الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المطلب الأول الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم لدى الحلاج]
المطلب الأول
الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم لدى الحلاج يعتبر الحلاج (1) أول صوفي جاهر بعقيدة الحلول في أوساط الصوفية إذ كان يرى أن من هذب نفسه بالطاعة، وصبر على اللذات والشهوات ارتقى إلى
(1) هو الحسين بن منصور، ويكنى أبا مغيث، كان جده مجوسيا اسمه محمي من أهل البيضاء بفارس، وفيها ولد الحلاج سنة 244هـ.
وكانت نشأته بواسط وقيل بتستر وتتلمذ على سهل بن عبد الله التستري ثم قدم بغداد وخالط الصوفية، وتعرف على عمرو بن عثمان المكي. ولبس خرقة الصوفية على يديه، ثم ترك بغداد وتجول في البلاد فذهب إلى مكة مرارا وجاور فيها، وذهب إلى الصين وتركستان، ودخل الهند وتعلم فيها السحر، وقال أدعو به إلى الله!!
وكان الحلاج متلونا في ملابسه وأحواله فتارة يلبس ملابس الصوفية، وتارة يتجرد في ملابس رزية، وتارة يلبس لبس الأجناد ويعاشر أبناء الأغنياء والملوك. وكان مع كل قوم على مذهبهم سواء أكانوا أهل سنة أم رافضة أم معتزلة أو صوفية أو فساقا. وكان دجالا ساحرا صاحب مخاريق وأحوال شيطانية. كما كان صاحب دعوة باطنية تستر بالزهد وتضمر الزندقة والإلحاد واتخذ دعاة له بثهم في البلدان يدعون الناس إلى الزندقة. ولأجل تلونه وتقلبه اختلف الناس في أمره، فقد حكي عن غير واحد من العلماء والأئمة إجماعهم على قتله وأنه قتل على كفره وزندقته وبهذا قال أكثر الصوفية في عصره، ومنهم طائفة غرهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه فأجملوا القول فيه وبعض هؤلاء كان متابعا له في الباطن غير أنه لم يجرؤ على المجاهرة بذلك. أما معظم الصوفية بعده إلى يومنا هذا فيعتقدون ولايته وأنه مات شهيدا!! وهذا من جهلهم بالشرع وقلة مبالاتهم بإجماع الفقهاء، وإلا فقد كان الحلاج زنديقا كافرا حلوليا يدعي الألوهية. وقد اتفق علماء بغداد على كفره وزندقته، وأجمعوا على قتله وصلبه، وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا.
ولما ورد الحلاج آخر مرة إلى بغداد جعل يدعو إلى مذهبه الفاسد ويظهر أشياء من المخاريق والحيل الشيطانية، واستغوى أناسا خدعهم حتى صاروا يتابعونه ويعتقدون ألوهيته وشاع خبره فأحضر وحضر معه جماعة من أصحابه وأقروا بأنه يدعى الألوهية وأنه يحيي الموتى. فأنكر ذلك منهم. وفي آخر مجلس من مجالس محاكمته جيء به وقد أحضر له كتاب من دور بعض أصحابه، وفيه يقول:" من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتا لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحدا من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به كما يطاف بالكعبة ثم يفعل في داره ما يفعله الحجيج بمكة ثم يستدعي ثلاثين يتيما فيطعمهم من طعامه، ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصا قميصا، ويعطي كل واحد منهم سبعة أو ثلاثة دراهم، فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج. وأن من صام ثلاثة أيام لا يفطر إلا في اليوم الرابع على ورقات هندباء أجزأه ذلك عن صيام رمضان، ومن صلى في ليلة ركعتين عن الصلاة بعد ذلك. وأن من جاور الشعير والملح الجريش أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره ".
فقال له القاضي من أين لك هذا؟ فقال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري. فقال كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص للحسن بمكة ليس فيه شيء من هذا.
فكتب القاضي بإهدار دمه وقتله وتبعه الفقهاء على ذلك فأخذ وضرب ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه وحز رأسه وأحرقت جثته وألقي رماده في نهر دجلة سنة 309هـ.
انظر ترجمته في:
- تاريخ الأمم والملوك للطبري، 11 / 79 وما بعدها.
- تاريخ بغداد، 8 / 112 وما بعدها.
- المنتظم لابن الجوزي، 6 / 160 وما بعدها.
- البداية والنهاية، 11 / 132 وما بعدها.
- سير أعلام النبلاء، 14 / 313 وما بعدها.
مقام المقربين، ثم لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه حظ من البشرية حل فيه الإله الذي حل في عيسى ابن مريم، ولم يرد حينئذ شيئا إلا كانا كما أراد، وكان جميع فعله فعل الله (1) وقد ادعى الحلاج أن روح الله حلت فيه كما حلت في الأنبياء من قبل- حسب زعمه - وكلامه في ذلك واضح في أشعاره، وكتبه التي خلفها.
وفي ذلك يقول:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
…
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
…
وإذا أبصرته أبصرتنا
ويقول:
مزجت روحك في روحي كما
…
تمزج الخمرة في الماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني
…
فإذا أنت أنا في كل حال
(1) الفرق بين الفرق، ص263.
وهو القائل:
سبحان من أظهر ناسوته
…
سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا
…
في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه
…
كلمحة الحاجب بالحاجب
ويقول:
أنا أنت بلا شك
…
فسبحانك سبحاني
فتوحيدك توحيدي
…
وعصيانك عصياني
ويتمادى الحلاج في كفره حين يقول:
كفرت بدين الله والكفر واجب
…
لدي وعند المسلمين قبيح
ويقول:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى
…
وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
فيشهد صدقا حيث أشهده الهوى
…
بأن صلاة العاشقين من الكفر
ويقول:
ألا أبلغ أحبائي بأني
…
ركبت البحر وانكسر السفينة
على دين الصليب يكون موتي
…
فلا البطحا أريد ولا المدينة
هذه نبذ من شعره توضح اعتقاده بالحلول وتصرح بكفره الذي أقر به على نفسه، بل اعتقد أن الكفر بدين الإسلام واجب عليه. فلا عجب بعد ذلك إذا ادعى الألوهية قائلا:
أنا الحق والحق للحق
…
لابس ذاته فما ثم فرق (1)
وكان يكتب إلى أتباعه واصفا نفسه بالألوهية، ويستتر بين العامة بالتصوف. ومع ادعائه للألوهية كان يتكلم على طريقة فلاسفة الصوفية عن بدء العالم وكيف خلقه الله فيقول:
(1) هذه النصوص نقلتها من كتاب الصوفية في الإسلام، ص362 وما بعدها.
(تجلى الحق لنفسه في الأزل قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه ولا حروف، وشاهد سبحات ذاته في ذاته، في الأزل حيث كان الحق ولا شيء معه، نظر إلى ذاته فأحبها، وأثنى على نفسه فكان هذا تجليا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف وكل حد، وكانت هذه المحبة علة الوجود والسبب في الكثرة الوجودية ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلا في صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها فنظر في الأزل، وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه وهي آدم الذي جعله الله صورته أبد الدهر، ولما خلق آدم على هذا النحو عظمه ومجده فاختاره لنفسه، وكان من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه، هو هو)(1) فالحلاج في هذا النص يؤكد على مذهبه في الحلول، وأن الإله قد حل في آدم، فصار بذلك الإنسان الإلهي، أي الذي حلت روح الإله فيه. والمقصود بآدم عند الحلاج ومن- سلك مسلكه من فلاسفة الصوفية- هو النوع الإنساني ابتداء بآدم واستمرارا في الأنبياء حتى محمد صلى الله عليه وسلم والأولياء من بعده. وكلام الحلاج في هذا النص كله من قبيل التصوف الفلسفي الوثني عن بداية الخلق متأثرا في ذلك بالفلسفة الأفلاطونية الحديثة وقد كذبهم الله تعالى بقوله {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] (2) لكن يهمنا في هذا المجال موقف الحلاج من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يدور حول النور المحمدي! . إذ يرى الحلاج أن للنبي صلى الله عليه وسلم صورتين مختلفتين:
(أ) صورته نورا أزليا قديما كان قبل أن يوجد العالم ومنه استمد كل علم وعرفان حيث أمد الأنبياء السابقين عليه والأولياء اللاحقين به.
(1) المصدر نفسه، ص 361، نقلا عن الطواسين للحلاج، ص 129- 130.
(2)
سورة الكهف، آية (51) .
(ب) ثم صورته نبيا مرسلا وكائنا محدثا تعين وجوده في مكان وزمان محدودين والنبي المرسل صلى الله عليه وسلم إنما صدر في رسالته عن ذاك النور الأزلي القديم (1) يقول الحلاج:
(" طس " سراج من نور الغيب بدأ وعاد، وجاوز السراج وساد. قمر تجلى بين الأقمار. برجه في فلك الأسرار. . . ما أخبر إلا عن بصيرته، ولا أمر بسنته إلا عن حق سيرته، حضر فأحضر، وأبصر فخبر. . . أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم سوى نور صاحب الكرم. . . همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم لأنه كان قبل الأمم، ما كان في الآفاق وراء الآفاق ودون الآفاق. أظرف وأشرف وأعرف وأنصف وأرأف وأخوف وأعطف من صاحب هذه القضية وهو سيد البرية، الذي اسمه أحمد، ونعته أوحد، وأمره أوكد، وذاته أوجد، وصفته أمجد، وهمته أفرد، يا عجبا ما أظهره وأنظره وأكبره وأشهره وأقدره وأبصره، لم يزل، كان مشهورا قبل الحوادث والكوائن والأكوان، ولم يزل، كان مذكورا قبل القبل وبعد البعد. . هو الدليل وهو المدلول. . . بالحق موصول غير مفصول، ولا خارج عن المعقول. . . العلوم كلها قطرة من بحره. . . والأزمان كلها ساعة من دهره، الحق وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، وهو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة. . . الحق ما أسلمه إلى خلقه، لأنه هو وإني هو، وهو هو)(2) فهذا النص يدور حول النور المحمدي وأنه هو المصدر الذي استمد منه الأنبياء والرسل قبله، والأولياء من بعده هذا النور. ويؤكد الحلاج في هذا النص على قدم وجود النبي صلى الله عليه وسلم وأسبقيته على وجود الكون. فيقول: " همته سبقت
(1) انظر: الفلسفة الصوفية، ص 379- 0 38.
(2)
الكشف عن حقيقة الصوفية، ص 263- 264، نقلا عن أخبار الحلاج ص 82 وما بعدها.
الهمم ووجوده سبق العدم واسمه سبق القلم لأنه كان قبل الأمم ".
وبناء على ذلك نراه ينكر الوحي ويزعم أن الرسول جاء بالرسالة من ذاته وأخبر بها عن بصيرته. ويتمشى هذا منطقيا مع قوله بقدم النور المحمدي وأنه هو مصدر الوحي والإله أم لجميع الأنبياء والأولياء، ثم مع مذهبه في الحلول الذي يرى بأن الإله حل في آدم ثم الأنبياء من بعده. فلا حاجة مع ذلك إلى الوحي. وبذلك يكون الحلاج بمذهبه هذا قد حاول أن يصل بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الغلو إلى ما وصلت إليه النصرانية بالغلو في عيسى إذ جعلوه الكلمة الإلهية الأزلية الحالة في الناسوت فقالوا عنه إنه ابن الله.
أما الحلاج ومن تابعه من الحلوليين فيرون أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المظهر الذي حل فيه الإله أو الناسوت الذي حل فيه اللاهوت. ولم يكن هذا الحلول خاصا بالرسول بل تعدى إلى الأولياء من بعده، وهذا كفر أشنع من كفر النصارى لأن النصارى خصوا الحلول بعيسى، أما الحلاج فقد عممه في الأنبياء والأولياء على السواء.
على أنه ينبغي أن نلاحظ أن غلو الحلاج في الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن نابعا من حبه له. وإنما كان هدفه من وراء ذلك الغلو هو ادعاؤه للألوهية وتصريحه بحلول الله فيه، ودعوة أتباعه إلى عبادته، طالما أن حلول الإله مستمر في الأولياء بعد الأنبياء بزعمه.
ولذلك حكم عليه فقهاء عصره بردته وإهدار دمه وقتله جزاء وفاقا لكفره وزندقته.
وقد كان مقتل الحلاج بسيف الشرع سببا مهما في استتار ملاحدة الصوفية بدعوتهم الباطنية الرامية إلى إخراج المسلمين من دينهم إلى الزندقة والكفر حتى لا يحصل لهم ما حصل للحلاج. فكانوا على حذر تام من الوقوع تحت سيف الشرع، فإذا وجدوا فرصة ضعف في المسلمين جاهروا بآرائهم، كما كان مقتل الحلاج سببا لإظهار عداوة ملاحدة الصوفية للفقهاء وتنفير أتباعهم منهم.
ولم تمت أفكار الحلاج بموته، بل امتد أثرها فيمن أتى بعده من الصوفية ويدل على ذلك ثناؤهم عليه وتصويبهم لمسلكه، وتأويلهم لعباراته وكفرياته وأنه مات شهيدا إلى غير ذلك من وجوه الدفاع الصادرة إما عن جاهل بحقيقة مذهب الحلاج، أو معتقد لمذهبه مدافع عنه.
قال الذهبي في معرض ترجمته للحلاج:
(فتدبر- يا عبد الله- نحلة الحلاج، الذي هو من رؤوس القرامطة، ودعاة الزندقة، وأنصف وتورع واتق الله في ذلك، وحاسب نفسك فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته، وأن تبرهن لك والعياذ بالله، أنه كان- والحالة هذه- محقا هاديا مهديا، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلا)(1)
(1) سير أعلام النبلاء، 14 / 354.