الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المطلب الثاني الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي]
المطلب الثاني
الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي انتهينا فيما سبق إلى أن الحلاج كان أول صوفي غلا في الرسول صلى الله عليه وسلم بما يخرجه عن حد البشرية منطلقا من مذهبه في الحلول.
وجاء ابن عربي (1) .
الذي بدأ من حيث انتهى الحلاج ليقيم مذهبا فلسفيا صوفيا مبنيا على وحدة الوجود، وتفرع عن مذهبه في الوجود مذهبه في الحقيقة
(1) هو محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي الطائي الأندلسي ثم الدمشقي، المعروف بابن عربي بالتنكير تمييزا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي، وينتهي نسب ابن عربي إلى عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الطائي.
ولد ابن عربي في رمضان سنة 560 هـ بمرسية في بلاد الأندلس ثم ارتحل إلى أشبيلية بعد بلوغه ثماني سنوات وفيها حفظ القرآن وتعلم القراءات واشتغل بتحصيل الحديث وسماعه من أهل الحديث في بلاده ثم مال بعد ذلك إلى الأدب ونظم الشعر فحصل له توسع فيه وكتب الإنشاء لبعض الأمراء بالمغرب ثم بعد ذلك كله سلك طريق التصوف فتزهد وتعبد وأقبل على الخلوات وانقطع للتنسك إلى أن أصبح رأسا في التصوف الفلسفي.
وكان ابن عربي بحكم نشأته في الأندلس التي كانت بمنزلة الباب العربي للمسلمين على أوربا قد اطلع على ثقافات عصره والفلسفات السائدة في ذلك الوقت. ثم خرج ابن عربي بعد ذلك من الأندلس لطلب العلم ولقاء الصوفية في البلدان والاجتماع بهم فزار معظم مدن المغرب مثل سبته وفاس وتونس وتلمسان وغيرها، ثم اتجه في رحلاته إلى المشرق راغبا في الحج، وبعد الحج اتجه صوب العراق فدخل بغداد والموصل ثم رحل إلى مصر سنة 603 هـ. واتصل ببعض أشباهه من الصوفية وأخذ بتأليف الرسائل والكتب وهناك ظهر منه ما يستوجب النقد والإنكار، فأنكر عليه علماء مصر ما صدر منه وحكموا بكفره وإراقة دمه كما حكم على الحلاج وأمثاله، وكاد أن يقتل لولا أن خلصه وشفع له الشيخ أبو الحسن علي بن فتح بن عبد الله البجائي الذي سعى في أمره وأظهر وجوه تأويل كلامه إلى أن عفي عنه.
ثم رحل إلى مكة فجاور بها إلى سنة 607 هـ وفيها ابتدأ تأليف كتابه الفتوحات المكية الذي يعتبر أكبر موسوعة صوفية شملت كثيرا من علوم الصوفية وأحوالهم غير أنه مزجه بمذهب وحدة الوجود. ثم توجه ابن عربي بعد ذلك إلى بلاد الأناضول فوصل إلى (قونيه) وكانت آنذاك عاصمة القسم الإسلامي من بلاد الروم، وفيها صنف بعض كتبه كما تزوج فيها بأم صدر الدين القونوي فأصبح القونوي ربيبه ومن أخص تلامذته فيما بعد، ثم رحل ابن عربي بعد ذلك إلى بغداد حيث التقى بشهاب الدين السهروردي صاحب كتاب عوارف المعارف، ومن بغداد توجه إلى مكة ومنها إلى قونيه مرة أخرى، ثم رجع إلى الشام ليتنقل بين قرى الشام ومدنه واستقر به الأمر آخرا في دمشق حيث أتم كتاب الفتوحات المكية وصنف فصوص الحكم، والتفصيل في معاني التنزيل، وغيرها من الكتب، كما أخذ ينشر علومه ومعارفه وظل في دمشق إلى أن توفي فيها سنة 638 هـ.
ويعتبر ابن عربي من أكثر الصوفية تصنيفا إذ جاوزت تصانيفه ما يربو على المائتين، ومن أشهر تصانيفه الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، وعنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب، وإنشاء الدوائر، والفناء في المشاهدة، وكتاب الإسراء إلى مقام الإسرى، ومحاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار وغيرها. ويعد ابن عربي رأسا في تصوف أهل وحدة الوجود كما كان أهل الصوفية ضلالا وزيغا ومروقا من الدين. ولكنه لم يجاهر بآرائه وزنقدته وكفره إلا لخواص أصحابه وتلامذته خوفا من الوقوع تحت سيف الشرع متظاهرا بين عامة أهل العلم بالتنسك والعبادة والزهد.
فلما مات وانتشرت كتبه عرف الناس حقيقة أمره وحقيقة مذهبه فحكم أكثر العلماء بكفره وزندقته وكذبه على الله ورسوله وانتصب كثير منهم للرد عليه وبيان كفره وتحذير الناس منه. وقد جمع تقي الدين الفاسي في العقد الثمين جملة من ردود العلماء وفتواهم بكفره وزندقته، كذلك فعل برهان الدين البقاعي في تنبيه الغبي إلى تكفر ابن عربي، ومثل ذلك فعل السخاوي في القول المبني في ترجمة ابن عربي.
وبعض العلماء أثنى على ابن عربي لما رأوا من زهده وإيثاره واجتهاده في العبادة فأثنوا عليه بهذا الاعتبار ولم يعرفوا ما في كلامه من الكفر، وبعض من أثنى عليه يعرفون ما في كلامه من الباطل ولكنهم يزعمون أن له تأويلا، وحملهم على ذلك متابعتهم له في معتقده، فثناؤهم عليه مردود لتزكيتهم معتقدهم. وأما الصوفية فأكثرهم - إلا من رحم الله - يعدون ابن عربي الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر وكثير منهم اليوم على مذهبهم بفهم لحقيقته وبغير فهم.
انظر: - سير أعلام النبلاء للذهبي، 23 / 48 وما بعدها.
- البداية والنهاية لابن كثير، 13 / 156.
- لسان الميزان لابن حجر، 5 / 311 وما بعدها.
- العقد الثمين لتقي الدين الفاسي، 2 / 160 وما بعدها.
- شذرات الذهب لابن العماد، 5 / 190 وما بعدها.
- نفح الطيب للمقري 2 / 161، وما بعدها.
المحمدية التي دان بها أكثر الصوفية وآمنوا بها إيمانا عميقا.
ويتمثل غلو ابن عربي في الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله بالحقيقة المحمدية، ولكي نفهم مقصوده بالحقيقة المحمدية لا بد أن نعرف بإيجاز مذهبه في وحدة الوجود.
مذهب ابن عربي في وحدة الوجود: إن القول بوحدة الوجود كمذهب فلسفي يحاول تفسير الوجود ومدى
علاقته بخالقه سبحانه وتعالى قول قديم جدا عرفه الفكر الفلسفي الوثني، وعن طريقه انتقل إلى أهل الأديان من يهود ونصارى، ثم انتقل إلى المتصوفة عن طريق ابن عربي الذي حاول جهده أن يصبغه بصبغة إسلامية (1) . ولم يكن هذا المذهب قد أخذ صورته الكاملة في المحيط الصوفي قبل ابن عربي الذي قرر مذهب وحدة الوجود في صورته النهائية ووضع له مصطلحا صوفيا كاملا استمده من كل مصدر وسعه أن يستمد منه، كعلم الكلام والفلسفة اليونانية والأفلاطونية الحديثة والغنوصية المسيحية وغيرها من الفلسفات، كما أنه استفاد من تراث متصوفة الإسلام المتقدمين عليه سواء منهم من كان في الأندلس أو في المشرق، كما اعتمد على الأحاديث الموضوعة وتأويلات الشيعة الباطنية للشريعة ونصوصها. ولكنه صبغ هذه المصطلحات والفلسفات بصبغته الخاصة وأعطى لكل منها معنى جديدا يتفق مع روح مذهبه العام في وحدة الوجود (2) .
ويقوم مذهب ابن عربي في وحدة الوجود على أساس أن الوجود كله- بما فيه ومن فيه- واحد هو الله، وأن ما يوجد في الكون من مخلوقات فوجودها خيال أو وهم أو ظل بالنسبة لوجود الله (3) . فالوجود عند ابن عربي كله واحد هو الله، والكثرة التي تشهدها الحواس إنما هي مجرد صور ومظاهر ومجال تتجلى فيها الصفات الإلهية. وليس هناك فرق حقيقي بين الوحدة والكثرة، أو بين الحق والخلق إلا من حيث الاعتبار والجهة أو النسب والإضافات أو الأسماء والصفات. فالحقيقة الوجودية واحدة في ذاتها متكثرة بصفاتها وأسمائها، فالله حق في ذاته، خلق من حيث صفاته، وصفاته عين ذات، فالخلق عين الحق، والحق هو الخلق (4) . فالله- تعالى وتقدس- عند
(1) انظر: الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص497 وما بعدها.
(2)
انظر: مقدمة فصوص الحكم لابن عربي. تقديم وتعليق أبو العلا عفيفي نشر دار الكتاب العربي بيروت، ص7.
(3)
انظر: فصوص الحكم، ص 101 وما بعدها.
(4)
انظر: مقدمة النصوص، ص 29.
ابن عربي هو الواحد والكثرة، وهو القديم والحديث: وهو الباطن والظاهر، وهو العبد وهو الرب.
يقول ابن عربي عن آله وحدة الوجود:
(فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن)(1) . فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه، فهر ظاهر لنفسه، باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات. فيقول الباطن: لا إذا قال الظاهر أنا، ويقول الظاهر: لا إذا قال الباطن أنا، وهذا في كل ضد، والمتكلم واحد وهو عين السامع) (2) . ويقول:
يا خالق الأشياء في نفسه
…
أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه في
…
ك فأنت الضيق الواسع (3)
ويقول:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا
…
وليس خلقا بذاك الوجه فادكروا
من يدر ما قلت لم تخذل بصيرته
…
وليس يدريه إلا من له بصر
جمع وفرق فإن العين واحدة
…
وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر (4) .
وحتى لا يظن ظان أن ابن عربي يفرق بين ذات الله وبين الخلق يقول: (. . . . وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة، وإن اختلفت حدودها، فهو محدود بحد كل محدود فما يحد شيء إلا وهو حد الحق،
(1) لا يريد ابن عربي بالأول والآخر والظاهر والباطن المعنى الإسلامي الصحيح الذي يليق بأسماء الله وصفاته. وإنما يريد معنى إلحاديا ينبني على أن الله هو الكون والكون هو الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(2)
الفصوص، ص 77.
(3)
المصدر نفسه ص88.
(4)
المصدر نفسه ص79.
فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود، فهو عين الوجود، (فهو على كل شيء حفيظ " بذاته " ولا يؤوده " حفظ شيء فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته. ولا يصح إلا هذا فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير.
فهو الكون كله
…
وهو الواحد الذي
قام كوني بكونه
…
ولذا قلت يغتذي
فوجودي غذؤه
…
وبه نحن نحتذي
فبه منه أن نظرت
…
بوجه تعوذي (1) .
وعلى ذلك فلا فرق بين الله والعالم عند ابن عربي، فالعالم بما فيه من مخلوقات هو الله، وليس ثم شيء آخر وراء هذا العالم عنده. وبهذا يكون ابن عربي بمذهبه في وحدة الوجود قد وصل إلى نهاية الكفر التي ليس وراءها شيء. وبناء على ذلك فهذا المذهب لا يؤمن بالخلق والإيجاد من العدم، وإنما الخلق عند ابن عربي هو عبارة عن التجلي الإلهي الدائم الذي لم يزل ولا يزال بظهور الحق في كل آن فيما لا يحصى عدده من صور الموجودات. فأصل كل وجود وسبب كل موجود عنده هو الفيض الإلهي المتصل الدائم (2) . يقول ابن عربي:
(لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفا بالوجود، ويجهر به سره إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته بنفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل ولا تجليه
(1) المصدر نفسه، ص11.
(2)
انظر: الفلسفة الصوفية في الإسلام ص 507 وما بعدها.
له. وقد كان الحق سبحانه أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه فكان كمرآة غير مجلوة. ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا ويقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة المسواة لقبول فيض التجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال وما بقي إلا قابل، والقابل لا يكون إلا من فيضه الأقدس. فالأمر كله منه، ابتداؤه وانتهاؤه {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] (1) كما ابتدأ منه.
فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة، وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم ((بالإنسان الكبير)) (2) . هذا هو مذهب ابن عربي في وحدة الوجود ولسنا بصدد مناقشته وبيان مخالفته للإسلام (3) .
لكن يهمنا هنا موقفه من الحقيقة المحمدية، وما هي علاقتها بمذهبه في وحدة الوجود؟
الحقيقة المحمدية عند ابن عربي: لما كان الله تنزه وتقدس- عند ابن عربي - يتجلى في صور المخلوقات باعتباره روح هذا العالم وكان الإنسان أعظم هذه المخلوقات، كان تجلي الحق فيه أعظم وأكمل. فالإنسان - في نظر ابن عربي - أكمل مجالي الحق باعتباره أرقى الموجودات. حيث جمع الصفات الحقيقة والخلقية، فصار صورة للعالم الأكبر، ولذلك يسميه ابن عربي بالمختصر الشريف، والكون الجامع لجميع حقائق الوجود
(1) سورة هود، آية (123) .
(2)
الفصوص، ص 48- 49.
(3)
انظر: في الرد على مذهب وحدة الوجود.
- رسالة حقيقية مذهب الاتحاديين ووحدة الوجود لابن تيمية. مجموع الفتاوي 2 / 134- 285.
- وتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد. برهان الذين البقاعي. تحقيق عبد الرحمن الوكيل. - والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، تقي الدين القاصى المكي 20 / 160- 199. وقد ترجم فيه التقى القاضي لابن عربي وذكر طائفة من ردود العلماء عليه وتكفيرهم له.
ومراتبه، فهو العالم الأصغر الذي انعكست في مرآة وجوده كل كمالات العالم الأكبر (الله) . أو كمالات الحضرة الإلهية الأسمائية والصفاتية. فأكمل الموجودات على الإطلاق هو الحق، وأكمل مظهر للحق هو الإنسان الكامل (1) . والإنسان الكامل عند ابن عربي هو الإنسان الذي تجلى فيه الحق، أكمل تجل وأعظمه، ولا يصدق هذا إلا على الأنبياء والأولياء. وأكمل هؤلاء جميعا هو محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يقصد ابن عربي بذلك شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل يقصد به الحقيقة المحمدية الأزلية القديمة التي تعتبر. الروح التي ظهرت في الأنبياء والأولياء، أو التي كان الأنبياء والأولياء صورا لها ولذلك يسميها بالروح المحمدي أو روح الخاتم (خاتم الرسل)(2) . فالحقيقة المحمدية- في نظر ابن عربي - هي أكمل مجلى خلقي ظهر فيه الحق، بل يعتبرها الإنسان الكامل والخليفة الكامل بأخص معانيه. وكمال الشيء عنده متوقف على عدد الأسماء والصفات الإلهية المتجلية فيه، فإذا كان كل واحد من الموجودات يعتبر مجلى خاصا لبعض الأسماء الإلهية التي هي أرباب له، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي - قد انفرد بأنه مجلى للاسم الأعظم الجامع لجميع تلك الأسماء، وهو الله. ولهذا كانت له مرتبة الجمعية المطلقة (جمع كمالات الأسماء والصفات) ومرتبة التعين (التجلي) الأول الذي تعينت به الذات الأحدية. ومعنى ذلك أن الحقيقة المحمدية هي أول شيء تجلى فيه الحق وظهر، وإن شئت قلت إنها هي الحق ذاته ظاهرا لنفسه في أول تعين من تعيناته في صورة العقل الحاوي لكل شيء، المتجلي في كل كائن عاقل (3) . ولذلك يعرف غلاة الصوفية الحقيقة المحمدية بأنها (هي الذات مع التعين الأول، وهو الاسم الأعظم)(4) .
(1) انظر: الفصوص، ص 54- 55.
(2)
انظر: نظريات الإسلاميين في الكلمة. لأبي العلاء عفيفي، مقال بمجلة كلية الآداب. جامعة الملك فؤاد (القاهرة) سنة 1934م، ج1، المجلد الثاني، ص33 - 75.
(3)
انظر: التعليقات على فصوص الحكم لأبي العلاء عفيفي، 2 / 320- 1 32.
(4)
انظر: التعريفات للشريف الجرجاني، ص90، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
هذا هو مقصود ابن عربي ومن أتى بعده بالحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي وهي شيء مختلف عندهم تماما عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم بل ليس بينهما من الصلة على كما بين الحقيقة المحمدية وأي نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل أو ولي من الأولياء (1) . يقول ابن عربي في إحدى صلواته:
(اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعينات المفاضة من العماء الرباني وآخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني، المهاجر من مكة " كان الله ولم يكن مع شيء ثان " إلى مدينة " وهو الآن على ما عليه كان " محصي عوالم الحضرات الإلهية الخمس في وجوده، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] (2) نقطة البسملة الجامعة لما يكون ولما كان، ونقطة الأمر الجوالة بدوائر الأكوان، سر الهوية التي في كل شيء سارية، وعن كل شيء مجردة وعارية. . كلمة الاسم الأعظم، وفاتحة الكنز المطلسم، المظهر الاسم الجامع بين العبودية والربوبية. . . والنفس الرحماني الساري بمواد الكلمات التامات، الفيض الأقدس الذاتي الذي تعينت به الأعيان واستعداداتها، والفيض المقدس الصفاتي الذي تكونت به الأكوان واستمداداتها، مطلع شمس الذات في سماء الأسماء والصفات ومنبع الإفاضات في رياض النسب والإضافات، خط الوحدة بين قوسي الأحدية والواحدية. . . ومركز إحاطة الباطن والظاهر. . . . اللهم يا رب يا من ليس حجابه إلا النور، ولا خفاؤه إلا شدة الظهور، أسألك بك. . . أن تصلي على سيدنا. محمد صلاة تكحل بها بصيرتي بالنور المرشوش في الأزل لأشهد فناء ما لم يكن وبقاء ما لم يزل، وأرى الأشياء كما هي في أصلها معدومة مفقودة، وكونها لم تشم رائحة الوجود فضلا عن كونها موجودة) (3) .
ويتضح من هذا النص كفر
(1) التعليقات على الفصوص، 2 / 321.
(2)
سورة يس، آية (12) .
(3)
أفضل الصلوات على سيد السادات، ليوسف بن إسماعيل النبهاني، طبع المطبعة الأدبية، بيروت، 1309هـ، ص88 وما بعدها.
ابن عربي وغلوه في الحقيقة المحمدية حتى جعلها مساوية للحقيقة الإلهية. ويبدو هذا واضحا في عباراته السابقة التي منها:
- المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان. أي أن المهاجر من مكة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الله.
- كلمة الاسم الأعظم (الله.) .
- الفيض الأقدس الذاتي الذي تعينت به الأعيان واستعداداتها ومعنى ذلك أن الموجودات تعينت وتحددت بفيضه عليها.
- ثم يتجلى لنا مدى خبثه في لي النصوص وتأويلها لخدمة مذهبه الزائغ. ويقول ابن عربي في رسالة شجرة الكون:
" لما قبض الله آدم من قبضة تراب (كن) مس على- ظهره حتى يميز الخبيث من الطيب فاستخرج من ظهره من كان من أصحاب اليمين ومن كان من أصحاب الشمال. ثم اعتصر من شجرة (كن) صفوة عنصرها، ومخضها حتى بدت زبدتها، ثم صفاها وألقى عليها من نور هدايته، حتى ظهر جوهرها ثم غمسها في بحر الرحمة، ثم خلق منها نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم زينه بنور الملأ الأعلى حتى أضاء وعلا، ثم جعل ذلك النور أصلا لكل نور، فهو أولهم في السطور وآخرهم في الظهور "(1) .
وواضح أن ابن عربي هنا قد صاغ هذه الفكرة بأسلوب صوفي بعيد عن التركيب الفلسفي الذي نراه في كتبه وبالأخص فصوص الحكم والفتوحات المكية، وهو في هذا متأثر بسلفه الحلاج حيث قال: " أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار
(1) نشأة الفلسفة الصوفية، وتطورها. عرفان عبد الحميد فتاح، طبع المكتب الإسلامي، بيروت، 1394 هـ، ص 100.
نور أنور وأظهر وأقدم من القدم سوى نور صاحب الكرم، همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم واسمه سبق القلم لأنه كان قبل الأمم " (1) . هذا هو مفهوم الحقيقة المحمدية عند ابن عربي فما هي خصائصها وما علاقتها بالعالم المادي والروحي كما للحقيقة المحمدية- عند ابن عربي - عدة وظائف في العالم المادي والروحي فمن ناحية صلتها بالعالم المادي تعتبر مبدأ خلق العالم إذ هي النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء، كما يقول ابن عربي (بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية)(2) .
، ويقول (أنه سبحانه تجلى بنوره إلى " ذلك الهباء. . . فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء وعلى حسب قوته واستعداده كما تقبل زوايا البيت نور السراج، وعلى قدر قربه من ذلك النور يشتد ضوؤه وقبوله. قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] (3) فشبه نوره بالمصباح فلم يكن أقرب إليه قبولا في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل فكان سيد العالم بأسره، وأول ظاهر في الوجود، فكان وجوده من ذلك النور الأزلي ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية وفي الهباء وجد عينه، وعين العالم من تجليه وأقرب الناس إليه علي بن أبي طالب (4) . وأسرار الأنبياء أجمعين (5) ومن ناحية صلتها بالإنسان يعتبرها ابن عربي صورة كاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع حقائق الوجود ولذلك يسميها آدم الحقيقي والحقيقة الإنسانية (6) . أما من ناحية صلتها بالعالم الروحي فيعتبرها مصدر كل وحي وإلهام وكشف للأنبياء والأولياء على السواء فهي منبع الوحي والعلم الباطني، والأصل الذي يأخذ عنه الأنبياء والأولياء.
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية، ص 263، نقلا عن أخبار الحلاج ص11.
(2)
الفتوحات المكية، 1 / 118.
(3)
سورة النور، آية (35) .
(4)
تفوح من هذا النص رائحة التشيع عند ابن عربي بالإضافة إلى الغلو.
(5)
الفتوحات المكية، 1 / 119.
(6)
انظر: التعليقات على الفصوص، ص 320.
يقول ابن عربي:
" فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم من أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين! (1) . وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث " (2) . وبذلك تكون الحقيقة المحمدية مشابهة للقطب أو الإمام المعصوم لدى الشيعة الإسماعيلية الذي يتجلى في كل زمان في صورة قطب ذلك الزمان (3) . هذا هو مقصود ابن عربي ومن أتى بعده بالحقيقة المحمدية.
وقد تأثر ابن عربي بمن سبقه من المتصوفة لاسيما الحلاج في قوله بقدم النور المحمدي، كما أنه استفاد من كل ما سبقه من فلسفات يونانية وهندية، ومصرية وعقائد يهودية ونصرانية. كما كان لعقائد الشيعة والباطنية وتأويلاتهم لنصوص الشرع، وآرائهم الهدامة نصيب كبير في فكر ابن عربي. كما سبق أن بينا ذلك ولكن ابن عربي حاول أن يصبغ مذهبه في الحقيقة المحمدية بصبغة إسلامية باحثا له عن أسس يعتمد عليها. من تأويل لآيات القرآن ونصوص الحديث، ومن أكثر ما يستدل به الأحاديث الواردة في قدم ذات النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث: مثل حديث: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " ويروى: " كنت نبيا ولا آدم ولا ماء ولا طين "(4) ومنها حديث كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم " (5) . ومنها حديث النور المنسوب إلى مصنف عبد الرزاق عن جابر بن
(1) هذا حديث باطل لا أصل له وسيأتي مزيد كلام عليه.
(2)
الفصوص، 63 - 64.
(3)
انظر: نظريات الإسلاميين في الكلمة، ص 58.
(4)
هذا حديث لا أصل له كما بينه ابن تيمية.
انظر: الرد على البكري، ص 9، ومجموع الفتاوى 2 / 238.
(5)
هذا الحديث منكر الإسناد والمتن معا.
انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني، 2 / 115. ورسالة النور المحمدي، تأليف عداب محمود الحمش، 23- 26.
عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور في القدر حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك، ولا سماء، ولا أرض، ولا شمس، ولا قمر، ولا جني، ولا إنسي، فلما أراد أن يخلق الخلق، قسم ذلك النور أربعة أجزاء:
1 -
فخلق من الجزء الأول: القلم.
2 -
ومن الثاني: اللوح.
3 -
ومن الثالث: الجنة والنار.
4 -
ثم قسم الرابع أربعة أجزاء:
(أ) فخلق من الأول: نور أبصار المؤمنين.
(ب) ومن الثاني: نور قلوبهم - وهو المعرفة بالله.
(ب) ومن الثالث: نور أنسهم - وهو التوحيد - لا إله إلا الله، محمد رسول الله. . . الحديث " (1) . .
ومما يسوقه الصوفية في هذا الباب ويعدونه حديثا قولهم: " إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل خلق آدم بألفي عام وجعله في عمود أمام عرشه يسبح الله ويقدسه ثم خلق آدم عليه الصلاة والسلام من نور محمد صلى الله عليه وسلم وخلق نور النبيين - عليهم الصلاة والسلام - من نور آدم عليه الصلاة والسلام "(2) . .
وما ذكروه ليس حديثا إنما هو مجرد قول توارثوه وليس هناك ما يدل على ثبوته فلا أصل له.
(1) كشف الخفاء ومزيل الألباس فيما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للشيح إسماعيل العجلوني، تصحيح أحمد القلاش، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403 هـ، 1 / 113.
وهذا الحديث مكذوب لا أصل له ومنسوبا زورا إلى مصنف عبد الرزاق وليس فيه، ولا رواه عنه أحد من العلماء المعتد بهم كما أنه ليس موجودا في أي من كتب السنة المعتمدة. انظر: رسالة النور المحمدي، ص 46 - 53.
(2)
نقله ابن الحاج في المدخل عن كتاب الدلالات لأبي عبد الرحمن الصقلي. انظر: المدخل للابن الحاج، دار الفكر، بيروت، 1401 هـ، 2 / 30.
مناقشة ابن عربي في الحقيقة المحمدية: يريد ابن عربي من وراء استدلاله بالأحاديث السابقة أن يقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان موجودا بحقيقته قبل الخلق وأن نوره هو مبدأ الخلق ومادته ليقوى بذلك نظريته في الحقيقة المحمدية.
يقول ابن عربي:
" فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث "(1) . .
وهذا كلام باطل فإن الأنبياء لا يأخذ أحد منهم عن آخر إلا من كان مأمورا باتباع شريعته كأنبياء بني إسرائيل الذين أمروا باتباع التوراة كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44] ) (2) . الآية.
وأما إبراهيم وموسى وعيسى فلم يأخذ أحدهم عن الآخر كما لم يأخذوا عن محمد، صلى الله عليه وسلم، وإن بشروا به وآمنوا به.
كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] ) (3) . الآية.
قال على بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما:
(ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه)(4) . .
(1) فصوص الحكم، ص 63 - 64.
(2)
سورة المائدة، آية:44.
(3)
سورة آل عمران، آية:81.
(4)
تفسير ابن كثير، 1 / 378.
واعتقاد ابن عربي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بحقيقته موجودا استنادا إلى حديث " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " اعتقاد باطل لبطلان هذا الحديث وعدم صحته وثبوته وعلى فرض صحته فإنه لا يؤدى إلى نفس المعنى لأن الأشياء لا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم ولم تكن حقيقته صلى الله عليه وسلم موجودة قبل أن يخلق إلا ما كانت حقيقة غيره بمعنى أن الله علمها وقدرها.
لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورا أعظم من غيره، فإنه كان مكتوبا في التوراة والإنجيل وقبل ذلك (1) كما روى الإمام أحمد في مسنده عن العرباض ابن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين صلوات الله عليهم» (2) . .
وحديث ميسرة الفجر: «قلت يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ وفي لفظ متى كتبت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد» (3) . .
قال ابن تيمية:
(ولهذا يغلط كثير من الناس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ميسرة قال: «قلت يا رسول الله متى كنت نبيا؟ وفي رواية - متى كتبت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد» . فيظنون أن ذاته ونبوته وجدت حينئذ، وهذا جهل فإن الله إنما نبأه على رأس أربعين من عمره وقد قال له: (. . {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] (4) .
(1) انظر مجموع الفتاوى، 2 / 236 - 239.
(2)
المسند، 4 / 127، 128، وأخرجه الحاكم في المستدرك، 2 / 600، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(3)
أخرجه أحمد في المسند 5 / 59، والحاكم في المستدرك، 2 / 608 - 609، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح، 8 / 223.
(4)
سورة يوسف، آية:3.
. . ومن قال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبيا قبل أن يوحى إليه فهو كافر باتفاق المسلمين، وإنما المعنى أن الله كتب نبوته فأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه، كما أخبر أنه يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه. . . . وكثير من الجهال المصنفين وغيرهم يرويه " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين "" وآدم لا ماء ولا طين " ويجعلون ذلك وجوده بعينه وآدم لم يكن بين الماء والطين بل الماء بعض الطين لا مقابله " (1) . .
وإذا ثبت بطلان كون الرسول صلى الله عليه وسلم موجودا بحقيقته قبل خلق السماوات والأرض فقد انهدم أكبر أساس بنى عليه ابن عربي نظريته في الحقيقة المحمدية.
ثم إن قوله إن الحقيقة المحمدية هي أكبر مظهر تجلى فيه الإله أو أنها هي الله متعينا في أول تعيناته قول لا دليل عليه - فوق أنه كفر - بل الدليل قائم على بطلانه عقلا وشرعا لأن الخالق غير المخلوق، ولو قلنا بأن الخالق هو المخلوق لما كان هناك خلق أصلا.
وهو الذي يؤمن به ابن عربي إذ حاصل كلامه إنكار الخلق والقول بقدم العالم، وقوله عن الحقيقة المحمدية بأنها مبدأ خلق العالم وسبب وجوده. قول مصادم للنصوص الشرعية التي بينت أن مبدأ خلق العالم هو الماء والعرش كما في قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7](2) . الآية.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء» . . . " (3) . الحديث (4) . . الحديث.
(1) الفتاوى، 8 / 282 - 283.
(2)
سورة هود، آية (7) .
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد. باب وكان عرشه على الماء، 9 / 152.
(4)
وأما حديث: أول ما خلق الله القلم، ثم قال اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة. المسند، 5 / 317. فالأولية في هذا الحديث مقيدة بالنسبة لما عدا العرش والماء. أو بالنسبة لما صدر منه من الكتابة، أي قيل له أول ما خلق: اكتب. انظر: فتح الباري 6 / 289. وشرح العقيدة الطحاوية، ص294 - 296.
كما بين القرآن أن الغاية من الخلق هي أن يعبد الله بما شرع، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56](1) .
وقول ابن عربي بأن الحقيقة المحمدية هي التي أمدت الأنبياء والأولياء بالعلم الباطن قول ينفي الوحي والنبوة والرسالة، إذ النبوة والرسالة متوقفة على الوحي الذي نزل به الملك على كل نبي.
والنتيجة التي يريد ابن عربي أن يصل إليها هي الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. واتخذ ابن عربي في سبيل تحقيق ذلك. الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم بدرجة مساواته بالله عز وجل، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقد يتوهم بعض الناس حين يظن أن معنى هذا الكلام أننا ننفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نور كما وصفه القرآن بذلك.
والحق أنه ليس معنى وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نور. أنه مخلوق من نور كما يزعم الصوفية، وإنما معناه أنه صلى الله عليه وسلم هاد لمن اتبعه، منير له طريق الهدى وسبيل الرشاد بإذن ربه، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46](2) . وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15](3) .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية:
(يقول جل شأنه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب: قد جاءكم يا أهل التوراة والإنجيل من الله نور. يعنى بالنور محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك فهو نور لمن استنار به يبين الحق)(4) .
(1) سورة الذاريات، آية (56) .
(2)
سورة الأحزاب، آية (45-46) .
(3)
سورة المائدة، آية (15) .
(4)
تفسير الطبري، 4 / 104.
ولو كان المراد من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور لصرح القرآن بذلك أتم تصريح ووضحه أوضح بيان، ولما كان هناك داع لوصفه بالبشرية. ولكننا نجد نصوص الشرع تؤكد على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110](1) .
وأخرج البخاري بسنده عن أم سلمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» (2) .
وأخرج مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود قال. «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا فقلنا يا رسول الله أزيد في الصلاة؟ قال وما ذاك؟ قالوا صليت خمسا. قال " إنما أنا بشر مثلكم. أذكركما تذكرون. وأنسى كما تنسون " ثم سجد سجدتي السهو» (3) . .
فالنبي صلى الله عليه وسلم نور بالمعنى القرآني - لا كما يزعم الصوفية - وهو بشر كغيره من الأنبياء السابقين. وصلته بربه صلة العبد المخلوق بمولاه كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1](4) . وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10](5) .
فوصفه الله بالعبودية في أشرف مقاماته صلى الله عليه وسلم وهو مقام القرب من ربه.
(1) سورة الكهف، آية (110) . وسورة فصلت، آية (6) .
(2)
سبق تخريجه، ص 22.
(3)
سبق تخريجه، ص 22.
(4)
سورة الإسراء، آية (1) .
(5)
سورة النجم، آية (10) .
ما هو مقصد ابن عربي من الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أن ابن عربي قد خرج من الإسلام إلى كفر أشنع من كفر اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين بآرائه في وحدة الوجود وما تفرع عنها كالحقيقة المحمدية وغيرها من توابع مذهبه.
ولما كان ابن عربي قد جمع فنونا كثيرة من العلوم والمعارف والفلسفات والأديان الموجودة في عصره، مع خبث ودهاء وزندقة، أراد أن يتخذ من الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم ذريعة لادعائه النبوة وأنه هو خاتم الأولياء الذي هو في نظره أفضل من خاتم الأنبياء.
يقول ابن عربي عن نبوة الأولياء:
(اعلم أيدك الله أن النبي هو الذي يأتيه الوحي من عند الله، يتضمن ذلك الوحي شريعة يتعبد بها في نفسه. فإن بعث إلى غيره كان رسولا. . . وهذا باب قد أغلق برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا سبيل أن يتعبد الله أحدا بشريعة ناسخة لهذه الشريعة المحمدية.
وأما حالة أنبياء الأولياء في هذه الأمة فهو كل شخص أقامه الحق في تجل من تجلياته، وأقام له مظهر محمد صلى الله عليه وسلم ومظهر جبريل عليه السلام. فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية، فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي) (1) . .
وأما عن ادعائه بأنه خاتم الأولياء الذي هو في نظره أفضل من خاتم الأنبياء فيقول:
فأتى به ختم الولاية مثل ما
…
ختم النبوة بالنبي المرسل
ولنا من الختمين حظ وافر
…
ورثا أتانا في الكتاب المنزل (2)
(1) الفتوحات المكية، 1 / 150.
(2)
المصدر نفسه، 3 / 84.
وقال:
أنا خاتم للأولياء كما أتى
…
بأن ختام الأنبياء محمدا
ختام خصوص لا ختام ولاية
…
تعم فإن الختم عيسى المؤيدا (1)
وعلاقة عيسى عليه السلام بموضوع خاتم الأولياء لأن ابن عربي يرى أن ختم الولاية نوعان عام وخاص. فختم الولاية العامة لعيسى عليه السلام الذي ينزل آخر الزمان نبيا وليا يحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام. أما ختم الولاية الخاص فهي المرتبة التي ادعاها ابن عربي لنفسه وأضفى عليها عدة صفات وخصائص من أهمها:
القول بقدم خاتم الأولياء: كما هو الحال بالنسبة لخاتم الأنبياء عنده فكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية (2) .
أن خاتم الأولياء مصدر علوم الأولياء والأنبياء: فكما أن خاتم الأنبياء عند ابن عربي هو مصدر كل علم ومشكاته، فكذلك خاتم الأولياء هو المشكاة التي يأخذ منها كل ولي علمه الباطن.
يقول ابن عربي:
(وليس هذا العلم (أي العلم بوحدة الوجود) إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم) (3) . .
(1) ديوان ابن عربي، ص 293.
(2)
انظر: فصوص الحكم، ص 64.
(3)
المصدر نفسه، ص 62.
ولكن ابن عربي لم يكتف بهذا الادعاء حتى زعم أن الأنبياء والمرسلين من حيث كونهم أولياء يأخذون من مشكاة خاتم الأولياء الذي هو ابن عربي نفسه.
أما من حيث كونهم أنبياء ومرسلين فيأخذون من مشكاة خاتم المرسلين.
ومعنى هذا أن لعلوم الأنبياء والمرسلين اعتبارين:
أحدهما: علوم النبوة والرسالة والتي هي الشريعة والأحكام الظاهرة وهذه يستمدها كل نبي من مشكاة خاتم الأنبياء.
الثاني: علوم الولاية. التي هي الحقائق والعلوم الباطنة فهذه يستمدها الأنبياء والأولياء من مشكاة خاتم الأولياء (1) .
وبذلك يكون ابن عربي قد فضل نفسه على جمع الأنبياء والمرسلين بهذا الكلام الذي هو من وحي الشيطان، وفيه من الكفر والتنقيص للرسل والاستخفاف بهم والكفر بما جاءوا به ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة. وليس هناك اسم شرعي لما يسمى بخاتم الأولياء، وإنما هو منصب صوفي مبتدع لا دليل عليه من الشرع.
نخلص من هذا إلى أن ابن عربي ومن قبله الحلاج، ومن تبعهم من ملاحدة الصوفية لم يصدروا في غلوهم في الرسول صلى الله عليه وسلم عن محبته وتعظيمه واتباع شريعته. وإنما كان مقصدهم من هذا الغلو تعظيم ذواتهم ودعوة المخدوعين من أتباعهم إلى عبادتهم. وهدم الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وإذهاب هيبته من النفوس.
فضررهم على دين الإسلام أشد من ضرر اليهود والنصارى وملل الكفر مجتمعة فيجب على كل من له بصيرة وكل طالب للحق محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر: كتاب رد الفصوص المسمى مرتبة الوجود ومنزلة الشهود، الملا علي بن سلطان القاري. دراسة وتحقيق. الطالب / عبد الله علي الملا رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة أم القرى، 1409 هـ، 1 / 534. وانظر: التعليقات على فصوص الحكم، ص 24.
أن يعرف حقيقة مذهب هؤلاء وضلالهم وكفرهم حتى لا يخدع بهم وبباطلهم.
كما يجب على أهل العلم والدعاة أن يبينوا للناس حقيقة كفر ابن عربي وأمثاله وضلال مذهبه لإنقاذ عامة الصوفية من افتتانهم بهؤلاء الملاحدة.
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42](1) .
(1) سورة الأنفال، آية (42) .