المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٣

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌10 - سُورَة يُونس

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (109)

‌موضوع السورة

دعوة الخلق والتذكير بآيات الله ونعمه وتحقير الدنيا وتأكيد عذاب المشركين في الآخرة. تكذيب الأمم الرسل ونزول عذاب الدنيا، وتدارك قوم يونس أمرهم بالجأر إلى الله والاستغفار، قبل نزول الهلاك والدمار.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

انتصار الله تعالى لهذا الكتاب الحكيم، بعد ذكر الحروف المقطعة التي تدل على إعجاز القرآن الكريم.

2 -

تعجب الناس من إرسال الله إليهم رسولًا منهم، واتهامه بالسحر.

3 -

دعوة الناس لإخلاص العبادة لله فهو المبدئ والمعيد، وللمؤمنين عنده البشرى وللكفار الوعيد.

4 -

تذكير الله تعالى عباده بآياته الكبيرة: الشمس والقمر والليل والنهار.

5 -

الإنسان يجأر لربه بالدعاء عند نزول المصاب والبلاء، فإذا فرج عنه رجع إلى الطغيان والشرك بالله أيام الرخاء.

ص: 600

6 -

طلب المستكبرين استبدال هذا القرآن، ولا أظلم ممن كذب على الله وادّعى النبوة.

7 -

شفعاؤكم - أيها المشركون - لا ينفعونكم شيئًا، أتخبرون الله بما لا يعلم! .

8 -

ما أسرع الناس إلى تناسي نعم الله عليهم، فإذا هاج البحر ورأوا الهلاك أخلصوا لله تعالى الدين، فلما أنجاهم عادوا مشركين.

9 -

تمثيل بديع من الله لهذه الحياة الفانية، ووعده بجعل الأرض حصيدًا كأن لم تغن بالأمس عند ذروة استكبار أهلها.

10 -

ذِكْرُ ثواب المحسنين يوم القيامة: الجنة ورؤية وجه الله الكريم، وجزاء الذين أشركوا وكسبوا السيئات الخزي وعذاب الجحيم.

11 -

أمْرُ الله يوم القيامة بفصل المشركين عن المؤمنين، وظهور دقائق الأعمال في صحائف الفريقين.

12 -

محاكمات رفيعة: هل من يخلق كمن لا يخلق؟ ومن يهدي كمن لا يهدي؟ من المستحق للعبادة القادر على كل شيء أم العاجز؟ !

13 -

تحدي الله المشركين المكذبين أن يأتوا بسورة. والرسول صلى الله عليه وسلم قد أعجز الفصحاء بهذا القرآن وأسكت البلغاء والشعراء.

14 -

الله تعالى لا يظلم أحدًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

15 -

إخبار الله تعالى عن حتمية عذاب المشركين في الآخرة، وقد يطلع الله نبيه في حياته على عذابهم وقد يؤجل ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم من علم الله إلا ما أطلعه الله عليه.

16 -

القرآن شفاء لما في الصدور من شرك وغيره.

17 -

المشركون أحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أَحَلَّ، بأهوائهم.

18 -

أولياء الله في أمن وأمان، وهم أهل الإيمان والتقوى، لهم الفوز والبشرى.

19 -

المشركون يعلمون أن الله هو جبار السماوات والأرض، ثم يعبدون مماليكه.

20 -

ذكر خبر نوح وغرور قومه، وخبر موسى مع فرعون وملئه.

21 -

آمن بموسى كافة بني إسرائيل، وقليل من قوم فرعون.

22 -

أُمِرَ بنو إسرائيل بالصلاة في بيوتهم، تجنبًا لاضطهاد فرعون.

23 -

نجّى الله فرعون ببدنه، ليتحقق بنو إسرائيل من هلاكه.

24 -

ما اختلف اليهود إلا بعد ما جاءتهم التوراة بالعلم الحق.

ص: 601

25 -

صفات نبينا صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة والإنجيل.

26 -

لا يؤمن أحد إلا بإذن الله، ويجعل الله الرجس على الذين لا يعقلون.

27 -

الأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض والاعتبار بمصير الأمم السالفة.

28 -

الأمر بإفراده تعالى في الدعاء، فالدعاء هو العبادة.

29 -

نزول الضر بيد الله، ولا يكشفه إلا الله، ونزول النفع بإذن الله، ولا يغيّره إلا الله.

30 -

الأمر بالصبر على منهاج النبوة حتى يفصل الله بين المؤمنين والكافرين، والله خير الفاصلين.

° ° °

ص: 602

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

4. قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}.

في هذه الآيات: انتصارٌ من الله تعالى لهذا الكتاب الحكيم، بعد ذكر الحروف المقطعة التي تفيد الإعجاز لهذا القرآن العظيم. أَفَعَجِبَ الناس أن بعث الله رجلًا منهم ينذرهم غضبه تعالى إن عصوه، ويبشر المؤمنين ببشائر الخير والسعادة مقابل ما أطاعوه، لقد كذب الكافرون واتهموا رسول ربهم بالسحر والجنون. إن ربكم - أيها الناس - هو رب العالم كله، سماواته وأرضه، خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على عرشه يدبر الأمر ويصرف المقادير، ولا يشفع أحد يوم القيامة إلا بإذنه، فأخلصوا له العبادة، فَمَرْجِعُكُم إليه، فهو المبدئ والمعيد، وللمؤمنين عنده البشرى وللكفار الوعيد.

فقوله: {الر} - تقدم الكلام على مفهوم الحروف المقطعة في أوائل سورة البقرة وآل عمران. وخلاصة القول: هذا القرآن هو من جنس هذه الأحرف، وهو مع ذلك الكلام المعجز الذي لا يمكن لبشر أن يأتي بسورة من مثله.

وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} - تأكيد لإعجاز هذا القرآن، فهو كلام الله

ص: 603

العظيم، وهذه الآيات هي آيات هذا الكتاب المحكم، الذي أحكمه الله وبيَّنه لعباده.

وفي التنزيل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].

قلت: ومن ذهب من المفسرين إلى أن المقصود التوراة والإنجيل أو الزبور فلا مناسبة له ولا وجه، بل السياق يدل على أن الوصف للقرآن الكريم.

وقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} . قال ابن عباس: (لما بعث الله محمدًا رسولًا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: الله أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد! فأنزل الله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ}، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف: 109]).

وعن ابن ابن جريج قال: (عجبت قريش أن بُعث رجل منهم. قال: ومثل ذلك: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]، قال الله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} [الأعراف: 69]).

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: أكان عجبًا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم، بِإنْذارِهِم عقاب الله على معاصيه، كأنهم لم يعلموا أن الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر، فتعجّبوا من وحينا إليه).

وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} - فيه أقوال متقاربة:

1 -

قال الضحاك: (ثواب صدق). وقال مجاهد: ({أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، قال: الأعمال الصالحة). وقال ابن عباس: (يقول: أجرًا حسنًا بما قدموا من أعمالهم). وقال ابن أبي مغيث عن مجاهد: (صلاتهم، وصومهم، وصدقتهم، وتسبيحهم). وقال: ({قَدَمَ صِدْقٍ}: خير).

2 -

قال ابن عباس: ({وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، يقول: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول).

3 -

وعن قتادة: (أي: سلف صدق عند ربهم). وعن الحسن: ({أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم}، قال: محمد شفيع لهم).

واختار ابن جرير قول من قال: أن لهم أعمالًا صالحة عند الله، يستوجبون بها منه الثواب. قلت: ولا مانع من بقية المعاني، فمن أسلف في العمل الصالح ومات عليه

ص: 604

فإن السعادة قد سبقت له في اللوح المحفوظ، وتناله شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله يوم القيامة، وكذلك كل بشائر الخير.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2، 3].

2 -

قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وفي سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد بسند صحيح، عن أبي أمامةَ - صُدَيِّ بنِ عَجْلانَ الباهلي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ في حَجَّةِ الوداع فقال: [اتقوا الله، وصلوا خَمْسَكُم، وصوموا شَهْرَكم، وأدُّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أُمَرَاءَكُم، تدخلوا جَنَّة ربِّكم](1).

قال النسفي: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي سابقة وفضلًا ومنزلة رفيعة، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدمًا كما سميت النعمة يدًا لأنها تعطى باليد، وباعًا لأن صاحبها يَبُوع بها).

وقوله: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} .

قرأ أهل المدينة والبصرة: {إن هذا لسِحْر مبين} - يعنون القرآن.

وقرأ أهل الكوفة وجماعة: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} - يعنون النبي صلى الله عليه وسلم. وكذبوا فيما قالوا على التأويلين، وهو دليل عجزهم أمام هذا الوحي العظيم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم الكريم، صلوات الله عليه وعلى جميع المرسلين.

وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} .

أي: إن الله ربكم هو رب العالم كله، سماواته وأرضه، وما فيهن من ألوان الخلائق، فقد أبدع السماوات والأرض في ستة أيام - كهذه الأيام - ثم علا على

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (616)، وأخرجه أحمد (5/ 251)، وإسناده صحيح. وصححه ابن حبان (795)، والحاكم (1/ 9، 389) - ووافقه الذهبي.

ص: 605

العرش، فله الكبرياء وحده وتصريف أمور هذا الكون بيده. قال مجاهد:({يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}: يقضيه وحده).

أخرج الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: [خلق الله التربة في السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يومَ الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل](1).

وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة](2).

وقوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} . أي: لا يتجرأ أحد على الشفاعة لأحد يوم القيامة إلا من بعد إذن الله تعالى.

كما في التنزيل:

1 -

قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

2 -

وقال تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23].

3 -

وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].

وفي صحيح مسلم من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يوم القيامة ماجَ الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع إلى ربك فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله. فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته. فيأتون عيسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد. فيأتوني فأقول: أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2789) - كتاب صفات المنافقين، ورواه أحمد، ورواه أبو يعلى في المسند (288/ 1)، والبيهقي في كتاب "الأسماء والصفات"(ص 275 - 276).

(2)

إسناده صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(114/ 1)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 290)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (109).

ص: 606

بتلك المحامد وأخِرُّ له ساجدًا فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع. فأقول يا رب أمتي أمتي. .] الحديث (1).

ويروي الطبراني بإسناد حسن عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[صنفان من أمتي لن تنالَهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق](2).

وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} .

أي: هذه بعض صفات ربكم العظيم في الخلق والتصريف والتدبير، فأفردوه بالعبادة والتعظيم، فإنه لا تصلح العبادة والإنابة والرجاء والدعاء إلا له، أفلا تتعظون وتعتبرون.

وقوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} .

أي: إن مآلكم ومعادكم - أيها الناس - في نهاية المطاف إليه سبحانه، فهو الذي بدأ إنشاء الخلق وإحداثه، ثم هو يعيده بعد فنائه وبلائه، ليقوم الجميع بين يدي رب العالمين، فيقابل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فالمؤمنون في غبطة وسرور، والكافرون في جحيم وسعير، فتبارك الله العلي العظيم.

وعن مجاهد: ({يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} قال: يحييه ثم يميته، ثم يحييه).

أو قال: (يحييه، ثم يميته، ثم يبدؤه، ثم يحييه). وقوله: {بِالْقِسْطِ} - قال مجاهد: (بالعدل). وقال ابن جرير: ({بِالْقِسْطِ}، يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسنَ من الثواب، والصالحَ من الجزاء في الآخرة وذلك هو "القسط"، و"القسط" العدلُ والإنصاف).

وأما الشراب الحميم فهو الشراب الذي أُغلي واشتد حرّه، فهو كالمهل يشوي الوجوه. وأصله في لغة العرب محموم، فهو مفعول صرف إلى فعيل، والمحموم: المُسَخَّن. قال الرازي: (الحميم: الماء الحار) - وكل مسخن عند العرب فهو حميم.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الإيمان (193)، والبخاري في التوحيد (انظر: مختصر صحيح البخاري - حديث رقم - 2133)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

حديث حسن. أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. انظر "مجمع الزوائد"(5/ 235)، ومعجم الطبراني الأوسط (1/ 197/ 2) نحوه. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (471).

ص: 607

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 57، 58].

2 -

قال تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43، 44].

3 -

وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 41 - 43].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ناركم هذه التي يُوقد ابن آدم، جزءٌ من سبعين جزءًا من حرّ جهنم. قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فُضِّلَت عليها بتسعة وستين جزءًا كلها مثل حرها](1).

وفي جامع الترمذي ومسند الإمام أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عُصارة أهل النار، طينة الخبال](2).

5 -

10. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 149 - 150) من حديث أبي هريرة. وانظر مختصر صحيح مسلم (1976) - كتاب صفة النار.

(2)

حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن (2492). انظر صحيح سنن الترمذي (2025). ورواه أحمد. انظر تخريج "مشكاة المصابيح"(5112)، وصحيح الجامع الصغير (7896).

ص: 608

النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}.

في هذه الآيات: إخبار من الله تعالى عن بعض آياته الكبيرة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، فقد جعل شعاع الشمس ضياء وجعل سلطانها بالنهار، وجعل شعاع القمر نورًا وجعل سلطانه بالليل، وقدّر القمر منازل لحساب أوقات السنين وعدد الأيام ومعرفة مواسم الخير، خلق ذلك كله بالحق لقوم يعلمون. إن في تعاقب الليل والنهار وما أبدع الله من الخلق في أرجاء السماوات والأرض لآيات للمتقين. إنَّ الذين اختاروا الركون إلى هذه الحياة الدنيا الزائلة وتجاهل الحياة الآخرة الباقية وما وجب في حق الله عليهم لمآلهم إلى نار الجحيم. وأما المؤمنون الذين عملوا الصالحات فيرشدهم ربهم يوم القيامة إلى منازلهم في جنات النعيم. ينطقون بالتسبيح ويُحيون بالسلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

فقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} - أي للعالمين بالنهار. {وَالْقَمَرَ نُورًا} - أي لهم بالليل.

قال القاسمي: (والضياء أقوى من النور). و {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} - أي القمر. قال ابن كثير: (فأول ما يبدو صغيرًا ثم يتزايد نوره وجرمُه، حتى يستوسقَ ويكمُلَ إبدارُه، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 39، 40].

2 -

وقال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].

وقوله: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} - فبحركة الشمس تُعرف الأيام، وبمنازل القمر ومسيره تُعرف الشهور والأعوام. قال القاسمي:(لكون منازله معلومة محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدة في تواريخ العرب {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي حساب الشهور والأيام، مما نيطَ به المصالح في المعاملات والتصرفات).

وقوله: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقّ} . أي: ما كان هذا النظام البديع في الخلق عن عبث، بل من ورائه حكمة بالغة وحجة من الله تعالى على خلقه.

ص: 609

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].

2 -

وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

وقوله: {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . أي: يبين الحجج والأدلة لقوم يتدبرونها فيعلمون ما وراءها من غاية الخلق وواجبات العبودية لله وكمال التعظيم.

وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} .

أي: إن تعاقب الليل والنهار، وهذا الخلق العجيب المنتشر في أرجاء السماوات وأنحاء الأرض وأعماق المحيطات والبحار، كله آيات عظيمة دالة على وجوب تعظيم الواحد القهار، وصرف العبادة له وحده والخوف من معصيته وغضبه فهو العزيز الجبار.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].

2 -

وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].

3 -

وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

أي: إن الأشقياء الذين آثروا الركون إلى هذه الحياة الدنيا يلهثون وراء زينتها وشهواتها بما يسخط الله تعالى، وهم لا يرجون لقاءه ولا الدار الآخرة، بل إنهم كفروا بالله واليوم الآخر، فهؤلاء مصيرهم عذاب الخزي في نار جهنم بما كانوا يكسبون.

قال قتادة: ({إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} ، قال: إذا شئت رأيتَ صاحب دُنْيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها

ص: 610

يسخط، ولها يرضى). وقال ابن زيد:(هؤلاء أهل الكفر).

وقال الحسن: (والله ما زيَّنوها ولا رَفَعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها، والشرعيّة فلا يأتمرون بها، فإن مأواهم يومَ معادهم النار، جزاءً على ما كانوا يكسبون في دُنياهم من الآثام والخطايا والأجرام، مع ما هُم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر).

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} .

هذه هي المرتبة الرابعة من مراتب الهداية كما وردت في القرآن والسنة. فإن مراتب الهداية:

1 -

هداية الخالق خلقه لمصالحهم.

2 -

هداية الدلالة والإرشاد.

3 -

هداية التوفيق والإلهام.

4 -

هداية الله المؤمنين يوم القيامة إلى الجنة.

فقوله: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} . قال مجاهد: (يكون لهم نورًا يمشون به).

وقال ابن جرير: (يرشدهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24].

2 -

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 - 6].

قال مجاهد: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} الآية. يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدًا).

وقال ابن عباس: (هم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم).

وقال محمد بن كعب: (يعرفونها كما تعرفون بيوتكم في الدنيا إذا انصرفتم من يوم الجمعة).

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، يتقاصُّون مظالم كانت بينهم في

ص: 611

الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم بدخول الجنة، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا] (1).

وفيه وفي مسند أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأحوالكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم إذا دخلوا الجنة](2).

والخلاصة: إن أهل صدق الإيمان واليقين بالله واليوم الآخر وقد تهيؤوا للقاء ربهم بالعمل الصالح يرشدهم ربهم يوم القيامة بنور إيمانهم إلى مساكنهم في الجنة تجري تحتهم الأنهار في بساتين النعيم.

وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

إخبار من الله تعالى عن دعاء المؤمنين في الجنة أنه تسبيح وتنزيه لله العظيم، الذي أولاهم هذا الخير من ألوان النعيم، والسلام تحيتهم فيما بينهم، والحمد لله ختام كل لذة ونعمة يرونها ويتنعمون بها.

قال قتادة: ({دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ}. ذلك دعاؤهم فيها، {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}).

وفي صحيح مسلم من حديث جابر مرفوعًا: [يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس](3). وفي رواية: [قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك. يلهمون التسبيح والحمد].

أي: تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس كما تلهمون أنتم النفس.

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [أول زمرة تَلِجُ الجنة صورتُهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصُقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتُهم فيها الذهب، وأمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامِرُهم الألُوَّة، ورشحُهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يُرى مُخُّ سُوقِها من وراء اللحم من الحُسنِ، لا اختلاف

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (2440) - كتاب المظالم. باب قصاص المظالم. وانظر (6535) - كتاب الرقاق. باب القصاص يوم القيامة.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (6535) - كتاب الرقاق، ومسند أحمد (3/ 13)، (3/ 74).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 147). والجشاء: ريح يخرج من الفم عند الشبع يرافقه صوت.

ص: 612

بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا] (1).

قلت: وهذا يدل على ارتفاع العبادات والتكاليف عن أهل الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة.

ومعنى سبحانك هو تنزيه الرب تعالى وتعظيمه وإجلاله عما لا يليق به.

وقال علي رضي الله عنه: (هي كلمة رضيها الله تعالى لنفسه).

وقد أفاد ابن القيم رحمه الله في مفهوم هذه الآية فقال: (الدعوى مثل الدعاء، والدعاء يراد به الثناء ويراد به المسألة. وفي الحديث: أفضل الدعاء الحمد لله رب العالمين. فهذا دعاء ثناء وذكر يلهمه الله أهل الجنة. فأخبر الله سبحانه عن أوله وآخره، فأوله تسبيح، وآخره حمد يلهمونهما، كما يلهمون النفس. وفي هذا إشارة إلى أن التكليف في الجنة يسقط عنهم، ولا تبقى عبادتهم إلا هذه الدعوة التي يلهمونها. وفي لفظة {اللَّهُمَّ} إشارة إلى صريح الدعاء فإنها متضمنة لمعنى يا الله فهي متضمنة للسؤال والثناء)(2).

11 -

14. قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عباده أنه لو يعجل استجابته لكثير من دعائهم أثناء غفلتهم كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم، ويَدَعُ سبحانه الذين لا يؤمنون بالحساب في تمردهم وغيّهم يترددون. إنه إذا نزل بالإنسان الضر سارع إلى الدعاء لكشفه، فإذا

(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (3246)، (3254)، (3245). ومختصر صحيح مسلم (1956 - 1957)، وصحيح الجامع الصغير (2561 - 2563).

(2)

انظر كتاب: "صفة الجنة في القرآن والسنة" - وانلي - ص (216 - 217).

ص: 613

كشفه الله له تنكّر لشكره وزيّن له الشيطان الكبر والعجب والغرور. لقد أهلك الله أممًا كثيرة عاشت على الكبر وكذبت الرسل فأذاقها الله ما يذيق المجرمين. ثم جعلكم - أيها الناس - سكانًا في الأرض من بعدهم، لِتُمْتَحنوا كما امتَحَنَ من قبلكم ولينظر كيف تعملون.

فقوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} .

قال مجاهد: (قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه! فلو يعجِّلُ الله الاستجابة لهم في ذلك، كما يستجاب في الخير، لأهلكهم).

والآية تدل على حلم الله سبحانه ولطفه بعباده، فإنه لو استجاب دعاء الداعي منهم - حالة غضبه أو ضيقه - وهو يدعو على نفسه أو ماله أو ولده أو أهله لأصابهم العنت والهلاك ولنزل بهم ما يحذرون من الضيق والهمّ. قال ابن جرير:({لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}، يقول: لهلكوا، وَعُجِّلَ لهم بالموت، وهو الأجل).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].

2 -

وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45].

ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أمِّ سَلَمَةَ قالت: [دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سَلمَةَ وقد شَقَّ بَصَرُه، فأغْمَضَهُ، ثم قال: إن الروح إذا قُبضَ تبعه البصر. فَضَجَّ ناسٌ من أهله فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون. . .] الحديث (1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تَدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (920) - كتاب الجنائز - باب في إغماض الميت والدعاء له، إذا حُضِر، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

ص: 614

خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة نَيْل فيها عطاء فيستجيبَ لكم] (1).

الحديث الثالث: أخرج الحاكم بسند صحيح على شرط البخاري، عن أم الفضل رضي الله عنها:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليهم، وعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي، فتمنى عباس الموت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم! لا تتمن الموت، فإنك إن كنت محسنًا، فان تؤخر تزداد إحسانًا إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئًا فأن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلا تتمن الموت](2).

وقوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .

أي: فندع الذين لا يؤمنون بالحساب والبعث ولا يخافون العاقبة في تمردهم وطغيانهم وغيّهم يترددون.

وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} .

قال ابن جريج: ({دَعَانَا لِجَنْبِهِ} قال: مضطجعًا). وقال ابن جرير: ({دَعَانَا لِجَنْبِهِ}، يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه، {لِجَنْبِهِ}، يعني مضطجعًا لجنبه، {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}، بالحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به).

وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} .

أي: حتى إذا استجاب الله له وكشف عنه ما نزل به من الضيق والهم والمصيبة عاد لغفلته ونسي شكر ربه على ما فرّج عنه، وربما خاض من جديد في طريقته الأولى في العتو والكبر والإسراف.

وقوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} - ذمٌّ لمن كان هذا حاله في التقلب، فهو يستكين ويتواضع لربه عند النازلة، ثم لا يلبث أن يعود لتكبره عن شكره تعالى وعبادته عند الفرج والفرح.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (1532) - كتاب الصلاة. باب النهي: أن يدعو الإنسان على أهله وماله - وهو بإسناد على شرط مسلم، وانظر صحيح سنن أبي داود (1356).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (1/ 339) من حديث أم الفضل رضي الله عنها وأخرجه الشيخان، والبيهقي (3/ 377) من حديث أنس نحوه مرفوعًا.

ص: 615

وفي التنزيل من آفاق هذا المعنى:

1 -

قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51].

2 -

وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11].

فاستثنت الآية من تلك الصفة الذميمة أهل الإيمان والهداية والصبر، فإنهم حذرون من السقوط في تلك الهاوية، وبذلك جاءت نصوص السنة العطرة، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن صُهَيْبٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أَمْرَه كُلَّهُ له خَيْرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابَتْهُ سَرّاء شكَرَ، فكان خَيْرًا له، وإن أصابَتْهُ ضَرَّاءَ صَبَرَ، فكان خيرًا له](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والدارمي بسند صحيح على شرط مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: [بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول الله! ومم تضحك؟ قال: عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يحب حمد الله وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن](2).

الحديث الثالث: أخرج الطيالسي بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: [عجبتُ للمسلم إذا أصابته مصيبةٌ احتسب وصبر، وإذا أصابه خيرٌ حمدَ الله وشكرَ، إنَّ المسلم يؤجرُ في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه](3).

الحديث الرابع: يروي عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن أنس بن مالك قال: قال

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2999) - كتاب الزهد - باب المؤمن أمره كله خير.

(2)

إسناده صحيح على شرط مسلم. أخرجه الدارمي (2/ 318)، وأحمد (6/ 16)، وبنحوه روى الإمام مسلم (8/ 227)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (147).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الطيالسي (211) بإسناد صحيح، وأخرجه البيهقي. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (147)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (3881).

ص: 616

رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له](1).

وفي لفظ: [عجبتُ للمؤمن، إن الله تعالى لم يقض له قضاءً إلا كان خيرًا له].

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} .

إخبار من الله تعالى عن مصير الأمم المكذبة رسلها فيما مضى، فقد نزل بهم العذاب والهلاك عند طغيانهم بعدما جاءتهم حجج الحق والوحي البالغة والمعجزات، وقد أصرّوا على الكفر والظلم حتى لو بقوا، ومن ثمَّ فإن طغاة مكة - يا محمد - داخلون في مصير من قبلهم من أولئك القوم المجرمين إن أصروا على الكفر والتكذيب بالقرآن والنبوة.

قال النسفي: ({وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} إن بقوا ولم يهلكوا، لأن الله علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وهو عطف على {ظَلَمُوا} أو اعتراض، واللام لتأكيد النفي، يعني أنّ السبب في إهلاكهم تكذيبهم للرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل {كَذَلِكَ} مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك {نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .

الخلائف: جمع خليفة، أي جعلناكم - أيها الناس - سكانًا في الأرض تخلفون أولئك القوم - وتلك القرون السالفة - الذين أهلكناهم، لينظر ربكم في أعمالكم هل تخالفون منهج أولئك الهالكين أم تستقيمون على طاعته وتعظيم شرعه ووحيه.

قال القرطبي: ({لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب، ولم يزل يعلمه غيبًا. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر إظهارًا للعدل. وقيل: النظر راجع إلى الرسل، أي لينظر رسلنا، وأولياؤنا كيف أعمالكم).

قلت: والراجح هو نظر الرب سبحانه في أعمال عباده وأحوالهم التي اختبرهم بها، وهو أعلم بها، وإنما هو يحصيها عليهم ليوافيهم بها، كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15].

(1) إسناده صحيح. رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (5/ 24)، وأبو يعلى (200/ 2) ورواه أبو نعيم في الحلية. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (148)، وصحيح الجامع الصغير (3880).

ص: 617

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال:[. . . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم - أيضًا - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:[إنّ الدنيا حُلْوةٌ خَضِرَةٌ، وإن الله مُسْتَخْلِفُكُم فيها، فينظرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أوَّلَ فتنة بني إسرائيل كانت في النساء](3).

وقوله: "مستخلفكم" أي جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته وشهواتكم. "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء". أي: احذروا الافتتان بهذه الدنيا الفانية، وبأخطر ما فيها على الرجال، ألا وهي فتنة النساء، فقد ضلت أمم بذلك.

15 -

17. قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2577) - كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، في أثناء حديث طويل.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2564)(33)، (34) - كتاب البر والصلة. باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، من حديث أبي هريرة.

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2742) - كتاب الرقاق - باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 618

تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن سلوك المستكبرين عند سماع قوارع القرآن تتلى عليهم، فهم في تنطع وغرور، يطلبون استبدال هذا القرآن في محاولة للنفور، فقل لهم يا محمد: إني لا أملك تبديله من تلقاء نفسي، وإنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي، وإني أخاف إن تجرأت على الوحي نحو تجرئكم عذاب يوم عظيم. إنه لو شاء الله ما سمعتم هذا القرآن ولا علمتم به، فقد مكثت فيكم عمرًا قبل أن أتلوه عليكم أفلا تعقلون؟ ! إنه لا أحد أشد ظلمًا ممن افترى الكذب على الله أو تطاول على آياته إنه لا يفلح المجرمون.

فقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} - إخبار من الله تعالى عن سوء سلوك الكافرين عند سماع حجج الحق وقوارع الوحي، فحاولوا صَرْفَ هذا البلاغ المبين والإنذار القويم إلى الهزل والتنطع بطلبهم غيره من نمَطٍ آخر، أو تبديله بغيره.

وقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} . أي: قل لهم - يا محمد -: كيف لي أن أبدِّلَه وقد أوحاه الله إليّ، وإنما أنا رسول مُبَلِّغ عن الله تعالى.

وقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .

أي: إني أخشى إن بدلت وحيه - تعالى - وحولت حلاله أو حرامه إلى ما يناسب أهواءكم، وخالفت هديه ومنهاجه، فعصيته بذلك، عذاب يوم شديد الهول والآلام، يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وتحسب الناس سكارى وما هم بسكارى.

وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .

قال ابن عباس: (يقول: لو شاء الله لم يعلمكموه). أو قال: (يقول: ما حذّرتكم به).

ص: 619

وعن قتادة: ({فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} قال: لبث أربعين سنة).

والخلاصة في معنى الآية: قل لهم - يا محمد - لهؤلاء المتنطعين الذين يريدون تبديل هذا القرآن ليأتي بأحكام تناسب أهواءهم -: إنّ الله تعالى لو شاء ما حذّرتكم به ولا أعلمكم به، فقد مكثت فيكم أربعين سنة قبل أن أتلوه عليكم، وذلك قبل أن يوحيه الله إلي.

قال ابن جرير: ({أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، أني لو كنت منتحلًا ما ليس لي من القول، كنت قد انتحلته في أيام شبابي وحَداثتي، وقبل الوقت الذي تلوته عليكم، فقد كان لي اليوم، لو لم يوحَ إليّ وأُومر بتلاوته عليكم، مندوحةٌ عن معاداتكم، ومتَّسَعٌ، في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إليَّ وأومر بتلاوته عليكم).

وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} .

أي: ليس هناك أشد ظلمًا وأكبر إجرامًا ممن تطاول بالكذب على الله أو كذّب بآياته. قال ابن كثير: (ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ ! ).

قلت: إنه ما من شخص يتصدى لأمر الناس إلا وسلّطَ الناس أنظارهم عليه لدراسة أحواله، فما تمر الأعوام إلا وقد انكشف على حقيقته، وخاصة إذا تقلب بين أوضاع الضعف والقوة، والخوف والأمن، والفقر والغنى، وقلة الأتباع وكثرتهم، والشدة والرخاء، كما حدث في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا تأملنا أحواله وجدْناها تشهد بأنها أحوال لا تكون إلا لنبي، ولقد شهد له قومه بالصدق فسمَّوه قبل أن يبعثه الله بالرسالة "الصادق الأمين"، حتى قال له أبو جهل:"إنا لا نكذبك، ولكن نكذِّبُ ما جئت به" فأنزل الله قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].

أخرج الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: [أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستبنته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب. قال: فكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: أيها

ص: 620

الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام] (1).

18 -

20. قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}.

في هذه الآيات: توبيخُ الله المشركين في عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم وادعائهم حصول الشفاعة لهم منهم، فقل لهم - يا محمد -: هل تخبرون الله بما لا يعلم في السماوات والأرض! تنزه الله عما يشركون. إن الناس كانوا على دين واحد فتفرقت بهم السبل حين اتبعوا الشياطين، ولولا قضاء الله أن لا يهلك قومًا إلا بعد انقضاء آجالهم لفصل بينهم بإهلاك المجرمين ونجاة المؤمنين. إن المشركين يطالبون بالمعجزات لإثبات النبوة، والله تعالى يُقَدِّرُ ما يصلح شؤون عباده، وهو علام الغيوب.

فقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} . أي: ويعبد هؤلاء المشركون - يا محمد - من دون الله ما لا يملك لهم نفعًا ولا ضرًا. قال النسفي: ({مَا لَا يَضُرُّهُمْ} إن تركوا عبادتها {وَلَا يَنْفَعُهُمْ} إن عبدوها).

وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . قال القرطبي: (وهذه غاية الجهالة منهم، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضر في الحال. وقيل: {شُفَعَاؤُنَا} أي تشفع لنا عند الله في إصلاح معائشنا في الدنيا).

وقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

(1) حديث صحيح. رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه. انظر صحيح الترغيب (1/ 612) - كتاب النوافل.

ص: 621

أي: قل لهم يا محمد، هل تنبئون الله بأمر غاب عنه، فهم شفعاء لكم من حيث لا يعلم! ! وهو ملك السماوات والأرض وما فيهن! ! تنزه الله وتعالى أن يكون له شريك.

أخرج البخاري ومسلم عن معاذ قال: [كنتُ رِدْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا مُؤخرة الرحل فقال: يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا. فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا](1).

وفي المسند وصحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من مات وهو يدعو من دون الله نِدًّا دخل النار](2).

وقوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} . قال مجاهد: (حين قتل أحد ابني آدم أخاه). وقال الزجاج: (هم العرب كانوا على الشرك). وقيل: كل مولود يولد على الفطرة، فاختلفوا عند البلوغ. والمقصود: أن الناس كانوا على دين واحد وملة واحدة ثم افترقت بهم السبل حين اتبعوا الشياطين. قال ابن عباس: (كان بين آدم ونوح عشرةُ قرون، كُلُّهم على الإسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس، وعُبدت الأصنامُ والأندادُ، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحُجَجِه البالغة وبراهينه الدامغة، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]).

أخرج البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ} [نوح: 23].

قال ابن عباس: [أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يَجْلِسُون أنْصَابًا وسَمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعْبَدْ، حتى إذا هَلَكَ أولئكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (13/ 300) - كتاب التوحيد. وأخرجه مسلم (30) - كتاب الإيمان، من حديث معاذ رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (8/ 132) - في تفسير سورة البقرة، وأخرجه أحمد (1/ 462 - 464)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4920) - كتاب التفسير - سورة نوح، آية (23).

ص: 622

ثم انتقل الشرك إلى جزيرة العرب عن طريق الشقي عمرو بن لحي.

فقد أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنّ أول من سيَّبَ السوائب وعَبَدَ الأصنام أبو خزاعة عمرو بنُ عامر، وإني رأيته في النار يَجُرُّ أمعاءَه فيها](1).

وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قومًا إلا بعد انقضاء آجالهم - لقضي بينهم بأن يُهلك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق).

وقوله: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} . أي: يقول هؤلاء المشركون: لولا أنزل على محمد آية من ربه كدليل على ما يقول. قال ابن كثير: (يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة، أو أنْ يُحَوِّل لهم الصفا ذهبًا، أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارًا، ونحو ذلك مما الله عليه قادر، ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله).

قلت: والإيمان بالله لا يحتاج إلى دليل، فكل ما في هذا الكون الفسيح من السماوات والأرض والجبال والبحار والرياح والأقمار والمجرات يدل على الخالق العظيم، وإنما كان التحدي في إثبات النبوة، فأكرم الله نبينا صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم الذي شده العرب وألقاهم أمامه حائرين، وحملهم عند سماع قوارع آياته فخروا ساجدين. وإنما حاولوا تنطعًا سؤال المعجزات كبقية الأمم، وهذا الذي سألوه زيادة يشكل إنكارها خطرًا مضاعفًا على منكريها كما قال تعالى:

1 -

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].

2 -

{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96، 97].

3 -

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111].

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 446) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وانظر صحيح البخاري (6/ 400)، وصحيح مسلم (8/ 155).

ص: 623

4 -

{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15].

ومع ذلك فقد استجاب الله تعالى - أمام إلحاح كفار قريش وطغاة مكة - فأراهم معجزة انشقاق القمر نصفين، إلا أنهم عادوا إلى كفرهم متهمين ما رأوا بالسحر شأن الأمم قبلهم لتحق سنة الله فيهم.

أخرج الترمذي من حديث أنس قال: [سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين، فنزلت: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أي ذاهب](1).

وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه: [أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شِقَّتَين حتى رأوا حراءً بينهما](2).

وقد روى الحدث أيضًا - الإمام البخاري - عن شاهد عيان وهو عبد الله بن مسعود حيث قال: [انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فقال: اشهدوا، فذهبت فرقة نحو الجبل](3).

وقوله: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} .

قال النسفي: ({فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} أي هو المختص بعلم الغيب فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة - ليس غير - {فَانْتَظِرُوا} نزول ما اقترحتموه {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات).

21 -

23. قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي من حديث أنس. انظر سنن الترمذي (3517) - في التفسير - سورة القمر. وانظر صحيح سنن الترمذي (2619).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - (انظر فتح الباري: 7/ 182).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود. انظر فتح الباري - شرح صحيح البخاري (6/ 631)، وصحيح مسلم بشرح النووي (17/ 143).

ص: 624

وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن مسارعة الناس إلى تناسي نعمة الله عليهم في إخراجهم من العسر إلى اليسر ومن الكرب إلى الفرج، بل إلى المكر في آياته والاستهزاء بشرعه، فقل لهم - يا محمد -: إن الله أسرع بكم مكرًا، وملائكته تكتب عليكم ما تمكرون. هو الذي يحملكم في البر والبحر آمنين، فإذا هاج البحر بكم ورأيتم الموت أخلصتم له الدعاء والدين، وعاهدتموه أن تكونوا من الشاكرين. فلما أنجاكم رجعتم إلى البغي متنكرين، وما بغيكم إلا على أنفسكم، فمآلكم إلى ربكم لو كنتم تعلمون.

فقوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} . أي: فَرَجًا من بعد كرب، أو يسرًا من بعد شدة، أو عافية من بعد مرض، أو خِصْبًا من بعد جَدْب، أو مطرًا من بعد قَحْط، ونحو ذلك مما يجعل الله فيه بعد العسر يسرًا على الناس، {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا}. قال مجاهد:(استهزاء وتكذيب).

وقوله: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} . أي: قل - يا محمد - لهؤلاء المشركين المستهزئين بالحق وتعظيم الوحي ومنهاج النبوة، الله أسرع مِحَالًا بكم وهو يستدرجكم من حيث لا تشعرون.

وفي التنزيل: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].

ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق معنى الآية أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا رأيت الله تعالى يُعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 145)، ورواه الطبراني. انظر "تخريج الإحياء"(4/ 115) وحسنه الحافظ العراقي، ورواه البيهقي، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (414).

ص: 625

وفي رواية: ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله تعالى ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. وفي لفظ: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](1).

قال قتادة: (بغتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سَلْوتهم ونعمتهم وغِرَّتهم. فلا تغتروا بالله).

الحديث الثالث: أخرج الطبراني ورجاله ثقات عن ابن عباس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله](2).

قال أبو سليمان الداراني: (ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخوف فَسَد القلب).

الحديث الرابع: أخرج الشيخان من حديث زيد بن خالد الجهني أنه قال: [صلّى لنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثْر سَماءَ كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبحَ من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأمّا مَنْ قال: مُطِرنا بفضلِ الله ورَحْمتهِ فذلك مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، وأمّا مَنْ قال: بِنَوْءِ كذا وكذا، فذلك كافِرٌ بي ومؤمنٌ بالكوكب"](3).

وقوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} . قال القرطبي: (يعني بالرسل الحَفظة).

وقال النسفي: (إعلام بأن ما تظنونه خافيًا لا يخفى على الله وهو منتقم منكم).

وقوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} . أي: يُسَيِّرُكُم في البر على الظَّهر، وفي البحر في الفلك، يحفظكم ويكلؤكم بحراسته.

وقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} . أي: حتى إذا ركبتم في السفن وجرت في البحر بريح طيبة فرح لها ركبان الفلك واطمأن الناس في رحلتهم،

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي موسى. انظر مختصر صحيح مسلم (1831)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (492) لتفصيل البحث.

(2)

إسناده صحيح. انظر تحقيق فتح المجيد (422)(424)، والمرجع السابق.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (846) - كتاب الأذان -، وأخرجه مسلم في الصحيح (71)، وأبو داود في السنن (3906).

ص: 626

{جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} أي: شديدة مفاجئة. {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} . أي: عصف الموج بركبان السفينة من كل اتجاه {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} . أي: أيقنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق بمصيرهم، فهنالك أخلصوا لله الدعاء وأفردوه بالتعظيم لينجيهم.

وهو قوله: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . قال قتادة: (إذا مَسَّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء).

وقوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . أي: دعوا الله مخلصين له الدين، لئن كشفت عنا هذه الحال وكتبت لنا النجاة من أهوالها وظلماتها لنخلصن لك في الشكر والطاعة والعبادة.

وقوله: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} . أي: فلما خلّصهم وأنقذهم رجعوا إلى العمل بالفساد والمعاصي. قال القرطبي: (والبغي: الفساد والشرك، من بَغى الجرحُ إذا فسد، وأصله الطلب، أي يطلبون الاستعلاء بالفساد. {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: بالتكذيب، ومنه بغت المرأةُ طلبت غير زوجها).

وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .

أي: إن اعتداءكم - أيها الناس - إنما هو على أنفسكم، وظلمكم يعود بالوبال عليها، وهذا البغي والتفلت إنما هو متاع الحياة الدنيا الفانية. قال سفيان بن عيينة:(أراد أن البغي متاع الحياة الدنيا، أي عقوبته تعجل لصاحبه في الدنيا).

قلت: وهذا الذي قاله سفيان منسجم مع الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيح عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من ذنب أحرى أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يُدَّخر له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي](1).

وقرأها ابن أبي إسحاق: {متاعَ} بالنصب على أنه مصدر، والتقدير: تتمتعون متاعَ الحياة الدنيا، أو بالنصب على الحال أو الظرفية. في حين قرأها الباقون {متاعُ} بالضم، أي هو متاع الحياة الدنيا، وكلاهما مشهور عند القراء.

وقوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . أي: إنما مآلكم ومصيركم في

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(67). وأخرجه الحاكم (2/ 356)، وأحمد (5/ 36)، وابن حبان (455)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وله شواهد.

ص: 627

نهاية المطاف إلى الله سبحانه، وهو مخبركم بجميع ما كنتم تعملون ثم مجازيكم بها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنّ إلا نفسه.

24 -

25. قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}.

في هذه الآيات: تشبيهُ الله تعالى حقيقة هذه الحياة الزائلة بالماء أنزله من السماء فأنبت به النبات، فاستهلكه الناس والدواب والأنعام. إنه إذا ظهر حسن الأرض وبهاؤها، وظن أهلها بما أوتوا من علم التحكم بشؤونها والسيطرة على تقلباتها، أنزل الجبار أمره فيها، فجعلها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس عقابًا لأهلها، ويفصل سبحانه هذه الآيات لقوم يتفكرون. وهو - تعالى - يدعو عباده إلى الجنة دار السلام، والأمن والأمان، ويهدي من يستحق إلى صراطه المستقيم.

فقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} - تمثيل لحقيقة حال هذه الحياة الفانية البالية. قال ابن كثير: (ضرب تعالى مثلًا لزهرةِ الحياة الدنيا وزينتها وسُرعَةِ انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء، مما يأكلُ الناس من زَرْعٍ وثِمار، على اختلاف أنواعها وأصنافِها، وما تأكل الأنعام من أبّ وقَضْب وغير ذلك).

وقوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} .

إيذانٌ من الله تعالى بانهدام هذه الحضارة المادية الظالم أهلها، الذين أفادوا منها في البغي والظلم ونشر الفساد في الأرض، ولم ينتفعوا منها في إقامة العدل ورفع راية الحق، بل فرحوا بما أوتوا من العلم وظنوا أنهم تمكنوا من السيطرة على تقلبات الظواهر الطبيعية والكونية، فهنالك يأذن الله تعالى بوضع حدّ لهذا الكبر والغرور، إذ

ص: 628

لا يليق الكبر إلا بالله العظيم، فهو الجبار المتكبر وحده لا شريك له.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ: 45].

2 -

وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 82، 83].

- وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].

ومن كنوز صحيح السنة ما يدل على آفاق هذا المعنى في اقتراب انقراض هذا البنيان المادي المهدّد من داخله بالدمار والخراب، وعودة أساليب القوة إلى ما كانت عليه في كشف البطولات وكفاءات الرجال والأبطال:

الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: [لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قَوْمًا صِغارَ الأعين، عِرَاض الوجوه، كان أعيُنَهم حَدَقُ الجراد، كأن وجوههم المِجانُّ المُطْرَقة، ينتعلون الشَّعْرَ، ويتخذون الدَّرْقَ، حتى يربطوا خيولهم بالنخل](1).

الحديث الثاني: أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ذي مِخْبَر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ستصالحون الروم صلحًا آمنًا، فتغزون أنتم وهم عدوًا من ورائكم، فتُنْصَرون وتغنمون وتسلمون ثم ترجعون، حتى تنزلوا بِمَرْج ذي تُلول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غَلَبَ الصليبُ، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه فعند ذلك تغدرُ الروم، وتجمع للملحمة. (زاد بعضهم: فيثور المسلمون إلى أسلحتهم، فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة)](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 31)، وأخرجه ابن ماجه في السنن (4099)، وإسناده جيد، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (1872) بإسناد صحيح على شرط مسلم. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (2429).

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4292) - (4293) - كتاب الملاحم، باب ما يذكر من ملاحم الروم. وانظر صحيح أبي داود (3607) - (3608)، وصحيح الجامع الصغير حديث رقم (3606).

ص: 629

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق (1)، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خَلُّوا بيننا وبين الذين سَبَوْا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويُقْتَلُ ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلثُ لا يفتنون أبدًا، فيفتتحون قسطنطينية، فبيناهم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيحَ قد خلفكم في أهليكم فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبيناهم يُعِدُّون للقتال يسوّون الصفوف، إذْ أُقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم، فأمَّهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لا نذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حَرْبَتِه](2).

وفي رواية من طريق ابن مسعود في تفصيل أكبر للحدث: [فبيناهم كذلك إذا سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ: أن الدَّجال قد خلفهم في ذراريّهم، فيرفضون - أي يتركون - ما في أيديهم، ويقبلون فيبعثون عشر فوارسَ طليعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وأَلوان خيولهم، هم خير فوارس، أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ].

والخلاصة: حتى إذا ظهر حسن الأرض وبهاؤها وتزينت بوسائل البذخ والترف والشهوات بما يسخط الله تعالى، وظن أهلها أنهم قد أصبحوا متحكمين بنباتها وصناعتها وآلاتها وتقلباتها جاء أمر الله فجأة بهلاك ما عليها من الحرث وآلات المكر والخزي ووسائل الترف في المعصية والكفر، فأحالها محصودة مهجورة خاوية على عروشها، كأن لم تكن اكتست بالأمس بألوان الكساء ومادّيات الحضارة وزخرفها.

وقوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . أي: نبيّنُها لقوم يعتبرون في حجج الله وآياته.

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

قال قتادة: (الله هو السلام، ودارُه الجنة). وقال ابن كثير: (لما ذكر تعالى الدنيا

(1) موضع في بلاد الشام - من أعمال مدينة حلب.

(2)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (2029)، كتاب الفتن. وصحيح مسلم (8/ 177 - 178) - كتاب الفتن - باب: في قتال الروم وكثرة القتل عند خروج الدجال، للرواية بعده.

ص: 630

وسرعة زوالها، رغَّبَ في الجنة ودعا إليها، وسَمَّاها دارَ السلام، أي من الآفات والنقائص والنكبات). وقال ابن جرير:(وهو يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم، وهو الإسلام الذي جعله جل ثناؤه سببًا للوصول إلى رضاه، وطريقًا لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانِه وكرامته).

26 -

27. قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)}.

في هذه الآيات: إعلامٌ من الله تعالى أن ثواب الذين أحسنوا دخول جنات النعيم، وزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وبعد ذلك لا يغشى وجوههم كآبة ولا حزن، بل هم في السرور والملذات خالدون. وأمّا الذين ظلموا وكسبوا السيئات فيعتريهم خزي وهوان، وظلمة في الوجوه وسواد، ولا عاصم لهم من الله، وهم في النار خالدون.

فقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} . أي: الجنة. قال ابن زيد: (الحسنى: الجنة). وتشمل ما فيها من القصور والحور والرضا عنهم والخلود في النعيم المقيم في بساتين عدن.

وقوله: {وَزِيَادَةٌ} . هي النظر إلى وجه الرحمان تبارك وتعالى. قال قتادة: (وأما الزيادة، فالنظر إلى وجه الرحمان). وهو مروي عن أبي بكر وحذيفة وابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن والسدي ومحمد بن إسحاق، وجمهور كبير من أئمة السلف والخلف.

قلت: وقد ثبت ذلك أصلًا من خبر النبي صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة.

ففي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، عن صُهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا دخل أهل الجنّةِ الجَنَّةَ، قال يقول الله تبارك وتعالى: تُريدونَ شيئًا أزيدُكُم؟ فيقولون: ألَمْ تُبَيِّضْ وجوهَنا؟ أَلمْ تُدْخِلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟ قال: فيكشِفُ الحجابَ، فما أُعْطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النَّظرِ إلى ربهم عز وجل](1). وفي رواية:

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (181)، والترمذي (2552)، والنسائي في التفسير (254)، وأخرجه أحمد (4/ 333)، والطبري (17641)، وابن حبان (7441).

ص: 631

[ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}]. وفي لفظ عند أحمد: [فيُكشَفُ الحجابُ، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه ولا أقرَّ لأعينهم].

وقوله: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} .

القتر: الغبار، جمع قَتَرة، والذلة: الهوان. قال ابن عباس: ({وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ}، قال: سوادُ الوجوه). وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ({وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}، قال: بعد نظرهم إلى ربهم). والمقصود كما قال ابن جرير: (لا يغشى وجوههم كآبة، ولا كسوف، حتى تصيرَ من الحُزن كأنما علاها قترٌ).

وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . أي: هؤلاء الموصوفون بما ذُكر، هم سكان الجنة وأهلها، وهم ماكثون فيها أبدًا لا يخافون زوال نعمة أو تنغيص لذة.

وقوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} . قال ابن عباس: (تغشاهم ذلة وشدّة). قال القرطبي: (ومعنى هذه المِثلية أن ذلك الجزاء مما يعدّ مماثلًا لذنوبهم، أي هم غير مظلومين، وفعل الرب - جلت قدرته وتعالى شأنه - غير معلَّل بعلة).

والخلاصة: الجزاء لأهل السيئات بالمثل ويعتريهم هوان وخزي من هول ما ينتظرهم.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45].

2 -

وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42، 43].

وقوله: {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} . أي: لا يحول بينهم وبين عقاب الله أحد.

قال النسفي: (أي لا يعصمهم أحد من سخطه وعقابه).

وقوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} . قال ابن كثير: (إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة).

ص: 632

والقطع: جمع قطعة، قال قتادة:({كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}، قال: ظلمة من الليل).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106، 107].

2 -

وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38 - 42].

ومن كنوز السنة الصحيحة:

أخرج الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذَّرِّ في صُور الرجال، يغشاهم الذُّل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جَهَنَّمَ يُسمى بُولسَ، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقَوْنَ من عُصارة أهل النار، طينة الخبال](1).

وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . أي: هؤلاء الموصوفون بما سبق، هم أهل النار الذين هم ماكثون فيها والعياذ بالله.

28 -

30. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن يوم حشر الناس جميعًا في أرض المحشر، ثم أمْره الذين أشركوا لزوم أماكنهم وشركاءهم، فيقطع الله الأوصال التي كانت تربطهم، ثم يتبرأ الشركاء من عبادة شركائهم، والله شهيد على ما كانوا يكسبون. هنالك تُختبر

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن (2492). انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2025)، وصحيح الجامع (7896)، ورواه أحمد وقد مضى.

ص: 633

الأنفس بما صدر عنها، وترجع الأمور إلى آمرها، ويحيق بالمستهزئين ما كانوا يفترون.

فقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} . أي: نجمعهم في أرض المحشر، إنسهم وجنهم، وبرّهم وفاجرهم، {جَمِيعًا}. أي: فلا نغادر منهم أحدًا. فهو في محل نصب حال.

وقوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} . قال ابن جرير: (أي: امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم، أنتم، أيها المشركون، وشركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان).

وفي التنزيل: قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات: 22 - 24].

وقوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} . قال النسفي: (ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم والوُصَل التي كانت بينهم في الدنيا). وقال ابن جرير: (يقول: ففرّقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به).

وقوله: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} . قال القاسمي: (إذ لم تكن عبادتكم عن أمرنا، بل عن أمر الشيطان، فكنتم عابديه بالحقيقة، بطاعتكم إياه، وعابدي ما اخترعتموه في أوهامكم من أباطيل فاسدة، وأمانيّ كاذبة).

وقال القرطبي: (وذلك أنهم ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم والأصنام التي عبدوها أنهم أمروهم بعبادتهم ويقولون ما عبدناكم حتى أمرتمونا).

قلت: ولا مانع من قولهم ذلك تملصًا من أمرهم لهم بالعبادة، وإنما يقولون اليوم ذلك كذبًا واحتيالًا للخلاص، عندما رأوا هول العذاب، وهذا ينطبق على حال بعض الشياطين والطغاة.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167].

2 -

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6].

ص: 634

3 -

وقال تعالى: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82].

4 -

وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 32، 33].

وقوله تعالى: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} .

قال مجاهد: (يقول ذلك كل شيء كان يُعْبَدُ من دون الله).

قال ابن كثير: (وفي هذا تبكيتٌ عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، مِمّن لا يسمع ولا يُبصر، ولا يغني عنهم شيئًا، ولم يأمرهم بذلك ولا رضيَ به ولا أراده، بل تبرأ منهم في وقت أحوج ما يكونون إليه، وقد تركوا عبادة الحي القيوم، السميع البصير، القادر على كل شيء، العليم بكل شيء. . .).

وقوله: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} . قال مجاهد: (تختبر). وهناك قراءة أخرى مشهورة قرأها بعض أهل الكوفة والحجاز "تتلو" - قال ابن زيد: (تعاينه). وقيل بل معناه: تتبع كل نفس ما قدّمت في الدنيا لذلك اليوم، وقيل: بل المعنى: يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون فيتبعونهم حتى يوردوهم النار، وهذا المعنى وارد في السنة الصحيحة:

أخرج عبد الله بن أحمد في "السنة" بسند صحيح عن ابن مسعود مرفوعًا: [. . . ثم ينادي مناد: أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل ناس ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟ أليس ذلك عدلًا من ربكم؟ قالوا: بلى فينطلقون، فيتمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان، ويتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ولمن كان يعبد عزيرًا شيطان عزير. .](1).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: مَنْ كان يعبدُ شيئًا فَلْيتَّبِعْه، فيتَّبعُ مَنْ يَعْبُدُ الشَّمسَ الشَّمسَ، ويتَّبعُ مَنْ يَعْبُدُ

(1) حديث صحيح. أخرجه بتمامه عبد الله بن أحمد في "السنة" ص (177). وانظر مختصر العلو - الذهبي - (69) ص (110). وأصله في الصحيحين، وانظر ما بعده.

ص: 635

القمرَ القمرَ، وَيتَّبِعُ مَنْ يَعْبُدُ الطواغيتَ الطواغيتَ. .] الحديث (1).

وقوله: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .

أي: رجعت الأمور إلى آمرها العزيز الحكيم، وصارت الأحوال في نهاية المطاف إلى الحكم العدل العلي العظيم، بعدما دخلت في حالة التخيير والابتلاء، فحصل ما حصل من كذب وافتراء، وظلم وبغي واستهزاء، فأدخل سبحانه أهل الجنة الجنة كرمًا منه وفضلًا، وأدخل أهل النار النار حكمة منه وعدلًا، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} - أي: ذهب عنهم ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء وكذبًا على الله، وحاق بهم ما كانوا يعملون.

31 -

33. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}.

في هذه الآيات: يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل - يا محمد - لهؤلاء المشركين: من الذي يرزقكم ويملك حماية أسماعكم وأبصاركم ويخرج الحي من الميت والميت من الحي وَيُصرِّف أمور هذا الكون؟ ! سيجيبوك: إنه الله. فقل لهم أفلا تتقون؟ ! ذلكم الله ربكم الحق وماذا يكون بمخالفة الحق إلا الوقوع في الباطل والضلال فأنى تصرفون! إنه كذلك لزمت كلمة ربك الفاسقين أنهم يعاندون ولا يؤمنون، عقاب الله لهم مقابل استكبارهم وإصرارهم على ما يعملون ويفسدون.

فقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} . أي: الغيث والقطر من السماء، والشجر والنبت من الأرض. قال ابن جرير:({قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ} - يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين بالله الأوثان والأصنام، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ}، الغيث والقطر، ويطلع لكم شمسها، ويُغْطِشُ ليلها، ويخرج ضُحاها، ومن الأرض، أقواتكم وغذاءكم الذي ينبته لكم، وثمار أشجارها).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (182) - كتاب الإيمان - باب معرفة طريق الرؤية.

ص: 636

وقوله: {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} . قال النسفي: (أي: من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، أو من يحميهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46].

2 -

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].

فَصِحَّةُ هذه الآلات من النعم الجليلة التي يغفل عنها كثير من الناس ولا يؤدون حق شكرها.

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ](1).

وأخرج الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[اغتنم خَمسًا قبل خمس: حياتك قبلَ موتك، وصحتك قبل سقمكِ، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك](2).

وقوله: {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} . أي: يخرج الشيء الحيّ من الشيء الميت وبالعكس، كما سبق ذكره بآفاقه المختلفة، نحو النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.

وقوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} . قال القاسمي: (أي ومن يلي تدبير أمر العالم كله، بيده ملكوت كل شيء، تعميم بعد تخصيص).

وقوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} . أي: سيعترفون بأن كل الأمر والخلق لله، فقل لهم عند ذلك: أفلا تخافون غضبه وتتقون عقابه فتفردوه سبحانه بالطاعة والعبادة والتعظيم.

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6412)، والترمذي (2304)، وأخرجه ابن ماجه (4170).

(2)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس، وأخرجه أحمد في الزهد من طريق عمرو بن ميمون، وكذلك أبو نعيم في "الحلية". انظر صحيح الجامع الصغير (1088).

ص: 637

أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن أبي تميمة، عن رجل من قومه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: أنت رسول الله أو قال: أنت محمد؟ فقال: نعم. قال: فإلامَ تدعو؟ قال: [أدعو إلى ربك الذي إن مَسَّكَ ضر فدعوته كشفَ عنكَ، والذي إن أضللت بأرض قفرٍ فدعوته ردّ عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك](1).

وقوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .

أي: إن الذي أقررتم له بفعل ذلك كله هو الله ربكم وإلهكم الحق، فأفردوه بالتعظيم فإنه لا يستحق ذلك غيره، وكل معبود سواه باطل. قال ابن كثير:(وقوله: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}، أي: فكيف تُصْرَفُون عن عبادته إلى عبادة ما سواه، وأنتم تعلمون أنه الربُّ الذي خلقَ كُلَّ شيء، والمتصرّف في كل شيء؟ ! ).

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

أي: بسبب ما كان من إصرار المشركين على عبادة وتعظيم غير الله مع اعترافهم لله تعالى بالخلق والأمر، كان ما كتب الله في اللوح المحفوظ من استحقاق هؤلاء المشركين الشقاء في الدار الآخرة.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].

2 -

وقال تعالى: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71].

3 -

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31].

ولكن هذه الكتابة في اللوح المحفوظ هي كتابة علم لا كتابة جبر، فإن أهل الشقاء اختاروا سبيلهم ذلك بأعمالهم، كما اختار أهل السعادة سبيل سعادتهم بأعمالهم.

وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: [ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4084) انظر صحيح سنن أبي داود (3442)، كتاب اللباس، وانظر صحيح الجامع الصغير (242)، ورواه أحمد.

ص: 638

لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ] (1).

34 -

36. قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}.

في هذه الآيات: أَمْرُ الله نبيّه متابعة الاحتجاج بقوارع الوحي على المشركين. قل لهم: هل يستطيع أحد من شركائكم بدء الخلق ثم إعادته؟ ! فالله القادر على ذلك وحده، فأنى تؤفكون؟ ! ثم قل لهم: هل من شركائكم من يملك هداية القلوب وانشراح الصدور للحق؟ ! إنّ الله هو القادر على ذلك وحده، أفيستحق العاجز أن يُعبد أم القادر؟ فكيف تحكمون؟ ! إنه ما يتبع أكثرهم - يا محمد - إلا الظن، والظن لا يفيد صاحبه من الحق شيئًا، والله عليم بما يفعلون.

فقوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} . أي: ينشئه من العدم، فيبدؤه من غير أصل "ثم يعيده" - قال ابن جرير:(يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه). وهذا احتجاج بديع من الله تعالى على هؤلاء المشركين الذين خلقهم ويعبدون غيره، وهو وحده القادر على بدء الخلق وإعادته. ومنه:

قوله: {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} - قال الحسن: (أنى تصرفون).

وقوله: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} - قال ابن كثير: (أي: أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال، وإنما يَهدِي الحيارى والضُّلَّال ويُقلب القلوب من الغيِّ إلى الرُّشد الله الذي لا إله إلا هو).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1362)، (4948)، (4949). وانظر مختصر صحيح مسلم (1844)، باب: في القدر والشقاوة والسعادة.

ص: 639

وقوله: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .

قال ابن جرير: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شيء إلّا أن يهدى؟ ).

وقال النسفي: (أفمن يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه الله. وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن يهدى إلا أن ينقل، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيًا ناطقًا فيهديه {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد الله).

وقرأ عامة قراء المدينة "أمَّن لا يَهْدِّي" بتسكين الهاء وتشديد الدال، في حين قرأها بعض قراء مكة والشام والبصرة:"يَهَدِّي" بفتح الهاء وتشديد الدال، وقرأها بعض قراء الكوفة "يَهِدِّي" بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، وبعضهم قرأها "أمْ مَنْ لا يَهْدي".

وقوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} .

قال القرطبي: ({وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} يريد الرؤساء منهم، أي ما يتبعون إلا حَدْسًا وتخريصًا في أنها آلهة وأنها تشفع، ولا حجة معهم. وأما أتباعهم فيتبعونهم تقليدًا. {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} أي من عذاب الله، فالحق هو الله. وقيل "الحق" هنا اليقين، أي ليس الظن كاليقين. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يُكْتَفَى بالظن في العقائد. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من الكفر والتكذيب، خرجت مخرج التهديد).

37 -

40. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}.

في هذه الآيات: تقرير من الله تعالى أن هذا الكتاب العظيم المعجز لا يقدر أحد

ص: 640

على معارضته بمثله، وهو تصديق للكتب التي قبله، وفيه بيان مجمل الأحكام، وأمور الحلال والحرام، من الله رب العالمين. فإن زعم المبطلون أنك افتريته - يا محمد - فاسألهم أن يخوضوا في محاولةِ مشابهة سورة منه، وليستعينوا بمن شاؤوا لتحقيق ذلك إن كانوا صادقين. وإنما كذب المشركون بهذا القرآن تطاولًا وبغيًا ولم يقدروا حقه، شأن المكذبين الذين درجوا في الأمم عبر الزمان، ودكهم الله بعذابه، وأوعدهم في الآخرة أليم عقابه. إنه سيؤمن به بعضهم ويُصِدّ آخرون على الكفر به كما هو سابق في علم الله، فهو سبحانه عليم بالمصلحين والمفسدين.

فقوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال ابن جرير: (يقول: ما ينبغي له أن يتخرّصه أحد من عند غير الله). وهذا بيانٌ من الله لإعجاز هذا الكتاب العظيم، فإنه لا يقدر أحد أو يتجرأ على مشابهته في فصاحته وبلاغته وجوامع كلمه وحلاوة آياته وعذوبة معانيه.

وقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} . أي: من الكتب قبله التي أنزلها الله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله. {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال ابن كثير: (أي: وبيان الأحكام والحلال والحرام، بيانًا شافيًا كافيًا حقًا لا مِرْيَةَ فيه من الله رب العالمين).

وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . قال القاسمي: (أي إن كان الأمر كما تزعمون، فأتوا على وجه الافتراء، بسورة مثله في البلاغة، وحسن الصياغة، وقوة المعنى، فأنتم مثل في العربية والفصاحة، وأشد تمرنًا في النظم، {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ادعو من دونه تعالى، ما استطعتم من خلقه، للاستعانة به على الإتيان بمثله - إن صدقتم في أني اختلقته - فإنه لا يقدر عليه أحد).

والآية في موضع التحدي الذي تدرج في مراتب ثلاث:

المرتبة الأولى: المجيء بنظير هذا القرآن جملة. قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

المرتبة الثانية: المجيء بعشر سور مثله. قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].

ص: 641

المرتبة الثالثة: المجيء بسورة واحدة. قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].

وهذه الآية هنا من سورة يونس هي في ذلك المقام الثالث من التحدي: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

وقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} . أي: بل كذب المشركون بهذا القرآن جهلًا بحقه فما عرفوه وما فهموه ولم يدركوا آفاق ما فيه من الهدى والدين الحق كما فعل المكذبون من الأمم قبلهم فانظر يا محمد كيف كان مصير من كذب وطغى وتعامل مع الوحي المنزل بالجهل والافتراء والهوى.

قال ابن جرير: ({وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، يقول: ولما يأتهم بعدُ بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعّدهم الله في هذا القرآن). وقال القاشاني: (تأويله: أي ظهور ما أشار إليه في مواعيده، وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه، فلا يمكنهم التكذيب، لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه).

وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} .

قال القرطبي: ({وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} قيل: المراد أهل مكة، أي ومنهم من يؤمن به في المستقبل وإن طال تكذيبه، لعلمه تعالى السابق فيهم أنهم من السعادة. {وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ} والمعنى ومنهم من يُصر على كفره حتى يموت، كأبي طالب وأبي لهب ونحوهما. وقيل المراد أهل الكتاب. وقيل هو عام في جميع الكفار، وهو الصحيح. قال: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} أي من يُصرّ على كفره، وهذا تهديد لهم).

41 -

44. قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}.

في هذه الآيات: خطاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم مُسَلِّيًا: إن أصَرَّ هؤلاء المشركون على

ص: 642

تكذيبك فقل لهم: لي عملي ولكم عملكم، وكل سينال تبعة عمله. ومنهم من يستمعون إلى قولك ولكنهم لا يفقهون. ومنهم من ينظرون إليك ويقرؤون الصدق في وجهك ودلائل النبوة، ولكن غلبهم العمى فهم لا يبصرون. إن الله لا يظلم أحدًا: فمن استحق الهداية نوّر الله قلبه وبصيرته، ومن استحق الخذلان أعمى الله قلبه وبصيرته، فالناس هم أنفسهم يُسْعِدُون أو يظلمون.

فقوله: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} . أي: إن كذبك هؤلاء المشركون من قومك ويئست من إجابتهم - يا محمد - فتبرَّأ منهم ومن عملهم وقل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم، فلا يضرني عملكم ولا يضركم عملي، ولكم دينكم ولي دين، وهو قوله:{أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} .

وفي التنزيل: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون].

وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} . أي: ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك ولكنهم لا يفقهون ما تقول ولا يريدون. قال ابن جرير: (يقول: أفأنت تخلق لهم السمع، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، أم أنا؟ . قال: وإنما هذا إعلامٌ من الله عبادَه أن التوفيق للإيمان به بيده لا إلى أحد سواه. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما أنك لا تقدر أن تسمع، يا محمد، من سلبته السمع، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهيي قلبًا سلبته فهم ذلك، لأني ختمتُ عليه أنه لا يؤمن).

وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} .

قال النسفي: (ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون. أتحسب أنك تقدر على هداية الأعمى ولو انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدث، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعني أنهم في اليأس من أن يقلبوا ويصدقوا كالصم والعمى الذين لا عقول لهم ولا بصائر).

وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [تُعرض الفِتنُ كالحصير عودًا عودًا، فأي قَلبٍ أُشْرِبَها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء، حتى يصيرَ على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودُ مُرْبادًا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف

ص: 643

معروفًا ولا يُنْكر منكرًا، إلا ما أشربَ من هواه] (1).

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . قال ابن كثير: (أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدًا شيئًا، وإن كان قد هدى به من هدى وبَصَّرَ به من العمى، وفتحَ به أعينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غلفًا، وأضلَّ به عن الإيمان آخرين، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء، الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، لعلمه وحكمته وعَدْلِه).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: [يا عبادي، إني حَرَّمت الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا فلا تظالموا. . . - إلى أن قال - يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه](2).

45 -

47. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)}.

في هذه الآيات: إخبار من الله تعالى عن إقرار الناس يوم الحشر أنهم ما لبثوا في هذه الحياة الدنيا إلا ساعة من نهار يتعارفون بينهم، لقد خسر يومئذ المكذبون وما كانوا راشدين. فإما نرينك - يا محمد - في حياتك خزي هؤلاء المشركين أو توفيناك قبل ذلك فإن مرجعهم إلينا والله شهيد على ما يفعلون. إنه ستعرض كل أمة على الله بحضرة رسولها والفصل يومئذ بالعدل وهم لا يظلمون.

فقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} . أي: ما لبثوا في دنياهم إلا قدر ساعة. قال ابن عباس: (رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 89 - 90). وانظر مختصر صحيح مسلم (1990) كتاب الفتن. باب: عرض الفتن على القلوب ونكتها فيها.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2577)، وأحمد في المسند (5/ 160)، والترمذي في الجامع (2495)، وابن ماجه في السنن (4257).

ص: 644

وقال القرطبي: (يعني أنهم استقصروا طول مقامهم في القبور لهول ما يرون من البعث، دليله قولهم: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19]. وقيل: إنما قصرت مُدّة لبثهم في الدنيا من هول ما استقبلوا لا مدة كونهم في القبر). قلت: وصرفها إلى مدة لبثهم في الدنيا أرجَح.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35].

2 -

وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46].

3 -

وقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 102 - 104].

4 -

وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55].

وقوله تعالى: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} - فيه أقوال متكاملة:

1 -

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، ثم انقطعت المعرفة، وانقضت تلك الساعة).

2 -

وقال ابن كثير: (وقوله: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي: يعرفُ الأبناءُ والآباءُ والقراباتُ بعضهم بعضًا، كما كانوا في الدنيا، ولكن كُلٌّ مشغولٌ بنفسه، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقال تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا} [المعارج: 10 - 15]).

3 -

وقيل: وهذا التعارف تعارف توبيخ وافتضاح، ويقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر، وليس تعارف شفقة ورأفة وعطف. ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة كما قال:{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10]. وقيل: يبقى تعارف التوبيخ، قال القرطبي: (وهو الصحيح لقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ} - إلى قوله -: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ: 33]. وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38]، وقوله: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا

ص: 645

سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} [الأحزاب: 67] الآية. قال: فأمّا قوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} ، وقوله:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] فمعناه لا يسأله سؤال رحمة وشفقة، والله أعلم. قال: وقيل: القيامة مواطن. وقيل: معنى {يَتَعَارَفُونَ} يتساءلون، أي يتساءلون كم لبثتم، كما قال:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، وهذا حسن).

قلت: وكل ما سبق بيانه من آفاق معنى قوله تعالى: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} .

وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} . أي: قد خسر هؤلاء المجرمون والمشركون والمكذبون أنفسهم وأهليهم، وفُرِّقَ بينهم وبين أحبتهم يوم القيامة، إذ أصروا على الكفر بلقاء الله وما كانوا بذلك مصيبين رشدهم.

وقوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} . قال مجاهد: ({وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب في حياتك، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل، {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}).

أي: يقول تعالى: إن أريناك - يا محمد - في حياتك بعض ما نعد هؤلاء المشركين من قومك من الخزي والعذاب أو توفيناك قبل ذلك فإن مآلهم لا محالة إلينا. {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} - أي هو سبحانه شاهد على أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا ولا يخفى عليه منها شيء، والميزان سيزن تلك الأعمال ليروا مصيرهم بعد ذلك.

وقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} . قال مجاهد: ({فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ} يوم القيامة {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، قال: بالعدل). قال ابن كثير: (فكلّ أمة تُعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشَرٍّ موضوع شاهدٌ عليهم، وحَفَظتهم من الملائكة شهودٌ أيضًا، أمة بعد أمة، وهذه الأمةُ الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق إلا أنها أولُ الأمم يوم القيامة يُفْصَلُ بينهم، ويُقضى لهم. كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضيُّ لهم قبل الخلائق". فأمته إنما حازت قَصَب السَّبْقِ لشرفِ رسولها، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين).

قلت: بل أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الشاهدة للرسل بالبلاغ حين يكذب الأقوام رسلهم في أرض المحشر، ثم يقبل الله شهادة هذه الأمة ويعذِر الرسل صلوات الله وسلامه عليهم في بلاغهم أقوامهم - وهو أعلم بهم - ويقضي بينهم وبين أممهم بالقسط وهم لا يظلمون.

أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 646

[يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبيّ ومعه الرجلان، والنبيّ ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فيُقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيقال لهم: هل بَلَّغَكُم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: من يشهدُ لك، فيقول: محمدٌ وأمته، فيُدعى محمدٌ وأمتُه، فيقالُ لهم: هل بَلَّغَ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيُقال: وما عِلْمُكُم بذلك؟ فيقولون: جاءَنا نبيُّنا، فأخبرنا أن الرسل قد بَلّغوا فصدَّقناه، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]] ورواه البخاري (1).

48 -

54. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)}.

في هذه الآيات: إِخْبَارٌ من الله تعالى عن استعجال المشركين العقوبة أو الساعة بكثرة سؤالهم عنها، فقل لهم يا محمد: إني لا أملك جلب النفع لنفسي أو دفع الضر عنها فكيف أملك جلب العذاب لكم، إنه لكل أمة أجل محدد لا يتجاوزونه ساعة بزيادة أو نقصان. ثم قل لهم: ماذا لو نزل بكم العذاب ليلًا أو نهارًا هل تقدرون على دفعه؟ أم هو مجرد اليقين بحدوثه! ثم يعقبه الهلاك فالخلود في النار. إنهم يستخبرونك - يا محمد - أحق نبأ المعاد وبعث الأجساد لمشهد الحساب؟ فَأَقْسِمْ لهم بقولك: إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين. يوم تتمنى كل نفس ظلمت لو افتدت بجميع ما في الأرض من سوء العذاب، ولكن هيهات، فلا ينفع يومئذ أعظم الفداء، وإنما هو حصاد الأعمال، والندامة عند رؤية العذاب، والقصاص بالحق وهم لا يظلمون.

(1) حديث صحيح. رواه أحمد والبخاري من حديث أبي سعيد. انظر صحيح البخاري (6/ 286)، ومسند أحمد (2/ 32)، وصحيح الجامع (7889).

ص: 647

فقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . قال ابن جرير: (ويقول هؤلاء المشركون من قومك، يا محمد، {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}، الذي تعدنا أنه يأتينا من عند الله، وذلك قيام الساعة). وقال النسفي: (أي وعد العذاب {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أن العذاب نازل، وهو خطاب منهم للنبي والمؤمنين).

وقوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} . أي: قل - يا محمد - لمستعجليك هذا العذاب أو الوعيد، أنا لا أملك لنفسي ولا أقدر لها على ضر أو نفع في دين أو دنيا إلا بإذن الله. قال القاسمي:({قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} أي مع أن ذلك أقرب حصولًا، فكيف أملك لكم حتى أستعجل في جلب العذاب لكم، وتقديم الضر).

وقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} . قال النسفي: (لكل أمة وقت معلوم للعذاب مكتوب في اللوح، فإذا جاء وقت عذابهم لا يتقدمون ساعة ولا يتأخرون فلا تستعجلوا).

وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} .

أي: قل - يا محمد - لهؤلاء المتنطعين المستكبرين من قومك: أخبروني ما الذي يستعجله المجرمون من نزول العذاب بهم، وهو واقع معلوم زمانه وهيئته في علم الله، ثم هم لا يقدرون دفعه إن نزل بهم ليلًا أو نهارًا، بل يصبحون أسارى ذلك الخزي والعقاب.

وقوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .

يعني: أنهم حين ينزل العذاب بهم يصدقون ما كانوا أنكروا من قبل ولكن هيهات فقد أخروا ذلك إلى حين لا ينفع التصديق، وإلى وقت فات قطار النجاة. قال القرطبي:({أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ} في الكلام حذف، والتقدير: أتأمنون أن ينزل بكم العذاب ثم يقال لكم إذا حل: آلآن آمنتم به؟ قيل: هو من قول الملائكة استهزاء بهم. وقيل: هو من قول الله تعالى، ودخلت ألف الاستفهام على {ثُمَّ} والمعنى: التقرير والتوبيخ). واختار ابن جرير معنى {أَثُمَّ} أهنالك. وأما {آلْآنَ} فقيل: أصل فعل مبنيّ مثل حان، والألف واللام لتحويله إلى الاسم. قال الخليل:(بنيت لالتقاء الساكنين، والألف واللام للعهد والإشارة إلى الوقت، وهو حدّ الزمانين).

والخلاصة: إن المشركين المنكرين النبوة والوحي ولقاء الله يوم البعث إذا عاينوا

ص: 648

المشهد في الحشر وأهوال ذلك اليوم وأبصروا جهنم اضطرهم ذلك للإيمان بعد كفر طويل، ولكن حين لا ينفع الإيمان.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84، 85].

2 -

وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12].

ومن السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يقول الله تبارك وتعالى لأهونِ أهل النار عذابًا: لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مُفْتَدِيًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أَرَدْتُ منك أهونَ مِنْ هذا وأنت في صُلب آدم: أن لا تُشْرك ولا أدخِلَكَ النار، فأبيتَ إلا الشرك](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك مِلءُ الأرض ذهبًا، أكنتَ تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيُقال له: قَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ من ذلك](2).

وفي رواية: [فَيُقال له: كَذَبْتَ، قَدْ سُئِلتَ ما هوَ أيسرُ من ذلك].

الحديث الثالث: أخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترَةٌ وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تُخْزِيَني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ ! فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين] الحديث (3).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2805) - كتاب صفات المنافقين - باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا. وأخرجه البخاري (3334) نحوه - كتاب أحاديث الأنبياء، و (6557) - كتاب الرقاق.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2805)(52)(53) - كتاب صفات المنافقين - الباب السابق.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري - كتاب الأنبياء - انظر مختصر صحيح البخاري (1344).

ص: 649

وقوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: ثم يقال للظالمين يوم القيامة بعد أن عرفوا مصيرهم المؤلم - ذوقوا عذاب الخلد - يقال ذلك تقريعًا لهم وتبكيتًا، فإنما تنالون ما قدمتم لأنفسكم وما كسبتم بأيديكم.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 13 - 16].

2 -

وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. ثم ينادى: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت](1).

وقوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .

أي: ويستخبرونك - يا محمد - في شأن المعاد وبعث الأجساد من القبور والقيام لموقف الحساب أهو حق فعلًا؟ فَأَقسم لهم بقولك: {إِي وَرَبِّي} إن بعثكم حق والحِسَاب حق، والنار حق، والجنة حق، وليس صيرورتكم ترابًا بمعجز لله عن إعادتكم كما خلقكم أول مرة، فإنما أمره لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون. قال ابن كثير:(وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد، في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]. وفي التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 153)، وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (2149)، وصحيح الجامع (536) - ورواه البخاري.

ص: 650

وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .

أي: إن كل كافر حق عليه العذاب يتمنى لو افتدى من عذاب جهنم بملء الأرض ذهبًا ولكن لا حيلة له إلى ذلك، فإن الله تعالى لا يحابي أحدًا من خلقه، وإنما ستملأ الندامة صدور المشركين حين يرون العذاب يوم القيامة، ولا يُظلم أحدٌ يومئذ شيئًا. قال ابن جرير:({وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} يقول: وقضى الله يومئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، وذلك أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا بجريرته، ولا يأخذه بذنب أحد، ولا يعذِّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وتابع عليه الحجج).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 37].

2 -

وقال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 - 108].

ومن السنة الصحيحة في آفاق هذا المعنى أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله ليُمْلي للظالم، فإذا أخذه لم يُفلته ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة](2).

الحديث الثالث: أخرج الحاكم من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: [من عَمَّرَ من أمتي سبعين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 19). وانظر مختصر صحيح مسلم (1831).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 200 - فتح)، وأحمد (2/ 275)، وأخرجه الحاكم (2/ 427) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 428) - وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني في السلسلة الصحيحة (1089). وانظر مسند أحمد (2/ 417).

ص: 651

وفي لفظ آخر: [إذا بلغ العبد - أو قال: إذا عمر العبد - ستين سنة، فقد أبلغ الله إليه، وأعذر الله إليه في العمر].

55 -

58. قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}.

في هذه الآيات: إثبات الملك جميعه لله، ويوم الحشر بعض ذلك، ووعد الله نافذ في المشركين. فإنه تعالى يحيي ويميت وإليه المصير. يا أيها الناس قد جاءكم زاجر من ربكم وقوارع من الوحي، فيه شفاء للصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين. فليفرح القوم بهذا القرآن العظيم، وهذا الشرع الكريم، هو خير مما يجمعون.

فقوله: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . أي: له ملك كل شيء فلا سبيل للكافرين من فداء للنجاة من لقاء الله وعذابه. {أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي: إن العذاب الذي أوعده الله المشركين على كفرهم واقع بهم لا محالة، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقة وقوع ذلك بهم، فهم في جهلهم يترددون، ولأجل ذلك يُكذبون.

وقوله: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . قال النسفي: (هو القادر على الإحياء والإماتة لا يقدر عليهما غيره {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وإلى حسابه وجزائه المرجع فيخاف ويرجى).

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} . قال ابن كثير: ({مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: زاجر عن الفواحش، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي: من الشُّبَهِ والشكوك، وهو إزالةُ ما فيها من رجس ودَنَس). وقال القاسمي: ({وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي: القلوب من أمراضها، كالشك والنفاق، والغل والغش، وأمثال ذلك، بتعليم الحقائق، والحكم الموجبة لليقين، وتصفيتها بقبول المعارف، والتنوّر بنور التوحيد، {وَهُدًى} أي: لنفوسكم من الضلالة، {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: لمن آمن به، بالنجاة من العذاب والارتقاء إلى درجات النعيم).

ص: 652

وقوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .

ذهب المفسرون إلى أن فضل الله ورحمته هو القرآن والإسلام، أو الإسلام والقرآن، فإن القرآن وانتساب المرء إلى أهله هو خير من كل ما يحرص عليه الناس في هذه الحياة الدنيا من الأموال والذهب والفضة.

1 -

قال قتادة: (أما فضله فالإسلام، وأما رحمته فالقرآن). وقال مجاهد: ({قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ}، قال: القرآن).

2 -

قال هلال بن يساف: ({قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}، قال: بالإسلام الذي هداكم، وبالقرآن الذي علّمكم). وعنه قال: ({قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ}، قال: بالإسلام والقرآن، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}، من الذهب والفضة).

3 -

قال ابن عباس: ({بِفَضْلِ اللَّهِ}، القرآن، {وَبِرَحْمَتِهِ}، حين جعلهم من أهل القرآن).

قلت: فإذا كان يوم القيامة فرحَ صاحب القرآن بتكريمه أمام الخلق وبتتويجه. وفي ذلك أحاديث من صحيح السنة العطرة:

الحديث الأول: أخرج الترمذي والحاكم بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبَسُ حُلَّةَ الكرامة، ثم يقول: يا رب ارضَ عنه فيرضى عنه فيقول: اقرأ وارق ويُزاد بكل آية حسنة](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (3088) - كتاب (أبواب فضائل القرآن). انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2328).

(2)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (2095) - كتاب فضائل القرآن.

ص: 653

رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الماهر بالقرآن مع السَّفَرَةِ الكرام البَررَة، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعْتَعُ فيه وهو عليه شاق له أجران](1).

59 -

61. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}.

في هذه الآيات: ذَمُّ الله تعالى المشركين الذين يتجرؤون على الله بالتحليل والتحريم دون علم، بل يفترون الكذب ويمضون خلف أهوائهم، فما ظنهم إذا وقفوا بين يدي ربهم يوم القيامة؟ ! إنّ الله لذو تفضل على خلقه بتأجيل معاقبتهم، وأكثر الناس لا يشكرون. إنه ما تكون - يا محمد - في حال أو عمل أو تلاوة للقرآن - وكذلك أنتم أيها الناس - فإنكم لا تعلمون شيئًا إلا والله مطلع عليه وعلى جميع شؤونكم، فلا يغيب عنه - جَلت عظمته - دقائق أعمالكم، بل كل صغير وكبير مسطر في اللوح المحفوظ.

فقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} . فيه أقوال متقاربة متكاملة.

1 -

قال ابن عباس: ({فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} قال: الحرث والأنعام). وقال مجاهد: (البحائر والسُّيَّب). أو قال: (في البحيرة والسائبة).

2 -

وقال قتادة: (يقول: كل رزق لم أحرِّم حَرَّمْتُموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم، آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك، أم على الله تفترون).

3 -

وعن ابن عباس: ({أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} قال: هم أهل الشرك).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2/ 195)، كتاب فضائل القرآن. انظر مختصر صحيح مسلم (2105) - باب: في الماهر بالقرآن والذي يشتد عليه. وقوله: "يَتَتَعْتَع" أي يتردد في تلاوته لضعف حفظه أو ثقل لسانه "له أجران" أحدهما بالقراءة، والآخر بالمشقة الحاصلة عليه من التردد.

ص: 654

وقوله تعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} . أي: ما ظن الذين يتجرؤون على الله بالتحليل والتحريم دون علم، بل يفترون الكذب ويمضون حسب أهوائهم يَضلون! هل يظنون أنهم يفلتون من عقاب الله وغضبه؟ . قال ابن جرير:({إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} يقول: إن الله لذو تفضُّل على خلقه، بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا، وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ}، يقول: ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضّله عليهم بذلك، وبغيره من سائر نعمه).

وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} . أي: وما تكون - يا محمد - في حال أو عمل أو في قراءة من كتاب الله، أو أنتم كذلك - أيها الناس - فإنكم لا تعملون من عمل إلا وأنتم تحت مراقبة الله فهو ينظر سبحانه إلى أعمالكم ويشهد شؤونكم. قال ابن عباس:{إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} يقول: إذ تفعلون).

وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .

خَبَرٌ من الله تعالى عن نفسه أنه شاهد لصغائر ودقائق أعمال عباده وما يجري في ملكه فقد علم كل شيء وكتبه في اللوح المحفوظ.

وفي لغة العرب: عَزَبَ فلان عن أهله إذا بَعُدَ وغاب. والمقصود أن الله تعالى لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بل يعلم سبحانه السر وأخفى.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].

2 -

وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].

3 -

وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].

ص: 655

وفي صفحات السنة الصحيحة من آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [كتبَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقَ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشُهُ على الماء](1).

الحديث الثاني: أخرج الطبراني في (الكبير) بسند جيد عن أبي الدرداء - حين حضرته الوفاة قال: أحدثكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [اعبُد الله كأنك تراهُ، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ، واعدُدْ نفسك في الموتى، وإياك ودعوةَ المظلوم فإنها تُستجابُ، ومن استطاعَ منكم أن يشهدَ الصلاتين العِشاء والصبحَ ولو حَبْوًا فليفعل](2).

وتقدّم في الصحيح حديث جبريل: [الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك].

الحديث الثالث: أخرج الطبراني في "الكبير" بسند حسن في الشواهد عن أبي سلمة قال: قال معاذ: قلت: يا رسول الله أوصني، قال:[اعبُد الله كأنك تراه، واعدُدْ نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر، وعند كل شجر، وإذا عملت سيئة بجنبها حسنةٌ، السِّرُ بالسِّر، والعلانية بالعلانية](3).

62 -

64. قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}.

في هذه الآيات: تأكيدٌ من الله تعالى على حفظه أولياءه وحمايته لهم وإزاحة الخوف

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2653) - كتاب القدر - باب حجاج آدم وموسى صلى الله عليهما وسلم.

(2)

حسن لشواهده. أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(19/ 153/ 2)، والطبراني في "الكبير" كما ذكر الهيثمي في "المجمع"(2/ 40)، وله شاهد عند أبي نعيم (8/ 202)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1474).

(3)

حسن لشواهده. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(مجمع الزوائد: 4/ 218) بإسناد حسن في الشواهد من حديث معاذ رضي الله عنه، وانظر المرجع السابق (1475).

ص: 656

والحزن عنهم. وإخباره تعالى عن ركني الولاية: الإيمان والتقوى. فالأولياء الصالحون لهم بشائر الظفر في الدنيا والسعادة في الآخرة، وعدًا عليه تعالى حقًا، وذلك الفوز العظيم.

فقوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

أي: إن أنصار الله مطمئنون في الدنيا آمنون في الآخرة، فلا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، ولا هم يفزعون في الآخرة إذ آمَنَهُم سبحانه من عقابه. والأولياء جمع "ولي"، وهو النصير. قال الرازي:(الوِلاية بالفتح والكسر النُّصرة). وقال سيبويه: ("الوَلاية" بالفتح المصدر وبالكسر الاسم).

وأركان الولاية بنص الآية:

1 -

الإيمان.

2 -

التقوى.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} . فكل من جمع بين هذين الركنين: الإيمان والتقوى كان وليًا من أولياء الله تعالى، ولو كان مجهولًا لكثير من الناس أو أشعث أغبر لا يُهتم به.

ومن أقوال المفسرين في وصف أولياء الله تعالى:

1 -

قال ابن عباس: (الذين يذكر الله لرؤيتهم).

2 -

قال أبو الضحا: (من الناس مفاتيح، إذا رؤوا ذُكِرَ الله لرؤيتهم).

3 -

قال ابن زيد: ({أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، من هم يا ربّ؟ قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} قال أبيّ: لن يُتقَبّلَ الإيمان إلا بالتقوى).

قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بذكر صفات هؤلاء الأولياء ونعوتهم التي تميزوا بها في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج أبو داود بسند صحيح عن جرير: أن عمر بن الخطاب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنّ من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يومَ القيامة بمكانهم من الله تعالى. قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور: لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن

ص: 657

الناس، وقرأ هذه الآية:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ] (1).

الحديث الثاني: أخرج أبو نعيم والطبراني ورجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا: [أولياء الله تعالى الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى](2).

وفي لفظ: (أولياء الله الذين إذا رؤوا ذُكِرَ الله).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يأتي من أفناءِ الناسِ ونوازع القبائل قومٌ لم تتصل بينهم أرحامٌ متقاربة، تحابُّوا في الله، وتَصَافُّوا في الله، يَصنَعُ اللهُ لهم يوم القيامة منابرَ من نور، فَيُجلِسُهم عليها، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون](3).

وقوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} - فيه أقوال متكاملة:

1 -

قال الحسن: (هي ما يبشرهم الله تعالى في كتابه من جنته وكريم ثوابه).

2 -

وقال قتادة: (هي البشارة التي تبشّر بها الملائكة المؤمنَ في الدنيا عند الموت).

3 -

وقيل: إذا خرجت الروح بُشِّرت بِرِضْوانِ الله. وقوله: {وَفِي الْآخِرَةِ} بالجنة إذا خرجوا من قبورهم.

4 -

وقيل: بل البشرى هي الثناء الحسن والذكر العطر بين الناس.

5 -

وقيل: بل البشرى هي الرؤيا الصالحَة يراها المسلم أو تُرى له.

قلت: وكل ما سبق داخل في مفهوم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذه المعاني العطرة في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا اقْتَرَبَ الزمانُ لم تَكَدْ رؤيا المسلم تَكْذِبُ، وأصْدَقكُم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزءٌ من خمسةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورُؤيا تحزينٌ من الشيطان، ورؤيا مما يُحَدّثُ المرءُ نفسَهُ، فإن رأى

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3527) - كتاب الإجازة - باب في الرهن. وانظر صحيح سنن أبي داود (3012)، وأخرجه الطبري (17729)، ورجاله ثقات.

(2)

صحيح لشواهده. أخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان"(1/ 231)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12325)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1733).

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد (5/ 343)، والطبري (17730)، وله شواهد.

ص: 658

أحدكم ما يَكْرَهُ، فليَقُمْ فَلْيُصَلِّ، ولا يحدِّثْ بها الناس] (1).

الحديث الثاني: أخرج الشيخان وابن ماجه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة](2).

الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه في السنن بسند صحيح عن عبادة بن الصامت قال: [سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله سبحانه: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. قال: هي الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو تُرى له](3).

الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: [كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم السِّتارة، والناسُ صفوفٌ خلف أبي بكر فقال: أيها الناسُ! إنه لم يَبْقَ من مُبَشِّراتِ النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له. .] الحديث (4).

الحديث الخامس: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرسالةَ والنُبوَّةَ قد انقطعت، فلا رسولَ بعدي، ولا نبيَّ. قال: فشقَّ ذلك على الناس فقال: لكن المُبَشِّرات. فقالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟ قال: رؤيا المسلم وهي من أجزاء النبوة](5).

الحديث السادس: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[رؤيا الرجل المسلم الصالح، جزءٌ من سبعين جزءًا من النبوة](6).

وفي الباب عن أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ذهبت النبوة وبقيت المبشِّراتُ].

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2263) - كتاب الرؤيا - باب في كون الرؤيا من الله وأنها جزء من النبوة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6983)، وانظر صحيح مسلم (2264)، وأخرجه ابن ماجه (3893) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (3898) - كتاب تعبير الرؤيا - باب الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له. وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3146).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (479) - كتاب الصلاة - باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.

(5)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2388) - أبواب الرؤيا - باب ذهبت النبوة وبقيت المبشرات. وانظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (1853). وقال الألباني: صحيح الإسناد.

(6)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3143)، (3144) - كتاب تعبير الرؤيا.

ص: 659

الحديث السابع: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله، الرجلُ يعملُ العملَ فيحمده الناسُ عليه، ويثنون عليه به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[تلك عاجلُ بشرى المؤمن](1).

الحديث الثامن: أخرج الإمام أحمد من حديث البراء: [إن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيضُ الوجوه، بيضُ الثياب، فقالوا: اخرجي أيتها الروح الطيّبة إلى رَوْح وريْحان، وربٍّ غير غضبان، فتخرجُ من فَمِهِ، كما تسيل القطرةُ من فَمِ السِّقاء](2).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].

2 -

وقال تعالى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].

3 -

وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12].

وقوله: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . أي: هذا الوعد بالبشرى، بكل ألوانها وأشكالها في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا يغيّره شيء، فإن الله لا يخلف الميعاد، وهذا أعظم الفوز وأكبر الظفر.

65 -

67. قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 156)، وانظر صحيح مسلم (2642)، وسنن ابن ماجه (4225)، وصحيح ابن حبان (366) - بإسناد صحيح.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 287)، والحاكم (1/ 37)، وعبد الرزاق (6737)، وغيرهم.

ص: 660

يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)}.

في هذه الآيات: تسلية الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه: لا يحزنك - يا محمد - قول هؤلاء المشركين، فالعزة لله وهو السميع العليم. له ما في السماوات وما في الأرض، والمشركون تائهون في شركهم مغرورون كاذبون. إن الله تعالى هو الذي يقلب الليل والنهار، فجعل الليل سكنًا مظلمًا تسكنون فيه، والنهار مبصرًا مضيئًا تعملون فيه، إن في ذلك لآيات كبيرة لقوم يسمعون فيتعظون، ويعلمون حق الله عليهم في وجوب إفراده تعالى بالعبادة والتعظيم.

فقوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} . أي: لا يحزنك - يا محمد - قول هؤلاء المشركين في ربهم وإشراكهم في عبادته الأوثان والطواغيت، فإن العزة لله جميعًا. كما قال ابن جرير:(فإن الله هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة، لا شريك له فيها، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من القول الباطل ما يقولون، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحد، لأنه لا يُعَازُّه شيء).

وقوله: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . أي: السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم.

وقوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} .

إِخْبارٌ بأن الملك كله في هذا الكون لله، وإليه يرجع الأمر كله، فهو المثيب والمعاقب، وإنما يعظم المشركون ما لا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا، ويمضون بذلك التيه والضلال وراء أوهامهم وتخرّصهم وكذبهم وإفكهم.

وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} .

قال النسفي: (أي جعل لكم الليل مظلمًا لتستريحوا فيه من تعب التردد في النهار {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} مضيئًا لتبصروا فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم). وقال ابن كثير:

ص: 661

({إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}، أي: يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها، ويستدلون على عظمة خالقها ومقدّرها ومسيِّرها).

68 -

70. قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}.

في هذه الآيات: إِخْبَارُ الله تعالى عن تجرؤ المشركين على انتقاص صفات الله، فهم يدعون له الولد، والله تعالى هو الغني الملك له سلطان السماوات والأرض، والذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. إنما هو متاع قليل في الدنيا ثُمَّ مرجعهم إلى الله، فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يشركون.

فقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .

قال القاسمي: (تنزيه له عن أن يجانس أحدًا، أو يحتاج إليه، وتعجب من كلمتهم الحمقاء، {هُوَ الْغَنِيُّ} أي الذي وجوده بذاته، وبه وجود كل شيء، فكيف يماثله شيء؟ ومَنْ له الوجود كله، فكيف يجانسه شيء، والجملة علة لتنزيهه، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة، إما للتقوي به، أو لبقاء نوعه، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تقرير لغناه، أي فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدًا).

وقوله: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} - المراد تجهيلهم، وأنه لا دليل على ادعائهم إلا تقليد الأوائل، واتباع جاهل لجاهل، وأما البرهان الساطع فهو في حجج الله ووحيه العظيم، وهو ينقض دعواهم ويبطل منهجهم ويكشف باطلهم، ولذلك قال سبحانه:{أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

وفي التنزيل: قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 88 - 95].

ص: 662

وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} .

أي: قل - يا محمد - لهؤلاء الذين يفترون على الله الباطل ويتطاولون بانتقاص جلال صفاته وكمالها، فيدعون له ولدًا، لن تفلحوا في طريقتكم بل إنكم تمتعون أيام حياتكم الدنيا، ثم تردون إلى أشد العذاب بما كنتم تكفرون.

قال ابن جرير: ({لَا يُفْلِحُونَ} يقول: لا يَبْقَوْن في الدنيا، ولكن لهم متاع في الدنيا يمتعون به، وبلاغ يتبلغون به إلى الأجل الذي كُتِبَ فناؤهم فيه، {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}، يقول: ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم، إلينا مصيرهم ومنقلبهم، {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ}، وذلك إصلاؤهم جهنم، {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} بالله في الدنيا، فيكذبون رسله، ويجحدون آياته).

71 -

73. قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}.

في هذه الآيات: أمْرُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقصص على كفار مكة نبأ نوح صلى الله عليه وسلم مع قومه، إذ تحدّى قومه الذين استكبروا عن وعظه لهم بحجج الله البالغة أن يفعلوا ما بوسعهم فهو متوكل على ربه، ولا يريد منهم أجرًا، بل كان هو أول المسلمين. فلما أصروا على عنادهم وتكذيبهم أغرقهم الله ونجّى نوحًا ومن معه من المؤمنين، فجعلهم خلائف في الأرض من بعدهم وساء عاقبة المنذرين.

فقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أي: أخبرهم - يا محمد - واقصص على كفار مكة الذين يكذبونك ويجحدون نبوتك خبر نوح عليه الصلاة والسلام {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} . قال ابن جرير: (يقول: إن كان عظُمَ عليكم مقامي بين أظهركم وشق عليكم {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ}، يقول: ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك).

ص: 663

وقوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} . أي: إن عزمتم على طردي أو قتلي أو التخلص مني فإني لا أبالي بما تبيتون من مكر، فعلى الله اتكالي، وبه ثقتي، وهو سندي ومعيني.

وقوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} . قال الأعرج: (يقول: أحكموا أمركم، وادعوا شركاءكم). وقد نصب {شُرَكَاءَكُمْ} بالتقدير السابق. أي: وادعوا شركاءكم.

وقوله: {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} الآية. قال قتادة: (لا يكبر عليكم أمركم). قال ابن كثير: (أي: ولا تجعلوا أمركم عليكم مُلتَبِسًا، بل افصِلُوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم مُحقُّونَ فاقضوا إلي {وَلَا تُنْظِرُونِ} أي: ولا تؤخروني ساعة واحدة، أي مهما قدرتم فافعلُوا، فإنى لا أبالي بكم ولا أخاف منكم، لأنكم لستم على شيء، كما قال هود لقومه: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]).

وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . قال القاسمي: ({فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي عن الإيمان بما جئتكم به {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي جُعْلٍ على عظتكم، أي فلا باعث لكم على التولي والنفور {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} أي ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى، يثيبني به، آمنتم أو توليتم، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي المستسلمين له وحده بالإيمان به، ونبذ كل معبود دونه).

وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} .

إِخْبَارٌ من الله تعالى عن تكذيب قوم نوح لنبيّهم، وما أعقب ذلك من هلاكهم بالغرق، ونجاة المؤمنين معه في السفينة واستخلافهم في الأرض، فانظر يا محمد كيف كانت نهاية القوم المنذَرين بالوحي وحجة الله البالغة، المقابلين ذلك الإنذار والبرهان والحجج بالتكذيب والمكر.

74 -

78. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ

ص: 664

مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)}.

في هذه الآيات: إِخْبَارُ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن متابعته إرسال الرسل - من بعد نوح - إلى أقوامهم بالحجج الدامغات، وطَبْع الله على قلوب المكذبين. وكذلك كان شأن فرعون وقومه مع موسى عليه السلام، كذبوه واتهموه بالسحر ومحاولة أخذ الرياسة منهم في الأرض وما كانوا مؤمنين.

فقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} . أي: من بعد نوح {رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} - أي بالحجج الدامغات والبراهين القاطعات على صدق النبوة وما جاؤوا به من الوحي، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}. قال النسفي:(يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق، فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد).

وقوله: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} . أي: نختم على قلوب المجاوزين الحدّ في الكفر والعناد والتكذيب.

وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} . أي: من بعد تلك الرسل والأمم. {مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} - أي أشراف قومه. {بِآيَاتِنَا} - قال القرطبي: (يريد الآيات التسع). وقال ابن جرير: ({بِآيَاتِنَا}، يقول: بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان لله بالعُبودة، والإقرار لهما بالرسالة).

وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} . أي: تكبروا عن الحق وكانوا مشركين آثمين. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} .

أي: فلما جاء فرعون وقومه دلائل الحق وبينات الهدى حملوا المعجزات على السحر مخففين من قيمتها لئلا تؤثر في حياة الناس، شأن الطغاة على مدار الزمان، يتفننون في حرف الناس عن صدق الإيمان ومتابعة الرسل خشية على مصالحهم وزينةِ دنياهم الفانية.

وقوله: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} . إنكار بعد إنكار، فالإنكار

ص: 665

الأول: {أَتَقُولُونَ} وقولهم محذوف، أي هذا سحر. والإنكار الثاني:{أَسِحْرٌ هَذَا} خبر ومبتدأ. وهو استفهام إنكار من قول موسى وليس من قولهم، لأنهم بتّوا القول بأنه سحر. قال القاسمي:(فهو مستأنف لإنكار كونه سحرًا، وتكذيب لقولهم، وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ).

وقوله: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} . أي: ولا يظفر الساحرون ولا فلاح لهم ولا بقاء.

وقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} . أي: لتصرفنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا قبل مجيئك إلينا. قال قتادة: (لتلوينا عما وجدنا عليه آباءنا).

وقوله: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} - يعني السلطان والملك والعظمة. قال مجاهد: (السلطان في الأرض). أو قال: (الملك). وقال الضحاك: ({وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ}، قال: الطاعة).

وقوله: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} . أي: ونحن غير مقرين لكما بالرسالة - يا موسى وهارون.

79 -

82. قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}.

في هذه الآيات: إِخْبَارُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عن استنفار فرعون سحرته لمقارعة موسى بما معه من الحق، وتحذير موسى السحرة أن السحر باطل لا يصمد أمام الحق والله لا يصلح عمل المفسدين. بل يحق الله الحق ويرفع أهله ولو كره المجرمون.

فقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} - محاولة من فرعون لطمس الحق المبين، بالبهرجة على الناس بحركات المشعوذين وزخارف السحرة المبطلين، ولكن الأمر مضى بعكس ما أحبّ، فانقلب السحر على الساحر، وآمن السحرة وخروا لله ساجدين.

وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} - أي من حبالكم

ص: 666

وعصيّكم. وقوله: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} . قال ابن جرير: (فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون، أنه سحر). وهناك من قرأها من المدنيين والبصريين: "ما جئتم به آلسِّحر؟ " على وجه الاستفهام، لكن لا وجه له، لأن موسى لم يكن شاكًا أنه سحر.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116].

2 -

وقال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 67 - 69].

قال ابن كثير: (فأراد موسى أن تكون البَدْأَةُ منهم، ليرى الناس ما صنعوا، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} . أي: إن الله سيظهر بطلان هذا السحر وسيذهب به، فإنه لا يصلح عمل من بغى في الأرض وأراد إفشاء الفساد فيها ونشر المعاصي والآثام.

وقوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .

قال القرطبي: ({وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} أي يبيّنه ويوضحه، {بِكَلِمَاتِهِ} أي بكلامه وحججه وبراهينه، وقيل: بعداته بالنصر، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} من آل فرعون).

83 -

86. قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}.

في هذه الآيات: إِخْبَارُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أنه لم يؤمن مع موسى إلا طائفة قليلة على خوف من بطش فرعون وملئه، فلقد كان فرعون عاتيًا من المجرمين، فطمأن موسى

ص: 667

من اتبعه وأمرهم بحسن التوكل على الله إن كانوا صادقين، فاستجابوا له وأعلنوا اعتمادهم على ربهم راجين أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين، وأن ينجيهم - تعالى - برحمته من القوم الكافرين.

فقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} . أي: فلم يؤمن لموسى ويتابعه على الحق إلا قلة من قومه خائفين من بطش فرعون وملئه. قال قتادة: (كان ابن عباس يقول: "الذرية"، القليل).

وقوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} . أي: وإن فرعون كان جبارًا عنيدًا مسرفًا في الظلم والعتو والتمرد، يخشى الناس في زمانه من شدة سطوته وطغيانه، وقد بلغ به الإسراف أن ادعى الربوبية وهو عبد حقير يحتاج للطعام والشراب والنوم والتغوط وما يجري على المخلوق.

وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} .

إخبار من الله سبحانه عن قيل موسى لقومه: يا قوم إن كنتم صدقتم ربكم الإيمان وأفردتموه بالتعظيم والخضوع فثقوا به، وأسلموا لأمره، واستسلموا لقضائه وقدره فإنه تعالى لن يضيع أولياءه.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

2 -

وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36].

3 -

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29].

4 -

وقال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9].

قال ابن القيم: (وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموعة أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها، فأول ذلك معرفة بالله وصفاته: من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته).

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها ابراهيم صلى الله عليه وسلم حين أُلقِيَ في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس

ص: 668

قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل] (1).

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: [اللهم لك أسْلَمْتُ وبِكَ آمَنْتُ، وعليك توكَّلْتُ، وإليكَ أنَبْتُ، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تُضِلَّني، أنت الحيُّ الذي لا يموتُ، والجِنُّ والإنسُ يموتون](2).

ثم إن قوم موسى توكلوا على الله وألجؤوا أمرهم إليه ورجوه سبحانه ألا يبتلي قوم فرعون بهم، وهو قوله تعالى:{فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} - وفيه أقوال متكاملة:

1 -

قال أبو مجلز: (قالوا: لا تظهرهم علينا، فيروا أنهم خيرٌ منا).

2 -

قال أبو الضحا: (لا تسلطهم علينا، فيزدادوا فتنة). وقال مجاهد: (لا تسلطهم علينا فيفتنونا). أو قال: (فيضلونا).

3 -

وعن مجاهد أيضًا: ({لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: "لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عُذِّبوا"، فيفتنوا بنا).

وقوله تعالى: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . قال ابن جرير: (- أي - ونَجِّنا، يا ربنا، برحمتك، فخلِّصنا من أيدي القوم الكافرين، قوم فرعون، لأنهم يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القذرة من خدمتهم).

87 -

89. قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (8/ 172). وفي رواية له عن ابن عباس قال: [كان آخرَ قولِ إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل].

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (11/ 101)، وأخرجه مسلم (2717) - من حديث ابن عباس.

ص: 669

أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)}.

في هذه الآيات: وَحْيُ الله تعالى إلى موسى وأخيه عليهما السلام اتخاذ بيوت مناسبة بمصر لأقوامهما وجعلها مساجد للصلاة، والبشرى للمؤمنين. وتضرع موسى إلى ربه تغيير أموال فرعون وملئه التي يفسدون فيها ويصدّون عن الحق إلى غير حالتها لتصير إلى الهلاك كما تصير القلوب إلى الطبع والإقفال فلا يؤمن أصحابها حتى يروا العذاب الأليم. واستجابة الله تعالى دعوة موسى وتأمين هارون عليها وأمره لهما بالاستقامة على سبيل الحق واجتناب سبيل الجاهلين.

فقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} . أي: اتخذوا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها. ومن أقوال المفسرين في هذه الآية:

1 -

عن ابن عباس: ({وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، قال: مساجد). وقال: (أمروا أن يتخذوها مساجد). وقال: (كانوا يَفْرَقون من فرعون وقومه أن يصلّوا، فقال لهم: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، يقول: اجعلوها مسجدًا حتى تصلوا فيها).

2 -

وعن منصور، عن ابراهيم قال:(كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم). وقال مجاهد: (كانوا لا يصلون إلا في البيع، وكانوا لا يصلون إلا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم).

3 -

وقال ابن زيد: ({وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال أبي: اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلُّون فيها، تلك "القبلة").

4 -

وقال قتادة: (وذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم، وأن يوجهوا نحو القبلة).

وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} - أمر من الله تعالى لهم بأداء الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها، والبشرى للمؤمنين الصابرين المخبتين لأوامر ربهم سبحانه وتعالى.

ص: 670

وفي سنن أبي داود بإسناد حسن عن حذيفة قال: [كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمر صَلَّى](1).

وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .

إِخْبَارٌ من الله تعالى عن قول موسى: يا ربنا، إنك أعطيت فرعون وحاشيته من الملأ من أشراف قومه من متاع الحياة الدنيا وزينتها ومن الأموال من أعيان الذهب والفضة وغيرها، وهم مع ما أعطيتهم يضلون عن سبيلك، ويصدون عن سبيلك.

قال ابن جرير: (وقوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} هذا دعاء من موسى، دعا الله على فرعون وملئه أن يغيّر أموالهم عن هيئتها، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها). قال مجاهد: ({رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} قال: أهلكها). وعن ابن عباس قال: (يقول: دمِّر عليهم وأهلك أموالهم، {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، يقول: واطبع على قلوبهم، {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، وهو الغرق). وقال مجاهد ({وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، بالضلالة). وقال الضحاك: (يقول: أهلكهم كفارًا).

وقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . قال عكرمة: (كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فذلك قوله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}). وعن ابن عباس: ({فَاسْتَقِيمَا} فامضيا لأمري، وهي الاستقامة). وقال ابن جرير: (وقوله: {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، يقول: ولا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعدي لا خلف له، وإن وعيدي نازلٌ بفرعون، وعذابي واقع به وبقومه).

قلت: وهذه الآيات العظيمة جزء من بناء منهج المفاصلة الذي سار عليه الأنبياء والرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - وهو منهاج قائم لمن بعدهم إلى يوم القيامة.

(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (1319) - انظر صحيح سنن أبي داود (1171) - كتاب الصلاة. باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل.

ص: 671

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].

2 -

وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].

3 -

وقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 112، 113].

ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه - يعني لما وصلوا الحِجْر ديار ثمود فيما بين المدينة والشام -: [لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يُصيبكم ما أصابهم](1). وفي رواية: [لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين. ثم قَنَّعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي].

الحديث الثاني: أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفًا ولا شرطيًا ولا جابيًا ولا خازنًا](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد والطبراني بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3381) - كتاب الأنبياء -، وأخرجه مسلم (2980)، وأحمد (2/ 9، 58) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1558 - موارد)، والطبراني في "المعجم الكبير"(ص 117) من طريق أخرى، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (360).

ص: 672

عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [سيكون في آخر الزمان شُرَطة يغدون في غضب الله وَيَرُوحونَ في سخط الله، فإياك أن تكون من بطانتهم](1).

90 -

93. قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}.

في هذه الآيات: قِصَّةُ اختراقِ بني إسرائيل البحر مع موسى ومطاردة فرعون وجنوده لهم، وإعلان فرعون الإيمان لحظة الغرق وقد فات الأوان، وجَعْل الله جسده باقيًا للعبرة تنظر إليه الأمم المتعاقبة. وإخبار الله تعالى عن بعض نعمه الجليلة على بني إسرائيل بعد إهلاكه فرعون، وحصول الخلاف بينهم بعد حصول العلم ظلمًا وبغيًا، والله يقضي بينهم ويجازيهم يوم القيامة بأعمالهم.

فقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا} الآية.

فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر صحبة موسى عليه السلام في حوالي ست مئة ألف مقاتل - فيما ذكر - سوى الذرية، أتبعهم فرعون وركب وراءهم بجيوش هائلة وفي أبَّهةٍ عظيمة، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته، فلحقوهم وقت شروق الشمس. {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]. وسأل أصحاب موسى نبيّهم كيف المخلص والنجاة مما نحن فيه؟ فيقول: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، إني أمرت أن أسلك ها هنا، ثم أمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، أي كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقًا، لكلِ سبط واحد. وأمر الله الريح فنشفت

(1) حديث صحيح الإسناد. أخرجه أحمد (5/ 250)، والحاكم (4/ 436)، وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(رقم - 8000). وانظر السلسلة الصحيحة - حديث رقم - (1893).

ص: 673

أرضه، وهو قوله تعالى:{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]، وجاوزت بنو إسرائيل البحر، فلما انتهى فرعون إلى حافة البحر الأخرى اقتحم بجيوشه لينفذ قدر الله فيه، فأمر الله البحر فارتطم بأمواجه فوقهم فما نجا منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وغشيت فرعون سكرات الموت فقال عندئذ:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ولكنه آمن حيث لا ينفعه الإيمان، سنة الله فيه وفي أمثاله، قال تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} .

وقوله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . قال ابن جرير: (الآن، تقرّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك، فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض، الصادِّين عن سبيله؟ فَهَلّا وأنت في مَهَلٍ، وباب التوبة لك منفتح، أقررت بما أنت به الآن مقرٌّ؟ ).

أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما أغرق الله فرعون قال: آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل: يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخِذٌ من حالِ البحر فأدُسُّهُ في فيهِ، مخافةَ أن تدركه الرحمة](1). وحال البحر: هو الطين الأسود، والتراب اللين، وفي رواية:(من حمأِ البحر).

وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} قال مجاهد: ({فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} قال: بجسدك). وقال عبد الله بن شداد: (جسده رمى به البحر). وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:(لما جاوز موسى البحر بجميع من معه، التقى البحر عليهم - يعني: على فرعون وقومه - فأغرقهم، فقال أصحاب موسى: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه. فدعا ربّه فأخرجه فنبذه البحر، حتى استيقنوا بهلاكه).- والله تعالى أعلم. وقال الحسن: ({بِبَدَنِكَ}: بجسم لا روحَ فيه). قلت: والذي لا شك فيه أن الله تعالى

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 245)، والترمذي في السنن (3107)، وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (5082).

ص: 674

أراد بإخراج جسده وحفظه أن يكون عبرة لكل طاغية على مر الأزمان، ليعلم الظالمون مكر الله بهم، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. وهو قوله:{لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} .

وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لَيُمْلي للظالم، فإذا أخذه لم يُفْلِتْه، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](1).

وقد كان إهلاك الله تعالى فرعون الطاغية يوم عاشوراء، ولذلك جاءت السنة الصحيحة بندب صيام ذلك اليوم لتذكر آيات الله العظيمة، لا كالذين قال فيهم:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} - أي لا يعتبرون ولا يتعظون.

أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: [قدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصومُ يوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومُ نَجّى الله بني إسرائيل من عَدُوِّهم، فصامَهُ موسى، قال: فأنا أحَقُّ بموسى منكم. فصامه وأمر بصيامه](2).

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيامِ يومِ عاشوراء، فلما فُرِض رمضانُ كانَ مَنْ شاء صامَ ومَنْ شاءَ أفطر](3).

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .

إِخْبَارٌ من الله تعالى عن بعض نعمه الجليلة على بني إسرائيل بعد إهلاكه فرعون، فقد جعل لهم مبوأ صدق في بلاد مصر والشام، مما يلي بيت المقدس ونواحيه، وأغدق عليهم من الرزق الحلال الطيب النافع، فلم يحصل الخلاف والافتراق بينهم إلا بعد حصول العلم بغيًا وظلمًا وعلوًا في الأرض بالشبهات والشهوات، وإن الله سيقضي بينهم يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم.

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1831)، كتاب الظلم، باب: في الإملاء للظالم. ورواه البخاري. انظر صحيح البخاري (4686) - كتاب التفسير - سورة هود - آية (102).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2004) - كتاب الصوم - باب صوم يوم عاشوراء، وأخرجه مسلم في صحيحه (1130)، وأخرجه أحمد (1/ 291)، وابن حبان (3625)، وغيرهم.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (2001) - كتاب الصوم - باب صوم يوم عاشوراء. وانظر كذلك الحديث (2002) منه.

ص: 675

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].

2 -

وقال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59].

لقد استقرت دولة موسى عليه السلام بعد هلاك فرعون - على بلاد مصر، فألح بنو إسرائيل على بيت المقدس وكان فيه قوم من العمالقة، فلما مضى بهم موسى نكلوا عن قتالهم، فشردهم الله في التيه أربعين سنة، ومات فيه هارون، ثم موسى عليهما السلام وخرجوا بعدهما مع يوشَع بن نون، ففتح الله عليهم بيت المقدس. قال ابن كثير:(واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بُخْتَنَصَّر حينًا من الدهر، ثم عادت إليهم، ثم أخذها ملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم مدة طويلة، وبعث الله عيسى بن مريم عليه السلام في تلك المدة، فاستعانت اليهود - قَبَّحهم الله - على معاداة عيسى عليه السلام بملوك اليونان، وكانت تحت أحكامهم، ووشَوا عندهم، وأوحوا إليهم أن هذا يُفسد عليكم الرعايا. فبعثوا من يقبض عليه، فرفعه الله إليه وشبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره، فأخذوه فصلبوه، واعتقدوا أنه هو، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158]. ثم بعد المسيح عليه السلام بنحو ثلاث مئة سنة، دخل قسطنطينُ - أحد ملوك اليونان - في دين النصرانية، وكان فيلسوفًا قبل ذلك. فدخل في دين النصارى قيل: تقية، وقيل: حيلةً ليفسده، فوضعت له الأساقفةُ منهم قوانين وشريعةً وبِدعًا أحدثُوها، فبنى لهم الكنائسَ والبيَعَ الكبار والصغار، والصوامع والهياكل، والمعابد والقلَّايات (1). وانتشر دينُ النصرانية في ذلك الزمان، واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف، وَوَضْعٍ وكذب، ومخالفة لدين المسيح. ولم يبقَ على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليلُ من الرهبان، فاتخذوا لهم الصوامعَ في البراري والمهامِهِ والقِفار.

واستحوذت يدُ النصارى على مملكةِ الشام والجزيرة وبلاد الروم، وبنى هذا الملك المذكورُ مدينة قُسطنطِينيَّةَ، والقُمَامة، وبيتَ لحم، وكنائس بيت المقدس، ومدن

(1) القلايات: جمع قلاية، وهي كالصومعة في الكنيسة.

ص: 676

حَوران كبصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة، وعَبَدُوا الصليب من حينئذ، وصَلُّوا إلى المشرق، وصَوَّروا الكنائس، وأحلُّوا لحم الخنزير، وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول، ووضعوا له الأمانةَ الحقيرة التي يسمونها الكبيرة، وصَنَّفوا له القوانين، وبسطُ هذا يطول. والغَرَضُ أن يَدَهُمْ لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة رضي الله عنهم وكان فتحُ بيتِ المقدس على يَدَي أمير المؤمنين عُمرَ بن الخطاب، رضي الله عنه، ولله الحمد والمنة).

والخلاصة: أَنَّ الله تعالى صدق بني إسرائيل النصر حين صدقوه، فلما ركبوا الأهواء وتفرقوا وخاضوا في شهواتهم سلط الله عليهم الذل في الأرض، وهذا درس بليغ لهذه الأمة ألا تحذو حذوهم.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند حسن عن أبي عامر عبد الله بن لُحَيّ قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة، قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين مِلّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين مِلَّة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تُجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلا دخله. والله - يا معشر العرب - لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقومَ به](1).

وأخرج أبو داود وابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [افترقت اليهود على إحدى أو ثِنْتين وسبعين فِرْقَةً، وتَفرَّقت النَّصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فِرْقَةً، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة](2).

ورواه الحاكم وفيه: [أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فِرقة، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي].

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (4/ 102)، وأبو داود (4597)، وله شواهد كثيرة.

(2)

حسن صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4596) - كتاب السنة، باب شرح السنة. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (3842)، ورواه الحاكم وغيره، وله شواهد.

ص: 677

94 -

97. قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)}.

في هذه الآيات: تثبيتٌ من الله تعالى لهذه الأمة أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة، وطمأنة للنبي صلى الله عليه وسلم للثبات في مواجهة المكذبين المعاندين. وتقرير منه تعالى أن الذين لزمتهم كلمة الله في اللوحِ المحفوظ لا يؤمنون. عقوبة من الله لهم مقابل استكبارهم ليموتوا كافرين، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.

فقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} . قال ابن عباس: (التوراة والإنجيل، الذين أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به. يقول: فاسألهم إن كنتَ في شكٍ بأنك مكتوب عندهم).

وعن الحسن، في هذه الآية، قال:(لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسأل). وكذا قال سعيد بن جبير: (ما شكَ وما سأل).

ووجه ذلكَ كما قال الحافظ بن كثير رحمه الله: (وهذا فيهِ تثبيتٌ للأمةِ، وإعلامٌ لهم أن صِفةَ نَبِيِّهم صلى الله عليه وسلم موجودةٌ في الكُتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] الآية).

وقوله: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} - أي الشاكين المرتابين.

وفي مفهومِ الآية وتوجه الخطاب بها أقوال للمفسرين يكمل بعضها بعضًا:

1 -

المقصود تكثير الدلائل وتقويتها، لتزداد قوة اليقين، وطمأنينة القلب، وسكون الصدر.

2 -

الاستدلال على تحقيق ما قص، والاستشهاد بما في الكتاب المتقدم، وأن القرآن مصدق لما فيه.

ص: 678

3 -

وصف الأحبار بالرسوخ في العلم، بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعريضًا بالمشركين.

4 -

تهييج الرسول - صلوات الله عليه - وتحريضه ليزداد يقينًا كما قال إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .

5 -

الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته. قال القاسمي:(وفيه من قوة التأثير في القلوب ما لا مزيد عليهِ، بمثابة ما لو خاطب سلطان عاملًا له على بلدته بحضور أهلها بوصاياه وأوامره الرهيبة، فيكون ذلكَ أفعل في النفوس).

6 -

الخطاب لكل من يسمع وهو في شك. قال النسفي: (أو الخطاب لكل سامع يجوز عليه الشك). وقال القُتَبيّ: (هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم، بل كان في شك) - ذكره القرطبي.

وقال القاسمي: (وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها، بمقادحة العلماء المنبهين على الحق).

7 -

وقيل: الشك ضيق الصدر، أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم. والشك في اللغة أصله الضيق - ذكره القرطبي وقال:(فالشكُّ يقبض الصدر ويضمه حتى يضيق).

وقوله تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

قال ابن جرير: (ويقول تعالى ذكره لنبيهِ صلى الله عليه وسلم: ولا تكونن، يا محمد، من الذين كذّبوا بحجج الله وأدلته، فتكون ممن غُبنَ حظه، وباع رحمة الله ورضاه، بسخطه وعقابه).

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .

أي: إن الذين ثبت عليهم قول الله المكتوب في اللوح المحفوظ أنهم يموتون كفارًا فلا سبيل إلى هدايتهم، فإن الله سبحانهُ كتب كل شيء بعلمه وعدله وحكمته، وهؤلاء صنف يعلم الله تعالى أنهم سيؤمنون به أول مرة حين يبصرون العذاب الأليم.

ص: 679

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111].

2 -

وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].

3 -

وقال تعالى - يحكي دعاء موسى على فرعون وملئه -: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88].

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [كتب اللهُ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وعَرْشُهُ على الماء](1).

98 -

103. قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)}.

في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن قوم يونس إذ تداركوا أنفسهم بالإيمان قبل حلول العذاب بهم. وأنَّ سنتهُ تعالى ترك اختيار الإيمان للناس وإلا لو شاء الله لأجبرهم عليه. وأنَّه ما كان لنفس اختيار الإيمان إلا بإذن الله. ثم في الآيات دعوة الله العباد للنظر في ملكوتِ السماوات والأرض ليقودهم ذلكَ النظر إلى الإيمان، وكذلكَ الاعتبار

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2653) - كتاب القدر - وروى أحمد وأهل السنن نحوه.

ص: 680

بمصير الأمم المكذبة عبر الزمان، وقد كتب اللهُ الغلبة في النهاية والنجاة لأهل الصدق في الإسلام.

فقوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} . قال ابن عباس: (لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله، إلا قرية يونس). وقال مجاهد: (فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها، كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس).

وقال قتادة: (لم يكن هذا في الأمم قبلهم، لم ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب، فتُرِكت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف اللهُ في قلوبهم التوبةَ، ولبسوا المسوح (1)، وفرقوا بين كل بهيمةٍ وولدها، ثم عَجُّوا إلى الله أربعين ليلة. فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبةَ والندامة على ما مضى منهم، كشف اللهُ عنهم العذابَ بعد أن تدلَّى عليهم. قال وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرضِ الموصل).

والمقصود: أنه لم تؤمن قرية بكمالها من القرى في الأمم السالفة برسولها، بل كان التكذيبُ شعار أكثرها، إلا أهل نينوى - قوم يونس - خافوا نزول العذاب بهم إذ أنذرهم به رسولهم وقد خرج من بينهم وشعروا بدنو حلوله، فهنالك جأروا إلى الله تعالى واستغاثوا به وتضرعوا إليهِ، وأحضروا أطفالهم ودوابّهم ومواشيهم ذلكَ المشهد، فآمنوا واستغفروا فقبل اللهُ منهم وكشف عنهم العذاب الذي أنذرهم به رسولهم.

وبغير ذلك - يا محمد - كان شعار الأمم الماضية التكذيب بالرسل.

كما في التنزيل:

1 -

قال تعالى: {يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30].

2 -

وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52].

3 -

وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].

(1) المسوح: جمع مسح، وهو كساء من شعر يلبسه الراهب، والمقصود التقشف.

ص: 681

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: عُرِضَتْ عليَّ الأُمَمُ فجعلَ يمرُّ النبيُّ معهُ الرَّجُل، والنبي معهُ الرَّجُلان، والنبيُّ معهُ الرَّهْطُ، والنَّبيُّ ليسَ معه أحد. .] الحديث (1).

ولا شكَ أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر تلك الأمم إيمانًا واتباعًا لرسولها صلى الله عليه وسلم، فهي لكثرتها تسد الخافقين الشرقي والغربي يوم القيامة، ويليها أمة موسى عليه الصلاة والسلام كما يدل على ذلكَ تتمة الحديث السابق.

وعن السدي: ({وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} - إلى أجلهم). وعن عباس قال: (إلى أن يصيروا إلى الجنةِ أو إلى النار).

قال ابن جرير: (يقول: وأخرّنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبةِ، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم، ووقت فناء أعمارهم التي قضَيْتُ فَنَاءها).

وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .

هو في المشيئةِ الإذنية، فإن المشيئة كما وردت في القرآن والسنة ثلاثة أقسام:

أولًا: المشيئة الكونية: وهي نوعان: أ - المشيئة الإجبارية. ب - المشيئة الإذنية.

ثانيًا: المشيئة الشرعية. (الأمر والنهي - الثواب والعقاب).

ثالثًا: المشيئة المشتركة.

وقد فصلت ذلكَ في كتابي: "أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان"، فلله الحمد والمنة.

والمقصود هنا أنه لا أحد اختار الإيمان رغم مشيئة الله، ولا أحد اختار الكفر رغم مشيئة الله، بل الكل داخل في اختياره تحت مشيئته سبحانه، فلا يستطيعُ أحد أن يخرجَ بإرادتهِ ومشيئته عن إرادة الله ومشيئته عز وجل.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (5752) - كتاب الطب - باب مَنْ لم يَرْقِ.

ص: 682

2 -

وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107].

3 -

وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93].

4 -

وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]. أي إن آمنوا - يا محمد - فبمشيئة ربكَ لا بإكراهك لهم، ولا بحرصك على ذلك منهم.

5 -

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100].

قال ابن عباس: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100]، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق لهُ من الله الشقاء في الذكر الأول).

وعن سفيان: ({وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، قال: بقضاء الله).

وعن ابن عباس: ({وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ} قال: السَّخَط). أي: ويجعل اللهُ الضلال والخبال والسخط على الذين لا يعقلون حججه وأدلته، ولا يفهمون أبعاد اتباع الهوى ومغبة تعظيم الشبهات والشهوات.

وقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . إرشاد من الله تعالى عباده إلى النظر في أرجاء هذا الكون الفسيح والتفكر بدقائق آياته ومخلوقاته: سواء في السموات: كالكواكب النيّرات والأفلاك والمجرّات، الثوابت منها والسيّارات، إلى الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من البرد والثلج والمطر، فأحيا به في الأرض الينابيع والنبات والشجر، ومختلف الدواب وصنوف البشر، وفي الأرض آيات عظيمة أخر، كالجبال والسهول والقفار والوديان والبحيرات والبساتين والنهر، كل ذلكَ يدل على وجوب تعظيم الملك المقتدر.

وقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} .

أي: وما تفيدُ الحجج والعبر والرسل وعظيم الآيات من قومٍ كتب اللهُ عليهم

ص: 683

الشقاء، نتيجةَ عتوهم وتمردهم على الحق وبغيهم في الأرض بالظلم والإفساد.

وقوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} . قال قتادة: (يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم، قوم نوحٍ وعاد وثمود).

وقوله: {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} . قال الربيع بن أنس: (خوَّفهم عذابه ونقمتهُ وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلكَ أمرٌ، أنجى الله رسله والذين آمنوا معهُ، فقال الله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}).

فهو حق أوجبه سبحانه على نفسه الكريمة، بنجاة الرسل ونزول الرحمة بهم وبأتباعهم المؤمنين، وهلاك الطغاة والعتاة والمتمردين، سنة الله ولن تجد لسنته تبديلًا.

وفي التنزيل:

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].

وفي الصحيحين: عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله لما خَلَقَ الخلق كتب كتابًا عنده فوق العرش، إن رحمتي تَغْلِبُ غضبي](1).

وفي رواية: (إن رحمتي سبقت غضبي).

104 -

107. قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)}.

في هذه الآيات: دَعْوَةُ الله تعالى نبيهُ صلى الله عليه وسلم لإعلان تمسكه بالدين الحق أمام

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (3194)، (7404)، (7553)، وأخرجه مسلم (2751)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 313، 381، 397، 432)، والترمذي في الجامع (3543)، وابن ماجه في السنن (4295)، وغيرهم.

ص: 684

المشركين، وأن آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع هي التي هزلت فهي في موضع الشك وليس الذي يملك الموت والحياة والنفع والضر. إنه إن يمسسك الله بضر فلا يملك كشفه إلا هو سبحانه، وإن يردكَ بخير فلا يقدر منعه عنك أحد، يصيب تعالى برحمته من يشاء وهو الغفور الرحيم.

فقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

خِطَابٌ من الله تعالى لنبيهِ محمد صلى الله عليه وسلم: أن قل لهؤلاء المكذبين نبوتكَ والوحي النازل إليكَ من ربك: إن كنتم في شكٍ من ديني الذي أدعوكم إليهِ وأنهُ حق من عند الله، فها أنا لا أشارككم في دينكم الباطل، ودعوتكم الأصنامَ والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، بل أعبد الله ربي وحدهُ لا شريكَ له، ومن ثمَّ فلا أخاف ضررًا من آلهتكم المخلوقة الباطلة، فادعوها إن شئتم فلتضرني، فإنها لا تضر ولا تنفع، وقد أمرني ربي أن أكون بهِ من المؤمنين.

قال ابن جرير: (وقوله: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}، يقول: ولكن أعبد الله الذي يقبض أرواحكم فيميتكم عند آجالكم، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من المصدقين بما جاءني من عنده).

وقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

أي: وأمرني ربي أن أستقيم على دينِ الإسلام، ولا أنحرف عنه إلى وثنية أو يهودية أو نصرانية، فإنه من يبتغ غير الإسلامِ دينًا فلن يقبل منهُ، ومن يشرك باللهِ يحبط عمله.

أخرج الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من ماتَ لا يشركُ باللهِ شيئًا دخل الجنة، ومن ماتَ يشرك باللهِ شيئًا دخل النار](1).

وفي صحيح مسلم أيضًا عن والد أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حَرُمَ ماله ودمه](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (93)، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات مشركًا دخل النار.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (23)، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، من حديث والد أبي مالك الأشجعي.

ص: 685

وقوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} .

قال القرطبي: ({وَلَا تَدْعُ} أي لا تعبد. {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ} إن عبدته. {وَلَا يَضُرُّكَ} إن عصيته. {فَإِنْ فَعَلْتَ} أي عبدت غير الله {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أي الواضعين العبادة في غير موضعها).

وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

أي: إن يصبكَ اللهُ بضر كتبهُ عليكَ فلا دافع له سواه سبحانهُ، وإن يصبكَ برخاء أو فضل أو نعمةٍ أو فرج فلا راد لفضله، فهو يصيب بكل ما أراد من الخير والشر لا يشاركه أحد، وهو الغفور لذنوب عبادهِ وتقصيرهم وزللهم، الرحيم بأوليائه في الآخرة.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود بسند صحيح عن أبي تميمة عن رجل من قومه، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهُ رجل فقال: أنتَ رسول الله؟ أو قال: أنتَ محمد؟ فقال: نعم. قال: فإلامَ تَدْعو؟ قال: [أدعو إلى ربك الذي إن مسّكَ ضر فدعوتهُ كشفَ عنك، والذي إن ضللت بأرضٍ قفرٍ فدعوتهُ ردّ عليك، والذي إن أصابتكَ سنة فدعوتهُ أنبت لك](1).

108 -

109. قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)}.

في هذه الآيات: أمرُ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُصرِّحَ لقومه أن هذا القرآنَ هو الحق قد جاءكم من ربكم، فمن اتبع الهدى نجا واهتدى، ومن أصر على الكبر والكفر والعناد ضلّ وهلك، وما أنا مُوكَّلٌ بكم حتى تدخلوا في الإسلام. وإنما أنا نذير، وأمرت - كما أمرتم - باتباع هذا الوحي من ربي، والصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم وهو خير الحاكمين.

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4084). انظر صحيح سنن أبي داود (3442). ورواه أحمد. انظر تخريج مشكاة المصابيح (918)، وصحيح الجامع الصغير (242)، وقد مضى.

ص: 686

فقوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} . أي: قل - يا محمد - للناس، يا أيها الناس قد جاءكم كتاب الله فيه الحق من ربكم. {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}. قال ابن كثير:(فمن اهتدى به واتبعهُ فإنما يعود نفع الاتباع على نفسه - {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} - ومن ضل عنه فإنما يرجعُ وبال ذلكَ عليه. {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، أي: وما أنا مُوَكَّلٌ بكم حتى تكونوا مؤمنين به، وإنما أنا نذير لكم، والهداية على الله تعالى).

وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} .

أمرٌ من اللهِ لرسوله صلى الله عليه وسلم أَنْ تمسَّك بهذا الوحي فهو سرُّ النجاةِ والقوة والشوكة في الأرض، وإنما يحتاج ذلك إلى الصبر على مكائد الأعداء والخصومِ حتى يفصلَ اللهُ الأمر بحكمهِ فيعلي لواء المؤمنين ويكسر شوكة الكافرين، واللهُ خير الفاصلين.

قال ابن جرير: ({وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، يقول: وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين. فحكم جل ثناؤه بينه وبينهم يوم بَدْرٍ، قتلهم بالسيف، وأمر نبيّهُ صلى الله عليه وسلم فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم أو يتوبوا وينيبوا إلى طاعته).

وقال ابن زيد ({وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}، قال هذا منسوخ، {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ}، حكم الله بجهادهم، وأمره بالغلظةِ عليهم).

تم تفسير سورة يونس

بعون الله وتوفيقهِ، وواسع منِّهِ وكرمه

° ° °

ص: 687