الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نكن نتوقعها، ولم نعمل لها حسابا..
قوله تعالى:
«فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» .
«هى» ضمير الشأن، أي فإنما الحال والشأن زجرة واحدة، أي صيحة واحدة، أو نفخة واحدة.. «فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» أي فإذا هم على ظهر الأرض..
والساهرة: الأرض، وسميت ساهرة، لأنه لا نوم للناس يومئذ فيها، بل هم فى سهر دائم، بعد مبعثهم من نومهم فى القبور..
الآيات: (15- 26)[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
التفسير:
بعد أن واجهت الآيات السابقة المشركين، بما يقع فى نفوسهم من
كمد وحسرة، حين تفجؤهم الساعة بأحداثها، وحين بقلت من أيديهم الطريق إلى النجاة- جاءت هذه الآيات لتعرض عليهم وجها من وجوه الضلال، فيه مشابه كثيرة منهم، وهو وجه «فرعون» وقد أشرنا فى غير موضع إلى أن القرآن الكريم كثيرا ما يجمع بين هؤلاء المشركين وبين فرعون، إذ كانوا أشبه الناس به، عنادا، واستعلاء، وكبرا.
وقوله تعالى:
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» ..
الخطاب من الله سبحانه وتعالى للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وفيه استدعاء له من هذا الجو الخانق الذي ينفث فيه المشركون سمومهم والذي ترمى فيه أنفاسهم بدخان كثيف من تلك النار المشتعلة فى قلوبهم، كمدا، وغيظا من النبىّ ودعوته.. وفى هذا الخطاب إدناء للنبىّ الكريم من ربه جلّ وعلا، وإيناس له.
والاستفهام، يراد به الخبر.. أي لم يأتك حديث موسى.. فاستمع إليه إذن! وقد جاء الخبر فى صيغة الاستفهام، لما يؤذن به الاستفهام هنا من عظيم اللطف، وكريم الإحسان من الله سبحانه إلى النبىّ الكريم، حتى ليخاطبه مولاه خطاب الحبيب إلى الحبيب، فى رفق، ومودّة، ليقول له:«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» ؟ أي أعلمت حديث موسى؟ وأ تريد أن تعلمه؟ ألا، فاستمع!! وفى هذا ما يشير إلى أن ذلك أول ما تلقاه النبىّ من آيات الله، من نبأ موسى وفرعون..
وقوله تعالى: «إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» أي الحديث الذي
نريد أن نبلغك إيّاه من أمر موسى، هو ما كان من نداء الله سبحانه وتعالى، إياه، وهو بالواد المقدس «طوى» ..
و «الوادي المقدس» ، هو واد فى أسفل جبل سيناء، من الجانب الأيمن منه، فى الطريق المتجه من الشام إلى مصر.. كما يقول سبحانه:«وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» (52: مريم) و «طوى» اسم لهذا الوادي.
قوله تعالى:
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» هو بيان لما نودى به موسى من ربه، أي ناداه سبحانه بقوله تعالى:
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ» وقوله تعالى: «إنه طغى» هو بيان لسبب الدعوة بالذهاب إليه.. إنه طغى، وتجاوز الحدود فى بغيه وعدوانه، وفى كفره وضلاله.
قوله تعالى:
«فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» .
وتلك هى الرسالة التي يحملها موسى من ربه إلى فرعون..
وقوله تعالى: «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» أي هل تودّ أن تتزكى، ويتطهر؟
وفى هذا الأسلوب الاستفهامى، ترفق وتلطف فى الدعوة إلى الله، وفى مواجهة عناد المعاندين وكبر المتكبرين باللطف واللين..
إن الحكمة تقضى فى مثل هذا المقام، أن يستميل الداعي إلى الحقّ من يدعوه إليه، وأن يترفق فى الدخول إلى قلبه، حتى يجد منه أذنا صاغية، وقلبا
واعيا، إذا كان فيه بقية من عقل، أو يقظة من ضمير.. ولو جاء الداعي إلى من يدعوه إلى العدول عن الطريق الذي هو عليه- لو جاءه آمرا، أو زاجرا، أو فاضحا لحاله المتلبس بها، لما وجد منه إلا إعراضا وازورارا، وتكرّها لسماع ما يلقى إليه من حديث، فكيف إذا كان هذا المدعوّ جبارا عنيدا كفرعون؟
ولهذا جاء قوله تعالى: «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» راسما لموسى هذا المنهج الحكيم لدعوة هذا الجبار العنيد، كما جاء ذلك فى قوله تعالى:«اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» (43- 44: طه) .
وفى هذا الأسلوب القرآنى الخطة المثلى، والمثل الكامل القويم، لأصحاب الدعوات، من القادة، والزعماء، والمصلحين.. إنهم لن يبلغوا بدعوتهم مواطن الإقناع، ولن يحصلوا منها على ثمر طيب، إلا إذا جعلوا الرفق واللين سبيلها إلى الناس، والا إذا غذّوها بمشاعر الحبّ، والرغبة الصادقة فى الإصلاح، وبخاصة إذا كان الداعي يدعو إلى حقّ، ويهدف إلى هدى وإصلاح:«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (145: النحل) .
وليس مما يدخل فى هذا الباب، المداهنة، والمخادعة، والنفاق.. فذلك كله شر، إذا اختلط بالدعوة الصالحة أفسدها، وإذا خالط الحقّ أثار الدخان الكثيف فى سمائه الصافية، فغشّى على الأبصار، وحجب الرؤية عن مواقع الهدى..
قوله تعالى:
هنا كلام كثير محذوف، دلّ عليه المقام، أي فجاء موسى إلى فرعون ودعاه فى رفق ولطف إلى الله، فما كان من فرعون إلا أن ردّ موسى ردّا قبيحا، وأغلظ له القول، ورماه بالكذب والجنون، فلما أراد موسى أن يدفع هذه التّهم عنه، ويثبت لفرعون أنه رسول ربّ العالمين، تحدّاه فرعون بأن يأتى بما يدلّ على أنه رسول من عند الله- «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» وهى العصا وانقلابها حية تسعى.. وهى أكبر الآيات التي بين يدى موسى..
وقوله تعالى:
«فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» .
هذا بيان لموقف فرعون بعد أن أراه موسى الآية الكبرى.. لقد كذب بما رأى، واتهم موسى بأنه ساحر.. ثم جمع سحرته، ولقى بهم موسى، معلنا فى الناس أنه الرب الأعلى، وأن الرب الذي يدعو إليه موسى، هو رب دونه منزلة وعلوّا.. فهكذا يبلغ الضلال والسّفه بالضالين السفهاء!! وفى قوله تعالى:«ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى» إشارة إلى أنه بعد أن رأى الحية وأفاعيلها، وما أوقعته فى قلبه وقلوب من معه- لبس ثوب الحية، فجعل يسعى فى الناس مهددا متوعدا، باعثا الرعب والفزع فى القلوب، حتى يخرج منها هذا الفزع الذي استولى عليها من حيّة موسى.
قوله تعالى:
«فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» هذه هو ختام القصة.. لقد انتهت بهزيمة فرعون، وخزيه، وفضح ربوبيته على أعين الناس.. ثم لم يقف الأمر عند هذا، بل أخذه الله بالعذاب