفعلنا، فنقل أمثالها إذا صح سنده فهناك ما يمنع من التصديق بمتنه
لاحتمال دخول الغش والتلبيس فيه على الناقلين، وأنت ترى أن هذا النوع كان من
أبواب الفسق والدجل والشعوذة والحيل.
(النوع الخامس: انزواء الأرض أو طيّها)
قال السبكي: حكوا أن بعض الأولياء كان في جامع طرسوس فاشتاق إلى
زيارة الحرم فأدخل رأسه في جيبه ثم أخرجه وهو في الحرم (قال) : والقدر
المشترك من الحكايات في هذا النوع بالغ مبلغ التواتر ولا ينكره إلا مباهت. أقول:
إن السبكي تحمس هنا فرجع إلى كتابه جمع الجوامع وتقلد حججه في الاستدلال
فزعم أن الحكايات في انزواء الأرض متواترة تواترًا معنويًّا، أي أن كثرتها تدل على
أن لها أصلاً وإن كانت كل حكاية منها لم تثبت بخصوصها وستعلم ما فيه، واعلم
أنهم لا يقصدون بانزواء الأرض وطيها أن أطرافها تجتمع وتطوى كالثوب، وإنما
يعنون بذلك قطع المسافة في زمن قصير وهو مجاز صحيح واستعمله الشعراء
وغيرهم قال:
وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها
…
أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها
وما ذكره السبكي من حكاية ولي جامع طرسوس ليس من هذا النوع وإنما تلك
زيارة خيالية أو روحانية لأنه لم يكن فيها مسير وإنما قبع ذلك الولي في مكانه
كالقنفذ فرأى نفسه في الحرم كما يرى ذلك في الحلم، فإذا كان مثل صاحب جمع
الجوامع قد اشتبه عليه الأمر فعدَّ في هذا النوع ما ليس منه فكيف تثق بسائر الناقلين
لهذه الحكايات وهم في العادة الغالبة من جهلة العوام؟ ! وإذا لم تكن الوقائع
صحيحة بالمرة فكيف يتألف من غير الصحيح دليل صحيح فنقول: إن في مجموع
الحكايات تواترًا معنويًّا؟ !
ثم إن في أنباء قطع المسافات البعيدة في الزمن القريب مواضع للتلبيس
والإيهام؛ فإن الحكايات في ذلك تؤْثر عن السائحين المتجردين، وأكثر هؤلاء خفاف
سراع أهون سيرهم الوجيف، فإذا مر أحدهم بمكان ثم رؤي في مكان آخر لا يكفي
الزمن لبلوغه إياه في السير المعتاد يتناقل الناس هذا ويعدونه كرامة ويبالغون فيه
ويغلون وينتشر الخبر لغرام الناس بنقل مثله. وعلى هذا النحو تكثر هذه الأخبار
حتى يدعي مثل التاج السبكي أنها كرامة متواترة تواترًا معنويًّا. ويدعي من لا يفهم
مثله معنى التواتر أنها متواترة تواترًا حقيقيًّا، وينسى هؤلاء أنه يوجد في البوادي
من يسابق عتاق الخيل وعشار النياق فيسبقها. والناس يعلمون أن هذا النوع من
المعاول التي هدمت الدين، فإن كثيرًا من الدجالين الذين يدعون الولاية يتركون
الصلاة ويزعمون أنهم لا يصلون إلا في حرم مكة فيصدقهم الجاهلون المخدوعون.
هذه إشارة إلى طريق التأويل والتلبيس التي تقل معها الثقة بالنقل. وأما
التعليل بعد الاختبار الصحيح والثقة التامة بأن إنسانًا انتقل بجسمه من قطر إلى آخر
في زمن قصير لا يكفي لبلوغه إياه وإن كان أسرع من العتاق السبق، والجياد القرّح
فهو أن يقال: إن ذلك المنتقل من الروحانيين الذين تحمل أرواحهم أبدانهم فتمر بها مر
النسيم، وذلك داخل في السنن الروحية. وربما تكون في يوم من الأيام مشهورة جلية
فيعذر من كان في غير هذه الأوقات ينظمها في سمط الخوارق والكرامات ويظهر
فضل الدين بأن الروح والنفس لها وجود مستقل وسنن غير سنن الحس.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإنجيل الصحيح
(النبذة الثالثة من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي)
على هذا المنوال جرت تلك الديانات الصادرة عن الروح القدس وكل واحدة
منها تؤكد لنا أن ختام الوحي ونسخ الديانات السابقة بطريقة حاسمة قاطعة مما
تقضي بهما كتابة الرسول بولس أو قرارات بعض المجامع أو أوامر الباباوات أو
الإلهام الشخصي لبعض الناس، وكلها تحاول بلا طائل الاستناد في آخر الأمر على
الوحي الهابط على آباء الكنيسة أو على (الكاتشزم) الذي ألفه لوثير أو فيلارتيوس
وتأبى أن تعنون نِحلتها باسم أولئك المشيدين لدعائمها وتعاند في القول بأن المسيح
هو الذي أوحى إليهم بهذه التعاليم وتصر على ذلك إصرارًا لو صدقناها فيه لذهبنا
معها إلى أن المسيح نفسه هو الذي أوحي إلى أصحابها بأنه افتدى بني الإنسان بعد
سقوطهم بسبب خطيئة آدم وأن الله يتألف من ثلاثة أشخاص وأن الروح القدس هبط
على الحواريين وأن المسح باليد (في تناول الأسرار) نقله إلى القسيسين وأن
تقديس الأرواح سبع مرات مما لابد منه للحياة المسيحية وغير ذلك. وهم يحملوننا
على الظن بأن هذه الأمور كلها من تعاليم المسيح، على أننا إذا بحثنا في تعاليم
المسيح لا نجد فيها أقل إشارة إليها ولا إلى بعضها. لا جرم أن الكنائس التي تقول
بهذه الأشياء ينبغي لها أن تجهر بأنها من تعاليم الروح القدس وليست من تعليم
المسيح، فإنما المسيحيون هم الذين يعتبرون الوحي الأخير الذي جاء به المسيح كما
هو وارد في الأناجيل طبقًا لما قاله المسيح: لن يكون لكم أستاذ غيري [1] .
ربما ظن بعض الناس أن هذه المسألة ليست بذات بال وأنها من الأمور التي
لا تستحق البحث فيها ولكن مما لا مراء فيه أن القوم قد أهملوا النظر إليها بعين
الاعتبار إلى يومنا هذا، وبدلاً من بذل نهاية المجهود في تنقية تعليم المسيح من
شوائب علاقته الصناعية بالعهد القديم التي لا ترى ما يزكيها ويؤيدها، وتصفيته
من تلك الإضافات التي ألصقتها به الأهواء باسم الروح القدس - لا يزال القوم حتى
يومنا هذا يوجهون همتهم كلها إلى تقوية هذه الروابط التي لا أصل لها. ومن
غرائب المشاهدات أننا نرى الاتفاق سائدًا في هذه المسألة بين الخصمين المتعاندين
وأعني بهما المتحزبين للكنائس وأرباب الأفكار الحرة من أصحاب التاريخ.
فأما أحزاب الكنائس الذين يقولون بأن المسيح هو ثاني شخص في الثالوث
فلا يريدون أن يفهموا تعليمه إلا تطبيقه على الوحي الموضوع على لسان ثالث
الثلاثة (أي الروح القدس الذي نطق بلسان الرؤساء) كما هو وارد بالعهد القديم
وفي أوامر المجامع وقرارات آباء الكنيسة. وتراهم ينادون ويبشرون بأمور هي
منتهى الحماقة ويؤكدون مع ذلك بأنها من دين المسيح.
وأما الآخرون - أي أولئك الذين يمتنعون من اعتبار المسيح إلهًا - فهم أيضًا
يدركون عقيدته، لا كما أتى هو نفسه بها ولكن على الوجه الذي صوّرها فيه بولس
وغيره من المفسرين، فأولئك العلماء مع اعتبارهم المسيح فردًا من أفراد البشر لا إلهًا
يحرمونه من الحق الطبيعي الذي لكل واحد من الناس، ألا وهو أن يكون مسؤولاً عن
أقواله فقط وغير مؤاخَذ بما يقوله عنه غيره.
وحينما حاولوا إيضاح تعليم المسيح نسبوا إليه أفكارًا لم تخطر قط على باله
وهو في قيد الحياة. فإن القائمين بهذا المذهب وفي مقدمتهم (رنان) المحبوب عند
الجمهور لم يروا وجهًا لإجهاد أنفسهم في التمييز بين ما قال به المسيح وبين ما
نسبه إليه مفسرو كلامه زورًا وبهتانًا. ولعدم زيادتهم على الكنائس في الاهتمام
بالتعمق في فهم تعليم المسيح الصحيح انساقوا إلى البحث في حوادث حياته وفي
الحوادث التاريخية التي وقعت في عصره لمعرفة أسباب نفوذه وشيوع أفكاره. على
أن هذا المبحث هو كما يظهر آخر خطأ يجوز للمؤرخين ارتكابه فإن المسألة التي كان
عليهم السعي في حلها هي ما يأتي:
منذ ثماني عشرة مائة من السنين كان رجل فقير يعيش في بعض الجهات
وكان يصدر عنه بعض الأقوال، فاضطهده الناس وشنقوه ثم نسيه العالم كله كما
نسي آلافًا من الحوادث المماثلة لأمره، فلم يذكره أحد من العالمين ولكن يظهر أن
بعضهم بقيت في ذاكرته كلمات هذا الإنسان، فأعادها على مسمع من ثانٍ فثالت،
ومازالت آخذة في الشيوع والانتشار، حتى أن ألوف الألوف من الناس سواء
فيهم العقلاء والمجانين والعالمون والجاهلون اعتقدوا اعتقادًا مطلقًا بأنه هو الله
وحده! [2] وهذا من غرائب مظاهر الكون فكيف يكون تفسير ذلك؟ !
قالت الكنائس: إن هذا الرجل - أي المسيح - هو الله حقيقة. والأمر واضح
في هذه الحال لا يحتاج إلى بيان؛ ولكنه إذا لم يكن هذا الإنسان هو الله فكيف نفسر
اعتبار الناس له إلهًا دون سواه؟ !
أما علماء المذاهب التاريخية فقد عنوا عناية بالغة بجمع الخصائص المتعلقة
بحياة ذلك الإنسان، وهم في الحقيقة لم يجمعوا منها ولا واحدة سوى ما وجدوه في
الأناجيل وفي تاريخ (فلافيوس يوسيفوس) ولم يتفطنوا إلى أنهم لو توصلوا إلى
الوقوف على هذه الخصائص كلها، ووفقوا إلى إعادة حياة المسيح تامة بأصغر
تفاصيلها بحيث عرفوا ما أكله في يوم كذا ويوم كذا وعرفوا في أي منزل أمضى
تلك الليلة - لكان هذا السؤال الجوهري يبقى قائمًا ولا جواب عليه وهو: لماذا كان
لعيسى لا لغيره هذا التأثير في الناس أجمعين؟ ! [3] . الجواب المطلوب لا يأتي
من العلم بالطريقة التي ولد بها عيسى أو كانت تربيته على مقتضاها أو غير ذلك
ولا يستنبط من العلم بالحوادث التي وقعت في رومية في ذلك العصر وكانت داعية
الأمم إلى الاعتقاد بالخرافات والأضاليل ونحو ذلك. وإنما يُنال الجواب بالبحث في
أمر واحد وهو معرفة التعليم الذي جاء به المسيح علمًا مؤكدًا يقينيًّا ومعرفة كُنه هذا
التعليم الذي حمل كثيرًا من الناس على جعل الرجل فوق سائر الناس واعتباره إلهًا
منذ ثماني عشرة مائة من الأعوام.
الباحث الذي يريد حل هذه المعضلة يجب عليه قبل كل شيء أن يجتهد في
إدراك تعليم المسيح وأعني به تعليمه الصحيح دون تلك التفاسير الغامضة الشاذة
التي ذهب إليها بعض الناس، وهو أمر أهمله الباحثون إلى الآن، فإن علماء التاريخ
من أهل النصرانية فرحون بما ذهبوا إليه من أن المسيح ليس هو الله ولذلك تراهم
لا ينفكُّون يسردون الدلائل على أنه لم يكن فيه شيء من الألوهية ولكن لا يتفكرون
في أمر بسيط لا يصح أن يغيب عن الأذهان وهو أن الاحتجاج على كون المسيح
واحدًا من الناس مجردًا من كل صفات الألوهية يزيد المسألة غموضًا وبعدًا عن
الأفهام. [4] مثل ذلك صاحبنا رنان أو الموسيو (هافيت) فقد لاحظ بسذاجة لطيفة أن
المسيح لم يكن فيه قط شيء (مسيحي) ! أما الموسيو سوري فقد أظهر ما ليس
فوقه شئ من الابتهاج والارتياح حينما ذهب إلى أن المسيح (كان رجلاً بغير تثقيف
وأنه كان من ذوي العقول الساذجة) !
ليس الأمر الجوهري هو إثبات عدم ألوهية المسيح ولا أن تعليمه ليس إلهيًّا
ولا إيراد الدلائل على أن المسيح لم يكن كاثوليكيًّا وإنما هو فهم عناصر هذا التعليم
الذي ظهر للناس في أسنى المظاهر وأجلاها وأعلاها وأغلاها حتى قالوا ولا يزالون
يقولون بأن الرجل الذي قال به إنما هو الله. هذا هو الأمر الذي حاولت البحث فيه
والذي نجحت في الوصول إليه والوقوف عليه وذلك بالنسبة إلى شخصي على الأقل،
وهو ما أريد إبلاغه إلى إخواني.
يخيل إليَّ أن القارئ لهذا الكتاب إنما هو فرد من ذلك المجتمع العظيم الذي
يتألف منه فريق المتمدنين الذين تهذبوا ودرجوا على الاعتقاد بقول إحدى الكنائس
ومنعوا أنفسهم على الدوام من الجهر بالانفصال عنها مع ما ثبت لهم من مناقضة
تلك العقائد لما أرشدتهم إليه عقولهم. وأوحت به ضمائرهم. سواء كان ذلك مبنيًّا
على صبابة باقية من الحب والاحترام لذلك التعليم المسيحي أو لاعتبارهم النصرانية
كلها خرافة، فهم لا يرتبطون بها إلا في الظاهر. إذا كانت هذه حال القارئ فإني
أرجوه أن يعمل بالمثل السائر: (ألقِ بالخلعة في النار إذ صارت مباءة للقُمَّل) !
ولكنني أرجوه من باب أولى أن يتفكر أن الذي نفر منه طبعه وسمعه وظهر له بمظهر
الخرافات ليس هو التعليم الصادر عن المسيح، وأنه من الظلم مؤاخذة المسيح
بالحماقات التي علقها الناس بعده على تعليمه. وغرضي الوحيد إنما هو تحديد تعليم
المسيح في شكله الخاص به كما وصل إلينا أي بواسطة الأقوال والأفعال التي بلغنا
بطريق التواتر أنها أقوال المسيح وأفعاله [5] ومن كان من القراء من الصنف الذي
سبق لي وصفه فإن كتابي يريه أن النصرانية ليست مزيجًا من الأمور العالية
والأمور المبتذلة وأنها ليست من الخرافات بل إنها عبارة عن التعليم بما وراء
الطبيعة الذي توصلت إليه الإنسانية إلى الآن بطريقة أخلاقية تهذيبية وطيدة الأركان
ثابتة البنيان صافية من الشوائب مكملة من كل جانب، وأنها التعليم الذي ترتكز
عليه بغير إدراك جميع مظاهر الإنسانية العالية في السياسة والعلم والشعر والفلسفة.
أما إذا كان القارئ من تلك الفرقة القليلة التي لا تزال في كل يوم آخذة في
الاضمحلال وأعني بها أولئك المتمدنين الذين ما لبثوا مرتبطين بتعاليم الكنيسة
ويقبلون الدين لراحتهم الداخلية لا لغرض خارجي فإنني أرجو هذا القارئ أن يسائل
نفسه عن أعز الأمرين لديه: أراحته أم الحقيقة؟ فإن اختار الراحة سألته أن يقفل
هذا الكتاب، وأما إذا جنح إلى الحقيقة فإنني أسأله أن يعتبر تعليم المسيح المبسوط في
هذا الكتاب يناقض كل ما علَّمه إياه الناس وأنه بإزاء هذا التعليم في موقف المسلم
بإزاء النصرانية، فليس عليه بعد ذلك أن تكون العقيدة المشروحة في هذا الكتاب
توافق عقيدته أو تخالفها بل أن يعلم أيهما أكثر انطباقًا على عقله وقلبه، أعقيدة
كنيسته أم عقيدة المسيح الممحضة؟ وعليه بعد ذلك أن يختار لنفسه أحد الأمرين:
الرضى بقبول العقيدة الجديدة أو البقاء على عقيدة كنيسته.
وأما إذا كان القارئ من أولئك الذين يذهبون إلى احترام عقيدة إحدى الكنائس
والتسليم بها في الظاهر لا لصحة هذه العقيدة ولكن بالنظر إلى اعتبار المنافع التي
يجدونها فيها، فهذا القارئ يجب عليه أن يقول لنفسه بأنه ليس من المتهِمين (بكسر
الهاء) بل من المتهَمين (بفتحها) مهما كان عدد الذين يماثلونه في الرأي ومهما
كانت سطوتهم ومهما كانت تيجان الملوك معهم، وشهادات الأكابر منهم مصدِّقة لما
بين أيديهم، وليس يكون ذلك القارئ من الذي تقع عليهم التهمة أمامي بل أمام
المسيح، وينبغي لهذا القارئ أن يقول لنفسه إنه لن يطالَب (بفتح اللام) بأي
برهان مما يمكنه الإتيان به من الدلائل، فقد جاء بها السابقون عليه بزمان طويل وأنه
لو أتى بألف حجة على براءته لما كان في موقف يضطره إلى تزكية نفسه.
نعم، إنه يبقى عليه أن يزكي نفسه أولاً من وصمة الكفر والتدنيس اللذين
ارتكبهما بجعل عقيدة المسيح الذي هو الله (تعالى الله عن هذا الزعم) كعقيدة
اسدراس والمجامع وثاوفليكتس وإفراغه كل قواه العقلية لتبديل كلمات الله حتى
يجعلها موافقة لكلمات البشر. ثم يجب عليه أن يزكي نفسه ثانيًا من التجديف الذي
ارتكبه بحمل كل ما في قلبه من الخرافات على (حساب) المسيح الذي هو الله
(سبحان الله) ثم يبقى عليه في آخر الأمر أن يزكي نفسه أيضًا من الخيانة التي
ارتكبها بإخفائه عن الناس دين الله الذي جاء إلى الدنيا ليأتي لنا بالخلاص والسلام
وبدسّه دين الروح القدس بدل هذا الدين وحرمانه ألوف الألوف من الناس من
الخلاص الذي جاء به المسيح لأجل الناس وبإيجاده الخلاف في الشيع والمقالات
وبحكم بعضها على بعض وغير ذلك من ألوف الشناعات التي يسترها بالاسم
المقدس اسم المسيح.
لذلك أقول ليس للقراء الذين من هذا الفريق إلا أن يختاروا أحد أمرين: إما أن
يتوبوا بخضوع وخنوع توبة نصوحًا ويرجعوا عن أكاذيبهم. وإما أن يضطهدوا ذلك
الذي جاء ليلقي عليهم التهمة بما كسبوه من السيئات التي لا يزالون سببًا في وقوعها،
إذا لم يعدلوا عن أكاذيبهم فليس لهم سوى أمر واحد هو اضطهادي أنا، وهذا هو ما
أنتظره بنشر كتابي هذا. وإنني لأنتظره بفرح عظيم لا يخالجه سوى مكنون
الخوف من ضعفي لأنني فرد من بني الإنسان. اهـ
(المنار)
لقد أظهرت لنا هذه المقدمة قوة كاتبها في أعلى درجها كما أظهرت لنا ضعفه
في أسفل دركه. أما قوته فهي أنه أدرك بذهنه الوقاد وعقله المطلق من أسر التقليد
والاستعباد أن إنجيل المسيح لم ينقل نقلاً صحيحًا ولم يحفظ كله وأن الأهواء
تلاعبت أيضًا بتفسير ما نقل فأفسدت ما بقي فيه من ذماء الإصلاح والحق وأن أشد
الناس عبثًا في تعليم المسيح بولس زعيم النصرانية.. إلخ ما قرأت في المقدمة.
وأما ضعفه فهو أنه نظر في سن الكبر وطور الزهد واليأس إلى تلك المواعظ
التي قارع بها المسيح مترفي اليهود ومتنطِّعيهم وتأمل في غلو النصارى في المسيح
وادعاء الألوهية له بإغراء بولس ومن دخل فيه من الوثنيين فرأى في المواعظ قوة
إلهية وهي قوة الوحي ورأى الناس فُتنوا بالمسيح فاستدل بذلك على أنه هو الله! !
(تعالى الله عن ذلك) .
هذا، وقد وقع في س8، ص229 لفظ:(الفارسيانيين) وصوابه
(الفِرِّيسيين) وفي س21، ص229 جملة:(لا يلزم - كما يظهر - على تعليق) ،
وصوابها: (لا يلزمه - كما يظهر - تعليق) .
_________
(1)
المنار: الخطاب خاص بتلاميذه الذين تنقل الكنائس عنهم أن تلقوا تعليمًا آخر من الروح القدس، ولهم أن يردوا على الفيلسوف بأن الروح القدس ليس غيره؛ لأنه على اصطلاحهم عينه؛ لأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة عين الآخرين.
(2)
المنار: إن الناس لم يقولوا هو الله لأجل الكلمات التي ينقلونها عنه؛ فقد نقل أحسن منها عن سليمان ولم يقولوا إنه إله ومنهم من لم يقل إنه نبي وإنما ذلك بولس وأمثاله قالوا هذا القول وادعوا أن روح القدس يملي عليهم والخوارق تؤيدهم فصدقهم الناس لاستحواذ الوثنية عليهم وشاع ذلك والفيلسوف ينكر عليهم إملاء روح القدس ويجحد خوارقهم ولكن إعجابه بكلمات المسيح عليه السلام أنسته أكبر سيئاتهم؛ فوقع في الأوهام! .
(3)
المنار: إنه لم يكن للمسيح تأثير في الناس أجمعين كما زعم، وإن المعتقدين ببوذا أكثر من المعتقدين بالمسيح على الوجه المعروف عند النصارى.
(4)
قضى الله أن تكون السخافة حليفة لكل مَن يتكلم في الدين من غير طريق الإسلام وإن ارتقى بعلمه إلى درجة الفلاسفة العظام، فهذه المسألة محلولة بمثل قوله تعالى:[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ](الكهف: 110) ، فالمسيح بشر كسائر الناس إلا أنه امتاز بأن الله تعالى أوحى إليه والوحي لا يرتقي بالموحَى إليه إلى مقام الألوهية ولا يعطيه شعبة منها على أنها ليست متشعبة بل هي الوحدة الحقيقية.
(5)
المنار: إن أقوال الفيلسوف السابقة في هذه المقدمة تنفي هذا التواتر؛ فإنه قال: إن أقوال المسيح لم تنقل في عهده برمتها بالكتابة ولا بالحفظ، وإنما كان يحفظ بعضها الواحد فيلقيه إلى ثانٍ ثم يشتهر بعد زمن، وإنما يتحقق التواتر بنقل العدد الكثير عن المسيح نفسه ونقل مثلهم عنهم طبقة بعد طبقة بلا انقطاع.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأسئلة والأجوبة
صخرة بيت المقدس
(س1) : السيد أحمد منصور الباز بطوخ القراموص:
ما رأي سيادتكم في الصخرة الموجودة ببيت المقدس هل هي مرفوعة في
الهواء كما يزعم بعضهم وهل رفْعها كان معجزة للنبي؟ نرجوكم إظهار الحقيقة
ورفع الّلبس.
(ج) : إننا قد زرنا المسجد الأقصى ورأينا الصخرة وعرفنا منشأ الشبهة في
أقاويل الناس فيها، على أنها ليست مرفوعة في الهواء. ذلك أن الداخل في الحرم
يرى في صحنه الفسيح بناءً مرتفعًا يصعد إليه بالسلالم وسطح هذا البناء الواسع
مرصوف بالبلاط وفيه قباب أعظمها وأكبرها وأكثرها زخرفا قبة الصخرة وبالقرب
منها قبة يسمونها قبة المعراج يقولون إن النبي e عرج منها، والصخرة موضوعة
في قبتها وقد جعلت سقفًا لمغارة صناعية تحتها لها باب ينزل إليه بسلم قصير. فهم
يقولون إن الصخرة كانت في الهواء حيث هي الآن، وإن الناس بنوا تحتها هذا
البناء ووصلوه بها، وشبهتهم أن الصخرة مرتفعة عن أرض الحرم التي هي الآن
سطح الحرم الأصلي الذي تحت الأرض. وفاتهم أن رفع الصخرة من أرض الحرم
الذي في الأرض أو سطحه الذي هو صحن المسجد لهذا العهد متيسر للإنسان ويوجد
له نظائر في مباني الغابرين والحاضرين.
***
حجارة الوقود بجوار الكليم
(س2) : ومنه هل في الحجارة التي بجوار سيدنا موسى معجزة له أن تكون
وقودًا في تلك الأرض وإذا نقلت منها تكون كسائر الحجارة لا تشتعل؟
(ج) : إنه لا يوجد في الدنيا حجارة تشتعل تكون وقودًا إلا بسبب طبيعي
ولا معنى لهذه المعجزة الآن والناس متَّهَمون جميعًا بنقل الغرائب فيجب التحري
التام فيما ينقلون منها فمن تحرى عَلِمَ ومن لم يتحرَّ وهم.
***
شمهورش قاضي الجن
(س3) السيد حسين السبلجي بمصر: يزعمون أنه كان للجن قاضٍ يقال له
شمهورش وأنه كان يتلقى العلوم بالأزهر وكان يحضر دروس الشيخ الباجوري
ويسأله عن بعض المسائل التي تشكل عليه على مرأى من الناس ومسمع، وقد
حضرت مناظرة في ذلك بين فريقين منكر ومصدق، فأبى المصدق أن يرجع إلا
بفتوى دينية وهي ما ننتظره من المنار الأنور.
(ج) : إن الجن من العوالم الغيبية واسمهم يدل على خفائهم واستتارهم وقال
الله في إبليس وهو من الجن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) وقد نقل عن الإمام الشافعي تشديد عظيم على من يدعي رؤيتهم
حتى قيل أنه أفتى بكفره لهذه الآية. وقد اختلف النقل عن الصحابة في رؤية النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فروي عن ابن مسعود أنه رآهم، وروي عن ابن
عباس أنه لم يرهم، وأنه لو رآهم لما قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) وقال بعض العلماء: إن ابن عباس قال بما يدل عليه
القرآن وابن مسعود قال بما ثبت عنده ولا منافاة بينهما.
وادَّعى بعضهم أن رؤيتهم تكون كرامة للأولياء وسيأتي البحث فيه في موضعه
من مقالات الخوارق والكرامات ولكن لم يقل أحد من المسلمين ولا من غيرهم: إن
الجن يظهرون ويسألون العلماء على مرأى من الناس ومسمع. وإن للناس من
الحكايات عن الجن في كل قطر وكل شعب ما يكاد يصل بهم إلى حد الجنون. والله
يعلم إنهم لكاذبون.
***
الدليل على وجود الجن
(س4) بكير بن سماية بالجزائر: هل يوجد دليل على وجود الجن؟
(ج) إن وجود أي شيء من الموجدات لا يعرف بالأدلة العقلية وإنما يعرف
بالحس أو بالخبر الصادق، فإننا نعتقد بوجود كثير من الحيوانات والنباتات والمعادن
ولم نرها. أما العقل فإنه يدلنا مع الاختبار بأن في هذا الكون موجودات كثيرة لا
نعرفها وترون في أصغر الكتب الطبيعية (كالنقش في الحجر) للدكتور فانديك أن في
هذا الكون عوالم لا نعرفها لأنها لا تدرَك بحواسنا هذه ولو خلق لنا حواس غيرها
لأدركنا ما لا ندركه الآن.
الجن عالم خفي أو غيبي أخبرنا بوجوده الأنبياء المؤيدون من خالق الكون
بالوحي والإلهام فوجب التصديق بذلك. وإننا نرى الاعتقاد بوجودهم فاشيًا في جميع
الأمم والشعوب الهمجية والممدنة الوثنية والموحدة والملحدة. وإننا نعد من نوع الجن
هذه الأحياء الصغيرة التي لا ترى إلا بالنظارات المكبرة فاللفظ اللغوي (جن)
يتناولها وفي الحديث القائل بأن الطاعون من وخز الجن ما يدل على ذلك والله أعلم.
***
الإيمان بخاتم النبيين
(س5) عبد الحميد أفندي نجيب بنيابة الزقازيق: هل يكون إيمان المسلم
صحيحًا إذا اعتقد أن رحمة الله تعالى لا تسع مَن لا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه
وسلم ومات على ذلك وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156) .
(ج) إن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء حتى المشركين فإنهم إنما يعيشون
برحمته ويتمتعون بفضله ومن رحمته بالعالمين أن أرسل إليهم خاتم النبيين يعلمهم
الكتاب والحكمة ويزكيهم. ولا توجد طريقة لترقية الروح وتزكيتها تزكية تستوجب
بها الرحمة الخاصة في الآخرة إلا شريعته وملته ولذلك قال عز وجل بعد بيان أن
رحمته وسعت كل شيء -: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ} (الأعراف: 156-157) الآية.
فمن بلغته دعوة هذا النبي الكريم على وجهها وأعرض عنها فلا يعتد بإيمانه.
ولكن إذا بلغته على غير وجهها أو نظر بإخلاص وبحث فلم يظهر له صدقها فهو
معذور وتقدَّم بسط هذا المعنى في (المنار) غير مرة.
***
ترجمة القرآن
(س6) رضاء الدين أفندي قاضي وعضو الجمعية الشرعية في أوفا
(الروسية) : نشكر لكم بما لا مزيد عليه ما كتبتم في المنار جوابًا عن سؤالي في
مسألة حدوث العالم فإنا طالعناه مع الأحباب والعلماء الكرام بمزيد الشوق وعجبنا من
سعة اطلاعكم وبتبحركم في الفنون. ثم إني أعرض على حضرتكم سؤالاً آخر وهو:
هل يجوز ترجمة القرآن الشريف إلى اللغات الأعجمية كالفارسية والتركية
وغيرهما؟ ونسمع أن بعض الهند نقله إلى لغة الأوردو فهل ذلك صحيح وما حكم
الشريعة في ذلك؟ نرجو من حضرتكم الجواب في أحد أعداد المنار لتكون الفائدة
عامة لنا ولغيرنا.
(ج) إن هذا القرآن عربي {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ
آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) ومن مقاصد الإسلام العالية جمع البشر
على دين واحد ولغة واحدة لتكمل وحدتهم. وتتحقق أخوتهم. وقد بينا هذه الحكمة
من قبل ولا سبيل إليها إلا بتحتيم بقائه عربيًّا. وأن بقاءه عربيًّا داخل في معنى حفظ
الله له. فترجمته غير جائزة وغير متيسرة فإنه معجز في بلاغته وتأديته للمعاني
ولن يستطيع أن يترجمه إلا من يصل إلى درجة الإعجاز في اللغة التي يحاول نقله
إليها ويكون مع هذا في فهم الأساليب العربية منقطع القرين، وفي فهم الإسلام
ومعرفة حقائقه آية في العالمين، كلا إنني موقن بأن ترجمة القرآن مستحيلة ولا
يوجد في البشر من يستطيع أن ينقله إلى لغة أخرى بحيث يَفهم قارئ الترجمة كل ما
يمكن أن يفهم من القرآن العربي المبين، وإن من أكبر الجرائم والجناية على
الدين أن يحاول المسلمون هذا الأمر فيكون عند التركي قرآن تركي وعند الفارسي
قرآن فارسي وهلم جرّا. وقد عثر بعض العلماء فقال بجواز القراءة بالفارسية لمن
عجز عن العربية ولكن طبيعة الإسلام لفظت هذا القول وتركته كالشيء اللقا، ولم
يعمل به أحد من المسلمين، مع احترام قائله؛ لأنه لم يكن سيئ القصد. ولو أخذ
الناس بهذا القول لما انتشرت اللغة العربية في الأقطار الإسلامية ولصدم الإسلام
صدمة أرجعته إلى جزيرة العرب وحبسته فيها.
أقول هذا على تقدير أن المراد من السؤال ترجمة القرآن وحسبان الترجمة
قرآنًا باعتبار أن العبرة بالمعاني كما قال بعض العلماء والاكتفاء بذلك. وأما إذا
ترجم شيء من القرآن بقصد جعله وسيلة للدعوة إلى الإسلام فلا بأس بذلك، لا سيما
إذا كان من تُراد دعوتهم كالإفرنج الذين يبحثون عن أصول الأديان ولا يكتفون
بعرض آراء علمائها عليهم لأنهم يعتقدون أن علماء كل دين تصرفوا فيه باجتهادهم
أو بأهوائهم. ومن يترجم القرآن بعضه أو كله لهذا الغرض فعليه أن يبين في مقدمة
الترجمة أنه نقل إلى لغة كذا ما فهمه هو من القرآن إن كان يعتمد على فهمه أو ما
فهمه فلان المفسر ويذكر من اعتمد على تفسيره، وإذا اعتمد على غير واحد من
المفسرين فليذكر أسماءهم وإذا أشار في هامش الترجمة إلى عزو كل قول إلى قائله
فذلك أفضل وأكمل.
وحسب المسلمين من الأعجمين تقصيرًا في حق القرآن أن فسروه بلغاتهم وكان
الواجب عليهم أن يجتهدوا في تعميم اللغة العربية ويفهموه بالعبارة العربية التي أنزل
بها. ولولا الصدمات السياسية التي صدمت الإسلام لظل أهل فارس ومن يجاورهم
إلى هذا الزمن ينطقون بالعربية كما كانوا في القرون الأولى للإسلام، بل لكانت بلاد
الهند والأفغان والترك وجزء عظيم من بلاد الصين كبلاد سوريا ومصر لهذا العهد
ولكان في ذلك للإسلام سياج من الوحدة لا يخرق. وإذا لم يسع المصلحون في تلك
البلاد وأمثالها بتعميم اللغة العربية فما هم بمصلحين ولا عاملين للإسلام. وليعلموا
أن اعتصامهم بالجنسية اللغوية لا يمنعهم من ابتلاع أوربا لهم في يوم من الأيام، أما
ترجمة أحد علماء الهند القرآن بلسان الأوردو فلم نسمع به ونرجو من قراء المنار
في الهند إعلامنا بالحقيقة.
_________
الكاتب: للعالم العالم ع. ز.
نظام الحب والبغض
رسالة في علم النفس وفلسفة الأخلاق
للعالم العامل ع. ز.
(تمهيد)
(1)
إن للشرور أسبابًا معظمها ناتج من أوهام باطلة. فيجب إحياء الحقائق
وإزهاق الأوهام.
(2)
إن للأوهام أبوابًا معظمها ناشئ من الجهل - البسيط والمركب -
فيفرض تنوير الأذهان بقدر العلم وإن كان قليلاً.
(3)
إن للجهل أسبابًا معظمها آتٍ من قلة القراءة والكتابة الصحيحتين.
فيلزم السعي في تكثير القراء الذين يفقهون ما يكتب - كتابة صحيحة - والكُتاب
الذين يعرفون كيف يكتبون.
(4)
إن لقلة القراءة والكتابة - الصحيحتين - أسبابًا، معظمها صادر عن
رداءة أصول التعليم. فيتحتم الدلالة على الأصول النافعة وتعويد الناس عليها.
(5)
إن لرداءة أصول التعليم أسبابًا جُلها من التقليد الأعمى وإهمال الفكر
فلا بد من النصح والتناصح بالتفكر.
(6)
إن للتقليد الأعمى أسبابًا أكثرها ناجم عن اختلال شئون النفوس في
حبها وبغضها فيتعين وصف علاجات تشفي من هذا الاختلال ولو قليلاً.
هذه الفرائض المشروحة لا يشك في وجوبها عاقل ولكن مَن هم المكلفون بها؟
أنتم يا علماء النفس مكلفون بهذه الفرائض. ومنذ كلفت نفسي أن تتشرف بالدخول
في زمرتكم طفقت أطالع صفحات كتاب الوجود بعين البصيرة وأقيد النتائج في دفتر
الذاكرة. فهذا ما شجعني اليوم على أن أشارككم في أعمالكم. ومن أجل هذه
المشاركة حررت فصولاً لتأدية بعض هذه الفرائض، أكثرت فيها من التوضيح
وأقللت الفضول وتوخيت أسهل العبارات وأجمل الإشارات وراعيت فيها فهم
الصغير (من حيث القراءة لا من حيث السن) والكبير. ووهم الجليل والحقير،
وعدلت عن قيل زيد وعبيد واستمسكت بما أرسل الله لأبصارنا وبصائرنا من
الأمثال.
وإليكم يا قراء المنار الزاهر أقدم هديتي هذه (نظام الحب والبغض) بمساعدة
منشئه العلّامة المرشد، أعلى الله مناره وأيَّده بعنايته.
قطبان في الإنسان عليهما تدور أحوال نفسه هما: الحب والبغض. فهل
يمكن إدخالهما تحت أحكام نظام؟
(الجواب)
في هاتين القوتين المتنافرتين تكلم الأنبياء والمرسلون. والحكماء المتبعون،
والعلماء المعلمون، والشعراء الواصفون والأدباء المحاضرون، وبهما تقارب الناس
وتباعدوا، وتحازبوا وتحاربوا، واجتمعوا وتفرّقوا، وتعاونوا وتخاذلوا؛ ومن
أجلهما طغوا واعتدلوا، وأنصفوا وجاروا.
تكلم الناس كلهم في الحب والبغض ولكن اختلفت الاصطلاحات، وتنوعت
المقاصد، واختلفت المشارب، فتعددت الأسماء، وكثرت الكلمات، وتوفرت
المعارضات والمجادلات.
فكلام الناس فيهما الدائر على ما يجب أن يُحب وما يجب أن يُبغض يلوح
ويصرح بأنه من الممكن إدخال هذين المؤثرين تحت حكم (نظام) .
وعلى هذا نكون سالمين من الخطأ في تعبيرنا عن علم النفس وأخلاقها بنظام
الحب والبغض. بل نكون قد أصبنا عبارة هي أوضح من أخواتها في الدلالة على
هذا العلم النفيس المفيد.
هذا - أي إمكان دخول الحب والبغض تحت نظام - رأي طوائف العالم
على اختلافهم، به تشهد الأديان والعقول، وله تؤيد المشاهدة والتجربة. ولآخرين
قليلين رأي آخر هو عدم الإمكان.
وسيرى الذين يخالفون بيانًا شافيًا في هذا المقال. وسيذّكر فيه الموافقون.
(ما هو الحب وما هو البغض؟)
إن لحياة الإنسان (كسائر الحيوانات) نظامًا عرف بعد وجوده ولم يعرف
مبتدأ وجوده. وقد عرف أن هذا النظام شبيه بنظام مملكة كثيرة الأجزاء بعض
أفرادها مهم جدًّا، خلوها منه يوجب خللاً كبيرًا فيها. وبعضها من قبيل الخدم
والأعوان لا يوجب خلوها منه خللاً يذكر. وقد احتاج الناس من قديم الزمان لأجل
التعريف بمعروفاتهم إلى تسمية الأشياء بأسماء يتواضعون عليها. فأما التي يشيع
عرفها بين الناس فتصير أسماؤها من قبيل مفردات اللغة التي يتكلمون بها، بمعنى أن
استعمالها العام لمعناها المشهور يجعل معناها اللغوي المشهور عامًّا. وأما التي لا
يشيع عرفها إلا بين العلماء منهم فتصير أسماؤها من قبيل مفردات العلوم التي
يتداولونها، بمعنى أن استعمالها الخاص يجعل معناها المقصود عند العلماء خاصًّا.
مثاله: (1) كلمة (المبتدأ) معناها العام (الأول) ومعناها الخاص عند علماء
النحو: الكلمة المسند إليها حكم من الأحكام. ومثاله: (2) كلمة (المجاز) معناها
العام (الممر) ومعناها الخاص عند علماء البيان: العدول في كلمة عن معناها
الأصلي.
والأجزاء التي يتكون منها نظام الحياة قد سمي كل منها باسم وجرى على كل
منها الاستعمال العام، أما مجموع ما به نظام الحياة فسماه القدماء من أهل لغتنا
(النفس) لكن هذه الكلمة لدلالتها على مدلول عظيم شأنه قد اتخذه العلماء لمعنى
غير الذي يفقهه منها العامة من الناس. ومن ثمة كانت جديرة أن نقول (إنها كلمة
علمية) بمعنى أن لها معنى خاصًّا عند العلماء بخواصها وأحوالها.
(والحب والبغض) من هذا القبيل أي أنهما في اعتبار العامة كلمتان من
جملة ما هو مشهور المعنى من مفردات لغتهم. وفي اعتبار العلماء - علماء النفس -
هما كلمتان مدلولاهما تحت النظر والبحث يتساءلون فيما بينهم عن تعريفهما.
على أنه يجب أن نصرح بأن العلماء من حيث الجملة كثيرًا ما يعرفون
المعروفات ويوضحون الواضحات. وكثيرًا ما ينتج من كثرة كلماتهم واصطلاحاتهم
في توضيح الواضحات إيهامات يشغلون بها أذهان القارئين على غير جدوى. هذه
حقيقة يجب أن لا نتغافل عنها. وأن لا نغفل ذكرها. وهي تفرض علينا أن لا
نقلدهم في كل أبحاثهم وأن لا نشاركهم في الكلمات التي ابتدعوها في أكثر المواضع
لا لشيء إلا حب توسيع مسافة الفرق بينهم وبين العامة.
ولكن لهذا الأمر مستثنيات هي التي تفتح لحسن الظن بنيَّاتهم بابًا كبيرًا،
وهذان الحرفان اللذان نحن بصددهما من مستثنيات هذا الأمر. فكلنا نحب ونبغض
ولكن في الحقيقة ما كل واحد منا يعرف ما هو الحب وما هو البغض. ومن ثم
اختلفت تعاريفهما أيضًا بلسان العلم.
والتعريف الموافق هو أن الحب اعتقاد خير، راجع أو مناسب للنفس المحبة من
الجهة المحبوبة [*] والبغض ضده فهو اعتقاد شر - إلى آخر التعريف وبهذا
التعريف يمكننا بغاية السهولة أن نعرف العلة ونجيب عن هذا السؤال: (لماذا نحب
ونبغض؟ !)
وهذا التعريف الحقيقي هو الذي سهل لنا الحكم بأن دخولهما تحت حكم (نظام)
ممكن لأن الاعتقاد قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً شأن كل اعتقاد، فكما أمكن
بواسطة العلم إرجاع كثير من الناس عن خطأهم في أشياء كثيرة يمكن إرجاع معتقد
الخير والملاءمة أو الشر والمباينة في جهة من الجهات عن ذلك الاعتقاد، فبينما
المرء يحب إذا هو يبغض. وإذا سلمنا التعسر أحيانًا لا نقول بالتعذر وسيوضح هذا
أمثلة كثيرة.
حب الذات
وعلى حسب التعريف السابق للحب وضده، وعلى حسب التعليل المتقدم
(لماذا نحب - لماذا نبغض) يظهر أن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، فهو
بهذا الحب لم يخرج عن حب ذاته إلا بحسب الصورة فقط، فهل هذا صحيح؟ وما
الدليل عليه؟ وهل محبة الذات أمر نافع أم أمر ضار؟
نعم، إن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، وهذه الحقيقة دقيقة جدّا
يدركها البعض بالبداهة ولا يدركها البعض إلا بالإيضاح، ونحن نجمل الكلام ونذكر
رؤوس المباحث التي تتعلق بأذيالها، ونشرحها قضية قضية موجزين:
1-
الإنسان يحب ذاته.
2-
حب الذات في أصله طبيعي نافع.
3-
ذات غيرنا كذاتنا فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا، فحب الذات له
حدود.
4-
إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا.
5-
إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود.
6-
إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا.
7-
بغض الذات مرض.
8-
قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور.
9-
متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) المنار: إدراك النفس قسمان: فكر ووجدان. والاعتقاد من الأول والحب من الثاني وكذلك البغض، فالحب شعور وجداني بأمر يلائم النفس؛ لأنه خير لها في نظرها والخير هو النافع واللذيذ، والنفع يعرف بالفكر واللذة تعرف بالوجدان، فوجدان الحب معلول لأحدهما أو كليهما.
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية
كتب بعض المسلمين في الترنسفال إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لتعرضها
على بعض علماء الأزهر، فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت
الجريدة أجوبته. أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة وجوابه معروف وهو أنه
لا يحرم على الرجل إلا مَن رضعت هي وإياه من امرأة وأما أخت الرضيعة فلا
تحرم. والسؤال الثاني يتعلق بالاقتداء بالمخالف وبينَّا الراجح فيه عندنا في آخر
الجزء الماضي وأن في المسألة قولين مصححين، ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف
ما رجحناه وهو المذكور في كتب الفقه وهم أسرى تلك الكتب.
وأما السؤال المهم فهو ما جعلناه عنوانًا لهذه النبذة وقد أجاب عنه الشيخ
بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال ثم نبين رأينا فيه وهو:
سؤال: ما قولكم علماء الإسلام ومصابيح الظلام أدام الله وجودكم: هل
يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والإفرنسية مع أن الحروف
الإنكليرية ناقصة عن الحروف العربية ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان
قريش فالإنكليزي مثلاً إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تُقرأ (مسر) أو أحمد
تكتب (أهمد) ويكتب (شيك) بمعنى شيخ لا سيّما وإخواننا المسلمون في مصر
يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها والبعض من المسلمين في جنوبي إفريقيَّة في جدال
عنيف، منهم من يجوّز ومنهم من يقول غير جائز.
أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى.
جواب:
اعلم أن القرآن هو النظم، أي اللفظ الدال على المعنى لأنه الموصوف بالإنزال
والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ. وأما المعنى وحده فليس
بقرآن حقيقة. وقيل: إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازًا. والحق
هو الأول، وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها وتجوز القراءة
والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى، فقد كان تاج
المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه
باللغة العربية. وفي (النهاية والدراية) أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن
يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت
ألسنتهم. وقد عرض ذلك على النبي e ولم ينكر عليه. وفي (النفحة القدسية في
أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية) ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية
إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته، ويحرم مسه لغير الطاهر
اتفاقًا، وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن بل يعتبر تفسيرًا له.
وفي (الإتقان) للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلامًا لعلماء مذهبه في كتابة القرآن
بالقلم الأعجمي وأنه يحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية. والأقرب المنع،
كما تحرم قراءته بغير العربية ولقولهم: القلم أحد اللسانين. والعرب لا تعرف قلمًا
غير العربي وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) .
فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير
العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ثم يكتب
تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية. اهـ.
(المنار)
عندنا مسألتان: إحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية، أي التعبير عن معانيه
بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي وهذه هي التي سأَلَنا عنها الفاضل
الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء. والثانية كتابة القرآن العربي
بحروف غير عربية، وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنسفالي. وقد رأى
القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة، لذلك رأينا
أن ننقله ونحرر القول في المسألة تحريرًا.
المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة فإذا كانت الحروف الأعجمية
التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة
الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها لما فيها من تحريف كَلِمه ومن رضي
بتغيير كلام القرآن اختيارًا فهو كافر. وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا
يستقيم لسانه بلفظ محمد فنطق بها (مهمد) وبلفظ خاتم النبيين فيقول (كاتم النبيين)
فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات
بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه طول عمره. ولو أجاز المسلمون
هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في
الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة ولكان كل شعب من
المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر.
وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة
على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلاً، ففي المسألة
تفصيل والذي نقطع به أن الكتابة بخطها لا تكون إخلالاً بأصل الدين ولا تلاعبًا به
وإن هو خالف الخط العربي، فالفرق بين الخط العربي والخط الكوفي أبعد من الفرق
بين الخطين العربي والفارسي ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها
ولكنهم يعتدونها عربية. وإذا قيل: إنها مختلفة اختلافًا لا يكفي لمتعلم أحدها أن يقرأ
الآخر كالكوفي والفارسي - نقول: قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز
بشرطه، ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق علي خط واحد. فهم المسلمون
هذا من روح الإسلام فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد
يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان. ذلك
من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب فإن القرآن هو الصلة العامة بين
المسلمين والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين. ومن التفريط فيه أن
يفد المسلم القارئ على مصر قادمًا من الصين فلا يستطيع القراءة في مصاحفها،
وكذا يقال في سائر الشعوب وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي
وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه.
ولقائل أن يقول: إن في هذا الرأي تضييقًا على نشر القرآن وتوسيع دائرة
الدعوة إلى الإسلام، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة. وكتبوها
بكل قلم، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة. فما بال المسلمين يضيقون
وغيرهم يتوسعون؟ ولنا أن نقول في الجواب: إننا جوَّزنا ترجمة القرآن لأجل
الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها؛ ولكن
المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة
واحدة وهي تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في
الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية.
وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا
بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات وكونها تتقدر بقدرها. فإذا رأوا أنه لا
ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم
الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه به ماداموا في حاجة إليه ثم
ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر
المسلمين.
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم
على لغاتهم وخطوطهم. اللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذًا في كلمها وخطها ونرى
أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة
والأمور الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا؟ !
وفي جواب الشيخ محمد بخيت مباحث ليس من غرضنا الإحفاء فيها، ونكتفي
بأن نقول إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف، فأثر سلمان إن
أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم،
وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم؟ ! وإن أريد به أنه كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي
قريب من العربي ولا دخل له أيضًا بلين الألسنة، والصواب أن الأثر غير صحيح.
وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد
الفرس الحنفية، ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله؟ على أن فيه ما في الذي قبله
وهو أن القراءة بالفارسية لا يلين بها اللسان للعربية إلا أن يقال: كان يقرأ الترجمة
حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب البؤساء
هو أشهر ما كتبه شاعر فرنسا الحكيم وأديبها العظيم (فيكتورهيجو) وهو هو
الكتاب الذي رفع به ذكره، وعلا في عالم المدنية قدره، حتى صارت فرنسا تفاخر
به العالمين. وتحتفل لشيخوخته ولوفاته احتفالات لا يعهد مثلها للملوك والسلاطين،
وقد نقلت جميع الأمم الحية هذا الكتاب إلى لغاتها وهمّ به بعض المشتغلين بالتعريب
فما أطاقوه وكأنهم هابوا بلاغته في لغته؛ لأنه في الذروة العليا مما كتب بالفرنسية
حتى أقدم عليها محمد حافظ أفندي إبراهيم المشهور برسوخ العرق في العربية
وآدابها وطول الباع في التنقيح والتحرير، والإجادة في المنظوم والمنثور، فشرع
فيه وسلخ في تعريب الجزء الأول منه اثني عشر شهرًا - كما قال في المقدمة -
وهو نحو 150 صفحة. وقد قدّم الكتاب إلى الأستاذ الإمام وحكيم الإسلام، فشكر
له الأستاذ ذلك بكتاب بليغ نستغني بنشره عن الكلام في مكانة التعريب من البلاغة،
ومحله من الفائدة. ونبدأ بما كتبه حافظ أفندي في أول النسخة المطبوعة وهو:
إلى الأستاذ الإمام..
إنك موئل البائس ومرجع اليائس وهذا الكتاب - أيدك الله - قد ألمَّ بعيش
البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور وسماه كتاب البؤساء
وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة وتلك الحكمة البالغة (الرحمة فوق العدل) .
وقد عنيت بتعريبه لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب.
وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار ورأيت أن أرفعه إلى
مقامك الأسنى. ورأيك الأعلى لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث: أولها التيمن باسمك
والتشرف بالانتماء إليك. وثانيها ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى
الرجل الذي يعرف مهر الكلام ومقدار كد الأفهام. وثالثها امتداد الصلة بين الحكمة
الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق.
فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله والله المسؤول أن يحفظه للدنيا والدين وأن
يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين اهـ.
فأجابه الأستاذ الإمام بهذا التقريظ وهو:
لو كان بي أن أشكرك لظنٍّ بالغت في تحسينه أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت
في تزيينه - لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري في الشكر
إلى الغاية مما يطلبه فضلك، لكنك لم تقف بعرفك عندنا بل عممت به مَن حولنا،
وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا.
زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية سحرت قومها،
وملكت فيهم يومها. ولا تزال تنبه منهم خامدًا وتهز فيهم جامدًا؛ بل لا تنفك تحيي
من قلوبهم ما أماتته القسوة وتقوّم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة أفاضها
الله على رجل منهم فهدى إلى التقاطها رجلاً منا فجردها من ثوبها الغريب وكساها
حلة من نسج الأديب وجلاها للناظر وحلاها للطالب بعد ما أصلح من خلقها وزان
من معارفها حتى ظهرت محببة إلى القلوب شيقة إلى مؤانسة البصائر تهش للفهم
وتبش للطف الذوق وتسابق الفكر إلى مواطن العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي
من النفس في مكان الإلهام.
حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك فوقف العجز بأغلبهم
عند مبتدأ الطريق ووصل منهم فريق إلى ما يحب من مقصده ولكنه لم يعنَ بأن يعيد
إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها ويرد إليها ما سلبه المعتدون عليها من متانة
التأليف وحسن الصياغة وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه. أما أنت فقد وفيت من
ذلك ما لا غاية لمريد بعده ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده. ولو كنت ممن يقول
بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح فظهرت لك اليوم
في صورة أبدع ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في التعريب سُنة يعمل عليها
من يحاوله بعد ظهور كتابك ويحملها الزمان إلى أبناء ما يستقبل منه فتكون قد
أحسنت إلى الأبناء كما أجملت في الصنع مع الآباء وحكمت للغة العربية أن لا
يدخلها بعدُ من العجمة سوى ما هو في الأسماء - أسماء الأماكن والأشخاص لا
أسماء المعاني والأجناس - ومثلي مَن يعرف قدر الإحسان إذا عم ويعلي مكان
المعروف إذا شمل ويتمثل في رأيه بقول الحكيم العربي:
ولو أني حييت الخلد فردًا
…
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي
…
سحائب ليس تنتظم البلادا
فما أعجز قلمي عن الشكر لك وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.
تقول: إن الذي وصل سببك بسر صاحب الكتاب ووقف بك على دقائق من
معانيه اشتراكك معه في البؤس ونزولك منزلته من سوء الحال، وربما كان فيما تقول
شيء من الحقيقة، فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه بتلك الحكمة ثم كان سببًا في
امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة - سألت الله أن يزيد وفرك من هذا البؤس حتى
يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ وأن يجعلك في بؤسك أغنى من أهل الثراء في
نعيمهم. والسلام.
…
...
…
...
…
...
…
(محمد عبده)
وقد طبع الكتاب بمطبعة التمدن على نفقة صاحب السعادة أحمد حشمت باشا
مدير الدقهلية وهي أريحية لا يعرفها أهل العربية في أنفسهم إلا ما كان أيام سلفهم
وثمن النسخة من الكتاب عشرة قروش أميرية وأجرة البريد قرش واحد وهو يطلب
من إدارة المؤيد ومن مطبعة التمدن بمصر، فنحث أهل العلم والأدب على اقتنائه
ونعدهم بنشر نموذج منه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إعانة سكة الحديد الحجازية
نتذكر أننا ذاكرنا صاحب الدولة مختار باشا الغازي في مسألة إعانة هذه السكة
عندما بدؤوا بجمعها فقال: كان من رأيي أن يفرض على كل مسلم مبلغ قليل في
كل سنة من سني العمل فيكون ذلك مع الموارد الأخرى المخصصة لنفقات السكة
ريعًا ثابتًا مقدرًا، ويمكن معه تقدير الأعمال ولا يثقل على أحد من الناس. وكنت
استحسنت هذا الرأي وقد ظهر لنا الآن أن مولانا السلطان لم يكن غافلاً عنه ولكنه
أطلق عنان الإعانة أولاً ليظهر كرم المسلمين في أول نشأة العمل ثم رجع إلى هذا
الآن فأصدر أمره بتعيين مبلغ أقله خمسة قروش على كل مسلم، وأي مسلم يعسر
عليه دفع خمسة قروش في السنة؟ ! ويسرنا أن مسلمي مصر قد اندفعوا إلى تأليف
اللجان وجمع الإعانات ونرجو أن يسبقوا غيرهم في هذا المضمار وإن كره لهم ذلك
أصحاب السعادة النظار، فإن كراهتهم لا أثر لها في جلب منفعة ولا دفع مضرة
{وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72) وليعلموا أنهم أكثر مسلمي الأرض
رخاءً وهناءً وسعة إلا أن يكون في الصين من يفضلهم في ذلك من حيث لا ندري، ثم
إنهم قد ذاقوا مرارة صدهم عن بيت الله وإقامة العقبات في وجوه مريدي الحج إليه
ولا يدرون ما هو مخبَّأ لهم في المستقبل، فليبادروا إلى تسهيل سبيل بيت الله.
وأجرهم على الله وهو لا يضيع أجر المحسنين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة الرابعة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل
(النوع السادس: كلام الجمادات والحيوانات)
قال السبكي: ولا شك فيه وفي كثرته ومنه ما حكي أن إبراهيم بن أدهم جلس
في طريق المقدس تحت شجرة رمان فقالت له: (يا أبا إسحاق أكرمني بأن تأكل
مني شيئًا) قالت ذلك ثلاثًا وكانت شجرة قصيرة ورمانها حامضًا فأكل منها رمانة
فطالت وحلا رمانها وحملت في العام مرتين وسميت رمانة العابدين! ! ! وقال
الشبلي: عقدت أن لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البراري فرأيت شجرة تين
فمددت يدي لآكل منها فنادتني الشجرة: (احفظ عليك عقدك ولا تأكل مني فإنني
ليهودي) فكففت يدي. هذه حكايات السبكي التي بنى عليها نفي الشك في هذا النوع
وإن لم تتفق مع أصله وشروطه ولم تروَ بطرق صحيحة وأسانيد معروفة. وإذا
صح أن ابن أدهم والشبلي قد قالا ما نقل عنهم في ذلك، فالأقرب أنهما كانا يعنيان
القول بلسان الحال، فحمله بعض الناقلين على لسان المقال حبًّا في الإغراب أو غلوًّا
في تعظيم الصالحين، على أن من الصوفية من يقول بأن صفة الحياة سارية في جميع
المخلوقات حتى الأحجار والمعادن ويمرون قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44)، على ظاهره فيقولون: إنه تسبيح حقيقي قولي، لا لسان
حال ودلالة على أثر مؤثر، والقضية ممكنة في ذاتها ولا يبعد أن يكون لكل صنف
من المخلوقات حياة تليق به بل هذا هو اللائق بالإبداع الإلهي والنظام العام. ولكن
البعيد أن يكون الجماد والنبات عالمين بسائر الشؤون وناطقين بجميع اللغات فيكلمان
هذا بلسانه ويفصحان لذاك عن بعض شأنه، وأبعد من هذا البعيد أن لا يكون ذلك
الكلام المزعوم سنة عامة بأن يكون خروجًا عن السنن الإلهية لتحقق لابن أدهم
شهوته وللشبلي عزيمته، ومثل هذه الخارقة مما نقل عن عُباد النصارى
(كاسبيريدون العجائبي) وحكاياتهم فيها شبيهة بحكاياتنا، وكل حزب بما لديهم
فرحون!
* * *
(النوع السابع: إبراء العلل)
أشار السبكي في الكلام على هذا النوع إلى حكاية الرجل الذي لقيه السرِي
السَّقَطي ببعض الجبال يبرئ الزمنى والعميان والمرضى. وإلى ما روي عن الشيخ
عبد القادر الجيلي من أنه قال لصبي مقعد مفلوج أعمى مجذوم: قم بإذن الله، فقام
معافى لا عاهة به. أقول وقد ذكر الشيخ علي القاري هذه الحكاية مفصلة في كتابه
(نزهة الخاطر الفاتر في مناقب السيد عبد القادر) وأوردتها في كتاب (الحكمة
الشرعية) وقفّيت من بعدها بحكاية أخرى لصاحب هذا الكتاب. وأمثال هذه
الحكايات كثير عن الصالحين جدًّا، ولا شك عندي في أن الكثير منها صحيح لا شبهة
فيه، وينقل مثله أيضًا عن رجال الدين المعتقدين من النصارى والوثنيين وقد وقع
على يدي شيء من ذلك في بعض الأمراض العادية، وليس في ذلك شذوذ عن
السنن الطبيعية.
إن الوهم يفعل في شفاء الأمراض العصبية ما لا يفعل العلاج، ولا يوجد
مثار للوهم أقوى من اعتقاد المعتقدين بالسلطة الروحانية والقوى الغيبية يؤتاها
بعض رجال الدين. ويكفي في توثيق عرى هذا الاعتقاد في المستعدين له ما ينقل
إليهم بلسان زيد وعمرو، وهند ودَعْد. من الحكايات الغريبة، والوقائع العجيبة،
وإذا رأى أحدهم بعينه واقعة منها أو بعض واقعة أو شبهة على واقعة كأن يرى
فلانًا الذي كان مريضًا قد شفي بعد رقية رقي بها، أو تميمة علقت عليه. فهناك
الجزم بأن كون الشيخ فلان يشفي المرض بالسر. ويبرئ العلل بالبركة من القضايا
اليقينية الأولية، لا يتسرب إليه الشك. ولا يحوم حوله الريب. وأن من ينكره فهو
مريض الاعتقاد، أو من أهل الجحود والإلحاد.
عرف هذا الأطباء والعقلاء فاستعانوا بالإيهام على معالجة الأمراض العصبية
فنجحوا نجاحًا عظيمًا، وهم يتفننون في تصوير الوهم بالصور المناسبة لحال
المرضى في اعتقاداتهم، بل يخلقون لهم اعتقادات ببعض الأشخاص أو ببعض
الأدوية ويبالغون في تعظيم شأنها حتى يشغلوا خيال المريض بها ثم يسلطونها على
مرضه. وإنك لترى حكيمًا من الحكماء يدعو إلى منزله دجالاً من الدجاجلة الذين
يدَّعون التصرف في الجان والسلطة على العفاريت الذين يمَسُّون الأناسي - يدعوه
ليعالج بإيهاماته الدجلية امرأة عنده مصابة بمرض عصبي مما يسميه الأطباء
(الهستريا) بعد أن يعجز عنها الأطباء. ويخيب فيها كل دواء فتشفى برؤية زيّه
وبزته وشم بخوره وسماع رقيته، ويعترف له ذلك الحكيم بأنه يفعل بكلماته
وعزائمه ما لا يفعل الطبيب بأدويته ومراهمه. أتقول: إن هذا الحكيم يعتقد بحقية
هذا الخرافات، ويَدين بأن ذلك الدجال من أهل الخوارق والكرامات، أم تقول: إنه
سلط الوهم على الوهم. كما يدفع في الجدل الرأي الفاسد بالدليل الفاسد، وأنه يرى
المريض في عصبه كالمريض في عقله. ذلك يتأثر بأوهام الدجل وهذا يقتنع
بمغالطات الجدل؟
الأمراض العصبية التي تفعل فيها الأوهام ضروب مختلفة، منها بعض فنون
الجنون ومنها مقدماته، ومن المصابين بها من يعتقد بالشيطان يخالط روح الإنسان
ويعتقد بأن لبعض الناس سلطانًا على الشياطين بطريقة صناعية كالبدعة الذميمة
التي يسمونها (الزار) ، وهي منبع المآثم والأوزار أو بطريقة روحانية كبركات
الشيوخ ورُقاهم وعزائمهم.
وتجد الذين ينتحلون هذا الأمر بسلوك كل من الطريقتين يعيشون في مثل هذه
البلاد بأكل أموال الناس بالباطل، فكثيرًا ما يوهمون من يرونه مستعدًّا لهذه الأمراض
من النساء والرجال بأنه مصاب بها وما هو بمصاب فيؤثر قولهم في نفسه فيمرض
ويحكِّمهم في نفسه يعالجونها كيف شاؤوا؛ بل يحكمهم في حاله وشرفه أحيانًا. وكثيرًا
ما يزيدون الداء إعضالاً بحمقهم وسوء سلوكهم.
جاءتني جريدة (المؤيد) وأنا أكتب في هذا النوع فرأيت في رسالة الإسكندرية
منها كلامًا في انتشار وباء الزار في تلك المدينة وفعله في النفوس والأعراض ما لم
يفعل الطاعون في الأجسام. وفي الأموال والعروض ما لم يفعل القمار والمدام.
وقد رأيت أن أنقل ما كتب الكاتب بنصه فاقرأه تحت عنوان (بدعة الزار) .
* * *
(مضار بدعة الزار)
أصدرت محافظة ثغرنا في الأسبوع الماضي أمرها إلى أقسام المدينة بمراقبة
النسوة المشتغلات بالزار لأن جمعياتهن كثرت برواج خزعبلاتهن فألحقن بربات
البيوت أضرارًا أدبية ومادية لا يحسن التغاضي عنها وعهدت المحافظة أمر تجسس
هذه المحرمات إلى مشايخ الحارات ظنًّا منها أنها تستفيد من دقة مراقبتهم وتضرب
بواسطة نفوذهم على أيدي أولئك النساء الشريرات.
أما نحن فنقول: إن أوامر نظارة الداخلية الصادرة من عشر سنين ونيف
والمصدق عليها من مجلس علماء الأزهر الشريف وإفتائه بتحريم استعمال بدعة
الزار الشنيعة لم تكن في حاجة إلى أوامر جديدة وهمة حديثة ليقال معها أن حكومتنا
اليوم التفتت إلى ضرر لتلافيه، ونظرت إلى محرم فلاحقته بعدلها بل يجب أن
تصرح بأنها أغضت زمنًا عن واجب مقدس ثم تنبهت إلى نظام موضوع من أجله
فهبت الآن لتلافي الشر ووقاية هاته العيلات وثروتها وآدابها بها من نتائجه الكثيرة
التي منها الإملاق والجنون والطلاق والمروق عن جادة الاستقامة والعفاف وغير
ذلك من الأضرار الظاهرة التي لا تحتاج إلى استطلاع وفلسفة.
أما الإملاق والجنون فيكفي أن نشير إليهما بحادثة امرأة أشفقت على ابنتها
المصابة بمرض عصبي (هستيريا) فلجأت إلى الزار فصارت تبذل لهن مطالبهن
الكثيرة من ذهب وطعام وغنم ودجاج حتى احتاجت إلى المال فباعت (كنها)
الوحيد الذي يستظلون به ويلجأون إليه وكانت النتيجة جنون الفتاة وموت أمها غمًّا
وقهرًا؛ لأن ألعاب الزار وأوهامه من شأنها أن تثير العواطف وتنبَّه الأعصاب إلى
ما كمن من الداء فيظهر بشدة حينئذٍ ويصبح على التوالي ملكة لا يرضيها غير هذه
الأعمال الخيالية النفسانية فبدلاً من تسكين لاعجه يزداد شرًّا على شر ويكون من
نتائجه الجنون وكفى بالفقر مُذهبًا للرشاد ومضيعًا للعقول.
وكم من زوج طلق عروسه لتبذيرها ونبذها طاعته في سبيل هذا الزار الذي
استحكم فصار عادة بين النساء وموضع افتخار بعضهن. وقليل من العقل والروية
يكفي لنبذ الرجل زوجته إن والت معاندته والعمل على إساءته وهي لا تدري أنه
البر الرؤوف بها في منعها عن الانغماس في حمأة هذه الأوضار؛ بل تظن به الشح
والوسواس والكفر والكراهة إلى غير ذلك من الظنون السخيفة التي تزرعها نساء
الزار في رؤوس البسيطات من هؤلاء الأمهات والفتيات، فيقضين على راحتهن
ومستقبلهن قضاءً مبرمًا بالتفرقة والخراب وكفى بهذه النتائج المحزنة داعيًا إلى
التفات الحكومة ومطاردتها للمشتغلات بهذه الدنايا والرزايا.
أما المروق عن جادة الاستقامة والعفاف فهذا كثير، فإن لقهرمانات الزار فنونًا
وحيلاً ينفر منها إبليس ويستعيذ بسلبها منهن بالله لأنها فوق قدرته لو أبنَّاها في هذه
العجالة وقليلها يكفي للإشارة إلى سوء الحال وشر المآل.
حُكي أن امرأة تعشَّقها سفيه دنيء فاحتال للوصول إليها كثيرًا حتى لجأ إلى
نساء الزار فلعبن دورهن مع المرأة حتى أثَّّرن عليها بأنها ملموسة بروح شريرة مما
يعبرن عنه (بأن عليها شيخ) وعندما ملكنها بهذه الخزعبلة قلن لها: إن شيخك
يحب شابًّا صفته كذا وكذا.. إلخ إلخ. ولا سبيل لسكون هذا القادر إلا
باجتماعهما.
وما زلن بها حتى رضيت بالشاب فكان من اجتماعهما ما كان من سكون
لواعج النفس بطرد حركة الشيخين وكثيرًا ما يجمع النسوة الشريرات مدبرات الزار
الرجال بالنساء ويمهدن سبل الدنايا والموبقات على أشكال وضروب لا يليق بيانها
وبذلك تتقوض أسس المحبة الزوجية فتكون العواقب أشد وخامة على الذرية التي لم
تجنِ ما جناه الأبوان من جهلهما وتساهلهما.
والغاية من رسالتي هي أني أريد إفهام الحكومة أن تكليفها مشايخ الحارات
بمراقبة المشتغلات بالزار ومنازل طلابهن ومريديهن لا خير فيه ولا فائدة لأنها
تفتح لهؤلاء المشايخ المراقبين باب رزق وسيع، فإنهم يسعون الآن باحثين منقبين
على من يحيي ليالي الزار وأيامه ليستفيدوا أتاوة الصمت والتغاضي وهو ربح حسن
يفضل الأرباح العائدة عليهم من المخافر والضمانات وغيرها، وبذلك يزيد الزار
انتشارًا وضررًا. اهـ بنصه.
(المنار)
إن ما رآه الكاتب في مشايخ الحارات صحيح، فإنهم قوم لا خلاق لهم. وإذا كان
وجهاء الناس والذين يظن فيهم العقل والأدب والدين ينخدعون للنساء المنتحلات
لبدعة الزار الضارة ويعتقدون نفعها فماذا عسى ينتظر من مشايخ الحارات
وأكثرهم من التحوت والغوغاء الذين يشترون بالآداب والأعراض ثمنًا قليلاً؟ ولو
جعلت الحكومة لمن يدلها على ذلك جُعْلاً ولو قليلاً لما خفي عليها شيء، ولتيسر لها
أن تستأصل هذه البدعة الضارة استئصالاً.
ومن العجائب أن الرجال يسمعون بآذانهم ويقرؤون بألسنتهم ويشاهدون
بأعينهم مفاسد الزار وفتكه بالأموال والأعراض وإفساده للأخلاق والعقائد، وهم مع
ذلك يسمحون لنسائهم بعمله وبحضوره فأيُّ شرفٍ وأي نخوة بقي عند هؤلاء
الرجال السفهاء الأحلام الميتي الإرادة؟ والله لو صلح الرجال لما فسد النساء، ووالله
ما أفسد النساء إلا الرجال، فلعن الله مَن لا غيرة له، ولعن الله من لا نخوة له،
ولعن الله من لا شرف له.
***
لكل قوم نصيب من الوهم يليق بحالهم واعتقادهم، وقد ألمعنا إلى بعض شأن
الذين يعتقدون بالأرواح الخيرة والشريرة، وأما الماديون والروحيون الذين يعتقدون
أن الأرواح أمور غيبية لا سلطان لها إلا في أبدانها التي تحيا بها، وأن لجميع
الأمراض أدوية يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها (كما ورد في الحديث) فإن
للوهم منافذ أخرى إلى نفوس المصابين بالأمراض العصبية منهم كالاعتقاد
ببراعة الأطباء واكتشافاتهم واختراعاتهم، وبأخبار الذين شفوا بمعالجاتهم، وأن
كثيرًا من أطباء أوربا وأمريكا ليعالجون أمثال هؤلاء المرضى بالأدوية الوهمية.
حكي أن امرأة منهم أعضل داؤها، وعز شفاؤها، فجاء بعض الأطباء الذين كانوا
يعالجونها وقال: إن كل تلك الأدوية التي كانت تداوَى بها من المسكنات وإنه لم
يبق إلا علاج سام خطر هو الشافي قطعًا ولكن لا يمكنني أن أعطيها منه إلا
بشروط منها أن لا تزيد عن المقدار الذي أعينه نقطة من السائل ولا مقدار ذرة من
الجامد، ومنها أن تأخذه في المواقيت المعينة لا تتقدم دقيقة ولا تتأخر دقيقة ومنها
أن نكتب كتابة ونسجلها في المحكمة بأنه لا تبعة عليّ ولا مطالبة إذا هي ماتت
مسمومة؛ لأنني لا آمن من مخالفتها في المواقيت أو المقادير. وقد تردد أهل
المريضة في قبول الشروط ولكنها هي قبلت بها؛ لأن المرض كان منعها المنام
والراحة فما زالت تلح عليهم حتى قبلوا وكان شفاؤها في ذلك الدواء، ولم يكن إلا
الدقيق والسكر والماء!
عرف الناس تأثير قوة الاعتقاد الوهمي فضربوا لها المثل: (لو اعتقد أحدكم
بحجر لنفعه!) ويظن بعض العامة أن هذا حديث لأنه مؤدٍّ للمعنى العام بعبارة
وجيزة، وبذلك امتازت الأحاديث النبوية.
ثم إن الجهل بأمور الدين والدنيا معًا فسره لأهل هذا العصر بغير معناه وإن
شئت قلت بنقيضه. فهم يزعمون أن فيما يعتقد - وإن حجرًا - نفعًا حقيقيًّا ثابتًا له لا
ينفكّ عنه، فهم يتمسحون ببعض الأحجار، ويتعلقون ببعض الأشجار، ويتبركون
بمياه بعض الآبار، ويعتقدون أن فيها خواص تشفى الأمراض، وتقضى الحوائج
والأغراض، ثم إنهم يلصقون ذلك بالدين ورجالاته، ويعدونه من دلائل صدقه
وآياته، ويغفل أهل كل ملة عن مشاركة أهل الملل الأخرى لهم فيما يدعون،
واستدلالهم بمثل ما يستدلون.
كتبنا غير مرة في مفاسد الاعتقاد بهذه الجمادات والأشجار كعمود الرخام في
المسجد الحسيني وباب المتولي وشجرة الحنفي ونعل الكلشني وغير ذلك، ولم ينس
قراء المنار - بل أهل مصر كلهم - ما كان منذ سنتين ونيف في المسجد الحسيني
من الجلبة والضوضاء في آخر الدرس الذي كنا نلقيه هناك، إذ نهينا الناس عن
التمسح بالعمود الذي يسمونه عمود السيد استشفاءً به وطلبًا للبركات منه، فاحتج
علينا بعضهم بالمثل الذي جعله الجهل حديثًا نبويًّا، ولما بينا لهم معنى المثل وكونه
غير حديث وأنه لو كان حديثًا وكان معناه كما زعموا لكان حجة على نفع عبادة الأصنام قبل ذلك الجماهير. وكان في الصفوف البعيدة من حاضري الدرس من لم
يفهم القول فطفقوا يتساءلون: ماذا قال في الحديث ماذا قال في الحديث؟ فأجاب
بعض الذين وعوا القول بالصواب ودس بعض المرجفين أقوالاً كانت مثار اللغط
والضوضاء كقولهم: إنه أنكر حديث رسول الله (بمعنى كذَّبه) وقولهم: إنه قال:
إن سيدنا الحسين صنم لا ينفع ولا يضر وأمثال ذلك.
أليست هذه الفتن والبدع والعقائد الفاسدة المفسدة للعقول والأرواح ناشئة كلها
عن الاعتقاد بهذا النوع من الخوارق الوهمية التي دخلت في الدين من تلك الأقاويل
التي أثبتها مثل التاج السبكي من غير بينة ولا بيان، ولا حجة ولا برهان، إلا
زعم فلان ودعوى فلان؟ بلى، هذا وجه من وجوه تعليل ما نقل في هذا النوع
وهو معقول مقبول وعليه أكثر العقلاء.
وبقي وجه آخر يقول به بعض الناس في بعض الوقائع، ونعني بالناس أهل
العلم والبحث وهو تأثير النفس في النفس ويعبر عنه الصوفية بتأثير الهمة ويثبتونه
لغير المسلمين حتى الوثنيين وهو ثابت عند حكماء اليونان والعرب وغيرهم وحكى
ابن خلدون وقائع منه.
معهود عند جميع الناس رؤية أشخاص يرفعون قنطارًا (مصريًّا) عن
الأرض وقل من رأى بعينه أشخاصًا يرفعون عدة قناطير. فإذا قيل لهؤلاء: إن
قيصر روسيا السابق كان يأخذ كرتين من الحديد كل منهما عدة قناطير ويقذفهما في
الجو واحدة بعد أخرى ثم يتلقى كل واحدة بيدٍ قاذفًا إياها في الجو ويعيد ذلك المرة
بعد المرة زمنًا طويلاً - ينكر أكثر المعروفين بالعقل والروية هذه الرواية؛ لأن في
الناس المولع بإنكار الغرائب التي لا يعهد مثلها كما أن منهم المولع بنقل الغرائب التي
لا يعهد لها نظير.
ويعهد جميع الناس أن يروا حزينًا فتؤثر فيهم حالته حتى يمتعضوا وربما بكى
فأبكى، ويعهد قليل من الناس من تأثير بعض الوعاظ ما توجل له القلوب وتذرف منه
العيون ويحمل كثيرًا من الناس على الرجوع عن حال إلى حال، وعلى الخروج
من العقار والمال، وليس هذا تأثير الكلام خاصة وإنما العمدة فيه على تأثير النفس،
وقد كان بعض الوعاظ الصالحين يعظ فيتوب قوم ويبكي ناس ويموت آخرون
فقيل له: إن فلانًا أفصح منك في التذكير لسانًا، وأوضح بيانًا فما بال كلامه لا
يؤثر، ولا يستتيب ولا يستعبر؟ ! فقال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة!
يريد أن التأثير بالحال، لا بزخرف المقال، وإذا قلت لهؤلاء الناس: إن في الناس
أفرادًا لهم قوة نفسية، وهمة روحانية، إذا وجهوها إلى نفس أخرى فإنها تؤثر فيها
التأثير الذي يريدونه متى صح التوجه - ينغضون رؤوسهم، وينكر أكثر أهل البحث
والروية هذه الرواية، وإذا دام أهل العلم في الغرب على بحثهم في الأمور الروحية
فإن هذه المسألة ثبتت عندهم بالتجرِبة التامة. وكما يكون هذا التأثير في شفاء
المرضى يكون في إحداث الأمراض ولبعض الناس في كل أمة استعداد قوي له إذا
استعملوه زاد قوةً وتأثيرًا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
(تتمة الكلام في الشبهة الثانية على القرآن)
(الشاهد الرابع) زعم المعترض أن ما في سورة (المؤمن) من أن موسى
أرسل إلى فرعون وهامان وقارون يدل على أن قارون من قوم فرعون فهو
مناقض لقوله تعالى في سورة القصص: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى
عَلَيْهِمْ} (القصص: 76) .
ونقول في الجواب: إن كون قارون من قوم موسى مجمع عليه عند المسلمين
سلفهم وخلفهم كما قال ابن عطية، وقالوا: إنه من ذوي القربى لموسى عليه السلام
ولكنهم اختلفوا في جهة القرابة، فنقل عن ابن عباس وغيره أنه كان ابن خالته، وقيل
غير ذلك مما لا يعنينا. ولم يفهم أحد من العرب ولا ممن بعدهم من أهل اللغة ما فهم
هذا النصراني في آخر الزمان.
قال تعالى في سورة (القصص) أن رجلاً اسمه قارون كان من قوم موسى
وكان طاغيًا بطرًا بماله، فبغى على قومه بني إسرائيل فأنذروه عاقبة البغي ونصحوا
له بأن يبتغي بماله الدار الآخرة إلى ما يتمتع به من الدنيا فلم يقبل، وكل هذا يدل
على أنه كان كافرًا طاغيًا جاحدًا من قوم سبق لهم إيمان وكتاب.
وقال في سورة (المؤمن) أنه أرسل موسى إلى فرعون وهامان وقارون فذهب
بعض المفسرين إلى أن قارون هذا كان مصريًّا وكان قائدًا لجند فرعون، وذهب
بعض إلى أنه قارون الإسرائيلي، ولكنه ذكره مع فرعون ووزيره هامان لأنه كان
رئيسًا باغيًا مثلهما وهؤلاء الرؤساء الطغاة البغاة هم الذين يحُولون بين الرسل
والأمم، وإنما أرسل الله تعالى موسى لهداية بني إسرائيل كما علم من النص ومن
الواقع، ولما كان بنو إسرائيل مستعبَدين مقهورين لفرعون وكبار أعوانه كهامان
وقارون ابتدأ موسى بدعوة هؤلاء بأمر الله تعالى حتى أراهم آياته وكانت العاقبة
إخراج بني إسرائيل من مصر وإيتاءهم الشريعة.
لا دليل بل لا شبهة على التناقض في قول من القولين. أي مانع يمنع أن يكون
هناك قارونان في زمن واحد أو زمنين مختلفين، فإن قارون قوم موسى ذكر ولم يذكر
في قصته أن موسى نصح له أو دعاه إلى شيء، بل جاء فيها أن قومه هم الذين
نصحوا له: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ} (القصص: 76) ، إلى آخر الآيات
فيجوز بل يقرب أنه كان بعد موسى. ثم أي مانع يمنع أن يتخذ فرعون لنفسه رجلاً
إسرائيليًّا باغيًا فسق عن تقاليد قومه وصار لا يهمه إلا بيع مصالحهم بما ينفع
شخصه، ويجعله عونًا له على الإسرائيليين ويحكمه فيهم لأنه أعلم بدخائلهم، وأدرى
بمقاتلهم؟ أليس من المعهود في كل زمان أن يستعين الذين يحكمون أقوامًا غير قومهم
بأفراد أولئك الأقوام يبيعون مصالح قومهم للحكام الأجانب بالمال والجاه لأشخاصهم؟
فلماذا يستنكر أن يصطنع فرعون لنفسه طاغية من الإسرائيليين يكون واسطة بينه
وبينهم فيما يريد من ضروب الاستبداد والاستعباد؟ ثم إذا فرضنا أنه لم يكن عاملاً
لفرعون ولا صنيعة له وإنما كان أغنى بني إسرائيل وأقواهم سلطانًا وأنفذهم شوكةً
كما تدل عليه سورة (القصص) أفليس هذا مسوغًا لأن يذكر مع فرعون وهامان
وقد استنَّ بسنتهما وجرى على طريقتهما؟ بلى ولكن الذي يتلمس التناقض في القرآن لا يظفر إلا بمثل هذا الخذلان! .
(الشاهد الخامس) زعم أن قوله تعالى في موسى: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ
عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} (غافر: 25) يناقض
قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ} (طه: 38-39) فإن هذا القذف لم يكن إلا هروبًا من أن يقتله قوم فرعون
فدل ذلك على أنهم كانوا يقتلون الأطفال قبل بعثته.
ونقول في الجواب:
أولاً: إن هذه الآية لم تعلل بهذا التعليل، وإنما ذكرت غايتها المقصودة منها
بالنص، وهي قوله تعالى:{يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} (طه: 39) أي
أن الغاية من قذفه في اليم أن يأخذه فرعون ويربيه فيكون من أمره بعد ذلك ما يكون.
وثانيًا: إن الأمر بقتل الأبناء أولاً لا ينافي إعادته ثانيًا لأجل التأكيد والتشديد
عند وجود المقتضي. ومثال هذا حاضر بين أيدينا - نُظار الحكومة المصرية كانوا
نهوا جميع المستخدمين في الحكومة أن يجمعوا مالاً لإعانة سكة الحديد الحجازية أو
يساعدوا الجامعين، وكان ذلك من عدة سنين ثم أعادوا هذا النهي الآن بمناسبة توجه
الناس إلى الإعانة بعد أن أمر السلطان بمطالبة المسلمين كافة بإعانة اختيارية،
أقلها خمسة قروش على الشخص، وأكثرها غير محدود، وقد ذكرت الجرائد هذا
وذاك، فهل يقال: إن النهي الثاني مناقض للنهي الأول؟ كذلك كان فرعون قد أمر
القوابل بأن يقتلن أبناء بني إسرائيل ليقل نسلهم، فلما ظهر موسى ودعاه إلى اتباعه
وإلى إرسال بني إسرائيل معه - أكد الأمر الأول وأعاده وأمر بما هو أشد منه وهو
أن يُقتل الأبناء جهرًا. هذا الأمر موافق لذلك لا مناقض له، فإن التناقض أن تكون
إحدى القضيتين موجبة والأخرى سالبة، كقول يوحنا في الفصل الخامس من إنجيله
حكاية عن المسيح عليه السلام: (31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا)
مع قوله في الفصل الثامن: (14 أجاب يسوع وقال لهم: وإن كنت أشهد لنفسي
فشهادتي حق) ! أرأيت أيها القارئ المنصف لو كان يوجد في القرآن أمثال هذا
التناقض ماذا كان يقول ويكتب هؤلاء الجاحدون الذين يسمون الحكاية عن الأمر
بمعنى الأمر تناقضًا ويسمون اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب توافقًا يدل
على الألوهية؟ !
(الشاهد السادس) زعم المعترض أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) وقوله عز وجل:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) مناقضان لقوله
تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) . وقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (التوبة: 73) وقوله تبارك اسمه: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَاّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193) .
ونقول في الجواب: إن للمعترض بعض العذر إن لم يفهم هذه الآيات حتى توهَّّم أنها متناقضة، وإن كانوا يقولون: إن الذي كتبها أو صححها هو
أعلم النصارى بالعربية (الشيخ إبراهيم اليازجي) ، فإن هؤلاء ينظرون في كتاب
الله ليعترضوا لا ليفهموا ولو ابتغوا الفهم لفهموا، على أن منهم من يفهم ويكابر
نفسه ويماري الناس، فيقول غير ما يعتقد.
معنى الآيات ظاهر، وإن كان للمفسرين في فهم بعضها وجهان، فأمّا الآية
الأولى فمعناها أن كل أمة من الأمم المؤمنة بالوحي والأنبياء لا تكون آمنة ناجية
بمجرد انتمائها إلى دين النبي الذي بُعث فيها ولكن الناجين منها هم الذين يصح
إيمانهم بالله وباليوم الآخر ويكون على وجه الحق ويعملون الصالحات. وهذا حكم
لا يعارض كون الدين اختياريًّا لا إكراه فيه ولا إلزام، ولا يعارض الإذن بمحاربة
المعتدين من الكافرين والمنافقين ولا البغاة من المؤمنين، فإن الله تعالى أمر بقتال
الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.
وأما الآية الثانية فمعناها أن الدين يقوم بالدعوة، والدعوة تؤيد بالحجة وبيان
الرشد في الإيمان من الغي في الكفر.
وأما الآية الثالثة فمعناها أن الإسلام هو دين الأنبياء الذي كان عليه إبراهيم
وموسى وعيسى وغيرهم ولا يقبل الله تعالى دينًا غيره في الآخرة، ولم يكن يعني من
الإسلام الذي دعي إليه الناس في القرآن ما سيكون عليه الطوائف الذين يسمون
أنفسهم مسلمين كيفما كانت عقائدهم وتقاليدهم حتى المجسمة والباطنية والنُّصَيرية،
وإنما معناه الدين الذي روحه إسلام الوجه (القلب) إلى الله تعالى والإخلاص له في
العبادة والطاعة كما قال: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} (آل عمران:
20) وقال: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ} (الحج: 78)، وقال:
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 132) ، فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن المراد بالإسلام
دين الأنبياء من إبراهيم إلى محمد عليهم السلام. ولقد كان الأنبياء من قبل إبراهيم
على دينه ولكن إبراهيم أقدم الأنبياء الذين لم يمت ذكرهم ولم ينقطع التوحيد من
ذريته، وهذا المعنى مطابق لمعنى الآية الأولى مطابقة تامة.
وأما الآية الرابعة الآمرة بجهاد الكفار والمنافقين فليس فيها كلمة تومئ إلى أن
الجهاد لأجل الإكراه على الدين، كيف والمنافقون كانوا متلبِّسين بالدين في الظاهر
وكان النبي يعاملهم معاملة المسلمين، حتى إن المفسرين قالوا: إن الجهاد لا يصح هنا
إلا إذا كان بمعنى المحاجّة بالبرهان، فإن الجهاد في اللغة ليس بمعنى القتال وإنما هو
بذْلُك الجهد في مقاومة شيء، ولذلك أُمرنا بجهاد أنفسنا أي بذل الجهد في مقاومة
شهواتها. ويصح أن يكون الأمر بجهاد الكافرين والمنافقين معًا بمعنى مقاتلتهم إذا
كانت الآية نزلت في مثل غزوة الأحزاب التي اتحد فيها طوائف المشركين مع
اليهود والمنافقين من الفريقين على استئصال المسلمين، وفيها هدد الله المنافقين
بقوله: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب: 60) .
نعم، إن القتال شرع في الإسلام لمقاومة المعتدين وتأمين المؤمنين الذين كانوا
يُفتنون عن دينهم في أنفسهم وأهليهم ويدل على كونه مأذونًا فيه للضرورة الآيات
الواردة فيه. أول هذه الآيات نزولاً آية السيف وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ
وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) ولا تنس قوله تعالى:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .
وأما الآية الخامسة وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) فهي مطابقة لهذه الآيات والمعنى الذي قلناه في حكمة
الإذن بالقتال، أي قاتلوا هؤلاء المعتدين عليكم لأنكم مؤمنون، والذين يفتنونكم عن
دينكم ليردوكم إلى دينهم إن استطاعوا حتى تزول هذه الفتنة والاعتداء لأجل الدين
ويكون الدين خالصًا لله لا يكره عليه أحد ولا يفتن عنه أحد، أي لا ينتفي الإكراه
بالإلزام به والإرجاع عنه وتكون الدعوة إليه أمينة لتظهر الحجة. هذا هو معنى
الآيات لا يقبل تأويلاً وهي ملتئمة يؤيد بعضها بعضًا.
(الشاهد السابع) زعم المعترض أن قوله تعالى حكاية عن المسيح:
{وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياًّ} (مريم: 33) مناقض
لقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النساء: 157) إلى قوله: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ} (النساء: 158) والجواب أن الله تعالى ذكر في آية أخرى أن الرفع
يكون بعد الموت وهي قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) فنفي القتل والصلب لا يستلزم نفي الموت؛ بل جرى عرف
اللغة على أن لا يعبر بالوفاة والموت عن القتل والصلب بل عمن يموت
حتف أنفه.
وبهذا وما قبله تبين أن شواهد المعترض على تعارض القرآن وتناقضه
ظاهرة البطلان ويبعد أن يكون مثل ذلك المؤلف (الإنكليزي) والمصحح
(الشامي) والناقل (القبطي البروتستنتي) معتقدين بها وإنما هم سيئو القصد
يحبون أن يشككوا عامة المسلمين في دينهم ليجذبوهم بحبال الأوهام الدنيوية إلى
ذلك الدين الذي يضم الشاكّين والملحدين، ويؤلف منهم عصبية لمقاومة المسلمين!
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
(1)
الإنسان يحب ذاته - قضية يؤيدها الحس وبها تعلل كل أعماله وكل
محباته، ومن محبته لذاته تحمُّله الأتعاب العظيمة والآلام الشديدة في العاجل لأمله أن
تبقى ذاته وتنال خيرًا في الآجل، وهذا أعظم الأمثلة لمحبة الإنسان ذاته.
(2)
حب الذات في أصله طبيعي ونافع - هذه المحبة تخلق مع الإنسان من
قبل أن يعرف نفسه وغيره، ومن قبل أن يعرف النافع والضار، والدليل على ذلك
أنه منذ يبدأ أن يعرف النافع والضار من طريق الحس يبدأ أن يحب مرضعته قبل
سواها. وهل يقتدر أحد أن يعلل محبة الطفل لمرضعته بشيء غير طبيعي؟ وهل
ذلك الشيء الطبيعي أمر غير محبة الإنسان ذاته بحسب الجبلة؟ ولا ريب في أن
هذا الشيء الطبيعي نافع لازم. أما كونه لازمًا فقد يدلنا عليه كونه طبيعيًّا؛ لأنه
من المجرب عند قراء سنن الوجود أن الشيء متى كان وجوده لازمًا من اللوازم
العامة كان طبيعيًّا. وأما كونه نافعًا فلأنه الأساس الأعظم في حفظ الشخص وبقاء
النوع. وستأتون على تفصيل هذا الإجمال مرات كثيرة. ومن المجرب المحقق أن
محبة المرء ذاته تنمو فيه على التدريج منذ طفوليته إلى أن تكمل رجوليته. ونفعها
ينمو على هذا الوجه وأعظم آثارها شيئان طبيعيان متضادان تنشأ عنهما آثار
متضادة أيضًا، هما: شهوة تجذب، وغضب يدفع.
(3)
ذات غيرنا كذاتنا، فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا - فحب
الذات له حدود قل أن نجد قضية مستغنية في ذاتها عن قيود وشروط فقولنا (محبة
الذات نافعة) قضية لا تسلم من الجرح إلا إذا ساعدناها وقيدناها بقيد. وهذا الشرط
مشروح بكلمة (ذات غيرنا كذاتنا) وتوضيحه أننا إذا لم نضع لذاتنا حدًّا لا يضع
غيرنا لذاته حدًّا. فما نطلبه لذاتنا يطلبه غيرنا لذاته. ويظهر من هذا أن محبة
الذات لا تكون نافعة إلا إذا كانت تابعة لنظام وواقفة عند حد وينتج ذلك ما ترى.
(4)
إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا. كيف لا وجميع ما
نسميها شرورًا إنما منشؤها مجاوزة الحدود في محبة الذات؛ لأنه لا معنى للشر إلا
الاعتداء على الحقوق، وهل هذا الاعتداء شيء غير مجاوزة الحدود؟ ولا فرق
بين أن تكون أنت المعتدي على غيرك لأجل ذاتك وأن تكون يعتدي عليك غيرك
لأجل ذاته، فالأول شر لأنك لا تسلم فيه من جزاء ما، وقد يكون الجزاء طبيعيًّا
كجزاء الشرِه، والثاني شر لأنك فقدت حقك لأجل شره غيرك فيه.
الصنعة بديعة كاملة أتقنها حكيم عليم قد جعل لكل شيء سنة، ناموسًا،
طبيعة خاصة، نظامًا (قل ما شئت أن تقول وسمِّ ما أردت أن تسمي، لا تناقش
باحثًا في لفظ يؤدي إلى معنى يؤديه لفظك أو قريبًا منه) مزج ما تبتغيه النفس بما
تنفر منه، وعلمها السبل في الوصول إلى المبتغَى، وجعل للسبل حدودًا عن يمين
وشمال. فمن تعدَّى الحدود فاته المقصود. وربما وقع في المكروه. ومن لم يتعدها
فاز ونجا، وتم له الرضى. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) .
(5)
إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود. إذا كان لكل داء دواء
فلا علاج لداء الشرور إلا محبة الناس محبة تابعة لنظام. وهذا العلاج لا يتخلف
نفعه أي أنه متى استعمل ينفع، فنحن نستطيع أن نقول: إن هذا العلاج يستأصل
الداء لمن استعمله ولكن لا نستطيع أن نقول: إنه يعم استعماله وتستأصل الشرور
كلها. وليس فيها مستحيلاً عقلاً ولكن التجربة تجعلنا لا نطمع فيه على أننا إذا لم
نرجُ أن تستأصل الشرور نرجو أن تخف ونجتهد في أن نعلّم الناس محبة الناس؛
كذلك كان الناس من قبل فهدى العلم بعضًا ببعض، كما أضل الجهل بعضًا ببعض،
ولا يزال العلم يجاهد الجهل إلى أن ينصره الملك القدوس السلام على أيدي رجاله
الأعلام.
(6)
إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا. من لطف العناية الأزلية أن
كان استعمال هذا العلاج سهلاً إذ ثبت في الفطرة أن من لوازم محبة الذات محبة
الغير، فلا جناح علينا أن كان حب غيرنا لأجل ذاتنا؛ لأن هذا هو العلاج في
محبة الغير وهذا الثاني هو العلاج في تخفيف داء الشرور، ولكن الجناح علينا إذا
لم نتبع نظامًا في محبة الذات ومحبة الغير، وهنالك الشر.
(7)
بغض الذات مرض. يظهر مما تقدم أن لمحبة الذات نفعين: أحدهما
يرجع إلى الذات والآخر يرجع إلى الغير. وينتج أن لبغض الذات ضررين:
أحدهما للذات والآخر للغير. وإذا ثبت هذا فلا شك في أن بغض الذات مرض
مشوه للفطرة السليمة. وشائن لصاحبه يؤديه إلى نوع رديء من أنواع الرذائل وإثم
كبير من الآثام التي يناقش عليها المجتمع.
مبغض ذاته بالطبع يبغض غيره، وتكثر حيرته، يعترض على الصانع
الحكيم في صنعته، وعلى الإنسان العليم في علمه، عاطل معطل، طائش مطيش،
غر مغرر، مخبول مخبل، ناقم على الأحياء، متأفف من الحياة، جانٍ على
الاجتماع، قليل الرغبة، قليل الرهبة، قليل الحياء، قليل المروءة، قليل الغيرة،
عديم الهمة، عديم النشاط، عديم الفلاح، عديم السعادة. وإن شئت أن تعرف
مبغضي ذواتهم فأولئك هم مخالفو الفطرة التي فطرت عليها النفوس، وأذعنت
لحكمتها العقول، أقول هذا ولا أزيدكم شرحًا لتقدحوا زند ذكائكم، وتعلموا من
أشرنا إليهم بصفاتهم متى رأيتموها في إنسان. وزيدوا عليهم طوائف المستعبدين.
هذا وقد نسأل ويقال لنا: لماذا نرى بعض الحكماء قد يوصون ببغض الذات
ويأمرون بمنابذة اللذات المشروعة وإيثار الآلام؟ فالجواب:
(8)
قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور، كما إذا
كان امرؤ لا يملك أن يتزوج ويريد أن يستعمل قوة باهه في غير ما خلق لأجله
كوطء بهيمة أو دبر أو استمناء بيد أو تسلط على عِرض فيه حق الغير - يؤمر في
هذه الحالات أن يجوّع نفسه لتضعف قوة باهه. فإن فسرت تجويع نفسه ببغض ذاته
وسميت هذا البغض المتعمد لحكمة مرضًا، قلنا: إن هذا المرض لمثل هذه النفس نافع
* وربما صحت الأجسادُ بالعللِ *
وإن سميت هذا التجويع حمية أو علاجًا فلا إشكال، وكما إذا كان يكنز النقود
الكثيرة لا يتاجر بها ولا ينفق منها على نفسه، يؤمر أن ينفقها على غيره ولو افتقر؛
لأن حاله قبل الإنفاق على غيره هي عين حال الفقراء فالفقر بعد الإنفاق قد تسلم
به نفسه من شر عظيم مؤلف من الجهل وبغض الغير وهو كنز تلك الحجارة التي لا
معنى لها إلا المبادلة وتسهيل معاملات الناس. وكما إذا كان كثير الاعتداء على
النفوس بقتلها ويؤذيها، يؤمر بالتوبة وتسليم النفس للقصاص. وهل من معنى لتسليم
النفس للقصاص غير بغض الذات؟ وليس يرتاب أحد بأن من كان كثير الاعتداء
على النفوس إذا مرض ببغض الذات إلى درجة يسلم بها نفسه للقصاص كان مرضه
نافعًا له ولغيره. وأمثلة هذا كثيرة قيسوا على ما ذكرت ما يظهر لكم.
(تنبيه مهم) إذا قلنا: إن الله أحب إلينا من أنفسنا، يجب علينا أن نفهم
معنى هذا الكلام حتى نكون على بينة وصدق مما نقول، وإلا كان كلامًا يراد به
تزكية النفس بمجرد إيراد حروفه. وسيأتي نحوه من تفسير هذا الكلام أو تفسيره،
ولكن أحببت ههنا أن أبادر إلى كلمة واحدة من تفسيره قد تغني الأذكياء. وما هذه
المبادرة إلا لأن هذه الكلمة من علائق الصدد: إن معنى محبة الله اتباع الحدود
ورعاية حقوق الغير وبذل وسع النفس في هذا الشأن وكل فروعه. وليس من
بغض الذات تجريعها الصبر في هذه السبيل الحميدة البالغة بها أسنى المقامات
وأسمى السعادات. بل هو من محبتها فإذا أحببت معلمك أكثر من محبتك لنفسك لا
تكون أبغضت ذاتك بل أحببتها حبًّا جعلك تحب كل ما يرقيها ويصلح شأنها حبًّا
شديدًا.
(9)
متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة.
هذه المسألة كنتيجة لما تقدم وكفاتحة لما يأتي لأن كل علوم الناس وأعمالهم
وأقوالهم مقصود بها تحصيل السعادة التي هي فائدة هذه الحياة عند القائلين بوجود
السعادة. وعلم النفس في انفرادها واجتماعها هو العلم الوحيد الذي يهدي الحائر في
هذه المهامه.
وعندنا أن السعادة موجودة ممكن تحصيلها، ومن السعادة اعتقاد وجودها وهذا
المبحث المهم يحتاج فضل بيان، أما ههنا فأكتفى بتقرير هذه القاعدة لتحفظ في الذهن
وتتوجه النفس إلى شرحها وهي: (متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم
كانت السعادة) لأن سعادة النفس في أحوال ثلاث (تصورها وطلبها وفوزها)
فمتى كان التصور صافيًا سليمًا قويًّا التذت النفس وانبعثت للطلب ومتى كان الطلب
مشروعًا نظاميًّا التذت النفس وأشرفت على الفوز، فإن فازت فذاك هو وإن لم تفز
فسعادتها أنها لم تقصر في الطلب، على أن الطلب في نفسه لذيذ وفي الأكثر يفيد
فائدة ما مما تبتغيه النفس إذا جدَّت وثبتت.
وقلّ مَن جدّ في أمر يحاوله
…
ولازم الصبر إلا فاز بالظفر
هذا والفكر السليم هو الذي يميز بين الخير والشر والنفع والضر.
…
...
…
...
…
...
…
... (ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: أحد طلبة الطب بمصر
تحريم الخنزير ونجاسة الكلب
حضرة الأستاذ الفاضل / صاحب مجلة المنار الأغر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(وبعد) فإني أتيت بهذه المقالة راجيًا نشرها في مجلتكم الغراء، حتى
تتبين للناس الحكمة في اعتبار الشريعة الإسلامية أن الكلب نجس وفي تحريمها
لحم الخنزير معتمدًا فيما أقول على المباحث العلمية الطبية الحديثة التي أثبتتها
التجارب الحسية حتى لا يبقى عند أحد ريب في صحة ما أتت به هذه الشريعة
الغراء والعمل بموجبه، فإنها أحكم من أن تضع حكمًا عبثًا وأجلُّ من أن تسن قانونًا
لا فائدة للناس فيه، ومهما خفي سببه في بادئ الأمر فلا بد أن تتجلى فائدته عاجلاً أو
آجلاً، فأقول:
لتحريم لحم الخنزير أسباب كثيرة أجلها ثلاثة قبل أن أتكلم على هذا السبب
الأول يجب أن أقدم مقدمة في (علم الديدان) حتى لا يعسر على أحد فهم ما أقول.
(الأول ومقدمته)
قد يوجد في أمعاء الإنسان عدة أنواع من الديدان قلّ أن يخلو منها أحد، ومضار
هذه الديدان متفاوتة فمنها ما ضرره عظيم ومنها ما ضرره حقير ومن هذه الأنواع
ما يسمى بالديدان الشريطية. أذكر منها الدودة الوحيدة بتفصيل يسير لأن لها صلة
بموضوعنا وأشير إلى غيرها فيما بعد. تسمى هذه الدودة (تينيا سوليم) وهي كلمة
يونانية ومعناها (الشريط الوحيد) سماها الواضع بهذا الاسم لظنه أنه لا يوجد منها
في الأمعاء إلا واحدة فقط وهذا خطأ فقد يوجد منها أحيانًا اثنتان أو ثلاث، وطولها
يختلف من 7 أقدام إلى عشرة أقدام وهي مقسمة إلى عدة أقسام تبلغ 850 وفي
الأقسام الخلفية توجد أعضاء التناسل فتجد أن كل قسم منها فيه أعضاء الذكر
والأنثى، فإذا تممت هذه الأعضاء وظيفتها وتكونت البويضات في داخل الرحم
انمحت الأعضاء إلا الرحم فتبقى البويضات محفوظة فيه فإذا سقطت هذه الأقسام
المشتملة على البويضات من دبر الإنسان وقت التخلي كما يحصل كثيرًا لمن كان
مصابًا بها ووصلت هذه البويضات إلى معدة الخنزير أثناء تقممه القاذورات وأكلها
ذاب قشرها بواسطة العصير المعدي وخرجت الأجنة فتثقب الغشاء المخاطي للمعدة
وتصل إلى أوعية الدم الذي يحملها إلى العضلات وغيرها وهناك تنتقل إلى طور
جديد تصل به إلى تمام نموها. وهذا الطور هو أن تكوّن هذه الأجنّة حويصلات
صغيرة واحدها قدر حجم الحمصة في داخل اللحم وبعد ذلك يبرز في داخل هذه
الحويصلات هنات مخروطية الشكل، كل هنة منها رأس لدودة جديدة فإذا أكل
إنسان هذا اللحم خرجت هذه الرؤوس من حويصلاتها وعلقت بالغشاء المخاطي
للأمعاء وكونت كل واحدة دودة طويلة تامة النمو وتسبب من وجودها في الأمعاء
أعراض كثيرة فيحصل للمصاب بها مغص أو قيء وربما صار نَفَسه كريه الرائحة
ويصاب بالإقهاء (فقد شهوة الطعام) أو النهم الشديد وقد يصاب بآلام في رأسه أو
دوار أو إغماء ويشعر بضعف عام في جسمه وتضطرب أفكاره وأحيانًا تنتابه
نوبات صرعية وتشنجات عصبية قوية. وليس هذا كل الضرر الذي ينشأ عن هذه
الدودة، بل هناك خطر آخر عظيم وذلك أن بعض الأقسام قد يتلف وهو في الأمعاء
فيجرح البويضات مع البراز، فإذا أصابت ملابسه أو يده أو غير ذلك ووصلت إلى
معدته أثناء أكله أذاب العصير المعدي قشورها وخرجت الأجنة وتطورت بذلك
الطور الذي ذكرناه في الخنزير فتتكون الحويصلات المذكورة سابقًا في أعضائه،
وكثيرًا ما تصيب عينه فتتلفها أو بعض أجزاء مخه فتفسدها وتبطل عملها،
فيحصل له شلل في بعض أعضائه أو غير ذلك مما يتسبب عن إصابات جوهر المخ
وقد تصيب أعضاءً أخرى فتعمل فيها ما عملته في العين والمخ ويصير الإنسان منبعًا
لعدوى غيره فإذا صافح آخر وانتقلت إليه البويضة تعمل فيه ما عملته في الأول.
وكثيرًا ما يتخلى أهل الأرياف وغيرهم في المزارع أو في مياه الشرب فتنقل بسبب
ذلك الحويصلات إلى أناس كثيرين، ولولا الخنزير لما أصاب الإنسان شيء من
ذلك فإنها لا توجد في حيوان يؤكل سوى الخنزير، وقد توجد في الكلب أيضًا
والقرد.
واعلم أنه لا توجد دودة تتم طور الحويصلات في الإنسان سوى هذه وأخرى
نذكرها فيما بعد وحويصلات هذه الدودة تقاوم الحرارة في درجة 60 سنتجراد نحو
نصف ساعة على الأقل إذا كانت توجد في داخل لحم الخنزير وهو موصل رديء
للحرارة فإذا غلي الماء الذي حوله أثناء الطبخ حتى صارت درجته 100 فلا تصير
درجة ما في داخل اللحم 60 أو 70 إلا بعد زمن ثم ترتفع شيئًا فشيئًا حتى تصير
100 ولهذا تجد أن كثيرًا من الأوربيين مصابون بها وذلك لصعوبة قتلها بالحرارة
وكلما ازداد الإنضاج للثقة بقتلها عسر هضم اللحم لتجمد المواد الزلالية.
هذا ولما كان اختيار أخف الضررين هو الواجب عند الاحتياج إلى ارتكاب
أحدهما - ولا يخلو لحم من مضار - وجب أن نختار ما هو أخف أذى، قلت ذلك
لأن الحيوانات الأخرى المأكولة كالضأن أو غيره لا تخلو من ديدان أخرى شريطية
كالسابقة. من ذلك دودة (تينيا ساجنيتا) التي توجد حويصلاتها في البهائم التي تؤكل
ولكن هناك فرقًا بين هذه وتلك لأن الحويصلات في هذه إذا وصلت إلى معدة
الإنسان وتكونت منها الدودة التامة وفيها البويضات فلا يمكن إذا ازدرد الإنسان
البويضات ثانيًا أن تكوّن طور الحويصلات فيه مطلقًا؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا دودة
الخنزير وبذلك يكون الإنسان مطمئنًا على عينه وعلى مخه وغير ذلك من الأعضاء
الرئيسة ولا يكون منبعًا لعدوى غيره وذلك لأن هذه البويضات يلزم لها حيوان آخر
غير الإنسان حتى تتم طور الحويصلات فيه وبعد ذلك تنتقل منه إلى الإنسان فتكون
في أمعائه الدودة التامة البالغة النمو.
وفي الحقيقة إن أعظم الأخطار هو تكوّن الحويصلات في أعضاء الإنسان
الرئيسة وأما في الأمعاء فربما لا ينشأ عنه شيء مضر به وإذا حصل بعض
الأعراض التي ذكرت كالقيء والإسهال والصداع فإزالة الدودة بكثير من الأدوية
سهل جدًّا، ولكن إزالتها وهي في طور الحويصلات من المخ وغيره عسير بل
مستحيل. ويا ليت هذا هو ضرر الخنزير الوحيد؛ بل هناك مضار أخرى فاسمع
الغرائب الآتية:
(الثاني)
كثيرًا ما يأكل الخنزير الفيران الميتة التي كثيرًا ما تكون عضلاتها محلاًّ لأجنة
دودة تسمى (تريكينا اسبايرالس) أي الشعرة الحلزوينة؛ لأنها دقيقة جدًّا وملتوية
على شكل حلزوني فإذا وصل هذا اللحم إلى معدة الخنزير هضم وخرجت
الأجنة من أغشية الأمعاء المخاطية وتصل إلى عضلات الخنزير فإذا أكلها إنسان ولم
يكن قد عرضها بالطبخ لحرارة كافية لإماتتها نمت في أمعائه إلى أن تلد أجنة كثيرة
تنفذ إلى عضلات الإنسان وخصوصًا عضلات التنفس وكذلك القلب، وحينئذ
يصاب بمرض شديد فترتفع حرارته ويعتريه إسهال وقيء وتلتهب جميع عضلاته
فلا يقدر على تحريكها ويصير لمسها مؤلمًا فلا يمكنه أن يمضغ أكله فيمتنع عنه
ويصعب عليه أن يتنفس لالتهاب عضلاته، ولا يقوى على تحريك عينيه وبعد ذلك
يحصل له ارتشاح في جميع جسمه فيرم وتسرع حركات نبضه وحركات تنفسه
بطيئة جدًا حتى يموت! وهذه الأعراض لا يمكن علاجها مطلقًا؛ إذ لا يمكن إزالة
هذه الديدان من عضلاته بعد تحصنها فيها.
وهذا المرض كثيرًا ما يحصل في البلاد الأوروبية بسبب أكل هذا اللحم
المشئوم ولا يتسبب عن أكل لحم سواه كالضأن وغيره لأنها لا تأكل الفيران الميتة
إلا إذا أُلقي في غذائها أو وقع فيه بالاتفاق وأكلته بالتبع له، فحينئذ تصاب بما
يصاب به الخنزير، ولكن هذا نادر جدًّا، والنادر لا حكم له، بخلاف الخنزير؛
فإن حبه للفيران الميتة يوقعه في ذلك مرارًا عديدة، ولعل هذا السبب أيضًا هو أحد
الحِكَم في تحريم لحوم الحيوانات التي تأكل اللحم لأنه عرضة للإصابة بهذا المرض
كثيرًا.
(الثالث)
لحم الخنزير هو أعسر اللحوم هضمًا باتفاق، وذلك لأن أليافه العضلية
محاطة بخلايا شحمية عديدة أكثر من الحيوانات الأخرى المباح أكلها وهذه الأنسجة
الدهنية تحول دون العصير المعدي فلا تسهل عليه هضم المواد الزلالية للعضلات
فتتعب المعدة ويعسر الهضم ويحس الإنسان بثقل في بطنه ويضطرب القلب؛ فإن
ذرع الآكل القيء وإلا تهيجت الأمعاء وانطلق البطن بالإسهال فمن لم يتعود أكله
تعب منه كثيرًا ومن تعوده وكان قوي المعدة كان الأولى له صرف قوتها في الأغذية
الجيدة النافعة وإن لم يكن قوي المعدة ناله من شر هذا اللحم ما يستحق.
والخلاصة:
أن من ابتعد عن أكله أمن من الإصابة بالدودة الوحيدة أو حويصلاتها ولم
يكن سببًا في عدوى غيره وسلم من الإصابة بمرض دودة الشعرة الحلزونية، الذي
ربما فاق الحمى التيفودية، فإنه من أصابه لا يرجى شفاؤه ولا بد من موته - وحفظ
معدته من التعب وعسر الهضم وأسباب القيء والإسهال وضعف تغذية الجسم إلى
غير ذلك من المضار التي سبق شرحها.
أما اللحوم الأخرى فإنها أسهل هضمًا ولا يتسبب عنها عادة مرض الشعرة
الحلزونية ولا حويصلات في أعضائه الرئيسة يتلفها وإن نشأ عنه دودة شريطية
فعلاجها سهل ولا تحدث أعراضًا مهمة. فعلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين يجب
أن نقول: لا تأكلوا لحم الخنزير فإنه رجس وكلوا غيره مما أبيح شرعًا.
الدين الإسلامي لم يأتِ لإصلاح الروح فقط بل لإصلاح الروح والجسم معًا
فأتى بما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا وأنفسنا وأبداننا ولم يترك ضارًّا لأحدهما إلا ونبه
عليه تصريحًا أو إجمالاً على حسب شيوعه وعدمه بين الناس، فلو ترك التكلم في
المأكولات ونحوها لما كان مرشدًا للأنام في جميع أحوالهم الضرورية، فلو لم يحرم
لحم الخنزير مثلاً لمضى زمن طويل حتى يهتدي الناس إلى ضرره. ولو اهتدى
إليه بعض الأمم لما علمه فيها إلا الخاصة فقط ويمضي الزمن الطويل حتى تعلمه
العامة ولو علمته العامة لما قويت على ترك ما اعتادته وعهدت اللذة فيه بخلاف
الأمر الديني فإن كل الأمم المؤمنة به تخضع له في أقرب وقت، تخضع له العامة
كما تحترمه الخاصة ويعمل في نفوس الجميع ما لا يعمله قول الخطباء ولا نصح
النصحاء؛ ولذلك تجد أن شرب الخمر في أوروبا شائع بين سائر الطبقات وكلٌّ
يعلم ضرره ومع ذلك لا يمتنعون عنه لا بقول خطيب ولا بقول عالم، فكم خطبت
الخطباء ونصحت العلماء ولكن أين مَن يسمع؟ ! فلو لم يكن للدين التأثير الأقوى
في أهل الشرق لفاقوا أهل الغرب في الشرب وسبقوهم في تربية الخنزير وأكله
ولولا أنهم أخذوا يقلدونهم الآن لما وجدت بينهم شارب خمر ولا آكل خنزير إلا
نادرًا ولَمَا سمعت بمرض مما ينشأ عنهما فيهم. فأي إنسان يمكنه الآن أن يعترض
على الدين ويقول: (ما له يتكلم في المأكول والمشروب؟ !) وفاته أنه لم يأتِ إلا
للإصلاح العام في كل ما يمكن إصلاحه. فلم يتكلم في العقائد فقط بل في المعاملات
أيضًا وكما أمر بإصلاح القلب وطهارته أمر بحفظ صحة الجسم ونظافته، فأنعِمْ به
من دين جمع فأوعى وأحكِمْ به من صراط سوي مستقيم.
بقي علينا أن نتكلم في نجاسة الكلب، لا نقول: إن السبب في ذلك هو أنه
عرضة للإصابة بداء الكلب فإن هذا الداء لا يصاب به الكلب وحده بل قد تصاب به
الهرة والبقرة والحصان وغيرها، ومتى أصيب الكلب به عرفه الناس وقتلوه فإنه
متى أصيب به شل سريعًا عن الحركة وسهل قتله ومجرد لمسه في هذه الحالة لا
يعدي بل لا بد من العض ودخول لعابه في جلد الإنسان. فلماذا يعتبر الكلب نجسًا في
جميع أحواله ولا تعتبر البقرة والحصان كذلك؟
السبب في ذلك ما يأتي: في أمعاء أكثر الكلاب دودة شريطية صغيرة جدًّا
طولها 4 ملليمترات تسمى (تينيا إيكينوكوكس) فإذا راث الكلب خرجت البويضات
بكثرة في الروث فيلصق كثير منها بالشعر الذي بالقرب من دبره فإذا أراد الكلب أن
ينظف نفسه بلسانه كما هي عادته تلوث لسانه وفمه بها وانتشرت في بقية شعره
بواسطة لسانه أو غيره، وهذا ما يحصل في كل نوبة وبتكراره يصير جميع سطح
جسمه ملوثًا بهذه البويضات كما شوهد ذلك بالنظارات المكبرة.
فإذا ولغ الكلب في إناء أو شرب ماءً أو قبَّله إنسان كما يفعل الإفرنج أو لمس
جسده بيده أو بلباسه علقت بعض هذه البويضات بتلك الأشياء وسهل وصولها إلى
فمه أثناء أكله أو شربه فتصل إلى معدته، وتخرج منها الأجنة فتثقب جدر المعدة
وتصل إلى أوعية الدم فتصل إلى أعضاء الجسم الرئيسة وغيرها وهناك تتم طور
الحويصلات، ولكن هذه الحويصلات كبيرة فتسمى هنا أكياسًا وهي تصيب الكبد
كثيرًا وأحيانًا تصيب الأعضاء الأخرى كالمخ والقلب والرئة، ووجود هذه الأكياس
يُحدث أعراضًا عديدة فما يصيب منها الكبد قد يولد استسقاءً زقيًّا بضغطها على
الوريد البابي أو يرقانًا وقد يتقيح السائل الذي في قلب الكيس ويولد خراجًا في الكبد
وربما انفتح هذا الخراج في تجويف البريتون فينشأ عنه التهاب بريتوني حاد
فيموت الشخص بسببه وإذا انفتح في تجويف البلوري تسبب عنه التهاب مع
انسكاب. إلى غيره ذلك من المضار، وإذا حصل هذا الكيس في المخ نشأ عنه صداع
شديد وقيء متوالٍ وفقد شعور وإحساس وتشنجات وشلل بعض الأعضاء على
حسب موضعه من المخ وإذا أصاب القلب ربما كان سببًا في تمزقه فيموت الشخص
في الحال.
كل ما قلناه ليس تخيلات شعرية ولا تصورات وهمية؛ بل هي أشياء شاهدها
أطباء أوربا في بلادهم وعلموا سببها بالحس والمشاهدة. ونصحوا للناس بالابتعاد
عن الكلب ولكن أين مَن يسمع ولا أمراً دينيًّا يعتقد عندهم، فينهاهم؟
هذا ولما كان تمييز الكلب المصاب بهذه الدودة من غيره عسير جدًّا لأنه
يحتاج إلى زمن وبحث دقيق بالمنظار المكبر الذي لا يعرف استعماله إلا قليل من
الناس - كان اعتبار الشارع إياه نجسًا هو عين الحكمة والصواب، فتبتعد الناس عنه
وتأمن من شره.
فالحمد لله الذي جعل ديننا هاديًا لنا في جميع أمورنا وأيده ويؤيده كل يوم
بالبراهين الحسية حتى يتضح للناس أن الدين عند الله الإسلام ويظهر تأويل قوله
تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) .
…
...
…
...
…
...
…
... م. ت. ص
…
...
…
...
…
...
…
... أحد طلبة الطب بمصر
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التقريظ
(ميزان الأفكار)
كتاب في مهمات القوانين المنطقية وضعه (أحمد أفندي الهادي المقصودي)
أحد علماء قزان (روسيا) بأسلوب جديد في اللغة العربية، وترتيب وتبويب لم يعهد
في كتبها المنطقية، وأدخل فيه فوائد ومسائل ليست من هذا الفن ولكنها تتصل بنسبه،
وتدلي بسببه، وترغب فيه الباحثين، وتزيد نشاط المشتغلين. فقد أصبح المنطق في
العلوم العربية شبيهًا بالأعضاء الأثرية، تُقرأ مسائله، وتهمل في العمل تعاريفه
ودلائله؛ لأن العلوم العقلية التي وضع لها قد انطوى بساطها وتقلص ظلها.
بدأ المؤلف كتابه بتمهيد عنوانه (علم الروح وعلم المنطق) وبين بعده فائدة
المنطق وكونه فطريًّا في الإنسان، ووجه الحاجة إلى تعميمه وذكر أشهر علمائه
القدماء من اليونان والعرب والمتأخرين من الإفرنج، ثم تكلم في مقدمة الكتاب عن
الوجود والعدم والواجب والممتنع والممكن والجوهر والعَرَض ومقولات الأعراض
والعناصر والمواليد والحواس الظاهرة والباطنة والعلم وتحصيله بالتفكر والاستدلال
ثم انتقل إلى الدلالات، ومباحث الألفاظ ثم إلى سائر المباحث وجاء فيها بضروب
من التقسيم والبحث غير معهودة إلا في كتب الإفرنج. فالكتاب جامع بين المنطق
القديم والمنطق الحديث.
وقد طبع المؤلف كتابه وجعله ذكرى لمرور عشرين سنة على خدمة (إسماعيل
بك الغصفري) محرر جريدة (ترجمان) في بلدة (باغجه سراي) الروسية. فنثني
على المؤلف ونهنئ رصيفنا الكامل (إسماعيل بك) بلسان المنار (كما هنأناه بلسان
البرق) على خدمته للمسلمين بجريدته ومطبوعاته وبما وفق له من إنشاء المدارس
حتى كان ركن النهضة الإسلامية، في بلاد القِرْم بل في البلاد الروسية، ونسأل الله
تعالى أن يكثر في المسلمين من أمثاله.
***
(القصائد الهاشميات)
الكُميت بن يزيد الأسدي الكوفي أحد الشعراء والأدباء الأولين ولد سنة 60
ومات سنة ست وعشرين ومئة وأحسن شعره (القصائد الهاشميات) التي سارت
بها الركبان. وقد عني في هذه الأيام الشيخ محمد شاكر الخياط النابلسي أحد مجاوري
الأزهر المجدين بطبعها بعد ما صححها على إمام أهل الأدب في هذا العصر الشيخ
محمد محمود الشنقيطي. ومن سوء الحظ أن عاثت المطبعة في ذلك التصحيح
فأفسدت فيه ما شاءت، ولكنه عاد فأصلح بعض غلط الطبع بالقلم فجزاه الله خير
الجزاء. أما الذي طبعه على نفقته فهو الشيخ محمد توفيق الخياط النابلسي أحد
المجاورين المجتهدين فنشكر للطابع وللمصحح عنايتهما بهذا الأثر النافع ويا ليتهما
يعيدان طبعه مصححًا. ونحث طلاب آداب العربية على حفظ هذه القصائد أو كثرة
قراءتها.
***
(هناك وهنا)
كان أحمد حافظ أفندي عوض قد كتب في جريدة المؤيد بعض مقالات عنوانها
(هناك وهنا) شرح فيها تاريخ استيلاء إنكلترا على الهند وسياستها فيها وعلاقة
مسلمي الهند ونهضتهم الأخيرة بالطوائف الأخرى ومن ذلك الكلام في المجاعات
وفي التجارة وفي النفقات الحربية والتعليم. وقد طبعت هذه المقالات على حدتها
بمطبعة الشعب فبلغت 76 صفحة من القطع الصغير وهي جديرة بالمطالعة.
***
(القول السديد في حرب الدولة العلية مع اليونان)
كتاب جديد ألفه علي بك شاكر نجل المرحوم محمد شاكر باشا الفريق
الطوبجي، صفحاته زهاء مائتين وهو مزين برسوم القواد والمواقع الحربية، ولم
نوفق لمطالعة شيء منه ولكننا نظن أن الروح التي تجول فيه هي تعظيم شأن
الدولة العلية وتوجيه القلوب إلى حبها لأننا نرى المؤلف مغرمًا بدولته لاهجًا
دائمًا بمحاسنها ومدح مولانا السلطان عبد الحميد أيد الله دولته ووفقه لخدمة الإسلام.
وثمن الكتاب 30 قرشًا صحيحًا إلا للجنود فثمنه لهم 20 قرشًا، وهو يطلب من
مطبعة الموسوعات بمصر.
هذا ما كنا كتبناه لجزء مضى ولم يتيسر نشره إلا في هذا الجزء ثم رأينا في
بعض الجرائد أن المؤلف جعل الثمن 20 قرشًا لجميع الناس ووعد بجعله إعانة
لسكة الحديد الحجازية، فصار يطلب لذاته وللإعانة معًا وكفى بذلك ترغيبًا.
***
(ألف ليلة وليلة)
أتمت مطبعة الهلال الجزء الثالث من هذا الكتاب مزينًا كسابقيه بالصور
والرسوم، منزهًا عن الفحش والمجون، وصفحاته 216 وثمنه 10 قروش وأجرة
البريد قرشان وهو يطلب من مكتبة الهلال بمصر.
***
(كتاب الخدمة المدرسية في تسهيل قواعد العربية)
ألف هذا الكتاب جرجس أفندي الخوري المقدسي (ب. ع) مدرس اللغة
العربية في المدرسة الأميركية بطرابلس الشام وطبع هناك وقد سلك فيه مسلك
السهولة وأكثر فيه من الأمثلة، فعسى أن يلتفت إليه نظار المدارس ويختاروه للتعليم
في مدارسهم إذا رأوه أمثل من الكتب التي فيها وأسهل.
***
(ارتياح الفكرة من جهة الكُلَره)
كتيب وضعه أحمد أفندي رفعت في الفيوم أيام وباء الهيضة من العام الماضي
وطبعه بعد ذلك، وعبارة الكتاب أقرب إلى العامية وإننا لم نقرأه ولكننا نذكر المسائل
التي يبحث فيها بعبارته لعل أحدًا يريد أن يعرف رأيه فيها وليعذرنا القراء في
حكمنا على عبارته قال: قد جئت بالبحث والإيضاح عن السبعة أوجه التي يهم كل
إنسان الوقوف على حقيقتها وهي:
أولاً: هل يوجد كلرا حقيقة كما يقولون؟ البعض بالإثبات والبعض بالنفي.
ثانيًا: هل ينفع فيها العلاج واستشارة الأطباء لتدارك الشفاء أم لا؟
ثالثًا: هل الاحتياطات الصحية في ذلك مما يجب مراعاته والأخذ به أم
طرحه ظهريًّا؟
رابعًا: هل مسألة الإصابة بالعدوى صحيحة أم غير صحيحة؟
خامسًا: هل سير رجال الصحة في عمل الاحتياطات موافق للشرع الشريف
أم مخالف له؟
سادسًا: هل ما يشاع من وجود من يقصدون تعمد وضع أشياء مسممة
للناس في الأطعمة والمياه حق أم باطل لا أصل له؟
سابعًا: هل أصدق بقولي إن الكلرا الثانية الآتي بيانها هي أشد وطئًا وأعبأ
ثقلاً على الناس أم لا؟ اهـ. بحروفه، وصفحات الكتيب 72 ويطلب من أكثر
المكتبات الشهيرة.
***
(مسامرات الشعب)
صدرت القصة السابعة عشرة واسمها (اليتيم) ومؤلفها حافظ أفندي عوض
وقد كان طبعها الطبعة الأولى من نحو خمس سنين وقرأناها فحمدنا التأثير، وانتقدنا
التقصير في التحرير، وصدرت القصة الثامنة واسمها (شهداء الآباء) ومؤلفها
مصطفى أفندي إبراهيم وهي تمثل سوء عاقبة ما عليه أولاد الأغنياء في مصر من
فساد الأخلاق واتباع الشهوات. وفاتنا أن نذكر من قبل قصة (الفتاة اليابانية)
وهي قصة موضوعها مفيد قرأناه بارتياح وودنا لو يطالعها تلامذة المدارس
المصرية عسى أن يميزوا بين التعليم الحي وتعليم المحاكاة التقليدية، ومؤلفها حسن
أفندي رياض وهي القصة السادسة عشرة من المسامرات.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجمعية الخيرية الإسلامية
الاحتفال بمدرستها في القاهرة
احتفلت الجمعية الخيرية الإسلامية في يوم الأربعاء الأسبق بمدرستها في
القاهرة احتفالاً رأسه مفتي الديار المصرية وحضره كبار العلماء والوجهاء وفي
مقدمتهم شيخ الأزهر ومدير الأوقاف. وقد كان الاحتفال على نحو الاحتفالات
السابقة حسنًا ونظامًا وموضع إعجاب بما امتاز به تلامذة الجمعية على سائر
المتعلمين من أمثالهم، وهو أنهم لا يحفظون شيئًا بدون فهم ولذلك كان رئيس الجمعية
والاحتفال يناقش التلامذة في كل ما يسألون عنه فيحسنون الجواب. ولما أراد
الرئيس توزيع الجائزة التي باسم المرحوم علي باشا مبارك ذكر من خدمته للمعارف
ثلاثة أمور عظيمة: أحدها تعميم المدارس في المديريات وثانيها إبطال الضرب من
المدارس وكان الضرب فيها مفروضًا رسميًّا، فالتأديب فيها كان (بالكرباج) كتأديب
المذنبين والمجرمين في شريعة محمد علي باشا وقوانينه. وقد قال الأستاذ الرئيس
في هذا المقام كلمة جليلة وهي: إن علي باشا مبارك أبطل بمنع ضرب التلامذة
التربية بالإهانة والقسوة وجعل التعليم مقرونًا بكرامة النفس وهي قوام التربية، فإن
المعاقبة على الذنب بالإهانة والقسوة لا تؤدب النفس؛ لأنها تخفي الأخلاق الذميمة
ولكنها لا تمحوها بل تزيدها وتقويها فتكون كامنة حتى إذا تسنى لها الظهور تظهر
في أقبح الصور. وأمّا الذي يمحو الأخلاق الذميمة فهو الإقناع بقبحها وضررها
وحسن المعاملة وتكريم النفس حتى تتكرم عن الشوائن وتأنف من كل ما ينافي
الشرف.
وأما الأمر الثالث فهو إنشاء مدرسة دار العلوم التي تسمى الآن (مدرسة
المعلمين الناصرية) قال: إن تلامذة هذه المدرسة يؤخذون من طلاب العلم في
الأزهر فيضمون إلى العلوم الأزهرية جملة صالحة من العلوم الكونية التي تقرأ في
المدارس.
وقد تخرج في هذه المدرسة كثيرون خدموا المعارف في مصر خدمة نافعة،
فمنهم معلمو العربية في جميع مدارس الحكومة وبعض المدارس الأخرى ومنهم
المشتغلون في المعارف بالتفتيش في المدارس والكتاتيب وهم محافظون على زيهم
المصري زي أهل العلم الديني، ولهذه المحافظة تأثير عظيم في التربية العربية.
وبعد ذلك وزعت المكافأة السنوية التي يتبرع بها الشيخ عبد الرحيم الدمرداش
للنابغين من تلامذة مدرسة الجمعية في القاهرة وهي ألف قرش. ثم انفض القوم
بختم الاحتفال داعين للمدرسة بزيادة النجاح وللجمعية ببلوغ الكمال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المحسن المصري العظيم منشاوي باشا
ذكرنا في جزء مضى أن صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي الشهير تبرع
بمائة فدان من أطيانه لمدرسة الصنائع التى تنشئها جمعية العروة الوثقى في
الإسكندرية.
وقد كتب رئيس الاكتتاب لإعانة المدرسة صاحب الدولة مصطفى رياض باشا
كتاب شكر إلى هذا المحسن العظيم وأرسلت الجمعية طائفة من أعضائها إلى داره
في الشرقية يشكرون له بأنفسهم هذا الإحسان. ولما كان الشكر مدعاة المزيد هزته
أريحية الكرم فتبرع بوقف ثلاث مائة فدان على هذه الجمعية الخيرية فكتب إليه
رياض باشا كتاب شكر آخر ترغيبًا في الإحسان وإسعادًا على الترغيب فيه وهو:
سعادتلو أفندم أحمد منشاوي باشا حضرتلري:
سلام وثناء عليك يا مَن عرفت كيف تصرف الأموال وكيف تخدم الأوطان
وكيف تتقدم البلاد، إنني كثيرًا ما تمنيت الخير وكثيرًا ما حببت فيه وكثيرًا ما ناديت
الأمة المصرية إلى جمع الأموال لتأسيس المدارس العلمية والصناعية وبعد أن
أوشك اليأس أن يستولي عليَّ رأيتك أيها الشهم الكريم وقفت مائة فدان على مدرسة
محمد علي الصناعية. فعملك هذا جدد فيَّ الآمال وحببني في الأمة المصرية
بأجمعها لوجود مثلك وجعلني أعتقد بأن أغنياء الأمة سيقتدون بك في هذا العمل
الجليل الذي قمت به لتعلمهم ما يجب على الأغنياء نحو وطنهم وكتبت لسعادتكم من
آيات الشكر ما تستحقه من الله والأمة ثم جاءني كتاب من سعادتك ينبئني بأنك أيها
البار بوطنك وقفت ثلاث مائة فدان على جمعية العروة الوثقى، فالحق يقال. إن حبك
لبلادك وكرم نفسك وسخاء يدك أدهشني إعجابًا بهمتك العالية وحسن عاطفتك للخير
نحو أمتك لأنني لم أر مصريًّا جاد بما جدت به وستشكرك الأجيال المستقبلة على
فضلك هذا كما شكرتك الأمة بأسرها. وأهلاً بزيارتك التي وعدت بها في خطابك.
نسأل الله أن يمد في أجلك لإحياء بلادك ولتكون قدوة حسنة لغيرك. والسلام
عليك أيها المفضال.
(رياض)
في 3 ربيع آخر سنة 1321
فحق علينا أن نعترف الآن بأن أحمد باشا المنشاوي هو أول غني يفتخر
المصريون بكرمه الحميد وإحسانه النافع بل هو مفخرة لجميع المسلمين الذين صار
أغنياؤهم في هذه القرون يبخلون بالدرهم في طريق المعارف وما دون المعارف من
الخير ويبذلون القناطير المقنطرة في الإسراف والمخيلة والتمتع بالشهوات التي
تفسد الأخلاق والآداب وتضعف الأمة بذهاب ثروتها والإدلاء بها إلى الأجانب.
وإننا لننتظر من محسننا العظيم نفحة من هذه النفحات لأخت جمعية العروة
الوثقى وشقيقتها الكبرى وهي الجمعية الخيرية الإسلامية، ولعله يخبئ لها إنشاء
المدرسة الكلية التي لا تتحقق أمنيتها إلا بكرمه وجوده ومما لهجت به الجرائد في
هذه الأيام أن محسننا العظيم تبرع بألفي ليرة عثمانية إعانة لسكة الحديد الحجازية
وبخمس مائة ليرة باسم قرينته، فجزاه الله أفضل الجزاء بمنّه وكرمه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
جمعية الفضائل الإسلامية
ألَّف نفر من ذوي الغيرة الملّية في الفيوم جمعية سموها بهذا الاسم وفرضوا على
كل داخل فيها خمسة قروش في الشهر على أن يشتروا بما يجتمع في كل شهر نسخًا
من المنار وبعض مؤلفات الأستاذ ويوزعوها على الناس. وهؤلاء النفر الكرام:
محمد رمزي وإبراهيم أبوعيشة وأحمد نصار وحسن ناصر وعبد الجواد حسن
وإبراهيم الصعيدي. فحيَّاهم الله ونمَّاهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
قراء الصحف المنشرَّة
يقرأ هذه الصحف التي تسمى المجلات والجرائد جميع أصناف الناس في
جميع البلاد، فأصحاب الصحف الرائجة المشهورة أجدر الناس بمعرفة حال الناس
في المعاملة مطلاً ووفاءً. وقد علمنا بالاختبار أن لكل صنف خلقًا ولأهل كل قطر
خلقًا فمسلمو بلاد روسيا أحسن خلق الله وفاءً. أكثرهم يرسل مع طلب الاشتراك
أوراقًا مالية بقيمته وأوراقًا مطبوعًا عليها عنوانه ثم يرسلون القيمة في أول كل سنة
ومن أرجأ الإرسال عن أول السنة فلا يرجئه إلا قليلاً، ويليهم أهل جزيرة العرب.
وأسوأهم معاملة وأكثرهم مطلاً وإهمالاً مسلمو الهند ويليهم أهل الجزائر، فإن كثيرًا
من المشتركين في هذين القطرين لَيقرأ المجلة أو الجريدة عدة سنين ولا يخطر بباله
أن يرسل إلى صاحبها شيئًا. ومن العجيب أن السلائل العربية في كل بلاد يتبوأونها
يحافظون على أكثر أخلاق العرب الفاضلة، فتجار العرب في الهند وجاوه
وسنغافوره هم الذين يرسلون قيم الاشتراك من غير مطالبة ولا تذكير، وأهل
المغرب الأقصى كأهل الجزائر إلا أفرادًا في مدينة فاس يشبهون مسلمي روسيا في
الوفاء. والحق أنه ليس لنا أن نحكم على أهل تلك البلاد لأن القراء فيهم قليلون
وأصلهم في الغالب مجهول، وأما أهل تونس فهم وسط، أكثرهم إذا طولب يدفع
وإذا سُكت عنه يسكت وقليل منهم يرسل وإن لم يطالب، ولا أعرف أحدًا منهم إلى
اليوم طولب فمطل حتى لا يرجونه، إلا أن الوكيل طلب منع المنار عن نفر قليل؛
لأن الحق لا يخرج منهم إلا نكدًا وأظن أنهم دفعوا وليس عندهم شيء وسيتبين هذا
بعد قليل، لأن المحصل لا يزال يشتغل بالتحصيل، فإن قيل إن علي بن زنين
الذي كان وكيلاً للمنار قد جمع طائفة من الاشتراكات وثمن كتب أرسلتموها إليه
بطلبه كتقرير مفتي الديار المصرية وكتاب الدروس الحكمية وماطلكم في ذلك عدة
سنين، نقول: إننا لا نزال نرجوه وقد كان بعض الناس يكتب إلينا يحذرنا منه فلم
نحفل بذلك والذي تحققناه أنه ماطل ولا نقول إنه لا ذمة له ولا أمانة إلا إذا كتب
إلينا الوكيل الذي كلفناه بمحاسبته ومطالبته - أنه لا يدفع مختارًا أو تقاضاه في
المحكمة. هذا وإن الوكيل هناك يشكو من عناء التحصيل ولعل ذلك لكرم نفسه
وعدم اختباره الناس في حرصهم على المال.
هذا إيماء إلى ما كان من اختبارنا، فإذا أردنا أن نعلل ذلك بتأثير الحكومات
بأن نقول: إن الأمة التي تظلمها حكومتها تتعلم والأمة التي تحكم بالعدل تجري على
العدل - خاننا التعليل وإن كان له وجه وجيه؛ إذ يصعب علينا أن نفضل حكومة
روسيا على حكومة الهند. والصواب أن حسن المعاملة تابع لحسن الخلق والأخلاق
آثار الوراثة والتربية في النفس إذا رسخت وانطبعت. ولا شك أن الأمم المحكومة
تؤثر كيفية الحكم في أخلاقها ولكن أخلاق الأمم تنطبع في الزمن الطويل ولا تتغير
إلا في الزمن الطويل، ولذلك لا يصح الحكم على أخلاق الأمة بحال حكومتها
الحاضرة الحادثة فإن الذين يفعل الاستبداد والاستذلال في نفوسهم عدة قرون لا
يتطهرون من تلك الآثار الخبيثة في عشرات من السنين لا سيما إذا انتقلوا من
عبودية ذلك إلى حرية مجون وخلاعة. ومسلمو روسيا لم يكونوا أذلاء ولا مُجَّانًا من
قبل حكمها وهي لم تظلمهم إلا بالتضييق على المعارف زمنًا ثم أعطتهم حرية ما في
التعليم والتربية فهم يجدُّون فيها ويجتهدون على بصيرة يفضلون فيها سائر
المسلمين، وأهل الهند كانوا أذلاء بالاستبداد ثم كانت لهم حرية فاسقة مع تضييق
في أمور المعارف ثم صارت لهم حرية تامة لم تؤثر فيهم تأثيرها لقصر
الزمن.
وأما أهل المغرب الأقصى فهم على بداوتهم في ظلمات من الفوضى والجهل
لا يبصرون ولذلك قلنا إن الحكم عليهم غير صحيح، ونظن أن الأخلاق في الجزائر
لم تفسد بالمرة وأنها هناك خير منها في تونس لأن الجزائريين أبعد من التونسيين
عن الخلاعة والترف وقد كانوا من قبل حكم فرنسا أقرب في حضرهم إلى
البداوة ولم يؤثر حكمها في أخلاقهم إلا قوة الاعتصام برابطة الدين والجنس لأنها
أزالت منهم السلطة الإسلامية، ولا يستطيع إفساد المسلمين إلا الحكام الطغاة من
المسلمين؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد. والبلاد العثمانية نزلت عليها آية الحجاب
فلا كلام فيها.
بقي الكلام على بلاد مصر، كانت هذه البلاد ولا تزال أم العجائب وفيها من
المماطلين والخائنين والهاضمين للحقوق ما لا يوجد في غيرها، كما أن فيها من
الفضلاء وأهل الكرم والوفاء نفرًا يعز وجود أمثالهم في سواها. في هذه البلاد رأينا
من الفروق بين الأصناف كما يرى الراؤون بين الأشخاص، وأظن أن غير العالم
المختبر يحسب أن أحسن الناس وفاءً، وأسهلهم قضاءً علماء الدين أو قضاة
الشرع أو القضاة عامة؛ لأنهم هم الذين يعملون لإقامة العدل وأداء الحقوق إلى
أهلها وهم أعلم الناس بآثار الليِّ في الحقوق ومضراته؛ لأنها ممثلة كل يوم أمام
أعينهم في أقبح صورها وأشكالها. وليس هذا الحسبان بصحيح ولعل القارئ لا
يتوقع أن أقول أحسن الناس وفاءً وأطهرهم ذمة المهندسون. ولعل السبب في ذلك
تأثير العلوم الرياضية في نفوسهم كما تؤثر في عقولهم فإنها هي العلوم التي ليس
فها أوهام ولا ظنون فاسدة ولا خرافات ولا مسائل تؤخذ بالتقليد الأعمى.
أما المُطل فهو على أشده في أهل البطالة ثم في كتاب الدواوين وغيرها لأن
أكثرهم لا همّ له من حياته إلا أن يكون له رزق مضمون يتمتع به وإن كان قليلاً،
أعني أنهم لا تهمهم الأمور العامة وليس لهم مقاصد عالية وإنما يذكرون لفظ الملة أو
الوطن حكاية للألفاظ التي تكثر في الجرائد. ومن يشترك في الجرائد منهم فإنما
يشترك تشبهًا بالوجهاء والرؤساء. هذا كلامنا في الأكثرين، ومنهم أفراد من أرباب
البيوت التي لها سلف في حسن الأخلاق أو التي لها قرب من سذاجة الفلاحين الفطرية
التي لم يطغَ عليها طوفان فساد ما يسمونه (التمدن) فأولئك يشتركون ليستفيدوا
وليكونوا عونًا للصحيفة التي يعتقدون نفعها، وقليل ما هم.
ومن العجيب أن يكثر المطل والليُّ وهضم حقوق العلم والأدب في رجال
القضاء وأعوانهم من رجال (النيابة) فإن في قضاة الاستئناف الذين يرون أنفسهم
فوق جميع رجال الحكومة عدلاً وعدالة وعفة واستقامة مَن يدافعون محصل الجريدة
من شهر إلى شهر حتى تصير هذه الشهور سنين فما بالك بمَن دونهم؟ !
أما أهل العلم الديني ومنهم قضاة الشرع ومعلمو المدارس فهم أحرص على
المال وأضن من جميع الناس إلا أنهم قلما يشتركون في الجرائد ولكن يطلبها
الوجهاء منهم على أن تكون هدية ومن أراد الاشتراك من غير الوجهاء، فإنه يجتهد
في أن ينقص من قيمة الاشتراك المعينة شيئًا، النصف فما دونه، ويلحّ في ذلك
إلحاحًا ثم إنهم بعد ذلك لا يتنزهون عن المطل والتسويف ولكنهم قلما يستحلون أكل
قيمة الاشتراك وهضمها بالمرة كما يفعل بعض كتاب الدواوين وبعض التجار
والفلاحين والعُمَد.
هؤلاء العمد يحبون الجرائد ويكرهون المجلات، يحبون الجرائد لما يتوقعون
من مدحها إياهم ودفعها عنهم فيما يتهمون به؛ ولذلك يدفعون لها الاشتراك،
ويزيدونها عطاءً ومساعدةً، ويكرهون المجلات لأنهم لا يتوقعون منها ذلك ولا
يفهمونها وليس عندهم روح حب العلم والأدب وقد اعتاد أكثرهم على الظلم وهضم
الحقوق حتى إن الأستاذ الإمام يضرب المثل في الدرس ببلادتهم. وليس هذا الحكم
عامًّا فإنني أعرف نفرًا منهم يحبون العلم والأدب منهم المتعلم في المدارس النظامية
ومنهم من له حسب عريق وأخلاق موروثة. وإنما قلت ما قلت في العمد عن سماع
لا عن اختبار فإن المشتركين منهم في المنار قليلون وإنني شاكر لهم لا شاكٍ منهم
ولا أستثني إلا اثنين لا أذكرهما بالاسم ولا بالوسم؛ لأن هذا ليس من شأن المنار
تجرَّءا على هضم حقه.
ومن الناس من يحتال على قراءة الصحف المنشرة بالانتداب لخدمتها بالمكاتبة
أو الدعوة إليها وتكثير سواد قرائها وقد عانينا من هؤلاء المحتالين ما عانى غيرنا
ولم يبق لأحد يعرف المنار مطمع في مكاتبته؛ لأن مائدته لا تقبل المتطفلين ولكننا
نتلقى في كل حين كتابًا ممن يصفون أنفسهم بالغيرة على العلم والدين، والرغبة في
إسعاد الكتاب والمنشئين، وبعد إطرائنا وإطراء أنفسهم يطلبون أن يكونوا وكلاء.
وقد أجبنا طلب كثير منهم بإرسال المجلة إليهم وحثهم على نشرها فلم يصدُق أحد
منهم وإنما كانوا يخادعوننا في أول الأمر بطلب المجلة لواحد أو اثنين ويشهدون
لمن يطلبون له الأمانة والاستقامة ويعدون بأخذ قيمة الاشتراك منه في أثناء السنة
فتمر السنة ولا يفي أحدهم بوعده ومن يدري أأخذ من المشترك أم لا. وقد كان لنا
من أرجى هؤلاء العاضدين للأدب بالوكالة أن حبانا مشتركًا في أول العهد بوكالته
(في السنة الماضية) ثم إن ذلك المشترك كتب إلينا بأنه لم يرضَ أن يكون عونًا
للمجلة بالاشتراك فقط وإنما هو مستعد لنشرها وطلب وصولات لأجل التحصيل
ممن يدعوهم إلى الاشتراك فكتبنا إليه نطالبه فلم يرسل إلينا مالاً. ولم يرجع إلينا
قولاً، فرجعنا إلى الوكيل الذي أمر بإرسال المجلة إليه فكتب أنه طالبه فادعى أن
المجلة ترسل إليه على أنه وكيل لها، لا أنه مشترك فيها! ! ثم طلبها لمشترك
جديد
…
فكتبنا إليه: إنك كنت وكيلاً على مشترك واحد فلما صار هو وكيلاً
صرتما وكيلين على لا شيء! وأنت الآن تطلب المجلة لآخر، ونخشى أن يصير
في آخر السنة وكيلاً، فيكون لنا ثلاثة وكلاء على لا شيء ثم يتجدد هذا في كل عام
وما يدرينا أننا إذا أطعنا هذا الوكيل يصير خبره إلى جميع المشتركين
فيختارون أن يكونوا وكلاء، يتحكم كل منهم بإرسال المجلة إلى مَن شاء! ! !
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نحن واليازجي
الشيخ إبراهيم اليازجي في الطبقة الأولى من أدباء نصارى بلاد الشام، وقد
اشتهر بالعناية والبحث في اللغة العربية وانتقاد ما يكتب بها وإن قومه ليجلون قدره.
ولكننا كنا نراهم على فخرهم به يشكون من عجبه وصلفه، ويألمون من غروره
وتنفجه، ويقولون: إن هذه الخلال حالت دون انتفاعه بعلمه وانتفاع الناس به،
وأنها تحمله على أن يغمط العلماء والفضلاء الذين لا يدانيهم في علمهم
(كمنشئ المقتطف) لما قد يقع في كلامهم أحيانًا من كلمة دخيلة أو عامية، أو
عبارة تخالف بعض قواعد العربية، على أن كلامه لا يسلم من مثل ذلك، ولكنه
لانصرافه بكل همته إلى التنقيح يقل في كلامه الغلط والشذوذ، وللقوم شغل بالعلوم
يأخذ من همتهم حظًّا هو أشرف ما تصرف إليه الهمم، ومما سمعناه عنه في بلاد
الشام وفي هذه البلاد أن غروره بنفسه في فهم اللغة جرَّأه على الطعن في القرآن
العظيم الذي خضعت له أعناق البلغاء وسجدت له جباه الفصحاء، أيام كانت
البلاغة في أوج سلطانها، والفصاحة في ريعان شبابها، فكان لهذا الرجل في خيالنا
صورة منتزعة من سيرته المسموعة غير جميلة لذلك لم تتوجه النفس إلى طلب
معرفته؛ لأننا من قوم يفضلون الأخلاق الكريمة على العلوم العقلية والكونية، بله
الفنون اللغوية، ثم إن كلاً منا يشتغل بالصحافة؛ ولكن ليس بيننا وبينه مبادلة، فلا
نحن نطَّلع على مجلته ولا هو يطَّلع على مجلتنا إلا أن يكون ذلك مصادفةً واتفاقًا.
ثم كان في العام الماضي أن جمعية الكتاب المصرية ضمتنا في بعض جلساتها
فرأينا صورة أجمل من تلك الصورة الخيالية رأينا لطافة ودماثة وأدبًا كدنا نكذب به
كل ما سمعنا مما لا يرضى، لولا أن هذا اللقاء لا يصح أن يسمى اختبارًا يحكم به
على الأخلاق. على أن اعتقادنا فيه حسن ورجحنا أن في قول الناس فيه مبالغة
حتى اتفق لنا ما كشف الستار، من حيث لا نحتسب.
رأى القراء أننا حين شرعنا في رد شبهات النصارى على القرآن قلنا أن
المجلة البروتستنتية نقلت هذه الشبهات من كتاب لهم يقال أن للشيخ إبراهيم
اليازجي يدًا في تصحيحه أو تأليفه أو الزيادة فيه وهو عندهم أقوى طعن في القرآن.
معتقدين صدق الذين قالوا لنا ذلك لنبين لصاحب تلك المجلة وغيره أن آخر سهم في
كنانتهم طائش وأن ما ارتضاه أعلمهم باللغة وعدّه طعنًا في القرآن ليس بأمثل مما
يهذي به أجهلهم، فهو دليل على سوء قصده وإلا فعلى جهله، ولكنني حفظت
لليازجي حق ذلك الاجتماع القليل، فأوردت الرواية بصيغة المجهول التي تُشعر
بالشك (يقال) ثم إنني لم أكن راضيًا عن نفسي تمام الرضى بما نشرته وأنا أشبَه
بالمضطر مني بالمختار لأن مدافعة المشاغبين الذين يطعنون في الدين من الفروض
الإسلامية الكفائية إذا لم يقم بها أحد يكون جميع المسلمين العارفين عاصين لله تعالى
وقد لقيت بعد أيام من صدور المنار صاحبًا لي وللشيخ إبراهيم فأخبرني بأنه استاء
مما كتبت وأنكر ما نُسب إليه. فقلت له إن أحب شيء إليَّ أن أجد سندًا لإعلان
براءته وحسبي في ذلك ما نقلت أنت عنه وإنني سأبرِّئه في أول جزء يصدر من
المنار فقال: لا تعجل حتى ترى ما يكتب فإن الذي أطلعه على المنار أغراه بالرد
عليه والإغلاظ له ثم جاءني صاحب آخر بما كتبه فإذا هو قد أعاد لي تلك الصورة
التي صوَّرها الناقلون الأولون.
أكبر الرصيف أمر تلك الكلمة (يقال
…
) إكبارًا حتى مثّلها لقارئ كلامه
بصورة جبل عظيم يريد أن ينقضّ على العالم فتنقض معه المعاقل والصياصي،
وتشيب لهوله النواصي. وعدها من (الفوضى القلمية في هذا القطر وانقطاع كل
عقال فيه حتى أصبح كل شيء مباحًا وصار الكاتب إذا هجس في صدره خاطر
متخرص (كذا) أو مر بسمعه قول مرجف لا يلبث أن ينشره بغير تثبت ولا
فحص، يشوش به الأفكار ويجعله مصدرًا للقيل والقال) . كأنه يرى أن ما كتبه
أصحاب الجرائد الأسبوعية في الأئمة الأعلام، وفي كبار الأمراء والحكام لا يُذكر
في جانب تلك الكلمة في مقامه ولا تصل به الحرية إلى حال الفوضى القلمية وكأنه
يتوهم أن أبناء الملتين الكبيرتين (الإسلامية والنصرانية) ينتظرون سماع اسمه
ونقل كلمة عنه حتى إذا ما قيل إن الشيخ إبراهيم قال كذا تضطرب الأفكار،
وتجيش الصدور، وتستعر نيران الجدال، وتكون كلمته موضوع القيل والقال؛
ولكن الكلمة قد قيلت ولم يحفل بها أحد. وأما المنار فإنما رد عليه كما رد من قبل
على ما كتبه ذلك القبطي الذي لا يُعرف اسمه إلا مكتوبًا على غلاف تلك المجلة فلا
هو من العلماء ولا من الكتاب ولكنه من المشاغبين الذين ينشرون شبهات المشككين.
وقال بعد نقل الكلمة أنه وقف يقلب الطرف في هذا الكلام ويتمثل أيامه
وأحلامه الماضية ليتذكر عهد اشتغاله بالمناقشات الدينية. ثم استدل من الكلمة على
شدة حرصنا على إلصاق التهمة به وعلى أنه مأخوذ بها إما من جهة التأليف أو من
ناحية التصحيح أو من جانب الزيادة. ثم قال أننا بينا هذا الحرص وهذا الحكم
بالأخذ على شهادة (يقال) وهي شهادة ما أنزل الله بها من سلطان. وكتب ما شاء
أدبه من الطعن والهجو.
ولعمري إن استنباط هذه المعاني كلها من كلمة (يقال) ثم ادعاء أنها هي
نفسها إنما جعلت شاهدًا على المستنبطات ثم الاعتراف بأنها شهادة لا تدل على
شيء من ذلك - كل ذلك يناسب فهم ذلك المنتقد على القرآن الذي عمد إلى الآيات
المتناسبة الواردة في تأييد حقيقة واحدة فجعلها متعارضة مناقضة. سبحان الله! إننا
لم نكتب عنك - يا عَلَاّمة اللغة - إلا تلك الكلمة (يقال
…
) فإذا كانت لا تدل
على ثبوت شيء فمن أين استنبطت كل هذه المعاني؟ لعلك استنبطتها من الطريقة
التي فسرت بها القرآن بهواك. فسبحان مَن أعطاك. أو من التمرن على مجادلة
(الجزويت) . فلله أنت ولله ما أوتيت.
ثم قال أننا كنا نستطيع أن نستثبت ذلك منه مشافهة وأنه كان يعتقد إلى الساعة
التي علم فيها بالكلمة أننا من أصدقائه - وإن لم تثبت مع التعصب صداقة - وأن
ذلك يكفينا إعنات النفس في الاستخبار والاستطلاع أو كدّ المخيلة في الحدس
والتكهن (كذا) .
ما أشبه هذه الأقوال بتلك في الخطل والعسلطة. أيظن الرصيف اللغوي أن
تلك الكلمة (يقال
…
) لم تأتِ إلا من إعنات النفس في سؤال الكثير من الناس: هل
كان لليازجي يد في كتاب كذا أم لا؟ أو من كدّ المخيلة في التكهن؟ إن هذا الظن
من أعجب وحي الغرور. وأعجب منه أن يظن رجل مثله شاخ في اختبار الناس
أن فلانًا صديقه وهو لم يختبره في شيء وإنما رآه مرتين أو ثلاثًا ولم يتحدث معه
إلا بعض دقائق!
أما قوله بأنه كان ينبغي لنا الاستثبات منه فهو صواب لكنه محتفٍ بغروره إذ
كلفنا أن نجيئه وهو يعلم أننا لا نعلم في أي ناحية من مصر يقيم وأن أوقاتنا لا
تسمح لنا بزيارة جميع أصدقائنا الذين يزوروننا، فضلاً عن إضاعة الأوقات في
السؤال عن غيرهم، ولعمر الحق أنه لو خطر في بالنا ذلك عند الكتابة لكتبنا إليه
وإن كان الوقت قصيرًا وأنه لو كتب بعد ذلك رقعة يبرئ بها نفسه لبادرنا إلى
تبرئته ولكن هذا الغيظ الذي استولى عليه حتى كتب ما كتب مما كنا نجله عنه يدل
على أن ما قيل عنه صحيح وإن بالغ في تنزيه نفسه عن المناقشة في الأديان فإن
الإنسان لا يتألم مثل هذا الألم إلا إذا كان ما قيل فيه حقًّا.
أما الصداقة فنؤكد له القول بأنه قلما يوجد في بلاد سوريا ومصر مَن له
أصدقاء يخلص لهم ويخلصون له مثلنا، وأن أصدقاءنا من فضلاء النصارى
يعرفون حرصنا الحقيقي على الوفاق بين المِلَل وأن مدافعتنا ما يفتريه أو يموه به
القسيسون والمبشرون وأعوانهم على الإسلام مما يعيننا على الدعوة إلى الوفاق
والوئام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخوارق والكرامات
المقالة الخامسة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(التنويم المغناطيسي)
بقية بحث إبراء العلل
قلنا إن من وجوه التعليل في إبراء العلل تأثير النفس الذي يعبر عنه الصوفية
بتأثير الهمة، وقد كان هذا فاشيًا فيهم؛ لأنهم كانوا يعرفون تربية الهمة النفسية أي: تربية الإرادة والعزيمة، وقلنا: إنهم لم يكونوا يقصرون هذا على أنفسهم بل
كانوا يعترفون بوقوعه للوثنيين كالهنود وغيرهم، وإنما سرى هذا إلى المسلمين من
الهنود، ونقول الآن: إن هذا التأثير قد ظهر في هذا العصر - عصر
الصناعات والعلوم الطبيعية - بشكل صناعي يعبرون عنه بالتنويم المغناطيسي الذي
شاع ذكره واشتهر أمره وكثرت فيه الدعاوي ومن أغربها أن المنوم إذا سأل المنوم
عن شيء من الأمور الغيبية التي لم يسبق له بها علم يجيبه عنه لأن روحه بغيبتها
عن الحس تطلع على ما وراءه، ومنه أن المنوم إذا قال للمنوم: إنك قد برئت من
علتك وشفيت من مرضك، وهو مريض - فإنه يبرأ حالاً وإذا قال: إن الجو بارد
ينتابه البرد حالاً ويقفقف وإن كان الحر شديدًا وكذلك إذا قال له إن الحر شديد في
إبان البرد القارس فإنه يسرع إليه العرق مما يجد من الحر!
ومن العلماء من ينكر هذه الدعاوي ويعد منتحليها من المشعوذين. والمحققون
من الأطباء الطبيعيين يقولون: إن الذي يثبت بهذا التنويم شيء واحد وهو تأثير
النفس في النفس وحكم الإرادة القوية على الإرادة الضعيفة، وهذا هو الذي كان
معروفًا عند القدماء من الصوفية وغيرهم على ما علمت من الجزء الماضي. وقد
جاءنا بعد صدوره العدد 22 من جريدة (الأفكار) التي يصدرها في سان باولو
البرازيل (أمريكا الجنوبية) الدكتور سعيد أبو جمرة، فرأينا فيه مقالة في ذلك رأينا
أن ننشرها هنا لما نعلم من تشوف أكثر القراء إلى الوقوف على آراء العلماء
المحققين في هذه المسألة قال بعد العنوان ما نصه:
كانت أمامنا مجلة نيويورك الطبية عدد 18 نيسان الماضي وبها مقالة بديعة
عن التنويم المغنطيسي تتضمن أحدث الآراء وأدق المعاني عن مسألة هامة
شغلت عقول العلماء والأطباء مدة طويلة، وإلا ورد علينا سؤال من صديق عزيز
علينا يسألنا إبداء رأينا في استعمال التنويم طبيًّا في إحدى الحالات المرضية فاخترنا
إذ ذاك تلخيص هذه المقالة حبًّا بإفادة القراء، وهي خطاب لأشهر طبيب أمركاني
(الدكتور هاورد) ألقاه أمام عمدة مدرسة الأطباء والجراحين في مدينة بلتيمور.
وهاك فحواه مع بعض التصرف والاختصار:
أيها السادة. كثر الدجالون القائلون الآن باستعمال التنويم المغنطيسي في كل
الأمراض تقريبًا، وكثر الناس الذين - لسوء الحظ - يصدقون بأقوالهم
المزخرفة وبراهينهم السطحية السفسطية حتى صار صبيان الأزقة عندنا
يقولون: (المغنطيس الحيواني والهستيريا والمغنطيس) وهلم جرّا. وإننا لسوء الحظ
نقول: إن بعض هؤلاء الدجالين هم أطباء قانونيون مثلنا. ولكنهم يستعملون هذا
السلاح الحاد بدون معرفة وبلا تمييز حتى صِرْتُ أَوَدّ من كل قلبي أن تختفي المعرفة
عن التنويم فإني أرى أضرارها أكثر من منافعها في يدي هؤلاء المشعوذين والسحرة.
وإني لا أخفي عليكم رأي شَارْكو شيخ الأطباء الحاليين في كل العالم من هذا
القبيل، أعني قوله لي في وسط مكتبه وعلى مسمع من عشرات من أطباء الأرض
يقصدون باريس سنويًّا للاستفادة من شَارْكو ذلك البحر الزاخر قال لي: إن التنويم
والهستيريا فرعان لأصل واحد! أي: إن المريض المهستر يقبل التنويم، والذي يقبل
التنويم يكون مهسترًا أو ضعيف العقل والإرادة والعكس بالعكس. وهذا هو عين
الواقع أيها الرصفاء.
وعلى هذا قد صادق الدكاترة برنهاين وليبول في أوروبا وأنا في أمريكا بعد
إحصاءات عديدة حسية في المستشفيات هنا وفي مكتبي الخاص أيضًا. ولما كان
هذا الخطاب لأجل الحقائق لا لأجل تقديم الآراء فإني أنتقل بغتة إلى التجارب
الحسية أمامكم لإقناعكم بصحة قول شاركو وقولي. انظروا هذه الدجاجة على
الطاولة أمامي ها إني الآن أنومها (فَنَوَّمها فمدت ساقيها وذبلت جفنيها ونامت
مغنطيسيًّا حالاً) بإشارة صغيرة. وعلى الطرف الآخر انظروا هذه الحمامة. ها قد
نامت أيضًا. والآن تقدمي يا مس.. . (ونادى سيدة كهلة عزباء مصابة بمرض
تتطبب عنده) فترون أيها السادة الرصفاء أن كلمة صغيرة إلى مس.. تجعلها تحت
تسلط إرادتي. نامي.. أقول لك: أنت الآن نائمة. لا تشعرين. لا تنظرين. لا
تسمعين.. فها قد نامت هذه السيدة مثل الدجاجة والحمامة حالاً. ولكنكم إذا أتيتم
بشاركو وكل أطباء الأرض وعلمائها فإنهم لا يقدرون أن ينوموني.
(ضحك واستحسان (
…
وهذا يأتي بنا طبعًا إلى هذا السؤال المهم وهو: مَن هم الناس الذين ينامون
وما هي ماهية التنويم؟ فعن الأول أجيب: إن الناس الذين ينامون هم كل الذين
يشكون من ضعف ما في مراكز العقل والإرادة، وهؤلاء كثار العدد خلاف ما
تتصورون. وعلى ما أظن أنهم 30 بالمائة في العالم المتمدن وأكثر من نصف
الناس في غيره. ولكن أنواع التنويم وهيئاته مختلفة. فإني إذا نومت زيدًا وقلت له
لا تشعر بالألم فإنه لا يشعر وإذ ذاك فأقدر أن أعمل عملية جراحية صغيرة عليه
وهو كأنه تحت البنج. ولكني إذا فعلت ذلك مع عمرو لا أنجح بل أنجح إذا قلت
مثلاً إنك لا تسمع أو لا تبصر أو لا تبرد مع أن الماء المثلج يسقط على بدنه العاري.
أما عن الثاني أي: ماهية التنويم فأقول بالاختصار: إنها غير معروفة تمامًا.
سوى أن المظنون هو حكم إرادة قوية على إرادة ضعيفة بمظهر كبير. وعلى هذا
القياس نقدر أن نقول: إن من يستولي على عقول الناس وأميالهم وأفكارهم ليس سوى
منوم وما الناس الذين يقادون له إلا مصابون بنوع من أنواع الضعف العقلي (أو
الدماغي) حتى أصبحوا عرضة لأن يُنَوَّموا بالتنويم المغنطيسي ولو بمظهر بسيط
وبهيئة دارجة عادية قلما يعلق عليها الناس كبير أهمية.
ولهذا السبب لا تعجبوا إذا قلت لكم: إن نصف العالم عرضة للتنويم المغنطيسي
بأحد أنواعه هذا إذا لم أقل نصف المتمدنين (استغراب وهمس في الحضور) .
استعماله طبيًا:
أما دائرة استعماله العلمي فضيقة لكنها مفيدة للغاية في يد منوم شريف عفيف
عالم. ومضرة للغاية أيضًا في يد المحتال محب المال الدجال الساحر الغاشم الكافر.
ورأي شاركو في استعمال التنويم هو: يحسن (أي لا يجب) بنا أن نستعمله إلا في
أمرين فقط وهما: (1) عند وجوب تحقيق أو تشخيص أمراض الدماغ والعصب
للتمييز بين الأمراض العقلية منها وبين أمراض مادة الدماغ ذاتها أي: للتمييز بين
الأمراض الوظائفية والأمراض الآلية. مثلاً إذا جن زيد فيجب علينا تحقيق سبب
الجنون هل هو ناتج عن خلل في إحدى وظائف الدماغ أم عن مرض أصاب الدماغ
ذاته كنزيف أو احتقان أو ضغط عظم جمجمة مكسورة وهلم جرا. و (2) عند
تخفيف الآلام ومعالجة الأرق أو قلة النوم التي تضنك الجسم وتسبب له الضعف
الشديد والتعرض للجنون بأحد أنواعه، وعلى هذا فاستعملوه في آلام الحمى
الروماتزمية (داء المفاصل الحاد) . في الأرق المستديم. في الأمراض العصبية
التي تأتي بالألم الشديد ليلاً. في بعض أنواع الفالج وما أشبه من الحالات. أما في
الهستيريا وهو المرض الذي يكثر به احتيال الدجالين فاستعملوه نادرًا وبحذر تام؛
أي أنه يحسن بنا أن نستعمله في الهستيريا إذا كانت المهسترة أو المهستر متألمًا جدًّا
من ارتجاف الأعضاء أو تقلصها أو انكماشها أو شللها أو التوقف عن عمل وظائفها
الطبيعية كحبس البول، أو الامتناع عن الأكل والشرب والنوم وما شاكل ذلك من
العوارض التي إذا دامت مع العليل تؤذيه، وتأتي له بأمراض ثانوية مضنكة. ولا
بأس من استعماله في حالات السُّكر إذا كان السكران عرضة لأن يضر ذاته أو
غيره، وكذلك في حالات المانيا (نوع من الجنون) الحادة أو الملانخوليا التي تجعل
المصاب عرضة للانتحار ، وفي كل هذه الظروف فليكن استعماله بحذر تام
وباعتدال لحد الإمساك.
…
...
…
انتهى باختصار وتصرف. ا. هـ
(المنار)
نكتفي بهذا البحث في هذا الجزء وسنعود في الأجزاء الآتية إلى الكلام في بقية
أنواع الخوارق وتعليلها المعقول إن شاء الله تعالى. وقد نقلنا عبارة الأفكار بحروفها
وفيها من النقد في اللغة والأسلوب ما يعذرنا القراء على عدم التعرض له.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
شبهات النصارى
وحجج المسلمين
النبذة الثالثة في رد شبهاتهم على القرآن
(الشاهد التاسع على تناقض القرآن بزعمهم) قوله تعالى في سورة الأنعام:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ *
ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَاّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 22-24) مع قوله تعالى في
سورة النساء: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلَا
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42)، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن لفظ
(يوم) له إطلاقان إطلاق بمعنى مدة بياض النهار أو مجموع ليل ونهار، وإطلاق
بمعنى الوقت مطلقًا، وإذا أضيف إلى حادثة وقعت أو قدر وقوعها في المستقبل يراد
به الإطلاق الثاني، ومنه أيام العرب المشهورة لا يريدون باليوم منها بياض نهار ولا
مجموع نهار وليل وإنما يريدون الوقت، وإن كان ساعة واحدة أو أيامًا طويلة بحسب
الإطلاق الأول.
ومنه أيضًا ما عبَّر عنه في القرآن الكريم بكلمة يومئذ أو يوم يكون كذا كقوله:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} (الأنعام: 22) ، وقوله {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
000} (النساء: 42) ، إلخ. ومثلهما كثير جدًّا لا سيّما في سياق الكلام على
الآخرة التي ليس فيها أيام تتعاقب مع الليالي فمعنى (يوم) في كل آية: وقت
يحدده الفعل الذي تعلق هو به في آية أو المضاف إليه كيوم الحسرة.
إذا تمهد هذا فاعلم أن الآيتين اللتين زعم النصراني تناقضهما تنبئان بأمرين
يكونان في يومين أي: وقعتين مختلفتين أحدهما حشر المشركين وسؤالهم عن الشرك
وقد أخبر أنهم يومئذ ينكرون كما في آية الأنعام، وثانيهما: إتيان الله بعد ذلك
الإنكار بالشهداء يشهدون عليهم وفي ذلك الوقت (أو اليوم) يضطرون إلى
الاعتراف فيعترفون ولا يكتمون كما في آية النساء. وقد حذف المعترض الآية التي
قبل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا 000} (النساء: 42) إلخ، وهي التي
تدل على أن عدم الكتمان إنما يكون بعد شهادة الشهداء، وهي قوله عز وجل {فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} (النساء: 41) ،
ومجموع الآيات يمثل لنا محاكمة في الحساب الأخروي ينكر فيها الخصم جريمته
أولاً ثم يضطر إلى الاعتراف بعد شهادة الشهداء وإقامة البينة كما يعهد في الدنيا،
والحكمة في هذا ردع العصاة وإنذارهم عاقبة الفضيحة في تلك المحاكمة التي لا
يظلم فيها أحد، فالآيات متوافقة متطابقة وما أظن أن ذلك العلَاّمة اللغوي الذي حرر
الاعتراض يجهل ذلك، وإنما هو مكابر ومشاغب. هذا هو الوجه الأول في الجواب.
وأما الوجه الثاني فهو ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الواو في قوله:
{000 وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42) ، واو الحال وليست واو العطف
فتدل على عدم الكتمان ومعنى الآية حينئذ: أن أولئك الكافرين العاصين تأخذهم
الرهبة ويحيط بهم الوجل فلا يتجرأون على الكذب على الله تعالى وإنكار ما كان
منهم، بل يودون أن يكونوا ترابًا فتسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا، يعلمون
أنه محيط به وأنه لا يعزب عن علمه، كما تقول: أود أن أُقتل ولا أغشك، أي
أنني أستحب الموت وأفضله على غشك. وبهذا التفسير تكون هذه الآية بمعنى
الأولى، وهو لا يأباه النظم ولا ينبذه الإعراب ولا ترفضه البلاغة والفصاحة، وما
هو بتأويل. ولا انحراف عن السبيل، ولو شاء المجيب أن يُكثِر من الوجوه لفعل فإنه
يشترط في تحقق التناقض الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان والمكان، إلى
آخر ما يسمونه الواحدات الثَّمان فكما أن الجواب الأول أَبَانَ عدم التناقض لعدم الاتفاق
في الزمان (والجواب الثاني في الخلاف بالمرة) فلنا أن نجيب جوابًا ثالثًا باختلاف
الموضوع فنقول: إن التناقض غير متحقق لاختلاف القضيتين في الموضوع فإن
إحداهما تحكي عن المشركين والأخرى عن الذين كفروا وعصوا الرسول، وتشمل
الموحدين الذين لم يشركوا ولكن كان كفرهم برفض الإيمان بالنبي عليه الصلاة
والسلام كما تشمل الذين آمنوا برسالته، ولكن عصوه في هدايته، وهذه آيات القرآن
تصف اليهود بالكفر دون الشرك، ثم إن لنا أن نجيب جوابًا رابعًا بمنع التناقض
لاختلاف المكان، فإن ليوم القيامة مواقف كما ورد فيحتمل أن ينكر المشركون
والكافرون جميعًا في بعضها، ويعترفوا في بعض آخر، والجواب الأول هو العمدة
ويليه في القوة الثاني.
(الشاهد العاشر) قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9)(إلى قوله) : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن
فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 10-12) زعم المعترض أن هذا
الكلام يفيد أمرين: أحدهما أن خلق الأرض والسموات في ثمانية أيام والآخر أنه
خلق السماء بعد الأرض لا قبلها، لكن الأول منقوض في سبعة مواضع من
القرآن بما معناه أن خلقهما وما بينهما في ستة أيام لا في ثمانية، والثاني منقوض
بقوله في سورة النازعات: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 27-
30) ، ونقول في الجواب عن الأمر الأول: إن من المستعمل الشائع عند العرب
أن يقال مثلاً: سرت من القاهرة إلى طنطا في يومين وإلى الإسكندرية في أربعة
أيام، ويراد في يومين آخرين كانا مع ما قبلهما أربعة أيام ولذلك لم يتوقف أحد من
الصحابة في فهم الآية، ولم ير مفسروهم كابن عباس وغيره أن هذه الآية تحتاج إلى
بيان، وإنما اختلف في إعرابها وإعراب أمثالها النحاة فقدر بعضهم مضافًا
محذوفًا للقرينة فقال المعنى: (في تتمة أربعة أيام) كما قدروا في مثل (واسأل
القرية) كلمة (أهل) أي: اسأل أهل القرية، وذهب الزمخشري إلى أن
الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يفيد أن العمل أو السفر كان في أربعة أيام على
طريق الفذلكة ولما كان المعترض مطلعًا على هذا ومقتنعًا بحسنه في قلبه لم ير
سبيلاً لصرف الوجوه عنه إلا شتم قائليه بتسمية ذلك تأولاً من عبث الولدان، وقد
زين له تعصبه أن يقول: إنه لو صح هذا (للزم منه أن يقول بعد ذلك عن السموات
فقضاهن سبع سموات في ستة أيام لا في يومين كما قال) واحتج على ذلك بزعمه
فقال: إن موضع الفذلكة آخر الكلام لا أوله.
وقد تجاهل أن الآية التي تنطق بخلق الأرض قد تمت وجاءت الفذلكة في آخرها
وأن الكلام في خلق السموات جاء في آية أخرى ابتدأت بثم التي تستعمل في
التراخي في الزمن، أو في رتبة العمل ونوعه بصرف النظر عن زمنه كما في قوله:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف: 189) ، وهكذا
شأن أهل العنت والبهت والتعصب الذميم.
وأما الأمر الثاني فقد أخذه المعترض من اختلاف المفسرين في خلق السموات
والأرض أيهما أسبق لاختلاف فهمهم في الآيتين وله بعض العذر - وهو ينظر بعين
السخط والنقد - إذا آنس فيهما خلافًا أو شبهة خلاف فتشبث بها وصرف ذهنه عن
الجمع بينهما بما جمع به المفسرون. وإنني أقول: إن جميع المفسرين قد قصروا في
تفسير أمثال هذه الآيات التي تتكلم في أمور المبدأ والمعاد، وغير ذلك من الأمور
الغيبية ولهم العذر فإن هذه الأمور لم تذكر في الكتب المنزلة لشرح حقائقها وبيان
كنهها بالتفصيل ولا لبيان تاريخها، وإنما يذكر الخلق والتكوين للاستدلال على قدرة
الله وعلمه وحكمته، ولتوجيه الأنظار إلى الاعتبار بما في المخلوقات والمكونات
من العلوم والحِكَم ووجوه المنافع. وقد أجاز بعض علماء اللاهوت من النصارى أن
يجيء في الكتب المقدسة من العبر والدلائل الصحيحة ما يُبنى على اعتقاد الأمم
المخاطَبة بها، وإن خالف الحقيقة لأن شرح الحقائق الكونية ليس من موضوع الدين
وإنما موضوعه الهداية إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وإنما أجازوه
لأنه كثير في كتبهم.
ومن عجائب القرآن وضروب إعجازه أن يصوغ الحقائق في قوالب العبر
فترى العبرة بادية يستفيد منها العوام والخواص، والحقائق كامنة فيها يستخرج منها
أصحاب القرائح والفهوم ما ينتهي إليه استعدادهم في كل زمن بحسب ارتقاء العقول
وتقدم العلوم فيه. كان الناس يتلون فيه آيات التكوين منذ ثلاثة عشر قرنًا فيهتدون
بدلائلها ويتعظون بعبرها، ولا يرون فيها شيئًا مخالفًا للحقائق الكونية التي كشفها
العلم. ثم ارتقى العلم الكوني في آخر هذه المدة وقرر أهله أشياء في أمور الخلق
والتكوين تؤيد القرآن من حيث لا يعلمون. قالوا إن السموات والأرض قد خُلقتا من
مادة تشبه الضباب سماها بعضهم (سديمًا) كانت مادة واحدة فانفطرت أو انفتقت
فكان منها أجسام كرية الشكل، انفصل منها كرات أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك
في القرآن بمثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت:
11) وقوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30)، وقوله:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: 14) .
وقالوا: إن هذه الأرض لم تخلق هكذا ابتداءً وإنما خلقت أطوارًا فكانت نارية ثم
مائعة ثم يابسة ليس فيها نبات ولا حيوان، ثم صار فيها الحيوان والنبات، وما حدثت
هذه الأطوار إلا بالتدريج الطويل، كل طور في زمن يليق به. وهذا التفصيل الذي
قالوه يفسر الإجمال في قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9)، والمعنى: أن أصل التكوين تم في زمنين (ولا تنس ما
تقدَّم شرحه من استعمال كلمة) يوم (في مطلق الزمان) ، ولا يأبى ذلك أن تكون في
أحدهما كرة نارية، وفي الثاني مائعة، ثم قال: إنه بارك فيها وقدر فيها الأقوات
حتى صارت صالحة للسكنى وارتفاق الأحياء في يومين تتمة أربعة أيام وذلك صريح
أو كالصريح في طور اليابسة التي ظهرت في الماء وطور الأحياء التي ظهرت في
اليابسة. ثم انتقل بعد هذا البيان إلى ذكر خلق السماء فذكر أنها كانت دخانًا وأنه
خلقها في يومين أي: في زمنين كل منهما تم فيه طور خاص، فكان خلق
السماء وتكوينها كخلق الأرض ولم يخبرنا بما قدر فيها بعد ذلك ولا بعدد الأزمنة التي
تدل على عدد الأطوار؛ لأن العبرة والاستدلال المقصودين من ذكر التكوين لا يتمان
إلا فيما للإنسان فيه علم ما وإن لنا علمًا بوجود السموات والأرض فذكر لنا خلقهما
وعلمًا بما في الأرض من الأقوات والخيرات فذكر لنا خلق ذلك.
فأنت ترى أنه لا يراد بالأيام التي خلقت فيها السموات والأرض أزمان
متعاقبة بينهما، ولا غير متعاقبة، وإنما يراد بها الإشارة إلى الأطوار، ومن
شأن الأطوار أن تتعاقب في كل شيء بحسبه {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) ،
فلو فرضنا أن الزمنين اللذين خلقت فيهما الأرض هما الزمنان اللذان خلقت فيهما
السماء بعينهما كما أن الطورين متحدان لما لزم من ذلك شيء يعترض به على
التعبير، إذ ليس المراد بيان التقديم والتأخير، ومن هنا تعلم أن قوله بعد ذكر خلق
الأرض {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (البقرة: 29) لم يقصد به الترتيب في الزمن بل
الترتيب في الذكر كأنه قال: إننا سقنا لكم هذه الآية من آيات قدرتنا وحكمتنا، ثم إننا
نسوق لكم آية أخرى، واستعمال (ثم) في الترتيب الذكري كثير في القرآن وفي كلام
العرب والمولدين.
وأما قوله تعالى بعد ذكر السماء في سورة النازعات: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ
دَحَاهَا} (النازعات: 30) فلا يدل على أن خلق الأرض كان بعد خلق السماء ولا
قبله؛ إذ ليس معنى الدحو الخلق والتكوين وإنما معناه تمهيدها للسكنى في نهاية الطور
الرابع ولذلك وصل كلمة (دحاها) بتفسيرها، فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا
وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (النازعات: 31 -33) ،
ولا شك أن هذا كله كان بعد خلق السماء ووجود الليل والنهار الذي عبر عنه
بقوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} (النازعات: 29) ، فظهر
أنه لا تناقض ولا تنافي ولا تخالف بين آيات (فصلت) وآية النازعات. وثَمَّ
وجوه أخرى ذكرها المفسرون تنطبق على اللغة وإنما ذكرنا ما هو الراجح عندنا
بحسب ما وصل إليه علمنا وفوق كل ذي علم عليم.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نظام الحب والبغض
تابع ويتبع
ما هو الخير والشر؟
هاتان الكلمتان (الخير والشر) وما رادفهما يرد ذكرهما كثيرًا في العلم
الباحث عن أحوال النفس ومعاملاتها، بل عليهما مدار هذا العلم في أوامره ونواهيه؛
لأن الإنسان في محبته طالب خير وفي بغضه هارب من شر. وهذا هو ديدن
الإنسان مدة حياته. وكل واحد يعتقد في الجهة التي يطلبها الخير لنفسه وفي الجهة
التي يهرب منها الشر (اللهم إلا مبغضي ذواتهم!) ، وكل واحد ينبسط للخير
وينقبض من الشر. ولكن هل كل واحد يعرف ما هو الخير وما هو الشر، وهل كل
من اعتقد في جهة من الجهات الخير أو الشر مصيب؟ لو كان كل واحد عارفًا بهما
لكان كل واحد مصيبًا في طلبه وهربه، ولو كان كل واحد مصيبًا لتضاءل الشر
وتبارك الخير.
هذه القضايا مسلمة، وبناءً عليها نسأل ويقال لنا: من ذا الذي يتولى للناس
تعريف هاتين الكلمتين؟ فنقول: هم الباحثون في أحوال النفس. فنسأل مرة أخرى
ويقال لنا: من هم أولئك الباحثون؟ هل هم إلا أناس أمثالنا؟ وفي هذا السؤال
رائحة الإباء والاستنكاف فيجب أن يكون في الجواب رائحة الرفق والأناة فنقول:
الباحثون في علم النفس أناس أمثال غيرهم من حيث الصور الجسدية، وكذلك
الباحثون في كل علم.
ولكن لكل امرئ في هذه الحياة عمل تتفق له فيه إجادة لا تتفق لغيره سيما إن
كان ذلك الغير ليس من أرباب ذلك العمل. مثاله الشاعر هو رجل وأنت يا أيها
الفلاح رجل فلِمَ أنت عاجز عما يعلمه ويعمله هو؟ أليس لأنك لم تعانِ الشعر؟
(بلى) وإني أبشرك بأنه هو عاجز أيضًا عما تعلمه وتعمله أنت؛ لأنه لم يعانِ ما
عانيته. كذلكم قولوا في الصائغ هو عاجز عما يعلمه ويعمله الخياط، والثاني عاجز
عما يعلمه الأول.
وكذلكم قولوا في أرباب العلوم والصنائع كلها. ويومئذ لا يصعب عليكم أن
تقولوا: إن الذي يعانيه علماء النفس من التفكر والتذكر واختبار الأحوال وتجربة
الأمور ربما لا يتفق لغيرهم أن يعانوه. فإذا كانوا أمثالهم من جهة صورة الجسد لا
يلزم أن يكونوا أمثالهم من جهة صورة الفكر. ولعمركم إن ابن خلدون والغزالي
لا يحصى مشابهوهما في الخلقة، ولكن مشابهوهما ومقاربوهما في صنعتيهما يعدون
على الأصابع، وربما لا يبلغون عدد أصابع الكفين.
فإذا علم السائل هذا وسهل عليه أن يعرّف له علماء النفس (في انفرادها
واجتماعها) الخير والشر، فليصغِ إلى ما اقتبسناه منهم بفكر خالص من الوهم
والتقليد، وليتأمله بعقله المستفاد لا بعقله المستعار.
(الخير هو استعمال الإنسان ما خلق الله له من القوى والاستعدادات فيما
خلقت لأجله استعمالاً مشروعًا (أي: تابعًا لشرع) يراعى فيه حق الغير) ، والشر
ضده أي: عدم الاستعمال مطلقًا أو الاستعمال في غير ما خلقت لأجله أو الاستعمال
الذي ليس بتابع لشيء.
هذا التعريف وافٍ جامع لكن التعاريف في الحقيقة لا يستغني بها الناس عن
الشروح والإيضاحات والأمثلة (اللهم إلا أذكى الأذكياء) ، فكأنها إنما تسطر لتكون
قاعدة وأصلاً للشروح، ولتحفظ عبارتها الجامعة بعد أن يحيط الناس خبرًا بالمسألة
من الإيضاحات والأمثلة.
إن الله جل ثناؤه قد خلق في الإنسان قوى واستعدادات بعضها نصيبها مباشرة
المحسوس، وبعضها نصيبها ملاحظة المعقولات فكل ما يستعمل فيه الإنسان قواه
ويناله يلتذ به، وكل ما يلتذ به الإنسان خير إلا لذة تؤدي إلى ألم، أو لذة يغصب فيها
حق الغير. وكل ما يمنع الإنسان عن استعمال القوى فهو شر.
(مثال أول) أنت إذا أكلت فمعناه:
(1)
أنك تمكنت من أن تأكل وهو دليل عدم مرضك وعدم حرمانك من
حصول الطعم.
و (2) أنك استعملت القوة المخلوقة لك لأجل الأكل لحكمة حياتك، وهو دليل
محبتك لذاتك؛ لأنك لو لم تستعملها لم تحي. ودليل أنك وافقت الفطرة التي فطرك
الله عليها.
و (3) أنك تلذذت في أكلك وهو دليل سلامة حواسك، وكل هذه الأشياء في
كونها خيرًا. أما إذا أكلت فوق الشبع فإنك سوف تتألم إما عاجلاً وإما آجلاً. وقد
عطلت في هذا الأكل القوة التي تستطيع بها أن تأكل. وقللت لذلك فيما بعد.
وخالفت الأدب، وكل هذه شر، وكذلك إذا تعديت في أكلك على حق الغير كأن
غصبت الذي أكلته من غيرك فإن هذا يؤدي إلى أن يشاجرك عليه، وقد يقوى عليك
بقوته، أو القوة المؤلفة لحفظ الحقوق (قوة الحكومات) وإذا قوي عليك، فقد يغصب
منك ما تحتاج إليه، وقد يعمل فيك أعمالاً تمنعك عن الالتذاذ بالأكل، وكذلك إذا
استعملت القوة في غير ما خلقت لأجله كما إذا أكلت سمًّا أو ترابًا. أو لم تستعملها
ألبتة كبعض الذين يعملون ذلك، ويجوعون أيامًا عمدًا، فكل هذه المذكورات شر.
(مثال ثانٍ) وأنت إذا واقعت فمعناه: (1) أنك تمكنت من الوقاع ولم
يمنعك مانع، و (2) أنك استعملت القوة المخلوقة فيك لأجل الوقاع لحكمة بقاء
النوع، و (3) أنك وافقت الفطرة، و (4) أنك أحببت غيرك ، و (5) أنك
تلذذت.
وكل هذه المذكورات دليل سلامة حواسك وسلامة فطرتك وسلامة عقلك ودليل
أمنك في الموانع الغيرية كالموانع الذاتية، وكلها خير إذا كان وقاعك تابعًا لنظام،
أما إذا أفرطت في الوقاع إفراطًا يعطل القوة، أو استعملت القوة في غير ما خُلقت
لأجله، كأن واقعت بهيمة أو دبرًا أو أهملت الوقاع المشروع من غير مانع، فإن
هذه الأشياء عين الشر.
(مثال ثالث) وأنت إذا اكتسيت فمعناه: (1) أنك حصلت ما تتقي به
الحر والبرد، و (2) أنه أحبك الغير إذ عمل لك ما تلبس، وأحببت الغير إذ سترت
عن عينه ما ربما يكره أن يراه، و (3) أنك أحببت ذاتك إذ وقيتها أو زينتها، وكل
هذه خير. أما إذا لبِست ما لا عدل فيه كلبس ما لا يلائم عملك كديباج وأنت تعمل
في الطين، أو قنب غليظ وأنت حاكم أو بزاز، وكلبس شيء يليق بالإناث دون
الرجال وكالتزين بشيء يحتاجه الناس للمبادلة أشد الاحتياج. أو أبغضت ذاتك فلم
تلبَس، أو لبِست ما يلائم عملك، أو لبست ما لا يلائم الزمان، كلبس أخف الثياب
في أشد الأيام بردًا وبالعكس. فكل هذه وما أشبهها من الأشياء التي لا عدل
فيها شر.
(مثال رابع) وأنت إذا أويت إلى مبيت وبت في أمان فمعناه: (1) أنك
نلت حاجة لا يعلو فيها عليك الملوك إلا بالزخرف. و (2) أنك نلت من فوائد
اشتراكك مع الهيئة المجتمعة؛ لأنك ما وجدت هذا المبيت إلا بفضل اجتماعهم، ولا
وجدت هذا الأمان إلا بفضل التكافل المشروط طبعًا ووضعًا وشرعًا، ولولا ما ذكرنا
لما كان مبيتك أفضل من جحر الوحش، ولا كنت بآمن من حمام بين صقور. ولا
آنس من حي بين موتى القبور، فقدر هذا الخير بنظرك لتعلم فضل غيرك على
ذاتك، ولتعلم أن لذاتك فضلاً على غيرك به استوجبت فضله عليك. ولتعلم من هذا
أن الأمر تكافؤ وتكافل. لا تطول وتفضل. وأن الفضل كله لله وحده. وأن
الخيرات لا تعدونا طرفة عين، ولكننا غافلون نجلب الشر على أنفسنا بأنفسنا حنينًا
منا إلى جهالات سبقت، ونحن لها متوارثون إلى أن يأذن الله بتقشعها رويدًا رويدًا.
أما إذا استوحشت نفسك وتشبهت بالوحوش في مساكنها ومعايشها فمعناه أنك
أهملت الاستعداد الذي فيك وخالفت الفطرة، وأبغضت ذاتك فلا شك بأن هذه الحالة
من الشر.
(مثال خامس) وأنت إذا تفكرت في خواصّ المحسوسات وعجائب
المعقولات فأنت يومئذ الخَيِّر العظيم يوم يُنْتِجُ تفكرك علمًا، وعلمك عملاً، وعملك
نفعًا عميمًا وشرفًا للنوع عظيمًا. بربكم قولوا لنا: إذا استثنينا من هذا النوع أُولي
الألباب من الأنبياء، وذوي الأفكار من الحكماء والمخترعين والمعلمين فأية مزية
تبقى في الباقين وأي شرف لهم؟ أولئك هم مفاتح أبواب الخير ومصادر الشرف الأعلى لهذا النوع. أما من أساء استعمال التفكر كأن تفكر بالعدوان وأساليبه فهو
الشرير العظيم. ومثله أو قريب منه من أهمل الفكر؛ لأنه يصعب علينا أن نفرق بين
عامل بالشر، وحامل عليه؛ لأنه تفكر وبين واقع في الشر، ومحمول عليه؛
لأنه لم يتفكر.
نسأل الله السلامة لأفكارنا من أن نهملها، ومن أن نعملها في باطل، ومن أن
نعميها بالتقليد.
هذا ويرى القارئ أننا تساهلنا أو سهلنا العبارة، وتنازلنا بالتمثيل إلى أمور ليس
إدراكها بالصعب، فربما ظن أننا نكتب كتابًا لقراءة المبتدئين. وهذا الظن قد ينشأ
من أمرين: الأول الأسلوب الذي التزمناه لزيادة التوضيح وعدلنا به عن سرد الكلام،
والثاني استصغار هذه الأمور التي مثلنا بها. ولما كان الواقع يكبر هذه الأمور التي
سَبَكْنَا نضار حقائقها بقالب سهل المأخذ وجب أن نزيدها تبيانًا ونزيد الخير والشر
تعريفًا.
إن الإنسان هذا المخلوق العظيم، صاحب العقل المنير، صاحب الرأي
والتدبير، صاحب السلطان على مخلوقات الأرض، والإشراف على مصنوعات
السماء، صاحب التمدين والاجتماع، صاحب الإبداع والاختراع، صاحب المنطق
المفيد، والعزم الشديد. صاحب الصورة التامة، والروح العالية، صاحب المآثر
والآثار، كاشف الخواص والأسرار، هذا السائد بالفكر الممتاز به لم يخرج في كل
مزاياه التي عددناها وغيرها مما يعجز القلم عن تصويرها تصويرًا شعريًّا خياليًّا أو
حقيقيًّا عن كونه حيوانًا محتاجًا كالحيوانات إلى طعام وشراب ومأوى مسوقًا من
طبيعة خلقته إلى الوقاع ومعالجة ألم البأة. فهب أننا سميناه قطب هذا الوجود،
وصفوة السر من كل موجود، وهب أننا رفعنا علومه فوق الشمس مقامًا وضياءً.
وأحللنا فضائله فوق التصور درجة واستقصاءً، ونوهنا بمنزلته عند خالقه،
وعظمنا الاعتبار للطبيعي من خلائقه، أفنستطيع أن نقول: إنه مقدس عن المطعم
والمأوى والمنكح، بعدما اختبرناه دهورًا دهارير، وبلوناه فذًا وفي العير والنفير.
هل علمنا منه غير كونه هلوعًا، إذا مسه الخير مما يغذوه ويكسوه كان منوعًا،
وإذا مسه الشر من جوع وعري كان جزوعًا، هل عهدنا به إلا التقاتل من طمع
أفراده وحبهم الاستئثار؟
هذا هو الإنسان الذي يعرفون ماضيه وما أنتم عن حاضره بغافلين. هذا هو
المخلوق الذي فطره خالقه محتاجًا ويسّر له ما يحتاج إليه، وخلق فيه سائقًا يسوقه
نحوه وجاذبًا يجذبه ودافعًا يدفع ما يرى استغناءه عنه. أفتسمي هذا التركيب الذي
ركّبه الصانع شرًّا. أم عمل المخلوق بحسب التركيب. أم تيسر الحاجة التي لا بد
منها. أم اللذة الطبيعية في نيل هذه الحاجة؟ وإذا لم تكن هذه شرًّا فهل بقي إلا
الخير؟
سيقول قائلون: إن هذا الاحتياج لا يدفعه الإنسان عن نفسه بتحصيل الحاجة
إلا بكد ونصب، وقصارى الأمر في حصول الحاجة أنها تسكن ألمًا تقدم الحصول،
فهب أننا سمينا تلك الأمور خيرًا، أفليس الشر قبلها وبعدها؟
هذا كلام له وجه ظاهر ولكن ههنا اعتقادان في حياة الإنسان، أحدهما أن
الإنسان يستفيد منها، والآخر أنه لا يستفيد، فإن كان السائل ممن يعتقدون
استفادة الإنسان من الحياة فجوابنا له أن الألم السابق الذي يسكنه نيل الحاجة وتعقبه
بهذا النيل اللذة ليس شرًّا، بل هو لتعرف به اللذة ويشعر بها، ولو كانت دائمة لما
أحس بها المرء، وهذا كسبق العدم على الوجود، والجهل على العلم، والضعف في
الطفولية على القوة في الرجولية ونظائر ما ذكرنا.
على أنه إذا سمينا تلك الآلام وما يتبعها من لزوم الكد والنَّصَبِ والمجاهدة
شرورًا فلا ضير فيها إذا كانت الخيرات تدفعها وتهونها، ويدلنا على ذلك استعذاب
الحياة مع كل المرارات التي تصادف في سبيلها، وما ذلك إلا لأن الخيرات لا يطول
احتجابها، كالشمس إذا حجبها الدجى واستأنف النهار يشرق بضيائها. وإن كان
السائل ممن لا يقولون باستفادة الإنسان من الحياة فجوابنا له: إذا كانت الحياة من
أصلها حملاً ثقيلاً، والأحوال فيها متضادة ومتعاقبة يعقب الضِّدُّ فيها الضِّدُّ فمهما
صادفنا الضد الذي نرتاح به زمنًا من الأزمان كان جديرًا بنا أن نفضله على ضده
الذي يتعبنا. وهذا هو معنى الخير والشر اللذين هما ضدان. على أنك يا منكر
الاستفادة من الحياة يشم منك رائحة اتباع الخيالات الفاسدة، ويتفرس فيك أنك
مبغض أو ستبغض ذاتك، ويتوقع بك كل شر فدعني منك.
إن هذا الإنسان البديع خلقه لم يخلقه الخالق عبثًا وأنه خلق لأمر عظيم. وأنه
سائر إلى كمال بديع. وأنه شاء أو أبى يحيا في هذه الدار محبًّا للحياة. ويكد فيها
غير مالٍّ من الكَدِّ. وأن الصانع خلق له ما في الأرض جميعًا، وقسم بين أفراده
الأعمال. وخصَّ كل عامل بما يناسب عمله من طعام ولباس ومبيت. وأعان كل
عامل على عمله. وعلَّمه ما لم يعلم. وأتحفه بهذا الفكر العجيب. الذي به امتيازه
العالي. فانقسم الإنسان بحسب جسده وفكره بين جهتين تتعاور عليه فيهما الخيرات
والشرور التي جعلها الصانع ممتزجة ببعضها. وجعل للجسد من الخيرات لذات
المطاعم والمشارب والمناكح والمساكن. وللفكر من الخيرات لذات الإدراك للأمور
البعيدة والاختراعات العجيبة والتأثيرات المعنوية الغريبة. وجعل الخيرات متيسرة،
ولكن تجاوز الحدود هو الذي يوفر الشرور. وتجاوز الحدود أكثر ما ينشأ من قلة
التفكر وعدم العلم بنظام الحب والبغض أي: بأحوال النفوس في انفرادها واجتماعها.
ومن أحب ذاته حق المحبة هيهات أن يظلمها. ومن أراد أن يظلم نفسه فليحازب من
لا يظلمون غيرهم وليحارب من يظلمون. فلا جناح علينا أن نبيع الحياة وهي أغلى
شيء في جهاد الذين يظلمون غيرهم لعلنا نحيا لا نظلم ولا نُظلم. أو يحيا أبناؤنا
من بعدنا على هذه الشاكلة. لعلنا نحيا عالمين أن ذوات غيرنا كذاتنا فنأخذ ما لنا
وندع لهم ما لهم. لعلنا نحيا متعاونين، فنحن كلنا إخوة سواء بالحياة والممات سواء
بالحاجة للأكل والشرب والنكاح، سواء بالتكلم والتفكر اللذين يميزانِنَا عن العجماوات
سواء بالفرح والألم إذا فزنا أو خبنا، سواء بالخوف والرجاء في يومنا وغدنا.
ونحن سواء بالتفكر والعنا
…
بتحصيل ما نحتاج في كل معمل
ترى أعجزنا إن نسالم بعضنا
…
لنسلم من عدواننا والتقلقل
نرى أعجزنا أن نعاف رذائلا
…
ونهجر أوهامًا رمتنا بأحبل
اللهم ألهمنا رشدنا وأعنا في استثمار الخيرات الموهوبة لأفكارنا، إنك مفيض
الخير، وأنت المستغني وحدَك عن الغير.
…
...
…
...
(ثمة بقية)
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(ع. ز.)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من دلائل الإعجاز [*]
تمتاز كتب الإمام عبد القاهر الجرجاني واضع فنون البلاغة رحمه الله
تعالى) - على سائر الكتب التي أُلفت من بعده بعدة مزايا: منها أَنَّ عبارتها بليغة
وأساليبها رشيقة، ومنها تصوير المعاني شخوصًا تامة سوية، حتى كأن العقولات
ملموسة مرئية، ومنها كثرة إيراد الشواهد والأمثلة على الوجه الذي اختاره
الأوربيون ومقلدوهم في كتب التعليم لهذا العهد. وإننا نورد هنا نموذجًا من كتاب
دلائل الإعجاز في علم المعاني، وذلك من حيث انتهينا في الطبع بمطبعتنا
(الكراسة أو الملزمة 44) . بيَّن رحمه الله في فصول متعددة فساد رأي الذين
ذهبوا إلى أن الفصاحة والبلاغة صفة للفظ دون النظْم والأسلوب، باعتبار تصوير
المعنى، ثم ختم ذلك بفصل في الموازنة بين المذهبين، فقال:
* * *
فصل
قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم، وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم
كل مبلغ، وانتهينا إلى كل غاية، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسفون فيها
إلى السَّنن اللاحب، ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النمير الذي يشفي غليل
الشارب، ولم ندَع لباطلهم عِرقًا ينبض إلا كويناه، ولا للخلاف لسانًا ينطق إلا
أخرسناه. ولم نترك غطاءً كان على بصر ذي عقل إلا حسرناه، فيا أيها السامع لما
قلناه، والناظر فيما كتبناه، والمتصفح لما دوَّنَّاه، إن كنت سمعت سماع صادق
الرغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة، ونظرت نظر تام العناية في أن يورد
ويصدر عن معرفة، وتصفحت تصفح مَن إذا مارس بابًا من العلم لم يقنعه إلا أن
يكون على ذروة السنام، ويضرب بالمعلى من السهام، فقد هُديت لضالتك، وفتح
لك الطريق إلى بُغيتك، وهيئ لك الأداة التي بها تبلغ، وأوتيت الآلة التي معها
تصل، فخذ لنفسك بالتي هي أملأ ليديك، وأعْوَد بالحظ عليك، ووازن بين حالك
الآن - وقد تنبهت من رقدتك، وأفقت من غفلتك، وصرت تعلم (إذا أنت خضتَ
في أمر اللفظ والنظم) معنى ما تذكر، وتعلم كيف تورد وتصدر - وبينها [1] وأنت
من أمرها في عمياء، وخابط خبْط عَشْواء. قصاراك أن تكرر ألفاظًا لا تعرف
لشيء منها تفسيرًا. وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع
لها تبيينًا، فإنك تراك تطيل التعجب من غفلتك، وتُكثر الاعتذار إلى عقلك من
الذي كنت عليه طول مدتك، ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده
وننتحيه، لوجهه خالصًا، وإلى رضاه عز وجل مؤديًا، ولثوابه مقتضيًا، وللزلفى
عنده موجبًا بمنَّه وفضله ورحمته.
ثم عقد فصلاً لكشف شبهة الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة للألفاظ، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي
يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن - وجب أن يتوخَّى دائبًا فيهم ما يتوخاه
الطبيب في الناقِه، من تعهده بما يزيد في مُنَّته، ويُبقيه على صحته، ويؤمنه
النكس في علته، وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن
المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون،
فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا
هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف، وغيرهما من أصناف الحلي. فإن جهلهم
بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم، وورَّطهم فيما تورطوا فيه من
الجهالات، وأداهم إلى التعليق بالمُحالات؛ وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة
وضعوا لأنفسهم أساسًا، وبنوا على قاعدة، فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا
ثالث، وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم
كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه - أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى
اللفظ خاصة، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى، من حيث إن ذلك - زعموا -
يؤدي إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايرًا وغير متغاير معًا.
ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى
اللفظ على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى
اللفظ، مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا نابٍ به موضعه، إلى سائر ما ذكرناه
قبل، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللسان
وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم
يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي
عناه الجاحظ، حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني
مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدوي، وإنما
الشعر صياغة [2] وضرب من التصوير، وما يعنونه إذا قالوا: إنه يأخذ الحديث
فيشنفه ويقرطه، ويأخذ المعنى خرزة، فيرده جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة،
ويأخذه عاطلاً فيرده حاليًا، وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا
الخفاء، ويشتبه هذا الاشتباه، ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر
غير البصير به - أُعضل الداء، واشتد البلاء، ولو لم يكن من الدليل على أنهم
لم ينحلوا اللفظ الفضيلة، وهم يريدونه نفسه، وعلى الحقيقة إلا واحد، وهو
وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنه حلي له -لكان فيه الكفاية؛ وذاك أن الألفاظ
أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأما أن
يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يتصور
في وهم.
ثم ذكر الأخذ والسرقة وبيَّن أن التفاضل يكون بالأسلوب لا بالألفاظ، ثم أورد
الأمثلة فقال:
ثم إن أردت مثالاً في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع أبو تمام في بيت
أبي نُخَيْلَة، وذلك أن أبا نخيلة قال - في مَسلمة بن عبد الملك -:
أمسلم إني يا ابن كل خليفة
…
ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرضِ
شكرتك إن الشكر حبل من التقى
…
وما كل مَن أوليته صالحا يقضي
وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً
…
ولكن بعض الذكر أنبه من بعضِ [3]
فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير، فقال:
لقد زدت أوضاحي امتدادًا ولم أكن بهيمًا ولا أرضي من الأرض مجهلا [4]
ولكن أياد صادفتني جسامها أغرّ فأوفت بي أغر محجَّلا
وفي كتاب الشعر والشعراء للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن، قال:
ومن الأمثال القديمة قولهم: (حرًّا أخاف على جاني كمأة لا قُرًّا) يضرب مثلاً للذي
يخاف من شيء، فيسلم منه، ويصيبه غيره مما لم يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض
الشعراء، فقال:[5]
وحذرت من أمر فمرَّ بجانبي
…
لم يَنْكِنِي ولقيت ما لم أحذر
وقال لبيد:
أخشى على أربد الحتوف ولا
…
أرهب نوء السماك والأسد [6]
قال: وأخذه البحتري، فأحسن وطغى اقتدارًا على العبارة، واتساعًا في
المعنى، فقال:
لو أنني أُوفي التجارب حقها
…
فيما أرت لرجوت ما أخشاه
وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب [7] أيضًا، أُنشد [8] لإبراهيم بن
المهدي:
يا مَن لقلب صِيغَ من صخرة
…
في جسد من لؤلوء رطبِ
جرحت خديه بلحظي فما
…
برحت حتى اقتصَّ من قلبي
ثم قال: قال علي بن هارون أخذه أحمد بن أبي فنن معنًى ولفظًا، فقال:[9]
أدميت باللحظات وجنته
…
فاقتص ناظره من القلب
قال: ولكنه بنقاء عبارته، وحسن مأخذه قد صار أولى به، ففي هذا دليل لمَن
عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ، ولكن صورة وصفه وخصوصية
تحدث في المعنى، وشيئًا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنه على
كل حال لم يقل في البحتري: إنه أحسن، فطغى اقتدارًا على العبارة من أجل
حروف: (لو أنني أوفي التجارب حقها) ، وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء
العبارة من أجل حروف: (أدميت باللحظات وجنته) .
* * *
ثم عقد فصلاً للموازنة بين نظم المعنى المتحد
في اللفظ المتعدد
فقال: وقد أردت إن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد
قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى
بالمعنى غفلاً ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب، وقسم
أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوَّر.
وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غُفْلاً، وفي الآخر
مصوّرًا مصنوعًا، ويكون ذلك إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم، وإما لأن هدي
متأخر لشيء لم يهتدِ إليه المتقدم، ومثال ذلك قول المتنبي:
بئس الليالي سهرتُ من طربي
…
شوقًا إلى مَن يَبيت يرقدها
مع قول البحتري:
ليلٌ يصادفني ومرهفة الحشا
…
ضدين أسهره لها وتنامُهُ
وقول البحتري:
ولو ملكت زَمَاعًا ظل يجذبني
…
قَوْدًا لَكَانَ نَدَى كفَّيْك من عُقُلي [10]
مع قول المتنبي:
وقيدت نفسي في ذُراك محبة
…
ومَن وجد الإحسان قيدًا تقيَّدا
وقول المتنبي:
إذا اعتلَّ سيف الدولة اعتلت الأرضُ
…
ومَن فوقها والبأس والكرم المحضُ
مع قول البحتري:
ظللنا نعود الجود من وعكك الذي
…
وجدت وقلنا اعتلَّ عضو من المجدِ
وقول المتنبي:
يعطيك مبتدِئًا فإن أعجلته
…
أعطاك معتذرًا كمَن قد أجرما
مع قول أبي تمام:
أخو عَزَمَات فعلُه فعلُ محسنِ
…
إلينا ولكن عذرُه عذرُ مذنبِ
وقول المتنبي:
كريمٌ متى استوهبت ما أنت راكبٌ
…
وقد لقحتْ حربٌ فإنك نازلُ [11]
مع قول البحتري:
ماضٍ على عزمه في الجود لو وهب الشَّـ ـم باب يوم لقاء البيض ما ندما [12]
وقول المتنبي:
والذي يشهدُ الوغى ساكنُ القلـ
…
ـبِ كأن القتالَ فيها ذِمامُ
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(*) إن هذا النموذج نموذج للطبع أيضًا؛ فالكتاب يُطبع بهذه الحروف.
(1)
قوله: (وبينها) عطف على قوله: (بين حالك الآن) .
(2)
أي: كلامنا الآن في أنهم إلخ مبتدأ وخبر.
(3)
وفي رواية: (ونوهت لي باسمي) .
(4)
الأوضاح: جمع وضح وهو البياض.
(5)
وقيل في هذا المعنى:
نرى الشيء مما يُتَّقَى فنهابه
…
وما لا نرى مما يقي الله أكثر.
(6)
أربد هو أخو لبيد، قتلته الصاعقة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع عامر بن الطفيل يريدان قتله عليه الصلاة والسلام.
(7)
يريد كتاب المرزباني.
(8)
أي المرزباني.
(9)
قد أكثر الشعراء تجاذب هذا المعنى، وحسَّنه بعضهم بالاقتباس، فقال:
إلى الله أشكو عشق ظبي مهفهف
…
رماني وما لي من يديه خلاص
جرحت بعيني خده وهو جارح
…
بعينيه قلبي والجروح قصاص
وأوردته - في مورد الاحتجاج - إحدى الحسان، فقالت:
ألحاظنا تجرحكم في الحشا
…
ولحظكم يجرحنا في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا
…
فما الذي أوجب جرح الصدود
(10)
أراد من الزماع: العزم على الرجوع إلى أهله.
(11)
لقحت الحرب: هاجت بعد سكون، ويقال لقحت العداوة بمعناه.
(12)
الظاهر أنه يريد بالبيض: النساء الحسان، وإن تخيل هبة الشباب في ذلك اليوم لأبعد شوط، وآخر غاية ينتهي إليها خيال الشاعر.
الكاتب: محمد رشيد رضا
البابا لاون الثالث عشر - ترجمته
في يوم الإثنين الماضي (20 يوليو) توفي عظيم النصرانية ورئيس الطائفة
الكبرى فيها بابا رومية عن ثلاث وتسعين سنة، قضى جُلها في خدمة مذهبه
الكاثوليكي منها خمس وعشرون سنة، أو ربع قرن في منصب البابوية، وقد كان
لسياسته من التأثير في عالم النصرانية والمدنية ما لم يكن في حسبان أحد من
العالمين، وكاتب هذه السطور يعتقد أنه كان أعقل رجال أوربا وأعلاهم كعبًا
في السياسة. وإننا نذكر من ترجمته ما فيه العبرة للمسلمين كما يليق بمجلة
إسلامية مثل المنار، فلا تقل - أيها المسلم - ما لهذه المجلة الإسلامية ولزعماء
النصرانية؟ !
الكاثوليك أكثر فرق النصارى عددًا، واعتقادهم في البابا كاعتقاد أكثر المسلمين
في الخليفة أو أمير المؤمنين من حيث الرياسة الدينية والدنيوية في الجملة، وكاعتقاد
بعض الفرق الإسلامية في وجوب عصمة الإمام الحق، ثم إنه يُنتخب من طائفة
مخصوصة ولا يأخذ هذا المنصب بالوراثة، وتلك سنة الإسلام في انتخاب الإمام من
طائفة مخصوصة.
قال ياقوت في معجمه: (والبابا رئيس الفرنج هو عندهم نائب المسيح كما
هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم) ،
وقال الشريف الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق: (وفي مدينة رومة قصر الملك
المسمى البابة، وليس فوق البابة فوق في القدر والملوك دونه، ويقيمونه مقام الباري
جل وعز! !) إلى أن قال: (وحكمه نافذ ماضٍ على جميع ملوك الروم، ولا يقدر
أحد منهم يرد عليه) وقال أبو الفداء في كتاب تقويم البلدان عن أهل بيزة: (وليس
لهم ملك، وإنما مرجعهم إلى الباب خليفة النصارى) وقال عن رومية: (وهي مدينة
مشهورة ومقر خليفة النصارى المسمى بالباب) ، وقد تكلم ابن خلدون عن هذه
الرياسة وصاحبها بإيضاح تام؛ ولهذا كله قال بعض علماء أوربا: إن البابوية
أو النصرانية مقتبسة من الإسلام!
جلس لاون الثالث عشر على كرسي هذه الخلافة (سنة 1778م) ، وأوربا
بقضّها وقضيضها وعلومها وصنائعها ومدنيتها معادية للكاثوليك أشد من معاداتها
للإسلام؛ لأنها تعتقد أن الكاثوليك والبابوية من الأمراض الباطنية التي أصابت
الوطن في القلب والكبد والرئتين، فهي تفتأ تفتك به، حتى تبيده، فالكثلكة خطر في
الباطن تحارب خوفًا وحذرًا من شرها، وأما الإسلام فهو عدو على البعد يحارب طمعًا
في أرضه ودياره. ولكن البابا لاون الثالث عشر حول بسياسته ودهائه ذلك العداء إلى
ولاء، وذلك الاستخفاف والاحتقار واعتبار، والفضل في ذلك لحسن الانتخاب
والاختيار، إذ لو كان هذا المنصب وراثيًّا لما ارتقى إليه مثل هذا الرجل.
ولد ليون الثالث عشر (وكان اسمه قبل البابوية بتشي) في 2 مارث سنة
1810م في بلدة كاربنتو من إيطاليا، وتعلم التعليم الابتدائي في مدرسة للجزويت
ببلدة فيترب، وجاء رومية سنة 1824 وأتم دروسه بمدرسة الجزويت فيها،
ثم بمدرسة رومية الجامعة، وعني أولاً بالعلوم الطبيعية والكيمياء حتى نبغ فيها،
ثم اشتغل بآداب اللغة اللاتينية حتى عد من الكتاب البلغاء والشعراء المجيدين، ثم
درس علوم الفلسفة واللاهوت فأتقنها ومنح لقب (دكتور) في الفلسفة. ثم وجه
عنايته إلى علم الحقوق فبرع حتى أخذ الشهادة العالية فيه من مدرسة رومية
الجامعة.
وفي سنة 1837 عين قسًا ونائبًا عن البابا في بعض البلاد، وفي سنة 1843
عين رئيسًا لأساقفة دمياط، ثم وكيلاً للبابا في بروكسل عاصمة بلجيكا فأقام في تلك
البلاد ثلاث سنين منحه ملكها في آخرها وسام (ليوبولد) من الدرجة الأولى وهو
من أعلى الوسامات عنده، وفي سنة 1846 عين رئيسًا لأساقفة بيروز. وقد لبث في
منصب الأسقفية 32 سنة كان فيها حسن السلوك يستتيب اللصوص والبغاة المعتدين
حتى خلت منهم السجون التي كانت ممتلئة بهم قبل عهده. وفي سنة 1877 صار
كردينالا ومديرا في الفاتيكان والكنيسة الرومانية، وفي سنة 1878 توفي البابا بيوس
التاسع فانتخب خلفًا له.
وقد ذكرنا هذه النبذة الوجيزة في تعليمه وتقلبه في الأعمال الدينية لأجل
المقابلة بين تربية رؤسائهم ورؤسائنا حتى لا يعجب أحد من تقدمهم وتأخرنا.
إذا سأل المسلم عن كيفية تربية رئيس أمته العام من أمير وسلطان أو ولي
عهدهما أو الرئيس الخاص كشيخ الإسلام في الآستانة وشيخ الأزهر في مصر،
وسأل: ماذا تعلم هؤلاء من العلوم التي لا بد منها للأمة التي يرأسونها، وما
هي الأعمال والمناصب التي تقلبوا فيها فظهر استعدادهم لخدمة الأمة فرشحوا لها
بسببها فماذا يكون جواب هذا السائل؟ لعل الأكثرين يجيبونه بأن الواجب علينا أن
نقبل رياستهم من غير سؤال عن استعدادهم، وعن علومهم وأعمالهم، ومن تحدث
بشيء من ذلك فهو عدو للملة والدين. وفتنة لجميع المسلمين، وذلك أن الأمة في
طور الضعف لا يرضيها إلا أن يمدح منها كل شيء، وذلك أنها تشعر بفقد مقومات
السعادة بالفعل فتحب أن تخادع نفسها بالمدح كما يتكبر الوضيع ويتنفج ليظهر في
مظهر الكبراء.
فقد الكاثوليك السلطة الدنيوية، سلبها الملوك من البابا الذي كان يفيضها عليهم
ولو تسنى لهم في أي يوم من الأيام إرجاعها لوجدوا في الفاتيكان رجالاً يديرونها
أحسن مما يديرها ملك إيطاليا، وحكومته في جميع أصولها الإدارية والمالية
والقضائية والعسكرية؛ لأن رجال الدين عندهم يتعلمون كل شيء.
أرأيتك هؤلاء الذين يسمون رجال الدين في الإسلام إذا قيل لهم - وهم يشكون
من خروج الأحكام عن الشرع إلا ما يسمونه الأمور الشخصية ومحاكمها على
خطر -: تعالَوْا فأديروا أعمال الحكومة الكلية من إدارية ومالية وحربية
وقضائية وسياسية (خارجية) وغير ذلك، أيجدون في الأزهر من يحسن عملاً
من هذه الأعمال كما يجد الكاثوليك في الفاتيكان؟ أنَّى وهم إلى اليوم يتنازعون
بينهم: هل علم تقويم البلدان يقطع على الطالب طريق الدين أم لا؟ الجمهور على
أنه يقطع وأنه ينبغي أن لا يُقرأ في الأزهر. وهل الحساب العملي والهندسة العملية
يفسدان العقل حتى يضعف استعداده لفهم العلوم الدينية أم لا؟ الجمهور على أنه يفسد
العقل وينبغي أن لا يدرس في الأزهر كما صرح بذلك الشيخ (ثابت بن منصور)
والشيخ محمد راضي البحراوي من كبار المدرسين هنالك في مقالاتهما المنشورة في
المؤيد. ثم أَنَّى يجدون في الأزهر مَن يحسن عملاً ما وليس فيه من يعد لعمل
ما إلا القضاء الشرعي، وهؤلاء القضاة الخارجون منه تبكي من سيرة أكثرهم
السماء والأرض وتستغيث العدالة بلسان المظلومين المهضومين بأن ينقذها الله منهم
ويرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون! !
ولقد كان رجال الكاثوليك في يوم مضى مثل رجال الأزهر يعدون كل علوم
العمران حجابًا دون الدين حتى كأن الدين آلة الخراب والدمار، وكان أكثر عامتهم
على رأي رجال الدين كما هو الشأن عندنا حتى اليوم، ولكنهم لم يلبثوا أن علموا
على أن بقاء الدين محال ما لم تجعل علوم العمران نصيرة له فعكفوا على العلوم حتى
برعوا في جميع فنونها، فمدارسهم جامعة تفوق غيرها نظامًا وإحكامًا،
وعلماؤهم من القسيسين وغير القسيسين مستعدون لكل عمل يرتقي فيه العمران.
فمتى يعود قومنا إلى هذا وهم أحق به من كل أحد؟
أنت يا رب مسئول بتوفيق العقلاء للسعي وإليك وحدك المشتكى.
قلنا: إن لاون الثالث عشر قد ولي البابوية والأخطار محدقة بها من كل جانب
فقد كان في عهد سلفه بيوس التاسع ما كان من الثورات والانقلاب حتى نشر على
عهده في باريس (إعلان) في تحريض بلاد إيطاليا على إنشاء جمهورية إيطالية، لا
يكون فيها بابا ولا دين بالمرة. وأصابت البلاد سَنة فذهب الجماهير إلى أن المحل
والقحط من شؤم السلطة البابوية، وقد أشاع المرجفون على عهده بأن النمسا تعضد
مؤامرة سرية على خلع البابا، وإقامة حكومة عسكرية في البلاد البابوية كلها
فاضطربت رومية، وكثر فيها الهرج، وعجزت الحكومة عن ضبط النظام؛ إذ كانت
المدينة غاصة بجماهير المسلحين من الأهلين. ثم فتح مجلس الشورى فطلب إناطة
الأعمال الإدارية بالعوام (يطلق لفظ العوام في مقابل لفظ (الأكليروس) في
اصطلاحهم) وحرية المطابع وطرد اليسوعيين (الجزويت) وإعتاق اليهود، وكان
الشعب الثائر يؤيد طلب المجلس. ثم عم الهياج بلاد إيطاليا من شمالها إلى جنوبها،
وكان على أشده في رومية، وتوقع الناس سقوط الدولة البابوبة من الأرض، وقلّ
احترام البابا في البلاد الأجنبية حتى ما كان يجد نصيرًا.
ونقول بالاختصار: إنه لم يستقر للسلطة البابوية قرار من بعد ثورة فرنسا سنة
1848، بل كانت الفتن تتفاقم يومًا بعد يوم، وقد أظهر البابا بيوس التاسع من حب
الإصلاح وإرادة الخير للشعب ما لا مزيد عليه، ولم ينقص ذلك من قوة الحزب
الجمهوري شيئًا. ولقد بلغ من الاستهانة بالبابا أن كتب إلى إمبراطور النمسا يلتمس
إخراج عساكره من إيطاليا فكان كتابه سخرية في فينا بعد أن كان لا مرد لأمره، ولا
معقب لحكمه. وحدث في هذه السنة من الأحداث ما زعزع الكرسي البابوي من
الشعب الذي كان يقول: إن هذا الكرسي هو كرسي بطرس الرسول نائب المسيح.
ومن ذلك اتفاق الشعب والحرس المدني والعساكر المنظمة والجيش الروماني على
محاصرة الكويرنال وقتل أمين أسرار البابا، وإكراهه بعد ذلك على قبول وزارة
إصلاحية وجعْله كالأسير في قصره تاركًا الأحكام الدينية والمدنية جميعًا، حتى
اضطر إلى الفرار متنكرًا بهيئة قسيس إلى غايتا. ثم اشتعلت نيران الفتن والثورات
في جميع البلاد التابعة له كما أشرنا إليه آنفًا؛ حتى خسر سلطته في تلك البلاد،
وسنذكر نبذة من سلوك لاون الثالث عشر في مقاومة الأخطار، وصرف التيار،
وما في ذلك من العظة والاعتبار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الخديو وجمعية المسلمين في لوندره
زار عزيز مصر في هذا الصيف عاصمة الإنكليز بصفة غير رسمية، فلقي من
حفاوة ملك الإنكليز وكبار أسرته ورجال حكومته ما كان فوق الحسبان. وقد زار
سموه في تلك العاصمة وفد من جمعية الاتحاد الإسلامي فيها رئيسه السيد علي
البلجرامي الهندي الشهير، فخطب خطبة بلسان الوفد رحب فيها بالعزيز، وذكر
مقصد الجمعية وسعيها في ترقية المسلمين والتأليف بين شعوبهم، ووصف الأمير
بتأييد العلم وافتخر بالأزهر، وذكر ما سمع من عود الحركة العلمية إليه بعد سكونها.
فأجابه الأمير بأنه قد سرَّه أن تكون هذه الجمعية جامعة لأفراد من طوائف
المسلمين المتفرقة على الاتحاد، وقال كلمة كبيرة وهي: (إن الإسلام دين اشتراكي
يأمر بالمساواة بين الغني والفقير، والكبير والصغير) ، ثم ذكر استياءه من قلة عدد
المجاورين الهنديين في الأزهر، وأنه يرجو أن يزيدوا في مستقبل الأيام، ثم ذكر
الحج والحجاج، وقال: إنه يحب أن يسهل الحج على مسلمي كل الأقطار؛ لأنه من
أركان الدين (فإذا أهمل المسلمون فريضته حلت بهم الأرزاء لإهمال دين قويم
يعتقده 300 مليون من الناس) .
وعندنا أن اجتماع أمرائنا برجال هذه الجمعيات مفيد جدًّا للمسلمين. وعسى أن
يعتبر بكلمة الأمير بعض الأحداث من رعيته الذين يكتبون ويخطبون للتفريق بين
المسلمين باسم الوطنية، ويسمون المسلم السوري في مصر دخيلاً. وأما إقبال الهنود
وغيرهم على الأزهر فهو موقوف على ترقية التعليم فيه، وذلك بيد الأمير وفقه الله
تعالى. وإلا فإننا لا نأمن أن ينفر المصريون منه بعد حين إلا فارًّا من العسكرية، أو
عاجزًا عن الكسب فيتخذه له تكية!
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(لائم مليم)
تألم مما كتبناه عن قراء الصحف رجل هضم حقوق المنار سنتين أو ثلاثًا كان
يعد ويمطل، ثم صرح بأنه لا يجوز أخذ قيمة الاشتراك منه؛ لأنه كاتب وأديب ولم
نعرف عن غيره أن تعريف الأديب أو خاصته هضم حقوق خدمة العلم والدين
والآداب. تألم فكان طول ليله يحسو كؤوس المُدام، ويسدد إلينا سهام الملام،
ويحرض سمَّاره (الأدبا) ، على اتباع سنة صاحب اللواء، في معاداة الذين
يسميهم الدخلاء، بأن ينفروا عن المنار وصاحبه؛ لأنه ذكر المصريين في مقال يذكر
فيه معاملة الأمم وأصناف الناس لقراء الصحف فضَّل فيه بعض البلاد على بعض،
وبعض الأصناف على بعض، وقال: إن هذا يعد شتمًا للمصريين.
ونعيد بهذه المناسبة ما كنا كتبناه من قبل، وهو أن أكثر المشتركين في المنار
من أهل الفضل والدين، والكثيرون منهم يدفعون قيمة الاشتراك من غير مطالبة حتى
أنه لا يكاد توجد جريدة أو مجلة منتشرة مثل المنار ليس لها وكلاء إلا في بلدين أو
ثلاثة بلاد. ولم نكتب ما كتبناه تألمًا منهم، ولكن عظة وذكرى، وإنا لنحن المقصرون
إذ تمر السنة بعد السنة ولا نطالب الواحد منهم بشيء. نعم إن فيهم من يمطل
ولكن لا يكاد يوجد فيهم من يهضم إلا تسعة رهط، نحن منهم في شك وعسى أن
يصلح الله حالهم.
***
(جريدة المناظر، إبطالها)
سبق أن نوهنا بهذه الجريدة التي يصدرها في سان باولو (البرازيل) نعوم
أفندي لبكي السوري، وسبق أن افتخرنا بنهضة السوريين المهاجرين إلى أمريكا في
الآداب لأجلها؛ فإننا كنا معجبين بحرية هذا الجريدة وإنصافها وشدة غيرة منشئها
على قومه وحبه لجنسه ولوطنه، وحسن اختياره فيما يكتب وتوخيه النفع فيه. ومن
دلائل طفولية الشعوب الشرقية (حاشا اليابان) أن يضطر صاحب هذه الجريدة
النافعة إلى إبطالها بعد جهاد بضع سنين. أقول الحق ولا أستحي من رصفائي
الفضلاء: إنه إذا صح الاستدلال بفحوى الكلام ولحنه على قصد المتكلم وغرضه،
فإن صاحب المناظر في مقدمة المخلصين في قصدهم الذين يقدمون نفع قومهم حتى
على مصلحة أنفسهم. ويظهر أن أكثر قراء العربية هناك يجهلون أقدار أهل الإخلاص
وأصحاب الوجدان الشريف، ولا همّ لهم من الجرائد إلا أن يتلذذوا بمدح أنفسهم أو ذم
أعدائهم.
كتب صاحب المناظر نشرة يودع بها الصحافة ووزعها على قراء جريدته.
قال في أولها: (غدًا تنضب دمعة وتذرف دمعة، تنضب دمعة هذا القلم، وتذرف
دمعة هذا الكاتب، غدًا يودع الصاحبان بعضهما بعضًا، لا يرجوان التقاءً حيث
اجتمعا على مكتب الصحافة) وأقول: إن كل ذي شعور بقيمة أهل الوجدان الشريف
يشارك هذا الكاتب في ذرف الدموع، ولكن ما أقل الذين يشعرون!
وقال: إنه دخل باب الصحافة لثلاثة أغراض: مقاومة فساد الأمة حيث الكلمة
حرة، وترقية المهاجرين السوريين، وتمكين علاقتهم بوطنهم لئلا تبتلعهم الأمة
التي هاجروا إليها. وأنا أعتقد أنه صادق في دعواه وأحترم أغراضه، وأحترمه على
البُعد؛ لأني أعتقد أنه يريد نفع الناس، ولكن أكثر رجالنا كالأطفال يحبون من يسعى
في لذتهم، لا من يسعى في منفعتهم، ولقد كان يجل كل كلام جليل نافع للناس، وإن
لم يكونوا ممن أنشأ لهم جريدته. ومن آية هذا أنه كان ينقل عن المنار مثل مباحث
جمعية أم القرى ومقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) نعم إنه نشر
ردًّا لبعض الكتاب على الثانية في شيء من التحامل، ولكن لا أقول إنه هو كان
متحاملاً.
وقال في سبب إبطال الصحيفة: إنه كان يعلم أن من يكتب لتلك الأغراض لا
يكون موضوعًا للإقبال، ولكنه لم يكن يحسب أنه يهمل ويقاوم حتى يعجز عن النفقة
عليها؛ لأنه يقصر في مدح الذين يتجنسون بغير جنسيتهم (السورية) وفي ذكر
حركات المشتركين، وتقلبهم في البلاد. وقد لقي ما لم يكن في الحسبان.
وبالجملة: إن إبطال هذه الجريدة خسارة على السوريين لا عوض عنها،
فعسى أن يوجد من أهل الغيرة والنجدة من يسعى في إعادتها من حيث يجدّون في
مساعدتها.
***
(كتاب دلائل الإعجاز)
نشرنا نموذجًا من هذا الكتاب الجليل في البلاغة بالحروف والهوامش التي
نطبعه فيها ومنه يرى القراء أن المطبعة قد استكملت أنواع الحروف حتى الشكل،
وصارت مستعدة لطبع الكتب وغيرها. أما الاشتراك في الكتاب فهو 15 على كبره
وحسن ورقه وطبعه، وسيكون ثمنه بعد تمام الطبعة عشرين قرشًا.
***
(كيفية جمع إعانة سكة حديد الحجاز)
أخبرَنا شاهدا عدلٍ أن أحد مختاري القرى في سوريا جمع من كل رجل من
قريته ريالاً للإعانة، ولكنه لم يدفع مما جمعه إلا نحو ثلثيه، فإذا كان المتصرف
يأخذ ثلث الباقي أيضًا ويرسل إلى الولاية ثلثيه، وكان الوالي يفعل هكذا فيما يرسله
إلى الآستانة فإن الذي يبقى للآستانة نحو الخمس، حتى كأن المال غنيمة لا يصل إلى
بيت المال منه إلا خُمسه. والسبب في وقوع هذه الخيانة من مثل ذلك المختار -
الذي لا ذمة له ولا أمانة - هو عدم نشر كل ما يدفعه الناس هناك في الجرائد، وعدم
طبع وصولات مسلسلة الأعداد يحاسب بها الجامعون للإعانة. فعسى أن تتنبه
الحكومة العثمانية في جميع الولايات لتلافي ذلك، وأن تأمر بإصدار صحف تابعة
للجرائد الرسمية في كل ولاية يبين فيها كل ما يدفعه الناس، وترسل كل صحيفة إلى
الجهة التي ذكر أسماء أهلها فيها. وأن لا يجمع شيء من الإعانة التي يأمر بها
السلطان أخيرًا إلا بوصولات مختومة مسلسلة الأعداد.
هذا وقد كثر الذين يجمعون الإعانة في هذه البلاد، ومنهم من لا يوثق بأمانته
فيجب على كل أحد أن يحتاط فيما يتبرع به فلا يضعه إلا في يد أمين كإدارة المؤيد
في مصر، واللجنة الكبرى التي يرأسها أحمد باشا المنشاوي في الغربية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عود إلى سرد الأحاديث الموضوعة
مناقب الصديق
(1)
حديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال: (يا أبا بكر ألا
أبشرك؟ قال: بلى فداك أبي وأمي، قال: إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم
القيامة عامة ويتجلى لك خاصة) رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا، وقال: لا أصل له
وضعه محمد بن عبد بن عامر، وله طرق منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال
لأبي بكر: (أعطاك الله الرضوان الأكبر) فقال بعض القوم: يا رسول الله وما
الرضوان الأكبر؟ قال: (يتجلى الله في الآخرة لعباده المؤمنين عامة ويتجلى لأبي
بكر خاصة) رواه أبو نُعيم عن جابر مرفوعًا، وفي إسناده محمد بن خالد الختلي وهو
كذاب، ولا يَغُرنك ذِكْر الحاكم له في مستدركه فكم في المستدرك في الأحاديث
الموضوعة والواهية.
(2)
حديث إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني كنت معك في
الصف الأول فكبرت وكبرت فاستفتحت بالحمد فقرأتها فوسوس إليَّ شيء من
الطهور، فخرجت إلى باب المسجد فإذا أنا بهاتف يهتف بي وهو يقول: وراءك،
فالتفت فإذا أنا بقدس من ذهب مملوء ماء، أبيض من الثلج وأعذب من الشهد
وألين من الزبد عليه منديل أخضر مكتوب عليه: لا إله إلا الله. الصديق أبو بكر،
فأخذت المنديل فوضعته على منكبي وتوضأت للصلاة وأسبغت الوضوء ورددت
المنديل على القدس، ولحقتك وأنت في ربع الركعة الأولى فتممت صلاتي معك
يا رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر الذي وضأك
للصلاة جبريل، والذي مندلك ميكائيل، والذي مسك ركبتي حتى لحقت للصلاة
إسرافيل. هو موضوع ومحمد بن زياد المذكور في إسناده كذاب، وقد روى نحو هذا
لعلي بن أبي طالب، وفيه ذكر المنطل والمنديل، والكل كذب موضوع.
ونقول: يا ليت عزرائيل انتقم من واضع هذا الحديث؛ لأنه لم يجعل له حظًّا
في هذه الخدمة فأخذ روحه الخبيثة قبل أن تصل أكاذيبه إلى الناس. وإن الممارس
للسنة الفقيه في الدين ليعرف فيه الكذب وإن لم يطلع على نقلنا عن المحدثين في
وضعه وكذب مخترعه، ولكن جهلة العامة يُفتنون بمثله وينظمونه في سلك الكرامات
والخوارق.
(3)
حديث إن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين
الأرواح، فجعل ترابها من الجنة، وماءها من الحيوان، وجعل له قصرًا في الجنة
من درة بيضاء
…
إلخ رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا، وقال: لا يثبت وقد اتهم
به هارون بن أحمد العلاف المعروف بالقطان. وقد جزم الذهبي في ترجمته
من الميزان بأن هذا باطل، وفي معناه أحاديث نترك ذكرها، فلتقس عليه.
(4)
حديث أن يهوديًّا قال لأبي بكر: والذي بعث موسى وكلمه تكليمًا إني
أحبك، فلم يرفع أبو بكر له رأسًا تهاونًا به فهبط جبريل وقال: (يا محمد إن العلي
الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: قل لليهودي الذي قال لأبي بكر: إني أحبك - إن
الله قد أحاد عنه في النار خلتين: لا توضع الأنكال في عنقه ولا الأغلال في عنقه
لحبه أبا بكر
…
)
…
إلخ رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع في
إسناده وضَّاعان.
(5)
حديث: (إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا
له تفلحوا وأطيعوه ترشدوا) رواه الخطيب عن ابن عباس مرفوعًا، وهو موضوع
للاحتجاج به على الشيعة، بل كل هذه الأحاديث قد وضعت لمثل هذا الغرض فقد
كانت سوق الرواية رائجة في أيام الفتن والخلاف، فوضع الكذابون من كل قوم
من الأحاديث ما شاءوا، ينصرون بها مذهبهم فما كان أشأم تلك المذاهب على
الإسلام! ! !
(6)
حديث: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جبريل إذ مرَّ أبو بكر
فقال: (هذا أبو بكر) قال: (أتعرفه يا جبريل؟) قال: (نعم، إنه لفي السماء
أشهر منه في الأرض وإن الملائكة لتسميه حليم قريش، وإنه وزيرك في حياتك
وخليفتك بعد موتك) رواه ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده إسماعيل
ابن محمد بن يوسف كذاب. وذكر له صاحب (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث
الموضوعة) طريقًا أخرى فيها وضاع. وقال الذهبي: إسناده مظلم، وتعقبه ابن
حجر في لسان الميزان بأن رجاله معروفون بالثقة، وليس فيهم من ينظر في حاله إلا
المعلَّى بن الوليد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. قال في الفوائد المجموعة مستدركًا
على ابن حجر: بل في إسناده إسماعيل بن محمد وهو كذاب، وقد قال الحاكم: إنه
يروي الموضوعات. فلينظر القارئ كيف يشتبه في مثل هذا الحديث الحافظ ابن
حجر، وينسى إسماعيل الذي حكم عليه بالوضع الحاكم على تساهله ووقوعه في
رواية الموضوعات بحسن ظنه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
البيوت
منكراتها وعاداتها
تهتك النساء
تبتدع نساء المسلمين في مصر كل يوم زيًّا جديدًا من أزياء الخلاعة والتهتك،
فلم يكتفين عند الخروج بإظهار بعض الرأس ومعظم الوجه وصفحتي العنق والنحر
حتى جعلن في هذه الأيام أكمامهن قصيرة واسعة فهن يمشين في الأسواق،
وسواعدهن بارزة من وراء معاصمهن المطوقة بالأَسْوِرة، فلم يبق من الزينة شيء إلا
وقد أبدينه حتى وقعن في مخالفة نص القرآن الذي لا خلاف فيه وهن مع هذا كله
معدودات من أهل الحجاب. فأين أهل الغيرة؟ أين أهل الصيانة؟ أين الذين ملؤوا
أرض مصر صراخًا وعويلاً أن قال قاسم بك أمين ينبغي أن نربي المرأة ونعلّمها ثم
نأذن لها بعد ذلك بأن تميط هذا المنديل عن أنفها لتستنشق الهواء النقي، ثم لتستر مع
ذلك رأسها ونحرها وصفحتي عنقها وسائر بدنها؟ أليس ما قاله أهون بشرطه وبغير
شرط مما عليه نساء أولئك الصائحين النائحين الذين ينكرون الكلام. ولا ينكرون
الموبقات العملية التي يشاهدونها في كل آن؟ !
الخدم في البيوت
يعلم كل مقيم في مصر أن الناس يبيحون للخدم من الرجال الخلوة بالنساء في
جميع الحالات، فالخادم يساعد سيدته في المطبخ حاسرة عن رأسها وذراعيها، كاشفة
عن صدرها وساقيها، ومنهن من تلبس في حال غسل الثياب الأخلاق الممزقة فيبدو
منها ما لم يكن يبدو. ويصعد معها إلى السطح يساعدها على نشر الثياب وهي في
مثل ما ذكرنا من ثياب البذلة، ويدخل معها في بيت الدواجن لإطعامها، وربما أغلق
الباب عليهما لئلا يطير الحمام أو يفر الأرنب. ورب البيت يعرف كل هذا ولا
يبالي به ولا يتأثم منه، وإن كان في خادمه من الشباب والفتاء ما ليس فيه! وليس
هذا المنكر مما تدعو إليه ضرورة المعيشة بل لا حاجة إليه ولو كان محتاجًا إليه
لكانت الموانع التي تمنع منه أولى بالترجيح من الحاجة التي تدعو إليه؛ لأن درء
المفاسد مقدم على جلب المصالح في نظر الشرع والعقل معًا.
وإننا لنعجب من أمر هؤلاء الرجال الذين نبذوا الشرع آدابه وأحكامه، وحرموا
ثمرة العقل من البصيرة والاحتياط كيف أفسدت عليهم عادات البلد السوأى وجدان
الغيرة، فسمحوا لهؤلاء الخدم - الذين هم أضل سبيلاً من الأنعام بخبث طينتهم وسوء
تربيتهم - أن يمازجوا نساءهم في الخلوات والجلوات، والدين لم يسمح بهذا لأطفالهم
في جميع الحالات. إذ أمر تعالى بأن يستأذنوا في بعض الأوقات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ
صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ
لَّكُمْ} (النور: 58) ؛ فإذا كان الله لا يسمح لأولادكم أن يروا النساء في الأوقات
التي هي مظنة التساهل في الستر لئلا ينقش في ذهن الولد من رؤية العورات ما
يشتغل به خياله. وتسوء في الآداب حاله، فكيف تسمحون لهؤلاء الرجال الأشرار
بما لا يسمح به الشرع للأطفال الصغار؟ !
الفقيون في البيوت
يطلق أهل هذه البلاد على حافظ ألفاظ القرآن لفظ (فَقِي) ويجمعونه على
(فُقَهَا) ، وإن كانوا في الغالب لا يكادون يفقهون حديثًا، وما ذكرناه في العنوان من
الجمع هو أولى من جهتي اللفظ والمعنى معًا. ومن العادات الضارة في هذه البلاد
- وإن صبغت بصبغة الدين - أن أكثر البيوت يعين لها فقيون يجيئونها في ساعة
من ليل أو نهار فيقرءون شيئًا من القرآن، حيث يكون النساء وينصرفون. وإنهم
ليخلون بالنساء كثيرًا والخلوة محرمة بإجماع المسلمين سواء كان الرجل والمرأة
بصيرين أو أعميين أو أحدهما أعمى فقط. وقد سمعنا من أهل النقد والبصيرة
حكايات كثيرة في مفاسد هذه الخلوات بل حدثنا غير واحد من أهل النقد بأن من
هؤلاء الفقيين من يتوسل بكلام رب العالمين إلى الصلة بين المعشوقات والعاشقين،
فكأن هؤلاء العميان يكافئون صنف المبصرين الذين يقودونهم بعمل من جنس
عملهم، فكل صنف يساعد الآخر على ما لا وصول إليه بدونه، ويقوده في
المسالك التي يحتاج فيها إلى قيادته.
وليت شعري ماذا يريد الذي يعين فقيًا أعمى يقرأ لامرأته في بيته ما لا تفهمه
ولا تعقله؟ أيريد تقوية دينها بقراءة ذلك المأجور؟ كيف وهو لم يلقنها عقيدة
المسلمين، ولم يرضها بشيء من أخلاق الدين، ولم يعلمها الصلاة بالقول، ولم
يمرنها على أدائها بالعمل، ولم يذكرها يومًا من الأيام بالدار الآخرة، ولم يحدثها
في ليلة من الليالي بالحساب والعقاب، فأي فائدة لها في سماع نغمات ذلك الرجل
المأجور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً؟ نعم، إن هؤلاء الفقيين لا كسب
لهم، وإن أكثرهم مستحق للصدقة فمن تصدق عليهم فلا يجعل صدقته أجرًا لهم عن
التغني بكتاب الله في بيته والوقوف على عورات أهله، وإن أمن فتنتهم فكيف به إذا
لم يأمنها.
فإن قيل: إن المسلمين يحسنون الظن بحَمَلَة القرآن، وأنت تحملهم على إساءة
الظن بهم - أقول: روى أحمد وأبو داود والترمذي (وصححه) والنسائي وابن
حبان من حديث أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة
فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (احتجبا منه) فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا
يعرفنا؟ ! فقال: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ !) وقد علل المحققون النهي
بأن الأعمى قليل العناية بالستر. فإذا كان هذا قول النبي لأزواجه اللواتي أذهب الله
عنهن الرجس وطهرهن تطهيرًا في شأن ابن أم مكتوم الذي عاتب الله النبي في
الإعراض عنه لدعوة سادات قريش وقال في شأنه: {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى *
وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس: 8-10) فماذا تقولون أنتم في عميان
مصر، دار الفسق في هذا الزمن الذي فشا فيه الفجور وفار التنور؟ فاتقوا الله أيها
المسلمون. وطهروا بيوتكم واستعينوا بذلك على تربية أولادكم، وإلا هلكتم وأهلكتم
بلادكم.
وأقبح من خلوة الفقيين بالنساء في البيوت، خلوتهم بهن في (أحواش) القبور،
فإن هذه الخلوة أتم من تلك؛ لأن البيوت لا تخلو في الغالب من الأولاد والخدم،
فالخلوة الصحيحة فيها متعسّرة على أن في الجلوة من المفاسد ما فيها.
وإن الشافع لجميع ما يكون في المقابر من البدع والمنكرات استحباب زيارة
القبور أو الإذن فيها لأجل الاعتبار بالموت. فيستباح لأجل هذا الاستحباب من
المحرمات ما يستباح، ويعد كله قربة إلى الله تعالى وإن كان كله فسادًا لا شيء من
العبرة والعظة فيه. هذا وإن الأحاديث الصحيحة تدل على أن الإذن بزيارة القبور
بعد النهي عنه خاص بالرجال، ولقد لعن صلى الله عليه وسلم زائرات القبور. هذا
ما ننصح به لإخواننا المسلمين، وإن سمّاه ذلك (الكاتب الأديب) شتمًا للمصريين،
فإن النهي عن المنكر فريضة؛ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:
55) .
طلب الزواج بلسان الصحف
رأينا في بعض المجلات والجرائد عادة جديدة قلد المصريون فيها الأوروبيين
وهي طلب الزواج بلسان الصحف، يكتب الفتى شيئًا في ترجمة نفسه ومورد معاشه
ثم يذكر الصفات والنعوت والحالات التي يحبها فيمن يريد التزوج بها، ثم رأينا
أكثرهم بطلب أن ترسل إليه صورتها الشمسية (الفوتُغرافية) وطلب بعضهم أن يأذن
له أبواها أو غيرهما من أوليائها برؤيتها في حضرتهم، وهذا طلب شرعي، ولا
بأس به إذا كان أهل الفتاة راضين مِن أخلاق مَن يخطب إليهم وواثقين بأنه يمنعه
أدبه أن يذكر ذلك إذا لم يتم الاتفاق على الزواج. وأما طلاب الصور فلا شك أنهم
من النابتة المتفرنجة الذين لا يخطر في بالهم أدب الدين ولا أحكامه، ولو تفكروا في
ذلك لعلموا أن تصوير الفتيات يتوقف على بروزهن للمصوّر سافرات حاسرات كما
هي العادة. ولا يتوهم أن أحدًا يطلب صورة امرأة ملفوفة في ملاءتها متبرقعة لا
يظهر منها إلا الحدق! سبحان مقلب القلوب والأبصار قد صار شبان المسلمين
يشترطون فيمن يريدون التزوج بها أن تكون ممن تبرز أمام المصورين، وكانوا
يغارون على النساء من الأهل والأقربين!
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة السادسة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(النوع الثامن: طاعة الحيوانات والجمادات)
استشهد السبكي للأول بحكاية الأسد مع أبي سعيد بن أبي الخير ومع إبراهيم
الخواص من قبله، وللثاني بحكاية الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع الفرنج. فأما
حكاية الأسد فلا أعرفها، وأما حكاية الريح فهي كما في ترجمة الشيخ عز الدين
(رحمه الله تعالى) من طبقات السبكي أن الفرنج وصلوا إلى المنصورة في المراكب
واستظهروا على المسلمين فنادى الشيخ بأعلى صوته: يا ريح خذيهم، (عدة مرار)
فعادت الريح على مراكب الفرنج، وكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر
الفرنج وصرخ من بين المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى
الله تعالى عليه وسلم رجلاً سخَّر الله تعالى له الريح.
أخذ السبكي من هاتين الحكايتين أن الحيوانات والجمادات تطيع الأولياء،
وتمتثل أمرهم، وإنما الطاعة عمل بإرادة واختيار يقصد به امتثال أمر المطاع، فهو
يبني هذا على قول بعض الصوفية: إن للجمادات حياة وإدراكًا، ولولا ذلك لسمي ما
كان من الريح تسخيرًا من الله تعالى كما قال ذلك الصارخ. وتسخير الله الريح لا
يستلزم أن يكون بقدرة لا حكمة معها، ولا نظام، بل ذلك مُحال على الحكيم العليم،
وإنما يكون ذلك بتوفيق الله تعالى بين أسباب هبوب الريح وأسباب خروج الفرنج
كأن يكونوا خرجوا في وقت سبقته أو قارنته حرارة شديدة في هذا الإقليم، فاشتدت
حرارة الهواء فصعد إلى الحار منه بتمدده وخفته إلى الجو، فتحرك الهواء لأجل
الموازنة فكان عاصفة أغرقت الفلك بمن فيها من الفرنج. ووافق ذلك قول الشيخ تلك
الكلمة فعدَّ الحادث كرامة له؛ لأن الله ألهمه ذلك القول في ذلك الوقت.
يعلم كثيرون من القراء أن البارجة (فيكتوريا) أعظم بوارج الأسطول
الإنكليزي في البحر المتوسط قد غرقت عند دخول الأسطول ميناء طرابُلس الشام
منذ بضع سنين أو أكثر، وقد اتفق عند ذلك أن رجلاً من الظرفاء في طرابلس كان
مع جماعة في منتزه التل من تلك المدينة يتفرج على الأسطول فقال: إذا تصرفت
لكم بهذا الأسطول فأغرقت بعض بوارجه أتشهدون لي بالولاية والكرامة؟ قالوا:
كيف لا وأنت أهل للتصريف؟ ! فقال ما معناه أنه تصرف، ولم يمض ِإلا قليل من
الوقت حتى رأوا كأن الأسطول قد نقص بارجة فشكّوا في ذلك حتى علموه اليقين.
ولو كان ذلك الرجل وسخ الثياب كثير الهذر والدعوى بحيث يعتقد العامة فيه الولاية
والبركة لسارت الركبان بأن غرق البارجة كان كرامة له!
وأما طاعة الحيوانات فالحكايات فيها كثيرة عند جميع الأمم لما يقع من
الحوادث التي يعدها المعتقدون بولاية شخص كرامة له، ولو وقعت بعينها لغيره ممن
لا يرونه أهلاً للكرامة لما عدّوها إلا مصادفة لا تتعدى حدود المعتاد، فإن الحيوانات
لا تعرف لحركاتها في إقبالها وإدبارها وهجومها على الشيء وانصرافها عنه أسباب
مطردة. وقد وقع لكثير من جُوّاب الآفاق أن يصادفوا السباع في بعض الفيافي
مقبلة عليهم، ثم لا تلبث أن تنصرف عنهم بغير سبب يعرف. وعدم العلم بالسبب لا
ينفي وجود السبب فربما تذكّر السبع في الساعة التي انصرف فيها شيئًا حمله على
الانصراف عمن كان يقصده، كأن شم رائحة أو سمع صوتًا من الجهة التي فيها
أشباله فخاف عليها عدوان عادٍ. وقد اتفق لفصيلة من العساكر المصرية في
السودان أن سارت ليلة مقمرة، فاعترضهم الأسد في الطريق، فذعروا وحاروا
لا يدرون ما يصنعون، ولكن الأسد لم يلبث أن زأر وعدا كالسهم، وسمعوا في أثناء
ذلك عواء كثير فعلم بعضهم بما سبق له من الاختبار أَنَّ عرجلة من الضباع هجمت
على لبؤة ذلك الأسد من شدة الخوف، فشعر بذلك الأسد فذهب لنصرتها.
قد علم مما ذكرناه في المسائل أن الحكايات التي يتناقلها الناس لا ثقة بها فمنها
الإفك المبين، ومنها جعل ما هو معتاد ليس خارقًا للعادة، ومنها ما يضاف إلى غير
سببه، ويعلل بغير علته. ولو شئنا لذكرنا من هذا النوع حكايات كهذه الحكايات
أسندها غير المسلمين إلى من يعتقدون لهم الكرامة وعمل العجائب. وإذا جاءنا
السبكي أو غيره بحكاية منقولة بالتواتر لا تحتمل التأويل، فإننا نجزم بأنها خارقة،
وما كان ينبغي لمثله في العلم أن يقول: إن هبوب الريح وإغراقها للمراكب من
خوارق العادات، وما زال الناس في كل زمان يشاهدون مثل ذلك بأعينهم في جميع
البحار والأنهار التي تجري فيها السفن. وكلمة الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى لا
تجعل المعتاد خارقًا للعادة. فإن قال: إن الكرامة لا يشترط أن تكون خارقة للعادة
ومخالفة للسنن الكونية، وإنَّ توفيق الله تعالى بين حوادث الطبيعة ومصلحة المؤمنين
عند دعاء بعض الصالحين أو بشارته يصح أن يسمى كرامة لذلك العبد الصالح - فلا
منازع له في قوله، ولا معارض له في حكمه؛ لأن التسليم بهذا لا يفسد عقول
العامة فيحول دون الاعتقاد بحكمة الله واطراد سننه، ولا يغرهم بالأشخاص فيطلبوا
الشيء بغير سببه ومن غير معدنه، وما نريد بالبحث في الخوارق إلا المدافعة عن هذا
الاعتقاد، والحرص على إزالة هذا الغرور.
* * *
(النوعان التاسع والعاشر: طي الزمان ونشره)
قال السبكي: وفي تقرير هذين القسمين عسر على الأفهام، وتسليمه لأهله
أَوْلَى بِديِن الإيمان، والحكايات فيهما كثيرة:
أقول: يريدون بطي الزمان أن تمضي الأيام الكثيرة على المرء، ولا
يشعر بمرورها، فيمر الشهر عليه كأنه يوم أو بعض يوم. ويعنون بنشر الزمان: أن
تكون الساعة الواحدة كالسنين الطويلة. ومن الحكايات التي استحيا السبكي من
سردها أن بعضهم أحدث وهو في المسجد الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب، فوضع
بعضهم عليه عباءته وقال: اذهب فتوضأ فذهب إلى مكة فتوضأ ثم عاد! والإمام يخطب ومنهم من رأى نفسه في مثل هذه الحالة في بلاد فمكث فيها عدة سنين وتزوج ورُزق بأولاد، ثم عاد فرأى الناس في مجلسهم الذي فارقهم فيه. وهم
يزعمون أن مثل هذا واقع حقيقة لا تخيّلاً، ولذلك قال: إن في تقريره عسرًا ، وأي
الخوارق قرر فكانت قريبة من الفهم، سهلة القبول في نظر العقل؟ ويا ليته قرر
ما عنده، ولم يذكر (دين الإيمان) فيما لم يرد في كتاب ولا سنة، وما أرى
عنده إلا التسليم والتقليد.
ويا ليت شعري ما هي الفائدة للأمة - التي يشترطها السبكي لإظهار الكرامة
- في هذين النوعين. على أن هذا شيء لا يظهر لأنه لا يقع وإنما ادعي ادعاءً بلا
بينة ولا برهان، فيكف جاز لهم ادعاؤه وأمر الكرامة مبني - كما قال - على
الكتمان؟
قالوا وأكثروا فإذا كان العقل والدين يقضيان بأن لا يصدق المرء بكل ما يسمع
وأن عليه أن يتثبَّت في الأخبار التي تسند إلى الحس، ويستشهد فيها الناس فكيف
يسلم العاقل بما هو غريب عن العقل والعادة، ولا حجة على قول مدعيه إلا نفس
دعواه فقوله هو الدليل وهو المدلول. رأى الدجالون أن الناس يسلمون لمدعي
الولاية بالتظاهر بالصلاح كل ما يقول، فطفقوا يدعون كل ما يخطر ببالهم، وقد كان
العلماء يفندون أقوالهم فصاروا في مقدمة الخاضعين لهم المسلِّمين بكل ما يقولون. فإن
كان في أهل الصدق من قال بطي الزمان ونشر الزمان، فلا نظنه يعني به أن ذلك قد
وقع حقيقة في عالم الحس، وإنما يعنون - والله أعلم - ما يكون لهم من الأحوال التي
يغيبون فيها عن الحس ويطيرون في جو الخيال، ويجولون في عالم المثال،
فيكونون أيقاظًا وكأنهم في منام، فأما طي الزمان فغيبة تامة، وأما نشره فرؤى
وأحلام، وقد يسمى القوم التصور تطورًا، والأحوال النفسية عوالم غيبية، وإذا
صح أن الأرواح تتجرد قبل الموت كما يقولون، وتكون في عالم وسط بين عالم
الملك وعالم الملكوت، فمن الحماقة أن يحدث الناس كافة بشيء يفوق إدراكهم،
ويعلو على أفهامهم، وليس فيه من الفائدة إلا أنه فتنة لهم، ولو لم يدخلوه في الدين
لكانت الفتنة أهون، بل لكان فيه فائدة للخواص؛ لأنهم يجتهدون في كشف حقيقة هذا
الأمر، فإن كانت هناك عوالم حقيقية، طريقها الرياضة الروحانية، يسلكون إليها
طريقها، ويدخلون عليها من بابها، ولكنهم الآن يقولون: إنَّ هذا من خوارق
العادات، وإنَّه لا يكون إلا بالخصائص والعنايات، وهذا السبكي أحد علماء الأصول
يقول فوق ذلك: إنَّه يعلو الأفهام، وإنَّ التسليم به أولى في دين الإيمان وشريعة
الإسلام، والعامة من ورائه تستخذي لمدعي هذه الكرامات، وتنظم تعظيمهم في
سلك العبادات، وتطلب منهم ما لا يُطلب إلا من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النرد والشطرنج ونحوهما
(س1) النرد - الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ القراموص: ما هو النرد
وتاريخه ومخترعه وما سبب اختراعه، وما حكم الشرع فيه؟ وما حكمة ذلك؟ وإذا
الشارع حرمه فهل قال أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم بحله إذا خلا عن الرهن؟
وكذا نرجو الإجابة على هذا النحو على الشطرنج والضُّمنة والكُتشينة، وهي أوراق
مزوقة بالصور، وما هي القاعدة الفاصلة بين الحل والحرمة وما حكمتها؟
(ج)
(النرد) : هو ما يسمونه اليوم (الطاولة) ، وهذا يغني عن وصفه
ووصف اللعب به، على أننا رأيناه ولكن لا نعرف كيفية اللعب به، وهو من
وضع الفُرس ويقول صاحب القاموس المحيط وغيره: إن واضعه أردشير بن بابك
أحد ملوكهم قال: ولهذا يقال له النردشير، وأردشير هذا هو مؤسس الدولة الساسانية
في الفرس التي هي الطبقة الرابعة من ملوكهم، وذلك في سنة 226م، وقبل موته
توج ابنه سابور وولاه واختار هو العزلة ومات من سنته وهي 240م، ويظن أنه
اخترع النرد في تلك العزلة للتلهي به، وإن كان مشغولاً بالعبادة في بيوت النيران فإنه
هو الذي أرجع في تلك المدة مذهب زرادشت المجوسي إلى الفرس. وفي شرح
القاموس أن سبب تسمية أردشير هو أن (شير) اسم الأسد، وقد نُقل أن الأسد شمه
وهو طفل ولم يأكله. وقال الماوردي: قيل إنه وضعه على البروج الاثني عشر
والكواكب السبعة؛ لأن بيوته اثنا عشر كالبروج ونقطه من جانبي القصر سبع
كالكواكب السبعة فعدل به إلى تدبير الكواكب والبروج، وقال البيضاوي في شرح
المصابيح: يقال أول من وضعه سابور بن أردشير ثاني ملوك الساسان ولأجله
يقال له النردشير، وشبّه رقعته بالأرض، وقسمها أربعة أقسام تشبيهًا بالفصول الأربعة.
أما حكم الشارع في النرد بخصوصه فالحظر؛ فقد روى أحمد ومسلم وأبو
داود وابن ماجه من حديث أبي موسى مرفوعًا: (من لعب بالنرد فقد عصى الله
ورسوله) ومن حديث بريدة (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير
ودمه) ، وأما الحكمة في ذلك فهي أنه كالأزلام يعول فيه على ترك الأسباب
والاعتماد على الحظ والبخت فهو عبث يخشى ضره ولا يرجى منه نفع. قال
النووي في شرح مسلم عند الكلام على الحديث: وهذا الحديث حجة للشافعي
والجمهور في تحريم اللعب بالنرد. وقال أبو إسحاق المروزي: يكره ولا يحرم.
وقيل: وسبب تحريمه أن وضعه على هيئة الفلك بصورة شمس وقمر وتأثيرات
مختلفة تحدث عند اقترانات أوضاعه ليدل بذلك على أن أقضية الأمور كلها مقدرة
بقضاء الله، ليس للكسب فيها مدخل، ولهذا ينتظر اللاعب ما يُقضى له به.
وقد اختلف فقهاء الشافعية في درجة حظره، فذهب الأكثرون إلى أنه من الكبائر
ترد الشهادة بالمرة الواحدة منه، وقيل: هو من الصغائر، وقال بعضهم
بكراهته لقول الشافعي في المختصر: وأكره اللعب بالنرد للخبر، وردوه بأنه كثيرًا
ما يقول مثل هذا في المحرمات واختلف النقل عن (الأم) . ونقل الموفّق الحنبلي في
مُغنيه الإجماع على تحريم اللعب، وكأن الذين قالوا بالكراهة لم يعتدوا بهذا النقل،
وعندي أن تحقق الإجماع في غير الأمور العملية المتواترة كهيئة الصلاة وعددها
عزيز. ولكن أقل ما في نقل الموفق أنه لم يقل أحد من الأئمة المشهورين بحِلّه.
(الشطرنج) وأما الشطرنج فهو معروف. والمشهور في كتب التاريخ
والأدب أن واضعه أحد حكماء الهند القدماء، ويزعم بعض الإفرنج أن اليونانيين هم
الذين وضعوه في أثناء حرب ترواده الشهيرة. وأما سبب وضعه فقد قالوا فيه: إنَّ
الحكيم صيصه بن داهر الهندي رأى أن ملك زمانه فتى مستعد للخير والعدل في
الرعية، ولكن بطانته قد حببوا إليه اللهو واللعب والترف والمخيلة، وصرفوه
في حظوظهم وأهوائهم، ورأى أن الملوك يثقل عليهم سماع النصح الصريح
فأحسن الحيلة في إيصال النصيحة إلى الملك في صورة اللعب باختراع الشطرنج
الذي مبناه على أن بقاء الملك ببقاء الرعية، وأنه في نفسه ليس بشيء، وهو
بهم كل شيء. ولما اخترعه وعلم به الملك استقدمه ليعلّمه اللعب به فكان يلاعبه
ويشرح له في ضروب اللعب ما يمثل له حالته، وما يتوقع من أخطارها، ففهم
النصيحة، وعمل بها فحسنت الحال.
ويقال: إنه أراد أن يكافئه فقال له تمنَّ عليَّ واقترح، فاقترح أن يوضع في بيت من بيوت الشطرنج حبة قمح واحدة، وتضاعف في البيت الذي بعده،
ثم تستمر المضاعفة بأن يضاعف في كل بيت ما قبله إلى آخر البيوت وعددها
64 ويعطى مجموع ذلك، فاحتقر الملك هذا المطلب ثم علم أن خزائنه لا تفي به.
وقد عنى بعضهم بضبط العدد الحاصل من هذه المضاعفة، قال ابن السمان الدمشقي:
إنَّ جملته ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف - ست مرات - وأربع
مائة وسبعة وأربعون ألف ألف ألف ألف ألف - خمس مرات - وسبع مائة وأربعون
ألف ألف ألف ألف - أربع مرات - وثلاثة وسبعون ألف ألف ألف - ثلاث مرات -
وسبع مائة وتسعون ألف ألف - مرتين - وخمس مائة وواحد وخمسون ألف وست
مائة وخمس عشرة.
وقدر بعضهم أن هذا العدد يملأ 16384 مدينة في كل مدينة 1024 بيتًا في
كل بيت 17476 مكيالاً من القمح، كل 32768 حبة.
أما حكمه فقد اختلف فيه الفقهاء والأكثرون على أنه غير محرم ، أباحه قوم
بشرط أن لا يدخل في القمار، وأن لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبديهي أن
الإكثار من اللعب به وبغيره يُسقط المروءة، ولا يرضاه العاقل لنفسه، فهو مكروه
كراهة شديدة. وقد رووا في تحريمه أحاديث لا يصح منها شيء بل هي إلى
الوضع أقرب منها إلى الضعف، ومنها حديث: ملعون من لعب بالشطرنج، رواه
الديلمي عن أنس، ورواه غيره بزيادة: والناظر إليها كآكل لحم الخنزير، وروى من
حديث واثلة: أن الله تعالى ينظر في كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة لا ينظر
فيها إلى صاحب الشاه: يعني الشطرنج. ورواه الخرائطي بلفظ آخر، وروى
البيهقي وابن عساكر عن عمار بن أبي عمار أن عليًّا عليه السلام مر بقوم يلعبون
بالشطرنج فوثب عليهم فقال: (أما والله لغير هذا خُلقتم ولولا أن تكون سنة
لضربت بها وجوهكم) ، وروى الثاني عنه أنه قال: لا تسلم على أهل النردشير
والشطرنج ، وروايته ضعيفة. وقد روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد - كلاهما
من شيوخ البخاري - وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي عن علي كرم الله وجهه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفئه خير له من أن
يمسها) وفي (الزواجر) أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن الشطرنج
فقال: (هي شر من الميسر) وقال الإمام مالك: هي كالنرد. وروي عن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه ولي مالاً ليتيم فوجدها في تركة والد اليتيم فأحرقها، ولو
كان اللعب بها حلالاً لما جاز إحراقها. وقال النووي في فتاويه: الشطرنج حرام
عند أكثر العلماء وكذا عندنا إن فوت به صلاة عن وقتها أو لعب به على عوض
فإن انتفى ذلك كره عند الشافعي وحرم عند غيره، قال ابن حجر في الزواجر: فإن
قلت: ما الفرق عندنا بين النرد والشطرنج؟ قلت: فرق أئمتنا بأن التعويل في النرد
على ما يخرجه الكعبان فهو كالأزلام، وفي الشطرنج على الفكر والتأمل، وأنه ينفع
في تدبير الحرب. وقد أحببت أن أختم الكلام في النرد والشطرنج بما جاء في كتاب
(الصادح والباغم) فيهما؛ لما فيه من الفكاهة والحكمة. قال - في سياق
حكاية -:
ثم بدا لي فرأيت رجلاً
…
شيخًا يناجي صاحبًا مكتهلا
قد أكثرا الخصام والجدالا
…
وأعلنا الشجار والمقالا
وافتخرا وكثرة المفاخره
…
تدعو إلى العناد والمشاجره
فكان قول الشيخ قومي الهند
…
الحكماء العلماء اللّد
لهم علوم وحلوم وفطن
…
وحكمة بالغة إذ تمتحن
لو لم يكن من فضلهم إذ يختبر
…
فضل الرجال منصف ويعتبر
إلا الذي أبدوه في الشطرنج
…
للناس من علم سديد النهج
جد عظيم لقبوه هزلا
…
يصير الرأي الأفين جزلا
فيه إشارات إلى مواعظ
…
نافعة لكل واعٍ حافظ
قد رسموها للهدى مثالا
…
إن الحكيم يضرب الأمثالا
يعنون أن العيش في التدبير
…
وليس بالقسمة والتقدير
والمرء للأفعال مستطيع
…
محكم يحفظ أو يضيع
وذلك العدل بلا خلاف
…
لو وفق الرجال للإنصاف
قال له الكهل وقومي الفرس
…
الحكماء ما بذاك لبس
لهم سياساتٌ وتدبيرٌ حسنْ
…
كالشرع عدلاً في الفروض والسننْ
وملكهم معتضد بالحكمه
…
كأنهم قد أُيدوا بالعصمه
لا نعبد الأصنام والأوثانا
…
ولا نرى الظلم ولا العدوانا
والعيش بالرزق وبالتقدير
…
وليس بالرأي ولا التدبير
وقد وضعنا النرد للمثال
…
لو فطنت بصائر الرجال
وما قصدنا بالفصوص اللعبا
…
حاشا لنا لكن قصدنا الأدبا
وإنما سمي لعبًا حيله
…
تخفى به ما فيه من فضيله
وإنما يعشقه الرجال
…
لأنه لعب كما يقال
ولو دروا أن المراد الأدبُ
…
بوضعه وصنعه ما لعبوا
فالحق قد تَعْلَمَهُ ثقيلُ
…
يأْباه إلا نفرٌ قليلُ
وإنما أخفيت المصالح
…
وموّه القول الشفيق الناصح
ودلست بظاهر اللذات
…
كم راحة تكمن في أذاة
كمثلما ركبت الألحان
…
ووضعت للحكمة العيدان
يظنها الجاهل لهوًا ولعب
…
ولو درى بوضعها ماذا طلب
من راحة الروح وبسط النفس
…
وهزها لطبعها بالأُنس
لم يستمع قط الغناء ونفر
…
عنه لأن الحق ما فيه وطر
قال له الهندي هذه حجتي
…
سلكت فيما جئته محجتي
شطرنجنا لمثل هذا وُضعا
…
أول فن في العلوم اختُرعا
وفضله بادٍ بغير مَيْن
…
ما أوضح الصبح لذي عينين
وإن برهاني فيه ظاهر
…
والحق لا يدفعه المكابر
أما الضمنة فهي لعبة حديثة فيما أظن، وأما الكتشينة فهي نوع من اللعب
بالورق الذي سماه الفقهاء (الكتحفة) ، وكلاهما يعلم من القاعدة التي نذكرها لتكون
فصل الخطاب وهي:
قاعدة في حكم الملاهي
إن العلة في تحريم كل حرام هي المضرة في الدين أو النفس أو العقل أو
العِرْض أو المال، فما لا ضرر فيه لا يحرم، وما ورد في النرد فسببه الأول أنه
شبيه بالأزلام التي كانوا يلقونها في الجاهلية لمعرفة الخير والشر؛ فإن المعوَّل في
النرد على البخت الذي يخرجه الكعبان (يأخذ كل لاعب كعبين يسمونها الآن
الزهر) ، كما أن المعول في الأزلام على البخت الذي تخرجه القداح، وقد حرم
الاستسقام بالأزلام لما فيها من التغرير بالعقل، وبناء الأمور على الوهم، وإهمال
الفكر والنظر، ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النرد لما فيه من معنى
الأزلام ومن التذكير بها، وأحب لكل مسلم أن يجتبنه وإن انتفت العلة عنده بأن كان
لا يعتقد بالبخت، ولا يبني حكمًا إلا على سبب صحيح، احترامًا للنهي الصريح.
وأما الشطرنج فقد قالوا: إنه لم يكن معروفًا على عهد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وذلك من دلائل وضع ما ورد فيه مرفوعًا، وأما الآثار فمنها القوي، ومنها
الضعيف، فمَن لم يحتج بها فليحكم قاعدة دفع الضرر في كل لعب، وقد قال بعض
أئمة الشافعية: إن اللعب الذي فيه حساب وفكر يباح، وما لا حساب فيه ولا فكر فهو
مكروه، أي: إن لم يضر، وإلا فهو حرام، أقول: ومن اللعب ما يفيد رياضة البدن
وتحريك الدم فيه، وينبغي أن يكون محمودًا محبوبًا، لا مذمومًا ولا مكروهًا، وأي
حرج - ليت شعري - على مَن أنهك بدنه أو عقله التعب من شغله، فحاول ترويح
نفسه، أو ترويض جسمه ببعض الألعاب التي تنفعه ولا تضر غيره، ولا تخل
بمروءته.
أقول: إن ترك مثل هذه الرياضات يضر أحيانًا، فإذا ظن ضرر تركها كان
الترك مكروهًا، وإذا تحقق الضرر كان الترك حرامًا، وإذا لم يكن في الفعل ولا
في الترك ضرر فالفعل مباح، ما لم يخل بالمروءة، كانكباب أهل الهيئات ورجال
العلم والأحكام على اللعب في بيوت اللهو (القهاوي) ، فإن ذلك مكروه شرعًا
وعقلاً بلا نزاع، والله أعلم وأحكم، وإليه المرجع والمصير.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فتاوى المنار
علم الهيئة والقرآن
(س2) ومنه: كيف ينطبق علم الهيئة الجديد من أن هناك عوالم شمسية
لا يحصي عددَها سوى خالقها غير عالمنا الشمسي، وأنها ممتلئة بالمخلوقات على
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} (الجاثية: 13) وأن نبينا صلى الله عليه وسلم مرسل لكافة الخلق، وأنه سيد
الوجود على الإطلاق؟
(ج) السموات هي الأجرام السامية فوقنا، وهي كثيرة جدًّا فمنها سبعة كواكب
تابعة لشمسنا وهي نبتون وأورانوس وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد
وهذه الكواكب سيارة، ولها أقمار تتبعها كقمر الأرض، ومنها شموس لها عوالم تابعة
لها لا نعرف حقيقة أمرها، ولكننا نعرف أن جميع هذه السموات التي فوقنا مسخرة
بقدرة الله تعالى لنا ننتفع بنورها الذي هو من أسباب الحياة في الأرض، ونهتدي بها
في ظلمات البر والبحر كما قال في آية أخرى مبينة للإجمال في الآية الواردة
في السؤال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ} (الأنعام: 97) ويصح أن يكون من وجوه التسخير وضروب الانتفاع ارتباط
بعضها ببعض بالسنة الإلهية التي يعبرون عنها بالجاذبية العامة؛ إذ لولا بقاء هذه
الجاذبية لاصطدم بعض هذه الأجرام ببعض، وخرب العالم كله كما أنه لولا النور
المنبعث منها لما عاش حيوان ولا نبات في الأرض. فهي مسخرة لنا بهذه
الاعتبارات.
وأما بعثة نبينا لجميع المخلوقات في جميع العوالم فلا دليل عليها في عقل ولا
نقل، أما العقل فلا معنى عنده لكونه مرسلاً لقوم يسكنون في كوكب آخر، وهو في
كوكب الأرض وهو الوجه في السؤال، وأما النقل فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ
كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) أما ذكر العالمين في قوله تعالى: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ؛ فيراد به من أرسل إليهم للجمع بين
الآيتين ولما عهد في تفسير مثل هذا التعبير، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ
وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) وأما كونه سيد
الوجود فهذا اللقب لم يرد في كتاب ولا سنة، وإنما ورد في كلام بعض المتأخرين،
ولكن ورد في الحديث الصحيح: (أنا سيد ولد آدم) قال الشيخ محيي الدين بن
عربي: إنَّه لولا هذا الحديث لما فضلناه على غيره من الأنبياء. فإن هذا التفاضل لا
يُعرف إلا بالنص الصريح عن المعصوم؛ لأنه لا ذوق لنا في مقامات الأنبياء، وهو
يرد ما قاله بعض المتكلمين من تفضيل خمسة على الجميع، وجعْل الفضيلة بين
الخمسة على ترتيب الذكر في هذا البيت:
محمد إبراهيم موسى كليمه
…
فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلمِ
ويعد هذا مجازفة وتحكمًا. وقد سبق لنا الاستدلال في (المنار) على تفضيله
عليه السلام بأدلة معقولة، والحق الذي لا مرية فيه أن سيد الوجود على الإطلاق هو
الله تعالى وحده، ومن غرور الإنسان أن يفضل جنسه على جميع خلق الله على جهله
بهم، والله تعالى يقول في بني آدم:] وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاًَ [
الإسراء: 70) وأن هذه الأرض التي يسكنها الإنسان إذا نُسبت إلى ملك الله
الواسع كانت كذرة من جبل أو نقطة من بحر؛ بل كانت أقل من ذلك {وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ} (المدثر: 31) .
والله أعلم وأحكم. والسكوت عما لا يعلم المرء أسلم.
***
السعدية والرفاعية
(س3) الشيخ قاسم محمد غدير بأسيوط: ما قولكم دام فضلكم فيما تفعله
طائفتا السعدية والرفاعية من ضرب بعضهم بعضًا بالسيوف، والاتكاء عليها من غير
أن يصيبهم ضرر، هل هذا كرامة لشيخهم أم لا، وإن كان الثاني فما وجه عدم
الضرر؟
(ج) إن هذه إلا ضُرُوب من اللعب يتمرنون عليها، ويوجد في أوربا من
الولدان والبنات الحسان من يفوقهم في ذلك، والذكي الفطن لا يخفى عليه من أمرهم
شيء إذا هو تأمل. رأيت بعيني رجلين رفاعيين قابضين على سيف من طرفيه،
فجاء ثالث فوضع بطنه على السيف مكشوفًا يوهم الناس أن ثقله كله على السيف،
وهو في الواقع معتمد بيديه على الرجلين بحيث يتمكن من إلقاء الثقل على السيف بقدر
الحاجة، ولو كان هذا اللعب من الكرامات لكان كرامة لفاعليه لا لشيوخهم و (تلك
العصا من هذه العُصَيَّة) .
***
دخول الفرن
(س4) ومنه: قرأت في (المؤيد) المؤرخ في 26 ربيع الأول لمكاتبه
الإسكندري أنه علم أن شخصًا من ذرية سيدي عبد السلام الأسمر بالغرب جاع
بمريوط، واستُطعم فلم يُطعَم، فدخل فرنًا هناك فيه لحم يشوَى فأكله فما هذا؟
(ج) سترون الجواب في مقالات الكرامات والخوارق، واعلموا أن رواة
الجرائد ليس فيهم شروط العدالة التي يعتبرها المحدثون في الرواة الذين تفيد
روايتهم الظن، فكيف نعتمد عليها فيما يُطلب في اليقين كالذي نحن فيه؟ !
***
قراءة الفاتحة
(س5) ومنه: ما حكم قراءة الفاتحة في الاتفاق على أمر، أهي بمنزلة
اليمين أم لا، وما جزاء مَن لم يعمل بما قُرئت الفاتحة لأجله؟
(ج) جرت عادة الناس في هذه البلاد، وفي بلاد غيرها بأن يقرأ المتعاقدان
على شيء الفاتحة بعد إبرام الاتفاق، يجعلونها علامة على إبرام العقد والوفاق تفاؤلاً
بأن يكون ما اتفقا عليه خيرًا، ويتم بخير، وليس لقراءة الفاتحة حكم خاص في هذا
المقام، ولا أعرف له أصلاً في الدين، ولكن التعاقد على شيء يجب الوفاء به إن لم
يمنع من ذلك مانع شرعي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) .
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
نموذج من دلائل الإعجاز
(تابع لما في الجزء الماضي من الموازنة)
مع قول البُحتري:
لقد كان ذاك الجاش جاش مسالم
…
على أن ذاك الزي زي محارب
وقول أبي تَمَّام:
الصبح مشهور بغير دلائل
…
من غيره ابتغيت ولا أعلام
مع قول المتنبي:
وليس يصح في الأفهام شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وقول أبي تمام:
وفي شرف الحديث دليل صدق
…
لمختبر على شرف القديم
مع قول المتنبي:
أفعاله نسب لو لم يقل معها
…
جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
وقول البحتري:
وأحب آفاق البلاد إلى فتى
…
أرض ينال بها كريم المطلب
مع قول المتنبي:
وكل امرئ يولي الجميل محبب
…
وكل مكان ينبت العز طيب
وقول المتنبي:
يقر له بالفضل من لا يوده
…
ويقضي له بالسعد من لا ينجِّم
مع قول البحتري:
لا أدعي لأبي العلاء فضيلة
…
حتى يسلمها إليه عداه
وقول خالد الكاتب:
رقدت ولم ترثِ للساهر
…
وليل المحب بلا آخر
مع قول بشار:
لخديك من كفيك في كل ليلة
…
إلى أن ترى ضوء الصباح وساد
تبيت تراعي الليل ترجو نفاده
…
وليس لليل العاشقين نفاد
وقول أبي تمام:
ثوى بالمشرقين لهم ضجاج
…
أطار قلوب أهل المغربين [1]
وقول البحتري:
تناذر أهل الشرق منه وقائعًا
…
أطاع لها العاصون في بلد الغرب [2]
مع قول مسلم:
لما نزلت على أدنى ديارهم
…
ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد
وقول محمد بن بشير:
أُفرغْ لحاجتنا ما دمت مشغولاً
…
فلو فرغت لكنت الدهر مبذولا
مع قول أبي علي البصير:
فقل لسعيد أسعد الله جده
…
لقد رث حتى كاد ينصرم الحبل
فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما
…
تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
وقول البحتري:
من غادة منعت وتمنع وصلها
…
فلو انَّها بُذلت لنا لم تبذل
مع قول ابن الرومي:
ومن البلية أنني
…
عُلقت ممنوعًا منوعا
وقول أبي تمام:
لئن كان ذنبي أن أحسن مطلبي
…
أساء ففي سوء القضاء لي العذر
مع قول البحتري:
إذا محاسني اللاتي أُدل بها
…
كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
وقول أبي تمام:
* قد يُقدم العَيرُ من ذعرٍ على الأسد *
مع قول البحتري:
فجاء مجيء العير قادته حيرة
…
إلى أهرت الشدقين تدمَى أظافره [3]
وقول معن بن أوس:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد
…
إليه بوجه آخر الدهر تقبل
مع قول العباس بن الأحنف:
نقل الجبال الرواسي من أماكنها
…
أخف من رد قلب حين ينصرف [4]
وقول أمية بن أبي الصلت:
عطاؤك زين لامرئ إن أصبته
…
بخير وما كل العطاء يزين
مع قول أبي تمام:
تُدعى عطاياه وفرًا وهي إن شهرت
…
كانت فخارًا لمن يعفوه مؤتنفا [5]
ما زلت منتظرًا أعجوبة عننًا
…
حتى رأيت سؤالاً يجتني شرفا [6]
وقول جرير:
بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا
…
بأسهم أعداء وهن صديق
مع قول أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
…
له عن عدو في ثياب صديق
وقول كُثير:
إذا ما أودت خلة أن تزيلنا
…
أبينا وقلنا الحاجبية أول [7]
مع قول أبي تمام:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأول
وقول المتنبي:
وعند مَن اليوم الوفاء لصاحب
…
شبيب وأوفى من ترى أخوان [8]
مع قول أبي تمام:
فلا تحسبا هندًا لها الغدر وحدها
…
سجية نفس كل غانية هند
وقول البحتري:
ولم أَرَ في رنْق الصَّرَى لي موردًا
…
فحاولت ورد النيل عند احتفاله [9]
مع قول المتنبي:
ق0واصد كافور توارك غيره
…
ومن قصد البحر استقل السواقيا
وقول المتنبي:
كأنما يولد الندى معهم
…
لا صغر عاذر ولا هرم
مع قول البحتري:
عريقون في الإفضال يؤتنف الندى
…
لناشئهم من حيث يؤتنف العمر
وقول البحتري:
فلا تغلين بالسيف كل غلائه
…
ليمضي فإن الكف لا السيف تقطع
مع قول المتنبي:
إذا الهند سوت بين سيفي كريهة
…
فسيفك في كف تزيل التساويا
وقول البحتري:
سامَوْك من حسد فأفضل منهم
…
غير الجواد وجاد غير المفضل
فبذلت فينا ما بذلت سماحة
…
وتكرمًا وبذلت ما لم تبذل [10]
مع قول أبي تمام:
أرى الناس منهاج الندى بعد ما عفت
…
مهايعه المثلى ومحّت لواحبه [11]
ففي كل نجد في البلاد وغائر
…
مواهب ليست منه وهي مواهبه
وقول المتنبي:
بيضاء تطمع فيما تحت حلتها
…
وعز ذلك مطلوبًا إذا طلبا
مع قول البحتري:
تبدو بعطفة مطمع حتى إذا
…
شغل الخلي ثنت بصدفة مؤيس [12]
وقول المتنبي:
إذكار مثلك ترك إذكاري له
…
إذ لا تريد لما أريد مترجما
مع قول أبي تمام:
وإذا المجد كان عوني على المر
…
ء تقاضيته بترك التقاضي
وقول أبي تمام:
فنعمت من شمس إذا حجبت بدت
…
من خدرها فكأنها لم تحجب
مع قول قيس بن الخطيم:
قضى لها الله حين صورها م الخالق أَلَّا تكنها سدف
وقول المتنبي:
راميات بأسهم ريشها الهُد
…
ب تشق القلوب قبل الجلود
مع قول كثير:
رمتني بسهم ريشه الكحل لم يجز
…
ظواهر جلدي وهو في القلب جارح [13]
وقول بعض شعراء الجاهلية ويُعزى إلى لبيد:
ودعوت ربي بالسلامة جاهدًا
…
ليُصِحَّنِي فإذا السلامة داء
مع قول أبي العتاهية:
أسرع في نقص امرئ تمامه
…
تدبر في إقبالها أيامه
وقوله:
أقلل زيارتك الحبيـ
…
ـب تكون كالثوب استجده
إن الصديق يمله
…
أن لا يزال يراك عنده
مع قول أبي تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب تتجدد
وقول الخريمي:
زاد معروفك عندي عِظَمًا
…
أنه عندك محقور صغير
تتناساه كأن لم تأته
…
وهو عند الناس مشهور كبير
مع قول المتنبي:
تظن من فقدك اعتدادهم
…
أنهم أنعموا وما علموا
وقول البحتري:
ألم تر للنوائب كيف تسمو
…
إلى أهل النوافل والفضول
مع قول المتنبي:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
…
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
وقول المتنبي:
تذلل لها واخضع على القرب والنوى
…
فما عاشق من لا يذل ويخضع
مع قول بعض المحدثين:
كن إذا أحببت عبدًا
…
للذي تهوى مطيعا
لن تنال الوصل حتى
…
تلزم النفس الخضوعا
وقول مضرس بن ربعي:
لعمرك إني بالخليل الذي له
…
عليَّ دلال واجب لمفجَّع
وإني بالمولى الذي ليس نافعي
…
ولا ضائري فقدانه لممتَّع
مع قول المتنبي:
أما تغلط الأيام فيَّ بأن أرى
…
بغيضًا تُنائي أو حبيبًا تقرب
وقول المتنبي:
مظلومة القد في تشبيهه غصنًا
…
مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
مع قوله:
إذا نحن شبهناك بالبدر طالعًا
…
بخسناك حظًّا أنت أبهى وأجمل
ونظلم إن قسناك بالليث في الوغى
…
لأنك أحمى للحريم وأبسل
***
ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويرًا وأستاذية على الجملة فمن ذلك، وهو من النادر قول لبيد:
وأكذب النفس إذا حدثتها
…
إن صدق النفس يزري بالأمل
مع قول نافع بن لقيط:
وإذا صدقت النفس لم تترك لها
…
أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوب
وقول رجل من الخوارج أُتي به الحَجّاج في جماعة من أصحاب قَطَرِيٍّ فقتلهم
ومنَّ عليه ليد كانت عنده، وعاد إلى قَطَرِيٍّ فقال له قَطَرِيٍّ: عاود قتال عدو الله
الحجاج، فأبى، وقال:
أأقاتل الحجاج عن سلطانه
…
بِيَدٍ تقر بأنها مولاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه
…
في الصف واحتجت له فعلاته
وتحدث الأقوام أن صنائعًا
…
غرست لديَّ فحنظلت نخلاته [14]
مع قول أبي تمام:
أسربل هجر القول من لو هجوته
…
إذن لهجاني عنه معروفه عندي [15]
وقول النابغة:
إذا ما غدا بالجيش حلَّق فوقه
…
عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقنَّ أن قبيله
…
إذا ما التقى الصفان أول غالب [16]
مع قول أبي نواس:
وإذا مَجَّ القنا علَقًا
…
وتراءى الموت في صُوَره
…
راح في ثنيي مفاضته
…
أسد يدمى شبا ظُفره [17]
…
يتأيَّي الطير غدوته
…
ثقة بالشبع من جَزره [18]
المقصود البيت الأخير.
(له بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الضَّجَّاج بالفتح وبالضم كالضجيج وهو صياح الفزع مما يخاف منه.
(2)
تناذر الناس أنذر بعضهم بعضًا وخوفه الشيء.
(3)
أهرت الشدقين واسعهما.
(4)
في رواية: نفس بدل قلب وتنصرف بدل ينصرف.
(5)
أي لمن يسأله مبتدئًا والأحسن جعل مؤتنفًا اسم مفعول صفة للفخار كتبه الأستاذ الإمام.
(6)
عننًا أي معترضة تأتي بلا سبب.
(7)
يريد بالحاجبة عزة.
(8)
يريدان شبيبًا وأوفى الورى أخوان في الغدر إذ لا وفاء عند أحد و" من " استفهامية.
(9)
الصرى: اسم نهر.
(10)
أراد أنهم من الحسد أخذوا يسامونه في العطاء فبذلوا ولا جود عندهم فكان بذله بذلين بذل السماحة الصادر منه مباشرة وبذل هؤلاء البخلاء الذي صدر عنهم بسببه كتبه الأستاذ الإمام.
(11)
محت لواحبه بمعنى عفت مهايعه أي بليت طرقه الواضحة وواحد اللواحب: لاحب.
(12)
الصدفة المرة من الصدف وهو الإعراض عن الشيء.
(13)
وفي نسخة: يصب بدل يجز.
(14)
يقال حنظلت الشجرة أي صار ثمرها مرًّا كالحنظل.
(15)
الكلام استفهام إنكاري حذفت من (أسربل) همزة الاستفهام.
(16)
الرواية: الجمعان بدل (الصفان) .
(17)
المفاضة: الدرع الواسعة.
(18)
يتأيى: يتحرى ويترقب والضمير في جزره للطير وجزر الطير وجزر السباع هو اللحم الذي تأكله.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات الحديثة
(كيمياء السعادة)
رسالة في علم النفس والأخلاق أو التصوف لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي
طُبعت في مطبعة المنار عن نسخة خطية قديمة، وصححها بالمقابلة على نسخة
خطية أخرى بدار الكتب المصرية ملتزم طبعها الشيخ إبراهيم إسماعيل خاطر، أحد
المجاورين في الأزهر، وجعل ثمن النسخة الواحدة من الورق الجيد قرشًا صحيحًا
ومن ورق متوسط نصف قرش، وكفى بعزوها إلى حجة الإسلام ترغيبًا فيها، وهي
تُطلب من ملتزم طبعها، ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وأجرة البريد مليمان.
***
(كتاب اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع)
ألف الحفّاظ والمحدثون كتبًا كثيرة في الأحاديث الموضوعة التي عزيت إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذبًا عمدًا أو جهلاً محضًا حتى إن المقلد لكل متقدم
ليظن أنهم لم يدعوا لمتأخر مقالاً، ولم يتركوا له في التأليف مجالاً، ولكن من يتوجه
إلى الإفادة بإخلاص قلب يفتح الله عليه ما يفيد به. فهذه الكتب المؤلفة في
الموضوعات لا تكاد تجد لها قارئًا واحدًا في الألف من طلاب العلم. ونظن أن
كتاب (اللؤلؤ المرصوع) الذي طبع في هذه الأيام سيكون حظه عند أهل هذا
الزمن أكبر من حظ تلك الكتب؛ لأن مؤلفه هدى بإخلاصه فجمع فيه كثيرًا من
الأحاديث الموضوعة التي تدور على ألسنة الناس وفي بعض الكتب ورتبها على
حروف المعجم فكانت كتابًا تزيد صفحاته عن المائة.
مؤلف الكتاب الشيخ محمد أبو المحاسن القاوقجي الطرابلسي أحد شيوخنا في
الحديث. وكفى بذكر القاوقجي تعريفًا فإنه قد اشتهر بصلاحه في هذه البلاد وغيرها
ومريدوه يعدون بالألوف رحمه الله تعالى رحمة واسعة. وقد طبع الكتاب على نفقة
الحاج عبد الله العطار من مريدي المؤلف، وصححه الشيخ محمد كمال الدين
القاوقجي الأزهري نجل المؤلف، وطبعت في آخره رسالة الحافظ الصغاني في
الموضوعات. فنحث جميع القراء على مطالعته كيلا يغتروا بما اشتهر من تلك
الأحاديث المكذوبة.
***
(ديوان الكاشف)
أحمد أفندي الكاشف شاعر قوي السليقة بعيد من الصنعة مشهور بما نُشر له
من القصائد في الجرائد، وقد جمع شعره من سنة 1315 إلى سنة 1320 وطبعه
في ديوان سمّاه (ديوان الكاشف) وصدَّره بمقدمة في ترجمة نفسه بلغت 30
صفحة، وبلغ الديوان بها 160 صفحة. وقد سلك في الترجمة مسلك الحرية فذكر ما
يمدح وما يذم وباح بأسرار الخواطر والهواجس. ويعلم منها أنه كان موكولاً إلى
نفسه، مسترشدًا بوجدانه وحسه، يُبتلى فيستسلم لدواعي الأحزان، ويتحمس فيسلك
مسالك الشجعان، ويعشق فيسترسل في طاعة الغرام، ولم يصبر على مرارة
التعليم، ولم يسلس قياده لنظار المدارس، فاكتفى ببعض المبادئ ورضي من ثمرة
العلم والأدب بالشعر يوحيه الذوق وتنظمه السليقة. وهو دموي المزاج حادُّه محب
للفخر والعلو ويرى أن الشعر كافٍ في رقي صاحبه إلى ذرى المعالي، وحسبانه في
عداد النابغين، كتب ما كتب في مقدمته وشعر بأنه جاء فيها ما يعتذر منه فقال في
آخرها: إن له ثلاثة أعذار: المرض وضيق الوقت وفقد النصير. افتتح الديوان
بعد المقدمة بتقديمه إلى الله تعالى فقال:
رب هذا شعري وهذا بياني
…
شهدا لي بصحة الإيمانِ
لي داعٍ من فطرتي قبل أن أَتْـ
…
ـلُوَ كتابًا إلى اليقين هداني
من يكن قام بالعقائد تقليـ
…
ـدًا فإني استقمت بالبرهانِ
مسلمًا عشت لا لإسلام أمي
…
وأبي والأمير والسلطانِ
أنا لو كنت ناشئًا ومقيمًا
…
بين قوم من عابدي الأوثانِ
لم أجد غير دين أحمد أولى
…
باتباعٍ من سائر الأديانِ
ثم قدمه إلى النبي بأبيات لا تشعر بالتقديم، ثم إلى أمير المؤمنين، ثم إلى مصر
ثم إلى قومه، ثم إلى الشعراء. وجعل الديوان أبوابًا في مدح السلطان ومدح أمير
مصر ومدح العظماء والإخوان. وفي السياسة والتاريخ ومن هذا الباب قصيدة في
فتح السودان، وقصيدة في ذكر الثورة العرابية. وفي التربية والتعليم والأخلاق
والآداب والحكم والفكاهات وفي الوطنية وفي الشكوى والعتاب، وفي الخصوصيات
والأغراض، وفي حوادث الغرام، وفي المراثي والتعازي، وثمن النسخة من الديوان
عشرة قروش في بلاد مصر و15 قرشًا في غيرها من البلاد، فعسى أن يلقى هذا
الديوان من إقبال القراء ما تقر به عين الناظم.
***
(فتح الأندلس)
قصة تاريخية غرامية هي الحلقة السابعة من سلسلة (روايات تاريخ الإسلام)
تتضمن تاريخ أسبانيا قبيل الفتح، ووصف أحوالها الإدارية والسياسية والدينية
وعلاقة بعضها ببعض، وبسط عادات القوط والرومان هناك، والفرق بين طبقات
الناس، وقدوم طارق بن زياد لفتحها، والسبب الذي دعاه إلى ذلك - إلى مقتل
رودريك ملك القوط في واقعة وادي ليتة سنة 93هـ (هذا ما لخص به الرواية
مؤلفها جُرجي أفندي زيدان، وهي كما قال، رغب إلينا المؤلف في قراءة القصة
قبل تقريظها حبًّا في النقد الذي لا يحبه إلا الواثق بحسن عمله، الراغب في تكميله
فقرأناها بلذة عظيمة، وشهدنا له بحسن تصنيف القصص، فإن القارئ لا ينتهي من
فصل من فصولها إلا بشوق يلح به، ويحفزه إلى قراءة ما بعده حتى ينتهي بالفصل
الأخير.
وننتقد عليه أن المقصود من القصة بيان تاريخ الإسلام كسوابقها، وليس فيها
منه إلا ذكر الفتح بغاية الإيجاز. وانتقد غيرنا من نبهاء المسلمين على هذه القصص
أنها تصوِّر للقارئ أن انتصار المسلمين في الفتوحات لم يكن إلا بسبب ما كان ألمَّ
بالأمم التي فتحوا بلادها كالرومانيين والفرس والمصريين والبربر والقوط من فساد
الأخلاق واختلاف المذاهب الدينية، وتفرق الكلمة. ويرى هؤلاء المنتقدون أن هذا
غمْط لحقوق المسلمين وعدم اعتراف بشجاعتهم وعناية الله تعالى بهم حمل المؤلف
عليهما التعصب الديني. ونحن ننكر عليهم هذا الرأي كتابة كما أنكرناه قولاً، فإن ما
ذكره من فساد دين الأمم وأخلاقها وتفريق كلمتها هو السبب الأول في قهر أولئك
الشراذم من المسلمين لتلك الأمم القوية العظيمة السلطان بل لولا ذلك الفساد العام لما
أرسل الله تعالى ذلك المصلح العام كافة للناس بشيرًا ونذيرًا صلى الله عليه وسلم
وأيده بعنايته فجمع له كلمة الأمة العربية التي لا يعرف لها التاريخ اجتماعًا، فأدبها
وأدب بها - على بداوتها - أمم العلوم والمدنية، على أن المؤلف نوه بشجاعة
العرب وفضلهم وعدلهم، ولم ينقصهم منه شيئًا.
أما عبارة القصة فقد كنت أتوقع أن تكون خيرًا مما سبقها فإذا هي كغيرها في
السلاسة، ولكن فيها كلمات وعبارات عامية لم أَرَ مثلها في كتابة قبلها للرصيف
فجزمت بأنه متعمد ليسهل فهم كتابته على العوام، وعندي أن سلاسة عبارته كافية
في الوصول إلى هذا المرام، وصحة العبارة لا تحول بين المعنى والأفهام.
***
(فتاة غسان)
قصة تاريخية غرامية أخرى لجرجي أفندي زيدان أيضًا كتب على ظهرها
بعد ذكر اسمها (تشرح حال الإسلام من أول ظهوره إلى فتوح العراق والشام مع
بسط عوائد العرب في آخر جاهليتهم وأول إسلامهم ووصف أخلاقهم وأزيائهم
وسائر أحوالهم) أهدانا المؤلف نسخة من الجزء الأول منها طبع ثانية قبل إهداء
(فتح الأندلس) ، فلم ننظر فيه؛ لأن وقتنا قصير، وعملنا كثير فلما طالعنا هذه
إجابة لطلب المودة ساقتنا اللذة إلى مطالعة الأخرى، فكانت اللذة فيها لا تقل عن اللذة
في أختها، وعبارتها أسلم من عبارتها، وفائدتها في التاريخ الإسلامي أكبر من
فائدتها، وإن كانت لم تشرح حال الإسلام كما قال شرحًا، ولم تبسط عوائد
العرب وأخلاقهم وسائر أحوالهم بسطًا، فإنه ذكر جملة صالحة من ذلك كان يجهلها
السواد الأعظم من القراء لأن أكثرهم من العوام وإن تعلم الكثيرون منهم في
المدارس الابتدائية فإن مدارس مصر لا حظ لها من تاريخ الإسلام. ولذلك كنت
أناظر جماعة من أهل العلم يدعون أن قراءة هذه القصص ضارة وأدعي أنا أنها نافعة.
يحتج هؤلاء بأن في هذه القصص أغلاطًا تاريخية حتى في الأمور المشهورة
ومثل هذا لا يسلم منه كتاب، منها قوله: إن أمير العرب على فتح العراق هو (سعد
بن مالك) وهو إغراب، وكان يُدْعَى سعد بن أبى وقاص وإن كان اسم أبيه مالكًا،
ويعدون عليه مسائل كهذه جزئية منها ما يستند هو فيه إلى نقل صحيح كهذا أو
ضعيف، فمن الأول قوله: إن أبا سفيان حيَّا هِرَقْل بقوله: (أبيت اللعن) وهم
ينكرون ذلك محتجين بأنها تحية الحِمْيريين للملوك دون المُضريين، وله أن يحتج هو
بإطلاق بعض علماء اللغة والتاريخ أنها تحية الملوك في الجاهلية.
ومن الثاني نص كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هرقل، فإنه نقلها
عن (الأغاني) هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل
عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن
توليت فإن إثم الأكابر عليك) .
والرواية الصحيحة في البخاري وغيره: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد
عبد الله ورسوله (وفي رواية رسول الله) إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من
اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين
فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (وفي رواية الأكارين - لا الأكابر - وكلاهما
بمعنى الفلاحين، يريد: رعيته أهل الحرث) و {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) ،
هذا هو نص الكتاب، ولا شك أن المؤلف قصر في اعتماده على كتاب أدبي دون كتب
الحديث وكتب السير في أهم شيء من موضوع قصته.
وذكر في آخر الكتاب صورة خاتم النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الواقدي
وهي أن لفظ (محمد) في السطر الأعلى، ولفظ (رسول) في السطر الأوسط،
ولفظ الجلالة (الله) في السطر الأدنى، والمشهور العكس، والواقدي يروي
الموضوعات وقصته في فتوح الشام مملوءة بالكذب وهذه المسألة أهون من غيرها.
أما ما ذكره مؤلف القصة عن أبي سفيان من سيرة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فأبو سفيان لم يقلها، ولا هو ينقله عنه بالرواية، وإنما جمع المؤلف أقوالاً
من الكتب، وألفها مع بعض آرائه وأسندها إلى أبي سفيان لأنهم يستجيزون ذلك
في القصص؛ لأن العبرة عندهم بالمسائل لا بالرواية وإن سمى أهل العربية
هذه القصص روايات كذبًا ومينًا والمعروف في الصحيح أن أبا سفيان لم يتجاوز أجوبة
أسئلة هرقل.
ومن المسائل الباطلة التي حكاها المؤلف عن أبي سفيان مسألة الغرانيق.
رآها في الطبري، فنظمها في سلك الحكاية، وقال: إن أبا سفيان قال: إن محمدًا
ذكر آلهتهم (أي بخير) فيما نزل عليه، ثم رجع عن ذلك (وأبدل هذه الفقرة بفقرة
تزيدنا نفرة منه، فقال:(إن تلك إنما ألقاها الشيطان على لسانه) ، ثم ذكر آلهتنا
بكل سوء فقال: (إنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) إلى غير ذلك مما زادنا نفورًا
وبُعدًا) . هذه العبارة بين الهلالين منقولة من القصة بحروفها، وهي توهم أن جملة
(إن تلك.. إلخ) مروية عن النبي عليه السلام، وذلك غير صحيح وفيها تحريف
للآية الكريمة: {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} (النجم: 23)
…
إلخ.
والسبب في ذلك اعتياد القوم على التساهل في النقل، والاعتماد على المعنى
الذين يفهمونه، ويحسبون هذا التساهل هينًا حتى في الأمور الدينية، وهو عند
المسلمين عظيم. وقد نشرنا في المجلد الثالث من (المنار) مقالة طويلة للأستاذ
الإمام يفند فيها مسألة الغرانيق ويبين بطلانها. وللمؤلف المسيحي العذر في تصديق
مسألة ذكرها بعض علماء المسلمين، وسكت عليها فلم يكذبها، وهذه القصة وُضعت
بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم تكن معروفة في عهده لمؤمن ولا لمشرك.
***
(بشارة بَحيرا الراهب بالنبي صلى الله عليه وسلم وشبهتهم فيه)
ومما أسنده المؤلف إلى أبي سفيان قوله: إن أبا طالب كان يصطحب محمدًا في
أسفاره فينزل الديور (كذا) ، ويجالس الرهبان والعلماء، وذكر هنا أن بحيرا الراهب
أنبأه بأمور كثيرة من مستقبل حياته وأوصى عمه أن يعتني به ويخاف عليه اليهود.
وقوله: إن محمدًا كان إذا عاد من سفره يقضي معظم ساعات نهاره في الكعبة
يحدث الناس، ويجادلهم ويطارحهم، ويُعجَبون لذكائه وقوة برهانه (قال) : فقد كان
على صغر سنه ذكي الفؤاد واسع الاطلاع بما اكتسبه من مجالسة عمه ومخالطة
الناس في أسفاره مع أنه أمي لا يعرف القراءة! ونقول: إن هذا غير صحيح فإنه ما
كان معروفًا بالفصاحة، ولا بسعة الاطلاع، ولا كان يجادل الناس ولم يقل بالمجادلة
جهلاء المسلمين الذين أرادوا أن يعظموه بأكثر مما عظمه الله تعالى به فوضعوا
أحاديث واخترعوا حكايات جاءت بنقيض المطلوب منها قولهم عنه: (أنا أفصح
مَن نطق بالضاد) قال المحدثون: إنه لا أصل له وقال شيخنا القاوقجي في (اللؤلؤ
المرصوع) : والعجب من الجلال المحلّي ذكره في شرح جمع الجوامع من غير
تنبيه، وكذا زكريا الأنصاري في شرح المقدمة الجزرية:
أما قصة بحيرا الراهب فقد ذكرها أصحاب السير في البشارات بالنبي صلى
الله عليه وآله وسلم، ونظموها في سمط الخوارق التي رووا أنها كانت محتفة بها
ولكن النصارى نظموها في سلك آخر، فزعموا أن بحيرا كان معلمًا للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وعظموا من شأنه، ووسعوا دائرة رواية المسلمين في شأنه
فأخذ صاحبنا جرجي أفندي زيدان خلاصة مما قرأه وسمعه من الفريقين وأودعها
قصته هذه (فتاة غسان) ونوه بها في غيرها، وأنا أعتقد بما لي من حسن الظن فيه
أنه كتب ما يعتقده وإن كان مخطئًا فيه، أوهمت عبارته الماضية أن أبا طالب كان
يسافر بابن أخيه قبل النبوة كثيرًا فينزل الأديار ويجالس الرهبان والعلماء
…
والصواب أنه لم يسافر مع عمه إلا مرة واحدة، وكان ابن تسع وكان سبب خروجه
معه تعلقه به وحبه إياه لما كان يعامله به من الكرامة والإحسان، وفي هذه المرة رآه
الراهب بحيرا وبشر ولم يره بعدها. وقد سافر مرة ثانية إلى الشام في عِير لخديجة
مع غلامها ميسرة، وكان ابن 25 سنة على الأرجح، وفي هذه المرة رآه نسطورا
الراهب، ورأى من علامات النبوة ما أنطقه بأنه هو الذي بشر به المسيح وغيره من
الأنبياء ولم ير بحيرا في هذه المرة.
وقد ذكر المؤلف رأيه في بحيرا في الفصل الثامن من القصة وملخصه:
(1)
أن اسم بحيرا (يوحنا) عزا ذلك إلى الكِندي أي: إلى ذلك الكتاب
الطاعن في الإسلام، المنسوب إلى رجل على عهد المأمون اسمه إسحق الكندي
والكتاب لبعض المتأخرين لا شك عندي في ذلك. وفي السيرة الحلبية وغيرها أن
اسمه جرجيس وقيل سرجيس.
و (2) أن سلمان الفارسي كان تلميذًا له نقل ذلك عن الدائرة ولم يُعرف في
ترجمة سلمان عند المحدثين.
و (3) أنه كان على مذهب آريوس.
و (4) أنه كان عالمًا بالفلك والنجوم والطوالع وسائر علوم تلك الأيام.
و (5) أنه كان حسن الفراسة ولكنهم كانوا يعتقدون أنه ساحر.
و (6) أنه سافر في آخر عهده إلى مكان مجهول في جزيرة العرب ثم عُلم
أن اليهود قتلوه غيلة.
و (7) أن المظنون في سبب ذهابه إلى بلاد العرب قصد الحجاز لحادثة جرت
معه.
ثم ذكر المؤلف في بيان هذه الحادثة قصة عن لسان راهب كان تلميذًا لبحيرا
وملخصها:
أن القوافل القادمة من بلاد العرب كانت تقف عند دير بحيرا بالقرب من مدينة
بُصْرَى، وكان بحيرا يخرج إليهم ويعلِّمهم عبادة الله تعالى إذا كانوا وثنيين، وأنه كان
يعتقد أن الله ظهر له في الرؤيا وأنبأه بأنه سيكون واسطة لهداية بني إسماعيل، ثم
رأى في رؤيا أخرى: (أن فتى جميل المنظر شهمًا مولده ببرج الثور والزهرة مع
قران المشتري وزُحل سيهدي بني إسماعيل إلى معرفة الله وأن به يقوى أمرهم
ويشتد أزرهم وتجتمع كلمتهم فيذللون أبناء عمهم بني إسحق ويتسلطون عليهم مدة
كما أشار إليه دانيال في نبوته وأنه يخرج من العرب اثنتا عشرة دولة) .
ثم ذكر المؤلف بلسان الراهب أن قافلة جاءتهم من قريش فشاهد بحيرا فيهم غلامًا
جميلاً علم أنه هو الذي بُشر به في المنام وأوصى به عمه أن يحذر عليه اليهود،
(قال) : ثم كانوا كلما مروا بنا أقاموا عندنا كالعادة.
أقول في هذه الحكاية أغلاط يبنى عليها أحكام فاسدة وهو لم يروها عن أحد
وإنما استنبطها من قريحته ليصور فيها ما كان يعتقده في النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وهو أنه اقتبس آراءً من ذلك الراهب في التوحيد وغير التوحيد وطفق
يستعد لتحقيق بما بشره به، وكان يختلف إليه للاستفادة منه ثم إن الراهب بعد ذلك
رحل إليه. وحاصل القول إن دين الإسلام بُني على معارف ذلك الراهب
وبشارته. ويظهر أن المؤلف رجع عن هذا الرأي الذي يؤخذ من كلامه في بحيرا
وصار يعتقد أن النبي عليه السلام لم يكن متصنعًا ولا متكلفًا؛ بل كان يعتقد في نفسه
أنه مرسل من الله تعالى ويفهم هذا الرجوع مما كتبه بعد ذلك في الجزء الأول من
(تاريخ تمدن الإسلام) .
أما الأغلاط المهمة التي جاءت في حكايته المخترعة:
فأحدها: قوله: إن كان يعلّم العرب الذين كانوا ينزلون بجوار الدير والصواب
أنه ما كان يخرج إليهم ولا يكلمهم قال في السيرة الحلبية: (وكانت قريش كثيرًا ما
تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى إن ذلك العام صنع لهم طعامًا كثيرًا، وقد كان رأى
وهو بصومعته رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله
من بين القوم ثم لما نزلوا في ظل شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة
وتهصرت - أي مالت - أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
استظل تحتها.. ثم أرسل إليهم: قد صنعت لكم طعامًا يا معشر قريش، وأحب أن
تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم - لم أقف
على اسم هذا الرجل -: يا بحيرا، إن لك اليوم شأنًا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا
نمر عليك كثيرًا فما شأنك اليوم؟ فقال: صدقت
…
القصة) وفيها أن النبي لم
يحضر معهم أولاً فسألهم عمن تخلف؛ لأنه لم يَرَ الغمامة على أحد منهم فقالوا له:
ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنًّا، فطلبه
فجاء والغمامة فوقه. فلما أكل القوم وتفرّقوا قام إليه بحيرا فقال له: أسألك باللات
والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
تسألني باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغض شيئًا قط بغضهما، فقال بحيرا:
فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن
أشياء من حاله، من نومه وهيئته وأموره ويخبره فيوافق ما عنده من صفته أي
صفة النبي المبعوث آخر الزمان، وذكر أنه أوصى به عمّه، وليس في رواية من
الروايات أنه علَّمهم في تلك الدعوة أو غيرها شيئًا أو دعاهم إلى توحيد أو غيره.
ثانيها: خبر الرؤيا والنظر في النجوم وقد علمت أن سبب البشارة به في
الرواية المأثورة هو ما رآه من النعوت والآيات، وما كان يحفظ من البشارات،
فالرؤيا المنامية دعوى اختراعية. وبناء البشارة على معرفته بالتنجيم حكاية خرافية
فإن قالوا: إنهم لا يسلمون بما في الرواية الإسلامية من تظليل السحابة والشجرة نقول
سواء علينا أرددتم هذا وحده أم رددتم الرواية من أصلها وأرحتمونا من ذكر
بحيرا الذي عظمتم أمره، وهو واحد من ألوف كانوا يعتقدون بأن نبيًّا يُبعث
من آل إسماعيل كما بشرت التوراة والإنجيل.
ثالثها: قوله: وأقام الركب عندنا مدة، ورابعها: قوله: ثم كانوا كلما مروا
بنا أقاموا عندنا كالعادة، وكلاهما غير صحيح كما علمت.
وجملة القول أنه لا توجد شبهة ما على أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم رأى بحيرا غير تلك المرة، ولا توجد شبهة ما على أنه استفاد منه علمًا يُذكر،
أو حكمًا يُؤثر، وماذا عسى يستفيد ابن تسع من مجلس جلسه إلى عالِم؟ ! وكيف
يصدق عاقل أن ذلك الغلام يخزن هذه العلوم زمنًا يزيد على ثلاثين سنة ثم يفيضها
على الناس بحكمة باهرة وسياسة عالية؟ ! وكيف عجز الراهب مفيض العلوم عن
هداية رجل واحد كالراهب الذي يحكي عنه في القصة، وقدر ذلك الغلام المستفيض
على هداية الشعوب والقبائل وقلب نظام العالم بتطهيره من الشرك والوثنية والظلم
والتهتك في الشهوات؟ ! إن في ذلك لآياتٍ. وإنما أطنبت في قصة بحيرا إطنابًا ما
كان يتسع له تقريظ قصة؛ لأنني كنت أسمع من رهبان هذا الزمان وبعض عوام
النصارى كلامًا كثيرًا في دعوى تعليمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما كنت
أظن أن خواصهم يحفلون بذلك حتى رأيت في هذه القصص ما رأيت، ولا أزال
أعتقد أن رصيفنا الفاضل جرجي أفندي زيدان ليس له قصد شيء يحمله على كتابة
ما لا يعتقد.
وأقول: إنه لا يجوز لمسلم أن يثق بغير العلماء الراسخين من أهل الدين
في نقل الأمور الدينية؛ إذ لا يعرف الصحيح المعتمد عليه غيرهم.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المحسن العظيم منشاوي باشا
أبو الوطن لا الإسكندريةوحدها
زار صاحب السعادة والفضل أحمد باشا المنشاوي مدارس العروة الوثقى
الخيرية في الإسكندرية، فتلقاها أعضاء الجمعية الكرام بما يليق بمقامه في فضله
وإحسانه، وكانوا قد أمروا بأن تزين المدارس حفاوة به، فابتدأ بزيارة مدرسة عباس
الأول للذكور وهناك قدموا له كتابًا مصفحًا بالذهب ذكرى شكر على إحسانه وعند
ختام الاحتفال وتلاوة الخطب والأناشيد، وعد التلامذة بأنه أوقف حياته لتربيتهم. ثم
زار مدرسة إسماعيل الأول للبنات، ثم مدرسة كوم الشقافة ومدرسة عباس الثاني
ومدرسة توفيق الأول والمكتب العباسي، ثم مدرسة عباس الأول للبنات فمدرسة
إبراهيم الأول، وكانت كل مدرسة تقدم له ذكرى تليق بها.
وقد هزته الأريحية لما شاهده من حال هذه المدارس والمكاتب وحال التلامذة
والتلميذات الذين كانوا يتدفقون بزيارته بِشرًا وشكرًا، فأمر بأن تكون كسوة تلامذة
المكاتب على نفقته، ووعد بأنه سيوقف أطيانًا يخص ريعها بتجهيز بنات الفقراء
المتعلمات في هذه المدارس عند زواجهن. وذكرت مدرسة جمعية الحمالين
(الشيالين) في الكمرك فوعد بمساعدتها. ثم أمر بصرف راتب شهر لكل واحد
من معلمي هذه المدارس.
ننشر خبر هذه الزيارة وإن كنا نغفل ذكر زيارات الملوك والأمراء الحاكمين
للمعاهد العامة والخاصة لأن شأن الإسعاد على العلم لا يعلوه عندنا شأن، وإننا لنفتخر
بهذا المحسن العظيم الذي طوق الإسكندرية بفضله وإحسانه حتى قال بعض الأدباء:
يجب أن نكنيه بأبي الإسكندرية، ونحن نتوقع أن يطوق بفضله القطر كله
بمساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية العامة كما طوق الإسكندرية بمساعدة جمعية
العروة الوثقى الخاصة فيكون أبا الوطن كله لا أبا الإسكندرية وحدها.
أدام الله توفيقه. وألهم سائر أغنيائنا أن يسلكوا طريقه.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مدرسة المعلمين الإلهامية
وفق الله تعالى صاحبة الدولة والدة الجناب الخديوي فألهمها بأن تنشئ مدرسة
لتخريج معلمي المدارس الابتدائية، وتجعلها تذكارًا لوالدها (إلهامي باشا) وقد وُضع
جدول الدروس واتخذ للمدرسة مكان موقت، وستُبنى لها دار فسيحة في الحلمية على
نفقة المنشئة أثابها الله تعالى. وقد عين عابدين أفندي خير الله ناظرًا لهذه المدرسة.
أما العلوم التي تُقرأ في المدرسة فهي تجويد القرآن الكريم وتفسيره والنحو
والصرف والبلاغة والإنشاء قولاً وكتابةً والفقه والتوحيد والحساب والهندسة وتقويم
البلدان والخط، وتقبل المدرسة ثلاثين طالبًا مجانًا بشروط معرفة القراءة والكتابة
وحفظ القرآن الكريم والصحة، وكون السن لا تزيد على 18 ولا تنقص عن
12 سنة.
العلم المقصود جليل، ولكنه لا يتم بالدار الفسيحة والنفقة الواسعة من كرم
الإمارة، وإنما يتم بانتقاء المعلمين الفضلاء الأَكْفَاء الذين يحسنون التربية أولاً
والتعليم ثانيًا، فإذا لم يكن المعلمون مربين فلا فائدة لهم ولا جدوى. وفق الله ناظر
هذه المدرسة لانتقاء الرجال، كما وفق منشئتها الكريمة لبذل المال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفاء قراء الصحف ومطلهم
كتبنا مقالة أخلاقية في وفاء قراء الصحف المنشَّرة ومطلهم بالنسبة إلى البلاد
وإلى الأصناف، بنينا الحكم فيها على اختبارنا الخاص، فأخذ (المقتطف) الأغر
خلاصتها، وقال: إنها ذكرته بحثًا مثل بحثنا للفيلسوف سبنسر الشهير ظهر له منه أن
خدمة الدين أقل وفاءً بالحقوق من غيرهم. ثم ذكر إحصاءً لأصناف المشتركين في
(المقتطف) و (المقطم) من حيث الوفاء والمطل كانت نتيجته موافقة لنتيجتنا.
ظهر من إحصاء المقتطف أن أصحاب الأملاك يتأخر عندهم سبعة في المائة من
حقوق الجرائد والمجلات، ويتأخر عند العلماء 9 في المائة وعند التجار 15 في المائة
وعند المحامين 25 في المائة وعند القضاة 30 في المائة وعند الموظفين 40 ونصفًا
في المائة.
قال الكاتب:
(وهذه النتيجة تنطبق على نتيجة صاحب المنار إلا من حيث العلماء، ولعل
سبب ذلك أننا جمعنا معهم المعلمين. أما موظفو الحكومة فأكثرهم من المستخدمين
الصغار، لا من الموظفين الكبار. ومن الغريب أن يدخل حضرات القضاة والمحامين
في باب المطل ولو لم تكن النتيجة التي وصلنا إليها نحن مطابقة للنتيجة التي وصل
إليها صاحب المنار لظننا حسابنا خطًا) .
أما ما ذكره في علة اختلاف الحسابين في العلماء فصحيح؛ لأن المعلمين في
المدارس يقل فيهم الماطلون، وقد قلنا هذا فلا خلاف، أما المحامون فقد نسينا أن
نذكرهم في تلك المقالة وهم أحسن وفاءً من القضاة وإن كنا نسمع القضاة يتبرمون
منهم. ونحن لا نشكو إلا من المحامين الشرعيين فإن أكثرهم يمطلون، وأما
المحامون في المحاكم الأهلية فكلهم يؤدون حق المنار، ويقل فيهم مَن يخرج منه
الحق نكدًا.
ومن عجيب ما وقع لنا من القضاة الأهليين أن أحدهم اجتمع عنده اشتراك
ثلاث سنين فطلب منا أن نعطيه ثلاث مجلدات من المنار بثمنها ونعطيه وصولاً بما
يطلب منه من غير أن يدفع قرشًا واحدًا واحتجَّ بأنه ينقصه بعض الأجزاء، فيا
حرمان مَن يتقاضى عند مثله.
_________
(تنيبه) : ضاق هذا الجزء عن شبهات النصارى وتتمة ترجمة البابا.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الكرامات والخوارق
المقالة السابعة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل
(النوع الحادي عشر: استجابة الدعاء)
قال السبكي: وهو كثير جدًّا وشاهدناه من جماعة. أقول: هذه مسألة من أكبر
المسائل التي وقع فيها الخلاف بين المذاهب الإسلامية ويذكرونها في العقائد
والمشهور أن أهل السنة يقولون بنفع الدعاء والمعتزلة ينكرونه.
قال اللقاني في الجوهرة:
وعندنا أن الدعاء ينفع
…
كما من القرآن وعدًا يسمع
وقد تقدم في مقالات الكرامات الأولى أن جمهور أهل السنة يقولون بجواز وقوع
الكرامة والخوارق، والمعتزلة ينكرون ذلك. وقد عدَّ السبكي وغيره استجابة الدعاء
من الكرامات والخوارق ويلزم من ذلك أن يكون الخلاف في الدعاء فرع الخلاف
في الكرامات، ولكنك تراهم يخصونه بالذكر ويعدونه مسألة مستقلة ويرون الخلاف
فيه أقوى، ويشنعون فيه على المعتزلة ما لا يشنعونه في مسألة الكرامات. ولقد
انقرض المعتزلة وذهبت كتبهم ولكن المسائل التي اختلفوا فيها مع الأشعرية لا يزال
الكثير منها حيًّا يقول فيه بقولهم كثير من الناس فنحمد الله أن جعل أئمة الفريقين
أرقى عقلاً ودينًا من أن يكفّر بعضهم بعضًا، فلو كفر أبو الحسن الأشعري وكبار
أصحابه منكري نفع الدعاء وجواز الكرامات أو وقوعها لرأيت المسلمين اليوم في
شقاق شر من ذلك الشقاق، ولامتنع أهل العلم والدين من الصلاة على موتى أكثر
المتعلمين من أبناء هذا العصر. على أن الباحثين في هذه المسائل لا يسلمون من
تكفير غلاة المقلدين ولكنه تكفير باللسان لا يعدو الشتم ولا يتجاوز الشاتمين، وإذا
مات المرمي بالكفر صلوا عليه ودفنوه بين المسلمين، ثم إنه شتم قلما يقع من
المطلعين على المذاهب والعالمين بما يؤْثَر عن العلماء من الخلاف.
الحق أقول: إن الخلاف في الدعاء أقوى من الخلاف في الكرامات، فإن مسألة
الكرامات ليست من أصول الدين ولا من فروعه، ولا يوجد في الكتاب والسنة دليل
على طلب حصولها، ولا على مطالبة الناس بالإيمان بها. وأما الدعاء فهو مطلوب
بلا خلاف، والآيات والأحاديث الصحيحة التي يذكر فيها كثيرة جدًّا. ويعجبني
جعلهم محل الخلاف في نفع الدعاء، لا في استجابته، خاصة وأنه لم يقل أحد أئمة
المسلمين بأن الدعاء يستجاب حتمًا ولا أن الأصل أو الأكثر أنه يستجاب، ولكنهم
قالوا إن الدعاء ينفع سواء استجيب أم لم يستجب، وهذا القول حق كما سنبينه. ولو
كانوا يرون أن الدعاء يستجاب من كل داع تحققت فيه الشروط التي ذكروها لما
كان لعدّهم استجابة الدعاء من الكرامات والخوارق معنى.
وردت آيات في الدعاء ولكن يراد بها في الأكثر العبادة، ومن غير الأكثر
مجرد الطلب، كقوله تعالى حكاية عن بنت شعيب: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ
مَا سَقَيْتَ لَنَا} (القصص: 25) وأقرب الآيات إلى ما نحن فيه من دعاء الله
تعالى وطلب الحاجة منه توقعًا للإجابة بقضائها قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60)، وقريب منها قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) .
ولكن ورد في الصحيح تفسير الدعاء في الأولى بالعبادة. روى أحمد وأبو
بكر بن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وابن حِبَّان
في صحيحه والحاكم وغيرهم من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله
تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْْ} (غافر: 60) وفسرت الاستجابة على هذا بقبول العبادة، ومن
العلماء من فسر الدعاء في الآية بطلب الحاجات والاستجابة بقضائها.
وفسرت الآية الثانية بمثل ما فسرت به الأولى من الوجهين. وقد علم أن
الآيتين ليستا نصًا في موضوع الخلاف فيحتج بهما على المعتزلة ومَن على رأيهم
من أهل هذا العصر؛ ولهذا لم يكفروا من قال بأن الدعاء لا تأثير له في قضاء
الحاجات وإنما عدوه مخالفًا للسنة لما ورد في الدعاء من الأحاديث الصحيحة.
ورد في الصحيح أن لكل نبي دعوة مستجابة. وقد قال العلماء: إن المراد أنها
مستجابة قطعًا وما عداها من دعوات الأنبياء فهو محتمل للإجابة ولعدمها. أي أن
الحديث لا يُفهم منه أن الله لا يستجيب لنبي إلا دعوة واحدة. وورد الأمر بالدعاء
وعدم الاستعجال بالاستجابة. وترى العلماء متفقين على أن الاستجابة تكون بإحدى
ثلاث وردت في الحديث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما
أن تدفع عنه من السوء مثلها. وللحديث طرق بعضها ضعيف وبعضها قد صحح
الحاكم إسناده، ولم يروه من أصحاب الصحاح والسنن إلا الترمذي وقال: حسن
صحيح غريب، والسبكي يجعل الأولى من الثلاث - إن أُعطيها الداعي - كرامة
وتعريفنا للكرامة لا يأباه ولكن يأباه قول من يجعل الكرامة من الخوارق التي تأتي
على خلاف السنن الإلهية في الخلق. ونحن لا نشك في أن كثيرين من الداعين قد
استجيب دعاؤهم بأن سخر الله لهم من الأسباب ما لم يكن في أيديهم تسخيره، ولم
يكن يخطر لهم على بال كيف يجابون وقد وقع لنا مثل ذلك وحمدنا الله عليه، ولكننا
لا نقول إلا أنه جاء موافقًا لسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات على ما فيه من
العناية الخفية والتوفيق الإلهي.
وقد اشترطوا في الدعاء شروطًا منها أن لا يدعو بمحال عقلاً ولا شرعًا ولا
عادة، وإذا كان الدعاء بالمحال في العادة ممنوعًا وغير جدير بالإجابة؛ لأنه من إساءة
الأدب مع الله تعالى كأن الداعي يقول: اللهم أبطلْ حكمتك في نظام خليقتك وبدّل
سننك في خلقك لأجلي فكيف يتحقق في الدعاء أمر خرق العادة؟ هذا تنافٍ بين
أقوالهم.
* * *
وعندي أن الدعاء على قسمين: اضطراري واختياري فأما الاضطراري فهو
الالتجاء إلى القوة الغيبية عند تقطّع الأسباب بالإنسان وسد منافذ الرجاء بالسعي.
وكل مؤمن بقوة غيبية يرى نفسه ملتجئة إليها عند اشتداد البأس، والخطر المشرف
بها على اليأس، فيدعو صاحب القوة العليا، ويستغيث به، وعند ذلك تُفتح في
وجهه أبواب الرجاء، وتنزل عليه السكينة بعد الاضطراب، وهذه فائدة كبرى
للدعاء تتلوها فوائد أظهرها أن اليائس ينقطع عن السعي فإذا اشتد به الضيق فربما
يبخع نفسه انتحارًا بيده؛ ولذلك يكثر الانتحار في قوم لا يؤمنون، فالرجاء الذي
يحدثه الالتجاء بالدعاء يعطي المضطر قوة جديدة، ويهديه إلى طرق جديدة يسلكها في
إعادة السعي حتى ينجو من الخطر، أو يبلغ بعض الوطر، ويقول الأستاذ الإمام:
قلما وله قلب المؤمن إلى الله تعالى داعيًا مخلصًا في حال اضطرارية كهذه إلا وأجاب
الله دعاه، وهذا الفرع من الدعاء هو ميزان الإيمان ومعيار التوحيد الخالص، فإن الله
تعالى جعل أعمال الإنسان في الأسباب والمسببات، فالمؤمن الكامل يذكر الله عند كل
سبب، ويزداد إيمانًا بزيادة العلم بالأسباب لما فيها من الحكمة والنظام العجيب،
والغافلون تحجبهم الأسباب عن رؤية حكمة واضعها وإن كانوا مؤمنين حتى تكون
الشدائد هي التي تذكرهم بما تقطَّع من الأسباب التي يعرفونها، فيرجعوا إلى مَن بيده
ملكوت كل شيء وواضع كل سبب فيدعوه بإخلاص {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) ،
وفي آية أخرى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) ؛ وإنما كان الدعاء في حالة الاضطرار معيارًا للإيمان؛ لأن
من يعتقد بقوة غيبية وراء الأسباب لغير الله تعالى فهو يلجأ إليه في تلك
الحالة بطبعه، وينطق لسانه بدعاء صاحبها وندائه. ولا توجد أمارة على الشرك
أظهر من هذه الأمارة وإن استهان بها الذين يدعون في الشدائد فلانًا وفلانًا
ويستغيثون بهم من صميم أفئدتهم ويولهون إليهم، لا يلاحظون أنهم وسطاء بين الله
تعالى وبينهم يقربونهم إليه زلفى كما يزعم أهل التأويل؛ لأن القلب في مثل تلك
الحالة لا يسع شيئين فمن يدعو فلانًا من المعتقدين في وقت الشدة لا يخطر في
باله غيره، ولا يدعوه إلا وهو يعتقد أنه هو الذي يفرج كربه، فهو موحد له من
دون الله تعالى. وإذا وسع قلبه قوتين إحداهما مؤثرة في الأخرى تحملها على
العمل فتعمل فهو مشرك شركًا ظاهرًا لا خفيًا.
وإذا كان - ليت شعري - هؤلاء الوسطاء المزعومون أسبابًا خفية كما يدعي
بعض المأولين، وجوزنا أن يلجأ إليهم في وقت الضيق ففي أي وقت نوجب على
المؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى وحده دون سواه؟ ألا يوجد عند هؤلاء الذين يمتاز
دينهم بالتوحيد الخالص حال يجب على العبد أن يتوجه فيها إلى الله تعالى وحده، لا
يكون في قلبه سواه من عبيده الضعفاء؛ {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء:
28) ؟ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره
الكافرون.
فعلم مما شرحناه أن هذا الدعاء أثر من آثار الإيمان بقوة وراء الطبيعة، فمن
كان يعتقد أن مع صاحبها من يحمله على الفعل أو الترك فهو المشرك، وهذا الأثر
الذي ذكرناه هو روح العبادة، وأكبر مظاهرها؛ لأنه الأثر الطبيعي للإيمان؛ ولذلك
فسر الدعاء في القرآن بالعبادة في جميع الموضوعات الدينية وورد في الحديث:
(الدعاء مخ العبادة) رواه الترمذي، وتقدم حديث (الدعاء هو العبادة) فكل من
يدعى وينادى عنه شدة الحاجة وتعسر الأسباب الكسبية فهو معبود لمن ناداه ودعاه
{وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) .
وأما القسم الثاني من الدعاء وهو الاختياري فإنه من الأعمال التي تزيد في
الإيمان، وتمده وتدعمه كسائر العبادات المطلوبة في الدين، وليس أثرًا طبيعيًّا له،
ولولا ذلك لما كان للتكليف به معنى إذا قال العبد: اللهم وسع عليَّ في الرزق، يتذكر
أن سعيه في طلب الرزق من أسبابه التي هداه الله تعالى إليها بالحواس، والعقل
يتوقف على حفظ قواه، وعلى توفيق الله بين سعيه وبين الأحوال والأمور الخارجية
التي يتوقف عليها النجاح، فيزداد إيمانه بهذا الذكر، ويزداد نشاطه باعتقاده أن الله
يعينه ما راعى سننه في خليقته، وأتى البيوت من أبوابها. وإذا قال: اللهم اغفر لي.
يتذكر أنه عرضة للهفوات والخطايا، وأن الغفران الإلهي له طريق بيَّنها الكتاب
العزيز بمثل قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه:
82) فإن لم يتذكر الآية فإنه يتذكر معناها إلا إذا كان جاهلاً بالدين مكتفيًا منه بما
يسمعه ممن يعيش بينهم من الجاهلين، وإذا تذكر أن الدين علَّم البشر أن للذنوب
والخطايا آثارًا سيئة في النفس، وأن غفرها ومحوها إنما يكون بالرجوع عن الذنب
وعمل طاعة من جنسه تؤثر في النفس ضد أثره فإنه يكون قريبًا من العمل الصالح
قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) وقال عليه الصلاة
والسلام: (وأتْبع السيئة الحسنة تَمْحُهَا) .
أقول: هذا تمهيدًا لبيان أن هذا النوع من الدعاء هو أحد خصال الإيمان.
والإيمان كما يورد في الأحاديث الصحيحة: قول باللسان واعتقاد بالجَنان وعمل
بالأركان، فهذا الدعاء لا يكون صحيحًا إلا إذا وافق اللسان فيه القلب والعمل. أعني
أن يطلب المؤمن الرزق في الدنيا والمغفرة في الآخرة ونحوهما بتوجه القلب والقيام
بالعمل الذي جعله الله وسيلة للرزق وسببًا في المغفرة. ويستلزم هذا ما قالوه من
عدم جواز طلب المحال أو المحرم شرعا؛ لأن الأول ليس له وسيلة تتوجه النفس
إليها وتطلب بالعمل منها، والثاني لا يطلب من الله تعالى وإنما يطلب بالعمل في حال
الغفلة عن الله عز وجل. ومن طلب من الله تعالى شيئًا بالتوجه النفسي الصحيح
وصدق العزيمة وإعمال الفكر مع الجد في السعي من الطرق التي سنها الله تعالى
والأسباب التي ربط بها المسببات، وكان دعاؤه باللسان مترجمًا عن إيمانه بأن
المسخر الأسباب والموفق بينها هو الله تعالى فإن الله تعالى يستجيب دعاءه، ويسهل
له الأسباب ويمنحه التوفيق.
هذا هو الدعاء المطلوب شرعًا، وفائدته في تهذيب النفس وتسديد الفكر وتقوية
العزيمة ظاهرة بالبداهة، والوصول به إلى المقاصد التي يطلبها الداعي ثابتة
بالتجربة وقريبة من المعقول. وما أظن المعتزلة ينكرون ذلك، وإنما أنكروا - فيما
أرى - فائدة الدعاء القولي البحت، والمحققون من أهل السنة يوافقونهم على هذا، لا
سيما الصوفية علماء النفس والأخلاق. قالت رابعة العدوية رحمها الله تعالى:
استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير، وقال الشيخ محي الدين بن عربي:
بذكر الله تزداد الذنوب
…
وتنطمس البصائر والقلوب
وإنما يعني الذكر مع الغفلة فإنه كالاستهزاء بالله تعالى. وورد هذا المعنى في
الآثار عن السلف، قال الفُضَيل بن عياض رحمه الله تعالى: الاستغفار بلا إقلاع توبة
الكذابين، وفي (الإحياء) عن بعض الحكماء: مَن قدم الاستغفار على الندم كان
مستهزئًا بالله عز وجل وهو لا يعلم، وقال الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى: لا يقولنَّ
أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنبًا وكذبًا إن لم يفعل ولكن ليقل اللهم اغفر لي
وتب عليَّ.
وجملة القول أن الدعاء مخ العبادة وروحها وميزان الإيمان ومعيار الإخلاص
وسلامة التوحيد وأن فائدته في الدنيا مشهورة، وأن المحرومين منه لحرمانهم من
سعادة الإيمان الخالص عرضة للانتحار، إذا استولت عليهم الهموم والأكدار، وأن
فائدته في الآخرة أعظم، وأن استجابته إن وُجد على حقيقته التي شرحناها - كثيرة
يعرفها المؤمنون الصادقون، وينكرها الملحدون والشاكون، وأن هذه الاستجابة
ليست من الخوارق الحقيقية، ولكنها من التوفيق الإلهي والعناية الربانية، وإذا كان
أمر العناية فيها غريبًا في صورته غير معهود يصح أن تسمى كرامة. وقد بسطنا
هذه المسألة فلم نقصر البحث فيها على موضوعنا لما نعلم من اشتباه الأمر فيها على
الذين يحبون أن يعقلوا الدين ويفقهوه، ومن جهالة المقلدين الذين يسلمون بكل ما
ينقل عن الميتين وإن لم يفهموه، ونرجو أن يقبل كلامنا هذا كل مؤمن بأن للكون
فاعلاً مختارًا؛ وأن للناس حياة بعد هذه الحياة، كما نرجو أن يراجعنا من يتوقف
في صحة شيء مما كتبناه، أو في فقهه وفهمه، والله الموفق للصواب.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________