المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المبحث السادس حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم] - محبة الرسول بين الاتباع والابتداع

[عبد الرءوف محمد عثمان]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌[المبحث الأول تعريف النبوة والرسالة لغة وشرعا]

- ‌[المبحث الثاني بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[المبحث الثالث النبوة اصطفاء إلهي]

- ‌[الباب الأول المحبة والاتباع]

- ‌[الفصل الأول محبة الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[المبحث الأول مفهوم المحبة]

- ‌[المبحث الثاني وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[المبحث الثالث دواعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسباب زيادتها]

- ‌[المبحث الرابع مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثاني الاتباع]

- ‌[المبحث الأول مفهوم الاتباع]

- ‌[المبحث الثاني وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه]

- ‌[المبحث الثالث مظاهر الاتباع]

- ‌[الباب الثاني الغلو والابتداع]

- ‌[الفصل الأول الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[المبحث الأول مفهوم الغلو]

- ‌[أنواع الغلو]

- ‌[أسباب الغلو]

- ‌[المبحث الثاني الغلو في الرسل عند اليهود والنصارى]

- ‌[المبحث الثالث الغلو في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم عند الشيعة]

- ‌[المبحث الرابع الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية]

- ‌[المطلب الأول الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم لدى الحلاج]

- ‌[المطلب الثاني الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي]

- ‌[المبحث الخامس آثار الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم على الاعتقاد والأعمال]

- ‌[المبحث السادس حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الفصل الثاني الابتداع]

- ‌[المبحث الأول تعريف البدعة وبيان حكمها]

- ‌[المبحث الثاني البدع التي ظهرت بدعوى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم]

- ‌[أولا ادعاء الصوفية أنهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة]

- ‌[ثانيا التوسل غير المشروع بالنبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[التوسل المشروع]

- ‌[التوسل غير المشروع]

- ‌[أقسام التوسل غير المشروع من حيث الحكم عليه]

- ‌[ثالثا البدع المتعلقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم]

- ‌[رابعا بدعة المولد]

- ‌[خامسا الصلوات المبتدعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[المبحث الثالث آثار الابتداع]

- ‌[آثار البدع على المبتدع]

- ‌[عدم قبول عمل المبتدع]

- ‌[خذلان المبتدع]

- ‌[البعد عن الله]

- ‌[أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله في الآخرة]

- ‌[تبرؤ الرسول صلى الله عليه وسلم من المبتدعة]

- ‌[أن من ابتدع بدعة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة]

- ‌[عدم توفيق المبتدع للتوبة]

- ‌[الخوف على المبتدع من سوء الخاتمة]

- ‌[الطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[آثار البدع على الدين]

- ‌[إماتة السنن]

- ‌[هجران الدين]

- ‌[آثارها على المجتمع]

- ‌[التفرق والاختلاف]

- ‌[الفتن والمحن]

- ‌[الخاتمة]

- ‌[قائمة المراجع]

الفصل: ‌[المبحث السادس حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم]

[المبحث السادس حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم]

المبحث السادس

حكم الإسلام في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد جاءت نصوص الشرع بإثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه بشر محكوم بقوانين البشرية غير أنه مفضل بخصائص تناسب نبوته ورسالته ويأتي التأكيد على هذا الأمر لئلا يتطرق الغلو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مثلما وقع لليهود مع عزير وللنصارى مع عيسى ابن مريم عليه السلام.

وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أَهْلَ الْكِتَابِ - خَاصَةً النَّصَارَى - عَنِ الْغُلُوِّ وحذرهم من سوء عاقبته فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77](1) وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171](2) الآية.

وفي نهي الله لهم تَحْذِيرٌ لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه النصارى من الغلو في عيسى ورفعهم له فوق مرتبته ووصفه بصفات الألوهية، فوقعوا بسبب ذلك في الشرك والكفر المخرج عن الملة.

لأجل هذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الدين عامة وفيه خاصة وذلك في أحاديث كثيرة.

منها ما أخرجه النسائي وابن ماجه واللفظ له بسنده «عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال لي رسول صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على

(1) سورة المائدة، آية (77) .

(2)

سورة النساء، آية (171) .

ص: 202

ناقته: " ألقط لي حصى " فلقطت له سبع حصيات، هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول:" أمثال هؤلاء فارموا " ثم قال: " يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (1) .

قال ابن تيمية في شرح هذا الحديث:

(وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال. والغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف.

وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171](2) .

وسبب هذا اللفظ عام: رمي الجمار. وهو داخل فيه، فالغلو فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار، ونحو ذلك. بناء على أنه أبلغ من الحصى الصغار ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من قبلنا إلا الغلو في الدين كما نراه في النصارى. وذلك يقتضي: أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكا) (3) .

ومنها ما أخرجه البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. فإنما أنا عبده. فقولوا عبد الله ورسوله» (4) .

ففي هذا الحديث تحذير واضح لهذه الأمة من الإطراء في مدحه صلى الله عليه وسلم حتى لا يفضي ذلك إلى الغلو فيه كما غلت النصارى من قبل في عيسى بن مريم عليه السلام.

والنهي عن الإطراء في هذا الحديث يحتمل أمرين:

(1) سبق تخريجه، ص 147.

(2)

سورة النساء، آية (171) .

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم، 1 / 289 - 290.

(4)

سبق تخريجه، ص 24.

ص: 203

- إما النهي عن مطلق المدح والاقتصار على وصفه بأنه عبد الله ورسوله.

- وإما النهي عن المبالغة في المدح لئلا يؤدى ذلك إلى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات الألوهية. ولكلا الأمرين ما يؤيده من الأحاديث (1) .

وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث منزلته التي أنزله الله إياها، وهي مرتبة العبودية لله، عز وجل، ثم مرتبة الرسالة التي اصطفاه الله لها.

فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته أن تصفه بالعبودية والرسالة ولا تتجاوز ذلك إلى غيره من الأوصاف التي تتضمن الإطراء المنهي عنه.

ومع أن هذا الحديث حجة قاطعة في النهي عن الإطراء وسد باب الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن الغلاة حاولوا تأويل هذا الحديث بما يبطل معناه ويؤدى إلى نقيضه، فزعموا أن الإطراء المنهي عنه في هذا الحديث هو إطراء مشابه لإطراء النصارى لعيسى، ووصفهم له بصفات الألوهية والربوبية وقولهم عنه أنه الله أو ابن الله. وما سوى ذلك من أنواع الإطراء فليس بمذموم بل هو مستحب (2) .

فأجازوا إطراء الرسول صلى الله عليه وسلم بما دون وصفه بصفات الألوهية والربوبية. وظنوا أن هذا من قبيل التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما قال البوصيري في البردة:

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم

فانسب إلى ذاته ما شئت من شرف

وأنسب إلى قدره ما شئت من عظم

فإن فضل رسول الله ليس له

حد فيعرب عنه ناطق بفم (3)

وهذا جهل واضح بمعنى الحديث ومقصود الرسول صلى الله عليه وسلم به لأن معناه النهي عن المدح أصلا، أو النهي عن المبالغة فيه.

ثم إن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بما شرعه، ووصفه ومدحه بدون قيد قد يدخل في أنواع من الشرك

(1) انظر: التوسل. أنواعه وأحكامه. للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط5، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404 هـ، ص 88 - 89.

(2)

انظر الجوهر المنظم في زيارة القبر النبوي لابن حجر الهيتمي ص 61.

(3)

ديوان البصيري ص193.

ص: 204

كالاستغاثة به صلى الله عليه وسلم عند الشدائد وطلب الحاجات منه إلى غير ذلك من أنواع الغلو المفضي إلى الشرك، الذي نهى الله ورسوله عنه.

وليت هؤلاء الغلاة وقفوا في إطرائه صلى الله عليه وسلم عند هذا الحد فلم يصفوه بصفات الألوهية والربوبية كما فعلت النصارى، بل إنه قد وصل بهم الغلو إلى مساواة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله.

يقول صاحب كتاب النفحات الأقدسية:

(فشأن محمد في جميع تصرفاته هو شأن الله، تعالى، فليس لمحمد صلى الله عليه وسلم من محمد شيء ولذلك كان نورا ذاتيا من عين ذات الله)(1) وفي هذا الكلام من الكفر الصريح ما فيه والذي يناقض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من تحقيق التوحيد وسد الذرائع إلى الشرك.

ومن الأحاديث التي وردت في النهي عن الإطراء في المدح ما أخرجه الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رجلا قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (2) .

وأخرج أبو داود بسنده «عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (انطلقت في وفد بنى عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا. فقال: " قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان» (3) .

(1) النفحات الأقدسية، ص 9.

(2)

سبق تخريجه، ص 89.

(3)

سنن أبي داود. كتاب الأدب، باب كراهية المدح، 5 / 154 - 155، والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 3 / 226.

ص: 205

قال الخطابي:

(وإنما منعهم - فيما نرى - أن يدعوه سيدا، مع قوله «أنا سيد ولد آدم» ، وقوله للخرزج «قوموا إلى سيدكم» - يريد سعد بن معاذ - من أجل أنهم قوم حديثو عهد بالإسلام، وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كما هي بأسباب الدنيا، وكان لهم رؤساء يعظمونهم، وينقادون لأمرهم، ويسمونهم السادات، فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى الأدب في ذلك، فقال: «قولوا بقولكم» يريد قولوا بقول أهل دينكم وملتكم، وادعوني نبيا ورسولا، كما سماني الله عز وجل في كتابه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 64] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41] ولا تسموني سيدا كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم ولا تجعلوني مثلهم، فإني لست كأحدهم، إذ كانوا يسودونكم بأسباب الدنيا وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة، فسموني نبيا ورسولا (1) .

فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يواجهوه بالمدح لئلا يفضي ذلك إلى الغلو، وأخبر أن مواجهة المادح للممدوح بمدحه - ولو بما فيه - من عمل الشيطان لما يقتضيه المدح والإطراء من تعاظم الممدوح في نفسه وهذا ينافي التوحيد، لأنه يدخل في النفس الكبر والعجب المفسد للاعتقاد والعمل.

كما في الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئا منهما قذفته في النار» (2) .

وفي الحديث «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (3) .

وهذه الآفات سببها محبة المدح، لأجل هذا كره الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يواجهوه بالمدح والإطراء حتى لا ينافي هذا عبوديته الخالصة لربه، فمقام العبودية يقتضي كراهية المدح أصلا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك

(1) معالم السنن للخطابي، 5 / 155.

(2)

أخرجه أبو داود في كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، 4 / 350 - 351. وبنحوه أخرجه مسلم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتاب البر. باب تحريم الكبر، 4 / 2023.

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر، 1 / 93.

ص: 206

ذلك نصحا لهم، وحماية لمقام التوحيد من أن يدخل عليه ما يفسده من الشرك ووسائله {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] (1) . ورأوا أن فعل ما نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات (2) .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» دليل قاطع على كراهية الرسول للمدح بما سوى العبودية والرسالة وأخبر أن هذه هي منزلته الحقيقية التي أنزله الله إياها، وهذا مما يبين أن الغلاة قد سلكوا في غلوهم مسلكا لا يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يرضاه بل نهي عنه في مواقف كثيرة.

وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من قال له ما شاء الله وشئت فقال له: «أجعلتني والله عدلا بل ما شاء الله وحده» (3) كما أنكر على معاذ رضي الله عنه حينما هم أن يسجد له (4) ومعاذ إنما قصد بذلك تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي أنكر عليه ذلك لأنه لا ينبغي السجود إلا لله وحده، فكل من عظم الرسول صلى الله عليه وسلم، بما لم يشرعه فقد غلا فيه وإن ظن أنه بذلك معظما.

ومن هذا الباب نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيدا ومسجدا حتى لا تقع الأمة في الشرك. فحقق الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته التوحيد وسد كل الذرائع إلى الشرك وقطع أسبابه والتي من أعظمها الغلو فيه، لأجل هذا كان الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم محرما لأنه يفضي إلى الشرك والكفر، ولما يتضمنه هذا الغلو من القدح في مقام الألوهية وتفرد الله بصفات الربوبية.

ولأن فيه تنقيصا للنبي صلى الله عليه وسلم لأن كماله في عبوديته لربه كما يتضمن الكذب عليه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما دعا الخلق إلا إلى إفراد الخالق بالعبادة، ولم يدعهم

(1) سورة البقرة، آية (59) .

(2)

انظر: تيسير العزيز الحميد، ص731 - 733.

(3)

سبق تخريجه، ص 89.

(4)

انظر المسند، 4 / 381، 5 / 227 - 228.

ص: 207

إلى عبادة نفسه ووصفه بصفات الرب كما أنه لم يدع أنه من نور، أو أن له في الكون شيئا من التدبير، أو أنه يعلم الغيب إلى غير ذلك مما يعتقده الغلاة فيه.

بل عد ذلك مما يناقض الدين الذي جاء به، قال تعالى:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50](1) الآية.

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا - قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا - قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 20 - 22](2) وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ - وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 79 - 80](3) .

ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم - وهم أعلم خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه وسلم بالدين وأشدهم حبا وتعظيما لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومعرفة لحقوقه - لم يتعاملوا معه صلى الله عليه وسلم إلا على أنه بشر مثلهم رسول، لا على أنه إنسان حل فيه الإله، أو أنه روح الله أو أنه مخلوق من نور إلى آخر ما يعتقده الغلاة. ولا دعوا الناس إلى ذلك، وإنما دعوهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله اصطفاه الله لرسالته وعلى هذا جرى سلف هذه الأمة. إلى أن رفعت الزندقة رأسها فوجد في الأمة من أنواع الغلو ما يناقض شرع الله.

وما علمت هذه المقالات ولا ابتدعت إلا من أناس زنادقة منافقين كالحلاج

(1) سورة الأنعام، آية (50) .

(2)

سورة الجن، آية (20-22) .

(3)

سورة آل عمران، آية (79-80) .

ص: 208

وابن عربي والجيلي وابن الفارض (1) وغيرهم من الغلاة الذين سار على نهجهم أكثر الصوفية حتى زماننا هذا.

وهذه المقالات التي ابتدعوها هي كفر وزندقة متسترة بدعوى حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه.

فهي في ميزان الشرع كفر صريح أو مؤدية للكفر ومن اعتقد فيها وقال بها عن علم فقد كفر.

وذلك كالقول بقدم النور المحمدي وأنه مادة العالم وأن الرسول كان بحقيقته موجودا قبل أن يخلق آدم وأنه إنسان عين الله، وأنه هو الحقيقة الإلهية السارية في الوجود بأسره وأن الحقيقة المحمدية هي العقل الكلي الذي يصل ما بين الوجود المطلق وهو الله وما بين عالم الطبيعة (الخلق) .

وأن الحقيقة المحمدية هي روح الله المنفوخ في آدم وأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان خلقا في ظاهره خالقا في باطنه وأن الأنبياء كانوا صورا للحقيقة المحمدية وأن الحقيقة المحمدية ليست إلا الله متعينا في أول تعيناته وهي اسم الله الأعظم إلى غير ذلك من العقائد الباطلة.

فهذه الأمور من اعتقدها فلا شك في كفره وزندفته، كما حكم جمع من العلماء بكفر ابن عربي ومن تابعه على معتقده (2) ومع كون هذه الأمور كفرا بواحا، إلا أن هؤلاء الزنادقة الضلال موهوه وخرفوه وأخرجوه في قالب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وحجبوا الناس عن تلقي حقائق الشرع، والعلم بالدين حتى لا ينكشف للناس زيغهم وضلالهم.

وشجعهم على ذلك انتشار الجهل بين غالبية المسلمين حتى عد هؤلاء

(1) عمر بن علي بن مرشد المعروف بابن الفارض حموي الأصل، مصري المولد والدار والوفاة. اشتغل بالفقه والحديث أول أمره ثم انتقل إلى التصوف فكان أكثر الصوفية شعرا، ومن أشهر شعره تائية السلوك التي جمع فيها فنون الالحاد والاتحاد والكفر برب العالمين. توفي (632 هـ) . قال عنه الذهبي " ينعق بالاتحاد الصريح في شعره وهذه بلية عظيمة فتدبر نظمه ولا تستعجل ولكنك حسن الظن بالصوفية، وما ثم إلا زي الصوفية وإشارات مجملة وتحت الزي والعبارة فلسفة وآفاعي فقد نصحتك والله الموعد ". ميزان الاعتدال، 3 / 214 - 215. وانظر لسان الميزان، 3 / 317 -319. وشذرات الذهب، 5 / 149- 153.

(2)

انظر: العقد الثمين، 2 / 160 وما بعدها. وتنيه الغبي إلى كفر ابن عربي، ص 150 وما بعدها.

ص: 209

الضلال من علماء الدين وأولياء الله الصالحين.

فراجت في سوق الجهل بضاعتهم وأقبل عليها الجهال يحسبونها دينا يتقربون به إلى الله فإذا بهم قد وقعوا في الشرك الأكبر وصاروا عبيدا لهؤلاء الضلال يتلاعبون بعقولهم كما يتلاعب الصبيان بالكرة. والمحفوظ من حفظه الله فأنار بصيرته وفتح للحق قلبه وعقله.

ص: 210