المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة السادسةفي ضابط ما يجوز لله ويمتنع عنه نفيا وإثباتا - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٤

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌فتح رب البرية بتلخيص الحموية

- ‌الباب الأول: فيما يجب على العبد في دينه

- ‌الباب الثاني: فيما تضمنته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الثالث: في طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته

- ‌الباب الرابع: في بيان صحة مذهب السلف

- ‌الباب الخامس: في حكاية بعض المتأخرين لمذهب السلف

- ‌الباب السادس: في لبس الحق بالباطل من بعض المتأخرين

- ‌الباب السابع: في أقوال السلف المأثورة في الصفات

- ‌الباب الثامن: في علو الله تعالى وأدلة العلو

- ‌الباب التاسع: في الجهة

- ‌الباب العاشر: في استواء الله على عرشه

- ‌الباب الحادي عشر: في المعية

- ‌الباب الثاني عشر: في الجمع بين نصوص علو الله بذاته ومعيته

- ‌الباب الثالث عشر: في نزول الله إلى السماء الدنيا

- ‌الباب الرابع عشر: في إثبات الوجه لله تعالى

- ‌الباب الخامس عشر: في يدي الله عز وجل

- ‌الباب السادس عشر: في عيني الله تعالى

- ‌الباب السابع عشر: في الوجوه التي وردت عليها صفتا اليدين والعينين

- ‌الباب الثامن عشر: في كلام الله سبحانه وتعالى

- ‌فصلفي أن القرآن كلام الله

- ‌فصلفي اللفظ والملفوظ

- ‌الباب التاسع عشرفي ظهور مقالة التعطيل واستمدادها

- ‌الباب العشرونفي طريقة النفاة فيما يجب إثباته أو نفيه من صفات الله

- ‌فصلفيما يلزم على طريقة النفاة من اللوازم الباطلة

- ‌فصلفيما يعتمد عليه النفاة من الشبهات

- ‌الباب الحادي والعشرونفي أن كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل قد جمع بين التعطيل والتمثيل

- ‌الباب الثاني والعشرونفي تحذير السلف عن علم الكلام

- ‌الباب الثالث والعشرونفي أقسام المنحرفين عن الاستقامةفي باب الإيمان بالله واليوم الآخر

- ‌مذهب أهل التأويل في نصوص المعاد:

- ‌الباب الرابع والعشرونفي انقسام أهل القبلة في آيات الصفات وأحاديثها

- ‌الباب الخامس والعشرونفي ألقاب السوء التي وضعها المبتدعة على أهل السنة

- ‌الباب السادس والعشرونفي الإسلام والإيمان

- ‌فصلفي زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌فصلفي الاستثناء في الإيمان

- ‌تقريب التدمرية

- ‌مقدمة

- ‌الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر

- ‌الأصل الأول في الصفات

- ‌الممثلة

- ‌ المعطلة

- ‌القاعدة الأولى:أن الله تعالى موصوف بالنفي والإثبات

- ‌القاعدة الثانية: ما أخبر الله تعالى به في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجب علينا الإيمان به، سواء عرفنا معناه، أم لم نعرفه

- ‌القاعدة الثالثةفي إجراء النصوص على ظاهرها

- ‌القاعدة الرابعةتوهم بعض الناس في نصوص الصفات والمحاذير المترتبة على ذلك

- ‌القاعدة الخامسةفي علمنا بما أخبر الله تعالى به عن نفسه

- ‌القاعدة السادسةفي ضابط ما يجوز لله ويمتنع عنه نفيا وإثباتا

- ‌فصلالأصل الثانيفي القدر والشرع

- ‌فصلفي ضرورة الإيمان بالقدر والشرع

- ‌فصلمبنى الإسلام على توحيد الله عز وجل

- ‌فصلفي الفناء وأقسامه

- ‌فصلالمؤمن مأمور بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور

- ‌فصلفي المفاضلة والمقارنة بين أرباب البدع

- ‌تعليقات على العقيدة الواسطية

- ‌ العقيدة الواسطية

- ‌شيخ الإسلام بن تيمية:

- ‌طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته:

- ‌أسماء الله وصفاته توقيفية

- ‌طريقة القرآن والسنة في صفات الله من حيث الإجمال والتفصيل:

- ‌الأصول التي كان أهل السنة وسطًا فيها بين فرق الأمة

- ‌أشار المؤلف إلى طوائف من أهل البدع:

- ‌اليوم الآخر:

- ‌الأشياء التي ذكر المؤلف أنها تكون يوم القيامة:

- ‌الإيمان بالقضاء والقدر:

- ‌الإيمان:

- ‌الصحابي وموقف أهل السنة من الصحابة:

- ‌موقف أهل السنة في الخلاف والفتن التي حصلت بين الصحابة رضي الله عنهم:

- ‌قول أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء:

- ‌طريقة أهل السنة والجماعة في سيرتهم وعملهم:

- ‌الأمور التي يزن بها أهل السنة والجماعة ما كان عليه الناس من العقائد والأعمال والأخلاق:

الفصل: ‌القاعدة السادسةفي ضابط ما يجوز لله ويمتنع عنه نفيا وإثباتا

‌القاعدة السادسة

في ضابط ما يجوز لله ويمتنع عنه نفيا وإثباتا

صفات الله تعالى دائرة بين النفي والإثبات -كما سبق- فلا بد من ضابط لهذا وذاك.

فالضابط في النفي أن يُنفى عن الله تعالى:

أولا: كل صفة عيب، كالعمى والصمم والخرس والنوم والموت ونحو ذلك.

ثانيا: كل نقص في كماله كنقص حياته أو علمه أو قدرته أو عزته أو حكمته أو نحو ذلك.

ثالثا: مماثلته للمخلوقين كأن يُجعل علمه كعلم المخلوق أو وجهه كوجه المخلوق أو استواؤه على عرشه كاستواء المخلوق ونحو ذلك.

فمن أدلة انتفاء الأول عنه: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} فإن ثبوت المثل الأعلى له وهو الوصف الأعلى يستلزم انتفاء كل صفة عيب.

ومن أدلة انتفاء الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} .

ومن أدلة انتفاء الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

وبهذا علم أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وذلك لوجهين:

الأول: أنه إن أريد بالنفي نفي التشابه المطلق - أي نفي التساوي من كل وجه بين الخالق والمخلوق - فإن هذا لغو من القول؛ إذ لم يقل أحد بتساوي الخالق والمخلوق من كل وجه بحيث يثبت لأحدهما من الجائز

ص: 193

والممتنع، والواجب ما يثبت للآخر، ولا يمكن أن يقوله عاقل يتصور ما يقول فإنه مما يعلم بضرورة العقل، وبداهة الحس انتفاؤه وإذا كان كذلك لم يكن لنفيه فائدة.

وإن أريد بالنفي نفي مطلق التشابه - أي نفي التشابه من بعض الوجوه - فهذا النفي لا يصح إذ ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه، وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر فيتشابهان من وجه ويفترقان من وجه.

فالحياة " مثلا " وصف مشترك بين الخالق والمخلوق، قال الله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} . وقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . لكن حياة الخالق تختص به فهي حياة كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء، بخلاف حياة المخلوق فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوة بفناء، قال الله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .

فالقدر المشترك "وهو مطلق الحياة" كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، لكن ما يختص به كل واحد ويتميز به لم يقع فيه اشتراك وحينئذ لا محذور من الاشتراك في هذا المعنى الكلي، وإنما المحذور أن يجعل أحدهما مشاركا للآخر فيما يختص به.

ثم إن إرادة ذلك -أعني نفي مطلق التشابه- تستلزم التعطيل المحض، لأنه إذا نفى عن الله تعالى صفة الوجود " مثلا " بحجة أن للمخلوق صفة وجود فإثباتها للخالق يستلزم التشبيه على هذا التقدير؛ لزم على نفيه أن يكون الخالق معدوما، ثم يلزمه على هذا اللازم الفاسد أن

ص: 194

يقع في تشبيه آخر وهو تشبيه الخالق بالمعدوم لاشتراكهما في صفة العدم فيلزمه على قاعدته - تشبيهه بالمعدوم - فإن نفى عنه الوجود والعدم، وقع في تشبيه ثالث أشد وهو تشبيهه بالممتنعات لأن الوجود والعدم نقيضان يمتنع انتفاؤهما كما يمتنع اجتماعهما.

فإن قال قائل: إن الشيء إذا شارك غيره من وجه جاز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على الآخر، وامتنع عليه ما يمتنع، ووجب له ما يجب؟.

فالجواب من وجهين:

أحدهما: المنع، فيقال لا يلزم من اشتراك الخالق والمخلوق في أصل الصفة أن يتماثلا فيما يجوز ويمتنع ويجب؛ لأن مطلق المشاركة لا يستلزم المماثلة.

الثاني: التسليم، فيقال هب أن الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعا، فإذا اشتركا في صفة الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، واختص كل موصوف بما يستحقه ويليق به، كان اشتراكهما في ذلك أمرا ممكنا لا محذور فيه أصلا، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فإن كل موجودين لا بد بينهما من مثل هذا، ومن نفاه لزمه تعطيل وجود كل موجود، لأن نفي القدر المشترك يلزم منه التعطيل العام.

وهذا الموضع من فهمه فهما جيدا وتدبره زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام.

ص: 195

فصل

الوجه الثاني: مما يدل على أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه: أن الناس اختلفوا في تفسير التشبيه، فقد يفسره بعضهم بما لا يراه الآخرون تشبيها.

مثال ذلك مع المعتزلة ومن سلك طريقهم من النفاة: أنهم جعلوا من أثبت لله تعالى علما قديما، أو قدرة قديمة مشبها ممثلا؛ لأن القدم أخص وصف الإله عند جمهورهم، فمن أثبت له علما قديما، أو قدرة قديمة فقد أثبت له مثيلا. والمثبتون يجيبونهم بالمنع تارة، وبالتسليم تارة.

أما المنع فيقولون: ليس القدم أخص وصف الإله، وإنما أخص وصف الإله ما لا يتصف به غيره، مثل: كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه الإله ونحو ذلك. والصفات وإن وصفت بالقدم كما توصف به الذات لا يقتضي ذلك أن تكون إلها أو ربا أو نحو ذلك، كما أن النبي - مثلا - يوصف بالحدوث، وتوصف صفاته بالحدوث، ولا يقتضي ذلك أن تكون صفاته نبيا.

وعلى هذا فلا يكون إثبات الصفات القديمة لله تعالى تمثيلا، ولا تشبيها.

وأما التسليم فيقولون: نحن وإن سلمنا أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيها أو تمثيلا فإنه لم ينفه عقل ولا سمع، وحينئذ فلا مانع من إثباته.

فالقرآن إنما نفى مسمى المثل، والكفء، والند، ونحو ذلك والصفة

ص: 196

في لغة العرب التي نزل بها القرآن ليست مثل الموصوف، ولا كفؤا له، ولا ندا فلا تدخل فيما نفاه القرآن.

فالواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية، والعقلية فقط.

مثال آخر: مع الأشاعرة ونحوهم ممن ينفي علوه على عرشه ونحوه دون صفة الحياة، والعلم، والقدرة ونحوها فيقول: إن هذه الصفات قد تقوم بما ليس بجسم بخلاف العلو فإنه لا يقوم إلا بجسم فلو أثبتناه لزم أن يكون جسما، والأجسام متماثلة فيلزم التشبيه.

والمثبتون يجيبونهم تارة بمنع المقدمة الأولى وهي قولهم: " إن العلو لا يقوم إلا بجسم " وتارة بمنع المقدمة الثانية وهي قولهم: " إن الأجسام متماثلة " وتارة بمنع المقدمتين، وتارة بالاستفصال. فيقولون: إن أردتم بالجسم جسما مؤلفا من لحم وعظم وأجزاء يفتقر بعضها إلى بعض، أو يحتاج إلى مقومات خارجية، فهذا ممتنع بالنسبة إلى الله الغني الحميد، وليس بلازم من إثبات الصفات. وإن أردتم بالجسم ما كان قائما بنفسه موصوفا بالصفات اللائقة به، فهذا حق ثابت لله عز وجل ولا يلزم عليه شيء من اللوازم الباطلة.

وإذا تبين اختلاف الناس في تفسير التشبيه صار الاعتماد على مجرد نفيه باطلا؛ لأنه يلزم منه نفي صفات الكمال عن الله تعالى عند من يرى أن إثباتها يستلزم التشبيه.

وعلى هذا فالضابط الصحيح فيما ينفى عن الله تعالى ما سبق في أول القاعدة.

ص: 197

فصل

فإذا تبين أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وأنه طريق فاسد، فإن أفسد منه ما يسلكه بعض الناس حيث يعتمدون فيما ينفى عن الله تعالى على نفي التجسيم والتحيز ونحو ذلك، فتجدهم إذا أرادوا أن يحتجوا على من وصف الله تعالى بالنقائص من الحزن، والبكاء، والمرض، والولادة ونحوها يقولون له: لو اتصف الله بذلك لكان جسما، أو متحيزا، وهذا ممتنع هذه حجتهم عليه.

وهذه طريقة فاسدة لا يحصل بها المقصود لوجوه:

الأول: أن لفظ " الجسم " و" الجوهر " و" التحيز " ونحوها عبارات مجملة مشتبهة لا تحق حقا، ولا تبطل باطلا، ولذلك لم تذكر فيما وصف الله وسمى به نفسه لا نفيا ولا إثباتا، لا في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يسلكه أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هي عبارات مبتدعة أنكرها السلف والأئمة.

الثاني: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص أظهر فسادا في العقل والدين من وصفه بالتحيز والتجسيم، فإن كفر من وصفه بهذه النقائص معلوم بالضرورة من الدين، بخلاف التحيز والتجسيم لما فيهما من الاشتباه والخفاء.

وإذا كان وصف الله تعالى بهذه النقائص أظهر فسادا من وصفه بالحيز والجسم، فإنه لا يصح الاستدلال بالأخفى على الأظهر؛ لأن الدليل مبين للمدلول ومثبت له، فلا بد أن يكون أبين وأظهر منه.

الثالث: أن من وصفوه بهذه النقائص يمكنهم أن يقولوا نحن نصفه

ص: 198

بذلك ولا نقول بالتجسيم والتحيز كما يقوله من يثبت لله صفات الكمال مع نفي القول بالتجسيم والتحيز فيكون كلام من يصف الله بصفات الكمال ومن يصفه بصفات النقص واحدا، ويبقى الرد عليهما بطريق واحد وهو أن الإثبات مستلزم للتجسيم والتحيز وهذا في غاية الفساد والبطلان.

الرابع: أن الذين اعتمدوا في ضابط ما ينفى عن الله على نفي التجسيم والتحيز نفوا عن الله تعالى صفات الكمال بهذه الطريقة. واتصاف الله تعالى بصفات الكمال واجب ثابت بالسمع، والعقل فيكون كل ما اقتضى نفيه باطلا بالسمع والعقل، وبه يتبين فساد تلك الطريقة وبطلانها.

الخامس: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون فكل من أثبت شيئا ونفى غيره ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، وكل من نفى شيئا وأثبت غيره ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي.

مثال ذلك: أن من أثبتوا لله تعالى الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام دون غيرها من الصفات قال لهم نفاة ذلك كالمعتزلة: إثبات هذه تجسيم لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجسم.

فيرد عليهم أولئك بأنكم أنتم أثبتم أنه حي، عليم، قدير، وقلتم ليس بجسم مع أنكم لا تعرفون حيا، عالما قادرا إلا جسما فأثبتموه على خلاف ما عرفتم فكذلك نحن نثبت هذه الصفات ولا نقول: إنه جسم فهذا تناقض المعتزلة، أما تناقض خصومهم الذين أثبتوا الصفات السبع السابقة دون غيرها فقد قالوا لمن أثبت صفة الرضا، والغضب، ونحوها: إثبات الرضا والغضب، والاستواء، والنزول، والوجه، واليدين ونحوها تجسيم لأننا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم.

ص: 199

فيرد عليهم المثبتة بأنكم أنتم وصفتموه بالحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، ولا يعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، فإن لزمنا التجسيم فيما أثبتناه لزمكم فيما أثبتموه، وإن لم يلزمكم فيما أثبتموه لم يلزمنا فيما أثبتناه وإن ألزمتمونا به، لأنه لا فرق بين الأمرين وتفريقكم بينهما تناقض منكم.

ص: 200

فصل

وأما الضابط في باب الإثبات فأن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات الكمال على وجه لا نقص فيه بأي حال من الأحوال لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل الذي لا يماثله شيء.

فصفات الله تعالى كلها صفات كمال، سواء كانت صفات ثبوت أم صفات نفي، وقد سبق أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله تعالى، وأن المقصود بصفات النفي نفي تلك الصفة لاتصافه بكمال ضدها.

ولهذا لا يصح في ضابط الإثبات أن نعتمد على مجرد الإثبات بلا تشبيه لأنه لو صح ذلك لجاز أن يثبت المفتري لله سبحانه كل صفة نقص مع نفي التشبيه، فيصفه بالحزن، والبكاء، والجوع، والعطش ونحوها مما ينزه الله عنه مع نفي التشبيه، فيقول: إن الله يحزن لا كحزن العباد، ويبكي لا كبكائهم، ويجوع لا كجوعهم، ويعطش لا كعطشهم، ويأكل لا كأكلهم، كما أنه يفرح لا كفرحهم، ويضحك لا كضحكهم، ويتكلم لا ككلامهم.

ولجاز أيضا أن يثبت المفتري لله سبحانه أعضاء كثيرة مع نفي التشبيه فيقول: إن لله تعالى كبدا لا كأكباد العباد، وأمعاء لا كأمعائهم، ونحو ذلك مما ينزه الله تعالى عنه، كما أن له وجها لا كوجوههم، ويدين لا كأيديهم.

ثم يقول المفتري لمن نفى ذلك وأثبت الفرح، والضحك، والكلام،

ص: 201

والوجه، واليدين أي فرق بين ما نفيت وما أثبت، إذا جعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في الإثبات فأنا لم أخرج عن هذا الضابط فإني أثبت ذلك بدون تشبيه.

فإن قال النافي: الفرق هو السمع (أي الدليل من الكتاب والسنة) فما جاء به الدليل أثبته، وما لم يجئ به لم أثبته.

قال المفتري: السمع خبر والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه لأنه قد يثبت بدليل آخر، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع، ومن المعلوم أن السمع لم يرد بنفي كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة فلم يرد بنفي الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش، ونفي الكبد، والمعدة، والأمعاء وإذا لم يرد بنفيها جاز أن تكون ثابتة في نفس الأمر فلا يجوز نفيها بلا دليل، وبهذا ينقطع النافي لهذه الصفات، حيث اعتمد فيما ينفيه على مجرد نفي التشبيه ويعلم أنه لا يصح الاعتماد عليها، وإنما الاعتماد على ما دل عليه السمع والعقل من وصف الله تعالى بصفات الكمال على وجه لا نقص فيه، وعلى هذا فكل ما ينافي صفات الكمال الثابتة لله فالله منزه عنه؛ لأن ثبوت أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه.

وبهذا يمكن دفع ما أثبته هذا المفتري لله تعالى من صفات النقص فيقال: الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش صفات نقص منافية لكماله فتكون منتفية عن الله ويقال أيضا: الأكل، والشرب مستلزم للحاجة والحاجة نقص وما استلزم النقص فهو نقص. ويقال أيضا: الكبد، والمعدة، والأمعاء آلات الأكل والشرب والمنزه عن الأكل والشرب منزه عن آلات ذلك.

وأما الفرح، والضحك، والغضب، ونحوها فهي صفات كمال لا

ص: 202

نقص فيها فلا تنتفي عنه لكنها لا تماثل ما يتصف به المخلوق منها، فإنه سبحانه لا كفؤ له، ولا سمي، ولا مثل فلا يجوز أن تكون حقيقة ذاته كحقيقة شيء من ذوات المخلوقين، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقين لأنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة، ولا الآدميين، ولا السماوات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الأرض ولا غير ذلك.

بل يعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، لأن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على الواحدة ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما يجب للأخرى، وامتنع عليها ما يمتنع على الأخرى، فيلزم أن يجوز على الخالق الواجب بنفسه ما يجوز على المخلوق المحدث، وأن يثبت لهذا المخلوق ما يثبت للخالق فيكون الشيء الواحد واجبا بنفسه غير واجب بنفسه، موجودا معدوما، وهذا جمع بين النقيضين.

ص: 203