الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو من سياط البلاء والنكال التي تنهال على أصحاب النار، وهم على هذا المورد الوبيل، أن يشربوا من هذا العذاب، وأن يتجرعوا كئوسه الملأى بالحميم والغساق، وأن ما هم فيه فى لحظتهم تلك أهون مما يذوقونه فى كل لحظة آتية.. إنهم ينتقلون من عذاب إلى ما هو أشد منه، حالا بعد حال، ولحظة بعد لحظة، فليبادروا بشرب ما بأيديهم، قبل أن يشتد لهيبا، ويزداد غليانا.
الآيات: (31- 40)[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 40]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً وَكَأْساً دِهاقاً»
هو وصف لما يتلقى المتقون من ربهم، من فضل وإحسان، فى مواجهة ما لقى للكذبون الضالون من عذاب ونكال.
فالمتقون لهم عند ربهم «مفاز» أي لهم مدخل إلى جناته ورضوانه، وإلى ما فى هذه الجنات من ثمار طيبة.. منها العنب، وقد خصّ العنب بالذكر، لأنه كما يبدو- فى الحياة الدنيا- طيب الثمر، دانى القطوف، ممتد الظل..
- وفى هذه الجنة «كواعب» جمع كاعب، وهى الفتاة التي نهد ثدياها، وذلك فى أول شبابها، وهؤلاء الكواعب «أتراب» أي متما ثلات فى الخلقة، حسنا، وبهاء، وشبابا.. وهذا يعنى أنهن خلقن على صورة من الكمال ليس بعدها غاية، حتى يقع تقاوت فيها.. وفى هذه الجنة كئوس «دهاق» مترعة ملأى، لا تفرغ أبدا. مما فيها من خمر لذة للشاربين.
قوله تعالى.
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً» أي ومن نعيم أهل الجنة ألّا يدخل على نفوسهم شىء مما يكدر صفاءها، من لغو القول، وهجره، وفحشه.. «وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (10: يونس) قوله تعالى:
«جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً» .
أي هذا النعيم الذي يساق إلى المتقين فى جنات النعيم، هو جزاء لهم من ربهم، على ما عملوا من صالح، وما أحسنوا من عمل.
وقوله تعالى: «عَطاءً حِساباً» إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزيهم به ربهم، ليس على قدر أعمالهم، فإن أعمالهم- مهما عظمت- لا تزن مثقال ذرة
لمن هذا النعيم، وإنما ذلك عطاء من ربهم، وفضل من فضله، وإحسان من إحسانه.. أما أعمالهم الصالحة، فليست إلا وسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإذا رضى الله عنهم أرضاهم، وأجزل العطاء لهم..
وفى العدول عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي فى قوله تعالى: «مِنْ رَبِّكَ» بدلا «من ربهم» - فى هذا تكريم للنبى الكريم، وأنه من فضل ربّه عليه كان هذا العطاء الذي وسع المؤمنين جميعا.
وفى قوله تعالى: «حسابا» إشارة أخرى إلى أن هذا العطاء ذو صفتين:
فأولا، هو عطاء بحساب، حسب منازل المتقين عند الله، وحسب درجاتهم من التقوى، وثانيا، هو عطاء يكفى كل من نال منه، فلا تبقى له حاجة يشتهيها بعد هذا العطاء..
هذا، وقد أشرنا- فى غير موضع- إلى أن نعيم الجنة، وإن استجاب لكل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فإنه يختلف بحسب مقام المتنعمين به، حيث تقّبلهم لهذا النعيم، واتساع قواهم له.. وهذا التقبل وهذا الاتساع يتبع مقام المتنعم ومنزلته عند الله.. وقد ضربنا لهذا مثلا بمائدة ممدودة عليها كل ما تشتهى الأنفس من طيبات، وحولها أعداد من المدعوين إليها.. فكلّ ينال منها قدر طاقته، وشهوته، وإن كانوا جميعا قد نالوا ما يشتهون منها.. ولكن شتان بين من أخذ لقيمات، وبين من قطف من كل ما عليها من ثمار! قوله تعالى:
«رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» .
هو وصف لله سبحانه وتعالى، المنعم بهذه النعم الجليلة.. إنها من ربّ م 90 التفسير القرآن ج 30
العالمين، رب السموات والأرض وما بينهما، من رب رحمن رحيم.
وقوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» - إشارة إلى أن هذا النعيم الذي ينعم به المتقون، إنما هو من رحمة الرحمن الذي أنزلهم منها هذا المنزل الكريم..
ولو ساقهم الله سبحانه إلى النار لما كان لهم على الله حجة، لأن أحدا فى موقف الحساب والجزاء لا يستطيع أن يسأل الله عن المصير الذي هو صائر إليه.. إنه لا يملك خطابا، ولا مراجعة.
قوله تعالى:
الظرف «يوم» هو قيد لهذا الوقت الذي لا يملك فيه المتقون خطابا..
فقوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» مظروف بهذا الظرف، وهو وقت قيام الروح والملائكة صفّا بين يدى الله، فى موقف الحساب والجزاء.. وقوله تعالى:
«لا يَتَكَلَّمُونَ» - هو بدل من قوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» .
والروح: هى أرواح البشر، فى موقف الحساب.. ويجوز أن يكون الروح، جبريل..
فالروح- أي الخلائق-، والملائكة، لا يتكلمون فى هذا الموقف، إلا من أذن الله له بالكلام، وقال صوابا فيما أذن الله سبحانه وتعالى له به من كلام.. فإذا أنطقه الله يومئذ، فإنما ينطق بالحق.
قوله تعالى:
«ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً» .
أي ذلك اليوم، هو اليوم الحق، الذي كذّب به المكذبون، واختلف فيه المختلفون.. فمن شاء النجاة والفوز فيه، اتخذ مآبا ومرجعا إلى ربه، وعمل
حسابا لهذا المرجع والمآب، وأعد لنفسه العمل الصالح لهذا اليوم..
قوله تعالى:
ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» .
أي بهذا الحديث، وبهذه الأدلة التي سيقت لكم فيه، قد جاءكم النذير أيها المكذبون بيوم القيامة، وهو نذير بالعذاب لكم فى هذا اليوم، وهو يوم قريب، وإن ظمنتموه بعيدا بعدا، تائها فى الزمن.. إنه مطلّ عليكم، ويومها ينظر المرء ما قدمت يداه، ويرى ما عمل من خير أو شر، ويومها يتمنى الكافر أن لو كان ترابا من هول ما يطلع عليه من سيئات أعماله.. وهى أمنية لا سبيل له إليها..!!