الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
هذه الخاتمة تشتمل على قواعد عظيمة مفيدة:
القاعدة الأولى:
أن الله تعالى موصوف بالنفي والإثبات
يعني أن الله تعالى جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . وإنما جمع الله تعالى لنفسه بين النفي والإثبات لأنه لا يتم كمال الموصوف إلا بنفي صفات النقص، وإثبات صفات الكمال، وكل الصفات التي نفاها الله عن نفسه صفات نقص كالإعياء، واللغوب، والعجز، والظلم، ومماثلة المخلوقين.
وكل ما أثبته الله تعالى لنفسه فهو صفات كمال كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} . سواء كانت من الصفات الذاتية التي يتصف بها أزلا وأبدا، أم من الصفات الفعلية التي يتصف بها حيث تقتضيها حكمته، وإن كان أصل هذه الصفات الفعلية ثابتا له أزلا وأبدا فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالا.
فصل
فمن صفات الله تعالى التي أثبتها لنفسه: الحياة. والعلم. والقدرة. والسمع. والبصر.. والإرادة. والكلام. والعزة. والحكمة. والمغفرة. والرحمة.
فحياته تعالى حياة كاملة مستلزمة لكل صفات الكمال لم يسبقها عدم ولا يلحقها فناء كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} . وقال: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} . وقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .
وعلمه تعالى كامل شامل لكل صغير، وكبير، وقريب، وبعيد، لم يسبقه جهل، ولا يلحقه نسيان كما قال الله تعالى عن موسى حين سأله فرعون: ما بال القرون الأولى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وقدرته تعالى كاملة لم تسبق بعجز ولا يلحقها تعب قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . وقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} . وقال:
وحكمته تعالى حكمة بالغة منزهة عن العبث شاملة لخلقه وشرعه قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وقال: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وحكمته كسائر صفاته لا يحيط بها الخلق فقد نعجز عن إدراك الحكمة فيما خلقه أو شرعه، وقد ندرك منها ما يفتح الله به علينا.
وعلى هذا تجري سائر الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه فكلها صفات كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه.
فصل
ومن الصفات التي نفاها الله تعالى عن نفسه: الموت.. والجهل. والنسيان. والعجز.. والسنة. والنوم. واللغوب. والإعياء. والظلم.
قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} .
وقال عن موسى: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} .
وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} .
وقال: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} .
وقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . وقال: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} . وقال: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .
وكل صفة نفاها الله تعالى عن نفسه فإنها متضمنة لشيئين:
أحدهما: انتفاء تلك الصفة.
الثاني: ثبوت كمال ضدها.
ألا ترى إلى قوله:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} . فإن الله تعالى لما نفى عن نفسه العجز بين أن ذلك لكمال علمه وقدرته.
وعلى هذا فنفي الظلم عن نفسه، متضمن لكمال عدله.
ونفي اللغوب والعي، متضمن لكمال قوته.
ونفي السنة والنوم، متضمن لكمال حياته وقيوميته.
ونفي الموت، متضمن لكمال حياته.
وعلى هذا تجري سائر الصفات المنفية.
ولا يمكن أن يكون النفي في صفات الله عز وجل نفيا محضا، بل لا بد أن يكون لإثبات كمال وذلك للوجوه التالية:
الأول: أن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} أي الوصف الأكمل وهذا معدوم في النفي المحض.
الثاني: أن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فكيف يكون مدحا وكمالا.
الثالث: أن النفي -إن لم يتضمن كمالا- فقد يكون لعدم قابلية الموصوف لذلك المنفي أو ضده، لا لكمال الموصوف كما إذا قيل:" الجدار لا يظلم " فنفي الظلم عن الجدار ليس لكمال الجدار، ولكن لعدم قابلية اتصافه بالظلم أو العدل، وحينئذ لا يكون نفي الظلم عنه مدحا له ولا كمالا فيه.
الرابع: أن النفي -إن لم يتضمن كمالا- فقد يكون لنقص الموصوف أو لعجزه عنه كما لو قيل عن شخص عاجز عن الانتصار لنفسه ممن ظلمه: " إنه لا يجزي السيئة بالسيئة " فإن نفي مجازاته السيئة بمثلها ليس لكمال
عفوه ولكن لعجزه عن الانتصار لنفسه وحينئذ يكون نفي ذلك عنه نقصا وذما لا كمالا ومدحا.
ألم تر إلى قول الحماسي يهجو قومه:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
…
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إلى أن قال:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
…
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
…
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
يريد بذلك ذمهم ووصفهم بالعجز لا مدحهم بكمال العفو بدليل قوله بعد:
فليت لي بهمو قوما إذا ركبوا
…
شنوا الإغارة ركبانا وفرسانا
وبهذا علم أن الذين لا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المحض لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا بل ولا موجودا كقولهم في الله عز وجل: " إنه ليس بداخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين، ولا محايث (1) ، ولا فوق، ولا تحت، ولا متصل، ولا منفصل" ونحو ذلك.
ولهذا قال محمود بن سبكتكين (2) لمن ادعى ذلك في الخالق جل وعلا: " ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم "(3) . ولقد صدق
(1) المحايث: المداخل. ر 5 / 269 مجموع الفتاوى لابن القاسم.
(2)
محمود بن سبكتكين أحد كبار القادة يمين الدولة وأمين الملة استولى على الإمارة سنة 389 وأرسل إليه القادر بالله الخليفة العباسي خلعة السلطنة فقصد بلاد خراسان وامتدت سلطنته من أقاصي الهند إلى نيسابور كان تركي الأصل فصيحاً بليغاً حازماً صائب الرأي شجاعاً مجاهداً فتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم تتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده ومع ذلك كان في غاية الديانة والصيانة يكره المعاصي والملاهي وأهلها ويحب العلماء والصالحين ويجالسهم ويناظرهم مات في غزنة سنة 421 – 422 هـ عن ثلاث وستين سنة تولى الإمارة فيها ثلاثاً وثلاثين سنة رحمه الله وأكرم مثواه.
(3)
هو أبو بكر بن فورك المتكلم المعروف.
رحمه الله فإنه لن يوصف المعدوم بوصف أبلغ من هذا الوصف الذي وصفوا به الخالق جل وعلا.
فمن قال: لا هو مباين للعالم، ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال: لا هو قائم بنفسه، ولا بغيره، ولا قديم، ولا محدث، ولا متقدم على العالم، ولا مقارن له.
ومن قال: ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا متكلم، لزمه أن يكون ميتا، أصم، أعمى، أبكم. (1)
(1) انظر الرد على الطائفة الرابعة غلاة الغلاة ص 24.