الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن كنوز السنة الصحيحة في إثبات الرؤية في الآخرة أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم عن جابر في حديثه: [إن الله يتجلى للمؤمنين يضحك](1).
أي: في عرصات القيامة، مما يدل أن المؤمنين ينظرون إليه سبحانه في العرصات وفي روضات الجنات.
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنكم سترون ربكم عِيانًا. وفي رواية: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه: [أن أناسًا قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صَحْوًا ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صَحْوًا ليس معها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما](3).
فوائد هامة:
1 -
قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} دليل على ثبوت رؤيته من وجوه - عند أهل العلم -:
أ - لا يجوز أن يظن بكليم الله ورسوله وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز له.
ب - إن الله لم ينكر عليه سؤاله. فحين سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
ج - إنه سبحانه قال: {لَنْ تَرَانِي} ، ولم يقل:"إني لا أُرى" أو "لا تجوز رؤيتي" أو "لست بمرئي".
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (191)، في أثناء حديث مطول.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (573)، وأحمد (4/ 362)، وانظر صحيح مسلم (182).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (7437)، ومسلم (182)، وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (206 - 216) ج (1).
2 -
قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} دليل واضح على ثبوت الرؤية.
فقد سئل الإمام مالك عن هذه الآية، فقيل: قوم يقولون: إلى ثوابه. فقال مالك: (كذبوا، فأين هم عن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}؟ قال مالك: الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعينهم، وقال: لو لم يرَ المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعيِّر الله الكفار بالحجاب، فقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}) رواه في شرح السنة.
3 -
قوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} .
إعلام أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذا الدار، فكيف بالبشر؟ !
وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} .
فيه جواز تجلّيه سبحانه للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكنه سبحانه أعلم موسى أن الجبل إذ لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر أضعف.
وقوله: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} .
أي: مغشيًا عليه.
أخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا}. قال حماد: هكذا، وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى، قال: فساخ الجبل وخر موسى صعقًا](1).
وقوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} .
أي: لما أفاق من الغشي التجأ إلى الله تعالى منزهًا ومسبحًا ومعظمًا، ومُجِلًّا لله أن يراه أحد في هذه الحياة الدنيا إلا مات أو صعق، ثم سأل التوبة بقوله:{تُبْتُ إِلَيْكَ} .
قال مجاهد: (أن أسألك الرؤية). {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} . قال ابن عباس ومجاهد: (من بني إسرائيل).
وقال ابن عباس - في رواية أخرى -: (أنه لا يراك أحد). وقيل: (يقول: أنا أول من
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (3282) - أبواب تفسير القرآن - سورة الأعراف. وانظر صحيح سنن الترمذي (2458).
آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة).
أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: [جاء رجُلٌ من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لُطِمَ وَجْهُه وقال: يا مُحَمّدُ، إن رَجُلًا من أصحابك من الأنصار لَطَمَ في وَجْهي، قال: ادْعوه، فدَعَوْهُ قال: لِمَ لَطمْتَ وَجْهَهُ؟ قال: يا رسول الله، إني مَرَرْتُ باليهود فسمعتُه يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، فقلت: وعلى مُحَمّد؟ وأخذَتْني غَضْبة فَلطَمْتُه. قال: لا تخيِّروني من بين الأنبياء، فإن الناس يُصْعقون يوم القيامة فأكونُ أوَّل من يُفِيقُ، فإذا أنا بموسى آخِذٌ بقائمةٍ مِنْ قوائمِ العَرْش، فلا أدري أفاق قبلي أم جُزِيَ بِصَعْقَةِ الطور؟ ](1).
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [استَبَّ رجلان، رجُلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فَرَفَعَ المسلمُ يَدَهُ عند ذلك فَلَطَمَ وَجْهَ اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخْبَرَهَ بما كان من أمْرِه وأمْرِ المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المُسْلِمَ فسأله عن ذلك فأخْبَرَه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيِّروني على موسى، فإن الناس يصْعَقون يوم القيامة فأصْعَقُ معهم فأكون أوَّلَ من يُفيق، فإذا موسى باطِشٌ جانِبَ العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِقَ فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله](2).
وقوله تعالى: {قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
الاصطفاء: الاجتباء. والمقصود: تفضيل موسى صلى الله عليه وسلم على الناس المرسل إليهم، فقد اصطفاه الله على عالَمي زمانه برسالاته وكلامه - جل ذكره -، وقد جاء ذلك في حديث احتجاج آدم وموسى، عليهما الصلاة والسلام.
ففي الصحيحين والمسند عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4638)، كتاب التفسير - آية الأعراف (143) - وأخرجه مسلم في صحيحه (2374)، وغيرهما.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2411)، كتاب الخصومات، وأخرجه مسلم (2373)، ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات"(304). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ملائكته، وأسكنك جنته، أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم! قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه وأنزل عليك التوراة، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني؟ فَحَجَّ آدم موسى] (1).
وأما رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه سيد ولدِ آدم - جميعًا - من الأولين والآخرين، وخاتم النبيين والمرسلين، وشريعته ناسخة لكل شرائع الأنبياء والمرسلين.
ففي الصحيحين والمسند من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [أنا سيد الناس يوم القيامة](2). وفي لفظ لمسلم: [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأولُ شافع، وأول مشفع].
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي بسند صحيح عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم:[أنا سيد ولدِ آدم يوم القيامة ولا فخرَ، وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فخرَ، وما من نبي يومئذٍ آدمُ فَمَنْ سواهُ إلا تحت لوائي، وأنا أول شافع، وأَولُ مشفَّع، ولا فخر](3).
وقوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} .
أي: من الكلام والمناجاة واعمل بما لديك من هذا الوحي العظيم، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} على ما آتاك الله من رسالته، وما اختصك به من الكلام والنجوى على أهل زمانك وعلى كثير من الخلق، فاعمل بطاعته والتزم ذكره وشكره ورضاه.
وقوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} .
أي: لقد كتب الله تبارك وتعالى لموسى في ألواحه من كل ما يجب معرفته عن الله تعالى من التوحيد والتعظيم والتشريع موعظة لقومه وتبيينًا لكل ما يخصهم من أمر الله
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3409)، (6614)، (7515)، وأخرجه مسلم في صحيحه (2652)(13)، وكذلك الأرقام بعده (14)(15) - كتاب القدر - باب حجاج آدم وموسى صلى الله عليهما وسلم. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 127 - 129)، وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (92). ورواه البخاري وأحمد، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. انظر مسند أحمد (3/ 2)، وجامع الترمذي (4/ 140)، وسنن ابن ماجه (2/ 581)، وقال الترمذي: حديث حسن. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1571)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1481).
ونهيه وحلاله وحرامه. قيل الألواح تشتمل على التوراة، وقيل: الألواح أعطيها موسى قبل التوراة.
وقال سعيد بن جبير: ({وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: قال: ما أمروا به ونهوا عنه). وقال السدي: (من الحلال والحرام).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[احتج آدمُ وموسى، فقال: موسى: يا آدم! أنت أبونا، أنت خَيَّبْتَنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخَطَّ لك بيده، أتلومني على أمر قَدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى، فحجَّ آدم موسى].
وفي لفظ: [فقال آدم: أنت الذي أعطاه الله عِلْمَ كُلِّ شيء، واصطفاه على الناس برسالته؟ ].
وفي لفظ: [قال آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تِبْيانُ كُلِّ شيء، وقرّبك نجيًّا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخْلَق؟ قال موسى: بأربعين عامًا. قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} [طه]؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملْتُ عَمَلًا كتبه الله عليَّ أن أعْمَلَهُ، قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى] (1).
وقوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} .
قال ابن عباس: (بجدّ). وقال السدي: (بجد واجتهاد).
وقال الربيع بن أنس: ({فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ}، قال: بالطاعة). قلت: أي خذ الألواح بقوة، فعظم ما فيها من الأوامر والأحكام، واعمل بطاعة الله والدعوة إليها.
وقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} .
قال ابن عباس: (أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه). وقال السدي: ({وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}، بأحسن ما يجدون فيها).
قال ابن جرير: (كان فيها أمرٌ ونهيٌ، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله، ويتركوا ما نهاهم عنه، فالعمل بالمأمور به، أحسنُ من العمل بالمنهي عنه).
(1) حديث صحيح. انظر الروايات المختلفة في صحيح مسلم (2652) ح (13)(14)(15) - كتاب القدر - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قلت: ويمكن أن يكون المعنى: وأمر قومك يا موسى أن يعملوا بأحسن ما استطاعوا من العمل، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في التمسك بما تمكنوا إلى ذلك سبيلًا. كقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وكما جاء في هذين الحديثين من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن ثوبان، عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال:[استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خيرَ أعمالكم الصلاةُ، ولا يحافظُ على الوضوء إلا مؤمن](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن ماجه عن أبي أمامة، والطبراني عن عبادة بن الصامت، بإسناد صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[استقيموا، ونِعمّا إن استقمتم، وخيرُ أعمالكم الصلاة، ولن يحافظَ على الوضوء إلا مؤمن](2).
وقوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} .
قال مجاهد: (مصيرهم في الآخرة).
وقال الحسن: (جهنم). وقال قتادة: (منازلهم). وقال الكلبي: ({دَارَ الْفَاسِقِينَ} ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود، والقرون التي أهلكوا). وقال قتادة: (المعْنَى: سأريكم منازل الكفار التي سكنوها قبلكم من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها، يعني الشأم).
قلت: ولا شك أن الآية تهديد ووعيد وتبصير بما يؤول إليه حال المتكبرين عن أوامر الله وتعظيمها كما حدث للأمم التي دكّها الله من قبل حين تمادت، وتذكير بما ينتظرهم من سعير جهنم في الآخرة.
وقوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} .
قال ابن عيينة: (يقول: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي).
وقال ابن جريج: ({سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ}، عن خلق السماوات والأرض والآيات فيها، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن ثوبان رضي الله عنه، والطبراني عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، انظر تخريج المشكاة (292)، والإرواء (411)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (963).
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه والطبراني. انظر المرجع السابق - حديث رقم - (964).
وقال ذو النون: (أبى الله أن يكرم قلوب البطالين بمكنون حكمة القرآن).
قلت: والآية سرٌّ عظيم من أسرار القدر، فإن الله سبحانه يطلع على القلوب ويُصَرِّفُها كيف شاء، ومن كمال عدله سبحانه أن يَصْرِفَها عن فهم قرآنه ودينه إذا ظهر من صاحبها تكبرٌ عن أمره وغرور بالباطل وتحد للحق. كما قال تعالى في سورة طه:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} . وكقوله في سورة الصف: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ. . . (5)} . وكقوله في سورة الأنعام: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. . . (110)} .
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تَعْنُونَ فتنةَ الرجل في أهله وماله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تِلْكَ تُكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيُّكُم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر التي تَمُوجُ موجَ البحر؟ قال حذيفة: فَأَسْكَتَ القومُ، فقلتُ: أنا. قال: أنت لله أبوك؟ قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [تُعرض الفِتنُ كالحصير عودًا عودًا، فأىُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاء، حتى يصير على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا فلا تَضُرُّه فتنةٌ ما دامت السماوات والأرضُ، والآخر أسودُ مُرْبادًا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ معروفًا ولا يُنْكِرُ مُنكرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هواه](1).
وقال النسفي: ({الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} يتطاولون على الخلق ويأنفون عن قبول الحق. وحقيقته التكلف للكبرياء التي اختصت بالباري عزت قدرته {فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} هو حال، أي: يتكبرون غير محقين، لأن التكبر بالحق لله وحده).
وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} .
أي: إن يروا كل حجة على وجوب الإذعان لوحدانية الله ودينه وشرعه يججدونها. كقوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 89 - 90)، كتاب الفتن. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1990) - باب عرض الفتن على القلوب ونكتها فيها. وقوله:"أسود مربادًا": شدة البياض في سواد. "مجخيًا": منكوسًا.
قال ابن كثير: (أي: وإن ظهر لهم سبيل الرشد، أي: طريق النجاة لا يسلكوها، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلًا).
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} .
قال القاسمي: (أي: لاهين لا يتفكرون فيها، ولا يتعظون بها. أو غافلين عما ينزل بهم من مخالفة الرسل). وقال النسفي: (غفلة عناد وإعراض، لا غفلة سهو وجهل).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
تأكيد على بطلان الربح لمن كذب بحجج الله وكلامه ولقائه. وسميت الآخرة "آخرة" لتأخرها عن الدنيا. فمن عمل خيرًا في هذه الدنيا وكفر بالله ولقائه فلا ينفعه عمله في الآخرة.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنته، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها](1).
وفي لفظ: [إن الكافر إذا عَمِلَ حسنةً أُطْعِمَ بها طُعْمَةً من الدنيا، وأما المؤمنُ فإن الله يَدَّخِرُ له حسناتِه في الآخرة ويُعْقِبُهُ رِزْقًا في الدنيا على طاعته].
قال ابن جرير: ({هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، يقول: هل يثابون إلا ثواب ما كانوا يعملون؟ فصار ثواب أعمالهم الخلودَ في نار أحاطَ بهم سرادقها، إذ كانت أعمالهم في طاعة الشيطان، دون طاعة الرحمن، نعوذ بالله من غضبه).
148 -
153. قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2808) - كتاب صفات المنافقين. باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.
ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى ذكره: لقد اتخذ بنو إسرائيل بعد ذهاب موسى إلى الطور لموعد ربه ومناجاته عجلًا صنعه لهم السامري من حُليّ القبط، الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلًا مجوفًا لا روح فيه، وإنما احتال عليهم بإدخال الريح فيه حتى صار يُسمع في جوفه صوتٌ كخوار البقر، فعبدوه حين استأخر عليهم موسى - بسبب ضعف يقينهم بالله. وقد قرعهم الله في هذه الآيات بقوله:{أَلَمْ يَرَوْا} - أن ما صنعه لهم السامري - لا يقدر أن يكلمهم أو يرشدهم إلى هدى، أو إلى خير، ومع ذلك اتخذوه إلهًا وظلموا أنفسهم بصنيعهم هذا. ثم إنهم ندموا على ما فعلوا، وعرفوا أنهم قد جاروا عن سواء السبيل، فسألوا الله تعالى المغفرة والرحمة وإلا كانوا خاسرين. ولما رجع موسى عليه الصلاة والسلام من مناجاة ربه ورآهم على حالهم تلك من عبادة العجل ظهر الغضب عليه، وكان شديد الغضب فألقى الألواح من يديه وأخذ يجر رأس أخيه ولحيته وكأنه يُحَمِّلُهُ بذلك مسؤولية ما حدث، فاعتذر هارون عليه السلام إليه بأنهم تخلوا عن أمره وطاعته وقاربوا قتله، فهو يخشى من فعل موسى ذلك شماتة الأعداء ولم يقصر هو في أمرهم ونهيهم، ويسأل موسى ألا يخلطه مع القوم الظالمين الذين اتخذوا العجل وألا يسوقه مساقهم. وهنا تدارك موسى عليه الصلاة والسلام أمره، وشعر بعذر أخيه فاستغفر لنفسه ولأخيه وسأل الله أن يدخلهما برحمته وهو أرحم الراحمين. أما الذين اتخذوا العجل وأشركوا بعبادة الله تعالى سينالهم غضب الله ومذلة في الحياة الدنيا، فلم يقبل الله توبتهم حتى قتل بعضهم بعضًا، وأصابهم من
الذل ما وعد الله به كل مبتدع في الدين متطاول على ربه عز وجل. وأما من تاب وآمن وعمل صالحًا فإن الله غفور رحيم.
فقوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} .
أي: اتَّخَذَ بنو إسرائيل - قوم موسى - بعد خروجه إلى الطور لمناجاة ربه عجلًا عبدوه، وكان السامريّ قد اتخذه لهم من حُليّ القبطِ بشكل عجل، ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام، فصار عجلًا جسدًا له خُوَار، والخُوار صوت البقر. كما قال تعالى:{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه].
قال ابن جرير: (وفي "الحلي" لغتان: ضم "الحاء" وهو الأصل، وكسرها، وكذلك ذلك في كل ما شاكله من مثل "صليّ"، و"جثيّ"، و"عتيّ"، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، لاستفاضة القراءة بهما في القرأة، ولاتفاق معنييهما).
قال ابن كثير: (ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل، وذُهولهم عن خالق السماوات والأرض وربّ كل شيء ومليكه، أن عبدوا معه عجلًا جسدًا له خُوار لا يكلمهم، ولا يرشدهم إلى خير. ولكن غَطّى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال).
وفي التنزيل: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89].
ومن ثمّ فإنهم باتخاذهم العجل إلهًا، وصرفهم له العبادة قد ظلموا أنفسهم واختاروا لها سوء السبيل. وذلك قوله تعالى:{اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} .
العرب تقول لكل نادم على أمر فات منه أو سلف، وعاجز عن شيء:"قد سُقِط في يديه" أو "أسقط في يديه". قال ابن جرير: (وأصله من الاستئسار، وذلك أن يضرب الرجلُ الرجلَ أو يصرعه، فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره، فيكتفه. فالمرميّ به مسقوط في يدي الساقط به. فقيل لكل عاجز عن شيء، وضارع لعجزه، متندِّمٍ على ما قاله: "سقط في يديه" و"أسقط").
فالمقصود عندئذ من قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} أي: ندموا على ما فعلوا وصدر منهم. {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} حين عدلوا عن قصد السبيل في العبادة، فجأروا إلى ربهم عز وجل منيبين إليه تائبين:{قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} - أي: من الهالكين الذين خسروا التجارة في أعمالهم، وفقدوا الصفقة، وحبطت أعمالهم وما كانوا فائزين.
قال ابن عباس: ({وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}، يقول: {أَسِفًا}، حزينًا، وقال في "الزخرف": {فَلَمَّا آسَفُونَا. . (55)}، يقول: أغضبونا. و"الأسف" على وجهين: الغضب، والحزن). وقال الحسن:({غَضْبَانَ أَسِفًا}: غضبان حزينًا). وقال أبو الدرداء: (والأسف: أشد الغضب).
وكان موسى صلى الله عليه وسلم قد رجع مغضبًا حزينًا لأن الله تعالى أخبره أنه فتن قومه، وأن السامري قَد أَضَلَّهُم. فقال لهم موسى:{بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} أي: بئس الصنيع ما فعلتم، إذ رضيتم لأنفسكم عبادة العجل من دون الله تعالى. {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}. قال القرطبي:(أي: سبقتموه. والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، وهي مذمومة. والسرعة: عمل الشيء في أول أوقاته، وهي محمودة). وقيل: أي تعجّلتم سخط ربكم. وقيل: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أَمْرٌ من ربكم. وقال ابن كثير: (يقول: استعجلتم مجيئي إليكم، وهو مقدر من الله تعالى).
وقوله: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} .
قال ابن عباس: (لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وألقى الألواح من الغضب).
أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن ابن عباس مرفوعًا: [ليس الخبر كالمعاينة. قال الله لموسى: إنَّ قومك صنعوا كذا وكذا، فلم يبال - وفي رواية: فلم يلق الألواح -، فلما عاين ألقى الألواح](1).
(1) حسن صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 271)، وصححه ابن حبان (6213)، (6214)، ورواه الحاكم (2/ 321) وقال: على شرطهما، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 153): رجاله رجال الصحيح.
قال ابن إسحاق: (لما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، ألقى الألواح من يده، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته، ويقول: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}).
قيل: كانت الألواح من زُمُرّد. وقيل: من ياقوت. وقيل: من بَرَدٍ (1). والله تعالى أعلم.
هو كقوله تعالى في سورة طه: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} .
والمقصود بالقوم في الآية: الذين عكفوا على عبادة العجل، وقوله:{اسْتَضْعَفُونِي} أي: بتركهم طاعتي واتباع أمري. {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} - أي: قاربوا ولم يفعلوا. {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} : قال القرطبي: (لا تفعل بي ما تشمت من أَجله الأعداء). وقال ابن كثير: ({وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، أي: لا تَسُقني مَسَاقهم، ولا تخلطني معهم، وإنما قال: {ابْنَ أُمَّ} ليكون أرأف وأنجع عنده، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه).
قلت: وأصل الشماتة في لغة العرب: الفرح ببلية العدو. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها ويأمر أصحابه بالتعوذ منها، فإن شماتة الأعداء على النفس مؤلمة.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء](2).
وأخرج النسائي والحاكم بسند حسن عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: [كان يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من غَلَبَة الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ العَدُوّ، وشماتة الأعداء](3).
(1) قال أبو العالية: (كانت ألواح موسى عليه السلام من برد). وقال ابن جريج، عن ابن عباس:(أن الألواح من زبرجد وزمرد من الجنة). وقال سعيد بن جبير: (كانت من ياقوتة، كتابة الذهب، كتبها الرحمن بيده، فسمع أهل السماوات صريف القلم وهو يكتبها) - ذكره وما قبله ابن جرير.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 256)، وانظر كذلك (4/ 200) من حديث أنس.
(3)
حديث حسن. أخرجه النسائي (2/ 316، 317)، والحاكم (1/ 104)، وأحمد (2/ 173). وانظر صحيح مسلم (8/ 76) للجملة الأخيرة، والحديث في السلسلة الصحيحة برقم (1541).
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
قال الزمخشري: (لما اعتذر إليه أخوه، وذكر له شماتة الأعداء قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} ليرضيَ أخاه، ويظهرَ لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا تتم لهم شماتتهم. واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرَّط في حسن الخلافة، وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة).
قال ابن كثير: (أما الغضب الذي نالَ بني إسرائيل في عبادة العجل، فهو أن الله تعالى - لَمْ يَقْبَل لهم توبةً، حتى قتل بعضُهم بعضًا، كما تقدم في سورة البقرة: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}. وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلًا وصَغارًا في الحياة الدنيا. وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} نائلة لكل من افترى بدعة، فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة متصلة من قلبه على كتفيه، كما قال الحسن البصري: إنَّ ذلَّ البِدْعَةِ على أكتافهم، وإنْ هَمْلَجَت (1) بهم البَغَلاتُ، وطَقْطَقَتْ بهم البراذين).
وعند أبي قِلابَةَ الجَرْمِيِّ: (أنه قرأ هذه الآية: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}، قال: هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة). وقال سفيان بن عيينة: (كل صاحب بدعة ذليل).
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من عَمِل عملًا ليس عليه أَمْرُنا فهو رَدٌّ](2). وفي لفظ: [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ]. وفي سنن الدارمي بسند صحيح عن حسان بن عطية (3) قال: (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلَها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .
أي: إنه تعالى يقبل توبة عباده من كل ذنب، حتى الكفر والشرك، ما لم يغرغر
(1) هملجت: سارت سيرًا حسنًا في سرعة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1718) - كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة، وردّ محدثات الأمور، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
تابعي جليل - توفي سنة (130). وانظر كتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 269) - لتفصيل البحث.
العبد، فمن تاب - يا محمد - من بعد الفعلة - إثمًا كانت أم معصية أم شركًا - فإن ربك يا محمد من بعد التوبة غفور رحيم.
أخرج الطبراني بسند جيد عن أبي سعيد الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له](1).
وفي جامعِ الترمذي بسند حسن عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرَ](2).
154 -
156. قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى أن موسى عليه السلام تناول الألواح التي ألقاها حين غضب من رؤية قومه على عبادة العجل بعدما رجع إليهم من مناجاة ربه، وفي الألواح بيان للحق وهدى من الله سبحانه لقوم يخافونه ويعظمون شرعه ودينه. ثم اختار موسى من قومه سبعين رجلًا - كما أمره الله - ليعتذروا عما صدر من قومهم من عبادة العجل، أو لِيُعاتبوا بالرجفة أنهم لم يَنْهوا قومهم عن ذلك، وقيل سألوا موسى رؤية الله جهرة. فلما أخذتهم الرجفة لجأ موسى صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل: أتهلكنا بما فعل بعض السفهاء منا، وإنما هو اختبارك وامتحانك، والحكم لك، تضل من تشاء، وتهدي
(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني في "الكبير"، وأبو نعيم في "الحلية". انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (6678)، (6679).
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي في الجامع (3784). وابن ماجه في السنن (4253)، انظر صحيح سنن الترمذي - حديث رقم - (2802).
من تشاء، أنت ناصرنا فاستر علينا ذنوبنا وارحمنا إنك أنت خير من غفر وستر. واكتب لنا في دنيانا هذه مغفرة ووفقنا لصالح الأعمال، وكذلك أكرمنا في الآخرة بجزاء الحسنات إنا تبنا إليك - قال الله لموسى: إن ما نزل بقومك من الرجفة إنما هو عذابي أنزله بمن أشاء، وقد عمت رحمتي كل شيء، فسأكتبها للمتقين الذين يفردون ربهم عز وجل بالتعظيم، ويؤدون زكاة إيمانهم ونفوسهم وأموالهم، وهم بآياتنا يؤمنون ويصدقون وبها يعملون.
فقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} .
يعني كفّ عنه وسكن.
وقوله: {أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} .
أي: التي ألقاها أثناء غضبه - وقد ثار حينما رأى قومه بعده قد أقاموا على عبادة العجل - فأخذها بعدما ألقاها، وقد ذهب منها ما ذهب، أو تكسر.
وقوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول: وفيما نسخ فيها، أي: كتب فيها، {هُدًى} بيان للحق، {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}، يقول: للذين يخافون الله ويخشون عقابه على معاصيه).
قال السدي: (إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى من قومه سبعين رجلًا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته، فأرِنَاهُ. فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ}).
وقال وهب: (ما ماتوا، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تبينَ مفاصلُهم، وخاف موسى عليهم الموت).
قلت: وقد مضى قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)} . وقيل: هؤلاء السبعون غَيْرُ من قالوا أرنا الله جهرة، والله تعالى أعلم.
وقال ابن عباس: (إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يَنْهَوا من عبد العجل، ولم يَرْضَوا عبادته).
وقال مجاهد وقتادة: (إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل، ولا نهوهم).
قال الحافظ ابن كثير: (ويتوجه هذا القول بقول موسى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}. وقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ}، أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانُك (1). يقول: إن الأمر إلا أمرك، وإن الحكمُ إلا لك، فما شئت كان، تضل من تشاء، وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لمن منعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كله لك، والحكم كله لك، لك الخلق والأمر).
وقوله: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول: أنت ناصرنا. فاستر علينا ذنوبنا بتركك عقابنا عليها، {وَارْحَمْنَا}، تعطف علينا برحمتك، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}، يقول: خيرُ من صَفَحَ عن جُرْم، وستر على ذنب).
وقوله: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} .
قال ابن جريج: (مغفرة). وقال القرطبي: (أي: وَفِّقْنا للأعمال الصالحة التي تكتب لنا بها الحسنات).
وقوله: {وَفِي الْآخِرَةِ} .
أي: أكرمنا بجزاء تلك الحسنات من الفوز والنعيم.
وقوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} . أي: تبنا وأنبنا ورجعنا إليك.
قال ابن عباس وقتادة: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} ، أي: إنا تبنا إليك).
(1) قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وغيرهم.
وقوله: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} .
أي: قال الله لموسى: إن ما نزل بقومك من الرجفة أو بغيرهم من البأس هو عذابي أصيب به من أشاء من خلقي، ورحمتي عَمَّت جميع خلقي. كما قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} .
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق سعة رحمته جل ثناؤه، ومن ذلك:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [جَعَلَ اللهُ الرحمة مئةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عنده تِسْعَةً وتِسْعِينَ، وأنزل في الأرض جُزْءًا واحدًا، فَمِنْ ذلك الجُزْءِ يتراحَمُ الخلائِقُ، حتى ترفعَ الدابَّةُ حَافِرَها عن وَلَدِها، خَشْيَةَ أن تصيبَهُ](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، واللفظ لمسلم عن سَلْمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله خَلَقَ، يَوْمَ خلق السماوات والأرضَ، مِئةَ رحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِباقَ ما بين السماوات والأرض، فجعل منها في الأرض رحْمَةً، فبها تَعْطِفُ الوالِدَةُ على ولدها، والوَحْشُ والطَّيْرُ بعضُها على بعض، فإذا كان يومُ القيامة، أكْمَلَهَا بهذه الرحمة](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجه في السنن بسند صحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لله مئة رحمة، فقسم منها جُزْءًا واحدًا بين الخلق، فبه يتراحم الناس والوحش والطير](3).
الحديث الرابع: أخرج البزار، وابن أبي الدنيا، بسند حسن في الشواهد عن ابن عمر مرفوعًا: [لَوْ تَعْلَمونَ قَدْرَ رَحْمَةِ الله عز وجل، لاتَّكَلْتُمْ وما عَمِلتُم مِنْ عَمَلٍ، ولو
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2752) - كتاب التوبة - باب: في سعة رحمة الله تعالى، وأنها تَغْلب غضبه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2753) - كتاب التوبة ح (21). الباب السابق، وأخرجه أحمد في المسند (5/ 439)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (6146)، والطبراني (6126).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن (4294)، وأحمد في المسند (3/ 55)، وأبو يعلى (1098) من حديث أبي سعيد مرفوعًا، وإسناده صحيح.
عَلِمْتُمْ قَدْرَ غَضَبِه ما نفعكم شيءٌ] (1). وفي لفظ: [لو تعلمون قَدْرَ رحمةِ الله لاتكلتم عليها].
قال ابن عباس: ({فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، يعني الشرك). وقال قتادة: (معاصي الله).
وقال علي، عن ابن عباس:({وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، قال: يطيعون الله ورسولَه). وكأنه يعني تزكية النفس وتطهيرها بالأعمال الصالحات، والقربات والصدقات. قال ابن كثير:(قيل: زكاة النفوس. وقيل: الأموال. ويحتمل أن تكون عامة لهما، فإن الآية مكية، {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} أي: يصدقون).
157 -
159. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}.
في هذه الآيات: وَصْفُ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أوصافه التي وردت في الكتب السابقة، ونَعْتُ أتباعه ومن سار على منهاجه، فهو خاتم الرسل والنبيين، بعثه الله رحمة للعالمين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل ما كانوا حرّموه على أنفسهم
(1) حديث حسن لشواهده. أخرجه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن"(2/ 193/ 1)، وقال الهيثمي (10/ 213):"رواه البزار، وإسناده حسن"، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (2167)، وكذلك صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (5136) للفظ الآخر.
من الطيبات، ويحرم عليهم ما استحلوه من المآكل المحرمة الخبيثة الضارة والموبقات، ويضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم، فالذين صدقوه ونصروه وعظموا منهاجه أولئك هم المفلحون في الدنيا والآخرة.
فقل للناس جميعًا - يا محمد - إني قد أرسلت إليكم كافة لتفردوا الله تعالى بالعبادة والتعظيم لعلكم تهتدون. وقد مضى على هذا المنهاج طائفة الحق التي آمنت بموسى من قبلكم فكانوا من المهتدين.
في هذه الآية: إثبات نعت رسول الله - محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء قبله، فقد بشروا أممهم ببعثته، وأمروهم بمتابعته، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وشريعته ناسخة لكل الشرائع قبله، وهو موصوف هو وأمته وأصحابه في التوراة والإنجيل، ولم تزل صفاته مذكورة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم رغم ما اعتراها من التحريف، فإنه لكثرة نسخ التوراة والإنجيل في الأرض يكشف بعضها بعضًا.
وقد حفلت السنة الصحيحة بكنوز من بعض ما جاء في التوراة والإنجيل في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمته، في أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، عنْ عَبْدِ الله بن عَمْرِو بن العاص رضي الله عنهما:[أن هذه الآية التي في القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} قال: في التوراة، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومُبَشرًا ونذيرًا وَحِرْزًا للأمِّيينَ، أنت عبدي ورسولي، سمَّيْتُكَ المُتَوَكِّل، ليس بِفَظٍّ ولا غَليظٍ ولا سَخّاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكنْ يعفو ويصفح، ولن يقبضَهُ حتى يُقيم به الملّةَ العوجاءَ بأنْ يقولوا: لا إله إلا الله، فيَفْتَحُ بها أعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن أبي صخر العُقيلي: حدثني رجل من الأعراب قال: [جلبْتُ جَلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعتي، قلتُ: لألقَيَنَّ هذا الرجل، فلأسمعن منه. قال: فتلقاني
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4838)، كتاب التفسير، والطبري (15236)، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"(1/ 271)، والبغوي في "التفسير"(946) من طرق عن فليح به.
بين أبي بكر وعمر، يمشون، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها، ويعزي بها نفسه على ابن له في الموت، كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشُدُكَ بالذي أنزل التوراة! هل تجد في كتابك صفتي ومخرجي؟ فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة! إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال: أقيموا اليهوديَّ عن أخيكم. ثم وَلي كَفَنَهَ وحَنَّطَه وصلى عليه] (1).
الحديث الثالث: أخرج الحاكم بسند صحيح عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مكتوبٌ في الإنجيل: لا فَظٌّ، ولا غليظٌ، ولا سَخَّابٌ بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلَها، بل يعفو ويصفح](2).
وأما لفظ {الْأُمِّيِّ} .
فهو من النسبة إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها - ذكره ابن عزيز أحد علماء المالكية. وقال ابن عباس رضى الله عنه:(كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أميًا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ. .} [العنكبوت: 48]).
قلت: وهذه الصفة لنبينا صلى الله عليه وسلم هي من كمال نبوته وصدق ما جاء به، فقد سَدَّ الله تعالى بهذه الصفة الباب على من حاول اتهامه بكتابة القرآن من عنده إذ كان عبقريًا، وهذا لا يعني أن لا تتعلم أمته القراءة والكتابة، فقد كان يأمر بالعلم والقراءة والكتابة، ففي التنزيل:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} .
ومن كنوز السنة الصحيحة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند حسن من حديث صفوان بن عسال
(1) أخرجه أحمد (5/ 411)، ورجال إسناده ثقات. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (3269)، وجهالة الصحابي لا تضر، وذكره الحافظ ابن كثير في التفسير - سورة الأعراف - (2/ 251) وقال:"هذا حديث جيد قوي، له شاهد في "الصحيح" عن أنس".
(2)
رواه الحاكم (2/ 614)، وابن عساكر (1/ 264/ 2)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (2458). وقد مضى نحوه - عند البخاري - من حديث عبد الله بن عمرو عن التوراة.
مرفوعًا: [ما مِنْ خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رِضًا بما يصنَعُ](1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي والنسائي بسند حسن من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [تعلموا القرآن واقرؤوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكًا يفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أُوكِي على مسك](2).
الحديث الثالث: أخرج الحاكم وابن عبد البر بسند صحيح لغيره عن عبد الله بن عمرو قال: [قلت: يا رسول الله أُقَيِّدُ العلمَ؟ قال: نعم. قلت: وما تقييده؟ قال: الكتاب](3). وفي لفظ عند ابن عبد البر: [قَيِّدوا العلم بالكِتاب]- يعني الأمر بكتابة العلم.
وقوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
قال عطاء: ({يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام. {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} عبادة الأصنام، وقطع الأرحام).
وقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} .
قال ابن كثير: (أي: يُحل لهم ما كانوا حَرّموه على أنفسهم من البَحائر والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك، مما كانوا ضَيّقوا به على أنفسهم).
وذهب الإمام مالك أن الطيبات هي المحلَّلات، فوصفها بالطيب يتضمن مدحًا وتشريفًا.
وقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .
قال ابن عباس: (كلحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى).
(1) حديث حسن. انظر تخريج الترغيب (1/ 69) - كتاب العلم. باب الترغيب في العلم وطلبه.
(2)
حديث حسن. انظر سنن الترمذي (2876)، وسنن ابن ماجه (217)، وصححه ابن حبان (2126)، وابن خزيمة (1509). وأورده ابن كثير في التفسير (1/ 142).
(3)
صحيح لغيره. أخرجه الحاكم والخطيب في "التقييد" ص (68). وانظر مستدرك الحاكم (1/ 106). وابن عبد البر في "جامع العلم"(1/ 72)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - رقم (2026).
وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} .
الإصر: الثقل. ذكره مجاهد. والإصر: العهد. قاله ابن عباس. وكلا المعنيين حق. والأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال. حكاه القرطبي. والإصر مفرد بمعنى الجمع، فهو مصدر يقع على الكثرة فعطف الأغلال عليه بانسجام واتفاق.
فعن ابن عباس: ({وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} قال: عهدهم). وقال الحسن: (العهود التي أعطوها من أنفسهم). وقال السدي: (يضع عنهم عهودهم ومواثيقهم التي أخذت عليهم في التوراة والإنجيل). وقال مجاهد: ({وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، قال: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وُضِعَ عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم).
قال ابن عباس: ({وَعَزَّرُوهُ}، يقول: حموه، وقَّروه). وقال مجاهد: ({عَزَّرُوهُ}، سدَّدوا أمره، وأعانوا رسولَه).
وقال قتادة: (فما نقموا - يعني اليهود - إلا أن حسدوا نبيَّ الله، فقال الله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ}، فأما نصره وتعزيرُه، فقد سبقتم به، ولكن خياركم من آمن بالله واتّبع النور الذي أنزل معه).
وأما {النُّورَ} فهو القرآن. والفلاح: هو الظفر والفوز والنجاة. فيكون المعنى: إن الذين صدّقوا بهذا النبي وتابعوه وعظموه وحموه والتزموا هديه: من القرآن الكريم الذي أوحي إليه، ومن السنة العطرة - الوحي الثاني - هم أهل الظفر والفوز والنجاة يوم القيامة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[والذي نفسُ محمد بيده، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ من هذه الأمة، يهودي، ولا نصراني، ثم يموتُ ولم يؤمنْ بالذي أُرْسِلتُ به، إلا كان من أصحاب النار](1).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (153) - كتاب الإيمان. باب وجوب الإيمان برسالة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته. وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم (20).
أي: قل - يا محمد - للناس جميعهم، إني قد أرسلت إليكم جميعًا فختمت بي الرسالة والنبوة، أرسلني إليكم الله ربكم الذي له سلطان السماوات والأرض وما فيهن لا إله غيره، فالعبادة لا تكون إلا له ولا تصلح لسواه، فهو وحده الذي يملك الحياة والموت، وهو الحي الذي لا يموت.
وفي السنة الصحيحة آفاق هذا المعنى، في أحاديث - منها:
الحديث الأول: أخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه - عند تفسير هذه الآية - عن أبي الدرداء يقول: [كانت بينَ أبي بكرٍ وعُمَرَ مُحاوَرَةٌ، فأغضبَ أبو بكرٍ عُمَرَ، فانصرف عنه عمر مُغْضبًا، فاتّبعه أبو بكر يسألُهُ أن يَسْتَغْفِرَ لهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، حتى أغلقَ بابَهُ في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء: ونحْنُ عنده - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا صاحِبُكم هذا فقد غامر، وقال: ونَدِمَ عُمَرُ على ما كان منه، فأقبل حتى سَلَّم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقصَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخَبَرَ، قال أبو الدرداء: وغَضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعَل أبو بكر يقول: واللهِ يا رسول الله لأنا كنتُ أظلمَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم تاركُو لي صاحِبي؟ هل أنتم تارِكو لي صاحبي؟ إني قلت: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، فقلتم: كَذَبْتَ، وقال أبو بكر: صَدَقْتَ](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند ورجاله رجال الصحيح عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[أُعطيت خمسًا لم يُعْطَهُنَّ نبيٌّ قبلي - ولا أقوله فخرًا -: بُعثت إلى الناس كافة، الأحمر والأسود، ونُصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحِلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وجُعلت لي الأرض مَسْجدًا وطَهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخَّرْتُها لأمتي فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا](2).
الحديث الثالث: أخرج الطبراني بسند صحيح - عن السائب بن يزيد مرفوعًا:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4640) - كتاب التفسير - سورة الأعراف، آية (158).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 301) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه البزار (3460)، وذكره الهيثمي في "المجمع" (8/ 658) وقال: ورجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد، وهو حسن الحديث. وللحديث شواهد كثيرة.
[فُضِّلْتُ على الأنبياء بخمس: بعثتُ إلى الناس كافة، وادَّخرتُ شفاعتي لأمتي، ونُصِرْت بالرعب شهرًا أمامي، وشهرًا خلفي، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحِلَّت لي الغنائم، ولم تحِلَّ لأحد قبلي](1).
قال قتادة: (قوله: {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ}، يقول: آياته). وقيل: كلماته عيسى بن مريم - ذكره مجاهد. والأول أرجح وهو يشمل الثاني.
قال ابن جرير: (وأما قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، فاهتدوا به، أيها الناس، واعملوا بما أمركم أن تعملوا به من طاعة الله، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، يقول: لكي تهتدوا فترشدوا وتصيبوا الحق في اتباعكم إياه).
وقوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .
قال القاسمي رحمه الله: ({وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي: موقنين ثابتين، يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة، ويرشدونهم {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} وبالحق يعدلون بينهم في الحكم، ولا يجورون. والآية سيقت لدفع ما عسى يوهمه تخصيصُ كَتْبِ الرحمة والتقوى والإيمان بمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام، من كل خير، وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم. وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. ويأباه أنه قد مرّ ذكرهم فيما سلف. أفاده أبو السعود).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
2 -
وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199].
وفي صحيح مسلم عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني وبنحوه البيهقي من حديث أبي أمامة. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (4097)، وحديث رقم (4096)، وأصله في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة.
[ثلاثةٌ يُؤْتَون أجْرَهُم مَرَّتين: رجُلٌ من أهل الكتاب آمن بِنَبِيِّه وأدْرَكَ النبي صلى الله عليه وسلم فآمَنَ به واتّبعَهُ وصَدَّقه فله أجْران، وعبدٌ مملوك أدَّى حقَّ الله تعالى عليه وحقَّ سيده فله أجْرَانِ، ورجلٌ كانت له أمَةٌ فغذاها فأحسن غِذَاءَها، ثم أدَّبَها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوَّجها، فله أَجْران](1).
160 -
162. قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}.
في هذه الآيات: يعدد الله تعالى نعمه على بني إسرائيل، إذ جعلهم أسباطًا - أي: قبائل شتى - ليكونوا اثنتي عشرة قبيلة أو فرقة، ليكون أمر كل سبط معروفًا من جهة رئيسهم، فيخف الأمر بذلك على موسى - كما قال تعالى:
{وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا. . .} [المائدة: 12]. فلما فرّقهم الله إلى تلك الفرق وتيّههم في التيه، فاستسقوا موسى من العطش وغَوْر الماء، أوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر فانصبت وانفجرت من الحجر اثنتا عشرة عينًا من الماء، وقد علم كل أناس من الأسباط الاثنتي عشرة مشربهم الخاص بهم، فلا يدخل سبط على غيره في مشربه، ثم ظللنا عليهم الغمام يكنّهم من حر الشمس وأذاها وأنزلنا عليهم رزقًا طيبًا لذيذ الطعم هو المن والسلوى وقلنا لهم: كلوا من حلال ما رزقناكم
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (154) - كتاب الإيمان. باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته.
وتمتعوا بنعم ربكم، فَمَلُّوا ذلك، وتنطعوا وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وما ظلمونا بذلك، فَمُلْكُ الله لا يدخله النقص وسلطانه لا يعتريه الضعف، فإن سؤالهم ذلك وفعلهم ذلك انعكس على حظوظهم ونفوسهم بالسوء فانقلبت النعمة التي جحدوها إلى نقمة. واذكر أيضًا يا محمد إذ قيل لهم اسكنوا بيت المقدس فكلوا من ثمارها وحبوبها ونباتها أنّى شئتم وقولوا: هذه الفعلة "حِطّة" تحطُّ ما أسلفنا من ذنوبنا، يتغمدّ الله ذلك الذي كان منكم من المعصية والذنوب برحمته، ويتجاوز عنه بكرمه وصفحه وعفوه، {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} ، فدخلوا متوّركين على أستاههم، ولو فعلوا ما أمروا به لحظوا بمغفرة الله وكرمه على التائبين المحسنين. فلما غيّر القوم ما قيل لهم، وقالوا استهزاء "حنطة في شعيرة"، فبعث الله عليهم عذابًا من عنده أهلكهم فيه وجعلهم عبرة لغيرهم بما كانوا يظلمون.
وقد بسطت في ذلك القول عند تفسير نظائر هذه الآيات في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته.
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:[قيل لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ}. فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدّلوا وقالوا: حِطّة: حَبَّةٌ في شَعَرة](1).
163 -
167. قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4479)، وأخرجه النسائي في "التفسير"(9)(10)، وأخرجه الطبري في "التفسير"(1023).
تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}.
في هذه الآيات: توجيه الله تعالى نبيّه في أسلوب محاججة معاندي بني إسرائيل، فاسأل - يا محمد - هؤلاء اليهود الذين حولك عن قصة أجدادهم في عصيان الله يوم السبت، وكيف انقسموا ثلاثة أقسام: قسم انتهك المحذور وركب المعصية واحتالوا على صيد السمك يوم السبت، وقسم نهى عن ذلك، وقسم قالوا لمن أنكر عليهم: لم تنهون هؤلاء وقد استحقوا الهلاك ولا فائدة من نهيهم، فأجابوهم: إنما نفعل ذلك امتثالًا لما عهد علينا ربنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولعلهم يرجعون.
فلما أهمل العصاة موعظة المؤمنين لهم، استحقوا العذاب من الله، واستحق المؤمنون النجاة والثواب. ولما مَرَدَ العصاة وتطاولوا أكثر وأكثر، نزل بهم الأسوأ من العقاب والأبشع، فصيّرهم الله قردة لها أذناب تعاوى. وكتب عليهم المذلة إلى يوم القيامة: سواء في الدنيا مما ينال أحفادهم الذين ساروا على منهاجهم من الخزي في الأرض، أو مما ينال من مات منهم على الكفر من عذاب القبر إلى يوم الحساب والعرض، إن الله سريع العقاب بالمجرمين، غفور رحيم بالمؤمنين.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اسأل هؤلاء اليهود الذين حولك عن قصة أجدادهم إذ عصوا الله في السبت. قال ابن جرير: (هي قرية حاضرة البحر (1) - {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} ، يعني به أهله، إذ يعتدون في السبت أمر الله، ويتجاوزونه إلى ما حرم الله عليهم. وكان اعتداؤهم في السبت: أن الله كان حرّم عليهم السبت، فكانوا يصطادون فيه السمك. {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} ، يقول: إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم الذي نهوا فيه عن العمل، {شُرَّعًا} ، يقول: شارعة ظاهرة على الماء من كل طريق وناحية، كشوارع الطرق).
(1) قيل: هي أيلة - ذكره ابن عباس ومجاهد. وقيل هي ساحل مدين - ذكره قتادة. وقيل: هي مَقْنا بين مدينة وعَيْنونَى. والله أعلم بذلك، والصواب إطلاق ذلك كما فعل ابن جرير.
وعن ابن عباس: ({شُرَّعًا}، قال: من كل مكان). وقال: (يقول: ظاهرة على الماء).
قال القاسمي: (أي: تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة على وجه الماء، قريبة من الساحل، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم أصلًا إلى السبت المقبل).
وقال ابن كثير: ({وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ}، أي: نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المُحَرَّم عليهم صيدُه، وإخفائه عنهم في اليوم المُحَلَّلِ لهم صيدُه، {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ}: نختبرهم، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}، يقول: بفسقهم عن طاعة الله، وخروجهم عنها. وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام).
ثم ذكر حديثًا رواه الإمام أبو عبد الله بن بطَّة بسند حسن عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارمَ الله بأدنى الحيل](1).
قال ابن كثير: (يُخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فِرَق: فرقةٌ ارتكبت المحذورَ، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت. قال: وفرقة نهت عن ذلك، واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا}؟ أي: لِمَ تَنْهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم. قالت له المنكرة: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} - قرأ بعضهم بالرفع، كأنه على تقديره: هذا معذرةٌ. وقرأ آخرون بالنصب، أي: نفعل ذلك {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ}، أي: فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يقولون: ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه، ويرجعون إلى الله تائبين، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم).
وعن ابن عباس: ({قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} ، لسخطنا أعمالهم. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ،
(1) قال الحافظ ابن كثير: وهذا إسناد جيد. انظر تفسير ابن كثير - سورة الأعراف - آية (163).
أي: ينزعون عَمّا هُمْ عليه). وقال ابن زيد: ({وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، قال: يتركون هذا العمل الذي هم عليه).
قال ابن جريج: ({فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ}، قال: فلما نسُوا موعظة المؤمنين إياهم، الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا}). قال القرطبي: ({فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: تركوه عن قصد، ومنه {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ. .} [التوبة: 67]). قال ابن جرير: (أنجى الله الذين ينهون منهم عن {السُّوءِ}، يعني عن معصية الله واستحلال حِرْمه).
وعن ابن عباس: ({وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}، أليم موجع). وقال مجاهد: ({بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}، قال: شديد). أو قال: (أليم شديد). وذلك بما كانوا يخالفون ويتجرؤون من استحلال معصية الله والتحايل للوقوع بها.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .
قال قتادة: (يقول: لما مَرَد القوم على المعصية، {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، فصاروا قردةً لها أذناب تعاوى، بعدما كانوا رجالًا ونساءً).
وفي لغة العرب: يقال: خسأته فخسأ، أي: باعدته وطردته. قال القرطبي: (ودلّ على أن المعاصي سبب النقمة، وهذا لا خفاء به. فقيل: قال لهم ذلك بكلام يُسمع، فكانوا كذلك. وقيل: المعنى كوّناهم قردة).
قال مجاهد: ({وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ}، قال أمر ربك). وقال ابن عباس: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ، قال: هي الجزية، والذين يسومونهم: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، إلى يوم القيامة). وقال أيضًا:(هي المسكنة، وأخذ الجزية منهم). وقال قتادة: (فبعث الله عليهم هذا الحي من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة). وقال سعيد: ({مَنْ يَسُومُهُمْ} ، قال: العرب، {سُوءَ الْعَذَابِ} ، قال: الخراج. قال: وأول من وضع الخراج موسى، فجبى الخراج سبعَ
سنين). وقال سعيد أيضًا: (هم أهل الكتاب، بعث الله عليهم العرب يجبُونهم الخراجَ إلى يوم القيامة، فهو سوء العذاب. ولم يجب نبىٌّ الخراجَ قطُّ إلا موسى صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنةً، ثم أمسك، وإلا النبي صلى الله عليه وسلم).
والخلاصة: لقد بعث الله تعالى - أو أقسم بأن يبعث - على اليهود من أهل العصيان والمخالفة والاحتيال على أوامره ودينه وشرعه، من يذيقهم سوء العذاب ببأس أو جزية أو إذلال أو قهر وغير ذلك، فضرب موسى عليهم الخراج، كما ذُكر، ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكُشْدانيين والكُلْدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى وإذلالهم إياهم، وأَخْذِهم منهم الجزية والخراج. ثم كانوا تحت سلطان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكانوا تحت خُفَارته وذِمّته يؤدّون الخراج والجزية، وقد أجلى منهم بني قينقاع وبني النضير، وقتل بني قريظة في قصص من الذل كتبها الله عليهم، ويبقى الإذلال الأكبر في آخر الزمان حين يأتمرون بقائدهم الدجال وينزلون تحت لوائه، فيبعث الله لهم جيشًا يقوده المهدي عليه السلام آخر خلفاء هذه الأمة - مع عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حين ينزل في دمشق، فيَفرّون نحو بيت المقدس، فيلحقهم جيش الإسلام ويقتل عيسى صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال بباب لدّ، وينطق الحجر والشجر إكرامًا من الله للمؤمنين لكشف مخابئ اليهود، فتشترك الطبيعة بإذن الله في فرحة النصر وإذلال يهود المكر وسحقهم إلى غير رجعة.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا تقوم الساعةُ حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يَخْتَبِئَ اليهودي من وراء الحجَر أو الشجر، فيقول الحَجَرُ أو الشَّجَرُ: يا مسلمُ! يا عَبْد الله! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقْتُله، إلا الغَرْقَدَ، فإنه من شجَر اليهود](1).
قلت: والآية تحتمل في دلالتها الدلالة على عذاب القبر أيضًا، فهو عذاب على العصاة الذين ماتوا على معصيتهم ولم يتوبوا منها، وربما كانوا في ذلك إلى يوم القيامة، ومن لم يقض ما عليه ربما تلفحه نار جهنم والعياذ بالله، ولا شك أن المشركين والكفار يبدأ عذابهم بعد دفنهم في قبورهم، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2922) - كتاب الفتن. والحديث علامة قادمة من علامات الساعة.
أخرج ابن ماجه والطبراني بسند صحيح عن عامر بن سعد عن أبيه مرفوعًا: [حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار](1).
وقد ختم سبحانه الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} ، تأكيدًا لِيَحْذَرَ من عصاه وأصرّ على ركوب مخالفة أمره، ثم عقب بقوله:{وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ، ليبعثَ الأمل في قلوب المسرفين على أنفسهم بالذنوب والآثام، بأن باب التوبة مفتوح لا يغلق إلى قرب يوم القيامة - حيث تطلع الشمس من مغربها - فقرن جل ثناؤه بين الترغيب والترهيب، والخوف والطمع، وهو منهج عبادة المؤمنين، فهم يجمعون بين خوفهم من ذنوبهم وعذاب ربهم، وبين طمعهم في مغفرته ونعيمه وجنته ورضوانه.
وفي التنزيل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50].
أخرج أبو نعيم والبزار بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمَّنْتَه يوم أجمع عبادي](2).
168 -
171. قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا
(1) حديث صحيح. رواه الطبراني (1/ 19/ 1)، وابن ماجه (1373) من حديث عامر بن سعد عن أبيه مرفوعًا. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (18).
(2)
حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 98)، وتابعه البزار، وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 308) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده حسن.
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}.
في هذه الآيات: يقول جل ذكره - لقد فرقنا بني إسرائيل ومزقناهم إلى طوائف وفرق في الأرض، منهم قوم صالحون، ومنهم قوم دون ذلك، واختبرناهم بعسر الأيام ويسرها، وتقلب أحوالها، لعلهم يرجعون إلى طاعة ربهم وتعظيم أوامره. فخلف ذلك الجيل منهم جيل آخر، ورثوا دراسة التوراة، وهم ينغمسون في ملذات هذه الدنيا الفانية، وَيُسَوِّفُون التوبة ويؤخرون الإنابة، فإن عرض لهم ذلك المتاع بعد الاستغفار انغمسوا فيه مرة أخرى، يعدهم الشيطان بذلك وَيُمَنِّيهم، وكان الله قد أخذ عليهم العهود بإقامة التوراة والعمل بما فيها، وأن الدار الآخرة بنعيمها وزينتها خير من هذا العرض الخسيس لو كانوا يعقلون. وأن الذين يمسكون بالكتاب ويعظمون ما فيه فإن الله لا يضيع أجر المصلحين. ألم يذكروا يوم رفع الله الطور فوق آبائهم وأمرهم بأخذ التوراة بقوة وَجدّ، وإلا خرّ عليهم الجبل فأهلكهم، وكان ذلك امتحانًا من الله لهم، عسى أن يردهم ذلك عن بغيهم، فينيبوا إلى بارئهم ويحمِلوا الأمانة بقوة وحزم، ويخشوا الله ويتقوه حق تقاته.
فقوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} .
أي: فرقنا بني إسرائيل في الأرض إلى جماعات شتى، وطوائف وفرق. قال ابن عباس:(في كل أرض يدخلها قومٌ من اليهود). وقال مجاهد: ({وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا}، قال: يهود). وفي التنزيل: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104].
وقوله: {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} .
أي: منهم قوم صالحون يؤمنون بالله ورسوله ويعملون الصالحات، ومنهم قوم دون ذلك أو غير ذلك، كما قال تعالى عن الجن:{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11].
وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} .
أي: اختبرناهم بتقلب الأحوال: يسرها وعسرها. قال ابن كثير: (أي: بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء).
قال ابن جرير: (يقول: واختبرناهم بالرخاء في العيش، والخفض في الدنيا والدعة، والسعة في الرزق، وهي "الحسنات" التي ذكرها جل ثناؤه، ويعني بـ "السيئات"، الشدة في العيش، والشظف فيه، والمصائب والرزايا في الأموال).
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
أي: إلى طاعة الله، فيكفون عن معصيته وينيبون إليه.
قال مجاهد: ({فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} قال: النصارى) - والآية أعمّ من ذلك، فهي تفيد أن قومًا خلفوا ذلك الجيل الذي كان فيهم الصالحون ودون ذلك، فجاء جيل آخر، ورثوا دراسة التوراة، وهم يعملون الذنوب، ويعتاضون عن بذل الحق والدعوة إليه بعرض هذه الحياة الفانية ومتاعها وزينتها، ويؤخرون التوبة وَيُسَوِّفُون الاستغفار، ويتقلبون في ذلك، فإن عرض لهم ذلك المتاع بعد الاستغفار وقعوا فيه مرة أخرى. ومن أقوال المفسرين في ذلك:
1 -
قال سعيد بن جبير: ({يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}، قال: يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه). أو قال: (ذنب آخر، يعملون به).
2 -
وقال مجاهد: ({يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى}، قال: ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلالٌ أو حرام يشتهونه أخذوه ويبتغون المغفرة، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه).
3 -
وقال ابن عباس: (يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاؤوا من حلال أو حرام، ويقولون: {سَيُغْفَرُ لَنَا}).
4 -
وقال قتادة: ({فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} ، إيْ والله، لَخَلْفُ سَوْءٍ، {وَرِثُوا الْكِتَابَ} بعد أنبيائهم ورسلهم، وَرَّثهم الله وعَهِدَ إليهم، وقال الله في آية أخرى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. .} [مريم: 59]، قال:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ، تمنوا على الله أماني، وغِرَّةٌ يغترون بها، {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} ، لا يشغلهم شيء عن شيء، ولا ينهاهم شيء عن ذلك، كلما هَفَّ
لهم شيء من الدنيا أكلوه، ولا يبالون حلالًا كان أو حرامًا).
وقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} .
قال ابن عباس: (فيما يوجبون على الله من غُفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها).
وقال ابن جرير: (وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل، بإقامة التوراة، والعمل بما فيها).
وفي التنزيل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
وقوله: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} .
قال ابن زيد: (علّموه، علّموا ما في الكتاب الذي ذكر الله، وقرأ: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]).
والمعنى: قرؤوا ما في الكتاب ودرسوا ما فيه من العهود والمواثيق فعلموها وعلّموها ثم نقضوها.
وقوله: {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
أي: والدار الآخرة ونعيمها وزينتها خير من ذلك العرض الخسيس للذين يتقون الرشا والمحرمات وتحكيم الشهوات ويحذرون عقاب الله ووعيده. قال ابن كثير: ({أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، يقول: أفليس لهؤلاء - الذين اعتاضوا بعَرض الدنيا عما عندي - عَقل يردعهم عما هم فيه من السَّفَه والتبذير).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} .
قال ابن زيد: ({وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} ، قال: كتاب الله الذي جاء به موسى عليه السلام.
وقال مجاهد: ({وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}، من يهود أو نصارى، {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}).
قال ابن عباس: ({وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} ، يقول: رفعناه، وهو قوله: {وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ. .} [النساء: 154]). قال: (فقال لهم موسى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، يقول: من العمل بالكتاب، وإلا خرَّ عليكم الجبل فأهلككم! فقالوا: بل نأخذ ما آتانا الله بقوة، ثم نكثوا بعد ذلك).
يروي النسائي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:(ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهًا نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمره الله تعالى أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، وأبوا أن يقروا بها حتى يَنْتُقَ الله الجبل فوقهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}، قال: رفعته الملائكة فوق رؤوسهم) - ذكره ابن كثير.
وقال الحسن البصري: (لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلٌّ ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبل، فرَقًا من أن يسقط عليه، فلذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رُفعت عنا بها العقوبة).
قلت: وأصل النتق في لغة العرب الزّعزعة والنقض، فقوله تعالى:{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} أي: زعزعناه فرفعناه حتى كان فوقهم، تهديدًا من الله بإسقاطه عليهم إن لم يأخذوا الدين بجد وقوة. وهذه آية عظيمة من بين الآيات الكثيرة التي امتحن الله بها بني إسرائيل، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} - أي: عسى أن يردهم هذا عن بغيهم، وينيبوا إلى ربهم بتعظيم أوامره واجتناب نواهيه.
172 -
174. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}
في هذه الآيات: يخبر الله تعالى عن الميثاق بينه وبين عباده، فقد استخرج سبحانه ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أمام أبيهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو، وذلك في نعمان - واد قرب عرفات - وقد نثرهم بين يدي أبيهم كالذر ثم كلمهم قبلًا، ألست بربكم قالوا بلى، وشهدوا له تعالى بالربوبية التي احتج بها عليهم للقيام بمقتضى الألوهية، وحذرهم من أمرين اثنين: الأول - هو ادعاء الغفلة
والاحتجاج بها. الثاني - هو مغبة التقليد الأعمى لدين الآباء دون عرض على موازين الوحي والحق. وبين سبحانه المصير الشقي للمشركين، وهذه الآيات يفصلها سبحانه لقوم يتفكرون ويعتبرون لعلهم يصلحون ما مضى ويعدّلون المسار ويرجعون. قال الإمام الطحاوي رحمه الله:(والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم عليه السلام وذريته حق)(1).
وقد حفلت السنة الصحيحة بتفصيل آفاق هذا المعنى، في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بإسناد حسن عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - (وفي رواية: يوم عرفة)، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلًا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}](2).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي ربّ، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلًا منهم فأعجبه وبيصُ ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال: ربّ كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم، جاء ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد! فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته](3).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أنه سُئِل عن هذه الآية (4) فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم
(1) متن العقيدة الحاوية (42) - للإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله.
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (1/ 272)، والنسائي في "الكبرى"(11191)، والحاكم عن ابن عباس مرفوعًا. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1623)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 66) - بحث الميثاق.
(3)
حديث حسن. أخرجه الحاكم، والترمذي (3076) بسند حسن، وانظر المرجع السابق (1/ 67).
(4)
آية الأعراف السابقة (172)، (173).
عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة، فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخل به النار] (1).
ثم إنه سبحانه قد احتج بهذا الميثاق على أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة:
الحديث الرابع: أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يقول الله لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: يا ابن آدم! كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع، فيقال له: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتديًا بها؟ فيقول: نعم، فيقول: كذبت، قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم (وفي رواية: ظهر آدم) أن لا تشرك بي شيئًا ولا أدخلك النار فأبيت إلا الشرك، فيؤمر به إلى النار](2).
وقد كان هذا الميثاق نورًا قذفه الله في حياة الإنسان بعد أن خلقه في ظلمة، فأضاء له سبحانه به طريق النجاة وعرفه سبل السلام، وحذره به من مغبة الاسترسال والمضي في الظلمة، وما يعقب ذلك من مصائب وأسقام وآلام، وبصره بذلك العهد نتيجة اتباع الشهوات وفتح نار الغرائز التي يمكن أن تدمره عبر الليالي والأيام، إن لم يوازن في مشيه وبنائه بين السمو بالروح والعقل، وبين حاجات الجسد والغرائز بشكل تمام.
ففي المسند وصحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إن الله تعالى خلقَ خَلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل](3).
قلت: والظلمة: هي ظلمة الطباع والجهل والأهواء والخضوع للغرائز والشهوات، والنور: هو نور الوحي ونور السنة، نور النبوة والرسالات، نور الفطرة والميثاق مع الله، الذي أخذه سبحانه على عباده بنعمان وهو واد إلى جنب عرفات.
(1) قال الألباني: صحيح لغيره إلا مسح الظهر فلم أجد له شاهدًا. تخريج الطحاوية - فقرة (42).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3334)، وأخرجه مسلم (2805)، وأحمد (3/ 127، 129).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (1812)، وأحمد (2/ 176، 197)، ونحوه الترمذي (2/ 107).
فاحتج سبحانه كما مضى على أهون أهل النار عذابًا بذلك الميثاق وما تبعه من الفطرة، كما قال الحسن البصري حين روى عن الأسود بن سريع مرفوعًا:(ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة. قال الحسن: ولقد قال الله ذلك في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} - إلى قوله - {الْمُبْطِلُونَ})(1).
فخلق الله الخلق في ظلمة، وهي ظلمة الطباع والجهل والأهواء والخضوع للغرائز والشهوات، ثم ألقى عليهم من نوره: نور الوحي ونور السنة، نور النبوة ونور الفطرة، نور الميثاق ونور الرسالات، ثم إن الشياطين قد استخفوهم من بعد ذلك فحملوهم على اجتراح الموبقات والسيئات.
خَبَرُ النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم عن عياض: [قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا](2).
وفي التنزيل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].
قال ابن القيم رحمه الله: (فأولياؤهم يعيدونهم إلى ما خلقوا فيه من ظلمة طبائعهم وجهلهم وأهوائهم، وكلما أشرق لهم نور النبوة والوحي وكادوا أن يدخلوا فيه منعهم أولياؤهم منه وصدوهم، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات)(3).
وخلاصة القول: لقد استخرج الله ذرية آدم من صلبه، وميز بعلمه بين أهل النار وأهل الجنة، وقد أشهدهم أمام أبيهم على ربوبيته المقتضية إفراده بالألوهية، فأقروا على توحيده، وبقيت الفطرة تشهد بذلك، وإنما قامت الحجة عليهم بالرسل والفطرة معًا، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .
(1) انظر السلسلة الصحيحة (4/ 1623)، ص (163)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 68). قال الألباني: (فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها والتي تشهد فعلًا بأن الله هو الرب وحده لا شريك له، إنما هي أثر ذلك الميثاق). (السلسلة الصحيحة (4/ 1623 - ص 163).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2865)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 266).
(3)
انظر "اجتماع الجيوش الإسلامية" - ص (5)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 69).
ففيه أمران يحذرهم:
1 -
ألّا يدّعوا الغفلة.
2 -
ألّا يدّعوا التقليد.
فلو كان الآباء مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه فنعم، حيث قال:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. . .} [يوسف: 38].
فقد صح اتباعهم لأنهم أثبتوا الألوهية لله سبحانه وعليه كان الاتباع، ومثله قول بني يعقوب له:{نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]. وأما إن كانوا مخالفين الرسل، فَوجب على الابن اتباع الرسل كما قال جل ثناؤه:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا. . .} [العنكبوت: 8].
وكقوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وأما قوله: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} .
فهو بدل اشتمال من قوله {مِنْ بَنِي آدَمَ} . وقرأ أهل الكوفة وابن كثير {ذُرِّيَّتَهُمْ} ، في حين قرأها الباقون {ذرياتِهم} بالجمع. قيل: لأن ظهور بني آدم استخرج منها ذريات كثيرة متناسبة، أعقاب بعد أعقاب لا يعلم عددهم إلا الله، فجمع لهذا المعنى. قال السدي:{وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: اقتدينا بهم).
وقوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} .
قال القرطبي: (بمعنى: لست تفعل هذا، ولا عذر للمقلِّد في التوحيد).
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
قال النسفي: ({وَكَذَلِكَ}: ومثل ذلك التفصيل البليغ {نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} لهم {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن شركهم).
175 -
178. قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}.
في هذه الآيات: واتل - يا محمد - على قومك، وعلى يهود قصة ما عرفوه في كتابهم، عن نبأ رجل آتاه الله من العلم والمعرفة والفهم في آياته وكتابه، فلما صار عالمًا بذلك انتكس على عقبه وتابع شيطانه وركن إلى دنياه وشهواته فكان من الضالين الهالكين. ولو شاء الله لرفع ذكره وشأنه بهذه الآيات، ولكنه ركن إلى الدنايا والشهوات والهوى، فهو بذلك كمثل الكلب يلهث بكل حال، لأنه استوى عنده العلم والجهل، ومعرفة الآيات واتباع الشهوات، وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن عرف الحق ثم تنكر له، فاقصص - يا محمد - مثل هذه الأخبار على قومك وعلى يهود، وكذلك من أخبار الأمم التي طغت ومضت لعلهم يتفكرون. إنه ساء مثلًا مثل الذين جحدوا آيات الله وظلموا أنفسهم بإيرادها مستقبل الخزي والشقاء. فمن يوفقه الله للهداية فهو المهتدي، ومن يخذله بذنوبه وتمرده فهؤلاء هم الخاسرون، ولا وسيلة لربحهم بعد ذلك.
قال ابن عباس: ({وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} - قال: كان الله آتاه آياته فتركها). وقال: (نزع منه العلم).
وقوله: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} .
قال ابن جرير: (يقول: فصيَّره لنفسه تابعًا ينتهي إلى أمره في معصية الله، ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن).
وقوله: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} .
أي: الهالكين الضالين، هلك بضلاله وانحرافه.
وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} .
قال ابن عباس: (لرفعه الله تعالى بعلمه). وقيل: (لرفَعْنا عنه الحال التي صار إليها
من الكفر بالله، بآياتنا). قال مجاهد:({وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، لدفعناه عنه). وقال ابن زيد: ({وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، بتلك الآيات).
وقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} .
قال سعيد بن جبير: (يعني: ركن إلى الأرض)، أو:(نزع إلى الأرض).
وقال مجاهد: (سكن). وقال السدي: (فاتبع الدنيا وركن إليها). وقال ابن زيد: ({وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} - كان هواه مع القوم).
قال ابن عباس: (كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر، أوتي كتابًا، فأخلد إلى شهوات الأرض ولذتها وأموالها، لم ينتفع بما جاء به الكتاب).
قال القاسمي رحمه الله: ({وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أي: على قومك أو على اليهود {نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} أي: علم الكتاب، فلطف به حتى تعلم وفهم المعاني، وصار عالمًا بها {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} بأن نزع العلم عنه، فكفر بها، وخرج منها خروج الحية من جلدها، {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: فلحقه وأدركه وصار قرينًا له حتى أضله {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}. قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: لعظمناه بالعمل بها {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} أي: مال إلى الدنيا، ورغب فيها {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} وذلك لأنه استوى في حقه إيتاء الآيات، والتكليف بها، والتعظيم من أجلها، وعدم ذلك. كالكلب يدلع لسانه بكل حال، إن تحمل عليه، أي: تشدّ عليه وتهيجه، أو تتركه غير متعرض له بالحمل عليه، فلهثه موجود في الحالتين جميعًا {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي في التوراة أو غيرها {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}).
وعن مجاهد: ({كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ}، قال: تطرده، هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به).
وقال ابن جريج: (الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن حملت عليه يلهث، أو تتركه يلهث. قال: مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطع). وقال ابن عباس: ({فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}، إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير، كالكلب إن كان رابضًا لهث، وإن طرد لَهَث).
قال النسفي رحمه الله: (والمعنى فصفته التي هي مثل في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث به سواء حمل عليه أي شد عليه
وهيج فطرد أو ترك غير متعرض له بالحمل عليه، وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا حرك، أما الكلب فيلهث في الحالين).
وقوله: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} .
أي: من اليهود الذين يعرفون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ويجحدون نبوته ويكذبون ويحرفون.
وقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} .
أي - يا محمد - من مثل نبأ الذي انسلخ من آيات الله ولم ينتفع بعلمه كيف كان مصيره، وكذلك الأمم التي دكّها الله من قبل لما طغت وعتت وتمردت {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} - أي: اليهود والمنافقون والمشركون.
وقوله: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} .
قال ابن كثير: (يقول تعالى: ساءَ مثلًا مثلُ القوم الذين كذبوا بآياتنا، أي: ساء مثلُهم أن شُبِّهوا بالكلاب التي لا هِمَّة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حَيِّزِ العلم والهدى، وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه، صار شبيهًا بالكلب، وبئس المثل مثله. وقوله: {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}، أي: ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم، بإعراضِهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى).
وقد حفلت السنة الصحيحة بذم الكلب وتشبيه بعض أفعال وخصال السوء بخصاله وطباعه.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ليس لنا مَثَلُ السَّوْء، الذي يعودُ في هِبَتِهِ كالكلب يَرْجِعُ في قَيْئِه](1).
وأخرج البخاري عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عُمَرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه يقول: [حَمَلْتُ على فرَسٍ في سبيل الله فأضاعَهُ الذي كان عندَه، فأردْتُ أن أشْتَرِيَهُ فَظَنَنْتُ أنَّهُ يبيعُهُ بِرُخْصٍ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تَشْتَرِ ولا تَعُدْ في
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (2622)، والترمذي في الجامع (1298)، والنسائي في السنن (6/ 267)، وأحمد في المسند (1/ 217).
صدقتك، وإن أَعْطاكَهُ بِدِرهم، فإن العائدَ في صدقته كالعائدِ في قَيْئِهِ] (1).
وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} .
أي: من هداه الله سبحانه وأنار له السبيل فقد حظي بخير عظيم، فإنه من يهد الله فلا مضل له.
وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
أي: من تخلّى الله عنه فتركه في ضلاله - عدلًا منه سبحانه وحكمة - فقد خسر لا محالة، وضل وخاب وهلك.
أخرج أبو داود بسند صحيح عن عبد الله، قال:[علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: أنِ الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. .] الحديث (2).
قلت: والهداية الواردة في الآية، هي هداية التوفيق والإلهام، والضلال المذكور هو الخذلان والضياع والحرمان. قال النسفي:(ولو كان الهدى من الله البيان كما قالت المعتزلة لاستوى الكافر والمؤمن، إذ البيان ثابت في حق الفريقين، فدل أنه من الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن).
179 -
186. قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1490) - كتاب الزكاة، وكذلك (2623) - كتاب الهبة وفضلها.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2118) - باب في خطبة النكاح، وأخرجه الترمذي (1105)، والنسائي (6/ 89)، وابن ماجه (1892)، وأحمد (1/ 432)، والبيهقي (3/ 214)، وغيرهم.
مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}.
في هذه الآيات: تقرير الله تعالى لحقيقة امتلاء جهنم يوم القيامة من أقوام قد خُلقوا لها من الجن والإنس استحقّوها بعمى أبصارهم وقلوبهم وصمم آذانهم عن قبول استماع الحق، فهم في ذلك كالبهائم بل البهائم أحسن حالًا منهم في سرعة انتهائها وانقراضها يوم القيامة.
إن أسماء الله تعالى كلها حسنى فادعوه بأيها شئتم، واجتنبوا الذين يشركون في أسمائه وصفاته بتشبيه أو تعطيل أو انتقاص، فهم سيجزون على فساد منهاجهم ذلك سوء الجزاء. وفي مقابلهم فئة مؤمنة من أتباع الرسل صدقوا الله التنزيه والعبادة وأقاموا الدين الحق فهم موضع الصدارة والأسوة على مدار الأزمان، والذين كذبوا يستدرجهم الله بالنعم ويملي لهم ويؤخرهم إلى حين مجيء وقت عذابهم.
لقد كان أولى بهؤلاء المكذبين من العرب أن يتفكروا بما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الحق والنور والصدق ليعلموا أنه ما به خبل ولا جنون، وإنما يحمل لهم الإنذار المبين. فهلّا نظروا في هذا الكون الفسيح نظر استدلال واعتبار، ثم تفكروا أنهم ربما قد قرب ميعاد هلاكهم أو رحيلهم، فماذا بعد هذا القرآن العظيم الذي أضاعوه من كتاب مبين. إنه من يضلل الله - انتقامًا منه - فلا هادي له، ويتركهم في غيهم وضلالهم يتخبطون، ثم يقبضهم على أسوأ حال والعياذ بالله رب العالمين.
فقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} .
قال الحسن: (مما خلقنا).
وقال السدي: ({وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}، يقول: خلقنا).
قال ابن كثير: (يقول تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} ، أي: خلقنا وجعلنا {لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ، أي: هيَّأناهم لها، وبعمل أهلها يعملون، فإنه تعالى لما أراد أن يخلُقَ الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. كما ورد في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عَمْرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات