الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: في بيان صحة مذهب السلف
وبطلان القول بتفضيل مذهب الخلف
في العلم والحكمة على مذهب السلف
سبق القول في بيان طريقة السلف وذكر الدليل على وجوب الأخذ بها، أما هنا فإننا نريد أن نبرهن على أن مذهب السلف هو المذهب الصحيح وذلك من وجهين:
أحدهما: أن مذهب السلف دل عليه الكتاب، والسنة، فإن من تتبع طريقتهم بعلم، وعدل وجدها مطابقة لما في الكتاب والسنة جملة وتفصيلا ولا بد فإن الله تعالى أنزل الكتاب ليدبر الناس آياته، ويعملوا بها إن كانت أحكاما، ويصدقوا بها إن كانت أخبارا، ولا ريب أن أقرب الناس إلى فهمها وتصديقها والعمل بها هم السلف، لأنها جاءت بلغتهم وفي عصرهم، فلا جرم أن يكونوا أعلم الناس بها فقها، وأقومهم عملا.
الثاني: أن يقال: إن الحق في هذا الباب إما أن يكون فيما قاله السلف، أو فيما قاله الخلف. والثاني باطل، لأنه يلزم عليه أن يكون الله ورسوله، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، قد تكلموا بالباطل تصريحا، أو ظاهرا، ولم يتكلموا مرة واحدة بالحق الذي يجب اعتقاده لا تصريحا ولا ظاهرا فيكون وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين، وترك الناس بلا كتاب ولا سنة خيرا لهم وأقوم، وهذا ظاهر البطلان.
هذا وقد قال بعض الأغبياء: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
ومنشأ هذا القول أمران:
أحدهما: اعتقاد قائله- بسبب ما عنده من الشبهات الفاسدة - أن الله تعالى ليس له في نفس الأمر صفة حقيقية دلت عليها هذه النصوص.
الثاني: اعتقاده أن طريقة السلف هي الإيمان بمجرد ألفاظ نصوص الصفات من غير إثبات معنى لها، فيبقى الأمر دائرا بين أن نؤمن بألفاظ جوفاء لا معنى لها وهذه طريقة السلف - على زعمه- وبين أن نثبت للنصوص معاني تخالف ظاهرها الدال على إثبات الصفات لله وهذه هي طريقة الخلف، ولا ريب أن إثبات معاني النصوص أبلغ في العلم والحكمة من إثبات ألفاظ جوفاء ليس لها معنى، ومن ثم فضل هذا الغبي طريقة الخلف في العلم والحكمة على طريقة السلف.
وقول هذا الغبي يتضمن حقا وباطلا: فأما الحق فقوله: " إن مذهب السلف أسلم" وأما الباطل فقوله: " إن مذهب الخلف أعلم وأحكم " وبيان بطلانه من وجوه:
الوجه الأول: أنه يناقض قوله: (إن طريقة السلف أسلم) فإن كون طريقة السلف أسلم من لوازم كونها أعلم وأحكم، إذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة، العلم بأسباب السلامة، والحكمة في سلوك تلك الأسباب، وبهذا يتبين أن طريقة السلف أسلم، وأعلم، وأحكم، وهو لازم لهذا الغبي لزوما لا محيد عنه.
الوجه الثاني: أن اعتقاده أن الله ليس له صفة حقيقية دلت عليها هذه النصوص اعتقاد باطل، لأنه مبني على شبهات فاسدة ولأن الله تعالى قد ثبتت له صفات الكمال عقلا، وفطرة، وشرعا:
فأما دلالة العقل على ثبوت صفات الكمال لله فوجهه أن يقال: إن
كل موجود في الخارج فلا بد أن يكون له صفة إما صفة كمال، وإما صفة نقص، والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، وبذلك استدل الله تعالى على بطلان ألوهية الأصنام باتصافها بصفات النقص والعجز بكونها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر، ولا تخلق، ولا تنصر فإذا بطل الثاني تعين الأول وهو ثبوت صفات الكمال لله.
ثم إنه قد ثبت بالحس والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، والله سبحانه هو الذي أعطاه إياها فمعطي الكمال أولى به.
وأما دلالة الفطرة على ثبوت صفات الكمال لله فلأن النفوس السليمة مجبولة ومفطورة على محبة الله، وتعظيمه، وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من عرفت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته.
وأما دلالة الشرع على ثبوت صفات الكمال لله: فأكثر من أن تحصر مثل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ} .إلى قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا، بصيرا، قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» .
(1) راجع ص (95) في الفصل الثاني من الباب العشرين.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
الوجه الثالث: أن اعتقاده أن طريقة السلف مجرد الإيمان بألفاظ النصوص بغير إثبات معناها، اعتقاد باطل كذب على السلف، فإن السلف أعلم الأمة بنصوص الصفات لفظا ومعنى، وأبلغهم في إثبات معانيها اللائقة بالله تعالى على حسب مراد الله ورسوله.
الوجه الرابع: أن السلف هم ورثة الأنبياء والمرسلين فقد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية وحقائق الإيمان.
أما أولئك الخلف فقد تلقوا ما عندهم من المجوس، والمشركين وضلال اليهود، واليونان. فكيف يكون ورثة المجوس، والمشركين، واليهود، واليونان، وأفراخهم، أعلم، وأحكم في أسماء الله وصفاته من ورثة الأنبياء والمرسلين؟!
الوجه الخامس: أن هؤلاء الخلف الذين فضل هذا الغبي طريقتهم في العلم والحكمة على طريقة السلف كانوا حيارى مضطربين بسبب إعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، والتماسهم علم معرفة الله تعالى ممن لا يعرفه بإقراره على نفسه وشهادة الأمة عليه حتى قال الرازي وهو من رؤسائهم مبينا ما ينتهي إليه أمرهم:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) . {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}
(1) راجع ص (91) في الباب التاسع عشر.
واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي" اهـ كلامه.
فكيف تكون طريقة هؤلاء الحيارى الذين أقروا على أنفسهم بالضلال والحيرة أعلم، وأحكم من طريقة السلف الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، والذين أدركوا من حقائق الإيمان والعلوم ما لو جمع إليه ما حصل لغيرهم لاستحيا من يطلب المقارنة فكيف بالحكم بتفضيل غيرهم عليهم؟!
وبهذا يتبين أن طريقة السلف أسلم، وأعلم، وأحكم.