المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فوائد هامة من ذكر قوم لوط وانحرافهم: - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٣

[مأمون حموش]

الفصل: ‌فوائد هامة من ذكر قوم لوط وانحرافهم:

ذكر المفسرون. فلما أوحى الله إلى لوط بمغادرة المكان لحلول العذاب خرج بأهله - وبقيت ولم يُعلمها - فكانت معهم من الهالكين.

وقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} .

فقد أمطرهم الله حجارة من سجيل كان فيها هلاكهم، وتلك عاقبة المصرين على ارتكاب الفواحش والموبقات وركوب معصية الله: البوار والهلاك.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83].

2 -

وقال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل: 58].

‌فوائد هامة من ذكر قوم لوط وانحرافهم:

1 -

الفائدة الأولى: تحريم الإسلام النظر إلى الأمرد الحسن لغير حاجة شرعية. فإن ذلك داخل تحت قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

وتحت قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30].

قال ابن الجوزي رحمه الله: (والفقهاء يقولون من ثارت شهوته عند النظر إلى الأمرد حرم عليه أن ينظر إليه، ومتى ادعى الإنسان أنه لا تثور شهوته عند النظر إلى الأمرد المستحسن فهو كاذب، وإنما أبيح على الإطلاق لئلا يقع الحرج في كثرة المخالطة بالمنع، فإذا وقع الإلحاح في النظر دل على العمل بمقتضى ثوران الهوى).

وقال سعيد بن المسيب: (إذا رأيتم الرجل يلح النظر إلى غلام أمرد فاتهموه).

وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الحلال بَيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما أمورٌ مشتبهات، لا يعلمُها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحِمى يوشِكُ أن يواقِعَهُ، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حِمى الله تعالى في أرضه محارمُه، ألا وإن في الجسد مُضغة، إذا صلحت صلح الجسدُ كُلُّه، وإذا

ص: 199

فسدت فَسَدَ الجسدُ كله، ألا وهي القلب] (1).

وفي المعجم الأوسط للطبراني بسند حسن من حديث عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الحلالُ بَيِّنٌ، والحرامُ بَيِّنٌ، فدعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك](2).

2 -

الفائدة الثانية: تحريم نظر الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة، أو المبيت تحت غطاء يجمع ويقرب بينهما.

ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يُفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد](3).

3 -

الفائدة الثالثة: تغليظ عقوبة من يعمل عمل قوم لوط.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به](4).

وإما إتيان النساء في أدبارهن فهو اللوطية الصغرى، ملعون صاحبها.

فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ملعونٌ من أتى امرأة في دبرها](5). وله شاهد عندهما بلفظ: [من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (52) - كتاب الإيمان، وكذلك (2051) - في البيوع. ورواه مسلم. في الصحيح (1599) - كتاب المساقاة، من حديث النعمان بن بشير.

(2)

حديث حسن. أخرجه الطبراني في "الأوسط". انظر صحيح الجامع الصغير - برقم (3189).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (338) - في الحيض - باب تحريم النظر إلى العورات.

(4)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجه (2561)، وأحمد (1/ 300). من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

(5)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (2/ 444)، (2/ 479)، وأخرجه أبو داود (2162)، وأخرجه ابن عدي (1/ 211) بلفظ:(ملعون من يأتي النساء في محاشهن. يعني: أدبارهن). وانظر للشاهد مسند أحمد (2/ 408)، (2/ 476)، وآداب الزفاف ص (31).

ص: 200

85 -

93. قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}.

في هذه الآيات: يخبر الله تعالى أنه أرسل إلى قبيلة مدين نبيَّه شعيبًا منهم، فدعاهم إلى إفراد الله بالتوحيد والعبادة والتعظيم، وقد جاءتهم علامة وحجة من الله على صدقه، وحذرهم من الخيانة ومغبة التلاعب بالكيل والوزن وحقوق العباد، أو الإفساد في الأرض بالكفر والظلم بعدما أصلح أمرها الرسل وأتباعهم الصالحون، فهو خير لهم إن كانوا صادقين في إيمانهم بالله العظيم. ثم حذرهم من قطع طريق الناس في أموالهم أو في دينهم، وذكّرهم إذ كانوا قلة فقراء فكَثَّر عددهم وأغناهم، وأمرهم بالنظر فيما

ص: 201

آل إليه من قبلهم من المفسدين. ثم أخبرهم أنه وإن اختلفتم في أمر الرسالة والنبوة وتصديقها فكنتم فريقين: فإن العاقبة للمؤمنين. فما كان من سادة الكفر في القوم إلا أن هدّدوا شعيبًا ومن معه بالإبعاد من القرية أو العودة إلى دين الآباء! فأجابوهم: أولو كنا كارهين. إننا نكون من المفترين على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم ودينكم بعد أن أنعم الله علينا بالهداية إلى الحق، والأمر كله بمشيئة الله، فالهداية والضلال أمران بيده سبحانه، وإنما نحن نتوكل على ربنا ليفصل بيننا وهو خير الفاصلين. فقال الملأ الكافر حينئذ في عجرفة وكبر: لئن اتبعتم شعيبًا فأنتم عندئذ الخاسرون، فعاجلهم الله تعالى برجفة من عنده وصيحة أخمدتهم فصاروا كأمس الذاهب وكانوا هم الخاسرين. وكان قد أدبر شعيب عنهم مغادرًا حين أيقن نزول عذاب الله فيهم وقال - وهو يحزنه كيف أمسى حالهم -: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف أحزن على قوم كافرين.

فقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} .

قال محمد بن إسحاق: (هم من سُلالة مدين بن مديان بن إبراهيم). وزعم كذلك ابن إسحاق في شعيب: أنه ابن ميكيل بن يشجن، واسمه بالسريانية "يثرون".

قال ابن كثير: (وتطلق مدين على القبيلة، وعلى المدينة - وهي التي بقرب مَعَان من طريق الحجاز، قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ. . .} [القصص: 23]، وهم أصحاب الأيْكة).

وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .

هذه دعوة الرسل جميعًا وهي منهاجهم.

وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .

قال ابن جرير: (يقول: قد جاءتكم علامة وحجة من الله بحقيقة ما أقول، وصدق ما أدعوكم إليه).

وقوله: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} .

تحذير من الخيانة والتلاعب بالكيل والوزن وحقوق العباد.

ص: 202

وفي الحديث: [ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان](1).

وقوله: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} .

قال القرطبي: (البخس النقص. وهو يكون في السِّلعة بالتعييب والتزهيد فيها، أو المخادعة عن القيمة، والاحتيال في التزيّد في الكيل والنقصان منه. وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وذلك مَنْهِيٌّ عنه في الأمم المتقدمة والسالفة على ألسنة الرسل صلوات الله وسلامه على جميعهم).

وقال قتادة: ({وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، قال: لا تظلموا الناس أشياءهم).

وقوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} .

قال القاسمي: ({وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} أي: بالكفر والظلم {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} أي: بعدما أصلح أمرها وأهلها الأنبياء وأتباعهم الصالحون العاملون بشرائعهم من وضع الكيل والوزن والحدود والأحكام).

وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

قال النسفي: ({ذَلِكُمْ} إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل وترك البخس والإفساد في الأرض {خَيْرٌ لَكُمْ} في الإنسانية وحسن الأحدوثة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} مصدقين لي في قولي).

وقوله: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} .

فيه نهي من شعيب صلى الله عليه وسلم قومه عن قطع الطريق المادي والمعنوي: طريق الناس وطريق الحق.

قال ابن عباس: ({وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، قال: و"الصراط" الطريق، يُخوِّفون الناس أن يأتوا شعيبًا. قال: كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون من أتى عليهم: أن شعيبًا عليه السلام كذاب، فلا يفتنكم في دينكم).

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4019). وأخرجه البزار والبيهقي من حديث ابن عمر، وقد مضى بتمامه. انظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3246).

ص: 203

وقال السدي: (كانوا يقعدون على كل طريق يوعدون المؤمنين). وفي لفظ: (كانوا عشارين، أي: يتوعدون الناس بالقتل إن لم يعطوهم أموالهم). وعن مجاهد: ({وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}: تلتمسون لها الزيغ).

وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} .

قال القرطبي: (أي: كثّر عددكم، أو كثركم بالغنى بعد الفقر. أي: كنتم فقراء فأغناكم).

وقوله: {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .

قال النسفي: (أي: آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام.

وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} .

قال القاسمي: (يعني: وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنة وكافرة {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين).

وقوله: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} .

إخبار من الله تعالى عن طريقة الملأ الكافر الذين واجهوا نبي الله شعيبًا ومن آمن معه بالتهديد والوعيد: بالنفي من القرية أو الإكراه على الرجوع في ملتهم.

وقوله: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} .

قال القرطبي: (أي: ولو كنا كارهين تجبروننا عليه، أي: على الخروج من الوطن أو العود في ملتكم. أي: إن فعلتم هذا أتيتم عظيمًا).

وقوله: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} .

قال السدي: (يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها، إلا أن يشاء الله ربنا، فالله لا يشاء الشرك، ولكن نقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئًا، فإنه

ص: 204

وسع كل شيء علمًا). وقال ابن كثير: (وهذا ردّ إلى المشيئة، فإنه يعلم كل شيء، وقد أحاط بكل شيء علمًا).

وقوله: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} .

أي: ما توكلنا إلا على الله ربنا في أمورنا جميعًا ما نأتي منها وما نذر. قال ابن عباس: ({رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، يقول: اقض بيننا وبين قومنا). وقال قتادة: (اقض بيننا وبين قومنا بالحق). وقال السدي: (احكم بيننا). وقال النسفي: ({وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} كقوله: وهو خير الحاكمين).

وقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} .

أي: هالكون.

وقال النسفي: (أي: مغبونون لفوات فوائد البخس والتطفيف باتباعه لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية).

وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .

قال ابن كثير: (أخبر تعالى ها هنا أنهم أخذتهم الرجفة كما أرجَفُوا شعيبًا وأصحابه وتوِعَّدهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة "هود" فقال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)}. والمناسبة في ذلك - والله أعلم - أنهم لما تَهَكَّموا بنبي الله شعيب في قولهم: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، فجاءت الصيحة أسكتتهم. وقال تعالى إخبارًا عنهم في سورة الشعراء:{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} ، وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة:{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ. . (187)} . . الآية، فأخبر أنهم أصابهم عذاب يوم الظُّلَّة، وقد اجتمع عليهم ذلك كلُّه - أصابهم عذابُ يوم الظلة، وهي سحابة أظلَّتهم فيها شَرَرٌ من نار ولَهَب ووَهج عظيم، ثم جاءتهم صيحةٌ من السماء، ورجفةٌ من الأرض شديدة من أسفلَ منهم، فزهَقَتِ الأرواحُ، وفاضت النفوسُ، وخمدت الأجساد، {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ).

ص: 205

وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} .

قال ابن عباس: ({كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}، يقول: كأن لم يعيشوا فيها). وقال قتادة: (كأن لم يعيشوا، كأن لم ينعموا). وقال ابن زيد: ({كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} كأن لم يكونوا فيها قط).

قال القرطبي: ({الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} ابتداء خطاب، وهو مبالغة في الذم والتوبيخ وإعادة لتعظيم الأمر وتفخيمه. ولما قالوا: من اتبع شعيبًا خاسِر قال الله الخاسرون هم الذين قالوا هذا القول).

وقوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} .

أي: لقد أدبر شعيب عنهم مغادرًا من بين أظهرهم حين أيقن أن عذاب الله ونقمته لا محالة واقع بهم - وهو يقول -: يا قوم لقد أديت إليكم ما بعثني الله به إليكم وحذرتكم غضبه ومغبة الاستمرار على معصيته وبذلت لكم غاية النصح، فكيف أحزن على قوم كفروا بالله وأمره ووعده ووعيده.

قال ابن عباس: ({فَكَيْفَ آسَى}، يعني: فكيف أحزن).

وقال ابن إسحاق: (أصاب شعيبًا على قومه حُزْن، لما يرى بهم من نقمة الله، ثم قال يعزي نفسه، فيما ذكر الله عنه: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ}).

94 -

102. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ

ص: 206

اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}.

في هذه الآيات: يخبر الله تعالى عن سنته في أهل القرى الذين يستبيحون معصيته - إنه ما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه أهلها إلا سلطنا عليهم الضيق والبؤس والأمراض والأسقام لعلهم إلى ربهم يتضرعون. ثم بدلنا مكان الشدة رخاء حتى كثروا وكثرت أموالهم وتمتعوا بالعافية والنعيم، فنسبوا ذلك إلى تقلبات الدهر كما حصل للآباء في أيامهم، فالدهر تارات وتارات، فباغتهم الله حينئذ بالعذاب والهلاك من حيث لا يشعرون. إنه لو آمن أهل القرى واتقوا ربهم وشكروه حق شكره لأرسل عليهم السماء مدرارًا، ولأَنْبَتَ لهم في أرجاء أراضيهم نباتًا وثمارًا وأزهارًا، ولكنهم أصروا على تعظيم شهواتهم فعاجلهم سبحانه بعذابه ولم يُبْقِ على الأرض من الكافرين ديّارًا. هل أمن الناس وهم يصرون على ما يسخط ربهم أن يفاجئهم ربهم بالعذاب وهم نيام في ليلهم، أو وَهُم في النهار يسرحون في أعمالهم؟ هل يأمنون مكر ربهم مقابل مكرهم؟ إنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أم لم يتبيّن للذين يرثون الأرض من بعد أهلها - وهم يشركون بالله كسابقيهم من الأمم - أن الله لو شاء عاجلهم بعقاب مقابل ما اجترحوه من آثام، أو ختم على قلوبهم فلا يسمعون موعظة ولا ينتفعون هدى ولا تبصيرًا. هذه القرى - يا محمد - التي أهلكناها من الأمم التي سبقت قد جاءهم البلاغ المبين، من إخوتك الرسل عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، فما كانوا ليختاروا الإيمان وهم يشركون، وقد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين، فيختم عليها عقوبة لأصحابها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. وقد نقضوا عهد الله عليهم وميثاقه فما حملوا الأمانة بل كانوا أهل خيانة وأكثرهم كانوا فاسقين.

فقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} .

قال السدي: (يقول: بالفقر والجوع). والتقدير: ما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه

ص: 207

أهلها إلا سلطنا عليهم البؤس وشظف المعيشة وضيقها، وسوء الأحوال في معيشتهم ودنياهم. قال ابن كثير:(يعني {بِالْبَأْسَاءِ} ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام. {وَالضَّرَّاءِ} ما يصيبهم من فقرٍ وحاجة ونحو ذلك).

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}

أي: يتضرعون. قال ابن جرير: (ولكن أدغمت التاء في الضاد لتقارب مخرجهما). والمعنى: أي امتحنهم الله تعالى بالشدة ليتضرعوا ويبتهلوا إليه سبحانه ويدعوه لكشف ما نزل بهم، إلا أنهم تكبروا فاختبرهم عندئذ بالرخاء.

وهو قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} .

قال قتادة: (مكان الشدة رخاء). وقال مجاهد: {السَّيِّئَةِ} ، الشر، و {الْحَسَنَةَ} ، الرخاء والمالُ والولد). أو قال:{السَّيِّئَةِ} ، الشر، و {الْحَسَنَةَ} ، الخير).

وقوله: {حَتَّى عَفَوْا} .

قال ابن عباس: (يقول: حتى كثروا وكثرت أموالهم). وقال: {حَتَّى عَفَوْا} ، قال: جَمُّوا). وقال مجاهد: (كثرت أموالهم وأولادهم). وقال السدي: (حتى كثروا). وقال إبراهيم: (حتى جَمُّوا وكثروا). وقال ابن زيد: (كثروا كما يكثر النبات والرّيش، ثم أخذهم عند ذلك بغتة وهم لا يشعرون).

قال القرطبي: (أعلم الله تعالى أنه أخذهم بالشدة والرخاء فلم يزدجروا ولم يشكروا).

وقوله: {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} .

أي: فنحن مثلهم في تقلب الأيام والأحوال، وهكذا الدهر تاراتٌ وتاراتٌ، فيوم لنا ويوم علينا، ويوم نُساء ويوم نُسَرّ، وما استشعروا بغفلتهم ابتلاء الله لهم واختباره في الحالتين.

قال ابن جرير: (وجهل المساكين شكرَ نعمة الله، وأغفلوا من جهلهم استدامةَ فضله بالإنابة إلى طاعته، والمسارعة إلى الإقلاع عما يكرهه بالتوبة، حتى أتاهم أمره وهم لا يشعرون).

قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بتوضيح آلية الابتلاء، في الشدة والرَخاء، وكيف ينجو العبد وينجح في الاختبارين، ومن ذلك أحاديث:

ص: 208

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ المؤمن مَثَلُ الزرع، لا تزال الريح تُمِيلُهُ، ولا يزال المؤمن يصيبُهُ البلاء، ومَثَلُ المنافق كمثلِ شجرة الأرْزِ، لا تَهْتَزُّ حتى تُسْتَحْصَد](1).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي وابن ماجه وابن حبان بسند جيد، من حديث مصعب بن سعد عن أبيه قال:[قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: فقال: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه والحاكم بسند صحيح على شرط مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: [أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة التي يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء](3).

الحديث الرابع: أخرج الترمذي وابن ماجه بسند حسن عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط](4).

الحديث الخامس: أخرج الدارمي وأحمد بسند صحيح عن صهيب قال: [بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول الله! ومم تضحك؟ قال: عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن](5).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2809) - كتاب صفات المنافقين. باب مثل المؤمن كالزرع، والمنافق والكافر كالأرزة. وانظر الحديث (2810) - من الباب نفسه، وكذلك ما بعده.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 64)، وابن ماجه (4023)، وابن حبان (699)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4024)، وابن سعد (2/ 208)، والحاكم (4/ 307)، وغيرهم.

(4)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (2/ 64)، وابن ماجه (4031)، والبزار (2/ 227)، وغيرهم.

(5)

حديث صحيح. أخرجه الدارمي (2/ 318)، وأحمد (6/ 16)، وسنده صحيح على شرط مسلم - كما ذكر الألباني في السلسلة الصحيحة (147). وأصله في صحيح مسلم (8/ 227).

ص: 209

الحديث السادس: أخرج أبو يعلى في "المسند"، والحاكم في "المستدرك" بسند حسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الرَّجل ليكونُ له عند الله المَنْزِلَةُ، فما يَبْلُغُها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يُبَلِّغَهُ إيّاها](1).

الحديث السابع: أخرج الترمذي بسند حسن في الشواهد عن جابر بن عبد الله مرفوعًا: [لَيَوَدَّن أهلُ العافية يومَ القيامة أنَّ جلودَهُم قُرِضَتْ بالمقاريض، مما يَرَوْنَ من ثواب أهلِ البلاء](2).

وقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: فأخذناهم بالهلاك والعذاب فجأة، أتاهم على غِرّة منهم بمجيئه، وهم لا يدرون ولا يعلمون أنه يجيئهم، بل هُمْ بأنه آتيهم مكذّبون حتى يعاينوه ويَرَوه).

أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبيد بن خالد السلمي - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: [مَوْتُ الفَجْأَةِ أَخْذَةُ أسفٍ](3).

وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} .

قال القرطبي: (يقال للمدينة قرية لاجتماع الناس فيها. من قريت الماء إذا جمعته. {آمَنُوا} أي: صدقوا. {وَاتَّقَوْا} أي: الشرك. {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} يعني: المطر والنبات). قلت: (ويدخل في البركات كل وجوه الخير المختلفة).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].

2 -

وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا

(1) حديث حسن. أخرجه أبو يعلى (4/ 1447 - 1448)، والحاكم (1/ 344)، وابن حبان (693)، وغيرهم. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

حديث حسن - في الشواهد. أخرجه الترمذي (2404)، والطبراني في "الكبير" - نحوه - (3/ 178/ 2)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (2206).

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3110) - باب موت الفجأة. انظر صحيح سنن أبي داود (2667).

ص: 210

وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)} [هود].

وقوله: {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

أي: أخذناهم بالعذاب بتكذيبهم الرسل، وكفرهم وسوء كسبهم وما كانوا يعملون.

وقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} .

أي: هل أمن أهل القرى التي أرسل فيها الرسل أن ينزل بهم نكال الله وعذابه ليلًا وقت بياتهم وهم نائمون غافلون في كمال غفلتهم.

وقوله تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} .

أي: وهل أمن أهل هذه القرى أن يباغتهم عذاب الله نهارًا وهم يخوضون في الباطل ويلهون ويلعبون.

وقوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .

أي: هل يأمن هؤلاء المسرفون في غيهم وضلالهم عذاب الله وجزاءه مقابل مكرهم، أو استدراجه لهم بالنعمة والصحة وسعة الرزق، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الهالكون.

قال الحسن البصري: (المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق، وَجِلٌ خائف. والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن).

أخرج الطبراني ورجاله ثقات عن ابن عباس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأسُ من رَوْح الله، والأَمْنُ من مكر الله](1).

وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود قال: [أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأسُ من رَوْح الله](2).

(1) إسناده صحيح. أخرجه البزار والطبراني كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 104)، وقال: رجاله موثقون. انظر تحقيق فتح المجيد (422)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 492).

(2)

صحيح. أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/ 104) انظر فتح المجيد (424)، وكذلك المرجع السابق (1/ 492) لمزيد من التفصيل.

ص: 211

وقوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} .

قال مجاهد: ({أَوَلَمْ يَهْدِ}: قال: يُبَيِّن). وقال ابن عباس: (أو لم يبيّن).

وقال السدي: ({أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، يقول: أولم يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها، هم المشركون).

وقال ابن زيد: ({أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا}، أولم نُبَيِّن لهم، {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، قال: و"الهدى"، البيان الذي بُعث هاديًا لهم، مُبَيّنًا لهم حتى يعرفوا. لولا البيان لم يعرفُوا).

وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} .

أي: ونختم على قلوبهم فلا يسمعون عندئذ موعظة ولا ينتفعون تذكيرًا.

وقوله: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} .

أي: هذه القرى التي أهلكناها - كما قصصنا عليك من أخبارها - كقرى نوح وعاد ولوط وهود وشعيب وغيرهم، قد جاءهم البلاغ المبين من رسلهم وحجة الله البالغة. وهذا فيه تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه.

وقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} .

فيه أقوال متكاملة:

1 -

قال مجاهد: (أي: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بعد هلاكهم لو أحييناهم). وهذا يشبه قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ. . .} [الأنعام: 28].

2 -

قال ابن عباس والربيع: (كان في علم الله تعالى يوم أخذ عليهم الميثاق أنهم لا يؤمنون بالرسل).

3 -

قيل: سألوا المعجزات، فلما رأوها ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤية المعجزة.

واختار ابن جرير القول الثاني وقال: (سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قصّ نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدًا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم لم

ص: 212

يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه، قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم).

وقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} .

قال القرطبي: (أي: مثل طبعه على قلوب هؤلاء المذكورين، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}

مِنْ زائدة، تدل على معنى الجنس. ومن أقوال المفسرين:

1 -

قال ابن عباس: (يريد العهد المأخوذ عليهم وقت الذَّرِّ).

وقال أبي بن كعب: (في الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم عليه السلام.

وقال مجاهد: ({وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ}، الآية، قال: القرون الماضية. و"عهده"، الذي أخذه من بني آدم في ظهر آدم ولم يفوا به).

2 -

وقال الحسن: (العهد الذي عهد إليهم مع الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا).

وقال ابن عباس: (وذلك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به).

3 -

وقيل: أراد أن الكفار منقسمون، فالأكثرون منهم من لا أمانة له ولا وفاء، ومنهم من له أمانة مع كفره وإن قلوا، روي عن أبي عبيدة - ذكره القرطبي.

قلت: وكل ما ذكر يدخل في مفهوم تأويل هذه الآية، فإن خيانة العهد متأصلة في أهل الكفر وقد علم الله ذلك فيهم قبل أن يخلقهم، ثم مضى ذلك في سلوكهم أثناء حياتهم، ولذلك قال تعالى:{وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} . قال مجاهد: (القرون الماضية).

103 -

112. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ

ص: 213

رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)}.

في هذه الآيات: يخبر الله تعالى عن تتابع الرسل في الأرض بالمهمة نفسها، فبعث موسى عليه الصلاة والسلام بالحجج والأدلة إلى فرعون وقومه فكذبوا بها. فانظر يا محمد بعين قلبك كيف أغرق الله فرعون وقومه المفسدين. وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد حذره من قبل، وأنذره بأنه رسول رب العالمين. فحق عليه أن لا يتكلم إلا بالحق وقد جاءهم ببرهان من ربه ليرسل معه بني إسرائيل. فقال له فرعون: إن كنت صادقًا بأنك تحمل بينة فأت بها، فألقى موسى عصاه حينئذ فتحولت إلى حية عظيمة، وأخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء أشد من اللبن، من غير برص، فنسب إليه - عند ذلك - فرعون وملأه السحر وإتقان الخفة، وحذّر قومه من قصده وما يبغي بذلك، وأنه يريد إخراجهم من البلاد واستذلالهم بذلك. فقالوا أخّره وابعث في مدائن ملكك إلى السحرة يأتوك مجموعين جاهزين ليكشفوا بمهارتهم وحيلتهم سحر موسى ويغلبوه حتى يخسر الجولة.

فقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .

أي: ثم بَعَثْنا مِن بعد الرسل الذين سبق ذكرهم موسى عليه وعليهم الصلاة والسلام، بحججنا ودلائلنا الواضحة إلى فرعون - ملك مصر آنذاك - وإلى قومه، فجحدوا تلك الآيات وأنكروها كبرًا وظلمًا وبغيًا وعلوًا في الأرض. كما قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]. أي: انظر - يا محمد - بعين قلبك، كيف أغرق الله فرعون ومن طغى معه في البحر.

وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

هكذا ناظر موسى عليه السلام فرعون الطاغية - فقال له: {إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ

ص: 214

الْعَالَمِينَ}. أي: أرسلني الله تعالى الذي هو خالق كل شيء، وقد دانت المخلوقات جميعًا لجبروته.

وقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} .

قرأ نافع وجماعة من أهل المدينة: {حَقِيقٌ عَلَيَّ} أي: واجب علي. والمعنى: حق عليَّ أن لا أقول على الله إلا الحق.

وقرأ بعض قراء المدينة والبصرة ومكة والكوفة: {حَقِيقٌ على} . والمعنى: حريص على ألا أقول. وهما قراءتان مشهورتان.

قال ابن جرير: ({قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، يقول: قال موسى لفرعون وملئه: قد جئتكم ببرهان من ربكم، يشهدُ، أيها القوم، على صحة ما أقول، وصدق ما أذكر لكم من إرسال الله إياي إليكم رسولًا، فأرسل يا فرعون معي بني إسرائيل).

وقوله تعالى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .

أي: أجاب فرعون: إن كنت يا موسى قد جئت بحجة وبينة تشهد على صدق ما تقول فائْتِ بها إن كنت صادقًا في دعواك.

وقوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} .

قال قتادة: (تحولت حية عظيمة). قال القرطبي: (والثعبان: الحية الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات. {مُبِينٌ} أي: حية لا لبس فيها).

وقوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} .

قال ابن عباس: (أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء. قال: من غير برص).

وقال مجاهد: (نزع يده من جيبه بيضاء من غير برص). وقال: (وكان موسى رجلًا آدم، فأخرج يده فإذا هي بيضاء، أشد بياضًا من اللبن، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، قال: من غير برص، آيةً لفرعون).

ص: 215

وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} .

قال ابن كثير: (أي: {قَالَ الْمَلَأُ} وهم الجمهور والسادة {مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} موافقين لقول فرعون فيه، بعد ما رجع إليه روعه، واستقر على سرير مملكته بعد ذلك، قال للملأ حوله: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، فوافقوه وقالوا كمقالته، وتشاوروا في أمره، وماذا يصنعون في أمره، وكيف تكون حيلتُهم في إطفاء نُوره وإخماد كلمته، وظهور كذِبه وافترائه، وتَخوَّفوا أن يستميل الناسَ بسحره فيما يعتقدون، فيكون ذلك سببًا لظهوره عليهم، وإخراجه إياهم من أرضهم، والذي خافوا منه وقعوا فيه، كما قال تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6]. فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه، اتفق رأيُهم على ما حكاه الله - تعالى - عنهم):

في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} .

أرجه: يعني أرجئه، أي: أخِّره.

قال ابن عباس: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} قال: أخّره. {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} ، قال: الشُّرَط).

وقال قتادة: ({أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}، أي: احبسه وأخاه).

والمقصود: قال الملأ من قوم فرعون مقترحين مشيرين على ملكهم فرعون: ابعث في الأقاليم ومدائن ملكك الشُّرَط، ليحشروا إليك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم لديك، ليكونوا على جاهزية لكشف سحر موسى. كما قال تعالى في سورة طه - يحكي قول فرعون لموسى:{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)} .

113 -

126. قوله تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ

ص: 216

وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ أُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}.

في هذه الآيات: يخبر الله تعالى عن مسارعة سحرة فرعون لمبارزة موسى بسحرهم طمعًا في جائزة فرعون وتقريبه لهم، وقد سألوه ذلك فأعطاهم العهد على ذلك، فلما التقوا سألوا موسى إن كان يحب أن يبدأ بعرض ما عنده، فأجابهم: بل أنتم ألقوا قبلي، وذلك أبلغ إذ يرى الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فرغوا من استعراضهم ألقى موسى عصاه لتبتلع سحرهم وأدواتهم. وبالفعل، فقد أرهبوا الناس بحبالهم حين ألقوها وخيّلوا إلى أبصارهم أن ما يجري حقيقة، فلما ألقى موسى عصاه انقلبت بإذن الله حية فابتلعت ما يكذبون. فظهر الحق وانكشف الباطل والخداع وظهر فرعون وجنوده أذلاء مبهوتين مقهورين. وخرّ السحرة ساجدين، يشهدون أن لا إله إلا الله رب العالمين. رب موسى وهارون. ففزع فرعون من خشية السقوط أمام الناس فتوعد وهدّد، وأخذ يصطنع التدليس والمكر: أن ما كان مؤامرة قد أُعِدَّ لها بين موسى والسحرة - مع أن موسى لم يلقهم ولم يعرفهم قبل - وحاول إخافة القوم بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم مخالفة مع التصليب والنكال، فقابلوه بإيمان كالجبال، قال له السحرة: إنا إلى ربنا منقلبون - أي: آيبون راجعون -. وإنما تنقم منا أنا آمنا بالله العظيم، وقد أكرمنا برؤية بعض آياته يذكرنا بعظمته إنه هو الجبار الحكيم، ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين.

فقوله تعالى: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} .

ص: 217

قال القرطبي: ({وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} وَحُذِف ذِكر الإرسال لعلم السامع. {قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} (1) أي: جائزة ومالًا).

وقال ابن جرير: (قال فرعون للسحرة، إذ قالوا له: إن لنا عندك ثوابًا إن نحن غلبنا موسى؟ قال: نعم، لكم ذلك، وإنكم لممن أقرِّبه وأدْنيه مني).

وقوله تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا} .

قال ابن كثير: (هذه مبارزة من السحرة لموسى عليه السلام في قوله: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}، أي: قَبْلك. كما قال في الآية الأخرى: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه: 65]، فقال لهم موسى عليه السلام: {أَلْقُوا} أي: أنتم أولًا قبلي. والحكمة في هذا - والله أعلم - ليرى الناس صَنيعَهم ويتأمَّلُوه، فإذا فَرَغُوا من بَهْرَجِهِم ومحالهم، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تَطَلُّب له وانتظار منهم لمجيئه، فيكون أوقع في النفوس. وكذا كان).

وقوله: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} .

قال ابن عباس: (ألقوا حبالًا غلاظًا طوالًا وخَشبًا طوالًا. قال: فأقبلت يخَيَّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى).

وكان أن استرهبوا الناس بصنيعهم، وخيّلوا إلى أبصارهم أن ما يجري أمامهم حقيقة، فاختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد.

وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} .

قال قتادة: (فألقى موسى عصاه، فتحولت حية، فأكلت سحرهم كله).

وقال ابن عباس: (فألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفكون، لا تمر بشيء من حبالهم وخُشُبهم التي ألقوها إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا أمرٌ من السماء، وليس هذا بسحر، فخرّوا سجَّدًا وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}). وعن مجاهد: ({فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}، قال: يكذبون).

(1) قرأ نافع وابن كثير وحفص وأبو جعفر "إنَّ لنا"، وقرأ الباقون "أئن لنا".

ص: 218

وقوله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

قال مجاهد: (ظهر الحق، وذهب الإفك الذي كانوا يعملون). وفي رواية عنه قال: ({فَوَقَعَ الْحَقُّ}، ظهر موسى).

وقوله تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} .

أي: غُلب فرعون وجنوده والسحرة وصاروا أذلاء مقهورين مبهوتين بتغلب موسى صلى الله عليه وسلم عليهم ودحضه كذبهم وألاعيبهم.

وقوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} .

قال ابن عباس: (لما رأت السحرة ما رأت، عرفت أن ذلك أمر من السماء وليس بسحر، فخروا سجدًا، وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}).

قال الجشميّ: (دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال).

وقوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

قال القرطبي: ({قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إنكار منه عليهم. {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} أي: جرت بينكم وبينه مُواطأة في هذا لتستولوا على مصر، أي: كان هذا منكم في مدينة مصر قبل أن تبرزوا إلى هذه الصحراء {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد لهم).

ولا شك أن هذا الذي قاله فرعون من أبطل الباطل. قال ابن كثير: (فإن موسى عليه السلام بمجرد ما جاء من مَدْين دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صِدْق ما جاء به، فعند ذلك أرسلَ فرعونُ في مدائن ملكه ومُعاملة سَلْطَنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر، ممن اختار هو والملأ من قومه، وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل. وقد كانوا من أحرص الناس على ذلك، وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون. وموسى عليه السلام لا يعرف أحدًا منهم ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك، وإنما قال هذا تسترًا وتدليسًا على رَعاع دولته وجهلتهم، كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ

ص: 219

فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]، فإن قومًا صدقوه في قوله:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، من أجْهل خلق الله وأضلهم).

وقوله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} .

قال ابن عباس: (أوّل من صلّب، وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعون).

قال ابن جرير: (وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فيخالف بين العضوين في القَطْع، فمخالفته في ذلك بينهما هو "القطع من خلاف"). قال: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} ، وإنما قال هذا فرعون، لما رأى من خذلان الله إياه، وغلبة موسى عليه السلام وقهره له).

وقال القاسمي: ({ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي: تفضيحًا لكم، وتنكيلًا لأمثالكم).

وقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} .

قال ابن كثير: ({إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} أي: قد تحققنا أنا إليه راجعون، وعذابه أشد من عذابك، ونكاله مما تدعونا إليه اليوم ومما أكرهتنا عليه من السحر أعظم من نكالك، فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله، ولهذا قالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي: عُمَّنا بالصبر على دينك، والثبات عليه، {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي: متابعين لنبيك موسى عليه السلام.

قال مجاهد: ({رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، قال: كانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء).

وقد حكى الله سبحانه في سورة طه مواجهة السحرة فرعون بعد تهديده، فقالوا له:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه: 72 - 75].

قلت: والصبر من أنفع الأعمال للعبد، فهو حبس اللسان والقلب والنفس والجوارح عن التشكي والجزع والتسخط والتذمر. وقيل:(هو الثبات مع الله، وتلقي بلائه بالرحب والسعة).

ص: 220

ومنه قول سحرة فرعون لما آمنوا وقد توقعوا البلاء من غضب فرعون وقومه: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} .

قال الجنيد: (المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن. وهجران الخلق في جنب الله شديد. والمسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد. وسئل عن الصبر؟ فقال: تجرّع المرارة من غير تعبّس).

وقال الإمام أحمد: (الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا). قال ابن القيم: (وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

2 -

وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ. . .} [النحل: 127].

3 -

وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. . .} [الأحقاف: 35].

ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق ذلك أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما يصيب المسلمَ من نصَب ولا وصب ولا همٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ حتى الشوكة يشُاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهُم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نَفِدَ ما عِنْدَه، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: ما يكن عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّه الله، ومن يستغن يُغْنِه الله، ومن يَتَصَبَّر يُصَبِّرْهُ الله. وما أعطيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 16) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. انظر مختصر صحيح مسلم (1798). والنصب: التعب. والوصب: المرض.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 265)، (11/ 260)، ومسلم (1053)، وانظر مختصر صحيح مسلم (555). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 221

الحديث الثالث: أخرج الحاكم والبيهقي بسند حسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن المعونة تأتي من الله للعبد على قدر المُؤْنَة، وإن الصبرَ يأتي من الله على قدر المصيبة](1). وفي لفظ: [على قدْر البلاء].

127 -

129. قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}.

في هذه الآيات: يخبر الله تعالى عن تدخل بعض قادة فرعون ووجهائه من الملأ مشيرين عليه أنْ كيف يترك موسى ومن سار معه من بني إسرائيل يفسدوا بذلك الخدم والعبيد ودين الرعية الذي استعبدهم به فرعون، فقال لهم فرعون: سنقتل الذكور من أبنائهم ونستبقي الإناث منهم وإننا قاهرون لهم بالحكم والقرار والسلطان. فقال موسى لقومه يصبرهم ويأمرهم بالاستعانة بالله العظيم، ثم بالصبر على البلوى والمحن، فإن الأرض لله يستخلف عليها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين خير في الدارين. فقالوا يا موسى: لقد أصابنا الأذى من فرعون بقتل الأبناء قبل مجيئك إلينا بالرسالة، وكذلك اليوم بعد مجيئك يشتد علينا البلاء والإيذاء، فقال لهم: عسى الله أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض من بعده فينظر كيف يكون شكركم وكيف تكون طاعتكم وعبادتكم.

فقوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون: أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل، {لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} ، يقول: كي يفسدوا

(1) حديث حسن. أخرجه البزار في "مسنده"(ص 156)، وابن عدي في "الكامل"(1/ 206)، ورواه الحاكم والبيهقي، وكذلك الديلمي (1/ 2/ 246). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1664).

ص: 222

خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر، {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} ، يقول:{وَيَذَرَكَ} ويدع خِدْمتك موسى وعبادتك وعبادة آلهتك).

وقوله: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} .

أي: قال فرعون: سنقتل الذكور من أبنائهم - من أولاد بني إسرائيل - ونستبقي الإناث منهم، وإنا قاهرون لهم بالملك والسلطان، عالون عليهم بالحكم والقرار.

وقوله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .

أَمْرٌ بالصبر والتقوى، فالعاقبة للمتقين في الدارين.

قال القرطبي: (أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي: الجنة لمن اتقى وعاقبة كل شيء: آخره. ولكنها إذا أطلقت فقيل: العاقبة لفلان فُهِمَ منه في العُرْف الخير).

وقوله: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا. . .} الآية.

قال ابن جرير: ({قَالُوا أُوذِينَا} بقتل أبنائنا، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا}، يقول: من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا، لأن فرعون كان يقتل أولادهم الذكور حين أظلَّهُ زمان موسى).

وقال السدي: (فلما تراءى الجمعان فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد رَدِفَهم، قالوا: "إنا لمدركون"، وقالوا: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا}، كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا، {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا، إنا لمدركون).

وعن ابن عباس قال: (سار موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم بِرَهَج دَوَّابِ فرعون، فقالوا: يا موسى - {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون بمن معه! قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}). قلت: و"عسى" من الله واجب، وقد حقّق الله لهم الوعد (1).

(1) فكان أن استخلفهم سبحانه في مصر زمان داود وسليمان عليهما السلام، وفتحوا بيت المقدس مع يُوشَعَ بن نون، وأكثر عليهم سبحانه من نعمه وآلائه.

ص: 223

قال القرطبي: ({فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. أي يرى ذلك العمل الذي يجب به الجزاء، لأن الله لا يجازيهم على ما يعلمه منهم، إنما يجازيهم على ما يقع منهم).

والمقصود: إن الله تعالى جدّد لهم الوعد وحقَّقَه، فيرى سبحانه ما يعملون بعد استخلافهم، من تسابق للطاعة أو تثاقل عنها.

130 -

137. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى عن تسليطه القحط والجوع وقلة الزروع على آل فرعون لعلهم يتعظون. فإنهم كانوا إذا لمسوا العافية والرخاء قالوا نحن أحق بها، وإذا نزل بهم بلاء وعقوبة تشاءموا بموسى وأنزلوا المصائب الحاصلة به، وإنما الأمر كله لله لو كانوا يعلمون، ولكن أكثرهم يجهلون. وقد تطاولوا حتى قالوا لموسى: إنا لن نقبل منك أي آية أو حجة فما نحن لك بمؤمنين. فأرسل الله عليهم عندئذ المطر الشديد المهلك، والجراد المنتشر يسحق الزروع والثمار، وكذلك السوس ينخر في الطعام والمدخرات، والضفادع تقع في طعامهم وشرابهم فتفسدها عليهم، ثم الدم يعكر مياههم وآبارهم وأنهارهم وأوعيتهم جزاء بما كانوا يفسدون. ثم إنهم لما نزل بهم البلاء

ص: 224

سألوا موسى أن يدعو ربه بما عهد له من النبوة لئن رفعت عنا الرجز لنصدقن بك وبدعوتك ولنقرن لك بالطاعة، وَلنخلين معك بني إسرائيل. فلما رفع الله عنهم ذلك العذاب - إلى حين موعد هلاكهم الأخير بالغرق - إذا هم ينقضون العهد والمواثيق، فما كان بعد هذه السلسلة من التكذيب والمكر إلا أن أنزل الله بهم نقمته وانتصر منهم فأغرقهم في البحر فكانوا كأمس الذاهب. ثم أورث الله المؤمنين من بني إسرائيل أرض الشام ومصر، وجميع جهات المشرق والمغرب التي بارك سبحانه فيها بإخراج الزروع والثمار وجريان الأنهار، وكونها مهد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وتمت كلمة الله الحسنى أن استحقوا وعده ونصره بعد طول جهاد وصبر، وأهلك الله فرعون وقومه، ودَمَّرَ ما عمروه وصنعوه، وما بنوه طمعًا في البقاء في منصة الحكم والكبر والعلو في الأرض.

فقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} .

قال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله:(سني الجوع). وقال مجاهد: (الجائحة). أي: ابتليناهم وامتحناهم بسني الجوع بسبب القحط والجدب وقلة الزروع. وفي الحديث: [اللهم اجعلها عليهم سنين كسِني يوسف](1).

وقوله: {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} .

قال رجاء بن حيوة: (حيث لا تحمل النخلة إلا ثمرة واحدة).

وقال قتادة: (أخذهم الله بالسنين، بالجوع، عامًا فعامًا، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، فأما "السنين" فكان ذلك في باديتهم وأهل مواشيهم، وأما {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ}، فكان ذلك في أمصارهم وقراهم).

وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} .

أي: ليرعووا ويتعظوا وترق قلوبهم.

وقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} .

قال مجاهد: ({فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ}، العافية والرخاء، {قَالُوا لَنَا هَذِهِ}، نحن أحق بها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، بلاء وعقوبة، {يَطَّيَّرُوا}، يتشاءموا بموسى).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (2932)، وأخرجه الإمام مسلم (675)، وغيرهما.

ص: 225

وقوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

قال ابن عباس: ({أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} ، يقول: الأمر من قبل الله. قال: مصائبهم عند الله. قال الله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .

وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} .

أي: يقولون: إنه لن نقبل منك أي آية تأتي بها أو حجّة تقيمها علينا، فما نحن لك بمؤمنين. قال ابن جرير:(قال آل فرعون لموسى: يا موسى، مهما تأتنا به من علامة ودلالة، {لِتَسْحَرَنَا}، يقول: لتلفتنا بها عما نحن عليه من دين فرعون، {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}، يقول: فما نحن لك في ذلك بمصدقين على أنك محق فيما تدعونا إليه).

وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} .

الطوفان: هو المطر الشديد حتى الفيض وخشية الغرق. قال ابن عباس: (لما جاء موسى بالآيات، كان أول الآيات الطوفان، فأرسل الله عليهم السماء. قال الضحاك: ({الطُّوفَانَ}، الماء).

وقال أيضًا: ({الطُّوفَانَ}، الغرق). وقيل: (الطوفان: كثرة الموت). وقيل: (الطاعون). والأول أرجح، كما قال ابن عباس في الرواية المشهورة:(كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار). وهو اختيار القرطبي رحمه الله حيث قال: ({فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} أي: المطر الشديد حتى عامُوا فيه).

والجراد: حيوان معروف، جمع جرادة في المذكر والمؤنث، قيل: بعثه الله عليهم حتى أكل زروعهم وثمارهم، حتى أنها كانت تأكل السقوف والأبواب حتى تنهدِمَ ديارهم. ولم يدخل دُور بني إسرائيل منها شيء. والجراد حلال أكله كما ثبت في السنة الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (96/ 255/ 1)، والبيهقي (1/ 254)، وأخرجه ابن ماجه (3314)، وابن عدي (1/ 229)، والبغوي في "شرح السنة"(3/ 185/ 2).

ص: 226

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي يَعفُور قال: [سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الجراد، فقال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد](1).

الحديث الثالث: أخرج الطبراني بسند حسن عن أبي زهير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تقتلوا الجراد، فإنه من جند الله الأعظم](2).

قلت: الراجح أنه النهي عن قتله لغير الحاجة لأكله، أما إن كان الجراد بكميات كبيرة تؤذي الزرع ولا سبيل لطرده دون قتله، جاز قتله واستخدام المبيدات ضده، فإنه لا ضرر ولا ضرار.

وأما {الْقُمَّلَ} في معناه أقوال:

1 -

قال ابن عباس: (هو السوس الذي يخرج من الحنطة).

2 -

وقال السدي: (الدَّبى، القمّل). والدّبى: صغار الجراد الذي لا أجنحة له.

3 -

وقال سعيد بن جبير: (القمّل: دواب سود صغار).

4 -

وقال ابن زيد: (زعم بعض الناس في القمل أنها البراغيث).

5 -

وقال عطاء الخراساني: (القُمَّل: القَمْل).

6 -

وقال أبو عبيدة: (القمّل: الحَمْنَان). وهو ضرب من القُراد، واحدها حَمْنانة. فأكلت دوابَّهم وزروعهم، ولزمت جلودهم كأنها الجُدري عليهم ومنعتهم النوم والقرار.

7 -

وقال حبيب بن أبي ثابت: (القمّل الجِعلان). وهو دابة سوداء من دواب الأرض.

قلت: لما عاهد القوم موسى أن يؤمنوا لو كشف عنهم الجراد، فدعا فكشف وقد بقي من زروعهم شيء فاعتبروها كافية، وجحدوا مرة أخرى، فسلط الله عليهم القُمّل، وهي أصغر من الجراد على ما مضى، حتى رأوا العنت والهلاك، فتضرعوا فلما كشف عنهم لم يؤمنوا، فسلط الله عليهم الضفادع.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5495)، ومسلم (1952)، وأبو داود (3812)، والترمذي (1822)، وأخرجه أحمد (4/ 357)، والنسائي (7/ 210)، وابن حبان (5257)، والبيهقي (9/ 257). من حديث أبي يعفور عن عبد الله أبي أوفى رضي الله عنه.

(2)

حديث حسن. أخرجه الطبراني (22/ 297)، وفي مسند الشاميين (1656)، والأوسط (159).

ص: 227

فقوله: {وَالضَّفَادِعَ} .

جمع ضفدع، وهي المعروفة التي تكون في الماء. وقد ورد النهي عن قتلها وبالتالي أكلها، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج ابن ماجه وأبو داود وأحمد - واللفظ لابن ماجه - عن أبي هريرة قال: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصُرَد والضفدع والنملة والهدهد](1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عثمان: [أن طبيبًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن ضِفْدَعٍ يجعلها في دواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها](2).

الحديث الثالث: يروي النسائي بسند صحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقتلوا الضفادع](3).

والخلاصة في معنى هذه الآية: لقد سلّط الله عليهم الضفادع حتى كانت تقع في طعامهم وشرابهم، وإذا تكلم الرجل تقع في فيه.

يروي ابن جرير بسنده عن سعيد بن جبير قال: (لما أتى موسى فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل! فأبى عليه، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصبّ عليهم منه شيئًا، فخافوا أن يكون عذابًا، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم في تلك السنة شيئًا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ. فقالوا: هذا ما كنا نتمنَّى، فأرسل الله عليهم الجراد فسلَّطه على الكلأ، فلما رأوا أثَره في الكلأ عرفوا أنه لا يُبقي الزرع. فقالوا: يا موسى، ادْعُ لنا ربك فيكشف عنا الجرادَ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الجرادَ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل! فداسُوا وأحرزُوا في البيوت، فقالوا: قد أحرزْنا! فأرسل الله عليهم القُمَّل - وهو السُّوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجرِبةٍ إلى

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن - حديث رقم - (3223) - باب ما ينهى عن قتله، وانظر سنن أبي داود (5267)، ومسند أحمد (1/ 332)، وسنن الدارمي (2/ 88)، والبيهقي (9/ 317)، وصححه ابن حبان (5646).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (5269) - باب في قتل الضفدع، وأخرجه النسائي (7/ 210).

(3)

حديث صحيح. أخرجه النسائي - انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7267).

ص: 228

الرحى، فلا يردّ منها ثلاثة أقفزة. فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا القمَّل، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربَّه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينا هو جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضِفْدَع فقال فرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا! فقال: وما عسى أن يكون كيدُ هذا! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنِهِ في الضفادع، ويهمُّ أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه. فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع، فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فكشف عنهم فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فكان ما استقوا من الأنهار والآبار، أو ما كان في أوعيتهم، وجدُوه دمًا عَبِطًا (1) فشكوا إلى فرعون فقالوا: إنا قد ابتلينا بالدّم، وليس لنا شراب! فقال: إنه قد سحركم! فقالوا: من أين سحرنا، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئًا من الماء إلا وجدناه دمًا عبيطًا؟ فأتوه فقالوا: يا موسى، ادعُ لنا ربك يكشف عنا هذا الدم، فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرئيل).

وقوله: {وَالدَّمَ} .

قال النسفي: (أي: الرعاف، وقيل مياههم انقلبت دمًا حتى إن القبطي والإسرائيلي إذا اجتمعا على إناء فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دمًا، وقيل سال عليهم النيل دمًا).

والخلاصة: لقد سلّط الله عليهم الدم عندما نقضوا العهد مرة بعد مرة، حتى اختلط الدم بمياه أنهارهم وآبارهم وأوعيتهم، وتعطل شرابهم وفسد لعلهم بذلك يتوبون إلى الله ويتذكرون.

وقوله: {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} .

قال ابن إسحاق: (أي: آية بعد آية، يتبع بعضها بعضًا). وقال مجاهد: {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} ، قال: معلومات) أي: واضحات دالات.

وقوله: {آيَاتٍ} .

هو في محل نصب حال من المنصوبات قبل.

(1) العَبِطُ والعبيط: الطريّ.

ص: 229

وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} .

قال القاسمي: {فَاسْتَكْبَرُوا} أي: عن الإيمان، فلم يؤمنوا لموسى، ويرسلوا معه بني إسرائيل {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} أي: عاصين كافرين. قال الجشميّ: تدل الآية على عناد القوم، وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد، أنهم لا يؤمنون بها. وليس هذا عادة مَنْ غَرَضُه الحق. وتدل على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها. وتدل على وجوب التدبر في الآيات).

وقوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} .

قال ابن عباس: ({لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ}، قال: الطاعون). وقال مجاهد: ({الرِّجْزَ}: العذاب).

وقيل المراد بالرجز ما تقدم من الآيات، وقيل هو العذاب الأخير وهو الدم. وكلها واردة محتملة في المعنى.

وفي قوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} - ما مصدرية، أي: بعهده عندك وهو النبوة. قال النسفي: (والباء تتعلق بادع أي: ادع الله لنا متوسلًا إليه بعهده عندك). وقال الشهاب: (سميت النبوة عهدًا، لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقًا تحفظ، كما تحفظ العهود. أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى). والخلاصة: لقد عاهدوا موسى عليه السلام لئن رفعت عنا الرجز لنصدق بك وبدعوتك ولنقرن لك.

قال ابن جرير: ({وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، يقول: ولتُخَلِّيَنَّ معك بني إسرائيل، فلا نمنعهم أن يذهبوا حيث شاؤوا).

وقوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} .

أي: فلما رفع الله عنهم العذاب - بدعاء موسى عليه الصلاة والسلام ليستوفوا أيامًا في هذه الحياة إلى أن يحين وقت هلاكهم وغرقهم - إذا هم ينقضون العهود ويرجعون إلى كفرهم ومكرهم.

قال مجاهد: ({إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ}، قال: عدد مسمّى لهم من أيامهم).

وقال القرطبي: ({إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} يعني أجلهم الذي ضرب لهم في التغريق).

ص: 230

وقوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} .

أي: فلما حان أجلهم أنزلنا بهم النقمة وانتصرنا منهم بإحلال العذاب فيهم، فأغرقناهم في البحر بما كذبوا بآيات الله ورسوله وجحدوا حججه سبحانه البالغة.

وقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} .

قال قتادة والحسن: (الأرض التي باركنا فيها: الشأم).

والمعنى: لقد أورث الله تعالى بني إسرائيل الذين كانوا يُستذلون بالخدمة أرض الشام ومصر - بعد هلاك فرعون وقومه - وجميع جهات المشرق والمغرب فيها، {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بإخراج الزروع والثمار والأنهار، وكونها مهد الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا}

مفسّر بقوله تعالى في آية القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)} .

فبصبرهم على أذى فرعون ومكره هو وجنوده، وبصبرهم على أمر الله بعد أن آمنوا بموسى صلى الله عليه وسلم، استحقوا عند الله ذلك الوعد الأكيد، وهو وعد الله للمؤمنين الصابرين المرابطين على الحق في كل زمان ومكان.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].

2 -

وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].

3 -

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

4 -

وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

أخرج الديلمي - بسند صحيح في الشواهد - عن أنس مرفوعًا: [النَّصر مع الصَّبر،

ص: 231

والفَرَجُ مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا، وإنَّ مع العسر يُسْرًا] (1).

والخلاصة: كما قال مجاهد: (ظهر قوم موسى على فرعون، "وتمكين الله له في الأرض"، ما وَرَّثهم منها).

وقوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العِمارات والمزارع، {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}، يقول: وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور، وأخرجناهم من ذلك كله، وخَرَّبنا جميع ذلك).

وقوله: {يَعْرِشُونَ} . بكسر الراء - قراءة قراء الحجاز والعراق. وقرأه عاصم بن أبي النجود {يَعْرِشُونَ} بضمها. وكلاهما قراءتان مشهورتان. قال ابن عباس: (يعرشون: يبنون) وقال مجاهد: {يَعْرِشُونَ} : يبنون البيوت والمساكن ما بلغت).

ومضى الطاغية فرعون إلى غير رجعة، وورث تلك البلاد والكنوز المؤمنون من بني إسرائيل مع موسى عليه الصلاة والسلام، سنة الله في عباده، ولن تجد لسنته تبديلًا.

أخرج الإمام أحمد في المسند، والترمذي في الجامع - بسند صحيح - عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لما أغرق الله فرعون، قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. قال جبريل: يا محمد، فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة](2).

138 -

147. قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ

(1) حديث صحيح. أخرجه الديلمي (4/ 111 - 112)، والخطيب في "التاريخ"(10/ 287)، وانظر بعضه في مسند أحمد (1/ 307)، وفي "تخريج السنة"(316). وهو في "الصحيحة" رقم (2382).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3107). ورواه أحمد. انظر صحيح الجامع الصغير (5082) - وتفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 707).

ص: 232

الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى عن افتتان بعض بني إسرائيل - بعد أن جاوزوا البحر - بقوم على أصنامهم يعكفون، فسألوا موسى تقليدهم - ضعفًا منهم في دينهم وقلة رسوخ ويقين - بأن يجعل لهم صورة آلهة كما لأولئك القوم، قال إنكم قوم تجهلون أن الله تعالى واحد لا شريك له ولا مثيل ولا شبيه، وإنما هؤلاء على خسران في عملهم وعبادتهم وانحراف دينهم. وكيف أبغيكم إلهًا من دونه تعالى وهو سبحانه الذي فضلكم على عالمي زمانكم. أليس هو أنجاكم من بأس فرعون وجنوده يذيقونكم أسوأ العذاب فيقتلون الذكور منكم ويستبقون الإناث وفي ذلك ما ذقتم من البلاء العظيم. وإذ واعد ربكم تعالى موسى صلى الله عليه وسلم لمناجاته ثلاثين ليلة، ثم أكملها بعشر حتى الأربعين، وكان موسى قد استخلف على قومه هارون عليه الصلاة والسلام وأوصاه بالحرص على سلامة دين بني إسرائيل وحذره من سبيل المفسدين المبتدعين. ولما قدم موسى لميعاد ربه وكلّمه الله تعالى حدثته نفسه أن ينظر إلى ربه عز وجل، فسأله ذلك، فأخبره أن هذا

ص: 233

لا يكون في دار الدنيا، فانظر إلى الجبل هل يستقر أمام نور الله العظيم إذا كشف حجابه، فلما كشف الله الحجاب نحو الجبل تحطم الجبل وخرّ موسى مغشيًا عليه، فلما أفاق التجأ إلى الله تعالى منزهًا ومسبحًا وتائبًا مسرعًا إليه سبحانه كأول المؤمنين. فقال الله له: يا موسى! إني اخترتك على أهل زمانك بالرسالة والتكليم فخذ هذا الوحي بقوة واشكر ربك على ما اختصك به، وهذه الألواح فيها من كل ما تحتاج إليه أنت وقومك من بيان الحق: في التوحيد والأحكام والمعاملات والمواعظ وغير ذلك، فاحمل الأمانة بقوة واؤْمُرْ قومك بالعمل بأحسن الأعمال وأعلى القربات واختيار سبيل المعالي دون سفساف الأمور، سترون في هذه الدنيا مصير من قبلكم وفي الآخرة منازل العصاة الآثمين. إن من عقوبات الله العظيمة أن يصرف قلوب المتكبرين على دينه وشرعه عن الحق حتى تصبح قلوبهم مفتونة لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، وإنما هي الشبهات تعمرها، والشهوات تحركها، إن المكذبين بآيات الله ولقائه قد بطلت أعمالهم، وخسروا أنفسهم، جزاء بما كانوا يصرون عليه من الكبر والتكذيب وبما كانوا يجترحون.

فقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} .

إخبارٌ من الله سبحانه عن قصور إيمان بعض بني إسرائيل، وقلة رسوخ دينهم ويقينهم بالله تعالى، حتى تجرأ بعض الجهلة منهم - بعد أن جاوزوا البحر وأراهم الله من عظيم قدرته وكبير سلطانه وجبروته - على سؤال موسى تقليد قوم - وقد مرّوا بهم - يعبدون أصنامًا على صور البقر. قيل: كانوا من الكنعانيين، وقيل: من لخم. قال ابن جريج: ({عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}: تماثيل بقر. فلما كان عجل السامري شبِّه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أوّل شأن العجل: {قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}).

أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن أبي واقد الليثي قال:[خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت: يا نبي الله، اجعل لنا هذه ذات أنواط، كما للكفار ذات أنواط. وكان الكفار ينوطون سلاحَهم بسدرة، ويعكفون حولهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} إنكم تركبون سَنَنَ من قبلكم](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 218)، والترمذي (2180)، والنسائي في "الكبرى"(11185)، =

ص: 234

ورواه ابن جرير في التفسير - بسند صحيح - من حديث محمد بن إسحاق ومعمر، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي:[أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، قال: وكان للكفار سِدْرَةٌ يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرةٍ خضراء عظيمة، قال: فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: قلتم، والذي نفسي بيده، كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)}](1).

وقوله: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .

أي: تجهلون صفات الله وعظمته وجلاله، وتجهلون تنزيهه عن المثيل والشريك وعن كل شيء، فهو تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

وقوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} .

قال ابن عباس: (يقول: خُسْران). وقال السدي: (مُهْلَكٌ ما هم فيه). أي: إن هؤلاء بعكوفهم على هذه الأصنام، الله مهلك عملهم، ومخسرهم فيه.

وقوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

أي: ذاهب مضمحل. وهو سبب لشقائهم وهلاكهم يوم القيامة.

وقوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} .

أي: أسوى الله ألتمسكم إلهًا تعبدونه، وهو الله خالقكم وقد فضلكم على عالمي دهركم وزمانكم، وفضلكم بإهلاك عدوكم! فأي جهل أنتم فيه؟

وقوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} .

قال ابن كثير: (يذكِّرُهم موسى عليه السلام بنعمة الله عليهم، من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره، وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزة

= وأخرجه ابن أبي شيبة (15/ 101)، وأبو يعلى (1441)، وابن حبان (6702)، وغيرهم.

(1)

حديث صحيح. أخرجه الطبري (15065) من طريق معمر، وكذلك (15067) من طريق محمد بن إسحاق، وكذلك (15068) من طريق عقيل عن الزهري به، وإسناده على شرط الصحيح.

ص: 235

والاشتفاء من عدوهم والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه، وغرقه ودماره. وقد تقدم تفسيرها في البقرة).

وقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} .

يتابع الله ممتنًا بنعمه الجليلة على بني إسرائيل يذكرهم بها: إذ واعد موسى لمناجاته ثلاثين ليلة. قال ابن جريج: (يقول: إن ذلك بعدما فرغ من فرعون وقبل الطور، لما نجى الله موسى عليه السلام من البحر وغرّق آل فرعون، وخلص إلى الأرض الطيبة، أنزل الله عليهم فيها المنّ والسلوى، وأمره ربه أن يلقاه، فلما أراد لقاء ربه، استخلف هارون على قومه، وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلة، ميعادًا من قِبله، من غير أمر ربه ولا ميعاده. فتوجه ليلقى ربه فلما تمت ثلاثون ليلة، قال عدو الله السامريُّ: ليس يأتيكم موسى، وما يصلحكم إلا إله تعبدونه! فناشدهم هارون وقال: لا تفعلوا، انظروا ليلتكم هذه ويومكم هذا، فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم! فقالوا: نعم! فلما أصبحوا من غد ولم يروا موسى، عاد السامري لمثل قوله بالأمس. قال: وأحدث الله الأجل بعد الأجل الذي جعله نبيهم عشرًا، فتم ميقات ربه أربعين ليلة).

قال الحافظ ابن كثير: (فلما تم الميقات عزم موسى على الذهاب إلى الطور، كما قال تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ. . . (80)} الآية، فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون، وأوصاه بالإصلاح وعدم الفساد، وهذا تنبيه وتذكير - وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله، وله وجاهة وجلالة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء).

قال ابن جريج: ({وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ}، وكان من إصلاحه أن لا يدع العجل يُعْبد).

وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} .

هذه الآية فيها إثباتان:

1 -

إثبات كلام الرب تبارك وتعالى، فقد نصت الآية بصراحة أنه تعالى كلّم موسى، ومن ثمّ فإنه سبحانه يتكلم متى شاء، وكيف شاء، وأين شاء، ومع من شاء.

ص: 236

2 -

إثبات عدم إمكانية رؤية الله تعالى في دار الدنيا لأي أحد، وإمكانية الرؤية للمؤمنين يوم القيامة.

ففي المسألة الأولى: إثبات الكلام لله تعالى. والآية ردّ على الفلاسفة والمعتزلة وأهل الكلام.

1 -

قالت الصابئة والمتفلسفة: (كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معان إما من العقل الفعال أو غيره).

2 -

وقالت المعتزلة: (هو مخلوق خلقه الله منفصلًا عنه).

3 -

وقالت طائفة من أهل الكلام: (هو حروف وأصوات أزلية).

وكذبوا جميعًا فيما قالوا وفيما تصَوَّروا وذهبوا إليه، والفصل في المسألة هو الذي ثبت عليه العلماء الراسخون في صدر الإسلام من أن القرآن كلام الله على الحقيقة، فهو من صفاته سبحانه وليس من مخلوقاته.

قال الإمام أبو جعفر الطحاوي - في عقيدته المدوّنة -: (وإن القرآن كلام الله تعالى بدأ بلا كيفية قولًا، وأنزله على نبيِّه وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا. وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة. ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذَمَّهُ الله تعالى وعابه، وأوعده عذابه، حيث قال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}. فلما أوعد الله سقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} علمنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر).

لقد أثبت الله سبحانه الكلام لنفسه فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة -: أريد أن تقرأ: وكلم اللهَ موسى، بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله. فقال أبو عمرو:(هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}؟ ) فبهت المعتزلي.

يريدون أن ينفوا الكلام عن الله، وينفوا أن القرآن كلامه وصفة من صفاته - هكذا استذلهم الشيطان بفكر أجنبي دخيل - والله يقول:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]. ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:

ص: 237

77]. ويقول: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. أي: لا يكلمهم تكليم تشريف، بل يخرسهم وأما المؤمنون فيكلمهم.

وأما المسألة الثانية: إثبات رؤية الله تعالى - للمؤمنين - يوم القيامة.

فقد أشكل حرف "لن" في الآية - قيد التفسير - {قَالَ لَنْ تَرَانِي} على بعض أهل العلم، فظنوها للنفي المؤبد، واستدل بها المعتزلة (1) على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وغفلوا عن الآيات المحكمات الأخرى التي تثبت الرؤية، وكذلك عن أحاديث صحيحة في صرح السنة العظيم.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].

2 -

وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].

قال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: [حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}؟ فقال الشافعي: لما أن حُجِبَ هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضى]. وفي رواية: (ما حجب الفجار إلا وقد عَلِمَ أن الأبرار يَرَونه عز وجل (2).

3 -

وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ. . .} [يونس: 26]. والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم.

ففي صحيح مسلم عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار! قال: فيرفَعُ الحجاب فينظرون إلى وجه الله، فما أعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}](3).

(1) المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية.

(2)

انظر تفسير ابن كثير، سورة القيامة (22 - 23). وكتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (1/ 206) - بحث الرؤية - لمزيد من التفصيل.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (181)، وأخرجه الترمذي (2552)، وأخرجه أحمد (4/ 333).

ص: 238