الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الثاني الاتباع]
[المبحث الأول مفهوم الاتباع]
الفصل الثاني
الاتباع وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول - مفهوم الاتباع.
المبحث الثاني - وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث - مظاهر الاتباع.
المبحث الأول
مفهوم الاتباع الاتباع في اللغة: مصدر اتبع الشيء وتبعه إذا سار في أثره.
جاء في معجم مقاييس اللغة:
(" تبع " التاء والباء والعين أصل واحد لا يشذ عنه من الباب شيء، وهو التلو والقفو. يقال تبعت فلانا إذا تلوته واتبعته. وأتبعته إذا لحقته والأصل واحد غير أنهم فرقوا بين القفو واللحوق فغيروا البناء أدنى تغيير، قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85] (1){ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89](2) فهذا معناه على هذه القراءة اللحوق ومن أهل العربية من يجعل المعنى فيهما واحدا) . .
والتبع. . . . هو الظل، وهو تابع أبدا للشخص. . . والتبيع ولد البقرة إذا تبع أمه. . والتبع قوائم الدابة وسميت بذلك لأنه يتبع بعضها بعضا. والتبع النصير، لأنه يتبعه نصره. والتبيع الذي لك عليه مال، فأنت تتبعه.
وفي الحديث: «مطل الغنى ظلم، وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع» (3) يقول: إذا أحيل عليه فليحتل " (4) .
جاء في لسان العرب:
(. . . وتبعت الشيء وأتبعته ردفته وأردفته ومنه قوله تعالى:
(1) سورة الكهف، آية (85) .
(2)
سورة الكهف، آية (89) .
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الحوالات، باب في الحوالة، 3 / 123.
(4)
معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس تحقيق هارون ط2، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1369هـ 1 / 362 - 363.
{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10](1) قال أبو عبيد. أتبعت القوم مثل أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم، قال. . واتبعتهم مثل: افتعلت إذا مروا بك فمضيت. . . . واتبع فلان فلانا إذا اتبعه يريد به شرا. كما اتبع الشيطان الذي انسلخ من آيات الله فكان من الغاوين، وكما أتبع فرعون موسى. . . .
. . . . وتبع القرآن: ائتم به وعمل بما فيه.
. . . . وتابع بين الأمور متابعة: واتر ووالي.
. . . . والتبعة والتباعة: ما فيه إثم يتبع به. وتابع عمله وكلامه: أتقنه وأحكمه) (2) وعلى ذلك فالكلمة تدور حول معاني اللحاق والاقتفاء والاقتداء. ومما يقترب من هذا المعنى التأسي والأسوة. يقال تأسى به إذا اتبع فعله واقتدى به، وائتس به أي اقتد به وكن مثله (3) قال الراغب في المفردات:
(الأسوة والأسوة كالقدوة والقدوة. وهي الحالة التي يكون الإنسان فيها في اتباع غيره إن حسنا أو قبيحا، وإن سارا وإن ضارا ولهذا قال تعال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] (4) فوصفها بالحسنة) (5) فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الاقتداء به واقتفاء آثاره والتأسي به. وقد بحث الأصوليون في باب أفعاله صلى الله عليه وسلم عن هذه المعاني وذلك لأننا متعبدون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به في أفعاله. لأجل هذا نراهم يتحدثون عن معاني الاتباع والمتابعة والتأسي والموافقة والمخالفة.
(1) سورة الصافات، آية (10) .
(2)
لسان العرب، (تبع) .، 8 / 27 - 32.
(3)
انظر: لسان العرب مادة (أسا) ، 4 / 34 - 36.
(4)
سورة الأحزاب، آية (21) .
(5)
المفردات، ص18.
وسأتعرض لبيان هذه المعاني حتى يتضح لنا مفهوم الاتباع والمقصود به.
قال أبو الحسين البصري: (1) .
(أما التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد يكون في فعله وفي تركه أما التأسي به في الفعل، فهو أن نفعل صورة ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل. والتأسي كما في الترك. هو أن نترك مثل ما ترك على الوجه الذي ترك، لأجل أنه ترك. وإنما شرطنا أن تكون صورة الفعل واحدة، لأنه صلى الله عليه وسلم لو صام وصلينا لم نكن متأسين به، وأما الوجه الذي وقع عليه الفعل، فهو الأغراض والنيات. فكل ما عرفناه أنه غرض في الفعل اعتبرناه، ويدخل في ذلك نية الوجوب والنفل، ألا ترى أنه لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسين به، وكذلك لو تطوع بالصوم فافترضنا به.
وإنما شرطنا أن نفعل الفعل (لأجل أنه فعله)(2) لأنه صلى الله عليه وسلم لو صلى، فصلى مثل صلاته رجلان من أمته لأجل أنه صلى، لوصف كل واحد منهما بأنه متأس به صلى الله عليه وسلم ولا يوصف كل واحد منهما بأنه متأس بالآخر، وإنما قلنا إن التأسي يكون في الترك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ترك الصلاة عند طلوع الشمس فتركناها في هذا الوقت لأجل تركه كنا متأسين به.
. . . . فأما اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يكون في القول، وقد يكون في الفعل، وقد يكون في الترك، فالاتباع في القول هو المصير إلى مقتضاه من وجوب، أو ندب، أو حظر لأجله، والاتباع في الفعل أو في الترك هو إيقاع مثله في صورته على وجهه، لأجل أنه أوقعه.
(1) أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري (. . . - 436 هـ) . . أصولي متكلم. كان من أئمة المعتزلة. له تصانيف عديدة منها: غرر الأدلة. شرح الأصول الخمسة. كتاب في الإمامة والمعتمد في أصول الفقه. انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 3 / 100، الفتح المبين في طبقات الأصوليين. الشيخ عبد الله مصطفى المراغي، ط 2، طبعة محمد أمين دمج، بيروت، 1 / 237.
(2)
ما بين القوسين ليس في الأصل المحقق ولكن في نسخة أخرى أثبتها المحقق في الحاشية فرأيت إثباتها في الأصل تحقيقا للفائدة.
. . . وإنما شرطنا في الاتباع ما شرطنا في التأسي، لأنه صلى الله عليه وسلم، لو صام فصلينا، أو صام واجبا فتنفلنا بالصوم، أو صمنا لا لأنه صام، لم نكن متبعين له في هذه الأحوال كلها) (1) .
وعلى هذا يكون الاتباع في الفعل هو التأسي بعينه، أما الاتباع في القول فهو امتثاله على الوجه الذي اقتضاه ذلك القول من وجوب أو ندب أو غير ذلك.
وأما الموافقة- فهي كما يرى الآمدي (2)(مشاركة أحد الشخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك. وسواء كان ذلك من أجل ذلك الآخر، أو لا من أجله)(3) .
ومعنى هذا أنه لا يشترط في الموافقة أن يكون فعل أحد الشخصين من أجل فعل الآخر، لأن الموافقة المقصودة هنا هي ما كانت بمعنى المصادفة والمشاركة. أما الموافقة المقصودة شرعا فهي الاتباع بعينه. وأما المخالفة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل أو الترك، فالمخالفة في القول: ترك امتثال ما اقتضاه القول من أمر أو نهي، والمخالفة في الفعل: هي العدول عن إيقاع الفعل مع كونه واجبا، فأما إذا كان الفعل واجبا فلا يسمى تاركه مخالفا. والمخالفة في الترك هي أن نفعل فعلا على وجه العبادة مما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم لعدم مشروعيته (4) .
وبعد بيان هذه المصطلحات نريد أن نعرف مدى علاقة الزمان والمكان بالتأسي والمتابعة.
(1) المعتمد: أبو الحسن البصري، تحقيق محمد حميد وآخرون، نشر المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية. دمشق، 1384هـ، 1 / 372 - 374.
(2)
هو أبو الحسن سيف الدين علي بن محمد سالم التغلبي الآمدي (551- 631هـ) . أصولي متكلم من تصانيفه. الإحكام في أصول الأحكام. ومختصره منتهى السول وأبكار الأفكار في علم الكلام. انظر: طبقات الشافعية للسبكي، 5 / 129. ولسان الميزان لابن حجر، 3 / 134.
(3)
الإحكام في أصول الأحكام. أبو الحسن الآمدي، تحقيق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1402هـ 1 / 172.
(4)
انظر المعتمد، 1 / 375.
يقول الآمدي:
(. . . فلو وقع فعله في مكان وزمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي وسواء تكرر أو لم يتكرر، إلا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة به كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلوات بأوقاتها، وصوم رمضان (1) .
وتأتي أهمية هذا الأمر لأن ارتباط الزمان أو المكان له أهمية في تحديد صحة الفعل من خطئه، وكون الفعل الواقع في الزمان أو المكان سنة أو بدعة وكون فاعله متبعا أو مبتدعا.
فإذا علمنا تخصيص الشارع أزمنة معينة أو أمكنة بنوع من العبادة وقصدنا نحن تخصيص هذه الأزمنة والأمكنة بهذا النوع من العبادة كنا متبعين. أما إذا قصدنا زمانا أو مكانا بنوع من العبادة لم يخصصه به الشارع فسنكون حينئذ مبتدعين " يقول ابن تيميه موضحا أهمية هذا الأمر:
(وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان خصصناه بذلك. كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة خلف أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة، والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.
وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده- مثل أن ينزل بمكان ويصلى فيه لكونه نزله لا قصدا لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه- فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا هو من البدع التي كان
(1) الأحكام، 1 / 172.
ينهى عنها عمر بن الخطاب كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمي عن المعرور بن سويد، قال: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر:
" إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا. فمن عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض "(1) .
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب. وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة (2) أبلغ من المتابعة في صورة الفعل) (3) .
وعلى ذلك يتبين لنا أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الاقتداء به في أقواله وأفعاله على الوجه الذي جاء به من وجوب أو ندب مع توفر القصد والنية في متابعته والتأسي به. ولما كنا في باب الاتباع متعبدين بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم لأنها مناط الاتباع وكانت أفعاله صلى الله عليه وسلم متفاوتة الرتبة وليست على درجة واحدة من الوجوب أو الندب أو الإباحة. فهي تشمل كل هذا، كما أن من أفعاله ما كان عاديا ومنها ما قصد به التشريع إلى غير ذلك مما فصلته كتب الأصول.
لما كان الأمر كذلك أجبت أن أشير إشارة سريعة إلى أفعاله
(1) هذا الأثر عزاه ابن تيمية إلى سنن سعيد بن منصور في اقتفاء الصراط المستقيم، 2 / 744، وقد صححه هاهنا في القاعدة الجليلة.
(2)
لعل الصواب: النية.
(3)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط1، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1399 هـ. ص 105- 106.
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم: (1) .
8 -
تنقسم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم عند الأصوليين إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
أولا: الأفعال الجبلية (العادية) كالقيام والقعود والأكل والشرب وغيرها فهذه الأفعال محمولة على الإباحة بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وإلى أمته، ولا يجب علينا التأسي والاقتداء به في هذا النوع من الأفعال، وهذا هو مذهب الجمهور (2) .
إلا إن ورد في السنة ما يرشد إلى بعض الهيئات بالنسبة لهذه الأفعال الجبلية فينتقل حكمها من الإباحة إلى الوجوب أو الندب على ما هو مقرر عند الفقهاء. مثال ذلك: الأكل باليمين، والشرب قاعدا، والنوم على الجانب الأيمن.
وقال قوم: إن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا النوع مندوب. وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يتتبع مثل هذا النوع من الأفعال ويحرص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما صدر عنه من مثل ذلك وإن كان قد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم اتفاقا ولم يقصده.
وجمهور الصحابة كانوا على خلاف ذلك، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه مبينا أن الأصل في المتابعة هو أن نفعل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم قاصدين لفعله على الوجه الذي فعله من إباحة أو وجوب أو ندب، ما لم يكن داخلا في باب الخصائص انظر (3)
(1) انظر في بيان ذلك: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، 1 / 173، وما بعدها.
والعدة في أصول الفقه، للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي، تحقيق د. أحمد بن علي المباركي، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1400هـ، 3 / 734 وما بعدها.
وإرشاد الفحول، لمحمد بن المباركي، ط 1، مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، 1356 هـ، ص 35 وما بعدها.
وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام، د. محمد العروسي عبد القادر، دار المجتمع، جدة، 1404هـ.
(2)
انظر: إرشاد الفحول، ص35.
(3)
القاعدة الجليلة، ص 105- 106.
ثانيا: الأفعال التي علم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم:
لقد ذكر الأصوليون في باب خصائصه صلى الله عليه وسلم أمورا من المباحات والواجبات والمحرمات. بعضها متفق عليه والبعض الآخر متنازع فيه. فمن المباحات في حقه صلى الله عليه وسلم الزيادة على أربع نسوة، والنكاح بلا مهر كنكاح الموهوبة، ومن الواجبات وجوب التهجد وقيام الليل، ومن المحرمات الأكل من الصدقة، وأكل ذي الرائحة الكريهة كالثوم والبصل. فهذه الخصائص خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره ولا يقتدى به فيها.
قال الشوكاني (1) .
(والحق أنه لا يقتدى به صلى الله عليه وسلم فيما صرح لنا بأنه خاص به كائنا ما كان إلا بشرع يخصنا (2) .
، فإذا قال مثلا: هذا واجب علي مندوب لكم. كان فعلنا لذلك الفعل لكونه أرشدنا إلى كونه مندوبا لنا لا لكونه واجبا عليه، وإن قال: هذا مباح لي أو حلال ولم يزد على ذلك، لم يكن لنا أن نقول هو مباح لنا أو حلال لنا. . . وأما لو قال: هذا حرام علي وحدي ولم يقل حلال لكم فلا بأس بالتنزه عن فعل ذلك الشيء، أما لو قال: حرام علي حلال لكم فلا يشرع التنزه عن فعل ذلك الشيء. فليس في ترك الحلال ورع) (3) . ثالثا: الأفعال المجردة عما سبق وإنما المقصود بها التشريع، فهذه نطالب بالتأسي فيها، إلا أن صفتها الشرعية تختلف بحسب الوجوب أو الندب أو الإباحة- وتتنوع هذه الأفعال إلى عدة أنواع بحسب القرائن:
(1) هو محمد بن علي بن محمد الشوكاني (1173- 1255 هـ) . مفسر. محدث أصولي فقيه، مجتهد، كان من كبار علماء اليمن في عصره، انظر: الأعلام، 6 / 298، ومعجم المؤلفين، 11 / 53- 54.
(2)
يقصد الشوكاني من وراء كلامه هذا الرد على من ذهب إلى أن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في خصائصه مستحب في الواجبات والمحرمات دون المباحات.
(3)
إرشاد الفحول، 35 - 36.
(أ) فإما أن تكون بيانا لمجمل ورد في القرآن أو تقييدا لمطلق أو تخصيصا لعام أو امتثالا لأمر فحكم هذه الأفعال هو حكم ما بينته من وجوب أو ندب وإباحة، ويعرف ذلك إما بصريح القول، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة:«صلوا كما رأيتموني أصلي» (1) وقوله في الحج: «خذوا عني مناسككم» (2) . وإما بقرائن الأحوال، كقيامه صلى الله عليه وسلم بفعل صالح للبيان عند الحاجة إلى ذلك، كقطعه يد السارق من الرسغ، فإنه بيان لقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38](3) ففي هذه الأحوال يكون البيان تابعا للمبين في الحكم من حيث الوجوب أو الندب أو الإباحة.
(ب) فإن لم يكن الفعل بيانا لأمر بل ورد ابتداء منه صلى الله عليه وسلم فإما أن تعرف صفته الشرعية أو لا. فإن عرفت صفته من وجوب أو ندب أو إباحة فإن أمته في ذلك مثله وهذا هو الرأي الحق كما قال الشوكاني (4) . ودليل ذلك القرآن وفعل الصحابة رضوان الله عليهم. أما القرآن فمثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7](5) . وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31](6) . وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63](7) وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21](8) وأما الصحابة فقد كانوا يرجعون إلى فعله صلى الله عليه وسلم احتجاجا واقتداء به في مواضع كثيرة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تقبيل الحجر الأسود،
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان. باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة 1 / 162- 163.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الحج. باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا 2 / 493، والنسائي. كتاب المناسك. باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم 5 / 269- 270.
(3)
سورة المائدة، آية (38) .
(4)
انظر: إرشاد الفحول، ص26.
(5)
سورة الحشر، آية (7) .
(6)
سورة آل عمران، آية (31) .
(7)
سورة النور، آية (63) .
(8)
سورة الأحزاب، آية (21) .
وقال: «لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك» (1) . فإن جهلت صفة الفعل الشرعية فإما أن يظهر قصد القربة أولا فإن ظهر فيه قصد القربة بأن كان مما يتقرب به إلى الله عز وجل كصلاة ركعتين من غير مواظبة عليهما، فيدل على الندب لأنه أقل ما يفيده جانب الرجحان وقال قوم بأنه واجب (2) . وإن لم يظهر فيه قصد القربة بل كان مجردا مطلقا فإنه يدل على الندب، لأن الفعل وإن لم يظهر فيه قصد القربة فلا بد أن يكون لقربة. وأقل ما يتقرب به المندوب، وقال قوم بأنه يدل على الإباحة، وقال آخرون بالتوقف حتى يقو دليل على الوجوب أو الندب (3) .
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، 2 / 183. ومسلم. كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، 2 / 295.
(2)
انظر: إرشاد الفحول، ص 38.
(3)
انظر: المصدر نفسه، ص 38.