الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المبحث الرابع مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم]
المبحث الرابع
مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الحب وإن كان من أعمال القلوب إلا أنه لا بد وأن تظهر آثاره على الجوارح قولا وفعلا. ولما كان الحب أمرا يمكن أن يستتر وراء الدعاوى والمزاعم ويقع في الاشتباه، كان لا بد من التمييز بين الصادق فيه وبين الدعي الكاذب وبين من سلك في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلكا صحيحا وبين من انحرف بمسلك حبه عن الصواب.
وقد جرت العادة أن الدعاوي لا تقبل إلا ببينات، فالبينة على من ادعى، ولو يعطى الناس بدعواهم لاختل ميزان الحق والعدل. وطالما استغلت دعوى الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أو حب الصالحين لتسويغ ألوان من البدع وضروب من الغلو وجعلها مقبولة طالما كان دافعها هذا الحب المزعوم.
لذا أردت في هذا المبحث الكلام على الشواهد الصادقة والمظاهر الواضحة لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعها بآثارها على السلوك والأفعال.
وذلك لبيان أن حب الرسول صلى الله عليه وسلم مقيد بضوابط تحكمه، ومحدد بعلامات تؤكد صدقه، وآثار تظهر على من اتصف به. وهذه العلامات والمظاهر كثيرة، لكني سأتكلم عن أظهرها وأبينها.
أولا: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه:
إن أقوى شاهد على صدق الحب- أيا كان نوعه- هو موافقة المحب لمحبوبه وبدون هذه الموافقة يصير الحب دعوى كاذبة وأكبر دليل على صدق الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو طاعته واتباعه.
فالاتباع هو دليل المحبة الأول وشاهدها الأمثل، وهو شرط صحة هذه المحبة، وبدونه لا تتحقق المحبة الشرعية ولا تتصور بمعناها الصحيح.
وإذا كان الله سبحانه قد جعل اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم دليلا على حبه سبحانه، فهو من باب أوفى دليل على حب النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31](1) .
قال ابن كثير رحمه الله:
(هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله.
كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء:" ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تحب ".
وقال الحسن البصري وغيره من السلف:
زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31](3) فتبين من هذا أن الاتباع هو أعظم شاهد على صدق المحبة، بل هو من أجل ثمارها.
(1) سورة آل عمران، آية (31) .
(2)
أخرجه البخاري تعليقا في كتاب الاعتصام. باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود، 9 / 123.
(3)
تفسير ابن كثير. لإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي ط. دار الفكر، بيروت، 1 / 358.
فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم هو من أطاعه واقتدى به وآثر ما يحبه الله ورسوله على هوى نفسه، وظهرت أثار ذلك عليه من موافقته في حب ما يحبه وبغض ما يبغضه.
ويؤكد القاضي عياض على ارتباط هذه المحبة بالموافقة والاتباع فيقول: (اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها:
الاقتداء به واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31](1) وإيثار ما شرعه على هوى نفسه وموافقة شهواته، قال الله تعالى {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] (2)(3) .
وقد استفاضت نصوص الكتاب والسنة في تعظيم شأن الاتباع وبيان أهميته، وأن سعادة المسلم في الدارين موقوفة على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شقاء من شقي وهلاك من هلك إنما كان بسبب مخالفته لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنعرض لهذه النصوص في مبحث وجوب الطاعة.
نخلص من هذا إلى أن أقوى مظهر وأوضح شاهد على صدق المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الاتباع وبدونه تصبح المحبة دعوى مجردة عن الدليل وقولا لا يصدقه عمل.
وهذا الاتباع محدد أيضا بشواهد وعلامات تؤكده وسنعرض لها فيما بعد.
ثانيا: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره والأدب معه:
تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم هو ما يقتضيه مقام النبوة والرسالة من كمال الأدب وتمام
(1) سورة آل عمران، آية (31) .
(2)
سورة الحشر، آية (9) .
(3)
الشفا، 2 / 24.
التوقير، وهو من أعظم مظاهر حبه، ومن آكد حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته، كما أنه من أهم واجبات الدين.
وهذا التعظيم مثل المحبة من حيث كونه تابعا للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون التعظيم وتكون المحبة.
لذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر الناس حبا وتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمعايشتهم له وقربهم منه. وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالقلب، واللسان والجوارح، فالتعظيم بالقلب هو ما يستلزم اعتقاد كونه رسولا اصطفاه الله برسالته، وخصه بنبوته، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وفضله على سائر الخلق أجمعين، كما يستلزم تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
أما التعظيم باللسان فيكون بالثناء عليه بما هو أهله، مما أثنى به على نفسه، أو أثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، ويدخل في ذلك الصلاة والسلام عليه، كما يشمل الأدب في الخطاب معه والحديث عنه صلى الله عليه وسلم.
وأما التعظيم بالجوارح فيشمل العمل بطاعته، وتجديد متابعته، وموافقته في حب ما يحبه، وبغض ما يبغضه والسعي في إظهار دينه، ونصرة شريعته، والذب عنه وصون حرمته (1) .
وعلى ذلك فاساس التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم وقاعدته التي ينبني عليها هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وعبادة الله بما شرع. فمن فقد هذا الأساس أو أخل به فقد أخل بتعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم. وهذا الإخلال يأتي من أمرين كليهما على طرفي نقيض:
أولهما: الجفاء والتفريط في حقوقه صلى الله عليه وسلم. وذلك كنسبته إلى ما لا يليق بمقام النبوة كالطعن في صدقه أو أمانته وعدالته وذلك كصنيع ذي الخويصرة التميمي الذي طعن في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للغنائم كما روي ذلك البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
(1) انظر. الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، ص341 - 342.
ويشبه هذا الصنيع صنيع المنافقين ومن انطمست بصائرهم فلم يعرفوا للنبي صلى الله عليه وسلم قدره ولم يحفظوا حرمته. ومما يلحق بالجفاء عدم التأدب في الحديث والكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم كصنيع بعض الشعراء والكتاب في تشبيه بعض الولاة والحكام أو وصفهم بصفات الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة به. كقول المعري مثلا (2) .
لولا انقطاع الوحي بعد محمد
…
قلنا محمد عن أبيه بديل
هو مثله في الفضل إلا أنه
…
لم يأته برسالة جبريل (3)
وقد نقل القاضي عياض أمثلة من هذا القبيل من أقوال بعض الجفاة والمنافقين (4) .
ومما يلحق بالجفاء ترك الصلاة والسلام عليه لفظا وخطا، أو الاستهانة بهديه وسنته وقلة المبالاة بها أو التعظيم لشأن المفكرين والكتاب والقادة بما يغض من
(1) صحيح البخاري. كتاب المناقب. باب علامات النبوة في الإسلام (4 / 243 - 244) .
(2)
هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المقلب بالمعري. نسبة لمعرة النعمان بلدته (363- 449هـ) كان من أعلام الشعراء غير أنه كان زائغ الاعتقاد متشككا يميل إلى الزهد الفلسفي ولذلك كان متقلبا فتارة يكون موحدا وأخرى يكون ملحدا. وله عدة دواوين من أشهرها سقط الزند، واللزوميات وغيرها.
انظر. البداية والنهاية، 12 / 72 / -76.
ولسان الميزان لابن حجر، 1 / 203 - 208.
(3)
هذان البيتان من قصيدة للمعري يمدح بها رجلا من العلويين. انظر: سقط الزند - لأبي العلاء المعري. طبع دار صادر، ص142، 1383، 1963م.
(4)
انظر الشفا، 2 / 238 - 247.
شأنه صلى الله عليه وسلم، مع أن هؤلاء مهما بلغوا لن يصلوا إلى مرتبة واحد من عامة الصحابة.
وقد كثر الجفاء في زماننا هذا بكثرة المارقين والمنهزمين من الكتاب والأدباء الذين سودوا الصحائف بالاستهزاء بتعاليم الإسلام وقيمه وربما بالتطاول على مقام النبوة. كما عزف كثير من المسلمين عن مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومذاكرة سنته وكثرة الصلاة والسلام عليه. مما أدى إلى الجفاء للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم توقيره.
ولقد كان سلفنا الصالح إذا ذكر عندهم النبي صلى الله عليه وسلم أو حديثا من أحاديثه ظهر عليهم من الهيبة والإجلال والتأدب كما لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم حتى إن بعضهم كان يبكي عند ذكره صلى الله عليه وسلم فكان محمد بن المنكدر (1) إذا سئل عن حديث بكى حتى يرحمه الجالسون، وكان عبد الرحمن بن مهدي (2) إذا قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحاضرين بالسكوت وقال:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2](3) ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب عند سماع قوله صلى الله عليه وسلم (4) .
هكذا كان أدب سلفنا الصالح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته فأين منا هذا الأدب وذلك التوقير؟ كما نسأل الله العافية.
ثانيهما: الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق مرتبته التي وضعه الله عليها.
(1) هو أبو عبد الله محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير القرشي من أعلام التابعين روى عن جماعة من الصحابة وعمه جمع من الأئمة، كان سيد القراء قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق، يجتمع إليه الصالحون.
انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي، 1 / 127- 128.
(2)
هو أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان البصري- من أعلام المحدثين حدث عن شعبة وسفيان وأمما، وعنه ابن المبارك وأحمد وابن المديني.
انظر: تذكرة الحفاظ، 1 / 329- 332.
(3)
استشهد بقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " سورة الحجرات، آية (2) .
(4)
انظر الشفا، 2 / 40- 47.
وذلك كاعتقاد أنه يعلم الغيب مطلقا أو أن وجوده سابق لهذا العالم وأن من نوره خلق الكون كله إلى غير ذلك من الاعتقادات الباطلة التي لم ترد في سنة. وسيأتي لهذا مزيد بيان في فصل الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أوجب الله على الأمة كلها تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8 - 9](1) .
فالتسبيح لله عز وجل والتعزير والتوقير للنبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157](2) والتعزير بمعنى التعظيم.
قال ابن جرير في تفسير الآية الأولى:
(معنى التعزير في هذا الموضع: التقوية والنصرة والمعونة ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال)(3) .
ويعرف ابن تيمية التعزير بأنه:
(اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار)(4) .
وقد أبان الله في كتابه عن وجوه الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه. وما ينبغي على المسلم أن يتأدب به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في آيات شتى وبأساليب
(1) سورة الفتح، آية (9) .
(2)
سورة الأعراف، آية (157) .
(3)
تفسير الطبري المسمى جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. ط 2، مصطفى الحلبي. القاهرة، 1373 هـ، 26 / 75.
(4)
الصارم المسلول على شاتم الرسول. لابن تيمية.
تحقيق. محمد محي الدين عبد الحميد، طبع دار الكتب العلمية، بيروت 1398 هـ، ص 422.
متنوعة. وقد اشتملت سورة الحجرات في صدرها على مجموعة من التوجيهات التربوية للمسلمين في كيفية تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأدب معه.
فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ - إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 1 - 5](1) فقد أشارت هذه الآيات إلى بعض وجوه الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم منها:
- عدم التقدم بين يدي الله ورسوله بقول أو فعل أو إذن أو تصرف كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1](2) . قال ابن جرير في تفسير هذه الآية:
" لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه، ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله (3) . وهذا الأمر فرض باق على الأمة إلى يوم القيامة- مثل طاعته صلى الله عليه وسلم حيا وميتا- فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذوي العقول السليمة، فالأدب كل الأدب معه صلى الله عليه وسلم تقديم سنته وأقواله على كل قول أو رأي (4) .
- ومنها عدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الجهر له بالقول
(1) سورة الحجرات، آية (1-5) .
(2)
سورة الحجرات، آية (1) .
(3)
تفسير ابن جرير، 26 / 116.
(4)
انظر. مدارج السالكين لابن القيم، 2 / 389.
مخافة حبوط العمل. فالأدب معه في حياته غض الصوت عنده مع الهيبة والإجلال له، وأن يكون مجلس علم وحلم ووقار وسكينة، وأن يكون الحديث معه بتأدب وتلطف.
وإذا كان الله قد حرم رفع الأصوات فوق صوت نبيه، وحرم الجهر له بالقول لما في ذلك من الجفاء والإيذاء لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكذلك رفع الأصوات عند قبره صلى الله عليه وسلم في حكم رفع الصوت عنده في حياته من حيث التحريم لأن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا.
وقد شدد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في المسجد النبوي وذلك فيما رواه البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال:
(كنت قائما في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فاتني بهذين، فجئته بهما. قال: من أنتما- أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما. ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم!)(1) .
فإذا تقرر هذا علمنا أن ما يحدث من كثير من الناس عند قبره صلى الله عليه وسلم من رفع الأصوات واختلاطها، وصنيع من يسمون " بالمزورين " من رفع الأصوات عند القبر والتشويش في المسجد النبوي، كل هذا من الأمور المحرمة لما فيها من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهاك حرمة المسجد.
ومن مخالفة الأدب في هذا الباب رفع أراء بعض البشر وأقوالهم ومذاهبهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة إسكات صوت السنة والداعين إليها وفي هذا من الإيذاء والجفاء ما هو أكبر بكثير من مجرد رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
(1) صحيح البخاري. كتاب الصلاة. باب رفع الصوت في المساجد 1 / 127.
(2)
انظر. مدارج السالكين، 2 / 389.
قال أبو بكر بن العربي (1) .
(حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] (2) . وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناه (3) بيانها في كتب الفقه والله أعلم) (4) .
ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم عدم جعل دعائه كدعاء الناس بعضهم بعضا، كما قال تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63](5) وللمفسرين في معنى هذه الآية قولان:
- أحدهما: معناه أن لا تجعلوا دعاءكم ونداءكم للرسول صلى الله عليه وسلم كما ينادي بعضكم بعضا باسمه المجرد فنهاهم الله أن ينادوا رسوله صلى الله عليه وسلم بيا محمد. بل الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن ينادوه: بيا رسول الله، ويا نبي الله، مع خفض الصوت احتراما
(1) هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأشبيلي المالكي المعروف بابن العربي، (468هـ 543 هـ) .
محدث. ففيه - قاض، بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، وله مصنفات كثيرة منها: عارضة الأحوذي في شرح الترمذي. وأحكام القرآن، والعواصم من القواصم وغيرها انظر وفيات الأعيان (4 / 296 - 297) ونفح الطيب من غض الأندلس الرطيب للشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني. تحقيق د. إحسان عباس، 2 / 25 وما بعدها.
(2)
سورة الأعراف، آية (204) .
(3)
ذكر العلماء فروقا بين الحديث والقرآن منها:
إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس معجزا كالقرآن.
إننا متعبدون بالقرآن وتلاوته في الصلاة وخارجها وليس الحديث كذلك.
- إن القرآن لا يقرأه القارئ إلا وهو طاهر على خلاف في ذلك وليس الحديث كذلك.
(4)
أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، تحقيق على محمد البجاوي، 4 / 1702 - 1703.
(5)
سورة النور، آية (63) .
وتوقيرا له (1) .
الثاني: أن لا تجعلوا دعاء الرسول لكم من جنس دعاء بعضكم بعضا إذا شاء أجاب وإن لم يشأ لم يجب. بل الأدب معه أنه إذا دعاكم لم يسعكم إلا إجابته والسمع والطاعة له (2) .
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن أصحابه إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه.
قال ابن القيم:
(ومن الأدب معه: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع- من خطة أو جهاد أو رباط- لم يذهب أحدهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه. . . فإذا كان هذا مذهبا مقيدا بحاجة عارضة، لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله، وفروعه، دقيقة، وجليله؟ هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (4) ومن الأدب معه. أن لا يستشكل قوله. بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول.
(1) انظر تفسير ابن كثير، 3 / 306 - 307، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، طبع مطبعة المدني، مصر، 6 / 251 - 252.
(2)
انظر مدارج السالكين، 2 / 389 - 390.
(3)
سورة النور، آية (62) .
(4)
سورة النحل، آية (43) ، وسورة الأنبياء، آية (7) .
ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجرأة) (1) .
ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه: التأدب في الحديث معه والحديث عنه. وذلك باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها، وأرق المعالي وألطفها، وتجنب كل ما فيه جفاء أو إساءة أدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتنزيه مقام النبوة والرسالة من كل عيب أو نقص ينافي عصمته صلى الله عليه وسلم.
لأجل هذا نهى الله المؤمنين عن الجهر بالقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نهاهم عن مخاطبته كما يخاطب بعضهم بعضا كما سبق آنفا. لما فيه من الجفاء والإيذاء له. ومن هذا الباب قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104](2) .
فنهى الله المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم (راعنا) لما فيها من احتمال معنى: ارعنا نرعاك على سبيل المقابلة كما يقال حادثنا وجالسنا، نحادثك ونجالسك. فكأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم. بل حقه صلى الله عليه وسلم أن يرعى على كل حال، أو يكون معناها: ارعنا معك حتى نفهمك وتفهم عنا (3) وكلا المعنيين فيه جفاء لا يليق بمقام النبوة.
وقيل نهوا عن ذلك لما فيه من التشبه باليهود لأنهم كانوا يورون بهذه الكلمة عن الرعونة فنهي المسلمون عن قولها قطعا للذريعة، ومنعا للتشبه بهم في قولهم (4) .
وعلى ذلك فكل كلام يشعر بالجفاء وإن لم يقصده المتكلم- لا يجوز أن يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم أو يتحدث به عنه لما في ذلك من إيذائه صلى الله عليه وسلم وإذهاب هيبته من النفوس.
(1) مدارج السالكين، 2 / 390.
(2)
سورة البقرة، آية (104) .
(3)
انظر. تفسير الطبري، تحقيق محمود وأحمد محمد شاكر، طبع دار المعارف مصر، 2 / 463 - 466.
(4)
انظر. الشفا للقاضي عياض، 2 / 37.
وتفسير ابن كثير، 1 / 148- 149.
ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، أو أثنى به عليه ربه سبحانه وتعالى من غير غلو ولا تقصير، ومن أعظم الثناء عليه: الصلاة والسلام عليه في مواطنها، وعند ورود ذكره الشريف على المسامع واللسان وعند الخط بالبنان.
ويتضمن معنى الصلاة عليه: ثناء الله عليه والإشارة برفع ذكره، والطلب من الله أن يعلى ذكره، ويزيده تعظيما وتشريفا، والمراد بالطلب هنا هو طلب الزكاة- زيادة الثناء والتشريف- لا طلب أصل الصلاة. أما السلام فيتضمن سلامته أي من كل آفة وعيب (1) .
أورد البخاري تعليقا عن أبي العالية قال: " صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء ".
قال ابن عباس:
يصلون: يبركون (2) .
وقد أخبر الله أنه وملائكته يصلون على النبي وأمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56](3) .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
والمقصود من هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي
(1) انظر. جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام. لابن القيم ص84، وما بعدها، وفتح الباري 11 / 152 - 153، 169.
(2)
صحيح البخاري، كتاب التفسير. باب " إن الله وملائكته يصلون على النبي " 6 / 151.
(3)
سورة الأحزاب، آية (56) .
عليه ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والسلام عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا " (1) .
كما رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة والسلام عليه في أحاديث عدة: منها ما أخرجه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي واحدة، صلى الله عليه عشرا» (2) .
وأخرج أبو داود بسنده عن أوس بن أوس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ! يقولون: بليت. قال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» (3) .
وأخرج الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي» الحديث (4) .
وأخرج الترمذي أيضا بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي» (5) .
(1) تفسير ابن كثير، 3 / 507.
(2)
صحيح مسلم. كتاب الصلاة. باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، 1 / 306.
(3)
سنن أبي داود. كتاب الصلاة. باب فضل الجمعة وليلة الجمعة، 1 / 635، ورواه أحمد في المسمد 8 / 4، والنسائي في كتاب الصلاة. باب إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة 3 / 91 - 92.
وإسناده صحيح صححه الحاكم 1 / 278. ووافقه الذهبي. وصححه النووي في الأذكار، ط4، مصطفى الحلبي، مصر ص106.
(4)
سنن الترمذي كتاب الدعوات. باب ما جاء في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده 5 / 210، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، نشر محمد عبد المحسن الكتبي، المدينة المنورة.
وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1 / 549.
(5)
المصدر نفسه، 5 / 211، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 1 / 549.
وأخرج أبو داود بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» (1) .
وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته كيف يصلون عليه في الصلاة وغيرها وذلك فيما أخرجه البخاري ومسلم بسنديهما عند عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية، إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا، فقال يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك فقال: قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)(2) .
وأخرجا أيضا بسنديهما عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: «يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: (اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما، صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» (3) .
إلى غير ذلك من الصيغ التي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم إياها وأرشدهم إليها. وهذه الصيغ التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته من بعدهم هي أفضل كيفيات الصلاة والسلام عليه لأنها صادرة من مشكاة النبوة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختار لهم ولنفسه إلا الأشرف والأفضل والأكمل من الأعمال والكيفيات.
فإذا تبين هذا علمنا أن ما ابتدعه كثير من مشايخ الصوفية من صيغ في الصلاة
(1) سنن أبي داود. كتاب المناسك. باب زيارة القبور 2 / 534. ورواه أحمد في المسند 2 / 367. والحديث سنده حسن على شرط مسلم، وهو صحيح بما له من طرق وشواهد. انظر أحكام الجنائز وبدعها للشيخ الألباني، ط4، طبع المكتب الإسلامي، 219 - 220.
(2)
البخاري. كتاب الدعوات. باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 8 / 95.
ومسلم. كتاب الصلاة. باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد 1 / 305.
(3)
البخاري، السابق نفسه، 8 / 95-96.
ومسلم، السابق نفسه، 1 / 306.
على النبي صلى الله عليه وسلم زاعمين لها من الفضل والثواب الشيء الكثير، هذه الصلوات لا ترتقي إلى مرتبة الصيغ التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته في كيفية الصلاة والسلام عليه. هذا إن سلمت تلك الصلوات من الغلو وضروب البدع. كما يلاحظ أنه لم يرد في شيء من صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لفظ السيادة (سيدنا) . فدل عدم ورودها على أنها ليست مشروعة أو خلاف الأولى.
وقد سئل الحافظ ابن حجر عن صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو ندبيتها، هل يشترط فيها أن يصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة. كأن يقول مثلا. اللهم صل على سيدنا محمد أو على سيد الخلق، وعلى سيد ولد آدم؟ أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل، الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صلى الله عليه وسلم، أو عدم الإتيان بها لعدم ورود ذلك في الآثار؟ .
فأجاب رحمه الله:
(نعم، اتباع الألفاظ المأثورة أرجح، ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول عند ذكره صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وسلم وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر. لأنا نقول: لو كان ذلك راجحا لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين. ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال: ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك)(1) .
وللصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مواطن يتأكد وجوبها أو استحبابها فيها: منها: التشهد الأخير في الصلاة، واختلف في وجوبه واستحبابه على قولين (2) . ومنها عند دخول المساجد والخروج منها، وبين يدي الدعاء.
(1) أوردها بتمامها: الألباني نقلا عن الحافظ محمد بن محمد الغرابيلي تلميد الحافظ ابن حجر.
انظر. صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، تأليف محمد نصر الدين الألباني، ط11، المكتب الإسلامي 1403 هـ، ص 153- 155.
(2)
انظر: جلاء الأفهام، ص193- 216.
وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ص 162.
وعند ذكره صلى الله عليه وسلم، وروود اسمه الشريف وكتابته وفي الخطب وعند رواية الحديث وتعليم الناس العلم إلى غير ذلك من المواطن (1) .
ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم نصرته والذب عنه، وقد أوجب الله على الأمة تعزير نبيه صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وسبق أن بينا أن تعزيره صلى الله عليه وسلم يتضمن معنى النصرة والتعظيم. فواجب على الأمة أن تنصر الله ورسوله، وأن تنتصر لله ورسوله، وإذا كان نصر آحاد المسلمين واجبا، لقوله صلى الله عليه وسلم:«انصر أخاك ظالما أو مظلوما» (2) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» (3) .
فكيف لا يكون نصر الرسول صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات، بل حقه أن يفدى بالأنفس والأموال وأن يؤثر بكل عزيز وغال.
قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120](4) الآية.
فحرم الله على المؤمنين التخلف عن نصرة نبيه والرغبة بالأنفس عنه، وأوجب على المؤمنين نصرته، وذلك في آيات عدة من القرآن منها:
قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157](5) .
وقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40](6) الآية.
(1) للوقوف على هذه المواطن وغيرها. انظر الشفا، 2 / 64 - 68.
وجلاء الأفهام، 193 - 261، وفتح الباري، 11 / 169.
(2)
أخرجه البحاري في كتاب المظالم. باب: أعن أخاك ظالما أو مظلوما 3 / 168. والإمام أحمد في المسند، 3 / 99.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب المظالم. باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 3 / 186.
(4)
سورة التوبة، آية (120) .
(5)
سورة الأعراف، آية (157) .
(6)
سورة التوبة، آية (40) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14](1) .
وامتدح الله المهاجرين بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8](2) .
كما أثنى على الأنصار بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] ونصر الرسول صلى الله عليه وسلم يشمل نصره باللسان والسنان والبنان، بالقول والفعل. نصرا له في ذات نفسه حماية لعرضه، وصونا لحرمته، وإرغاما لأعدائه ومبغضيه، وانتصارا له من كل من يؤذيه، وإجلالا لمقام النبوة من أي قدح أو عيب.
وقد أجمع أهل العلم على وجوب قتل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله، أو عرض به أو شبهه بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو التحقير لشأنه.
فحكم من أتى بذلك أن يقتل بلا استتابة لأنه آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يستوجب إهدار دمه إن كان مسلما، ونقض عهده وقتله إن كان ذميا (3) كل ذلك حماية لعرضه صلى الله عليه وسلم وصونا لمكانته ومنزلته.
ومن نصر الرسول صلى الله عليه وسلم نصر سنته والذب عن شريعته ودفع كيد الكائدين وطعن الطاعنين في سنته وسيرته، برد شبههم ودحض مفترياتهم وإظهار ما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق.
(1) سورة الصف، آية (14) .
(2)
سورة الحشر، آية (8) .
(3)
انظر في بيان ذلك. الشفا 2 / 214 وما بعدها. والصارم المسلول ص 3 وما بعدها، ص 418 - 419.
ويدخل في نصر الله ورسوله نصر الشريعة وأهلها والداعين إليها وتكثير سوادهم وإعانتهم على أمورهم، وقمع أعدائهم. ولا يتأتى هذا النصر ولا يتحقق إلا برفع علم الجهاد في سبيل الله جهادا للكفار والمنافقين، وتتبع الزنادقة والملحدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله في أرضه. وتطيق شرعه.
وترك النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه والتخاذل عنها تمكين لأعداء الإسلام من الطعن فيه وتشويهه وإضعاف شوكته وانتهاك حرماته وإذهاب هيبة النبي صلى الله عليه وسلم من النفوس.
ولا يكون ذلك إلا إذا ترك الجهاد في سبيل الله، وذهبت الغيرة على محارم الله من القلوب، حينما يكون الرضى بالذل والهوان حبا للدنيا وكراهية للموت، وهذا هو حال المسلمين اليوم. فالانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق على كل من آمن بالله واتبعه وزعم أنه يحبه، فمن ادعى حبه ولم ينصره وينتصر له فهو كاذب في دعواه.
فمقتضى الحب الصحيح أن تنصره وتفديه بالنفس والمال وأن تغار على حرمات الله أن تنتهك، تلك هي أهم جوانب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقيره. لكن بقي أن أنبه إلى أمرين مهمين في هذا الباب:
الأمر الأول:
أنه يجب على المسلم المعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته وألوهيته، والتي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، وبين حقوق النبي صلى الله عليه وسلم ليضع كل شيء في موضعه حتى يكون على الصراط المستقيم.
فالتجاء المضطر- مثلا- الذي أحاطت به الكروب، ونزلت به الشدائد التي لا يقدر على كشفها إلا الله وحده، حق ممن حقوق الله تعالى لا يجوز صرفه
لغير الله بحال من الأحوال، لأن كشف الضر، وإجابة المضطر بيد الله وحده. فصرف هذا الحق لله وإخلاصه له، هو عين طاعته سبحانه ومرضاته، وهو طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع له في تجريد التوحيد من كل شوائب الشرك.
أما صرف هذا الحق- أو غيره من الحقوق الخاصة بالله- لغير الله ولو لرسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنه تعظيم له - فهذا عين المحاده والمشاقة لله ورسوله " وهو من الشرك الذي نهى الله عنه فإذا تبين ذلك علمنا أن ما يفعله بعض المنتسبين إلى الإسلام من التجائهم وقت الشدائد إلى غير الله طالبين منه كشف الضر ورفع الشدة، وما يفعل من هذا القبيل عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بدعوى أنه تعظيم له كل هذا من قبيل الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
الأمر الثاني:
الفرق بين التعظيم المشروع وغير المشروع، ينبغي على المسلم أن يعلم أن التعظيم الذي أوجبه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هو التعظيم المشروع اللائق بمقام النبوة والرسالة.
ومدار هذا التعظيم وأساسه هو الاتباع والاقتداء به صلى الله عليه وسلم فمن كان اتباعا واقتداء كان أكثر محبة وتعظيما، وأبعد عن الغلو والبدع. وليس كل ما يظن أنه من باب التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو في الحقيقة تعظيما مشروعا في حقه.
قال ابن عبد الهادي (1) .
فالتعظيم نوعان: أحدهما: ما يحبه المعظم ويرضاه ويأمر به ويثنى على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة.
(1) هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي (705- 744هـ) شارك في كثير من العلوم وحصل منها مالا يبلغه الشيوخ الكبار، وترك تصانيف كثيرة منها: الأحكام في فقه الحنابلة. وتراجم الحفاظ وفضائل الشام. والمحرر في الحديث. والعقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية. والصارم المنكي في الرد المنكي في الرد على السبكي وغيرها. انظر البداية والنهاية (14 / 210) والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق، محمد سيد جاد الحق، نشر دار الكتب الحديثة. عابدين، مصر (3 / 421، 422) .
والثاني: ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم، بل هو غلو مناف للتعظيم، ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك، ولم يكن النصارى معظمين للمسيح بدعواهم فيه ما ادعوا، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه، فأنكر على معاذ سجوده له، وهو محض التعظيم.
وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك: «أن رجلا قال: (يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله» (2) .
وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه، ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما. وقال:«إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم» (3) وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه (4) .
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من قال له: ما شاء الله وشئت أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال أجعلتني والله عدلا. بل ما شاء الله وحده» (5) .
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن يقولوا- إذا أرادوا- ما شاء الله ثم شاء
(1) المسند، 3 / 153، 241.
(2)
سبق تخريجه، ص24.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة. باب ائتمام المأموم بالإمام، 1 / 309، والنسائي في كتاب السهو. باب الرخصة في الالتفات في الصلاة يمينا وشمالا 3 / 9.
(4)
الصارم المنكي في الرد على السبكي، 288.
(5)
المسند، 1 / 214، والحديث إسناده حسن.
انظر السلسة الصحيحة 1 / 56- 57.
محمد. كما في سنن الدارمي وابن ماجه بسنديهما عن الطفيل بن سخبرة أخى عائشة لأمها قال: «قال رجل من المشركين لرجل من المسلمين نعم القوم أنتم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد» (1) .
فيجب على المسلم أن يفرق بين المشروع وبين غيره في هذا الجانب وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوقع المبتدعة في الغلو الذي ذمه الله ورسوله وذلك كالاستغاثة به وطلب الحاجات منه ودعائه من دون الله واعتقاد أنه خلق من نور وأن الكون كله قد خلق من نوره، وأنه يتصرف في الأكون، ويعلم الغيب مطلقا إلى غير ذلك من العقائد الباطلة، وابتداع أنواع كثيرة من الصلوات عليه. فكل هذا من الغلو والشرك الذي نهى الله عنه، وفاعل هذا مضاد لتعظيمه صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: ومن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم:
كثرة تذكره وتمني رؤيته والشوق إلى لقائه، ذلك أن من أحب شيئا أكثر من ذكره، ولا يكون ذلك إلا إذا شغلت المحبة قلب المحب وفكره، وسبب ذلك استحضار الأسباب والدواعي الباعثة على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة قدر النعمة التي أنعم الله بها على الناس إذ بعث فيهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ - فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151 - 152](2) .
ويتبع ذلك تمني رؤيته صلى الله عليه وسلم والشوق إلى لقائه وسؤال الله اللحاق به على الإيمان وأن يجمع بينه وبين حبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم في مستقر رحمته. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيوجد في هذه الأمة أناس يودون رؤيته بكل ما يملكون.
(1) سنن الدارمي. كتاب الاستئذان. باب في النهي عن أن يقول ما شاء الله وشاء فلان 2 / 295. .
وابن ماجه. كتاب الكفارات. باب النهي عن أن يقال ما شاء الله وشئت 1 / 684. والحديث صحيح بشواهده. انظر السلسلة الصحيحة 1 / 54- 56.
(2)
سورة البقرة، آية (151-152) .
فأخرج مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني، بأهله وماله» (1) .
ويدخل في هذا الشوق إلى لقائه صلى الله عليه وسلم إذ كل حبيب يحب لقاء حبيبه وحينما قدم الأشعريون المدينة كانوا يرتجزون (غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه)(2) .
ولما احتضر بلال نادت امرأته، واويلاه. وهو يقول وافرحاه (غدا نلقى الأحبة. محمدا وحزبه)(3) .
فمزج مرارة الموت بحلاوة الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تقدمه من الصحابة رضوان الله عليهم.
وكان خالد بن معدان الكلاعي (4) وهو من أعلام التابعين - لا يأوى إلى فراشه مقيله إلا وهو يذكر فيه شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ثم يسميهم ويقول: (هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم فعجل ربي قبضي إليك) . حتى يغلبه النوم (5) .
(1) صحيح مسلم. كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها. باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله 4 / 2178.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند، 4 / 105، 155، 183.
قال الشيخ الألباني (إسناده صحيح على شرط مسلم) . انظر. السلسلة الصحيحة 2 / 50- 51.
(3)
أورد هذه الحكاية ابن عساكر في ترجمة بلال بن رباح رضي الله عنه انظر. تهذيب تاريخ دمشق. الشيخ عبد القادر بدران، ط 2، دار المسيرة بيروت، 1399، 3 / 317.
(4)
هو أبو عبد الله خالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي الشامي الحمصي، تابعي ثقة من الطبقة الثالثة، أدرك سبعين صحابيا، وروي عن بعضهم وكان من خيار عباد الله، توفى سنة ثلاثة أو أربع بعد المائة.
انظر. تهذيب تاريخ دمشق، 5 / 89- 91.
وتهذيب التهذيب لابن حجر " 118- 125.
(5)
روى ذلك الخبر القاضي عياض في الشفا، 2 / 21.
وابن عساكر، تهذب تاريخ دمشق، 5 / 90، عن عبدة بنت خالد بن معدان.
وهكذا شأن المحب دائما أن يشتاق إلى لقاء حبيبه ويتمنى رؤيته بكل ما يستطيع ويملك.
فأين شوق المسلمين اليوم إلى نبيهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم أين هو؟ لقد غاب عند أكثر العالمين إلا من رحم الله. نعم. لقد غاب. لأن الفكر والقلب قد شغل بالتنافس في حطام الدنيا حتى قل تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن الشوق إلى لقائه. فنسأل الله أن يوقظنا من رقدة الغافلين وأن يرزقنا الشوق إلى لقائه ولقاء حبيبه صلى الله عليه وسلم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
رابعا: ومن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم محبة قرابته وآل بيته وأزواجه وصحابته:
ويتمثل هذا في توقيرهم ومعرفة فضلهم وحفظ حرمتهم ومكانتهم وبغض من أبغضهم أو آذاهم.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بآل بيته خيرا فقال:
(1) حصين هو ابن سبرة راوي الحديث عن زيد بن أرقم.
(2)
صحيح مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب فضائل علي رضي الله عنه، 4 / 1873.
وأخرج البخاري عن ابن عمر أن أبا بكر الصديق قال: (ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته)(1) .
ومن مظاهر حبه صلى الله عليه وسلم حب أصحابه ومعرفة فضلهم وقدرهم والثناء عليهم بما هم أهله، والانتصار لهم ممن يؤذيهم وبغير الخير يذكرهم، فهم خير هذه الأمة بعد نبيها، ويكفى أنهم فازوا بشرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله قد خصهم بهذا الشرف دون غيرهم من العالمين فكانت لهم منزلة الصحبة التي لا تعادلها أي منزلة سواها في هذه الأمة. وقد أثنى الله عليهم في كتابه في مواضع كثيرة منها:
قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100](2) .
وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18](3) الآية.
(1) صحيح البخاري. كتاب فضائل الصحابة، 5 / 26.
(2)
سورة التوبة، آية (100) .
(3)
سورة الفتح، آية (18) .
(4)
سورة الحشر، آية (8 -10) .
فهذه الآيات وغيرها تتضمن الثناء على الصحابة وتذكرهم بالخير وسابق الفضل وعلو المنزلة.
كما تبين حال من أتى بعدهم من المؤمنين بأنهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم، وهذا هو شأن المؤمنين مع صحابة رسول صلى الله عليه وسلم ومن أتى بعدهم من صالح المؤمنين.
وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه خيرا فقال كما في الصحيحين عن عمران بن حصين وغيره: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري. أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا) الحديث (1) .
وقال فيما أخرجه الشيخان بسنديهما عن أبي سعيد الخدري: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (2) .
ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم حيث قال: (إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجلعهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ)(3) .
فصار من لوازم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة صحابته وقرابته وأهل بيته ومعرفة فضلهم والثناء عليهم بما هم أهله والدفاع عنهم وصون حرمتهم.
(1) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 5 / 2 -3.
وصحيح مسلم. كتاب فضائل الصحابة. فضل الصحابة. 4 / 1964.
(2)
صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب فضائل قول النبي صلى الله عليه وسلم، لو كنت متخذا خليلا 5 / 10.
وصحيح مسلم. كتاب فضائل الصحابة. باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، 4 / 1967.
(3)
أخرجه أحمد في الحسد، 11 / 379.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، 3 / 78 - 79.
خامسا: ومن مظاهر محبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة سنته والداعين إليها: والمتمسكين بها وأهل العلم الذين لهم في هذه الأمة قدم صدق وهم السلف الصالح ومن أتى بعدهم على منهاجهم حتى يومنا هذا وتوليهم والدفاع عنهم ومعرفة قدرهم وحفظ حرمتهم والتأدب معهم والاعتذار لمن أخطأ منهم بأحسن المعاذير، وحمل أقوالهم وأحوالهم على أحسن المحامل والوجوه، لأن قصدهم إنما هو نصرة الدين، ولا يعني ذلك عدم تبيين الحق فيما اختلفوا فيه أو الصواب فيما أخطأوا فيه فذلك هو واجب العلماء إلى يوم القيامة.
وإنما المقصود هو إحسان الظن وإنصافهم والتأدب معهم، لأنهم حملة الشريعة، ولولا أن الله هيأهم لهذا الأمر لما كان لنا عن هذا الدين خبر، فهم سلفنا الصالح فلنكن لهم خير خلف، لا أن نفيد من تراثهم ونجحد فضلهم أو نتلمس معايبهم ومطاعنهم دون النظر إلى فضائلهم، فهذا هو سبب ذهاب بركة العلم. ولن نرزق بركة العلم والدين إذا لم نعترف لهم بسابق الفضل والمنزلة وتسلم صدورنا لهم ونترحم عليهم ونسأل الله لهم المغفرة، وهذا هو شأن المؤمن في كل زمان.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10](1) .
قال شارح العقيدة الطحاوية (2) .
(فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمن، كما نطق
(1) سورة الحشر، آية (10) .
(2)
هو علي بن أبي العز الحنفي، (731 - 792) فقيه ولي منصب قاضي القضاة بدمشق بالديار المصرية.
من تصانيفه: التنبيه على مشكلات الهداية. في الفقه الحنفي. وشرح العقيدة الطحاوية وغيرها. انظر الدرر الكامنة لابن حجر، 3 / 159 - 160، والإعلام للزركلي، 4 / 313.
به القرآن خصوصا (العلماء) الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر.
وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول في أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له في تركه من عذر (1) فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم) (2) .
وكما أن من لوازم المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة سنته والداعين إليها فإن من لوزامها بغض من أبغض السنة وأهلها والدعاة إليها من علماء هذه الأمة وسلفها، كما هو صنيع أهل البدع قديما وحديثا من الطعن في السنة وأهلها والوقيعة فيهم وتشويه صورتهم وتاريخهم.
فيجب على المسلم معرفة هؤلاء المبتدعة وبغضهم في الله، كما ينبغي التنبه للمارقين والمنافقين والمنهزمين من حملة الأقلام المسمومة من الكتاب والأدباء والمؤرخين، الذين راحوا يشوهون التاريخ ويقلبون الحقائق ويطعنون في خيار هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم من علماء هذه الأمة ويختلقون الأكاذيب أو ينقلونها على هوى وعدم بصيرة فيجب على أهل الاختصاص من المسلمين الكشف عن مخططاتهم وتعريف الأمة بهم والرد عليهم وتبيين الحقائق.
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42](3) .
(1) بين الشيخ بعد ذلك الأعذار التي اعتذر بها أهل العلم للأئمة. وقد بسط شيح الإسلام ابن تيمية القول في بيانها في رسالته القيمة (ردع الملام عر الأئمة الأعلام) فلتراجع ضمن مجموع الفتاوى، 20 / 231 وما بعدها.
(2)
شرح العقيدة الطحاوية، ط 6، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400 هـ، ص 555.
(3)
سورة الأنفال، آية (42) .
تلك هي أهم مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولوازمها في صورتها العامة والتي يجب أن يتحلى بها المسلم في سلوكه وفعله وتظهر آثار ذلك عليه.
آثار المحبة على السلوك والأفعال: المقصود بهذه الآثار هو ما يظهر على سلوك المؤمن المحب لله ورسوله وفعله. لأن هذه الآثار هي التي تبين صدق هذه المحبة، وهي عنوان انتفاع المسلم بهذه المحبة، وإذا كان الحب يحرك إرادة القلب نحو تحصيل المحبوبات ودفع المكروهات، فإن محبة المؤمن لله ورسوله تحمله على تحصيل ما يحبه الله من أعمال القلوب والجوارح، واجتناب ما يبغضه الله ورسوله من الأقوال والأفعال فلا بد لكل محبة في القلب من آثار تظهر على الجوارح. وآثار محبة الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما هو ظاهر يقع عليه الحكم وينطق فيه الوصف، ومنها ما هو باطن بمنزلة الثمرة الإيمانية.
فأما الظاهرة منها: فهي أن يكون المسلم محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤثرا حبه على كل محبوب وغال، وأن يكون مكثرا لذكره وتذكره والصلاة عليه متشوقا لرؤيته، سائلا الله اللحاق به والاجتماع به في الجنة، والورود على حوضه والشرب منه.
ومنها: أن يكون معظما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما شرعيا يليق به، موقرا له، ومتأدبا معه وحافظا لحرمته، ومعظما لدينه وسنته، متجافيا عن البدع والغلو وضروب المعاصي.
ومنها: أن يكون متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في منشطه ومكرهه، في سره وعلانيته، باذلا كل ما في وسعه للوقوف على هديه واتباع سنته، متحريا في كل أقواله وأفعاله موافقة سنته، وأن يكون حريصا على الاقتداء به في الواجبات والمستحبات، في الفرائض والنوافل، مكثرا من ذكر الله والدار الآخرة مجاهدا في سبيل الله بكل ما يستطيع.
ومنها: أن يكون متأدبا بآدابه متأسيا بأخلاقه صلى الله عليه وسلم من سعة الصدر ولين
الجانب وسماحة الخلق، وبذل الندى وكف الأذى، وبسط الوجه، وأن يكون صبورا حليما، قريبا من البر، بعيدا عن الإثم، ودودا لإخوانه، منصفا لهم، ينزل الناس منازلهم، ويعرف لأهل الفضل فضلهم. ويمتليء قلبه حبا لإخوانه المسلمين، غير عياب ولا متفحش ولا ملتمس للبرآء المعايب زاهدا في حطام الدنيا وزخارفها، راغبا فيما عند الله من الأجر والمثوبة.
تلك هي بعض أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، والتي يجب على من أحبه أن يتأسى به فيها، لا أن يدعي حبه، وخلقه وسمته مباين لخلق الصالحين والأبرار. وإن حسن الخلق هو عنوان استفادة المسلم من هذا الدين وهديه، وهو الركيزة الأساسية في النجاة من النار وسلوك مسلك الأبرار بعد تقوى الله عز وجل.
ومنها: أن يكون محبا لأصحابه وقرابته وآل بيته والصالحين والعلماء وكل ما يحبه الله ورسوله، وأن يبغض كل من أبغض الله ورسوله أو الصحابة أو آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أو أبغض دينه وكره ظهوره من الكفرة والمنافقين.
ثمرات المحبة: أما الآثار الباطنة فمن أعظمها أن يجد المؤمن في قلبه حلاوة الإيمان كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم بسنديها عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود قي الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (1) .
فهذا الحديث يبين أثر محبة الله ورسوله في قلب المؤمن وهو أن يجد حلاوة الإيمان في قلبه إذا اتصف بهذه الصفات الثلاث.
يقول ابن تيميه:
(أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، لأن
(1) سبق تخريجه ص 54.
وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئا أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك. . . فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح بما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور. تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها.
(" تكميلها " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه سواهما كما تقدم.
" وتفريعها " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
" ودفع ضدها " أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار) (1) وكلما ازداد المؤمن محبة لله ورسوله كلما ازداد ذوقه لحلاوة الإيمان فإن للإيمان من الحلاوة في القلب واللذة والبهجة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه إلا لمن ذاقه، والناس متفاوتون في ذوق الإيمان واللذة به تفاوتا عظيما لا يعلمه إلا الله.
والمقصود أن أهل الإيمان يجدون بسبب محبتهم لله ورسوله من حلاوة الإيمان ما يناسب هذه المحبة (2) .
وأما عاقبة هذه المحبة فهي أن يكون المرء مع من أحب كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه في الجنة بإذن الله، ولو لم يكن لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ثواب سوى مرافقته في الجنة والتنعم برؤيته لكفى.
أخرج البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه: «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال ما أعددت لها
(1) مجموع الفتاوى، 10 / 205- 206.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى، 10 / 648 - 650.
من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكنى أحب الله ورسوله، قال أنت مع من أحببت» (1) .
وفي رواية: «قال: وماذا أعددت لها كما قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت مع من أحببت» . قال أنس فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم) (2) .
وأخرج البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب» (3) .
فهذه الأحاديث تبين أن المرء مع من أحب طالما كان هذا الحب سببه محبة الأعمال الصالحة وأهلها. فالمحبة الصحيحة تقتضي مشاركتهم في أصل عملهم وهو فعل الواجبات وترك المنكرات، وإن لم يبلغ درجتهم في التقرب إلى الله عز وجل، وعلى ذلك دل قول السائل: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ويقصد بذلك ما زاد على الواجبات من النوافل التي تقبل الكثرة والزيادة، أو أن حظه منها قليل جدا بالمقارنة مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه ورضي الله عنهم (4) .
ويؤكد هذا قول أنس رضي الله عنه: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
(1) صحيح البخاري. كتاب الأدب، باب علامة حب الله عز وجل، 8 / 49.
(2)
صحيح البخاري. كتاب فضائل الصحابة. باب مناقب عمر بن الخطاب 5 / 14- 15. وأخرجه مسلم في البر والصلة. باب المرء مع من أحب، 4 / 2032.
(3)
صحيح البخاري. كتاب الأدب، باب علامة حب الله عز وجل، 8 / 48- 49. ومسلم. كتاب البر والصلة. باب المرء مع من أحب، 4 / 2032.
(4)
ويدل على هذأ إحدى روايات مسلم وفيها: ما أعددت لها من كثير أحمد عليه نفسي) . صحيح مسلم 4 / 2032.
قال ابن حجر:
(. . ودل الخبر على أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان الأصل أنه لا يحصل إلا بامتثال جميع ما أمر به، أنه يحصل من طريق التفضل باعتقاد ذلك وإن لم يحصل استيفاء العمل بمقتضاه بل محبة من يعمل ذلك كافية في حصول أصل النجاة والكون مع العاملين بذلك، لأن محبتهم إنما هي لأجل طاعتهم، والمحبة من أعمال القلوب، فأثاب الله محبهم على معتقده، إذ النية هي الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المحبة الاستواء في الدرجات)(1) .
نخلص من هذا إلى أن من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا صحيحا يصدقه الاتباع كان معه في الجنة بإذن الله فضلا وتكرما منه سبحانه، أما مجرد ادعاء الحب بدون تحقيق الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يصل صاحبه إلى هذه المعية ما لم يحقق الاتباع.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:
(ابن آدم لا تغتر بقول من يقول: المرء مع من أحب، أنه من أحب قوما اتبع آثارهم، ولن تلحق بالأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم وتصبح وتمسي وأنت على منهجهم، حريصا على أن تكون منهم، فتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقهم وإن كنت مقصرا في العمل، فإنما ملاك الأمر أن تكون على استقامة، أما رأيت اليهود، والنصارى، وأهل الأهواء المردية يحبون أنبياءهم وليسوا معهم، لأنهم خالفوهم في القول والعمل، وسلكوا غير طريقهم فصار موردهم النار، نعوذ بالله من ذلك)(2) .
(1) فتح الباري، 10 / 558.
(2)
استنشاق نسيم الأنس، لابن رجب، ص87.