الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِطْرَةَ اللَّهِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: سُنَّةَ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْخِتَانَ لِأَنَّهُ يَصْبُغُ صاحبه بالدم، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَنَّ النَّصَارَى إذا ولد لأحدهم ولد فاتت عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ غَمَسُوهُ فِي مَاءٍ لَهُمْ أَصْفَرُ، يُقَالُ لَهُ المعمودية، وَصَبَغُوهُ بِهِ لِيُطَهِّرُوهُ بِذَلِكَ الْمَاءِ مَكَانَ الْخِتَانِ، فَإِذَا فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ قَالُوا: الْآنَ صَارَ نَصْرَانِيًّا حَقًّا، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ لَا مَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، يَعْنِي الزموا دين اللَّهِ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] دِينًا وَقِيلَ: تَطْهِيرًا. {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138] مطيعون.
[139]
{قُلْ} [البقرة: 139] يَا مُحَمَّدُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: 139] أَيْ فِي دِينِ اللَّهِ وَالْمُحَاجَّةُ: الْمُجَادَلَةُ فِي اللَّهِ لِإِظْهَارِ الْحُجَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا مِنَّا وَعَلَى دِينِنَا، وَدِينُنَا أقدم فنحن أولى بالله منكم {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [البقرة: 139] أَيْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ فِي اللَّهِ فَإِنَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ، {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [البقرة: 139] أَيْ: لِكُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءُ عَمَلِهِ فَكَيْفَ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ أَوْلَى بِاللَّهِ، {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139] وَأَنْتُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِخْلَاصُ أَنْ يُخْلِصَ الْعَبْدُ دِينَهُ وَعَمَلَهُ فَلَا يُشْرِكَ بِهِ فِي دِينِهِ وَلَا يُرَائِيَ بعمله.
[140]
قال الله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} [البقرة: 140] يَعْنِي: أَتَقُولُونَ، صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ، وَمَعْنَاهُ التوبيخ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ} [البقرة: 140] يا محمد {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} [البقرة: 140] بدينهم {أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ} [البقرة: 140] أَخْفَى {شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140] وَهِيَ عِلْمُهُمْ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ كَانُوا مُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم حَقٌّ وَرَسُولٌ أشهدهم عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِمْ، {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140]
[141]
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 141] كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا.
[قَوْلُهُ تَعَالَى سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن]
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. . . .
[142]
قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 142] الْجُهَّالُ {مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ} [البقرة: 142] أي شيء صَرَفَهُمْ وَحَوَّلَهُمْ {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَالْقِبْلَةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْمُقَابَلَةِ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَمُشْرِكِي مَكَّةَ، طَعَنُوا فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى مَكَّةَ فَقَالُوا لِمُشْرِكِي مَكَّةَ: قَدْ تَرَدَّدَ عَلَى مُحَمَّدٍ أَمْرُهُ فَاشْتَاقَ إِلَى مَوْلِدِهِ وَقَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ بَلَدِكُمْ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى دِينِكُمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142] ملكا وَالْخَلْقُ عَبِيدُهُ، {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]
[143]
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أَيْ: كَمَا اخْتَرْنَا إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتَهُ واصطفيناهم، كذلك جعلناكم أمة وسطا، أَيْ: عَدْلًا خِيَارًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [الْقَلَمِ: 28] أَيْ خَيْرُهُمْ وَأَعْدَلُهُمْ، وَخَيْرُ الْأَشْيَاءِ أَوْسَطُهَا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي أَهْلَ دِينٍ وَسَطٍ بَيْنِ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ لِأَنَّهُمَا مذمومان في الدين قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بلغتهم، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ} [البقرة: 143] مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] معدلا مزكيا لكم، قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] أي: تحويلها؟ يعني عن بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلْجَعْلِ مَحْذُوفًا عَلَى تَقْدِيرِ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا مَنْسُوخَةً، وَقِيلَ مَعْنَاهُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَهِيَ الْكَعْبَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] أَيْ: أَنْتُمْ {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143] فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة: 143] وَهُوَ عَالِمٌ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا قَبْلَ كَوْنِهَا؟ قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ عَالِمٌ بِهِ فِي الْغَيْبِ، إِنَّمَا يتعلق بما يوجد معناه لنعلم الْعِلْمَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ عَلَيْهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَقِيلَ: إِلَّا لِنَعْلَمَ أَيْ: لِنَرَى وَنُمَيِّزَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فِي
الْقِبْلَةِ، {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] فيرتد، وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: مَعْنَاهُ إِلَّا لِعِلْمِنَا مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ، كَأَنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ سَبَبٌ لِهِدَايَةِ قَوْمٍ وَضَلَالَةِ قَوْمٍ {وَإِنْ كَانَتْ} [البقرة: 143] أي: وقد كَانَتْ، أَيْ تَوْلِيَةُ الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ: الكناية رَاجِعَةٌ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنْ كَانَتِ التحويلة، {لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143] ثَقِيلَةً شَدِيدَةً، {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] أَيْ: هَدَاهُمُ اللَّهُ، قَالَ سِيبَوَيْهِ:(وإن) تأكيد شبيه باليمين، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ اللَّامُ فِي جَوَابِهَا، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] وَذَلِكَ أَنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْيَهُودِ، قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: أَخْبِرُونَا عَنْ صَلَاتِكُمْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِنْ كَانَتْ هُدًى، فَقَدْ تَحَوَّلْتُمْ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ ضَلَالَةً فَقَدْ دِنْتُمُ اللَّهَ بِهَا؟ وَمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَيْهَا فَقَدْ مَاتَ عَلَى الضَّلَالَةِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ إِنَّمَا الْهُدَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالضَّلَالَةُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا: فَمَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى مَنْ مات منكم على قبلتنا؟ فَانْطَلَقَ عَشَائِرُهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: يَا رسول الله، قد صرفك إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] الرأفة: أَشَدُّ الرَّحْمَةِ.
[144]
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي التِّلَاوَةِ فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّهَا رَأْسُ الْقِصَّةِ، وَأَمْرُ الْقِبْلَةِ أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنْ أُمُورِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بِمَكَّةَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أمره أَنْ يُصَلِّيَ نَحْوَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى تَصْدِيقِ الْيَهُودِ إِيَّاهُ إِذَا صَلَّى إِلَى قِبْلَتِهِمْ مَعَ مَا يَجِدُونَ مِنْ نعته في التوراة وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ قِبْلَةَ أَبِيهِ إبراهيم عليه السلام، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ رَجَاءَ أَنْ يَنْزِلَ جِبْرِيلُ بِمَا يُحِبُّ مِنْ أَمْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} [البقرة: 144] فلنحولنك إلى قبلة {تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] أي: تحبها وتهواها، {فَوَلِّ} [البقرة: 144] أَيْ: حَوِّلْ {وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أَيْ: نَحْوَهُ، وَأَرَادَ بِهِ الْكَعْبَةَ، والحرام: المحرم، {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} [البقرة: 144] من بر أو نحو شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] عند الصلاة.
فَلَمَّا تَحَوَّلَتِ الْقِبْلَةُ قَالَتِ الْيَهُودُ: لو ثَبَتَّ عَلَى قِبْلَتِنَا لَكُنَّا نَرْجُو أَنْ تَكُونَ صَاحِبَنَا الَّذِي نَنْتَظِرُهُ، فأنزل الله تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} [البقرة: 144] يَعْنِي أَمْرَ الْكَعْبَةِ، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] ثُمَّ هَدَّدَهُمْ فَقَالَ: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144] قَرَأَ أَبُو