الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو بيان لما يتولد من هذا الماء المتدفق من السحب، فبهذا الماء يخرج الله الحب والنبات، ومنه يخرج هذه الجنات المتشابكة الأعصان، المتعانقة الأفنان..
والله سبحانه قادر على أن يخرج النبات من غير ماء، ولكن أقام سبحانه نظام الوجود على أسباب ومسببات.. فمنه سبحانه الأسباب، ومنه تبارك اسمه المسببات..
والحب: ما يقتات منه الناس، كالبرّ، والشعير، والذرة، والأرز، ونحوها..
والنبات: ما تأكل منه الأنعام، كالكلأ ونحوه..
فهذه بعض مظاهر قدرة الله.. أفلا يرى المشركون المكذبون بالبعث، المختلفون فيما يحدثهم به النبىّ عنه- أفلا يرون أن بعثهم لا يعجز هذه القدرة القادرة، التي أبدعت هذه الآيات، وأحكمت صنعها؟ وألا يحدث ذلك لهم علما يرفع هذا الخلاف الذي هم فيه؟
الآيات: (17- 30)[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلَاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذاباً (30)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» هو تهديد للمشركين بهذا اليوم الذي يكذبون به، ويختلفون فيه.. إنه آت لا ريب فيه، وهو يوم الفصل، فيما هم فيه مختلفون، وفيما يقضى به الله سبحانه وتعالى فيهم من عذاب..
والميقات: الموعد الذي أقّت لهذا اليوم..
قوله تعالى:
«يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» هو بدل من يوم الفصل، فيوم الفصل، هو يوم النفخ فى الصور، فإذا نفح فى الصور، بعث الموتى من قبورهم، وجاءوا إلى المحشر أفواجا، أي زمرا، إثر زمر..
قوله تعالى:
«وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» الواو فى قوله تعالى: «وفتحت» واو الحال، والجملة بعدها حال من فاعل «فتأنون أفواجا» .. أي تأتون جماعات وأمما، وقد فتحت السماء فكانت أبوابا، وأزيح عن أعينكم هذا الغطاء الذي ترونها فيه- وأنتم فى الدنيا- سقفا سميكا مطبقا.. وكذلك الجبال تبدو وكأنها سراب يتراقص على وجه الأرض..
وقد أشرنا من قبل إلى هذا التبدل الذي يقع فى عوالم الوجود يوم القيامة، وقلنا إنه تبدل يقع فى حواس الإنسان ومدركاته، يومئذ، لا فى هذه العوالم ذاتها «1»
(1) انظر هذا البحث فى الكتاب الرابع عشر (سورة الطور ص 545) .
يقول الأستاذ الإمام «محمد عبده» رحمه الله فى هذا المعنى: «يتغير فى ذلك اليوم- يوم القيامة- نظام الكون، فلا تبقى أرض على أنها تقلّ، ولاسماء على أنها تظلّى، بل تكون السماء بالنسبة إلى الأرواح مفتحة الأبواب، بل تكون أبوابا، فلا يبقى علو ولا سفل، ولا يكون مانع يمنع الأرواح من السير حيث تشاء..
ثم يقول: «والآخرة عالم آخر غير عالم الدنيا التي نحن فيها، فنؤمن بما ورد به الخبر فى وصفه، ولا نبحث عن حقائقه مادام الوارد غير محال..
ولا شك أن امتناع السماء علينا إنما هو لطبيعة أجسامنا فى هذه الحياة الدنيا..
أما النشأة الأخرى، فقد تكون السماء بالنسبة لنا أبوابا ندخل من أيها شئنا بإذن الله..»
وقوله تعالى:
«إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً» هو تهديد للمشركين، المكذبين بيوم القيامة، وبما فيه من حساب وجزاء..
فهذه جهنم على موعد معهم، قد أعدت لهم، ورصدت للقائهم.. إنها مآب ومرجع للطاغين المكذبين، الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر..
قوله تعالى:
«لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» الأحقاب، جمع حقب، والحقب: جمع حقبة.. والحقبة من الزمن، القطعة الطويلة الممتدة منه، وسميت أجزاء الزمن حقبا لأن بعضها يعقب بعضا، ومنه الحقيبة، التي يحملها المرء خلف ظهره، والمراد أن هؤلاء الطاغين الذين أخذوا منازلهم فى جهنم، لا يخرجون منها، بل يعيشون فيها أزمانا بعد أزمان، تتبدل
فيها أحوالهم: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (56: النساء) فهم ليسوا على حال واحدة، بل هم فى أحوال شتى من العذاب، يتقلبون فيه، وينتقلون من حال إلى حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
«لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» (19: الانشقاق) وقوله سبحانه: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» (17: المدثر) وقوله سبحانه فى آية تالية، فى هذه السورة:«فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» قوله تعالى:
«لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزاءً وِفاقاً» الضمير فى «فيها» يعود إلى جهنم، وبحوز أن يكون عائدا إلى الأحقاب..
أي أن الطاغين الذي ألقوا فى جهنم، لا يذوقون فيها «بردا» أي شيئا من البرد الذي يخفف عنهم سعير جهنم، أولا يجدون شيئا من الراحة والسكون، بل هم فى عذاب دائم:«لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» (75: الزخرف) كما أنهم لا يسقون فيها شرابا إلا ما كان من حميم وغساق..
والحميم: الماء الذي يغلى، والغساق: ما يسيل من أجسادهم من صديد يغلى فى البطون كغلى الحميم.. فهذا جزاء من جنس عملهم.. إنهم لم يعملوا إلا السوء، فكان جزاؤهم من حصاد هذا السوء الذي زرعوه، «حزاء وفاقا» لما عملوا، ومجانسا له..
قوله تعالى:
«إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» هو بيان للسبب الذي من أجله صاروا إلى هذا المصير الكئيب المشئوم..
إنهم كانوا لا يتوقعون حسابا، ولا يؤمنون به، بل كذبوا بآيات الله التي تحدثهم عن البعث والجزاء والحساب، فلم يعملوا لهذا اليوم حسابا.
والكذاب: وصف للكذب، ومبالغة فى صفته، كما أن كذاب (بالفتح) مبالغة لمن اتصف به.. أي أنهم كذبوا بآيات الله تكذيبا منكرا شنيعا، لما صحب تكذيبهم من سفاهة وتطاول على رسول الله..
وفى التعبير عن تكذيبهم بالحساب، بقوله تعالى:«لا يرجون» ، مع أن الرجاء عادة إنما يكون لتوقع الخير- فى هذا إشارة إلى أن يوم القيامة، من شأنه أن يكون أملا مرجوّا عند الناس، ففيه الحياة الحق، والخلود الدائم، والنعيم الكامل، وأن مقام الإنسان فى الحياة الدنيا هو مقام قلق، وإزعاج، لا ينبغى للعاقل أن يقيم وجوده عليه، بل ينبغى أن يسعى إلى التحول عنه، والنظر إلى ما وراءه، والرجاء فى حياة أكرم، وأفضل، وأبقى..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (110: الكهف) قوله تعالى:
«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» أي وكل شىء كان أو يكون فى هذا الوجود محصّى فى كتاب مبين..
وكذلك أعمال هؤلاء المكذبين الضالين محصاة عليهم، مسجلة فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
قوله تعالى: