الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278]
[279]
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 279] أَيْ: إِذَا لَمْ تَذَرُوَا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (فآذِنوا) بِالْمَدِّ، عَلَى وَزْنِ آمِنُوا، أَيْ: فَأَعْلِمُوا غَيْرَكُمْ أَنَّكُمْ حَرْبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الأذن، أي: وقعوا فِي الْآذَانِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: {فَأْذَنُوا} [البقرة: 279] مَقْصُورًا بِفَتْحِ الذَّالِ، أَيْ: فَاعْلَمُوا أَنْتُمْ وَأَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورسوله {وَإِنْ تُبْتُمْ} [البقرة: 279] أَيْ: تَرَكْتُمُ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا وَرَجَعْتُمْ عَنْهُ {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} [البقرة: 279] بطلب الزيادة {وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] بالنقصان عن رأس المال.
[280]
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] يَعْنِي: وَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الدين مُعسرًا {فَنَظِرَةٌ} [البقرة: 280] أَمْرٌ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ، تَقْدِيرُهُ: فعليه نظرة، {إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] قَرَأَ نَافِعٌ (ميسُرة) بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ (مَيسُرة) بضم السين مضافا، ومعناه: اليسار والسعة، {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} [البقرة: 280] أي: تتركوا رؤوس أَمْوَالِكُمْ إِلَى الْمُعْسِرِ، {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]
[281]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ: تَصِيرُونَ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ: تُرَدُّونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ]
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. . . .
[282]
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا أَبَاحَ السَّلم، وَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ السَّلم الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية.
قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} [البقرة: 282] أَيْ: تَعَامَلْتُمْ بِالدَّيْنِ، يُقَالُ: دَايَنَتْهُ إذا عاملته بالدين {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] الْأَجَلُ مُدَّةٌ مَعْلُومَةُ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، والأجل يلزم في الثمن والمبيع في السَّلم حَتَّى لَا يَكُونَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الطَّلَبُ قَبْلَ مَحَلِّهِ، وَفِي الْقَرْضِ لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ عِنْدَ أكثر أهل العلم، {فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] أَيِ: اكْتُبُوا الَّذِي تَدَايَنْتُمْ بِهِ بَيْعًا كَانَ أَوْ سَلَمًا أَوْ قَرْضًا، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِتَابَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ وَاجِبَةٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، فَإِنْ تُرِكَ فَلَا بَأْسَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الْجُمُعَةِ: 10] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ كِتَابَةُ الدَّيْنِ، وَالْإِشْهَادِ وَالرَّهْنِ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَ الْكُلُّ بِقَوْلِهِ:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الْكِتَابَةِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أَيْ: لِيَكْتُبْ كِتَابَ الدَّيْنِ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ، أَيْ: بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا تَقْدِيمِ أَجْلٍ وَلَا تأخير، {وَلَا يَأْبَ} [البقرة: 282] أَيْ لَا يَمْتَنِعُ، {كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} [البقرة: 282] وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْكَاتِبِ وَتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّاهِدِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى وُجُوبِهَا إِذَا طُولِبَ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ الحسن: يجب إِذَا لَمْ يَكُنْ كَاتِبٌ غَيْرُهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ عَلَى النَّدْبِ والاستحباب، وقال الضحاك: كانت غريمة وَاجِبَةً عَلَى الْكَاتِبِ وَالشَّاهِدِ، فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282] أَيْ: كَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَمَرَهُ، {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] يَعْنِي: الْمَطْلُوبُ يُقرّ عَلَى نَفْسِهِ بِلِسَانِهِ لِيَعْلَمَ مَا عَلَيْهِ، وَالْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ جاء بهما القرآن، فالإملال هنا، وَالْإِمْلَاءُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الْفُرْقَانِ: 5]{وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 282] يعني المملي، {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] وأي: وَلَا يَنْقُصْ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ شَيْئًا {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} [البقرة: 282] أَيْ: جَاهِلًا بِالْإِمْلَاءِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: طِفْلًا صَغِيرًا، وقال الشافعي: السفيه
المبذر: المفسد لما له أَوْ فِي دِينِهِ، قَوْلُهُ:{أَوْ ضَعِيفًا} [البقرة: 282] أَيْ: شَيْخًا كَبِيرًا، وَقِيلَ: هُوَ ضَعِيفُ الْعَقْلِ لِعَتَهٍ أَوْ جُنُونٍ {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} [البقرة: 282] لخرس أو عمى أَوْ عُجْمَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ غيبة لا يمكنه حصول الكتابة أَوْ جَهْلٌ بِمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282] أي: قيّمه، {بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أَيْ: بِالصِّدْقِ وَالْحَقِّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَمُقَاتِلٌ: أَرَادَ بِالْوَلِيِّ صَاحِبَ الْحَقِّ، يَعْنِي إِنْ عَجَزَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ من الإملال فيملل وَلِيُّ الْحَقِّ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ بِالْعَدْلِ لأنه أعلم بالحق {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] أي: وأشهدوا، {شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] أي: شاهدين {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يَعْنِي: الْأَحْرَارَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْعَبِيدِ والصبيان، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَجَازَ شُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ شَهَادَةَ الْعَبِيدِ، {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282] أَيْ: لَمْ يَكُنِ الشَّاهِدَانِ رَجُلَيْنِ، {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] أَيْ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْأَمْوَالِ، واختلفوا في غير الأموال، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي الْعُقُوبَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] يَعْنِي: مَنْ كَانَ مَرْضِيًّا فِي دِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَشَرَائِطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ سَبْعَةٌ: الْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، والعدالة، والمروءة، وانتفاء التهمة {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] معنى الْآيَةِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ كَيْ تُذَكِّرَ {إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وَمَعْنَى تَضِلُّ أَيْ: تَنْسَى، يُرِيدُ إذا نسيت إحداهما شهادتها فتذكرها الْأُخْرَى، فَتَقُولُ: أَلَسْنَا حَضَرْنَا مَجْلِسَ كذا، وسمعنا كذا، (وذكر) و (وَاذَّكَّرَ) بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُمَا مُتَعَدِّيَانِ، مِنَ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النسيان {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] قيل أراد به مَا دُعُوا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةَ، سَمَّاهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ، وَهُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَقَالَ قَوْمٌ: تَجِبُ الْإِجَابَةُ إذا لم يكن غيرهم، فإن وجد غيرهم فهم مخيرون، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ التي تحمّلوها قال الشَّعْبِيُّ: الشَّاهِدُ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يشهد {وَلَا تَسْأَمُوا} [البقرة: 282] أَيْ: وَلَا تَمَلُّوا {أَنْ تَكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] الهاء راجعة إلى الحق، {صَغِيرًا} [البقرة: 282] كان الحق، {أَوْ كَبِيرًا} [البقرة: 282] قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، {إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] إلى محل الحق، {ذَلِكُمْ} [البقرة: 282] أي: الكتاب، {أَقْسَطُ} [البقرة: 282] أعدل {عند الله} [البقرة: 282] لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِهِ، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ أَعْدَلُ مِنْ تَرْكِهِ، {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282] لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُذَكِّرُ الشُّهُودَ، {وَأَدْنَى} [البقرة: 282] وَأَحْرَى وَأَقْرَبُ إِلَى، {أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] تَشُكُّوا فِي الشَّهَادَةِ {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] تَقْدِيرُهُ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً دَائِرَةً بَيْنَكُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً يَدًا بِيَدٍ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ لَيْسَ فِيهَا أَجْلٌ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] يَعْنِي: التِّجَارَةَ. {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ عَزْمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِشْهَادُ وَاجِبٌ فِي صغير الحق وكبيره ونقده ونسئه وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] هَذَا نَهْيٌ لِلْغَائِبِ، وَأَصْلُهُ: يُضَارِرْ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى الرَّائَيْنِ فِي الْأُخْرَى ونصبت، لحق التضعيف لالتقاء السَّاكِنَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَصْلُهُ يُضَارِرْ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْأُولَى، وَجَعْلِ الْفِعْلِ لِلْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ، معناه: لا يضارر الْكَاتِبُ فَيَأْبَى أَنْ يَكْتُبَ وَلَا الشَّهِيدُ فَيَأْبَى أَنْ يَشْهَدَ، وَلَا يُضَارَّ الْكَاتِبُ فَيَزِيدُ أَوْ يَنْقُصُ أَوْ يُحَرِّفُ مَا أُمْلِيَ عَلَيْهِ وَلَا الشَّهِيدُ فَيَشْهَدُ بِمَا لَمْ يستشهد عليه، وهذا قول طاوس وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَصْلُهُ يضار بِفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، وَجَعَلُوا الْكَاتِبَ وَالشَّهِيدَ مَفْعُولَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ الْكَاتِبَ أَوِ الشَّاهِدَ وَهُمَا عَلَى شُغْلٍ مُهِمٍّ فَيَقُولَانِ نَحْنُ عَلَى شُغْلٍ مُهِمٍّ فَاطْلُبْ غَيْرَنَا، فَيَقُولُ الدَّاعِي إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمَا أَنْ تُجِيبَا وَيَلِحَّ عَلَيْهِمَا فَيَشْغَلُهُمَا عَنْ حَاجَتِهِمَا فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِطَلَبِ غَيْرِهِمَا، {وَإِنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 282] ما نهيتكم عنه من الضرار، {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] أَيْ: مَعْصِيَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْأَمْرِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]
[283]
، {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] أي: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجدوا كاتبا الآن فَارْتَهِنُوا مِمَّنْ تُدَايِنُونَهُ رُهُونًا لِتَكُونَ وثيقة بِأَمْوَالِكُمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ لا يتم إلا بالقبض {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283] يَعْنِي: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَمِينًا عِنْدَ صَاحِبِ الْحَقِّ فَلَمْ يَرْتَهِنْ مِنْهُ شَيْئًا لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] أَيْ: فَلْيَقْضِهِ عَلَى الْأَمَانَةِ، {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] فِي أَدَاءِ الْحَقِّ، ثُمَّ رَجَعَ إلى خطاب الشهود فقال:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى إِقَامَتِهَا، نَهَى عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَأَوْعَدَ عَلَيْهِ فَقَالَ:{وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] أَيْ: فَاجِرٌ قَلْبُهُ، قِيلَ: مَا وعد عَلَى شَيْءٍ كَإِيعَادِهِ عَلَى كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ قَالَ: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَأَرَادَ بِهِ مَسْخَ الْقَلْبِ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 283] من بيان الشهادة وكتمانها {عَلِيمٌ} [البقرة: 283]
[284]
، {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] مُلْكًا وَأَهْلُهَا لَهُ عَبِيدٌ وَهُوَ مَالِكُهُمْ، {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ خَاصَّةٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ خُصُوصِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِالْآيَةِ الْأُولَى نزلت في كتمان الشهادة،
معناه: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أيها الشهود من كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ أَوْ تُخْفُوا الْكِتْمَانَ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فيمن يتولى الكافرين من دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي: وَإِنْ تُعْلِنُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ وِلَايَةِ الكفار أو تسروه يحاسبكم به الله، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي بعدها وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَرِدُ عَلَى الْإِخْبَارِ، إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَوْلُهُ:{يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] خَبَرٌ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّسْخُ، تم اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: قَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقَلْبِ كَسْبًا فَقَالَ: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فليس لله عبدا أَسَرَّ عَمَلًا أَوْ أَعْلَنَهُ مِنْ حركة من جوارحه أو همّة فِي قَلْبِهِ إِلَّا يُخْبِرُهُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَغْفِرُ مَا يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ بِمَا يَشَاءُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: مَعْنَى الْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُحَاسِبُ خَلْقَهُ بِجَمِيعِ مَا أَبْدَوْا مِنْ أَعْمَالِهِمْ أَوْ أَخْفَوْهُ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ مُعَاقَبَتَهُ عَلَى مَا أَخْفَوْهُ مما لم يعملوه بِمَا يَحْدُثُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّوَائِبِ وَالْمَصَائِبِ، وَالْأُمُورِ الَّتِي يحزنون عليها وَقَالَ بَعْضُهُمْ:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] يَعْنِي: مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِمَّا عَزَمْتُمْ عَلَيْهِ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، وَلَا تُبْدُوهُ وَأَنْتُمْ عَازِمُونَ عَلَيْهِ يُحَاسِبُكُمْ بِهِ اللَّهُ فَأَمَّا مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُكُمْ مما لم تعزموا فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَا يؤاخذكم به وَقِيلَ: مَعْنَى الْمُحَاسَبَةِ: الْإِخْبَارُ وَالتَّعْرِيفُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] فَتَعْمَلُوا بِهِ أَوْ تُخْفُوهُ مِمَّا أَضْمَرْتُمْ وَنَوَيْتُمْ، يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ويخبركم بِهِ وَيُعَرِّفْكُمْ إِيَّاهُ، ثُمَّ يَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ إِظْهَارًا لِفَضْلِهِ، وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ إظهارا لعدله قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنَبِ الصَّغِيرِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسألون {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]
[285]
قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] أَيْ: صَدَّقَ {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 285] يَعْنِي: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ وَحَّدَ الْفِعْلَ، {وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] فَنُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: يَقُولُونَ لَا نُفَرِّقُ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: لَا يُفَرِّقُ، بِالْيَاءِ فَيَكُونُ خَبَرًا عَنِ الرَّسُولِ، أَوْ مَعْنَاهُ: لَا يُفَرِّقُ الْكُلُّ، وَإِنَّمَا قَالَ:{بَيْنَ أَحَدٍ} [البقرة: 285] وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ آحَادٍ، لِأَنَّ الْأَحَدَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الْحَاقَّةِ: 47]{وَقَالُوا سَمِعْنَا} [البقرة: 285] قولك {وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] أَمْرَكَ، رُوِيَ عَنْ حَكِيمٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما أَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّتِكَ، فَسَلْ تُعْطَهُ، فَسَأَلَ بِتَلْقِينِ اللَّهِ تعالى فقال:{غُفْرَانَكَ} [البقرة: 285] وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ: اغفر غفرانك، أو على المفعول به، أي: نَسْأَلُكَ غُفْرَانَكَ {رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]
[286]
، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ظاهر الآية قضاء لحاجة، وَفِيهَا إِضْمَارُ السُّؤَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: وَقَالُوا لَا تُكَلِّفُنَا إِلَّا وُسْعَنَا، وَأَجَابَ: أَيْ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أَيْ: طَاقَتَهَا، وَالْوُسْعُ: اسْمٌ لِمَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَعَطَاءٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَدِيثَ النَّفْسِ الَّذِي ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] كَمَا ذَكَرْنَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّةً وسَّع عَلَيْهِمْ أَمْرَ دِينِهِمْ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ فِيهِ إِلَّا مَا يَسْتَطِيعُونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ قَوْلِهِ عز وجل: