المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الخامسةفي علمنا بما أخبر الله تعالى به عن نفسه - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ٤

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌فتح رب البرية بتلخيص الحموية

- ‌الباب الأول: فيما يجب على العبد في دينه

- ‌الباب الثاني: فيما تضمنته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب الثالث: في طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته

- ‌الباب الرابع: في بيان صحة مذهب السلف

- ‌الباب الخامس: في حكاية بعض المتأخرين لمذهب السلف

- ‌الباب السادس: في لبس الحق بالباطل من بعض المتأخرين

- ‌الباب السابع: في أقوال السلف المأثورة في الصفات

- ‌الباب الثامن: في علو الله تعالى وأدلة العلو

- ‌الباب التاسع: في الجهة

- ‌الباب العاشر: في استواء الله على عرشه

- ‌الباب الحادي عشر: في المعية

- ‌الباب الثاني عشر: في الجمع بين نصوص علو الله بذاته ومعيته

- ‌الباب الثالث عشر: في نزول الله إلى السماء الدنيا

- ‌الباب الرابع عشر: في إثبات الوجه لله تعالى

- ‌الباب الخامس عشر: في يدي الله عز وجل

- ‌الباب السادس عشر: في عيني الله تعالى

- ‌الباب السابع عشر: في الوجوه التي وردت عليها صفتا اليدين والعينين

- ‌الباب الثامن عشر: في كلام الله سبحانه وتعالى

- ‌فصلفي أن القرآن كلام الله

- ‌فصلفي اللفظ والملفوظ

- ‌الباب التاسع عشرفي ظهور مقالة التعطيل واستمدادها

- ‌الباب العشرونفي طريقة النفاة فيما يجب إثباته أو نفيه من صفات الله

- ‌فصلفيما يلزم على طريقة النفاة من اللوازم الباطلة

- ‌فصلفيما يعتمد عليه النفاة من الشبهات

- ‌الباب الحادي والعشرونفي أن كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل قد جمع بين التعطيل والتمثيل

- ‌الباب الثاني والعشرونفي تحذير السلف عن علم الكلام

- ‌الباب الثالث والعشرونفي أقسام المنحرفين عن الاستقامةفي باب الإيمان بالله واليوم الآخر

- ‌مذهب أهل التأويل في نصوص المعاد:

- ‌الباب الرابع والعشرونفي انقسام أهل القبلة في آيات الصفات وأحاديثها

- ‌الباب الخامس والعشرونفي ألقاب السوء التي وضعها المبتدعة على أهل السنة

- ‌الباب السادس والعشرونفي الإسلام والإيمان

- ‌فصلفي زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌فصلفي الاستثناء في الإيمان

- ‌تقريب التدمرية

- ‌مقدمة

- ‌الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر

- ‌الأصل الأول في الصفات

- ‌الممثلة

- ‌ المعطلة

- ‌القاعدة الأولى:أن الله تعالى موصوف بالنفي والإثبات

- ‌القاعدة الثانية: ما أخبر الله تعالى به في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجب علينا الإيمان به، سواء عرفنا معناه، أم لم نعرفه

- ‌القاعدة الثالثةفي إجراء النصوص على ظاهرها

- ‌القاعدة الرابعةتوهم بعض الناس في نصوص الصفات والمحاذير المترتبة على ذلك

- ‌القاعدة الخامسةفي علمنا بما أخبر الله تعالى به عن نفسه

- ‌القاعدة السادسةفي ضابط ما يجوز لله ويمتنع عنه نفيا وإثباتا

- ‌فصلالأصل الثانيفي القدر والشرع

- ‌فصلفي ضرورة الإيمان بالقدر والشرع

- ‌فصلمبنى الإسلام على توحيد الله عز وجل

- ‌فصلفي الفناء وأقسامه

- ‌فصلالمؤمن مأمور بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور

- ‌فصلفي المفاضلة والمقارنة بين أرباب البدع

- ‌تعليقات على العقيدة الواسطية

- ‌ العقيدة الواسطية

- ‌شيخ الإسلام بن تيمية:

- ‌طريقة أهل السنة في أسماء الله وصفاته:

- ‌أسماء الله وصفاته توقيفية

- ‌طريقة القرآن والسنة في صفات الله من حيث الإجمال والتفصيل:

- ‌الأصول التي كان أهل السنة وسطًا فيها بين فرق الأمة

- ‌أشار المؤلف إلى طوائف من أهل البدع:

- ‌اليوم الآخر:

- ‌الأشياء التي ذكر المؤلف أنها تكون يوم القيامة:

- ‌الإيمان بالقضاء والقدر:

- ‌الإيمان:

- ‌الصحابي وموقف أهل السنة من الصحابة:

- ‌موقف أهل السنة في الخلاف والفتن التي حصلت بين الصحابة رضي الله عنهم:

- ‌قول أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء:

- ‌طريقة أهل السنة والجماعة في سيرتهم وعملهم:

- ‌الأمور التي يزن بها أهل السنة والجماعة ما كان عليه الناس من العقائد والأعمال والأخلاق:

الفصل: ‌القاعدة الخامسةفي علمنا بما أخبر الله تعالى به عن نفسه

‌القاعدة الخامسة

في علمنا بما أخبر الله تعالى به عن نفسه

ما أخبرنا الله به عن نفسه فهو معلوم لنا من جهة، ومجهول من جهة.

معلوم لنا من جهة المعنى، ومجهول لنا من جهة الكيفية.

أما كونه معلوما لنا من جهة المعنى فثابت بدلالة السمع، والعقل.

فمن أدلة السمع قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} . وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . وقوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» .

فحث الله تعالى على تدبر القرآن كله ولم يستثن شيئا منه، ووبخ من لم يتدبره، وبين أن الحكمة من إنزاله أن يتدبره الذين أنزل إليهم ويتعظ به أصحاب العقول، ولولا أن له معنى بالتدبر لكان الحث على تدبره من لغو القول، ولكان الاشتغال بتدبره من إضاعة الوقت، ولفاتت الحكمة من إنزاله، ولما حسن التوبيخ على تركه.

والحث على تدبر القرآن شامل لتدبر جميع آياته الخبرية العلمية والحكمية العملية، فكما أننا مأمورون بتدبر آيات الأحكام لفهم معناها

ص: 173

والعمل بمقتضاها، إذ لا يمكن العمل بها بدون فهم معناها، فكذلك نحن مأمورون بتدبر آيات الأخبار لفهم معناها، واعتقاد مقتضاها، والثناء على الله تعالى بها، إذ لا يمكن اعتقاد ما لم نفهمه، أو الثناء على الله تعالى به.

وأما دلالة العقل على فهم معاني ما أخبر الله تعالى به عن نفسه فمن وجهين:

أحدهما: أن ما أخبر الله به عن نفسه أعلى مراتب الأخبار وأغلى مطالب الأخيار، فمن المحال أن يكون ما أخبر الله به عن نفسه مجهول المعنى، وما أخبر به عن فرعون، وهامان، وقارون، وعن قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين من بعدهم، معلوم المعنى مع أن ضرورة الخلق لفهم معنى ما أخبر الله به عن نفسه أعظم وأشد.

الثاني: أنه من المحال أن ينزل الله تعالى على عباده كتابا يعرفهم به بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، ويصفه بأنه عليّ حكيم (1) ، كريم (2) ، عظيم (3) ، مجيد (4) ، مبين بلسان عربي ليعقل ويفهم (5) . ثم تكون كلماته في أعظم المطالب غير معلومة المعنى، بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يعلمها الناس إلا أماني، ولا يخرجون بعلمها عن صفة الأمية كما قال تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} .

فإن قلت: ما الجواب عن قوله تعالى:

(1)(وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) .

(2)

(إنه لقرآن كريم) .

(3)

(ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) .

(4)

(بل هو قرآن مجيد) .

(5)

(حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون) .

ص: 174

{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} . فإن هذا يقتضي أن في القرآن آيات متشابهات لا يعلم تأويلهن إلا الله؟

قلنا: الجواب أن للسلف في الوقف في هذه الآية قولين:

أحدهما: الوقف عند قوله: إلا الله وهو قول جمهور السلف والخلف وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله: وما يعلم تأويله إلا الله الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، لا التفسير الذي هو بيان المعنى فتأويل آيات الصفات على هذا هو حقيقة تلك الصفات وكنهها وهذا من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل ولم يرد بها السمع فلا يعلمها إلا الله.

الثاني: الوصل فلا يقفون على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} وهو قول جماعة من السلف والخلف، وبناء عليه يكون المراد بالتأويل في قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} . التفسير الذي هو بيان المعنى. وهذا معلوم للراسخين في العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: " أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله". وقال مجاهد: " عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عن تفسيرها".

وبهذا تبين أن الآية لا تدل على أن في القرآن شيئا لا يعلم معناه إلا الله تعالى، وإنما تدل على أن في القرآن شيئا لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله، على قراءة الوقف، وتدل على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل، وعلى هذا فلا تعارض ما ذكرناه من أنه ليس في القرآن شيء لا يعلم معناه.

ص: 175

فصل

وأما كون ما أخبرنا الله به عن نفسه مجهولا لنا من جهة الكيفية فثابت بدلالة السمع، والعقل.

فأما دلالة السمع فمن وجهين:

الأول: قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . فإن نفي الإحاطة بالله علما، شامل للإحاطة بذاته، وصفاته، فلا يعلم حقيقة ذاته وكنهها إلا هو سبحانه وتعالى، وكذلك صفاته.

الثاني: أن الله أخبرنا عن ذاته وصفاته، ولم يخبرنا عن كيفيتها، وعقولنا لا تدرك ذلك، فتكون الكيفية مجهولة لنا، لا يحل لنا أن نتكلم فيها أو نقدرها بأذهاننا لقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

وأما دلالة العقل على ذلك: فلأن الشيء لا تدرك كيفيته إلا بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره المساوي له، أو الخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية ذات الله تعالى وصفاته، فتكون كيفية ذات الله وصفاته مجهولة لنا.

ص: 176

وأيضا فإننا نقول: ما هي الكيفية التي تقدرها لذات الله تعالى وصفاته؟ ! إن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها بلسانك فالله أعظم وأجل من ذلك، وإن أي كيفية تقدرها في ذهنك، أو تنطق بها بلسانك فستكون كاذبا فيها، لأنه ليس لك دليل عليها.

ص: 177

تتمة

بهذا التقرير الذي تبين به أنه لا يمكن أن يكون في القرآن شيء لا يعلم معناه إلا الله يتبين بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني آيات الصفات ويدعون أن هذا هو مذهب السلف وقد ضلوا فيما ذهبوا إليه، وكذبوا فيما نسبوه إلى السلف، فإن السلف إنما يفوضون علم الكيفية دون علم المعنى، وقد تواترت النقول عنهم بإثبات معاني هذه النصوص إجمالا أحيانا، وتفصيلا أحيانا، فمن الإجمال قولهم:" أمروها كما جاءت بلا كيف " ومن التفصيل ما سبق عن مالك في الاستواء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه " درء تعارض العقل والنقل " المعروف باسم " العقل والنقل" 1\16 المطبوع على هامش منهاج السنة 1\201 تحقيق رشاد سالم " وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله". إلى أن قال: " فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاما لا يعقلون معناه". قال: " ومعلوم أن هذا قدح في القرآن، والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر، ونهى،

ص: 178

ووعد وتوعد، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سدا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلا عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد". اهـ كلامه رحمه الله.

ص: 179

فصل

في التأويل

التأويل لغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأوْل وهو الرجوع.

وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه، بشرح معناه، أو حصول مقتضاه ويطلق على ثلاثة معان:

الأول: " التفسير " وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} . وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: " «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» . وسبق قول ابن عباس رضي الله عنهما:" أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله". ومنه قول ابن جرير وغيره من المفسرين: " تأويل قوله تعالى" أي تفسيره.

والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم.

المعنى الثاني: مآل الكلام إلى حقيقته، فإن كان خبرا فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه وذلك في حق الله كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره وإن كان طلبا فتأويله امتثال المطلوب.

مثال الخبر: قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء، ومنه

ص: 180

قوله تعالى عن يوسف: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} .

ومثال الطلب: قول عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن أي يمتثل ما أمره الله به في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} » .

وتقول: فلان لا يتعامل بالربا يتأول قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .

والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعا.

فأما قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} . فيحتمل أن يكون المراد بالتأويل فيها التفسير، ويحتمل أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته بناء على الوقف فيها والوصل. فعلى قراءة الوقف عند قوله:{إِلَّا اللَّهُ} . يتعين أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته، لأن حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله عز وجل، وعلى قراءة الوصل يتعين أن يكون المراد به التفسير، لأن تفسيره معلوم للراسخين في العلم فلا يختص علمه بالله تعالى.

فنحن نعلم معنى الاستواء أنه العلو والاستقرار، وهذا هو التأويل المعلوم لنا، لكننا نجهل كيفيته وحقيقته التي هو عليها وهذا هو التأويل

ص: 181

المجهول لنا، وكذلك نعلم معاني ما أخبرنا الله به من أسمائه وصفاته، ونميز الفرق بين هذه المعاني فنعلم معنى الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر ونحو ذلك ونعلم أن الحياة ليست هي العلم، وأن العلم ليس هو القدرة وأن القدرة ليست هي السمع، وأن السمع ليس هو البصر، وهكذا بقية الصفات والأسماء، لكننا نجهل حقائق هذه المعاني وكنهها الذي هي عليه بالنسبة إلى الله عز وجل.

وهذان المعنيان للتأويل هما المعنيان المعروفان في الكتاب، والسنة وكلام السلف.

المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه. وإن شئت فقل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر لدليل يقتضيه. وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين الذين تكلموا في الفقه وأصوله وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وهل هو محمود، أو مذموم، وهل هو حق، أو باطل؟

والتحقيق: أنه إن دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير، لأن تفسير الكلام تأويله إلى ما أراده المتكلم به سواء كان على ظاهره أم على خلاف ظاهره ما دمنا نعلم أنه مراد المتكلم.

مثال ذلك قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . فإن الله تعالى يخوف عباده بإتيان أمره المستقبل، وليس يخبرهم بأمر أتى وانقضى بدليل قوله:{فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} . ومنه قوله تعالى:

ص: 182

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . فإن ظاهر اللفظ إذا فرغت من القراءة والمراد إذا أردت أن تقرأ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ إذا أراد أن يقرأ لا إذا فرغ من القراءة.

وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلا مذموما، وجديرا بأن يسمى تحريفا لا تأويلا.

مثال ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . فإن ظاهره أن الله تعالى علا على العرش علوا خاصا يليق بالله عز وجل وهذا هو المراد فتأويله إلى أن معناه استولى وملك، تأويل باطل مذموم، وتحريف للكلم عن مواضعه لأنه ليس عليه دليل صحيح.

ص: 183

فصل

اعلم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه محكم، وبأنه متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه.

فالأول كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} .

والثاني كقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} .

والثالث كقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} .

فالإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو: الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فألفاظ القرآن كله في أكمل البيان، والفصاحة، والبلاغة، ومعانيه أكمل المعاني، وأجلها، وأنفعها للخلق حيث تتضمن كمال الصدق في الأخبار وكمال الرشد والعدل في الأحكام كما قال الله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} .

والتشابه الذي وصف به جميع القرآن هو تشابه القرآن في الكمال والإتقان، والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضا في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضا في الأخبار كما قال الله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .

والإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو: الوضوح، والظهور

ص: 184

بحيث يكون معناه واضحا بينا لا يشتبه على أحد وهذا كثير في الأخبار والأحكام.

مثاله في الأخبار قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فكل أحد يعرف شهر رمضان وكل أحد يعرف القرآن.

ومثاله في الأحكام قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . فكل أحد يعرف والديه وكل أحد يعرف الإحسان.

وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو: الاشتباه أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم، فيعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم.

ص: 185

موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيفية الجمع بينها

موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيف نجمع بينها أن نقول:

إن وصف القرآن جميعه بالإحكام، ووصفه جميعه بالتشابه لا يتعارضان والجمع بينهما: أن الكلام المحكم المتقن يشبه بعضه بعضا في الكمال، والصدق فلا يتناقض في أحكامه، ولا يتكاذب في أخباره.

وأما وصف القرآن بأن بعضه محكم وبعضه متشابه فلا تعارض بينهما أصلا، لأن كل وصف وارد على محل لم يرد عليه الآخر، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى، وبعضه متشابه خفي المعنى، وقد انقسم الناس في ذلك إلى قسمين:

فالراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وإذا كان من عنده فلن يكون فيه اشتباه يستلزم ضلالا، أو تناقضا، ويردون المتشابه إلى المحكم فصار مآل المتشابه إلى الإحكام.

وأما أهل الضلال والزيغ فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثارا للشك والتشكيك فضلوا، وأضلوا وتوهموا بهذا المتشابه ما لا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله.

مثال الأول (1) : قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} . وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . ونحوهما مما أضاف الله فيه

(1) توهم ما لا يليق بالله عز وجل.

ص: 186

الشيء إلى نفسه بصفة الجمع، فاتبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد.

وأما الراسخون في العلم: فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، ويردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت -بما وقع لك من الاشتباه- قد كفرك الله بها وكذبك فيها فاستمع إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي كفروا بقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.

ومثال الثاني (1) : قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ففي الآيتين موهم تعارض فيتبعه من في قلبه زيغ ويظن بينهما تناقضا وهو النفي في الأولى، والإثبات في الثانية. فيقول: في القرآن تناقض.

وأما الراسخون في العلم فيقولون: لا تناقض في الآيتين فالمراد بالهداية في الآية الأولى هداية التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله وحده فلا يملكها الرسول ولا غيره. والمراد بها في الآية الثانية هداية الدلالة وهذه تكون من الله تعالى، ومن غيره فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين.

ومثال الثالث (2) : قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:

(1) توهم ما لا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

توهم ما لا يليق بالقرآن..

ص: 187

{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} . ففي الآية ما يوهم وقوع الشك من النبي صلى الله عليه وسلم مما أنزل إليه فيتبعه من في قلبه زيغ فيدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه ذلك فيطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما الراسخون في العلم فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شك ولا امتراء فيما أنزل إليه، كيف وقد شهد الله له بالإيمان في قوله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .

ويقولون: إن مثل هذا التعبير- {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} - لا يلزم منه وقوع الشرط بل ولا إمكانه كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (1) . فإن وجود الولد لله عز وجل ممتنع غاية الامتناع كما قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} . فكذلك الشك والامتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه ممتنع غاية الامتناع ولكن جاءت العبارة بهذه الصيغة الشرطية لتأكيد امتناع الشك والامتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه من الله عز وجل.

(1) في معنى هذه الآية أقوال. أظهرها أنه إن كان للرحمن ولد ـ على سبيل الفرض الممتنع ـ فإن ذلك لن يحملني على عبادة ذلك الولد بل سأكون أول العابدين لله ولن أعبد الولد وذلك لأن المعبود لم يذكر فيها فنصرف المعني إلى من لا تصح العبادة إلا له وهو الله تعالى.

ص: 188

فإن قلت: ما الحكمة من كون بعض القرآن متشابها؟

فالجواب: أن الحكمة من ذلك ابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق في إيمانه الراسخ في عمله الذي يؤمن بالله وكلماته، ويعلم أن كلام الله عز وجل ليس فيه تناقض، ولا اختلاف، فيرد ما تشابه منه إلى ما كان محكما، ليصير كله محكما من الشاك الجاهل الزائغ الذي يتبع ما تشابه منه، ليضرب كتاب الله تعالى بعضه ببعض، فيضل ويضل، ويكون إماما في الضلال والشقاء فيفتن الناس في دينهم، ويوقعهم في الشك والحيرة، ويفتن بعضهم ببعض:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .

ص: 189

تتمة

التشابه الواقع في القرآن نوعان: حقيقي ونسبي:

فالحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله عز وجل مثل: حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا- "وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار" - لا نعلم حقائقها وكنهها كما قال الله تعالى عن نفسه:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} . وقال: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} . وقال عما في اليوم الآخر: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وفي الحديث القدسي الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .

فما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير، ونحو ذلك، ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه الأسماء من الصفات ليس مماثلا في الحقيقة لما للمخلوق منها، فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله. كما نعلم أن في الجنة لحما، ولبنا، وعسلا، وماء، وخمرا، ونحو ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من جنس ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى.

والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع

ص: 190

العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد.

وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله لا يسأل عنه لتعذر الوصول إليه.

وأما النسبي: فهو ما يكون مشتبها على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم والإيمان ما يخفى على غيرهم، إما لنقص في علمهم أو تقصير في طلبهم، أو قصور في فهمهم، أو سوء في قصدهم.

وهذا النوع يسأل عن بيانه، لأنه يمكن الوصول إليه إذ ليس في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس كيف وقد قال الله عز وجل:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} . وقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} . وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .

ولهذا النوع أمثلة كثيرة في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الحكمية، وغالب المسائل التي اختلف الناس فيها أو كلها من هذا النوع.

فمن أمثلة ذلك في المسائل العلمية الخبرية: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . حيث اشتبه على النفاة أهل التعطيل ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى، ظنا منهم أن إثباتها يستلزم مماثلة الله تعالى

ص: 191

للمخلوقين فنفوا عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو بعضه، وأعرضوا عن الأدلة السمعية والعقلية الدالة على ثبوت صفات الكمال لله عز وجل، وغفلوا عن كون الاشتراك في أصل المعنى لا يستلزم المماثلة في الحقيقة.

ثم لو أمعنوا في النظر في هذا المنفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لتبين لهم أنه يدل على ثبوت الصفات لا على انتفائها؛ لأن نفي المماثلة يدل على ثبوت أصل المعنى لكن لكماله تعالى لا يماثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولولا ثبوت أصل الصفة لم يكن لنفي المثل فائدة.

ومن أمثلة ذلك في المسائل العملية الحكمية قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . حيث اشتبه على بعض الناس ففهموا منه أنه شامل للكمية والكيفية وبنوا على ذلك أنه لا تجوز الزيادة في صلاة الليل على العدد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به، فلا يزاد في التراويح في رمضان على إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة، ولكن من تأمل الحديث وجده دالا على الكيفية فقط، دون الكمية إلا أن تكون الكمية في ضمن الكيفية كعدد الصلاة الواحدة ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: " مثنى مثنى فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى» . وفي رواية أن السائل قال: كيف صلاة الليل؟ ولو كان عدد قيام الليل محصورا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السائل ولهذا كان الراجح أن يقتصر في قيام الليل على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة، وإن زاد على ذلك فلا بأس.

وأمثلة ذلك كثيرة، تعلم من كتب الفقه المعنية بذكر الخلاف والترجيح بين الأقوال، والله المستعان.

ص: 192