المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير سورة التوبة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٣

[مأمون حموش]

الفصل: ‌تفسير سورة التوبة

‌تفسير سورة التوبة

1 -

6. قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}.

في هذه الآيات: براءة من الله ورسوله إلى المعاهَدين من المشركين، فمن كان من أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة أو كان له عهد دون أربعة أشهر فله إكمال أربعة أشهر، ومن كان له عهد مؤقت فاجله إلى مدته، وأما من لا عهد له من المشركين فإمهالهم ينتهي بانسلاخ الأشهر الحرم، وليعلموا أنهم تحت قبضة الله وسلطانه، لا سبيل للفرار من بأسه إلا بالتوبة والإنابة إليه، والله مخزي الكافرين.

وإعلام من الله ورسوله إلى الناس يوم النحر أن الله ورسوله يبرآن من المشركين، فإن تداركتم - أيها المشركون - أنفسكم بالتوبة وأعلنتم الإيمان بالله وأفردتموه بالتعظيم والعبادة نجوتم، وإلا فالعذاب الأليم مَوْعدكم.

ص: 427

إنَّهُ بانقضاء المُحَرَّم من الأشهر الحرم يحاصر المشركون بالقتل أو الأسر أو منع التصرف ببلاد الإسلام، فإن رجعوا عن الشرك، وأخلصوا التوحيد لله والإقرار بالنبوة وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة خُلِّي سبيلهم والله غفور رحيم.

وإن طَلَبَ المشرك أمانًا يُمَكِّنُ مِنْ إِبلاغه عهد الله وإقامة حجة الله البالغة عليه أُعطِيَ ذلك، ويكون آمنًا مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه، فهو الخير لإبلاع دعوة الله إلى الناس في الأرض ليعلموا آفاق هذا الدين الحق عسى أن يكونوا يومًا قريبًا من أهله.

فإلى تفصيل ذلك:

لقد كان لغزوة تبوك أكبرُ الأثر في إظهار شوكة المسلمين وهيبة دولتهم، فقد ظهر للأمم أن هذه القوة التي يزداد نفوذُها وتتسع رقعتُها كلَّ يوم مستعدةٌ لتحدي الدنيا بأسرها، فدانت العرب جميعًا لسلطان الإسلام، وعلم المنافقون في المدينة وما حولها أن الدائرة ستكون عليهم إذا ما أظهروا أي محاولة مكر أو خداع، بعد أن خابت آمالهم التي كانوا عقدوها على دولة الرومان، إذ دفع القوم الجزية عن يد وهم صاغرون.

وفي ذي الحجة من السنة التاسعة للهجرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق أميرًا على الحج.

قال ابن إسحاق: (ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك بقية شهر رمضان وشوّالًا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرًا على الحج من سنة تسع، ليقيم للمسلمين حجَّهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حَجِّهم، فخرج أبو بكر رضي الله عنه ومن معه من المسلمين)(1).

قال ابن سعد: (فخرج في ثلاث مئة رجل من المدينة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بَدَنة، قَلَّدَها وأشعَرَها بيده، عليها ناجيةُ بن جُنْدب الأسلمي، وساق أبو بكر خمس بدنات)(2).

ولكن ما إن خرج أبو بكر بالناس من المدينة إلا نزل جبريل عليه السلام بسورة

(1) انظر سيرة ابن هاشم (2/ 543)، وكتابي: السيرة النبوية - على منهج الوحيين - (3/ 1602).

(2)

انظر طبقات ابن سعد (2/ 168)، والمرجع السابق - بحث (82) - حج أبي بكر بالناس 9 هـ.

ص: 428

براءة، فأمر عليًا رضي الله عنه باللحاق بأبى بكر، وحمَّله صدر سورة براءة ليقرأها على الناس في الحج يوم النحر.

قال ابن إسحاق: (فنزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه، فخرج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء)(1).

قال ابن سعد: (فلما كان بالعَرْج، وابن عائذ يقول - بضَجْنَان - لحقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على العَضْباء، فلما رآه أبو بكر، قال: أمير أو مأمور؟ قال: لا بل مأمور، ثم مضيا).

وفي رواية: (فقال له أبو بكر: أستعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده)(2).

وقد ذكر ابن إسحاق بإسناد حسن تفصيل هذا المشهد، من حديث محمد بن علي رضوان الله عليه أنه قال: (لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مُدَّته، فخرج علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العَضْباء، حتى أدرك أبا بكرَ بالطريق، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا.

فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج، التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأذّن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مُشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهدٌ فهو إلى مدته) (3).

(1) انظر تفصيل حج أبي بكر بالناس في سيرة ابن هشام (2/ 543 - 548)، والمرجع السابق.

(2)

انظر كامل تفاصيل ذلك الحج عند ابن سعد (2/ 168 - 169)، وكتابي: السيرة النبوية (1602).

(3)

حسن بشواهده. انظر سيرة ابن هشام (2/ 545 - 546). وكتابي: السيرة النبوية (3/ 1604).

ص: 429

و {بَرَاءَةٌ} خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هذه)، ومنهم من جعلها كالمعرفة بصلتها بما بعدها، والتقدير:(البراءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)، والأول أشهر في كلام العرب.

وقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} الآية.

أي: مَنْ كان من أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة أو كان له عهد دون أربعة أشهر فله أن يكمل أربعة أشهر، فأما مَنْ كان له عهد مؤقت فاجله إلى مدته، لقوله تعالى:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} . وأما من لا عهد له من المشركين فأمهلهم إلى انسلاخ الأشهر الحرم، أي خمسين يومًا تنتهي بنهاية المحرّم.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: [بعثني أبو بكر في تلك الحِجّة في مؤذِّنين بعثهم يومَ النحر يؤذنون بمنى: ألَّا يَحُجَّ بعد هذا العام مُشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأمره أن يُؤذن ببراءة، قال: فأذن معنا علي في أهل مِنى يومَ النحر ببراءة، وألَّا يحجَّ بعدَ العام مشرك، ولا يطوفَ بالبيت عريان](1).

وله شاهد في مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي بسند قوي من حديث علي، وكذلك في مسند الحميدي عن زيد بن يُثَيْع، قال: سألنا عليًا، بأي شيء بعثتَ في الحجّة؟ قال:[بُعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عُريان، ولا يجتمع مُسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا، ومَنْ كان بينَهُ وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فعهده إلى مُدَّته، ومن لم يكن له عَهْدٌ، فأجله إلى أربعة أشهر](2).

وأما قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ، قال ابن جرير:(فإنه يعني: فسيروا فيها مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه).

- وهو في لغة العرب من ساحَ يسيحُ سياحةً، وسُيوحًا وسَيَحانًا.

قال قتادة: (قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ، عشرون من ذي الحجة،

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (369) - كتاب الصلاة -، وكذلك (3177) - كتاب الحج -، وأخرجه مسلم في الصحيح (1347) - كتاب الحج -، وله شواهد كثيرة في السيرة والسنن.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 79) من حديث علي رضي الله عنه، وأخرجه الحميدي (48) في مسنده، وسنده صحيح.

ص: 430

والمحرم وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر).

وقال ابن عباس: (حدّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون فيها حيثما شاؤوا، وحدّ أجل من ليس له عهد، انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، فذلك خمسون ليلة. فإذا انسلخ الأشهر الحرم، أمره أن يضع السيف فيمن عاهد).

ثم قال جل ذكره: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} .

قال ابن جرير: (قوله: {غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} ، غير مُفِيتيه بأنفسكم، لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض، ففي قبضته وسلطانه، لا يمنعكم منه وزيرٌ، ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقلٌ ولا موئل، إلا الإيمان به وبرسوله، والتوبة من معصيته.

يقول: فبادروا عقوبته بتوبة، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم. وأما قوله:{وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} ، يقول: واعلموا أن الله مُذِلُّ الكافرين، ومورثهم العارَ في الدنيا، والنار في الآخرة).

ثم قال سبحانه: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} .

المعنى: وإعلامٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم النحر.

قال ابن زيد: (قوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قال: إعلام من الله ورسوله).

وقال ابن عباس: (الحج الأكبر يوم النحر).

وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (الحج الأكبر، يوم تُهرَاقُ فيه الدماء، ويحلق فيه الشعر، ويَحِلُّ فيه الحرام).

وقيل: بل هو يوم عرفة، ذكره عطاء ومجاهد، والصواب الأول وبه جاء الخبر الصحيح.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: (ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الأكبرُ من أجل قول الناس الحجُّ الأصغر)(1).

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري - حديث رقم - (4657) - كتاب التفسير -.

ص: 431

وفي التفاسير عن ابن جريج، عن عطاء، قال:(الحج الأكبر: الحج، والحج الأصغر: العمرة).

فيقال للعمرة (الحج الأصغر) لأن عملها أقل من عمل الحج، إذْ في أعمال الحج ما هو زيادة عليها.

وعن ابن إسحاق: ({أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، أي: بعد هذه الحجة).

وقوله: "ورَسُولُهُ" أي: ورسوله بريء من المشركين، فالخبر محذوف، وهي جملة معطوفة على ما قبلها.

ثم قال سبحانه: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .

والمعنى: أنكم إن تبتم أيها المشركون من كفركم ورجعتم إلى إفراد الله تعالى بالتعظيم والعبادة فهو خير لكم من الإقامة على الشرك سواء في الدنيا أو في الآخرة، وإن أعرضتم وأبيتم إلا دين الآباء وتقليدهم في عبادة الأوثان فأيقنوا أن الله سيأتي بكم لا محالة، ولا سبيل لكم أن تفلتوا من قبضته سبحانه، ثم الويل والوعيد الشديد يَنْتَظِرُكُم في صلي نيرانه.

ثم قال جل وعزَّ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .

قال قتادة: (هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر. فأمر الله نبيّه أن يوفِي لهم بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك).

ثم قال جل ذكره: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

يقول جل ذكره: إذا انقضى المحرّم من الأشهر الحرم (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم) عن الذين لا عهد لهم أو عمن كان لهم عهد فنقضوه بإعلانهم العداء

ص: 432

ومظاهرتهم الأعداء على المسلمين أو كان عهدهم إلى أجل غير معلوم، فاقتلوا هؤلاء المشركين حيث لقيتموهم من الأرض في الحل والحرم وفي أي شهر، وخذوهم أسرى واحصروهم بمنعهم التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة واقعدوا لهم بالطلب كل طريق ومرقب، فإن رجعوا عن الشرك وأخلصوا التوحيد والإقرار بالنبوة وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم.

قال أنَس: (توبتهم، خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة).

وكان قتادة يقول: (خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله، فإنما الناس ثلاثة: رهْط مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عُشور ماله) - ذكرهما ابن جرير.

ثم قال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} .

قال مجاهد: (إنسان يأتيك فيسمع ما تقول، ويسمع ما أنزل عليك، فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه، حيث جاءه).

قال ابن كثير: (والغرضُ أن من قَدِمَ من دار الحرب إلى دار الإِسلام في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صُلْح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلب من الإمام أو نائبه أمانًا، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه.

لكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان، عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء، رحمهم الله.

وخلاصة القول: إنْ طَلَبَ المشرك أمانًا يُمَكِّنُ من إبلاغه عهد الله وإقامة حجة الله البالغة عليه فإنه يُعطى ذلك ويكون آمنًا مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه، وقد شُرِّعَ ذلك ليعلموا دين الله، وتصل دعوة الله سبحانه إلى الخلق.

وفي السنة الصحيحة آفاق هذا المعنى، في أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن نعيم بن مسعود الأشجعي، قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما - أي لرسولي مُسيلمة الكذاب - حين قرأ كتاب

ص: 433

مسيلمة: ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، قال: أما والله، لولا أن الرُّسْلَ لا تقْتَلُ لضَرَبْتُ أعناقَكُما] (1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود والنسائي بسند صحيح عن حارثة بن مُضرب أنه أتى عبد الله فقال: [ما بيني وبين أحد من العرب حِنَةٌ (2) وإني مررت بمسجد لبني حنيفة، فإذا هم يؤمنون بمسيلمة، فأرسل إليهم عبد الله، فجيء بهم فاستتابهم، غير ابن النواحة قال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنك رسول لضربت عنقك" فأنت اليوم لست برسول، فأمر قَرظَة بن كعب فضرب عنقه في السوق، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلًا بالسوق](3).

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود - واللفظ له - عن أم هانئ بنت أبي طالب: [أنها أجارت رجلًا من المشركين يوم الفتح، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: قد أجرنا مَنْ أَجَرْتِ، وأمَّنا مَنْ أمَّنْتِ](4).

7 -

15. قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (2761) - باب في الرسل - من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (2399).

(2)

"حنة": هي الإحنة: الحقد والغضب المُضمر.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2762)، والنسائي في "الكبرى"(8675)، وأحمد (1/ 383).

(4)

حديث صحيح. أخرجه الشيخان دون قوله: "وأمنا. ."، وأخرجه بتمامه أبو داود في السنن، حديث رقم (2763) - باب في أمان المرأة -. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (2401).

ص: 434

يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}.

في هذه الآيات: خطاب الله تعالى عباده المؤمنين: كيف يستقيم عهد المشركين وقد كفروا بالله وليس بعد الكفر ذنب! فإن تمسكوا بما عاهدتموهم يوم الحديبية فأوفوا لهم عهدهم والله يحب المتقين.

إنهم يجمعون في صدورهم المكر والغدر والخديعة والبغضاء ولا يراعون في الحقيقة عهدًا ولا قرابة، فتنبهوا لذلك فإن أكثرهم فاسقون.

لقد استبدلوا بالقرآن متاع هذه الدنيا، ومنعوا المؤمنين من اتباع الحق، وأولئك هم المعتدون.

فإن تركوا الأوثان وأقبلوا على عبادة الرحمن، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فهم إخوانكم في الدين، وبذلك تحرم دماؤهم.

وإن نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم، وطعَنوا في دينكم، فقاتلوا رؤوس الكفر حتى تنكسر أو تنفك من الكفر والعناد.

أتخشون قتال قوم أَذاقُوكُم أَلَمَ المكر والطعن والغدر والتهجير من الديار، وهم الذين أعلنوا الحرب عليكم؟ ! إن الله أحق أن تخشوه إن كنتم صادقين.

فانفروا لقتالهم يعذبهم الله بأيديكم ويشف بنصركم عليهم صدوركم، ثم يتوب سبحانه على كل من تاب، فأقلع عن الظلم والإثم وأناب، والله عليم حكيم.

فقوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} ، أي: لا يستقيم عهد القوم وهم مشركون بالله كافرون به وبرسله.

وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية، قال ابن كثير: (يعني يوم الحديبية، كما قال تعالى:{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] الآية، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} ، أي: مهما

ص: 435

تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين، {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون، استمرّ العقد والهدنةُ مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست، إلى أن نقضت قريشٌ العهد ومالؤوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم معهم في الحرم أيضًا، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء، وكانوا قريبًا من ألفين، ومن استمر على كفره وفَرّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر، يذهب حيث شاء: منهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإِسلام التام، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله).

وقوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} .

يذكر سبحانه في هذه الآية وما بعدها بعض صفات المشركين وما تنطوي عليه نفوسهم من المكر والغدر والبغضاء وعدم تفويت أية محاولة لإيقاع الأذى بالمؤمنين.

وعن ابن عباس: (قوله: {لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}، قال: الإلّ: القرابة، والذمة: العهد).

وقال قتادة: (الإلّ: الحلف).

وقال مجاهد: (الإل: العهد).

وقوله: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: يعطونكم بألسنتهم خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء، {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} ، أي: تأبى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم، بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم.

يحذِّر جل ثناؤه أمرَهم المؤمنين، ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله، وأن لا يقصِّروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه، {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} ، يقول: وأكثرهم مخالفون عهدَكم، ناقضون له، كافرون بربهم، خارجون عن طاعته).

وقوله تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

ص: 436

أي: استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا، فاعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهموا به من أمور الدنيا الخسيسة، فمنعوا المؤمنين من اتباع الحق، وقد ساء منهجهم إذ استبدلوا بالحق عرضًا زائفًا، وكانوا عَثَرَةً في طريق الهدى وما يحيي قلوب الناس ويوصلها بالله عز وجل.

وقد حفلت السنة الصحيحة بكنوز من جوامع الكلم في ذلك:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، بسند حسن، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والعجمي، فقال:[اقرؤوا القرآن، وابتغوا به الله تعالى، من قبل أن يأتيَ قومٌ يقيمونَه إقامة القِدْحِ، يتعجَّلونَهُ ولا يتأجَّلونهُ].

وفي رواية: [اقرؤوا فكل حسن، وسيجيء أقوامٌ يقيمونه كما يقام القدح، يتعجلونه، ولا يتأجلونه](1). والقِدْحُ: السهم قبل أن يُراش ويركب نصله، وقِدْحُ الميسر أيضًا.

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والطبراني بسند صحيح عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري أن معاوية قال له: إذا أتيت فسطاطي فقم فأخبر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [اقرؤوا القرآن، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلوا فيه](2).

وفي رواية: [اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفُوا عنه، ولا تَغْلوا فيه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به].

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والطبراني والبيهقي بسند صحيح عن عمران بن حصين، أنه مرّ على قارئ يقرأ، ثم سأل، فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس](3).

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 357)، (3/ 397)، وأبو داود (1/ 132)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (رقم - 1876)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث (259) -.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 428)، (3/ 444)، والطبراني في "الأوسط"(1/ 142/ 2)، ورواه الطبراني في "الكبير" أيضًا كما في "المجمع"(4/ 73)، وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1179).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 432 - 433)، (4/ 439)، والترمذي (4/ 55)، وله شواهد =

ص: 437

وفي رواية: [اقرؤوا القرآن، وسلُوا الله به، قبل أن يأتيَ قومٌ يقرؤون القرآن فيسألون به الناس].

الحديث الرابع: أخرج الحاكم، وابن أبي حاتم بسند صحيح لشواهده، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[تعلموا القرآن، وسلوا الله به الجنة، قبل أن يتعلمه قوم، يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله](1).

وقوله تعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} .

قال النسفي: (ولا تكرار، لأن الأول على الخصوص حيث قال فيكم، والثاني على العموم لأنه قال في مؤمن، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة).

وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

قال ابن عباس: (حرَّمت هذه الآية دماء أهل القبلة).

وقال قتادة: (يقول: إن تركوا اللات والعزى، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِوَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}).

قال ابن زيد: (افترضت الصلاة والزكاة جميعًا لم يفرَّق بينهما. وقرأ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه).

وقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} .

النكث هو النقض.

قال القرطبي: (وأصله في كل ما فُتِلَ ثم حُلّ. فهي في الأيمان والعهود مستعارة).

قال ابن عباس: (يعني أهل العهد من المشركين، سماهم {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} وهم

= عن جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (257).

(1)

صحيح لشواهده. أخرجه ابن نصر في "قيام الليل"(ص 74)، والحاكم (4/ 547)، وانظر مسند أحمد (3/ 38 - 39)، ورواه ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير"(3/ 128).

ص: 438

كذلك. يقول الله لنبيه: وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم، فقاتلهم، أئمةُ الكفر لا أيمان لهم، {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} ).

وأصل الطعن في كلام العرب القدح. قال الرازي: (وطعنَ فيه أي قَدَحَ).

قال ابن كثير: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} ، أي: عابوه وانتقصوه.

ومن ها هنا أُخِذَ قتلُ من سبّ الرسولَ - صلوات الله وسلامه عليه - أو مَنْ طعن في دين الإسلام أو ذكره بِتَنَقُّصٍ، ولهذا قال:{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} ، أي: يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال).

قلت: وأكثر أهل العلم أنّ من سبّ الله تعالى أو الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة أو استخَفَّ بقدره أو وَصَفَهُ بغير الوجه الذي عُرِفَ به فإنه يقتل، فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا. واستدل بعضهم بأمره صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف وكان معاهدًا. فإن ظهر السبّ من مسلم فإنه يخرج من ملة الإسلام ولا يستتاب بل حكمه القتل مباشرة.

قال الإمام محمد بن سمنون: (أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر، والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر)(1).

وفي سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس: [أن أعمى كانت له أم ولد، تشتم النبي صلى الله عليه وسلم، وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر. قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول (2) فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكِرَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال:"أنشد الله رجلًا فعل ما فعل، لي عليه حق، إلا قام" فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها

(1) انظر كتاب: "الصارم المسلول على شاتم الله والرسول"، وكتابي أصل الدين والإيمان (1/ 114).

(2)

سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه، فهو سلاح خفي يُغتال به الناس.

ص: 439

حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا اشهدوا: أن دمها هدر] (1).

وقوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

قال السدي: (قوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}، من بعد عهدهم، {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}، يقول: هموا بإخراجه فأخرجوه، {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، بالقتال).

وقال مجاهد: ({وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، قال: قتال قريش حلفاءَ محمد صلى الله عليه وسلم).

قال القاسمي: ({أَتَخْشَوْنَهُمْ} أي أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} بمخالفة أمره وترك قتالهم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه، كقوله تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} - قاله الزمخشري - وفيه من التشديد ما لا يخفى).

وقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} .

يعزم تعالى بذلك على المؤمنين ويحرضهم على قتال المشركين وأعداء هذا الدين الناكثين لأيمانهم وعهودهم ومواثيقهم.

قال السدي: ({وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، قال: خزاعة، يشف صدورهم من بني بكر).

والآية عامة في كل زمان ومكان، لمواجهة كل من نكث العهود وطعن في المواثيق وأظهر الغدر والإفساد، فواجب على الحاكم المسلم أن ينبذ إليهم ويؤدبهم.

فخلاصة المعنى: قاتلوهم - معشر المؤمنين - يعذبهم الله بآلام الجراحات والموت ويخزهم بالأسر والاسترقاق والقهر ويعطيكم الظفر والغلبة عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين صبروا حتى أراهم الله تعالى ذل عدوهم.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4361) - كتاب الحدود - باب الحكم فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم. انظر صحيح سنن أبي داود (3665)، وسنن النسائي "الكبرى"(3533)، وأخرجه الدارقطني (3/ 112)، (4/ 216). قال الحافظ في بلوغ المرام: رواته ثقات.

ص: 440

وقوله تعالى: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

قال السدي: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} - أي خزاعة - حين قتلهم بنو بكر، وأعانتهم قريش).

قال النسفي: ({وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} لما لقوا منهم من المكروه وقد حصل الله هذه المواعيد كلها فكان دليلًا على صحة نبوته).

قلت: والآية أيضًا عامة في كل زمان ومكان، فإن الله تعالى يُنْزل الخزي والذل بأعداء دينه وينصر عليهم فئة المؤمنين الصادقين، فيذهب غيظ قلوبهم مما لاقوه منهم من ظلم وتجبر وعلو في الأرض بغير الحق ونشر للكفر والفساد، ثم الله جل وعلا يتوب برحمته على من تاب إليه من عباده فأقلع عن الإثم والظلم ورجع إلى جادة الحق، والله عليم بأفعال عباده الظاهرة والباطنة، حكيم في أقواله وأفعاله وتقديره وتشريعه.

أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدمَ إنك ما دَعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبُك عَنَان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تُشْرك بي شيئًا لأتيتُك بقُرابِها مَغْفِرَة](1).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لو يعلمُ المؤمن ما عنْدَ الله من العقوبة، ما طَمِعَ بجنته أحدٌ، ولو يعلم الكافر ما عِنْدَ الله من الرحمة، ما قَنِطَ من جَنَّتِهِ أحدٌ](2).

16 -

22. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3789)، وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث (2805).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2755) - كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها تغلب غضبه، وأخرجه الترمذي (3791) في السنن، وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث (2807).

ص: 441

أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}.

في هذه الآيات: خِطَابُ الله تعالى عباده المؤمنين: هل ظننتم أن تمضوا دون اختبار يُظْهِرُ صِدْقَ جهادكم وولائكم لله تعالى وبراءتكم من تقريب المشركين؟ ! إن الله خبير بأعمالكم وأحلافكم.

إنه لا يكون من المشركين عمارة لمساجد الله وهم قائمون على منهاج الكفر، بل إن أعمالهم قد بطلت وهم في النار يوم القيامة ماكثون.

إنما عُمّارُ المساجد على الحقيقة هم مَنْ أخْلص التوحيد لله وآمن باليوم الآخر وأقام الصلوات الخمس ولم يعبد إلا الله فأولئك بإذن الله من المفلحين.

هل جعلتم الافتخار بالسقاية وسدانة البيت كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله؟ ! كلا، لا تعتدل أحوال ومنازل الفريقين.

فالمؤمنون والمهاجرون والمجاهدون أعظم درجة من الذين افتخروا بالسقي والعمارة، لهم البشرى من الله برحمته ورضوانه والقرار في النعيم المقيم، والخلود في الأجر العظيم.

فقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} .

الوليجة: الشيء يدخل في آخر غيره. والمقصود هنا البطانة من المشركين.

قال السدي: {وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} ، يتولَّجها، من الولاية للمشركين).

ص: 442

وقال الربيع: ({وَلِيجَةً}: دَخَلًا). وقال ابن زيد: (أبى أن يدعهم دون التمحيص).

وقال الحسن: ({وَلِيجَةً}، قال: هو الكفر والنفاق، أو قال أحدَهما).

والمعنى: هل حسبتم أن تتركوا بغير اختبار يتبين فيه صدق إيمانكم وصدق جهادكم عدو الله وعدوكم، وصدق ولائكم لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، وتبرئكم من تقريب المشركين.

قال ابن جرير: (نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء، يفشون إليهم أسرارهم).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 142].

2 -

وقال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].

3 -

وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179].

وقوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . أي: يعلم أعمالكم وأحلافكم ومَنْ توالون ومَنْ تُعادون، ثم هو سبحانه مجازيكم بأعمالكم إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًا فشر.

وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} .

أي: ما ينبغي للمشركين إعمار مساجد الله التي أسست على التقوى وعبادة الله وحده لا شريك له.

قال القاسمي: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ، أي: ما صحَّ لهم وما استقام {أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} ، أي: التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، أي يعمروا شيئًا منها، فهو جمع مضاف في سياق النفي، ويدخل فيه المسجد الحرام دخولًا أوليًا، إذ نفيُ الجمع يدل على النفي عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية.

وقرئ {مسجد الله} بالتوحيد، تصريحًا بالمقصود، وهو المسجد الحرام،

ص: 443

أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده، لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن).

قال في "البصائر": (- يعمر -: إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا أي أقمت به).

قال السدي: ({مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} قال: يقول: ما كان ينبغي لهم أن يعمروها، {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر}، قال: النصراني يقال له: ما أنت؟ فيقول: نصراني، واليهودي يقال له: ما أنت؟ فيقول: يهودي، والصابئ يقال له: ما أنت؟ فيقول: صابئ).

والخلاصة: لا يوصف المشركون بعمارة المساجد، وما ينبغي لهم لا ببنائها خالصة لوجه الله تعالى، ولا بعمارتها وارتيادها لعبادته جل ثناؤه، هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، أي: بحالهم وقَالِهم.

وهؤلاء {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ، أي: بطلت وذهبت أجورها إذ لم تكن لله بل للرياء والمصلحة والكذب والنفاق والشيطان {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} ، أي: ماكثون فيها أبدًا، لا أحياءً ولا أمواتًا.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مُؤْمِنًا حَسَنَة، يُعطِي بها في الدنيا ويَجْزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكنْ له حسنةٌ يُجْزَى بها](1).

وفي رواية: [إن الكافر إذا عمل حسنةً أُطْعِمَ بها طُعْمَةً من الدنيا، وأما المؤمِنُ فإن الله يَدَّخِرُ له حسناتِهِ في الآخرة ويُعْقِبُهُ رِزقًا في الدنيا على طاعته].

وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} .

قال ابن عباس ({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، يقول: مَن وحَّد الله، وآمن باليوم الآخر. يقول: أَقَرَّ بما أنزل الله، {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} ، يعني

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2808) - كتاب صفات المنافقين - باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا. وانظر ما بعده في الباب.

ص: 444

الصلوات الخمس، {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} ، يقول: ثم لم يعبد إلا الله، قال:{فَعَسَى أُولَئِكَ} ، يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]: يقول: إن ربك سيبعثك مقامًا محمودًا، وهي الشفاعة، وكل "عسى"، في القرآن فهي موجبة).

وقال ابن إسحاق: (و {عَسَى} من الله حق).

فعرّف سبحانه وتعالى في هذه الآية عمار المساجد على الحقيقة، بعد أن نفى ذلك عن المشركين.

وفي التنزيل: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].

وقد حفلت السنة الصحيحة بكنوز من الخير في آفاق هذا المعنى:

الحديث الأول: أخرج الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" - بسند جيد - عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لينادي يوم القيامة: أين جيراني، أين جيراني؟ قال: فتقول الملائكةُ: ربنا! ومن ينبغي أن يجاورك؟ فيقول: أين عُمّار المساجد؟ ](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة، وخطوةٌ تكتبُ له حسنة، ذاهبًا وراجعًا](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه عن عثمان، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:[من بني مسجدًا يبتغي به وَجْه الله بنى الله له مِثْلَهُ في الجنة](3).

وله شاهد عند ابن ماجه من حديث جابر مرفوعًا: [من بنى لله مسجدًا، ولو كَمَفْحَصِ قطاة أو أصغر، بنى الله له بيتًا في الجنة].

الحديث الرابع: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [سبعة يظلهم الله تعالى في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: إمام عَدْلٌ، وشاب نشأ في عبادة

(1) إسناده جيد. أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(16/ 1) من حديث أنس رضي الله عنه، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (2728).

(2)

حديث حسن. رواه أحمد والطبراني وابن حبان. انظر صحيح الترغيب والترهيب (1/ 299)(3).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (450) - كتاب الصلاة - باب من بنى مسجدًا. وانظر للشاهد صحيح الجامع الصغير (6003)، (6004)، (6005)، (6006)، ورواه أحمد.

ص: 445

الله، ورجل قلبه مُعَلَّقٌ في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ مَنْصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تَصَدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يمينُه، ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه] (1).

والخلاصة: إن مَنْ يعمر مساجد الله ببنائها والقيام بعبادة الله فيها من آمن بالله تعالى وأسمائه وصفاته فأفرده بالعبادة والتعظيم، وآمن باليوم الآخر يوم يقوم الناس لرب العالمين، فاستعد لذلك بإقامة الصلوات وإعطاء الزكاة والصدقات وإفراد الله بالخشية والعبادة كما شرع، فهؤلاء لهم البشرى يوم الدين بالفلاح والفوز العظيم.

وقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

قال ابن جرير: (وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية).

قال: ({لَا يَسْتَوُونَ} هؤلاء، وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما، لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملًا، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، يقول: والله لا يُوفّق لصالح الأعمال من كان به كافرًا، ولتوحيده جاحدًا).

قلت: وقد صحّ هذا المعنى في نزول هذه الآية كما ورد في السنة الصحيحة:

فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن النعمان بن بشير قال:[كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل عملًا بعد الإِسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملًا بعد الإِسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية إلى آخرها](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1423) - كتاب الزكاة - واللفظ له، وأخرجه مسلم وغيره.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1879) ح (111)، وأحمد في المسند (4/ 269)، والطبري في "التفسير"(16557)، وغيرهم.

ص: 446

وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .

المعنى: الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أعظم درجة من الذين افتخروا بالسقي والعمارة، فإن الفوز يوم القيامة لا يكون إلا على منهاج النبوة، لا في أعراف وتقاليد الجاهلية وما كان غايته الرياء والسمعة والشهرة.

وقوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .

أي: يعلمهم ربهم سبحانه بكريم ثوابه عليهم وجزيل رحمته بهم ورضوانه الذي هو أكبر من كل شيء، وأجل نعمة في هذا الوجود في الدنيا والآخرة، ثم يتوِّج كرمه عليهم بالخلوة في دار السعادة في جنات النعيم.

أخرج ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، بسند صحيح على شرط الشيخين، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: هل تشتهون شيئًا فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا وما فوق ما أعطيتنا؟ قال: فيقول: رضواني أكبر](1).

23 -

24. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}.

في هذه الآيات: نَهْيُ الله المؤمنين عن اتخاذ الآباء والإخوان أولياء إن رضوا بالكفر

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في صحيحه (2647)، وأبو نعيم في "صفة الجنة"(2/ 141/ 1)، وأخرجه الحاكم (1/ 82)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1336).

ص: 447

وقدموه على الإيمان، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الظالمون.

قل - يا محمد - لأصحابك متوعدًا: إن كنتم آثرتم الأهل والقرابة: من أب أو ابن أو أخ أو زوجة أو عشيرة، أو المال والتجارة والمسكن وغير ذلك من متاع هذه الدنيا الفانية على محبة الله ورسوله والجهاد في سبيل الله فترقبوا حلول نقمة الله بكم، والله لا يهدي من يؤثر هواه ودنياه، على إعلاء كلمة الله ورضاه.

فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} .

نهي عن موالاة الكفار، أبناء كانوا أو إخوانًا أو آباء، فإن الولاء والبراء جزء من منهج الإيمان عند المؤمنين.

وقد تألق في ذلك عبد الله ابن المنافق ابن سلول حين سجّل آنذاك رقمًا عالميًا في الولاء والبراء، ومفهوم الحب والبغض في الله، وقد وقف على باب المدينة يمنع أباه من دخولها، واستل سيفه مهددًا والده رأس النفاق - الذي أشعل حادثة الإفك وكثيرًا من الفتن بين المسلمين - أن لا يدخلها إلا بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى ذلك الإمام الترمذي بسند حسن عن جابر، قال:[فقال له ابنُهُ عبد الله بن عبد الله: والله لا تَنْقَلِب حتى تُقِرَّ أنك الذليل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل](1).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13].

2 -

وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].

وفي الصحيحين والمسند عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار](2).

فنهى الله تعالى المؤمنين عن موادة ونصرة وتأييد الكفار، ولو كانوا إخوانًا أو أبناء

(1) حديث صحيح. انظر سنن الترمذي (3315) - كتاب التفسير -، وهو حديث حسن صحيح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (21) - كتاب الإيمان -، وأخرجه مسلم (43) - كتاب الإيمان -.

ص: 448

أو آباء، ما داموا استحبوا الكفر على الإيمان، وتوعَّدَ سبحانه من يتخذهم بطانة من دون المؤمنين، أو يؤثِرُ المقام معهم على الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دار الإِسلام بأنه منهم، وبأنهم بفعلهم ذلك مخالفون لأمر الله وظالمون لأنفسهم.

وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .

يتوعد سبحانه من آثر أهله وقرابته - من أب أو ابن أو أخ أو زوجة أو عشيرة - أو مال أو تجارة أو مسكن أو غير ذلك من متاع الحياة الدنيا على محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، بنزول نقمته وسخطه وغضبه، والله لا يهدي من خرج عن منهاجه وآثر هواه.

قال ابن جرير: ({وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}، يقول: اكتسبتموها، {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفراقكم بلدكم، {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}، فسكنتموها).

وقال القرطبي: ({وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} يقول: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها. {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة).

قلت: والآية تعم كل زمان ومكان، وقوله:{فَتَرَبَّصُوا} تهديد قائم لكل من آثر الحياة الدنيا وزينتها، وتعني:"فانتظروا وارتقبوا" نزول النكال من الله والعذاب.

وقد حفلت السنة الصحيحة بكنوز من الخير وجوامع الكلم في آفاق هذا المعنى، ومن ذلك:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين](1).

وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة: [والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده].

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والبخاري عن عبد الله بن هشام قال: [كنا مع

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (15) - كتاب الإيمان - باب حب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، وانظر - حديث رقم - (14) للفظ بعده، وأخرجه مسلم في الصحيح (44)، وأحمد في المسند (3/ 177)، والنسائي (8/ 114) وغيرهم.

ص: 449

النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمَر] (1).

الحديث الثالث: أخرج أحمد والنسائي بسند حسن عن سبرة بن الفاكه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد بطريق الإسلام فقال: تُسْلِمُ وتذرُ دينك ودينَ آبائك وآباء آبائك؟ ! فعصاه فأسلم، ثم قَعَدَ له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك .. فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتُقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ ! فعصاه فجاهد. .] الحديث (2).

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، بسند جيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعِيْنَةِ، وأخذتم بأذناب البقر، وَرَضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلًا لا يَنْزِعُهُ حتى ترجعوا إلى دينكم] (3).

25 -

27. قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6632) - كتاب الأيمان والنذور -، وأخرجه أحمد (4/ 233).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (3/ 483)، والنسائي (6/ 21)، وفي "الكبرى"(4342)، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(4593)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 188)، وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1648).

(3)

إسناده جيد. أخرجه أحمد (4825)، وصححه أحمد شاكر، وأخرجه أبو داود (3462)، وانظر الحديث في جامع الأصول - حديث رقم - (9465)، وفي صحيح الجامع الصغير (416).

ص: 450

اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}.

في هذه الآيات: امتنانُ الله تعالى على عباده المؤمنين بنصره لهم في مشاهد كثيرة، ثم يوم حنين كذلك كان النصر بعد استيعابكم الدرس البليغ: أن النصر من عند الله لا بكثرة العَدد والعُدد، فها هي الكثرة لم تغن عنكم شيئًا أول المعركة وقد وليتم هاربين.

فلما ثَبَّتَ الله رسوله وفئة الصدق حوله وأيَّدَهُ بالملائكة اختلفَ تَوَجُّه المعركة، فكان النصر للمؤمنين، والعذاب على الكافرين، ثم يتوب الله برحمته على التائبين، والله هو الغفور الرحيم.

فقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة).

وقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} .

أي: ويوم حنين أيضًا قد نصركم سبحانه وتعالى، بعد ما أعطاكم درسًا بليغًا، أن النصر من عنده وأن الكثرة لم تغن عنكم شيئًا، بل إن كثيرًا منكم ولوا على أعقابهم مدبرين منهزمين.

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: [غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنَيْنًا، فلما واجهنا العدو، تقدّمتُ فأعلو ثنيَّة، فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم، فتوارى عني، فما دريت ما صنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فولّى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وأرجع منهزمًا وعليّ بُرْدَتان مُتَّزِرًا بإحداهما مرتديًا بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعًا، ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزمًا وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأى ابن الأكوع فزعًا](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (1777) - كتاب الجهاد - من حديث سلمة بن الأكوع. وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (بحث 72 - القرآن يتحدث عن معركة حنين)(3/ 1364) لتفصيل البحث.

ص: 451

قال ابن زيد: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} ، قال: كانوا اثني عشر ألفًا).

والباء في قوله تعالى: {بِمَا رَحُبَتْ} بمعنى في، كما ذكر أهل اللغة، والتقدير: وضاقت عليكم الأرض في رحبها وسعتها.

وفي قوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} ، قال قتادة:(ذكر لنا أن رجلًا قال يومئذ: لن نغلب اليوم بكُثْرة، وذُكِرَ لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس - أي فروا مسرعين -).

ثم قال جل ذكره: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .

روى مسلم في صحيحه عن سلمة قال: [فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تُراب من الأرض ثم استقبل به وجوههم فقال: شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله عز وجل بذلك، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين](1).

وروى أحمد في المسند عن أبي عبد الرحمن الفهري قال: [فصاففناهم عشيتنا وليلتنا فتشامت الخيلان فولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله، ثم قال: يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله. قال: ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه فأخذ كفًا من تراب، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني ضرب به وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فهزمهم الله عز وجل. قال يحيى بن عطاء - أحد الرواة - فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفيه ترابًا](2).

وكذلك في المسند، وسيرة ابن إسحاق، بسند حسن عن جابر قال:[فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس قال: يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة، فأجابوه: لبيك لبيك، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه ثم يؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مئة، فاستعرض الناس فاقتتلوا، وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار، ثم جعلت آخرًا بالخزرج، وكانوا صبراء عند الحرب](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1777) - كتاب الجهاد، وانظر المرجع السابق (3/ 1365).

(2)

حديث حسن. انظر مسند أحمد (5/ 286)، وكتابي: السيرة النبوية (3/ 1350) لتمام الحديث.

(3)

حديث حسن. انظر سيرة ابن هشام (2/ 444 - 445) بسند حسن، والمرجع السابق (3/ 1348).

ص: 452

ثم قال جل ثناؤه: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} .

وهي الملائكة حمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حين حمي الوطيس وحين غشيه المشركون، كما شاركت المؤمنين الذين صمدوا قتالهم.

يروي ابن جرير بإسناده إلى عبد الرحمن مولى أم برثن قال: (حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: فلما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حَلْبَ شاة. قال: فلما كشفناهم جعلنا نسوقُهم في أدبارهم، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فتلقانا عنده رجال بيض حسانُ الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا. قال: فانهزمنا، وركبوا أكتافنا، فكانت إياها)(1).

وروى أحمد من حديث أبي عبد الرحمن الفهري، قال يحيى بن عطاء:(فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابًا، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الحديد)(2).

ويروي ابن إسحاق عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: [إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد (3) الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة](4).

ويروي البيهقي وكذلك ابن سعد - واللفظ له - عن شيبة بن عثمان الحَجَبي قال: [لما كان عام الفتح، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عَنوة، قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيبَ من محمد غِرّة، فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كُلِّها، وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدًا، ما تبعته

(1) أخرجه الطبري في التفسير (3151). وانظر المرجع السابق (3/ 1366 - 1367).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (5/ 286)، وهو جزء من حديث أطول.

(3)

البجاد: الكساء.

(4)

أخرجه البيهقي في "الدلائل"(5/ 146) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، ورواه ابن إسحاق وفيه ضعف، لكن له شواهد. انظر تفسير ابن كثير - سورة التوبة، آية (26).

ص: 453

أبدًا، وكنتُ مُرْصدًا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة، فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته، فأصلت السيف، فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفي حتى كِدت أشعره إياه، فرُفع لي شُواظ من نار كالبرق كاد يمحُشُني، فوضعت يدي على بصري خوفًا عليه، فالتفتَ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداني: يا شَيْبُ ادْنُ مني فدنوت منه، فمسح صدري، ثم قال: اللهم أعذه من الشيطان، قال: فوالله لهو كان ساعتئذ أحبَّ إليَّ من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان في نفسي، ثم قال: ادْنُ فقاتل، فتقدمت أمامه أضربُ بسيفي، الله يعلم أني أحب أن أقِيَه بنفسي كُلَّ شيء. .] الحديث (1).

ثم قال جل ذكره: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، أي: بالرعب والقتل والهزيمة.

قال الحافظ ابن كثير في التفسير: (وقال سعيد بن السائب بن يسار عن أبيه قال: سمعت يزيد بن عامر السوائي وكان شهد حُنَينًا مع المشركين ثم أسلم بعد فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين! قال: فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن فيقول: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا)(2).

وقوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} ، فقد سلط الله عليهم القتل والسبي والتشريد، حتى رُوي أن قتلى هوازن قد بلغ خلال المعركة اثنين وسبعين قتيلًا من بني مالك من ثقيف وحدهم وقتيلين من الأحلاف.

قال ابن إسحاق: (فلما انهزمت هوازن استحرَّ (3) القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلًا تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب، وكانت رايتهم مع ذي الخِمار - وهو عوف بن الربيع -، فلما قُتِلَ أخذها عثمان بن عبد الله، فقاتل بها حتى قتل. قال ابن إسحاق، وأخبرني عامر بن وهب بن الأسود، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتلُه، قال: أبعده الله! فإنه كان يُبْغِضُ قريشًا).

كما رُوي أنه خلال الهزيمة قتل ثلاث مئة رجل من بني مالك قتلهم المسلمون في

(1) أخرجه البيهقي في "الدلائل"(5/ 145) وفي سنده ضعف. وانظر تمام الروايات في كتابي: السيرة النبوية (3/ 1367 - 1368) - لابن سعد، وكذلك للبيهقي.

(2)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(22/ 237 - 238) رقم (623)، وقال الهيثمي في "المجمع" (6/ 183): رجاله ثقات. وانظر المرجع السابق (3/ 1369).

(3)

استحرَّ: أي اشتد.

ص: 454

أوطاس بقيادة الزبير بن العوام أثناء فرارهم وانتشار الفوضى في صفوف المنهزمين، حتى إن أبا طلحةَ وحده قتل عشرين رجلًا منهم وأخذ أسلابهم.

يروي أبو داود بسند حسن عن أنس بن مالك قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ -يعني يوم حنين - من قتل كافرًا فله سلبه. فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلًا وأخذَ أسلابَهُم](1).

وكذلك فقد لقي المئات من بني نصر بن معاوية ومن بني رئاب مصرعهم وهما من أهم فروع هوازن، وذلك حين اشتد فيهم القتل وسلط الله عليهم المؤمنين.

قال ابن إسحاق: (واستحرَّ القتل من بني نَصر في بني رئاب).

وقال ابن هشام: (فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم، فَصَمَدَ لهم، فلم يزل يُطاعنهم حتى أزاحهم عنها).

وروي أن عليًا قتل منهم يومئذ أربعين رجلًا.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتعقب الفارين لكسر شوكتهم، وذلك بقتلهم وتشريدهم لئلا يعودوا، وشجع رجاله يومئذ بأن سَلَبَ المشرك لقاتله.

يروي البخاري في صحيحه عن أبي قتادة قال: [وجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من قتل قتيلًا، له عليه بَيّنَة، فله سلبه](2).

وهو عند أبي داود من حديث أنس بلفظ: [من قتل كافرًا فله سلبه].

وفي لفظ الحاكم من طريق أنس: [فقتل أبو قتادة يومئذ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم. فقال أبو قتادة: يا رسول الله! ضربت رجلًا على حبل العاتق، وعليه درع له، فأعجلت عنه أن آخذ سلبه، فانظر من هو يا رسول الله؟ فقال رجل: يا رسول الله! أنا أخذتها، فأرضِهِ منها، فأعطِنيها! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لا يُسْألُ شيئًا إلا أعطاه، أو سكت، فقال عمر: لا والله، لا يفيء الله على أسد من أسده ويعطيكها! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم](3).

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (2/ 65) - كتاب الجهاد -.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4321) - كتاب المغازي - باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} .

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 130) على شرط مسلم. وانظر السلسلة الصحيحة (2109).

ص: 455

وقوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

قال ابن كثير: (قد تاب الله على بقية هوازن، وأسلموا وقدموا عليه مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجِعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يومًا، فعند ذلك خيّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فرده عليهم، وقسم أموالهم بين الغانمين، ونفل أناسًا من الطلقاء ليتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مئةً مئةً من الإبل، وكان من جملة من أعطى مئةً مالك بن عوف النَّصْري، واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها:

ما إن رَأيتُ ولا سمعت بمثله

في الناس كلّهم بمثل محمد

أوفى وأعْطى للجزيل إذا اجتُدِي

ومتى تَشَأ يُخْبركَ عمّا في غَدِ (1)

وإذا الكتيبة عَرّدت أنيابُها

بالسُّمْهَرِيّ وضَرْب كُلّ مُهَنّد

فكأنه ليثٌ على أشباله

وَسْطَ الهَبَاءة خادِرٌ في مَرْصد).

28 -

29. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}.

في هذه الآيات: تقريرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين أَنَّ المشركين نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بطواف أو حج أو غير ذلك، فإن خفتم - معشر المؤمنين - فاقة أو فقرًا بمنعهم الاقتراب فاعلموا أن فضل الله يَغْمركم، وهو سبحانه من نعمه ورزقه يزدكم، والله هو العليم بمصالحكم، الحكيم بما يشرعه لكم.

قاتلوا القوم المكذبين بالله واليوم الآخر المستهزئين بشرع الله وحلاله وحرامه، المستكبرين عن طاعته، من أهل الكتاب حتى يبذلوا الجزية للمسلمين صاغرين.

(1) هذا لا يصح شرعًا، فلا يعلم ما في الغد إلا الله، وإنما كان مالك بن عوف حديث عهد بجاهلية.

ص: 456

فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، هي نجاسة معنوية، نجاسة الشرك والكفر. وليس المقصود نجاسة البدن، فقد يكون بدنه طاهرًا نظيفًا، ولذلك جاء في الحديث:[المؤمن لا يَنْجُس] ، حتى ولو كان جُنبًا.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة: [أن النبي صلى الله عليه وسلم لقِيَهُ في بعض طريق المدينة وهو جُنُبٌ، فانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فذهب فاغتسل ثم جاء فقال: أينَ كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: كنتُ جُنُبًا فكَرِهْتُ أن أُجالِسَكَ وأنا على غير طهارة، فقال: سُبْحانَ الله! إنّ المؤمنَ لا يَنْجُسُ](1).

وقوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: [بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذّنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: ألا يَحُجَّ بعدَ هذا العام مُشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأمره أن يؤذِّن ببراءة، قال: فأذن معنا علي في أهل منى يومَ النحر ببراءة، وألا يحجَّ بعد العام مشرك، ولا يطوفَ بالبيت عريان](2).

فأمر الله تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين، الذين هم نجس دينًا، أن يقربوا بيته الحرام بعد نزول هذه الآية في السنة التاسعة للهجرة أثناء حج أبي بكر بالناس.

يروي ابن جرير بسنده عن الوليد بن مسلم قال: حدثنا أبو عمرو: (أن عمر بن عبد العزيز كتب: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع في نهيه قول الله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}).

قال عطاء: (الحرمُ كله قبلة ومسجد. قال: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} ، لم يعن المسجدَ وحده، إنما عنى مكة والحرم).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (283) - كتاب الغسل - بابُ عَرَقِ الجُنُبِ وأن المسلم لا يَنْجُسُ. وأخرجه مسلم (371)، وأحمد (2/ 235)، (2/ 382)، وأبو داود (231)، والترمذي (121)، والنسائي (1/ 145)، وابن حبان (1259)، وابن أبي شيبة (1/ 173) عن أبي هريرة مرفوعًا.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (369) - كتاب الصلاة - و (3177) - كتاب الحج، وأخرجه مسلم في الصحيح (1347) - كتاب الحج -. وقد مضى تفصيل حج أبي بكر بالناس سنة 9 هـ.

ص: 457

وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} .

قال قتادة: (أغناهم الله بالجزية الجارية، شهرًا فشهرًا، وعامًا فعامًا).

وقال ابن إسحاق: (وذلك أن الناس قالوا: لتقطعنَّ عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبنَّ ما كنا نصيب فيها من المرافق! فقال الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، من وجه غير ذلك {إِنْ شَاءَ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}، ففي هذا عِوَض مما تخوَّفتم من قطع تلك الأسواق، فعَوَّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطاهم من أعْناق أهل الكتاب من الجزية).

وخلاصة المعنى: إن خفتم - معشر المؤمنين - فاقة وفقرًا بمنع المشركين اقتراب المسجد الحرام فسيغنيكم ربكم عز وجل من فضله إن شاء والله ذو الفضل العظيم.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . أي: عليم بما فيه مصلحتكم وسداد أمركم، حكيم في أقواله وأفعاله وتشريعه لكم.

وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .

يأمر تعالى المؤمنين به من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بقتال القوم المكذبين بالله واليوم الآخر المستهزئين بتشريعه سبحانه وحلاله وحرامه، المتنكرين لطاعته طاعة الحق، من أهل الكتاب حتى يعطوا الخراجَ عن رقابهم، الذي يبذلونه للمسلمين دَفْعًا عنها. فإنهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدون صفاته مكتوبة عندهم في التوراة والإنجيل - تنكر لبقية الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، إذ أمروا جميعًا باتباع النبي أحمد صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثم أصبحوا بذلك لا يدينون الدين الحق، فوجب عليهم دفع الجزية مقابل حمايتهم وجلوسهم آمنين.

قال ابن كثير: (وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فلما استقامت جزيرة العرب، أمر الله رسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع، ولذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم) انتهى.

وبعض الفقهاء على جواز أخذ الجزية من المجوس، وهو مذهب الشافعي وأحمد - في المشهور عنه -.

ص: 458

واحتجوا بما أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عوف: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مَجُوس هجَرَ](1).

ولا شك أن في أخذها من أهل الكتاب إشعارًا لهم أنهم تحت هيمنة دَوْلة الإِسلام وسلطة الحق، ومن ثمَّ فإنه يَحْظُرُ عليهم نشر الفساد أو المنكرات في بلاد المسلمين.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتُم أحدَهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه](2).

وقوله: {عَنْ يَدٍ} . قال ابن عباس: (يدفعه بنفسه غير مستنيب فيها أحدًا).

وقال قتادة: (عن قهر)، وهو الأصح، فالمراد عن قهر لهم وغلبة، ولذلك قال بعدها {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، أي: ذليلون مهانون.

ولهذا يذكر هنا الفقهاء ما اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شروط فيها تحجيم أمرهم ومحاصرة انتشار فسادهم بالتصغير والإذلال.

ففي رواية الأئمة الحفاظ من طريق عبد الرحمن بن غَنَم الأشعري قال: (كتبتُ لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا، وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحْدِث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة، ولا قَلايَة ولا صومعة راهب، ولا نجدِّد ما خَرِبَ منها، ولا نحيي منها ما كان خِطَط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن ينزل من مَرَّ بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، ولا نُؤْوِي في كنائسنا ولا منازلنا جاسُوسًا، ولا نَكْتُم غشًا للمسلمين، ولا نُعَلِّم أَوْلادَنا القرآن، ولا نُظْهِرُ شركًا، ولا ندعو إليه أحد، ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإِسلام إن أرادوه، وأن نوقِّر المسلمين، وأن نَقُوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشَبَّه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3157) - كتاب الجزية والموادعة -. وأخرجه أبو داود (3043)، وأبو يعلى (861) - من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2167)، وأحمد في المسند (8542)، (9881)، وأبو داود في السنن (5205)، وغيرهم.

ص: 459

شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكُنَاهم، ولا نَرْكَب السروج، ولا نتقلَّدُ السيوف، ولا نتخذ شيئًا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور. وأن نَجُزَّ مقاديم رؤوسنا، وأن نَلْزم زيّنا حيثما كنا، وأن نشُدَّ الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، وألا نظهر صُلُبَنا ولا كُتُبنا في شيء من طريق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء، من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانين ولا بعوثًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، وأن نُرشِد المسلمين، ولا نَطَّلِعَ عليهم في منازلهم.

قال: فلما أتيت عمر بالكتاب، زاد فيه: ولا نَضْرِب أحدًا من المسلمين، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا، وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وَوَظفْنا على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق) - ذكره الحافظ ابن كثير.

30 -

33. قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}.

في هذه الآيات: ذَمُّ الله اليهود في قولهم الكذب: عزير ابن الله، وذمُّ النصارى في قولهم السوء المسيح ابن الله، وهم في ذلك مفترون آثمون.

لقد أطاعوا بذلك أحبارهم ورهبانهم في قولهم الإثم واستحلالهم الحرام وتحريمهم

ص: 460

الحلال، وما أمروا إلا بافراد الله تعالى في التعظيم والعبادة والتشريع، سبحانه وتعالى عما يشركون.

إنما يريد المشركون تكذيب الحق والاستهزاء بالوحي ومنهاج الرسل، وهم بذلك كمن يحاول إطفاء نور الشمس بنفخه، والله يأبى إلّا أن يبهر إشعاع شرعه ودينه أرجاء المعمورة.

إنه هو الذي أرسل رسوله بهدي الوحي ونور النبوة ليعلن منهاجه ويرفعه فوق كل مناهج الأرض ولو كره المشركون.

فقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} .

قال القرطبي: (هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص، لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك).

وقد رُوي أن سبب ذلك القول أن الله تعالى رفع التوراة ومحاها من قلوب اليهود حين قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فخرج عُزير يسيح في الأرض، فأتاه جبريل فقال:"أين تذهب"؟ قال: أطلب العلم، فعلمه التوراة كلها، فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم.

وقيل بل حفّظها الله عزيرًا كرامة منه له، فقال لبني إسرائيل: إن الله قد حفظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده.

وكانت التوراة مدفونة، كان دفنها علماؤهم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ما أصاب، وقتْل بُخْتَنَصَّر إياهم.

ثم إن التوراة المدفونة وُجدت مطابقة لما كان عُزير يدرس، فهنالك ضلوا حين زعموا أن هذا لما يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله - حكاه ابن جرير.

وقرأها قراء المدينة وبعض قراءة الكوفة ومكة دون تنوين: "عزيرُ ابن الله"، والقراءة بالتنوين أشهر. و"عزير" ينصرف عجميًا كان أو عربيًا. وأصله "عزراء" - لفظة عبرانية - بمعنى:(معين)، أو أصله "عزريا" - بمعنى الله مساعد.

وقوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} ، الظاهر أنهم أرادوا بنوّة النَّسل، كما قالت العرب في الملائكة. وهذا أشنع الكفر.

قال أبو المعالي: (أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن إله).

ص: 461

قال ابن عطية: (ويُقال إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة).

قال القرطبي: (وهذا المعنى أيضًا لا يحل أن تطلق البنوّة عليه، وهو كفر).

وقوله: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} ، تكذيب من الله سبحانه للطائفتين، وأنهم افتروا على الله الكذب فيما قالوه ونسبوه.

وقوله: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} - فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال ابن عباس: (يُشبِّهون). وقال قتادة: (ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم).

وقال السدي: (النصارى يضاهئون قول اليهود في "عزير").

2 -

وقال ابن عباس في رواية: (يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان).

3 -

وقيل: يحكون بقولهم قول أهل الأوثان، الذين قالوا:(اللات، والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى) - ذكره ابن جرير.

قلت: وأصل المضاهاة في كلام العرب من ضهأ أو ضهي.

قال الرازي: (المضاهأة: المشاكلةُ، تُهْمَزُ وتُلَيَّنُ وقرئ بهما)، وكذلك المضاهاة.

والمقصود بالآية المشابهة في طريقة الافتراء بالنعت والوصف دون حجة أو برهان.

ولذلك قال الله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، قال ابن عباس:(لعنهم الله. وكل شيء في القرآن "قتل"، فهو لعن).

قال ابن كثير: ({أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، أي: كيف يضلون عن الحق، وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل).

وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} .

قال ابن عباس: (لم يأمروهم أن يسجدوا لهم، ولكن أمروهم بمعصية الله، فأطاعوهم، فسمّاهم الله بذلك أربابًا).

وقال حذيفة: (أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرَّموه، فتلك كانت ربوبيّتهم).

ص: 462

وقال السدي: (استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم).

قلت: والأحبار علماء اليهود، جمع (حَبْر) بكسر الحاء وفتحها. وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه، والرهبان جمع راهب بمعنى المتعبد الخاشع الزاهد، وأصل الترهب عند النصارى، التخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذّها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها.

وفي الحديث: [تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى](1).

أخرج الترمذي من حديث عدي: [أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} على عدي بن حاتم الطائي، فقال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال: أليس يُحلّون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم](2).

وأخرج الإمام أحمد في المسند، وابن إسحاق في السيرة من حديث عدي بن حاتم - وكان قد هرب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر بالشام بعد حنين، ثم لحقته أخته ونصحته بالرجوع وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفوه وكرمه - قال: [فاتيته وهو جالس في المسجد، فقال القومُ: هذا عديُّ بن حاتم، وجئتُ بغير أمان ولا كتاب، فلما دُفعت إليه، أخذ بيدي، وقد كان قبل ذلك قال: إني أرجو أن يجعل الله يدَه في يدي. قال: فقام لي، فلقيتْهُ امرأة، ومعها صبي، فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما يُفِرُّكَ؟ ! أَيُفِرُّكَ أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله؟ قال: قلت: لا. قال: ثم تكلم ساعة، ثم قال: إنما تَفِرُّ أنْ يُقالَ: الله أكبر، وهل تعلم شيئًا أكبرُ من الله؟ قال: قلت: لا. قال:

(1) حديث حسن. أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 78) من حديث أبي أمامة مرفوعًا، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1782).

(2)

رواه الترمذي (3094) في التفسير، ويتقوى بما أخرجه الطبري (16634) عن حذيفة موقوفًا. انظر فتح المجيد (107). ومعجم الطبراني (7/ 92) من حديث عدي بألفاظ متقاربة.

ص: 463

فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون. قال: فقلت: إني حنيف مسلم، قال: فرأيت وجهه يَنْبسِطُ فرحًا] (1).

وأما قوله: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ، قال ابن جرير:(فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابًا من دون الله).

وقال النسفي: ({اتَّخَذُوا} أي أهل الكتاب {أَحْبَارَهُمْ} علماءهم {وَرُهْبَانَهُمْ} نساكهم {أَرْبَابًا} آلهة {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله كما يطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} عطف على أحبارهم - أي اتخذوه ربًا حيث جعلوه ابن الله -).

وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} .

قال ابن كثير: (أي: الذي إذا حرَّمَ الشيء فهو الحرام، وما حَلَّله حلَّ، وما شرعَهُ اتُّبِع، وما حَكَمَ به نفذ. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أي: تعالى وتقدَّسَ وتَنَزَّه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو، ولا ربَّ سواه).

وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} .

قال السدي: (يقول: يريدون أن يطفئوا الإِسلام بكلامهم).

والمقصود: أن محاولات الملأ الكافر على مدار الزمان تكذيب الحق والمكر بأهله والاستهزاء بالوحي ومنهاج الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - إنما هي بمثابة من يحاول إطفاء شعاع الشمس أو نور القمر بِنَفْخِهِ، وهذا تهريج وعبث.

وقوله: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

أي: يأبى الله تعالى إلا أن يظهر دينه ويعلي كلمته رغم أنف الكافرين الماكرين، الذين يكرهون أن يروا أمر الله يعلو في الأرض وأولياءه هم الغالبون.

وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .

تشريف لمحمد صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة الخاتمة، والشريعة الناسخة، لكل الشرائع التي سبقتها، وإعظام للمنهج الإلهي في صورته الأخيرة إلى البشرية جميعًا، وهو دين

(1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 578 - 581)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 378)، ورجاله ثقات.

ص: 464

الإِسلام على منهج الوحيين: القرآن والسنة المحمدية العطرة.

قال ابن عباس: (قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، قال: ليظهر الله نبيّه على أمر الدين كله، فيعطيه إيّاه كله، ولا يخفى عليه منه شيء. وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك).

قال ابن جرير: ({الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا صلى الله عليه وسلم، {بِالْهُدَى}، يعني: ببيان فرائض الله على خلقه، وجميع اللازم لهم، وبدين الحق، وهو الإِسلام، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، يقول: ليعلي الإِسلام على الملل كلها، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، بالله ظهوره عليها).

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا التمكين والانتشار والظهور، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الله زوى ليَ الأرض، فرأيت مشارِقَها ومغارِبَها، وإن أمتي سَيَبْلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله (الله) هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عِزًّا يعزّ الله به الإِسلام، وذُلًا يدُّل الله به الكفر].

فكان تميم الداري يقول: (قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرَ والشرفَ والعزّ، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذلَّ والصِّغار والجزيةَ)(2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه عن خَبَّابِ بن الأرتِّ قال: [شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُرْدَةً له في ظل الكعبة، قلنا لَه: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحْفَرُ له في الأرض، فَيُجْعَلُ فيه، فَيُجَاءُ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2889) - كتاب الفتن - باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، في أثناء حديث أطول، وزوى: أي جمع وضم، وأخرجه أبو داود (4252)، والترمذي (2/ 27)، وأحمد (5/ 278).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 103)، والطبراني (1280)، وقال الهيثمي في "المجمع" (6/ 14): ورجاله رجال الصحيح. ورواه ابن حبان في صحيحه (1631 - 1632). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (3).

ص: 465

بالمِيشَار فيوضَعُ على رأسه فَيُشَقُّ باثنتين وما يَصُدُّهُ ذلك عن دِينه، ويُمْشَطُ بأمْشَاط الحديد ما دونَ لحمه من عَظْمٍ، أو عَصَبٍ، وما يَصُدّهُ ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون] (1).

ويشهد لهذا الحديث ما في مسند أحمد من حديث عدي بن حاتم يقول: [دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عدي، أسلم تسلم. فقلت: إني من أهل دين. قال: أنا أعلم بدينك منك. فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ ! قال: نعم، ألست من الرَّكوسية (2)، وأنت تأكل مرباع قومك؟ . قلت: بلى. قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك. قال: فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإِسلام تقول: إنما اتبعه ضَعَفَةُ الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب. أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد سمعت بها. قال: فوالذي نفسي بيده ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولَتُفتَحَنَّ كنوزُ كسرى بن هرمز. قلت: كسرى بن هُرْمُزَ؟ ! قال: نعم، كسرى بن هُرْمُزَ، ولَيُبْذلَنَّ المال حتى لا يقبله أحد. قال عَدِيّ بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها](3).

الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يذهب الليل والنهار، حتى تُعْبَدَ اللاتُ والعزَّى. فقلت: يا رسول الله، إن كنتُ لأظنُّ حين أنزل الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أن ذلك تام، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعثُ الله ريحًا طيِّبة فيتوفّى كلُّ من كان في قلبه مثقال حبة خردلٍ من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3612) - كتاب المناقب -، وكذلك (3852)، (6943).

(2)

الركوسية: دين بين دين النصارى والصابئين. والمرباع: ربع الغنيمة.

(3)

أخرجه أحمد (4/ 378)، والبيهقي في "الدلائل"(5/ 342)، ورجاله ثقات وله طرق كثيرة عن عدي، وأخرج الحاكم نحوه (4/ 518). وانظر كتابي: السيرة النبوية (3/ 1470 - 1471).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2907) من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأخرجه أبو يعلى (4565)، وغيرهما.

ص: 466

34 -

35. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}.

في هذه الآيات: تحذير الله تعالى المؤمنين من سلوك علماء اليهود وعباد النصارى في أكلهم الدنيا بالدين والمناصب والرياسة بين الناس، ويصدون الناس عن اتباع الحق والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه.

ثم تحذير وترهيب من سلوك الطائفة الثالثة - بعد العلماء والعباد - وهم الأغنياء أصحاب الأموال في كنزهم الذهب والفضة وحرمان الفقير من حقها، والتلاعب ضد إخراج زكاتها، بأن لهم عذابًا أليمًا، حيث تحمى صفائح في نار جهنم ثم تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، ذوقوا ما كنزتم لأنفسكم فبئس ما كنتم تكنزون ولا تزكون ولا تتصدقون.

فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .

قال السدي: (أما {الْأَحْبَارِ}، فمن اليهود. وأما {وَالرُّهْبَانِ}، فمن النصارى. وأما {سَبِيلِ اللَّهِ}، فمحمد صلى الله عليه وسلم).

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم، إن كثيرًا من العلماء والقرَّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى، {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، يقول: يأخذون الرشا في أحكامهم، ويحرّفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم ثم يقولون: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، ويأخذون بها ثمنًا قليلًا من سفلتهم، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، يقول: ويمنعون من أراد الدخول في الإِسلام الدخول فيه، بنهيهم إياهم عنه).

فالأحبار علماء اليهود، والرهبان: عباد النصارى، والقسيسون علماؤهم.

ص: 467

كما في التنزيل:

1 -

قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63].

2 -

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].

قال ابن كثير: (والمقصود: التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فَسَدَ من علمائنا كان فيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فَسَدَ من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى).

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري وابن ماجه وأبو يعلى من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع. فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم. فقال: ومن الناس إلّا أولئك](2).

الحديث الثالث: أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعًا: [لتركبن سنن من كان قبلكم شبرًا بشير، وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب دخلتم، وحتى لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم](3).

وفي لفظ أحمد والآجري من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لتحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القُذَّة بالقذة](4).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3456)، (7320)، ومسلم (2669)، وأحمد (3/ 84).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (7319)، وابن ماجه (3994)، وأخرجه أبو يعلى (6292).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 455)، وله شاهد عند الترمذي وعند الحاكم (1/ 129) أيضًا، وشاهد آخر في المجمع (7/ 261)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1348).

(4)

حديث حسن. انظر مسند أحمد (4/ 125)، و"الشريعة" للآجري (30) من حديث شداد بن أوس. والقُذّة: بضم القاف وفتح الذال المشددة: إحدى ريش السهم.

ص: 468

وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}

أصل الكنز لغة: الجمع والضم. قال الرازي: (اكتنَزَ الشيءُ: اجتمع وامتَلأَ).

والكنزْ أيضًا المال المدفون. والآية تحذير للمؤمنين من سلوك طريقة أهل الكتاب في الأموال، والاستهتار بحق الفقراء والمساكين فيها.

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن وَهْب قال: [مَرَرْتُ بالرَّبَذَةِ فإذا أنا بأبي ذَرٍّ رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلَكَ مَنْزِلَكَ هذا؟ قال: كنتُ بالشام فاخْتَلَفْتُ أنا ومعاويةُ في {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قال معاوية: نَزَلَتْ في أهل الكتاب. فقلت: نزلَتْ فينا وفيهم، فكان بَيْني وبَيْنَه في ذلك، وكَتَبَ إلى عُثمانَ رضي الله عنه يَشْكوني، فكتَبَ إليَّ عثمانُ: أنِ اقْدم المدينة، فقَدِمْتها، فَكَثُرَ على الناسُ حتى كأنَّهم لم يَرَوْني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان فقال لي: إن شئت تَنَحَّيْتَ فكنت قريبًا. فذاك الذي أنْزَلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حَبَشِيًّا لسَمِعْتُ وأطَعْتُ](1).

فإنه بعد ذكر العلماء والعباد، أتبع الله في الآية ذكر الأغنياء، فإن الناس عالة على العلماء، وعلى العبّاد، وعلى أرباب الأموال، فإن صلح أمر هؤلاء صلح أمر الناس وإن فسد فسدوا، كما قال عبد الله بن المبارك:

وهل أفسَدَ الدين إلا الملوك

وأحبارُ سوء ورهبانها

وبنزول أحْكام الزكاة وتفاصيل أنصبتها، يَتوجه معنى الآية في مفهوم الكنز.

كما قال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال: (هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة).

فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن شهاب، عن خالدِ بنِ أسْلَمَ قال: [خرجنا مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ؟ ! قال ابن عمر: مَنْ كَنَزَها فلم يُؤَدِّ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (1406) - كتاب الزكاة - باب ما أُدِّيَ زكاتُهُ فليس بكَنْز. والرَّبَذَة: موضع قريب من المدينة.

ص: 469