الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن الغاشية، وهى القيامة، وعن أهوالها، تذكيرا للناس بها، وتنبيها لهم إلى ما يلقى المجرمون فيها من عذاب ونكال..
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات: (1- 16)[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 16]
بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَاّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
التفسير:
قوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟» سؤال، يراد به تشويق المسئول إلى المسئول عنه، وإثارة الرغبة عنده فى التطلع إليه، والبحث عن جواب له.
وما يكاد المسئول يبحث فى خاطره عن جواب هذا السؤال، حتى يرد عليه الجواب من خارج، فيلتقى مع ما تردد فى خاطره من أجوبة عليه.. فإذا كان «م 97 التفسير القرآنى ج 30»
ما وقع فى خاطره صحيحا، التقى مع هذا الجواب الوارد عليه التقاء متمكنا، وعانقه عناق الغائب المنتظر، وإلا أخذ الجواب الصحيح، وأقامه مقام مالم يصح من خواطره، وتصوراته..
والغاشية: ما يغشى الناس فى هذا اليوم، من أهوال، وما يطلع عليهم فيه من شدائد.. وأصله من الغشي، وهو السطو والهجوم..
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» .
هذا هو مطلع حديث الغاشية، وهذا هو الجواب على السؤال عنها.. إن ما تحدّث به الغاشية عن نفسها ليس كلاما، وإنما هو أفعال وأحداث.. ومن أحداثها، تلك الوجوه الخاشعة.. وخشوعها هو خشوع ذلة، وضراعة، ومهانة، وليس خشوع تقوى وتوقير وإجلال.. فللذل خشوع انكسار، وامتهان، تموت معه العواطف، والمشاعر، كما يقول تعالى فى أصحاب النار:
«وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» .
وفى قوله تعالى: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» - إشارة إلى هذا الرهق الذي غشى تلك الوجوه الخاشعة، لأن أصحابها فى نصب دائم، وعمل مضن لا ينقطع، من موقفهم موقف المساءلة، والحساب، وعرض مخازيهم عليهم، إلى وضع الأغلال فى أعناقهم، إلى سحبهم على وجوههم فى جهنم، إلى صرخات الويل والثبور التي تملأ الآفاق من حولهم، فكل هذا وكثير غيره من الأهوال، تنطبع على وجوههم آثاره، قتاما وعبوسا، ورهقا..
وقوله تعالى:
«تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» .
هو صفة لهذه الوجوه، وما يرد عليها من مساءات.. إنها «تَصْلى ناراً
حامِيَةً»
أي تعذب بنار حامية.. وفى وصف النار بأنها حامية، إشارة إلى أنها نار ذات صفة خاصة، على خلاف المعهود من نار الدنيا.. فكل نار، حامية، وهذا الوصف الوارد على النار، يعطى وصفا جديدا لها.
وهذه الوجوه أيضا، تسقى من ماء حار، يغلى فى البطون كغلى الحميم.
وإسناد هذه الأفعال إلى الوجوه، لأن الوجوه، هى عنوان الذات الإنسانية، وهى وحدها التي تحدّث عن ذات الإنسان، وتدل عليه.. فالناس يتشابهون أجسادا، ولكن الذي يفرق بين إنسان وإنسان هو الوجه الذي يجعل لكل إنسان صورته التي يعرف بها بين الناس.. إن الوجه هو الذات الإنسانية بكل مشخصاتها ومقوماتها، ولهذا كان له هذا الشأن فى موقف الحساب والجزاء، وما يلقى الإنسان هناك من نعيم أو عذاب، إن كل صور العذاب والآلام تنطبع عليه..
قوله تعالى:
َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ»
..
عدل هنا عن الحديث إلى الوجوه، واتّجه به إلى أصحابها، لأن الطعام لا يساق إلى الوجوه وإنما يساق إلى البطون، ثم تنطبع آثاره على الوجوه..
وفى هذا ما يعطى كل جزء من أجزاء الجسد نصيبه من هذا العذاب. فالعذاب الذي يقع على جزء من الجسد، يشيع فى الجسد كله، فإذا كان كل جزء من الجسد واقعا تحت لون من ألوان العذاب يتناسب مع طبيعته، كان ذلك أنكى وآلم، حيث يتحول الإنسان تحت وطأة هذا العذاب إلى طاقات كثيرة متعددة، يصبّ فيها العذاب الذي يحتوى كل ذرة فيها، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى:«يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (69: الفرقات) .
والضريع، كما يدل عليه لفظه، طعام غثّ ردىء، لا تتولد عنه إلا الضراعة، والذلة، والمهانة..
وقد اختلف المفسّرون فى معنى «الضريع» والفصيلة الذي ينتمى إليه من فصائل النبات.. وقال كل ذى رأى برأيه فيه، وتكاف له التأويل والتخريج..
والرأى- والله أعلم- أنه من طعام أهل النار، لا يعرف له شبيه فى الحياة الدنيا، ولهذا وصفه الله سبحانه بأنه «لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» أي أنه لا تتقبله الأجسام، ولا تتفاعل معه، كما أنه لا يشبع جوع الجياع..
ولو كان معروفا عند العرب، لما وصف هذا الوصف الكاشف!.
قوله تعالى:
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» ..
وهذا من حديث الغاشية أيضا..
فإذا كان من معارض يومها، وجوه خاشعة، عاملة، ناصبة- فإن من معارضها، كذلك، وجوه ناعمة، لسعيها راضية، فى جنة عالية..
والوجوه الناعمة، هى التي ترى عليها نضرة النعيم، وبشاشة الرضوان، فترقرق على صفحتها وضاءة البشاشة، ويجرى فى أديمها رونق البهاء، والصفا..
ولم تعطف هذه الوجوه على ما قبلها، مع أنها من حديث الغاشية، ليكون ذلك عزلا لها عن تلك الوجوه المنكرة، العاملة، الناصبة، التي تصلى نارا حامية..
فهذه وجوه، وتلك وجوه، ولا جامعة بينهما، إذ فريق فى الجنة وفريق فى السعير..
وقوله تعالى: «لسيعها راضية» .. أي راضية لأجل سعيها الذي قدمته بين يديها.. فاللام هنا للتعليل..