الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تركها للناس يستنتجونها بعقولهم ثم يحاولون صرف ظواهر النصوص إليها، وغرضه بذلك امتحان عقولهم، وكثرة الثواب بما يعانونه من محاولة صرف الكلام عن ظاهره وتنزيله على شواذ اللغة وغرائب الكلام.
وهؤلاء هم أكثر الناس اضطرابا وتناقضا، لأنهم ليس لهم قدم ثابت يمكن تأويله وما لا يمكن، ولا في تعيين المعنى المراد.
ثم إن غالب ما يزعمونه من المعاني يعلم من حال المتكلم وسياق كلامه أنه لم يرده في ذلك الخطاب المعين الذي أولوه.
وهؤلاء كانوا يتظاهرون بنصر السنة ويتسترون بالتنزيه، ولكن الله تعالى هتك أستارهم برد شبهاتهم ودحض حججهم، فلقد تصدى شيخ الإسلام وغيره (1) للرد عليهم أكثر من غيرهم لأن الاغترار بهم أكثر من الاغترار بغيرهم لما يتظاهرون به من نصر السنة.
فصل
مذهب أهل التأويل في نصوص المعاد:
الإيمان بها على حقيقتها من غير تأويل، ولما كان مذهبهم في نصوص الصفات صرفها عن حقائقها إلى معان مجازية تخالف ظاهرها، استطال عليهم أهل التخييل فألزموهم القول بتأويل نصوص المعاد كما فعلوا في نصوص الصفات. فقال أهل التأويل لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإثبات المعاد، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه فلزم القول بثبوته.
وهذا جواب صحيح وحجة قاطعة تتضمن الدفاع عنهم في عدم تأويلهم نصوص المعاد وإلزامهم أهل التخييل أن يقولوا بإثبات المعاد وإجراء نصوصه على حقائقها، لأنه إذا قام الدليل، وانتفى المانع وجب ثبوت المدلول.
(1) انظر الرد عليهم ص 95 في الباب العشرين
وقد احتج أهل السنة على أهل التأويل بهذه الحجة نفسها ليقولوا بثبوت الصفات وإجراء نصوصها على حقيقتها فقالوا لأهل التأويل: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإثبات الصفات لله، وقد علمنا فساد الشبهة المانعة منه فلزم القول بثبوتها، وهذا إلزام صحيح وحجة قائمة لا محيد لأهل التأويل عنها، فإن من منع صرف الكلام عن حقيقته في نصوص المعاد يلزمه أن يمنعه في نصوص الصفات التي هي أعظم وأكثر إثباتا في الكتب الإلهية من إثبات المعاد، وإن لم يفعل فقد تبين تناقضه وفساد عقله.
فصل
وأما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف.
وحقيقة مذهبهم أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من نصوص الصفات ألفاظ مجهولة لا يعرف معناها حتى النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بأحاديث الصفات ولا يعرف معناها.
ثم هم مع ذلك يقولون: ليس للعقل مدخل في باب الصفات. فيلزم على قولهم أن لا يكون عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة السلف في هذا الباب علوم عقلية ولا سمعية وهذا من أبطل الأقوال.
وطريقتهم في نصوص الصفات إمرار لفظها مع تفويض معناها ومنهم من يتناقض فيقول: تجرى على ظاهرها مع أن لها تأويلا يخالفه لا يعلمه إلا الله. وهذا ظاهر التناقض فإنه إذا كان المقصود بها التأويل الذي يخالف الظاهر وهو لا يعلمه إلا الله فكيف يمكن إجراؤها على ظاهرها؟
وقد قال الشيخ رحمه الله عن طريقة هؤلاء في كتاب (العقل والنقل) ص 121 ج1: "فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد " اهـ.
والشبهة التي احتج بها أهل التجهيل هي وقف أكثر السلف على {إِلَّا اللَّهُ} من قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} .
وقد بنوا شبهتهم على مقدمتين:
الأولى: أن آيات الصفات من المتشابهة.
الثانية: أن التأويل المذكور في الآية: هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر فتكون النتيجة أن لآيات الصفات معنى يخالف ظاهرها لا يعلمه إلا الله.
والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن نسألهم ماذا يريدون بالتشابه الذي أطلقوه على آيات الصفات. أيريدون اشتباه المعنى وخفاءه، أم يريدون اشتباه الحقيقة وخفاءها؟
فإن أرادوا المعنى الأول - وهو مرادهم - فليست آيات الصفات منه لأنها ظاهرة المعنى، وإن أرادوا المعنى الثاني فآيات الصفات منه لأنه لا يعلم حقيقتها وكيفيتها إلا الله تعالى. وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق التشابه على آيات الصفات بل لا بد من التفصيل السابق.
الثاني: إن قولهم: " إن التأويل المذكور في الآية هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر غير صحيح "، فإن هذا المعنى للتأويل اصطلاح حادث لم يعرفه العرب والصحابة الذين نزل القرآن بلغتهم، وإنما المعروف عندهم أن التأويل يراد به معنيان:
إما التفسير ويكون التأويل على هذا معلوما لأولي العلم كما قال ابن
عباس رضي الله عنهما: " أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله" وعليه يحمل وقف كثير من السلف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} من الآية السابقة.
وإما حقيقة الشيء ومآله، وعلى هذا يكون تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر غير معلوم لنا، لأن ذلك هو الحقيقة والكيفية التي هو عليها وهو مجهول لنا كما قاله مالك وغيره في الاستواء وغيره، وعليه يحمل وقف جمهور السلف على قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} من الآية السابقة.
الوجه الثالث: إن الله أنزل القرآن للتدبر، وحثنا على تدبره كله ولم يستثن آيات الصفات، والحث على تدبره يقتضي أنه يمكن الوصول إلى معناه، وإلا لم يكن للحث على تدبره معنى؛ لأن الحث على شيء لا يمكن الوصول إليه لغو من القول ينزه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، وهذا - أعني الحث على تدبره كله من غير استثناء- يدل على أن لآيات الصفات معنى يمكن الوصول إليه بالتدبر، وأقرب الناس إلى فهم ذلك المعنى هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن القرآن نزل بلغتهم، ولأنهم أسرع الناس إلى امتثال الحث على التدبر خصوصا فيما هو أهم مقاصد الدين.
وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهما كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعا. فكيف يجوز مع هذا أن يكونوا جاهلين بمعاني نصوص الصفات التي هي أهم شيء في الدين؟!
الرابع: إن قولهم يستلزم أن يكون الله قد أنزل في كتابه المبين ألفاظا جوفاء لا يبين بها الحق، وإنما هي بمنزلة الحروف الهجائية والأبجدية، وهذا ينافي حكمة الله التي أنزل الله الكتاب وأرسل الرسول من أجلها.
تنبيه: علم مما سبق أن معاني التأويل ثلاثة:
أحدها: التفسير وهو إيضاح المعنى وبيانه، وهذا اصطلاح جمهور المفسرين ومنه «قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس:" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".» وهذا معلوم عند العلماء في آيات الصفات وغيرها.
الثاني: الحقيقة التي يئول الشيء إليها، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة كما قال تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فتأويل آيات الصفات بهذا المعنى هو الكنه والحقيقة التي هي عليها، وهذا لا يعلمه إلا الله.
الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر وهو اصطلاح المتأخرين من المتكلمين وغيرهم. وهذان نوعان: صحيح وفاسد:
فالصحيح: ما دل الدليل عليه مثل تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} إلى أن المعنى إذا أردت أن تقرأ.
والفاسد: ما لا دليل عليه كتأويل استواء الله على عرشه باستيلائه ويده بقوته ونعمته ونحو ذلك.
فصل
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " تفسير القرآن على أربعة أوجه:
تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فمن ادعى علمه فهو كاذب" اهـ.
فالتفسير الذي تعرفه العرب من كلامها هو تفسير مفردات اللغة كمعرفة معنى القرء، والنمارق، والكهف ونحوها.
والتفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته هو تفسير الآيات المكلف بها اعتقادا، أو عملا كمعرفة الله بأسمائه وصفاته، ومعرفة اليوم الآخر، والطهارة، والصلاة، والزكاة وغيرها.
والتفسير الذي يعلمه العلماء هو ما يخفى على غيرهم مما يمكن الوصول إلى معرفته كمعرفة أسباب النزول، والناسخ، والمنسوخ، والعام، والخاص، والمحكم، والمتشابه، ونحو ذلك.
وأما التفسير الذي لا يعلمه إلا الله فهو حقائق ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، فإن هذه الأشياء نفهم معناها، لكن لا ندرك حقيقة ما هي عليه في الواقع.
مثال ذلك: أننا نفهم معنى استواء الله على عرشه، ولكننا لا ندرك كيفيته التي هي حقيقة ما هو عليه في الواقع. وكذلك نفهم معنى الفاكهة والعسل، والماء، واللبن، وغيرها مما أخبر الله أنه في الجنة ولكن لا ندرك حقيقته في الواقع كما قال تعالى {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في
الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء.
وبهذا تبين أن في القرآن ما لا يعلم تأويله إلا الله كحقائق أسمائه وصفاته وما أخبر الله به عن اليوم الآخر، وأما معاني هذه الأشياء فإنها معلومة لنا وإلا لما كان للخطاب بها فائدة. والله أعلم.