الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في الفناء وأقسامه
الفناء لغة: الزوال. قال الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وفي الاصطلاح ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ديني شرعي وهو الفناء عن إرادة السوي. أي: عن إرادة ما سوى الله عز وجل بحيث يفنى بالإخلاص لله عن الشرك، وبشريعته عن البدعة، وبطاعته عن معصيته، وبالتوكل عليه عن التعلق بغيره، وبمراد ربه عن مراد نفسه إلى غير ذلك مما يشتغل به من مرضاة الله عما سواه.
وحقيقته: انشغال العبد بما يقربه إلى الله عز وجل عما لا يقربه إليه وإن سمي فناء في اصطلاحهم.
وهذا فناء شرعي به جاءت الرسل، ونزلت الكتب، وبه قيام الدين والدنيا، وصلاح الآخرة والدنيا قال الله تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} . وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} .
وهذا هو الذوق الإيماني الحقيقي الذي لا يعادله ذوق، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» . وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا» .
القسم الثاني: صوفي بدعي وهو: الفناء عن شهود السوي أي عن شهود ما سوى الله تعالى، وذلك أنه بما ورد على قلبه من التعلق بالله عز وجل وضعفه عن تحمل هذا الوارد ومقاومته غاب عن قلبه كل ما سوى الله عز وجل ففني بهذه الغيبوبة عن شهود ما سواه، ففني بالمعبود عن العبادة وبالمذكور عن الذكر، حتى صار لا يدري أهو في عبادة وذكر أم لا، لأنه غائب عن ذلك بالمعبود والمذكور لقوة سيطرة الوارد على قلبه.
وهذا فناء يحصل لبعض أرباب السلوك، وهو فناء ناقص من وجوه:
الأول: أنه دليل على ضعف قلب الفاني، وأنه لم يستطع الجمع بين شهود المعبود والعبادة، والأمر والمأمور به، واعتقد أنه إذا شاهد العبادة والأمر اشتغل به عن المعبود والآمر، بل إذا ذكر العبادة والذكر كان ذلك اشتغالا عن المعبود والمذكور.
الثاني: أنه يصل بصاحبه إلى حال تشبه حال المجانين والسكارى حتى إنه ليصدر عنه من الشطحات القولية والفعلية المخالفة للشرع ما يعلم هو وغيره غلطه فيها كقول بعضهم في هذه الحال: "سبحاني. . سبحاني أنا الله. ما في الجبة إلا الله أنصب خيمتي على جهنم" ونحو ذلك من الهذيان والشطح.
الثالث: أن هذا الفناء لم يقع من المخلصين الكمل من عباد الله فلم يحصل للرسل، ولا للأنبياء، ولا للصديقين والشهداء. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة المعراج من آيات الله اليقينية ما لم يقع لأحد من البشر وفي هذه الحال كان صلى الله عليه وسلم على غاية من الثبات في قواه الظاهرة والباطنة كما قال الله تعالى عن قواه الظاهرة:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} . وقال عن قواه الباطنة: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} . وهاهم الخلفاء الراشدون أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أفضل البشر بعد الأنبياء وسادات أوليائهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء، وهاهم سائر الصحابة مع علو مقامهم وكمال أحوالهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء.
وإنما حدث هذا في عصر التابعين فوقع منه من بعض العباد والنساك ما وقع، فكان منهم من يصرخ، ومنهم من يصعق، ومنهم من يموت، وعرف هذا كثيرا في بعض مشايخ الصوفية.
ومن جعل هذا نهاية السالكين فقد ضل ضلالا مبينا، ومن جعله من لوازم السير إلى الله فقد أخطأ.
وحقيقته: أنه من العوارض التي تعرض لبعض السالكين لقوة الوارد على قلوبهم وضعفها عن مقاومته، وعن الجمع بين شهود العبادة والمعبود ونحو ذلك.
القسم الثالث: فناء إلحادي كفري وهو: الفناء عن وجود السوي. أي: عن وجود ما سوى الله عز وجل، بحيث يرى أن الخالق عين المخلوق، وأن الموجود عين الموجد، وليس ثمة رب ومربوب، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود وآمر ومأمور، بل الكل شيء واحد وعين واحدة.
وهذا فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود كابن عربي، والتلمساني وابن سبعين، والقونوي ونحوهم. . . وهؤلاء أكفر من النصارى من وجهين:
أحدهما: أن هؤلاء جعلوا الرب الخالق عين المربوب المخلوق وأولئك النصارى جعلوا الرب متحدا بعبده الذي اصطفاه بعد أن كانا غير متحدين.
الثاني: أن هؤلاء جعلوا اتحاد الرب ساريا في كل شيء في الكلاب والخنازير والأقذار، والأوساخ، وأولئك النصارى خصوه بمن عظموه كالمسيح. (1)
وتصور هذا القول كاف في رده، إذ مقتضاه: أن الرب والعبد شيء واحد، والآكل والمأكول شيء واحد، والناكح والمنكوح شيء واحد، والخصم والقاضي شيء واحد، والمشهود له وعليه والشاهد شيء واحد، وهذا غاية ما يكون من السفه والضلال.
قال الشيخ رحمه الله: ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه ويدعي أنه الله رب العالمين (2) فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوءها الذي تفترشه.
(1) ر: 2/172 مج ف ق.
(2)
ر: 2/378 مج ف ق..
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية عن هذه الطائفة:
فالقوم ما صانوه عن إنس ولا
…
جن ولا شجر ولا حيوان
لكنه المطعوم والملبوس وال
…
مشموم والمسموع بالآذان
وكذاك قالوا إنه المنكوح وال
…
مذبوح بل عين الغوي الزاني
إلى أن قال:
هذا هو المعبود عندهم فقل
…
سبحانك اللهم ذا السبحان
يا أمة معبودها موطوؤها
…
أين الإله وثغره الطعان
يا أمة قد صار من كفرانها
…
جزءا يسيرا جملة الكفران
فصل
ولا يتم الإسلام إلا بالبراءة مما سواه كما قال الله تعالى عن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وبين أن لنا فيه أسوة حسنة فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} . وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
والبراءة نوعان:
الأول: براءة من عمل.
الثاني: براءة من عامل.
فأما البراءة من العمل: فتجب من كل عمل محرم سواء كان كفرا، أم دونه فيبرأ المؤمن من الشرك، والزنى، وشرب الخمر ونحو ذلك بحيث لا يرضاه ولا يقره، ولا يعمل به، لأن الرضا بذلك، أو إقراره، أو العمل به مضادة لله تعالى ورضا بما لا يرضاه.
وأما البراءة من العامل: فإن كان عمله كفرا وجبت البراءة منه بكل حال من كل وجه لما سبق من الآيات الكريمة، ولأنه لم يتصف بما يقتضي ولاءه.
وإن كان عمله دون الكفر وجبت البراءة منه من وجه دون وجه فيوالى بما معه من الإيمان والعمل الصالح، ويتبرأ منه بما معه من المعاصي؛ لأن الفسوق لا ينافي أصل الإيمان، فقد يكون في الإنسان خصال فسوق، وخصال طاعة، وخصال إيمان، وخصال كفر كما قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} . فجعل الله تعالى الطائفتين المقتتلتين إخوة للطائفة المصلحة، ووصفهم بالإيمان مع أن قتال المؤمن لأخيه من خصال الكفر لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» . ولم تكن هذه
الخصلة الكفرية منافية لأصل الإيمان ولا رافعة للأخوة الإيمانية. ولا ريب أن الأخوة الإيمانية مقتضية للمحبة والولاية ويقوى مقتضاها بحسب قوة الإيمان والاستقامة.
وهذا الأصل -أعني أنه قد يجتمع في الإنسان خصلة إيمان، وخصلة كفر- هو ما دل عليه الكتاب، والسنة، وكان عليه السلف والأئمة، فتكون المحبة والولاية تابعة لما معه من خصال الإيمان، والكراهة والعداوة تابعة لما عنده من خصال الكفر.