الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا ولقد كثرت الأقوال فى أصحاب الأخدود، وفى الزمان الذي كانوا فيه، والوطن الذي ينتسبون إليه.. وكثرة هذه الأقوال وتعارضها يفقدها الأثر الذي لها، ويجعل كلّ قول غيرها- ولو كان من واردات الظن والافتراض- مثلها تماما فى النظر إليه عند تصوّر الحدث.
والقرآن الكريم، لا يذكر أسماء الأشخاص، أو تحديد الأماكن أو الأزمان، إلا إذا كان للشخص دلالة خاصة فى ذاته، لا ترى فى غيره، وإلا إذا كان للمكان أو الزمان، أثر خاص فى الحدث الذي حدث فيه، أو صفات لا توجد فى مكان آخر، أو زمن غير هذا الزمن.
أما حين لا يكون للشخص أو المكان أو الزمان وزن خاص فى ميلاد الحدث، وفى تكوين صورته، وطبعه بطابعه الخالص، فلا يعنى القرآن بذكر ذات الشخص، ولا موضع المكان، ولا حدود الزمان.. وذلك ليكون الحدث مطلقا من أي قيد، ليعطى دلالة وحكمة، حيث يلتقى بما يشبهه من ذوات الأشخاص، وملامح الزمان والمكان.
الآيات: (10- 22)[سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
التفسير:
قوله تعالى:
الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: أي الذين كادوا لهم فى دينهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء ليفتنوهم فى دينهم، ويخرجوهم منه.
وهذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لكل من تعرض لأوليائه المؤمنين والمؤمنات، بأذى، يريد أن يصرفهم عن الإيمان، أو يصدّهم عنه.. فهؤلاء الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات بسبب إيمانهم، إذا لم ينزعوا عما هم فيه، ولم يرجعوا إلى الله مؤمنين تائبين، فقد أعدّ الله لهم عذاب جهنم، بما فيها من مقامع من حديد، ومن شدّ إلى السلاسل والأغلال، ومن حميم يصبّ فوق الرءوس، ومن غساق يقطع الأمعاء.. ثم لهم فوق ذلك كله عذاب الحريق، أي عذاب النار ذاتها، الذي يرعى أجسامهم، كما ترعى النار الحطب.
قوله تعالى:
هو فى مقابل ما يلقى الذي فتنوا المؤمنين والمؤمنات، من عذاب..
إذ ليس العذاب هو كل ما فى الآخرة، بل فيها إلى جانب النار للمجرمين، جنات تجرى من تحتها الأنهار للمؤمنين المتقين:«وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (20: الحديد)
قوله تعالى:
«إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» البطش الأخذ بالشدة الباطشة، كما فى قوله تعالى:«إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» أي أن عقاب الله سبحانه للمجرمين عقاب شديد، متمكن منهم، لا يجدون سبيلا للفرار منه.. وفى هذا وعيد للمشركين، وشدّ لأزر النبىّ، وإلفاته إلى أن هؤلاء المشركين هم فى قبضة الله، لا يفلتون منه أبدا.
وقوله تعالى:
«إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ» .
أي أنه سبحانه يبدىء الخلق ويعيده، فيحيى ويميت، ويميت ويحيى، وفى هذا دليل على القدرة الفعّالة الدائمة، القائمة على تدبير هذا الوجود، وتبدّل صوره حالا بعد حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:«كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (29: الرحمن) .
وقوله تعالى:
«وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» .
أي ومن صفاته سبحانه أنه «الغفور» أي الكثير للغفرة لذنوب عباده المؤمنين، الذين يجيئون إليه تائبين مستغفرين:«وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» (82: طه) .. وهو سبحانه «الودود» أي الكثير الودّ لمن وادّ الله ورسوله، كما يقول سبحانه:«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» (96: مريم) وهو سبحانه صاحب السلطان الرفيع العظيم، الذي لا يساميه سلطان.
وهو- سبحانه- الفعال لما يريد.. أي يفعل ما يشاءدون معوق أو معقب..
فكل ما أراده سبحانه تمضيه قدرته..
وفى هذا العرض لصفات الله- سبحانه- الجامعة بين القدرة والبطش، وبين المغفرة والود- فى هذا وعيد ووعد، وتهديد وترغيب.. فمن خاف وعيد الله بالعذاب، تلقاه وعده بالرحمة والرضوان، ومن أفزعه التهديد بالنار وعذابها، آنسه للترغيب بالجنة ونعيمها وقوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ» .
هو إلفات إلى طغمة من عتاة الناس وأشرارهم، من الذين استخفوا بقدرة الله، ولم يرهبوا سلطانه، فتسلطوا على العباد، وطغوا فى البلاد، فأكثروا فيها الفساد.
والاستفهام هنا: إما أن يكون على حقيقته، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقى من آيات ربه قبل ذلك، حديثا عن فرعون، وثمود، وما أخذهم الله به من بلاء ونكال، وعلى هذا يكون جواب الاستفهام محذوفا، تقديره.
نعم أنانى حديث الجنود فرعون، وثمود! ويكون التعقيب على هذا الجواب أظهر من أن بدل عليه، وهو: ألا ترى فى هذا الحديث ما أخذ الله به أهل البغي والتعدي؟ وهل قومك أعتى عتوّا وأشد قوة من فرعون وجبروته، وتمود وبطشهم؟
ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا به بالنفي، أي إنه لم يأتك حديث الجنود.. وإذن فسنقصه عليك فيما سينزل عليك من آياتنا بعد.. وفى هذا ما ببعث الشوق والتطلع إلى هذا الحديث العجيب، وانتظاره فى لهفة، وترقب.
وفى وصف القوم بالجنود، إشارة دالة إلى أنهم ذوو بأس وقوة،
كبأس أبطال الحرب وقوتهم، وأنهم فى حرب مع أولياء الله، يلبسون لباس الحرب دائما.
قوله تعالى:
«بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» هو إضراب عن انتفاع المشركين بهذه العبر والمثلات، التي يقصها الله سبحانه وتعالى من أخبار القرون الأولى، وما أخذ به أهل الضلال والسفه والعناد.. فالذين كفروا «فى تكذيب» أي هكذا شأنهم دائما، هم فى سلسلة لا تنقطع من التكذيب لكل ما يسمعون من آيات الله، دون أن يصغوا إلى ما يسمعونه، أو يعقلوه.. فالتكذيب بآيات الله وبرسل الله، هو الظرف الذي يحتويهم فى كل زمان ومكان..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» تهديد لهم بأن الله سبحانه وتعالى محيط بهم، وهم فى غفلة عن هذا، وهم لهذا سيؤخذون دون أن يشعروا، لأنهم غافلون عن علم الله، وعن قدرته، ذاهلون عن عقابه الراصد للمجرمين الضالين..
وقوله تعالى:
«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» هو إضراب عن هذا الإضراب.. وذلك أن المشركين، وإن لم ينتفعوا بما فى القرآن، ولا بشىء من نوره الذي يملأ الآفاق.. فهو قرآن مجيد، أي عالى القدر، رفيع الشأن لا ينال منه هذا النباح، ولا يصل إلى سمائه هذا العواء، من المشركين الضالين.. أنه فى لوح محفوظ عند الله، وفى كتاب مكنون، ولا يمسّه، ولا يصافح نوره، إلّا من طهرت أنفسهم من دنس الكفر ورجس الضلال..