المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٣

[مأمون حموش]

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌7 - سُورَةُ الأَعْرَافِ

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (206).

أخرج النسائي بسند حسن عن عائشة: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرّقها في ركعتين](1).

‌موضوع السورة

قصة الأعراف ووزن الأعمال واختبار اتباع المرسلين، وقصة حوار المؤمنين مع الكافرين أهل الجحيم.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

تعظيمُ القرآن وأمر المؤمنين باتباع الوحي المنزل إليهم، وذِكْرُ هلاك أقوام كذبوا الوحي والرسل فدكهم الله بالعذاب.

2 -

سؤال الله العباد ماذا أجبتم المرسلين؟ وسؤاله المرسلين عن إبلاغ الرسالات.

3 -

الوزن يوم القيامة للأعمال على الميزان، فمن ثقلت موازين أعماله الصالحات كان من المفلحين، ومن خفت موازينه كان من الخاسرين.

(1) حديث حسن. انظر ابن خزيمة (1/ 68/ 1)، وسنن أبي داود والنسائي، كما في صفة الصلاة (96).

ص: 120

4 -

طرد الشيطان من رحمة الله تعالى لتكبره وعصيانه.

5 -

معصية آدم وحواء بأكلهما من شجرة ثم تابا فتاب الله عليهما.

6 -

الكلمات التي تلقاها آدم، والهبوط إلى الأرض فالابتلاء فالموت فالبعث للحساب.

7 -

التحذير من الشيطان الذي فتن الأبوين، والتحذير من التقليد في الباطل أو الافتراء على الله، والأمر بإقامة الدين واتباع الرسل وأخذ الزينة عند كل مسجد.

8 -

تتابع الأمم في نار جهنم يوم القيامة، وكلما دخلت أمة لعنت أختها.

9 -

أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، بل تطرح في الأرض طرحًا لتقع في أجساد أصحابها لسؤال الملكين، وكتاب الأعمال في سجين في الأرض السفلى، والمصير إلى نار الجحيم يوم القيامة.

10 -

المؤمنون تطهر صدورهم في الجنة من الغل والخصومات، وتجري من تحتهم الأنهار، وفي النعيم هم خالدون.

11 -

حوار أصحاب الجنة وأصحاب النار، وقصة أصحاب الأعراف.

12 -

الله تعالى له الخلق والأمر، فادعوه تضرعًا وخفية، واجتنبوا الفساد في الأرض، واشكروه على نعمة الماء وتصريف الرياح وإخراج النبات والثمرات.

13 -

أخبار المرسلين مع أقوامهم: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب. . . .، دعوهم إلى الإيمان وترك المنكرات، فأصرَّ الملأ الكافر على الكفر والكبر في الأرض، فدكهم الله بالعذاب، وأنجى اللهُ المؤمنين مع المرسلين.

14 -

تتابع إرسال الرسل من الله إلى أقوامهم، وخبر فرعون مع موسى، وقصة إيمان السحرة، وإغراق فرعون وجنوده، وشفاء صدور قوم مؤمنين.

15 -

تبديل بني إسرائيل الشكر لله على إنجائهم بالشرك به.

16 -

قصة ذهاب موسى إلى الميقات، وتخليفه هارون على بني إسرائيل، وعبادة القوم العجل، وغضب موسى عليهم الذي أداه لإلقاء الألواح، ثم سَكَنُ الغضب عن موسى وجمعهُ الألواح وفيها الهدى والرحمة.

17 -

سماع بني إسرائيل كلام الله، فلم يؤمنوا حتى يروا الله جهرة، فصعقوا، ثم ذِكْرُ استغفار موسى لهم، ورحمة الله التي وسعتهم ووسعت كل شيء.

ص: 121

18 -

صفة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة السابقة، كصفته في القرآن، ومحمد عليه الصلاة والسلام أرسل إلى الناس كافة، وبعث بالحنيفية السمحة.

19 -

إن من قوم موسى وقتئذ طائفة مهتدين.

20 -

الذين لم ينتهوا عن المعصية من بني إسرائيل مسخوا قردة وخنازير.

21 -

ملعون من لا يتناهى عن المنكر.

22 -

من بني إسرائيل قومٌ صالحون، ثم كان منهم من بدّل وحرّف وركب الآثام، وما آمنوا إلا بعد أن كاد الله أن يسقط الجبل عليهم.

23 -

خبر الميثاق، وإشهاد الله تعالى بني آدم على أنفسهم أنه ربهم فشهدوا، فحذرهم الغفلة والاحتجاج بالتقليد.

24 -

قصة بلعام بن باعوراء، وانسلاخه من رضاء الله.

25 -

الكفار أضل من الأنعام التي لا تنتفع بحواسها إلا فيما يقيتها.

26 -

مفهوم الاستدراج: فتح أبواب الرزق والمعاش في الدنيا ثم الأخذ بغتة.

27 -

الساعة لا تأتي إلا بغتة، ولا يعلم موعدها أحدٌ من الخلق.

28 -

الغيب لا يعلمه إلا الله، ومن شاءه الله من الرسل.

29 -

البشر مخلوقون جميعًا من نفس واحدة هي آدم عليه السلام.

30 -

أتعبدون ما لا يخلق شيئًا، وتتركون خلّاق السماوات والأرض.

31 -

المشركون عبدوا تماثيل الصالحين، ما ظنكم بأرباب صنعها عابدوها؟ !

32 -

أمر الله بالعفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين.

33 -

أمرٌ من الله، بالاستعاذة بالله من نزغ الشيطان الرجيم.

34 -

الإنصات واجب إذا قرأ الإمام جهرًا، والقراءة واجبة إذا أسَرّ.

35 -

الأصل في الذكر الخفاء، ويشرع لتالي السجدة وسامعها السجود بالإجماع.

ص: 122

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

9. قوله تعالى: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}.

في هذه الآيات: هذا القرآن من جنس هذه الأحرف المقطعة التي تتخاطبون فيها، وهو كتاب عظيم أنزل إليك من ربك - يا محمد - فلا تشك أنه من عند ربك وامض فيما كلفك الله من النذارة وحمل أعباء النبوة، وَذَكِّر المؤمنين. ثم حَذِّر قومك الذين أشركوا فادعهم إلى الإيمان بما آمن به المؤمنون من الوحي الذي أنزل إليهم من ربهم، وأخبرهم عن سوء عاقبة اتباع أوليائهم ممن يضلونهم ويأمرونهم بالشرك بالله وقليلًا ما يَتَّعِظون. إنه كم من قرية عتت عن أمر ربها فجاءها العذاب ليلًا قبل أن يصبح القوم أو نهارًا في وقت قائلتهم. فما كان حينئذ منهم إلا أن اعترفوا أنهم كانوا ظالمين. فلنسألن الأمم الذين مضت فيهم الرسل ماذا أجبتم المرسلين، ولنسألن الرسل عن البلاغ المبين؟ فلنقصن على الرسل وأقوامهم بما كانوا عاملين، فقد أحصينا عليهم أعمالهم وما كانوا يفعلون. والوزن يوم الحساب العدل، فمن ثقلت أعماله على الميزان فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فطاشت الحسنات وثقلت السيئات فأولئك هم الخاسرون.

ص: 123

فقوله: {المص} .

مضى نحوه في أوائل البقرة وآل عمران. وخلاصة المعنى: هذا القرآن هو من جنس هذه الأحرف المقطعة التي يتكلم بها العرب، وهو يتحدى ببيانه وإعجازه العرب والعجم أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله.

وقوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} .

قال ابن جرير: (يعني تعالى ذكره: هذا القرآن، يا محمد، كتاب أنزله الله إليك. ورفع "الكتاب" بتأويل: هذا كتابٌ).

وقوله: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} .

قال ابن عباس: (لا تكن في شك منه). قال ابن كثير: (وقيل: فلا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به، واصبر كما صبر أولو العَزْم من الرسل).

وقوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .

أي: لتنذر به الكافرين مغبة ما هم عليه من الشرك والاستهزاء بالتنزيل. ولتبشر المؤمنين بذكره وآياته ومعانيه لِيَثْبُتوا على الحق ويلقوا على ذلك ربهم عز وجل.

وقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} .

أي: الزموا ما جاءكم من ربكم من الوحي العظيم، وهدي رسوله الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، واحذروا اتباع ما خرج عن منهاجه صلى الله عليه وسلم، فإن الحق في منهاجه، وماذا بعد الحق إلا الضلال.

وقوله: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} .

أي: قليلًا ما تتعظون وتسلكون سبيل نجاتكم وسعادتكم.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

2 -

وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. . .} [الأنعام: 116].

3 -

وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].

ص: 124

وفي المسند وسنن ابن ماجه بسند صحيح عن أبي سعيد مرفوعًا: [يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيقال له: هل بَلَّغْتَ قومك؟ فيقول: نعم .. ](1).

وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} .

قال ابن كثير: (أي: بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خِزيَ الدنيا موصولًا بذلّ الآخرة).

وقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} .

قال ابن جرير: (يقول: فجاءتهم عقوبتنا ونقمتنا ليلًا قبل أن يصبحوا، أو جاءتهم "قائلين"، يعني: نهارًا في وقت القائلة (2)).

ولا شك أن المقصود بقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} سكان القرية دون بنيانها، فهم الذين استحقوا بأس الله وعذابه بلزومهم ما يسخط الله من الأقوال والأفعال، وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب والدمار، مثل ما نال سكانها.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء: 11].

2 -

وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13].

3 -

وقال تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45].

4 -

وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58].

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (2/ 573 - 574)، وأحمد (3/ 58)، وإسناده على شرط الشيخين.

(2)

وهو من القيلولة، وهي الاستراحة وسطَ النهار، وكلا الوقتين الليل ووقت القيلولة وقت غفلة ولهو، ولذلك باغتهم سبحانه بالعذاب والدمار في هذين الوقتين.

وقوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} - حال معطوفة على بَياتًا، والتقدير: فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين.

ص: 125

وأما اختيار الله سبحانه وقت زحمة النهار وهدأة الليل للانتقام من عباده المتكبرين على طاعته وعبادته، فإنه وقت اللهو والخوض في اللعب وأشكال التلاعب على الشرع أثناء النهار، أو وقت ركوب الموبقات والفواحش عند استقرار الليل للفجّار.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 97، 98].

2 -

وقال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 45 - 47].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [بينما رجل يمشي في حلة تُعْجِبُهُ نفسُه، مُرَجِّلٌ رأسَه، يختال في مِشْيَتِهِ، إذ خسف الله به، فهو يَتَجَلْجَلُ في الأرض إلى يوم القيامة](1).

وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .

أي: ما كان منهم حين رأوا العذاب ونزول البأس إلا أن أقروا بذنوبهم وبما كانوا يظلمون. قال النسفي: (اعترفوا بالظلم على أنفسهم والشرك حين لم ينفعهم ذلك).

أخرج الإمام أحمد في المسند - عن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير عن أبيه قال: [لما فتحت قبرس فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء، جالسًا وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظالمة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى](2).

وكذلك في المسند عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده، فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ ناس

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 221)، و (10/ 222)، وأخرجه مسلم في الصحيح (2088). ويتجلجل: أي يغوص في الأرض حين يخسف به، والجلجلة حركة مع صوت.

(2)

أخرجه أحمد من حديث جبير بن نفير. انظر: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" - ابن القيم - أثر الذنوب. وكتابي: تحصيل السعادتين (240) لتفصيل البحث.

ص: 126

صالحون؟ قال: بلى. قلت: كيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان] (1).

وله شاهد عند البيهقي في "شعب الإيمان" من حديث عائشة مرفوعًا: [إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله عز وجل بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله](2).

وشاهد آخر عند الحاكم بسند صحيح من حديث ابن عباس مرفوعًا: [إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذابَ الله](3).

والخلاصة: فإن للذنوب آثارًا جسيمة إن تُركت وأطلقت، وهي سبب فساد العالم، وسبب قلق النفوس وتمزق قلوب الناس، ويعكس الله آثارها أحزانًا ومصائب في واقع الحياة.

وقوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} .

قال ابن عباس: (يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلغوا).

وقال السدي: (يقول: فلنسألن الأمم: ما عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ولنسألن الرسل: هل بلغوا ما أرسلوا به). وقال مجاهد: ({فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ}، الأمم، ولنسألن الذين أرسلنا إليهم عما ائتمناهم عليه: هل بلغوا؟ ).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65].

2 -

وقال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109].

أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يجيء النبيُّ

(1) حسن لشواهده. أخرجه أحمد (6/ 294)، وكذلك (6/ 304) - من طريق أم سلمة رضي الله عنها.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(2/ 441/ 2)، وانظر المسند (6/ 41)، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة - برقم (1372)، وانظر صحيح الجامِع (693).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الحاكم بإسناد صحيح من حديث ابن عباس مرفوعًا. انظر المرجع السابق (692)، وتخريج فقه السيرة (370)، وتخريج الحلال (340).

ص: 127

ومعه الرجلان. ويجيء النبيُّ ومعه الثلاثة. وأكثر من ذلك وأقَلُّ. فَيُقَالُ له: هلْ بَلَّغْتَ قومَك؟ فيقول: نعم. فيدعى قَوْمُهُ، فيقال: هل بَلَّغَكُمْ؟ فيقولون: لا. فيقال: مَنْ شَهِدَ لكَ؟ فيقول: محمدٌ وأمَّتُهُ. فَتُدْعَى أمَّةُ محمد فيقال: هل بَلَّغَ هذا؟ فيقولون: نَعَم. فيقول: وما عِلْمُكُم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبيّنا بذلك أن الرسل قد بَلَّغوا، فصدَّقْناه. قال: فذلكم قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. . . (143)} ] (1).

ولا شك أن السؤال واقع يوم القيامة على كل من استرعاه الله رعية، سواء أكان إمامًا أم والدًا أم والدة أم واليًا ولي أي شأن من شؤون الخلق ومصالحهم.

فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [كُلُّكُم راع، وكُلُّكُم مسؤول عن رَعِيَّتِهِ: الإمام راعٍ ومسؤول عن رَعِيَّتِهِ، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رَعِيَّتِهِ، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولة عن رَعيَّتِهِا، والخادمُ راعٍ في مال سَيِّده ومسؤول عن رَعِيَّتِهِ. قال: وحسبتُ أنْ قَدْ قال: والرجل راعٍ في مالِ أبيه وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رَعِيَّتِهِ](2).

وقوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} .

قال ابن عباس: (ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم).

قال القرطبي: ({وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} أي: كنا شاهدين لأعمالهم. ودلت الآية على أن الله تعالى عالمٌ بعلم). وقال النسفي: ({وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)} عنهم وعما وجد منهم. ومعنى السؤال التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم).

وفي صحيح مسلم عن أنس قال: [كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مِمَّ أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربَّه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فَيُخْتَمُ على

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن (4284) - باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3457). وروى البخاري نحوه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (893) - كتاب الجمعة، ومسلم (20)، وأخرجه أبو داود في السنن (2928)، وكذلك الترمذي (1705)، وابن حبان (4472)، والبيهقي (6/ 287).

ص: 128

فيه، ويقال لأركانه انطُقي، فتنطق باعماله، ثم يُخَلّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لَكُنّ وسحقًا فعنكن كنت أناضل] (1).

وقوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} .

قال مجاهد: ({وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ}، القضاء. {الْحَقُّ}، قال: العدل).

وقال السدي: ({وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}: توزن الأعمال).

وقال عبيد بن عمير: (يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشَّروب، فلا يزن جناح بعوضة).

وفي التنزيل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

وفي صحيح الحاكم - بسند جيد - عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت. فتقول الملائكة: يا رب: لِمَنْ يَزِنُ هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. ويوضع الصراط مثل حد الموسى فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي. فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك](2).

قال ابن جريج: (قال لي عمرو بن دينار قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ}، قال: إنا نرى ميزانًا وكفتين).

وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} .

أي: تقرأ النتائج من سجلات وقراءات الميزان، فمن رجحت حسناته فقد فاز، ومن طاشت فقد خسر.

قال مجاهد: ({فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} قال: حسناته. {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}، قال: حسناته).

(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (1933). وأناضل: أي أجادل وأدافع وأخاصم.

(2)

إسناده جيد في الشواهد. أخرجه الحاكم (4/ 586)، والآجري في "الشريعة"(382)، وانظر لجملة الصراط مستدرك الحاكم (4/ 589 - 592). والحديث في "الصحيحة" برقم (941).

ص: 129

وقال عبيد بن عمير: (يجعل الرجل العظيم الطويل في الميزان، ثم لا يقوم بجناح ذباب).

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى - في أحاديث - منها:

الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)}](1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند - بإسناد حسن - عن ابن مسعود رضي الله عنه: [أنه كان يجني سِواكًا من الأراك وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ممَّ تضحكون؟ قالوا: يا نبيَّ الله من دقة ساقيه فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحد](3).

الحديث الرابع: يروي ابن ماجه والحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يُصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعةٌ وتسعون سِجلًا، كل سجلٍّ مدُّ البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل تُنْكِرُ من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أظَلَمَكَ كتبتي الحافظون؟ فيقوك: لا يا رب، ثم يقول: ألك عذرٌ، ألك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليكَ اليوم، فَتُخرجُ له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول:

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (4729)، وأخرجه مسلم في الصحيح برقم (2785) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح البخاري - حديث رقم - (2134)، كتاب التوحيد، وصحيح مسلم (2694) - كتاب الذكر والدعاء والتوبة.

(3)

إسناده حسن. أخرجه أحمد (1/ 420)، والطيالسي (2561)، وأبو يعلى (5310)، وغيرهم.

ص: 130

إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة] (1).

10 -

25. قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى ممتنًا على عباده فيما مَكَّنَ لهم في الأرض ووطأها لهم وجعلها لهم قرارًا ومهادًا، وفراشًا يفترشونها يقضون عليها أيام حياتهم، وقد

(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه في السنن (4300)، والترمذي في الجامع (2639)، وأحمد في المسند (2/ 213)، والحاكم (1/ 6)، وأخرجه ابن حبان (225)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني - انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7951).

ص: 131

جعل لها رواسي وأنهارًا، وسخر لهم الرياح والسحاب فأجرى الأنهار، وأنبت الزرع والثمار، وجعل لهم منازل وبيوتًا، وذلّل لهم المكاسب والمعايش والمنافع وقليل منهم الشاكرون. ثم نبّه سبحانه على شرف أبيهم آدم، وأمر الملائكة بالسجود له تكريمًا، خلقه سبحانه بيده من طين، ثم صوركم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق، فأبى الشيطان السجود لأبيكم حسدًا وكبرًا، واغتر بخلقه من نار، واستخف خلق الصلصال، فأهبطه الله من دار النعيم، فكان من الصاغرين، فسأل الله النظرة إلى يوم الدين، فأعطاه الله النظرة، استحقاقًا للسخطة، واستتمامًا للبلية، فتوعد اللعينُ بإغواء الذرية، ليصرفهم عن مقام خير البرية، فتوعده الله تعالى هو ومن تبعه جهنم صاغرين. ثم أمر سبحانه آدم عليه الصلاة والسلام أن يسكن هو وزوجه الجنة، وأن يتنعم فيها وأهله من كل شيء، إلا من شجرة جعلها الله سبحانه موضع اختبار، فوسوس اللعين بكل طريقة ليزلا في القرار، وما زال يغويهما حتى أكلا منها فبدت سوآتهما فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة - يلزقان بعضه على بعض ليواريا سوآتهما - وناداهما ربهما ألم أحذركم طاعة اللعين، ووسواس الرجيم، وأنه لكم عدو مبين. فأقرا بالذنب والسقوط والزلل، وسألاه سبحانه المغفرة والرحمة فهو يجيب المضطر إذا سأل، ثم قضى لهما الهبوط إلى دار الدنيا، ووصاهما الحذر ثانية من هذا العدو الرجيم، وكتب لهما الحياة فيها والموت فيها إلى أن يأذن الله بالخروج من القبور، في يوم النشور، يوم يقوم الناس لرب العالمين.

فقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} .

قال ابن كثير: (يقول تعالى مُمْتَنًّا على عبيده فيما مكن لهم من أنه جعل الأرض قرارًا، وجعل لها رواسي وأنهارًا، وجعل لهم فيها منازل وبيوتًا، وأباحَ لهم منافعها، وسخَّرَ لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم {فِيهَا مَعَايِشَ} أي: مكاسب وأسبابًا يتَّجرون فيها، ويَتَسَبَّبُون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]).

قال القرطبي: (والمعايش جمع مَعيشة، أي: ما يُتَعَيَّشُ به من المطعم والمشرب وما تكون به الحياة).

والخلاصة: لقد ذلل الله سبحانه أسباب الرزق والعافية لابن آدم، ثم إن أكثرهم

ص: 132

لا يشكرون، بل بعضهم يجحدون ويكفرون، أو يتطاولون ويشركون.

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ليس أحدٌ - أو ليسَ شيءٌ - أصبرَ على أذىً سمعه من الله، إنهم ليدْعون له ولدًا، وإنه ليُعافيهم وَيَرْزُقهم](1).

وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}

قال الضحاك: (أي: خلقنا آدم ثم صورنا الذرية). وقال ابن عباس: (خُلِقوا في أصلاب الرجال، وصوِّروا في أرحام النساء).

وقال: ({خَلَقْنَاكُمْ}، يعني آدم، وأما {صَوَّرْنَاكُمْ}، فذريته).

قال ابن جرير: ({وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}، ولقد خلقنا آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، بتصويرنا آدم).

وهذا تفسير قوي مناسب للسياق، فالمراد آدم، وقيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر، فالكلام عليه ينسحب على كل ذريته من بعده.

وقوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}

أي: فلما صورنا آدم، فكان خلقًا متكاملًا، ونفخنا فيه الروح، قلنا للملائكة اسجدوا لهذا المخلوق السوي تكريمًا له واختبارًا لهم بالأمر، فسجدوا طائعين، إلا إبليس كان من العاصين، ولم يكن من الملائكة بل من الجن، وإنما أُلْحِق بهم تغليبًا.

وقوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} .

قال ابن عباس: (فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر، لما كان حدّث نفسه، من كبره واغتراره، فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه، وأكبر سنًّا، وأقوى خلقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين! يقول: إن النار أقوى من الطين) - ذكره ابن جرير.

وقال الحسن: (قاس إبليس، وهو أول من قاس).

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [خُلقت

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (6099) - كتاب الأدب. باب الصبر في الأذى. من حديث أبي موسى رضي الله عنه. وانظر (7378) أيضًا.

ص: 133

الملائكة من نور، وخُلِقَ إبليس من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم] (1).

وقوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} .

قال السدي: (والصغار: هو الذل). فأهبطه سبحانه بسبب عصيانه الأمر، واستكباره عن الامتثال. قال ابن كثير:(قال كثير من المفسرين: الضمير عائد إلى الجنة - يعني في قوله: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} -، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى).

وقوله تعالى: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} .

فاستجاب الله سؤاله، فأنظره إلى يوم البعث، استكمالًا للبلية، ولله الحكمة البالغة.

وقوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .

يتوعد إبليس بالانتقام من ذرية آدم بكل وسيلة يستطيعها - بعدما استوثق في التأجيل ليوم البعث - وكان ذلك حسدًا وكبرًا. قال ابن عباس: ({فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}: كما أضللتني). وقال مجاهد: ({لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}. قال: سبيل الحق، فلأضلنهم إلا قليلًا).

وفي الآية بعدها أقوال:

1 -

قال ابن عباس: ({ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، يقول: أشككهم في آخرتهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، أرغبهم في دنياهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}، أشبِّه عليهم أمرَ دينهم، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}، أشهِّي لهم المعاصي).

2 -

وفي رواية عنه: (أما {بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، فمن قبلهم - يعني من الدنيا -، وأما {مِنْ خَلْفِهِمْ}، فأمر آخرتهم، وأما {عَنْ أَيْمَانِهِمْ} فمن قبل حسناتهم، وأما {عَنْ شَمَائِلِهِم}، فمن قبل سيئاتهم).

3 -

وقال ابن جريج: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} ، من دنياهم، أرغّبهم فيها، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} ، آخرتهم، أكفّرهم بها وأزهدهم فيها، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} ، حسناتهم

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2996)، وأخرجه أحمد في المسند (6/ 153)، (6/ 168)، ورواه البيهقي في "الصفات"(2/ 126).

ص: 134

أزهدهم فيها، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} ، مساوي أعمالهم، أُحَسِّنُها إليهم).

4 -

وقال مجاهد: (قول الله: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}، قال: حيث يبصرون، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}، حيث لا يبصرون).

قلت: وكلها أقوال تحمل آفاقًا محتملة لتأويل الآية، وتشترك جميعها بأن إبليس اللعين توعد إغواء ذرية آدم من جميع وجوه الباطل ليصدهم عن الحق. وفي ذلك أحاديث كثيرة في صحيح السنة المطهرة، منها:

الحديث الأول: أخرج الحاكم في المستدرك، والبيهقي في "الأسماء" بسند صحيح في الشواهد - عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي: لا أزال أغفر لهم ما استغفروني](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبدَه المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم](2).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد في المسند، بإسناد حسن، عن سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن الشيطان قعد لابن آدم بِأَطْرُقِهِ، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تُسْلِمُ وتذرُ دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ ! فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل، فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتُقتل فَتُنْكَحُ المرأة ويُقسم المال؟ ! فعصاه فجاهد .. ](3).

الحديث الرابع: أخرج الحاكم بسند حسن عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب

(1) حديث صحيح في الشواهد. أخرجه الحاكم (4/ 261)، والبيهقي في"الأسماء" ص (134)، وانظر مسند أحمد (3/ 29)، (3/ 29/ 41)، و"شرح السنة" للبغوي (1/ 146) وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (104) لشواهده الكثيرة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 138). وانظر مختصر صحيح مسلم (1804)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 1340) لتفصيل البحث.

(3)

حديث حسن. أخرجه أحمد (3/ 483)، وأخرجه النسائي (6/ 21)، وابن حبان (4593)، وغيرهم. من حديث سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه.

ص: 135

الناس في حجة الوداع فقال: [إن الشيطان قد يئِسَ أن يُعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا، إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، كتابَ الله، وسنة نبيه .. ]. وأصله في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد (1).

وقوله: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} .

قال ابن عباس: (مُوَحِّدين).

وهذا الكلام من إبليس إنما كان عن ظن منه وتوهم، فتحقق بسبب زلل ابن آدم وضعفه وانقياده لشهواته وأهوائه، فتوافق ظن إبليس مع تفريط ابن آدم كما قال تعالى في آية سبأ:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} .

وقد كان الله حذّر الذرية كما حذر الأبوين منه بقوله سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} .

وكذلك إنما جاءت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم تحذر من موافقة اللعين، وتؤكد على مخالفة هذا الشيطان الرجيم، فإنه لا يضمر للإنسان إلا الشر المبين. ومن ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا تأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بالشمال](2).

الحديث الثاني: أخرج الإمام البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: [هو اختلاس يختلِسُهُ الشيطان من صلاة العبد](3).

الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: [قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي يلبسها علي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك شيطان يقال له خِنْزَب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن

(1) حديث حسن. انظر مسند أحمد (2/ 368)، وكذلك (3/ 313)، وجامع الترمذي (3/ 127) ومسند أبي يعلى (2/ 609)، وقد مضى نحوه في صحيح مسلم (8/ 138).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2019) - كتاب الأشربة. باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (3291) - كتاب بدء الخلق. باب صفة إبليس وجنوده. من حديث عائشة رضي الله عنها. وانظر (751).

ص: 136

يسارك ثلاثًا. قال: فعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني] (1).

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد في المسند - بسند صحيح - من حديث الحارث الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[وآمركم أن تذكروا الله تعالى، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في إثره سراعًا حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يَحْرِزُ نَفْسَه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى](2).

وقوله: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} .

المذؤوم: المعيب، والمدحور: المُقْصَى. قال قتادة: (يقول: اخرج منها لعينًا مَنْفِيًّا).

وقال ابن عباس: ({مَذْءُومًا}: ممقوتًا. قال: يقول: صغيرًا منفيًا).

وعن مجاهد: ({مَذْءُومًا}، قال: مَنْفِيًّا، {مَدْحُورًا}، قال: مطرودًا). وعن التميمي: (سأل ابن عباس: ما {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}، قال: مقيتًا). وقال الربيع بن أنس: (مذؤومًا: منفيًا، والمدحور: المُصَغَّرُ).

وقوله: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} .

تَوَعُّدٌ من الله بالانتقام منه ومن أتباعه.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].

2 -

وقال تعالى: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 63 - 65].

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2203) - كتاب السلام. باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 202)، والترمذي في الجامع (2867). وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (1720) - وهو جزء من حديث طويل.

ص: 137

وقوله تعالى: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} .

أسكن الله تعالى آدم وزوجته الجنة بعد أن أهبط منها إبليس بمعصيته وأخرجه منها، وأباح الله تعالى لهما كل ثمرات الجنة إلا شجرة بعينها جعلها سبحانه موضع الاختبار، فحذرهما من الزلل ومخالفة الأمر.

وقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} .

قال ابن جرير: (ومعنى الكلام: فجذب إبليس إلى آدم حوّاء، وألقى إليهما: ما نهاكما ربكما عن أكل ثمر هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، ليبدي لهما ما واراه الله عنهما من عوراتهما فغطاه بستره الذي ستره عليهما).

وقوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} .

قال قتادة: (فحلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يُخْدَع المؤمن بالله، فقال: إني خُلِقْتُ قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما)

وقوله: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} .

أي: فخدعهما بغرور، فما زال بهما حتى خُدعا بكلامه ووسوسته.

وقوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} .

أي: فلما وقعا وذاقا ثمر الشجرة التي حرمها الله عليهما، أعراهما ربهما من الكسوة التي كان كساهما وتفضل عليهما، فهرعا إلى ورق الجنة لتغطية ما بدا من عوراتهما.

قال ابن عباس: (جعلا يأخذان من ورق الجنة، فيجعلان على سوآتهما).

وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} .

أي: نادي الله تعالى آدم وحواء: ألم أنهكما عن أكل ثمر تلك الشجرة وأحذركم عداوة إبليس ومحاولاته النيل من نَعيمكما، وأنه لكما عدو مبين، حاسد ظلوم.

قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .

قال الضحاك: (هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه).

ص: 138

وقوله تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} .

يقول جل ذكره لآدم وحواء وإبليس العدو: اهبطوا من السماء إلى الأرض، بعضكم لبعض عدو. قال ابن عباس:({وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ}، قال: القبور. {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، قال: إلى يوم القيامة، وإلى انقطاع الدنيا). وكذلك قال ابن عباس: ({مُسْتَقَرٌّ}: وجه الأرض وتحتها).

قال ابن كثير: (وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}، قال: قرارٌ وأعمارٌ مضروبةٌ إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدرُ، وسطِّرت في الكتاب الأول).

وقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)} .

أي: حياتكم ثم مماتكم فيها ثم تبعثون منها ليوم الحساب.

وفي التنزيل: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55].

أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم بسند صحيح من حديث البراء - عند صعود الروح - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فيستفتحون له، - أي: لروح المؤمن - فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فيُرَدُّ إلى الأرض، وتعاد روحه في جسده].

ثم قال في روح الكافر: [فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. فتطرح روحه من السماء طرحًا حتى تقع في جسده](1).

26 -

36. قوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (2/ 281)، وأحمد في المسند (4/ 287 - 288)، والحاكم في المستدرك (1/ 37) - ضمن حديث طويل.

ص: 139

الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}.

في هذه الآيات: وصايا من الله سبحانه لذرية آدم بعدما حصل لأبويهم من فتنة الشيطان وما أعقبها من الهبوط إلى دار الدنيا والابتلاء والامتحان: يا بني آدم قد خلقنا لكم لباسًا مما تلبسون من الثياب يستر عوراتكم، ولباس الإيمان والحياء والعمل الصالح هو زينة اللباس، إن كنتم تعتبرون. يا بني آدم، لا يخدعنكم الشيطان لكشف عوراتكم كما فعل بأبيكم آدم وأمكم حواء، ليسلبهما لباس التقوى والستر والحياء، إنه يراكم هو وجنسه دون أن تروهم، إنا جعلنا الشياطين نصراء الكفار والمتكبرين. وإذا فعل هؤلاء الكفرة قبيحًا - كالطواف بالبيت عرايا - فعوتبوا بذلك احتجوا بطريقة الآباء، وبأن الله أمرهم بذلك، قل - يا محمد - لهم: إن الله لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال، وإنما أنتم تكذبون. إنما أمر ربي بالعدل وإخلاص الدعاء والعبادة له

ص: 140

سبحانه، وأن تَتَوَجهوا إلى البيت الحرام، ثم إليه تحشرون، فكما بدأكم تعودون. إنه سبحانه قد هدى فريقًا استحقوا الهداية بتواضعهم لأمره، وحرم الهداية فريقًا تمردوا على أمره وأظهروا الاستكبار والعناد، وآثروا ولاية الشياطين، وهم يحسبون أنهم مهتدون. يا بني آدم تجملوا باللباس عند كل مسجد فاختاروا أستره وأجمله، وكذلك كلوا واشربوا من الطيبات واجتنبوا الإسراف والمحرمات، إنه سبحانه لا يحب المسرفين. قل - يا محمد - لهؤلاء المنحرفين في منهاجهم: من حرّم عليكم - أيها القوم - زينة الله أن تتزينوا بها وتتجملوا بلباسها، والحلال من الرزق من أصناف الطيبات في المطاعم والمشارب، قل - يا محمد - إذ أفلس القوم من الجواب: إنها زينة الله أخرجها لعباده وطيبات أحلها لهم، ثم ينعمون بها وحدهم في الآخرة دون الكفار، ونفصل التشريع الحق لقوم يفقهون. قل - يا محمد - لهؤلاء المشركين: أيها القوم! إن الله لم يحرم ما تحرمونه، بل أحل ذلك لعباده وطيّبه لهم، إنما حرم القبائح وهي الفواحش، سرّها وعلانيتها، والمعاصي والاستطالة على الناس بظلم، والشرك الذي هو أصل كل معصية وفاحشة وظلم، والقول على الله بغير علم، الذي هو أم كل جهل وأصله وسببه. ثم لكل أمة أجل هم بالغوه، فإذا جاء يومهم مضوا دون أي تأخير أو تقديم. يا بني آدم إنه لا فلاح لكم إلا باتباع الرسل، فمن صدق بهم ومضى على منهاجهم فقد فاز، ومن أبى فالنار ستلفحه يوم القيامة وبئس المصير.

فقوله: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} .

قال مجاهد: (كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة، ولا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه).

وقال ابن عباس: (الرياش: اللباس والعيش والنعيم). وفي رواية: ({وَرِيشًا} يقول: مالًا).

وقال ابن زيد: (الريش: الجمال). قال ابن جرير: (و {الريش}: إنما هو المتاع والأموال عندهم. وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال).

وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} .

فيه أقوال متكاملة:

1 -

قال قتادة: ({وَلِبَاسُ التَّقْوَى}، هو الإيمان).

ص: 141

2 -

وقال معبد الجهني: ({وَلِبَاسُ التَّقْوَى}، الذي ذكر الله في القرآن، هو الحياء).

3 -

وقال ابن عباس: ({وَلِبَاسُ التَّقْوَى}: العمل الصالح). أو قال: (السمت الحسن في الوجه).

4 -

وقال عروة بن الزبير: ({وَلِبَاسُ التَّقْوَى}: خشية الله).

5 -

وقال ابن زيد: (يتقي الله، فيواري عورته، ذلك {لِبَاسُ التَّقْوَى}).

قلت: وكلها أقوال متكاملة في معناها تزيد في توضيح آفاق الآية، فالإيمان والحياء وحسن السمت واللباس الساتر وخشية الله والعمل الصالح كل ذلك من لباس التقوى.

وقوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} .

أي: كل ما سبق ذكره من اللباس والرياش وخير اللباس - لبالس التقوى - من حجج الله على من كفر بالله، عله يعتبر وينيب إلى الحق ويترك ما هو عليه من الضلال.

وقوله: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} .

تحذير من الله عباده أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم آدم وحواء حتى جردهم من لباس الله ونزعه عنهما بغوايته لتظهر عوراتهما، وهذا من أخطر السبل التي يحاول بها الشيطان وأعوانه إضلال بني آدم، وما التعري وكشف العورات وأفلام الرذيلة وفشو الزنا بكل ألوان الشذوذ والإباحية اليوم في أرجاء الأرض إلا تصديق لهذه الآية.

وقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} - إخبار من الله عن رؤية الجن للإنس دون العكس عمومًا.

قال مجاهد: (الجن والشياطين). وقال ابن زيد: (قبيله: نسله).

وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} - أي: نصراء لهم يعينونهم على فشو المنكر.

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]

2 -

وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]

ص: 142

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيدنيه منه ويقول: نِعْمَ أنت](1).

وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أصبح إبليس بثَّ جنوده، فيقول: من أضَلَّ اليوم مسلمًا ألبستُه التاج، فيخرجُ هذا فيقول: لم أزل به حتى طلق امرأته، فيقول: أوشك أن يتزوج. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عن والديه فيقول: يوشك أن يَبرَّهما. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى أشرك، فيقول: أنت أنت. ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى قتل، فيقول: أنت أنت وَيُلبِسُه التاج](2).

وقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

قال مجاهد: (كانوا يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة (3) أو الشيء، فتقول:

اليَوْمَ يَبْدو بَعْضُه أوْ كُلُّهُ

فما بدا مِنْهُ فلا أُحِلُّهُ)

وقال ابن جريج: (كان نساؤهم يطفن بالبيت عراة، فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم).

فامر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: أيها الناس، إن ربكم سبحانه لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال، وإشاعة المنكر والفواحش، فكيف تكذبون على ربكم وتقولون عليه دون علم.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (7106) - طبعة دار السلام - الرياض - كتاب صفات المنافقين. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (65)، بإسناد صحيح، رجاله ثقات رجال البخاري. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1280).

(3)

النسعة: هي قطعة من الجلد مضفورة عريضة تجعل على صدر البعير.

ص: 143

وقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} .

قال مجاهد والسدي: (بالعدل). أي: بالعدل والاستقامة.

وقوله: ({وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} - فيه قولان محتملان:

1 -

عن مجاهد: ({وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، إلى الكعبة حيثما صليتم، في الكنيسة وغيرها).

2 -

عن الربيع - قال فيها -: (في الإخلاص، أن لا تدعو غيره، وأن تخلصوا له الدين).

وقوله: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .

قال الربيع: (أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل، ثم توجِّهون إلى البيت الحرام).

وقوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} .

أما قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ففيه أكثر من تأويل، وبعض ذلك مُفَسَّرٌ بقوله:{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} .

1 -

قال مجاهد: ({كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}: يحييكم بعد موتكم).

2 -

وقال الحسن: (كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء).

3 -

وقال قتادة: (بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم ذهبوا، ثم يعيدهم). وقال ابن زيد: (بدأكم أولًا، كذلك يعيدكم آخرًا).

4 -

وقال ابن عباس: (يبعث المؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا). وقال أبو العالية: (عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله فيهم: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}؟ ألم تسمع قوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ}؟ ).

5 -

وقال سعيد بن جبير: (كما كتب عليكم تكونون). وقال السدي: (يقول: كما بدأكم تعودون، كما خلقناكم، فريق مهتدون، وفريق ضال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم).

ص: 144

قلت: وكلها تفاسير يدل عليها السياق، ويحتملها المعنى، وقد وردت السنة الصحيحة في ذلك، ضمن أحاديث:

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: [قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غُرْلًا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]]، الحديث (1).

الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار. وإنه ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة. وإنما الأعمال بالخواتيم](2).

الحديث الثالث: أخرج الشيخان وأكثر أهل السنن عن علي مرفوعًا: [ما منكم مِنْ أَحَدٍ، ما مِنْ نَفْسِ مَنْفُوسَةٍ إلا كُتِبَ مَكانُها من الجنة والنّار، وإلا قد كُتِبَتْ شَقِيَّةً أو سعيدة. فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نَتَّكِلُ على كتابنا ونَدَعُ العمل؟ فمن كان مِنّا من أهل السعادة فسيصيرُ إلى عمل أهل السعادة، وأما مَنْ كان منّا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. قال: أمّا أهلُ السعادة فَيُيَسَّرون لعمل السَّعادة، وأما أَهْلُ الشقاوة فيُيَسَّرون لعمل الشقاوة. ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)}](3).

وقوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} .

تعليل لدخول الفريق الثاني في الشقاوة، وتوضيح لمفهوم الكتابة في اللوح المحفوظ، فهي كتابة علم لا كتابة جبر، فالعبد اختار لنفسه الطريق وغدًا تظهر النتائج.

قال ابن جرير: (وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يُعَذِّبُ أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4625)، (4740)، ومسلم (2860)، والترمذي (1423)، والنسائي (4/ 114) وأحمد (1/ 229). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (2898)، (4202)، ومسلم (112)، وأحمد (5/ 335)، والبيهقي في الدلائل (4/ 252). من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (1362) - كتاب الجنائز - واللفظ له، وأخرجه مسلم (2647)، وأبو داود (4694)، والترمذي (2137)، وابن ماجه (78)، وأحمد (1/ 82)، وغيرهم.

ص: 145

عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضَلَّ وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى، فرقٌ. وقد فَرَّق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية الكريمة).

وقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} .

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: [كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة فتقول: من يعيرني تِطْوَافًا تجعله على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله .. فما بدا منه فلا أُحِلُّهُ. فنزلت هذه الآية: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}](1).

وأخرجه الحاكم من طريق شعبة به، وفيه نزلت هذه الآية:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} .

قال ابن عباس: (كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس، وهو ما يُواري السَّوْأَة، وما سوى ذلك من جَيّد البزّ والمتاع، فَأمِروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد). وقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، في الطعام والشراب). قال:(أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سَرَفًا أو مخيلة). والمخيلة: الاختيال والكبر.

قال بعض السلف: (جمع الله الطب كله في نصف آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}).

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذه المعاني في اللباس والطعام والشراب، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [البسُوا من ثيابكم البياضَ، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن من خيرِ أكحالكم الإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبتُ الشعر](2).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (3028) - كتاب التفسير. باب في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . وانظر مستدرك الحاكم (ج 2) ص (319 - 320) - ولعل الآيتين نزلتا معًا لهذا السبب.

(2)

حديث حسن. أخرجه أبو داود (3878) - باب في الأمر بالكحل، وأخرجه الترمذي (994)، وابن ماجه (1472)، وأخرجه أحمد (1/ 328)، والحاكم (1/ 354)، وصححه ابن حبان (5423).

ص: 146

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند جيد عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [عليكم بالثياب البياض فالبسوها، فإنها أطهرُ وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم](1).

الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده](2).

ورواه النسائي وابن ماجه بلفظ: [كلوا وتصدقوا والبَسُوا، في غير إسراف ولا مخيلة](3).

الحديث الرابع: أخرج الترمذي والنسائي بسند جيد عن المقدام بن معد يكرب الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما ملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلًا لا محالة، فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنَفَسِه](4).

قال البخاري: (قال ابن عباس: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سَرَفٌ ومَخِيلةٌ).

الحديث الخامس: أخرج الترمذي والحاكم بسند حسن عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من ترك اللباس تواضعًا لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يُخَيَّرَ من أي حُلَلِ الإيمان شاء يلبسها](5). وحسنه الترمذي وقال:

(ومعنى قوله: "حلل الإيمان" يعني ما يعطى أهل الإيمان من حلل الجنة).

(1) حديث إسناده جيد. أخرجه أحمد (5/ 12)، (5/ 21)، والنسائي في "الكبرى"(9643)، وكذلك (9644)، وأخرجه الحاكم (4/ 185)، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي.

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 181 - 182)، والحاكم (4/ 135)، وصححه، ووافقه الذهبي.

(3)

حديث حسن. أخرجه النسائي (5/ 79)، وابن ماجه (3605). وأورده الحافظ ابن كثير (3096).

(4)

إسناده جيد. أخرجه الترمذي (2380)، والنسائي في "الكبرى"(6768)، وأحمد (4/ 132).

(5)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (2/ 79)، والحاكم (4/ 183)، وأحمد (3/ 439)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 48)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (718).

ص: 147

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول: إن الله لا يحب المتعدِّين حَدَّه في حلال أو حراء، الغالين فيما أحلَّ الله أو حرَّم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحبّ أن يحلَّل ما أحل ويحرَّم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به).

وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .

قال قتادة: (وهو ما حرّم أهل الجاهلية عليهم من أموالهم: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام).

وقال ابن زيد: (كانوا إذا حجُّوا أو اعتمروا، حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها).

وعن ابن عباس: (قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، قال: إن الجاهلية كانوا يحرمون أشياءَ أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}، وهو هذا، فأنزل الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}).

وقد أخرج أبو القاسم الطبراني بسنده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:[كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراةٌ، يُصَفِّرون ويُصَفِّقُون، فأنزل الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}، فأمِرُوا بالثياب](1).

وقوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

أي: هذه الطيبات من الطعام والشراب واللباس ستخلص للمؤمنين يوم القيامة في أشهى وأجمل أحوالها، وإن شركهم بها الكفار في الدنيا مؤقتًا، ونبين هذه الحجج لقوم يفقهون.

قال ابن عباس: (يقول: شارك المسلمون الكفار في الطيبات، فأكلوا من طيبات طعامها، ولبسوا من خيار ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، وخلصوا بها يوم القيامة). وقال مرة أخرى: (يشارك المسلمون المشركين في الطيبات في الحياة الدنيا، ثم يُخْلصُ الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء).

(1) حسن لشواهده. انظر مستدرك الحاكم من طريق شعبة به (ج 2)(ص 319 - 320)، والصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - الأعراف (26). وتفسير ابن كثير (3/ 151).

ص: 148

وقال الضحاك: (المشركون يشاركون المؤمنين في الدنيا في اللباس والطعام والشراب، ويوم القيامة يَخْلُص اللباس والطعام والشراب للمؤمنين، وليس للمشركين في شيء من ذلك نَصيبٌ).

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} .

قال مجاهد: ({مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، طوافُ أهل الجاهلية عراة، {وَمَا بَطَنَ}، الزنا).

وقال السدي: (أما {الْإِثْمَ} فالمعصية، و {الْبَغْيَ}، أن يبغيَ على الناس بغير الحق).

وقال مجاهد: (نهى عن {الْإِثْمَ}، وهي المعاصي كلها، وأخبر أن الباغيَ بَغْيُهُ كائن على نفسه).

قلت: ولا شك أن لفظ الفواحش يشمل من الموبقات أكثر مما ذكره مجاهد، ومن ثمَّ فإن كل الأعمال المُفْرِطَةِ في القبح داخلة في مسمى الفواحش. وكذلك فإن سرّها وعلانيتها يدخل في مفهوم قوله تعالى:{مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . ولفظ {الْإِثْمَ} يدل على المعصية. ولفظ {الْبَغْيَ} يدل على الظلم وتجاوز الحدّ فيه. قال القرطبي: (وأخرج الإثم والبغي من الفواحش وهما منه لعظمهما وفحشهما، فنصَّ على ذكرهما تأكيدًا لأمرهما وقصدًا للزجر عنهما).

أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا أحد أغْيَرُ من الله، من أجل ذلك حَرَّمَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحبُّ إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين](1). وفي لفظ عند الإمام مسلم: [من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه](2).

وقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} .

هذا أكبر الظلم، وكل الفواحش دونه في الإثم، فأعظم الظلم أن تدعو غير الله سبحانه الذي خلقك وسواك وعدلك وأغدق عليك نعمه ظاهرة وباطنة، أو تصرف

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4634)، (7403)، ومسلم (2760)، والترمذي (3530)، والنسائي في "الكبر"(11173)، (11183)، وأحمد (1/ 381)، (1/ 436)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. هو رواية عند الإمام مسلم (2760) ح (35)، للحديث السابق.

ص: 149

عبادة لغيره تعالى. ولذلك كان الكفر بالطواغيت من شروط {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} .

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن والد أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعْبَدُ من دون الله حَرُمَ ماله ودمه. (وفي رواية: وحسابه على الله عز وجل](1).

وفي لفظ: [من وَحَّدَ الله تعالى، وكفر بما يعبد من دونه، حَرُمَ ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل].

وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

من الكذب في الدين، والافتراء دون علم، ونسب الولد لله، أو جعل الملائكة إناثًا، أو تحريم ما أحل الله، إلى غير ذلك من ألوان القول على الله بغير علم.

وقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} .

أي: لكل أمة مدة أو وقت لنزول العذاب بهم، أو انقضاء أمرهم ووجودهم، وتلك الأيام يداولها الله تعالى بين الناس. فإذا جاء ميقاتهم المقدر لهُم، ويومهم الموعود، فلا يتركون بعد الأجل قليلًا ولا يهلكون قبله كذلك. قال القاسمي:(والساعة مثل في غاية القلة من الزمان).

وقوله: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} .

قال القرطبي: ({يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} شرط. ودخلت النون توكيدًا لدخول {مَا}. وقيل: ما صلة، أي: إن يأتكم. أخبر أنه يرسل إليهم الرسل منهم لتكون إجابتهم أقرب. والقصص إتباع الحديث بعضه بعضًا. {آيَاتِي} أي: فرائضي وأحكامي).

وقوله: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

قال النسفي: (فمن اتقى الشرك وأصلح العمل منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

وقال ابن كثير: ({فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ} أي: ترك المحرمات وفعل الطاعات).

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم برقم (23) - كتاب الإيمان - باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. من حديث والد أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه.

ص: 150

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

أي: أما من كذّب بحجج الله وآياته ورسله، وجحد الحق واستكبر عليه، فإن عذاب الجحيم ينتظره، ومصير الخزي سيفجعه، فلا أحد يمكنه التكبر على أمر الله وهدي نبيّه صلى الله عليه وسلم دون أن ينال جزاءه من النكال والخزي والعذاب.

أخرج الترمذي بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صُوَرِ الرجال، يغشاهم الذُّلُ من كل مكان، يُساقون إلى سجنٍ في جهنم يُسمى بُولَسَ، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عُصَارة أهل النار طينة الخبال](1).

37 -

41. قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}.

في هذه الآيات: يقول جل ثناؤه: فمن أكثر ظلمًا وأجهل فعلًا وأبعد وأخطأ قولًا ممن اختلق على الله زورًا أو طعن بآياته وجحد صحتها، إن هؤلاء سيصل إليهم حظهم

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند، والترمذي في الجامع (2492). انظر صحيح سنن الترمذي (2025)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7896).

ص: 151

مما كتب الله لهم في اللوح المحفوظ من الشقاوة والعذاب والوعيد، حتى إذا جاءتهم رسلنا لقبض أرواحهم - ملك الموت وملائكة العذاب - قالت لهم الرسل: أين الذين كنتم تدعونهم أولياء من دون الله وتعبدونهم، ليدفعوا عنكم آلام النزع وما أنتم فيه من الكرب العظيم فينقذونكم؟ قالوا: تخلوا عنا وتركونا أحوج ما كنا إليهم، وشهد القوم على أنفسهم حينئذ أنهم كانوا بالله كافرين. وقال لهم حين وردوا عليه يوم القيامة: ادخلوا - أيها المفترون على ربكم والمكذبون رسله - في جموع أمم سلفت قبلكم استحقت النار - من الجن والإنس - كلما دخلت أمة لعنت أمة أخرى من أهل ملتها ودينها، حتى إذا تداركت الأمم في النار - أي: اجتمعت - قالت الأخرى من كل ملة لمن كانت سلفت قبلها في قيادة الضلال والكفر: ربنا هؤلاء أضلونا عن هديك وسبيلك فأوردهم اليوم عذاب الضعف بما شرعوا وسنوا لنا، فقال الله مجيبهم: لكلكم ضعف ومكرّر من العذاب ولكنكم لا تعلمون حقيقة ما أعدّ الله لكم من الهوان والعذاب. وقالت أولاهم التي سنت الكفر ومنهاج الضلالة لأخراهم التي مضت على ذلك السبيل: فما كان لكم علينا من فضل، فقد ضللتم كما ضللنا، ومن ثم فقد نالكم ما نالنا من النكال والهوان، وقال الله لجميعهم: فذوقوا جميعكم أيها الكفرة عذاب جهنم بما كنتم تكسبون من الذنوب والمعاصي والآثام. إن الذين كذبوا بآياتنا وحججنا واستكبروا عن عبادتنا لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا خرجت من أجسادهم - كما هو شأن المؤمنين تفتح لهم أبواب السماء حتى يستقبلهم ربهم - ثم لا يدخل هؤلاء - أهل التكذيب - الجنة أبدًا، كما لا يلج الجمل في ثقب الإبرة أبدًا - وهذا جزاء المجرمين المشركين. يمهد لكم من فرش النار مضاجع وبسطًا ومقاعد، ويظلهم لهب الجحيم من فوقهم، وهذه هي منازل الظالمين في الآخرة.

فقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} .

قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فمن أخطأ فعلًا، وأجهلُ قولًا، وأبعد ذهابًا عن الحق والصواب، {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، يقول: ممن اختلق على الله زُورًا من القول، فقال إذا فعل فاحشة: إن الله أمرنا بها، {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}، يقول: أو كذب بأدلته وأعلامه الدالة على وحدانيته ونبوة أنبيائه، فجحد حقيقتها ودافع صحتها).

وقوله: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} - فيه أقوال متكاملة:

1 -

قال السدي: (ما كتب لهم من العذاب). وقال الحسن: ({أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}، قال: من العذاب).

ص: 152

2 -

وقال سعيد: (من الشِّقوة والسعادة). وقال مجاهد: (كشقي وسعيد).

وقال أيضًا: (ما كتب لهم من الشقاوة والسعادة). وقال: (ما قد سبق من الكتاب). وقال: (قوم يعملون أعمالًا لا بُدَّ لهم من أن يعملوها).

3 -

وقال ابن عباس: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} ، يقول: نصيبهم من الأعمال، من عمل خيرًا جُزِيَ به، ومن عمل شرًا جزي به). وقال مجاهد:(من أحكام الكتاب، على قدر أعمالهم). وقال قتادة: (ينالهم نصيبهم في الآخرة من أعمالهم التي عملوا وأسلفوا).

4 -

وقال الضحاك: ({أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر).

5 -

وقال ابن عباس: (ينالهم ما كتب عليهم. يقول: قد كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسوَدٌّ).

6 -

وقال الربيع بن أنس: ({أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ}، مما كتب لهم من الرزق).

وقال القرظي: (عمله ورزقه وعمره). وقال ابن زيد: (من الأعمال والأرزاق والأعمار، فإذا فني هذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، وقد فرغوا من هذه الأشياء كلها).

قلت: وبالجمع بين هذه الأقوال يكون المعنى: أولئك ينالهم نصيبهم مما مضى وسبق في علم الله وكتبه في اللوح المحفوظ من سيرهم على منهاج أهل الشقاوة، واستمتاعهم بما قسم لهم من الأرزاق والأيام بشهواتهم التي أطلقوها في الغي والضلال، ثم في الآخرة ينزل بهم نصيبهم من العذاب والنكال.

وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} .

أي: إن لحظات الغرغرة وصعود الروح هي بداية نزول العذاب المكتوب عليهم بعد فوات الحياة الدنيا وضياع العمر في الكبر والضلال، فإذا ما نزلت ملائكة العذاب وتبعهم ملك الموت لقبض الروح أيقنوا - حين سألوهم أين ما كنتم تعبدون وتدعون من دون الله لينقذوكم من ورطتكم هذه وأليم ما أنتم قادمون عليه - أنهم كانوا كافرين وقد فات العمر ومضى.

ص: 153

وقوله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} .

يقول جل ذكره: ادخلوا مع أمم أمثالكم قد سلفت قبلكم من الجن والإنس هي اليوم في النار، فأنتم اليوم تشركونها في المصير كما شركتموها في السبيل، كلما دخلت النار جماعة شتمت من سبقها ومن سنَّ ذلك الضلال من أهل ملتها.

قال السدي: ({كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}، يقول: كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الدين، يلعن المشركون المشركين، واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس، تلعن الآخرة الأولى).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167].

2 -

وقال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].

وقوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} .

أي: اجتمع فيها أهل الملة الواحدة من ملل الكفر - أولهم وآخرهم.

وقوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} .

قال السدي: ({قَالَتْ أُخْرَاهُمْ}، الذين كانوا في آخر الزمان، {لِأُولَاهُمْ}، الذين شرعوا لهم ذلك الدين، {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ}).

وقال مجاهد: ({عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ}، مُضَعَّف). وقال السدي: ({لِكُلٍّ ضِعْفٌ}، للأولى، وللآخرة ضعف).

وقوله: {وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} .

أي: قدْر ما أعدّ الله لكم من الهوان والنكال والعذاب.

ص: 154

وقوله: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} .

قال السدي: (فقد ضللتم كما ضللنا).

وقال أبو مجلز: (يقول: فما فضْلكم علينا، وقد بين لكم ما صنع بنا، وحُذِّرتم).

وقال مجاهد: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} ، قال: من التخفيف من العذاب).

قلت: فيُحمل قول مجاهد على قول السدي وأبي مجلز ويُجْمَعُ بين القولين: بأن أولاهم قد صرحت لأخراهم - أثناء المحاورة بين أهل الأحزاب والملل الكافرة في النار - بأنه لم يكن لكم أي سبق أو فضل علينا وقد أشركتمونا في سبيل الضلال، ومضيتم عليه كما مضينا، وقد كان يسعكم أن تعتبروا بما نالنا وتستأنفوا حياة جديدة في طاعة الله وحده لا شريك له، وفي ركل منهاج الآباء في الشرك والضلال، أمَا ولم تفعلوا، فأنتم ونحن في مصير واحد، ولِمَ يُخفَّفُ عنكم من العذاب! . ولذلك أجاب الله الفريقين بقوله:{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} .

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} .

في مفهوم الآية أقوال:

1 -

قال ابن عباس: (عُني بها الكفار، أنّ السماء لا تفتح لأرواحهم، وتفتح لأرواح المؤمنين).

2 -

وقال ابن جريج: (لا تفتح لأعمالهم، ولا لأرواحهم).

3 -

وقال مجاهد: (لا يصعد لهم كلام ولا عمل). والأول أرجح.

فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم بسند صحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: [خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولَمَّا يُلْحَد. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثًا - ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال إلى الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حَنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر. ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.

ص: 155

قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخَذَها لم يَدَعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحَنُوط. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجِدَت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون - يعني بها - على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عِلّيين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحُه: فيأتيه مَلَكان فيجلسانه فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتابَ الله فآمنتُ به وصدَّقتُ. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة. فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مَدّ بصره. قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرُّك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.

قال: وإن العبد الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مَدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فَتُفَرق في جسده، فينتزعها كما يُنْتَزَعُ السَّفُودُ (1) من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذا لم يَدَعُوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يُنْتَهى به إلى السماء الدنيا، فَيُسْتَفْتَحُ له، فلا يُفْتَحُ. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض

(1) السفود: السِّيخ، حديدة يشوى بها.

ص: 156

السفلى. فتُطرَحُ روحُه طَرْحًا، ثم قرأ:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} . فتُعاد روحُه في جسده. ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري. فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري. فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري. فينادي منادٍ من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار. فيأتيه من حرها وسمومها، ويُضَيَّىقُ عليه قبرُه حتى تختلف فيه أضلاعُه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنْتِنُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك. هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تُقِم الساعة] (1).

وقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} .

قال الحسن البصري: (حتى يدخل البعير في خُرْق الإبرة). وهذه قراءة الجمهور، وهناك قراءة:"الجُمَّلُ" - يعني الحبل الغليظ في خُرم الإبرة، والقراءة الأولى أشهر وهي قراءة قراء الأمصار.

وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول: وكذلك نثيب الذين أجرموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الآخرة).

وقوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} .

قال الضحاك: (المهاد: الفرش، والغواشي: اللُّحْف). وقال السدي: (أما {المهاد} كهيئة الفراش، و {الغواشي}، تتغشاهم من فوقهم). أي: فرشهم من النار، وأغطيتهم من النار، والعياذ بالله من حال أهل النار.

وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} .

أي: كذلك نثيبهم في مستقرهم لقاء تكذيبهم الرسل وجحود الحق.

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 287 - 288)، (4/ 295 - 296)، وأخرجه أبو داود في السنن (4753)، والبيهقي في "إثبات عذاب القبر"(20 - 27)، وصححه الحاكم (1/ 37 - 40) ووافقه الذهبي. وأقره الألباني. انظر "أحكام الجنائز" ص (157) لرواياته المفصلة المختلفة.

ص: 157

42 -

43. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}.

في هذه الآيات: يقول جل ذكره: والذين أقاموا منهج الإيمان والعمل الصالح - ولا نكلف نفسًا من الأعمال إلا ما يسعها - أولئك هم أهل الخلود في جنات النعيم. وقد أذهبنا من صدورهم يومئذ كل ما اعتراها من حقد أو عداوة أو حظ نفس، فهم اليوم تغمرهم الأخوة والمحبة على سرر متقابلين تجري من تحتهم الأنهار، وقد حمدوا الله سبحانه على ما وفقهم له من الكرامة والفضل الذي ما كانوا ليهتدوا له لولا فضل الله عليهم ومنه وكرمه، وأقروا بمجيء الرسل للناس بالحق فآمن المؤمنون وكذب الكافرون، وناداهم مناد يومئذ: هذه الجنة التي أورثكموها ربكم بإيمانكم وطاعتكم وإحسانكم.

فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

قال القرطبي: ({لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} كلام معترض. أي: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون).

قال ابن جرير: ({لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، يقول: لا نكلف نفسًا من الأعمال إلا ما يسعها فلا تحرج فيه).

وقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَار} .

إخبار بتصفية ما في نفوسهم، والأنهار تجري من تحتهم.

قال الضحاك: ({وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}، قال: العداوة). وقال قتادة: (هي الإِحَن).

قال القاسمي: (أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعداوة، أو نطهّرها

ص: 158

منها، حتى لا يكون بينهم إلا التوادّ والتعاطف. وصيغة الماضي للإيذان بتحققه وتقرّره).

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إذا خَلَصَ المؤمنون من النار حُبِسوا بِقَنْطَرَةٍ بين الجنة والنار، فيتقاصُّون مظالمَ كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وَهُذِّبوا أُذِنَ لهم بدخول الجنة، فوالذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيده، لأَحَدَهُمْ بِمَسْكَنِهِ في الجنة أدَلُّ بمنزله كان في الدنيا](1).

وقوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

أخرج الإمام أحمد والنسائي والحاكم - بسند حسن - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلُّ أهل الجنة يرى مَقْعَدَه من النار، فيقول: لولا أنّ الله هداني، فيكون له شُكرٌ، وكُلُّ أهل النار يرى مقعَدَه من الجنةِ، فيقول: لو أنَّ الله هداني، فيكونُ عليه حسرة](2).

وقوله: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} .

قال النسفي: ({لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} فكان لطفًا لنا وتنبيهًا على الاهتداء فأهدينا، يقولون ذلك سرورًا بما نالوا وإظهارًا لما اعتقدوا).

وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

قال القرطبي: (أي: قيل لهم: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} لأنهم وعدوا بها في الدنيا، أي: قيل لهم: هذه تلكم الجنة التي وعدتم بها، أو يقال لهم ذلك قبل الدخول حين عاينوها من بعد. قال: ومعنى {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ورثتم منازلها بعملكم، ودخولكم إياها برحمة الله وفضله. كما قال: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 70]. وقال: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} [النساء: 175]).

قال ابن كثير: (أي: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة، وتبوأتم منزلكم بحسب أعمالكم).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2440) - كتاب المظالم. باب قِصاص المظالم، وأخرجه الحاكم (2/ 354)، وأبو يعلى (1186)، وابن حبان (7434)، والبغوي في "التفسير"(921).

(2)

حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 512)، والحاكم (2/ 435)، والنسائي في "الكبرى"(11454).

ص: 159

قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى، في أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يومُ القيامة، دَفعَ الله عز وجل إلى كُلِّ مُسْلِمٍ، يَهوديًا أو نصرانِيًّا، فيقول: هذا فِكاكُكَ من النار](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن ماجه في السنن بسند صحيح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْكُم مِنْ أحَدٍ إلا له مَنْزِلان: مَنْزِلٌ في الجنة، ومَنْزِلٌ في النار. فإذا مات، فَدَخَلَ النارَ، وَرِثَ أهل الجنة مَنْزِلَه. فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)}](2).

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لن يُنَجِّيَ أحدًا منكم عَمَلُهُ. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدَني الله برَحْمَةٍ. سَدِّدُوا وقاربوا، واغْدوا وروحوا، وشيئًا من الدُّلْجَةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلغُوا]. هذا لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم:[لن يُدْخِلَ أحدًا منكم عَمَلُهُ الجنة. قالوا: ولا أنت؟ يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بِفَضْلٍ ورحْمة](3).

الحديث الرابع: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا. وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا. وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا. وإن لكم أن تنعموا فلا تَبْأسوا أبدًا. فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}](4).

44 -

45. قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2767) - كتاب التوبة. وأخرجه ابن حبان (630)، والطيالسي (499). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (4341) - باب صفة الجنة - وهو آخر حديث صحيح في سننه. انظر صحيح سنن ابن ماجه (3503)، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(1/ 265).

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (6463)، ومسلم (2816)، وأحمد (2/ 386)، وغيرهم.

(4)

حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم (2140) - كتاب التفسير - سورة الأعراف، آية (43).

ص: 160

حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)}.

في هذه الآيات: يخبر الله تعالى أن أهل الجنة ينادون أهل النار بعد دخولهموها: يا أهل النار إنا وجدنا صدق ما وُعدنا به في الدنيا في التنزيل وعلى لسان الرسل، من جزيل الثواب على الإيمان بالله والتصديق برسله واتباعهم، فهل وجدتم أنتم ما وعد ربكم على ألسنة رسله على الكفر والمعصية من العقاب وأليم العذاب؟ فأجابهم أهل النار: بأنْ نعم، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فنادى مناد بينهم أن غضب الله وسخطه وعقوبته على من كفر به، وصد عن سبيله، وحاول تحريف استقامة شرعه وتشويه معالم الحق والدين الحنيف، ثم هم لقيام الساعة والبعث والحشر والثواب والعقاب فيها جاحدون.

فعن السدي: ({وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}، قال: وجد أهل الجنة ما وُعدوا من ثواب، وأهلُ النار ما وُعِدوا من عقاب).

و"أنْ" في الآية للتفسير، فهي مفسّرة للقول المحذوف، و"قد" للتحقيق، والتقدير: قالوا لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا. والخطاب على وجه التقريع والتوبيخ، وهو أحد أشكال شفاء الله صدور المؤمنين في الآخرة، مما لاقوه من إجرام الطغاة في الدنيا.

وقد وَرَدَ نحو هذا اللفظ في كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بدر من قتلى المشركين، الذين آذوه بمكة والمؤمنين، وبسطوا ألسنتهم وأيديهم بالسوء أيام الكبر والغرور بمكة.

ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك: [أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثلاثًا، ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال: يا أبا جَهْلِ بنَ هشامٍ! يا أميَّة بنَ خَلَف! يا عتبة بن ربيعة! يا شَيْبَة بنَ ربيعة! أليس قد وجدتم ما وعَدَكم ربُّكم حَقًّا؟ فإني قد وجدت ما وعَدَني ربي حقًا. فسمع عُمَرُ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيفَ يَسْمَعوا وأنّى يُجيبوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قال: والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم

ص: 161

لا يقدرون أن يُجيبوا. ثم أُمِرَ بهم فَسُحِبوا، فَأُلْقُوا في قليب بَدْر] (1).

قال قتادة: (أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخًا وتصغيرًا ونِقْمَةً وحسرة وندمًا)(2).

وبنحو هذا الحوار بين أهل الجنة وأهل النار، ذكر الله تعالى أخبارًا أخرى مشابهة تكون بعد دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى في سورة الصافات - عن الرجل الذي كان له قرينٌ من الكفار -: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)} . ينكر عليه مقالته التي كان عليها، ويقرعه على المصير الذي آل إليه ونجاه الله منه.

2 -

وقال تعالى في سورة الطور - عن تقريع الملائكة الكفار -: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)} .

وقوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول: فنادى مناد، وأعلم مُعْلِمٌ بينهم، {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، يقول: غضب الله وسخطه وعقوبته على من كفر به).

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ} .

هو وصف لحال أولئك الظالمين.

قال ابن كثير: (أي: يصدون الناس عن اتباع سبيل الله ورسوله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد. {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ}، أي: وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي: جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به. فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكرٍ من القول والعمل، لأنهم لا يخافون حسابًا عليه ولا عقابًا، فهم شر الناس أعمالًا وأقوالًا)

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2874) - كتاب الجنة ونعيمها. وأخرجه ابن حبان (6498).

(2)

رواه البخاري. انظر صحيح البخاري (3976) - كتاب المغازي. وكتابي: السيرة النبوية (1/ 595 - 596) لمزيد من التفصيل في شأن قتلى المشركين يوم بدر.

ص: 162

46 -

49. قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى عن سور أو حاجز بين الجنة والنار وهو الأعراف، يقف عليه يوم الحساب رجال استوت حسناتهم وسيئاتهم أو خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وهم يعرفون رجالًا مشهورين من أهل النار، ومن أهل الجنة، فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} ، وهم محبوسون بأعمالهم المختلفة، ويطمعون بدخول الجنة. وإذا ذهبت أبصارهم نحو أصحاب النار استعاذوا بالله من اشتراكهم في ذلك المصير. ثم نادى أصحاب الأعراف رجالًا طغاة استقروا في النار وعرفوهم بسيماهم فقالوا: ما الذي نفعكم مما كنتم عليه في الدنيا من الطغيان والجند والأبهة والعظمة المصطنعة والكبر؟ أهؤلاء - أهل الإيمان الذين كانوا غرباء مستضعفين في الدنيا - الذين زعمتم أنهم مطرودون من رحمة الله؟ فإذا هم اليوم ينعمون في جنات النعيم، وأنتم أهل الملك والرياسة والحكم والطغيان تشقون اليوم في دركات الجحيم. فلما سمع الله هذا الحوار امتن على أصحاب الأعراف برحمته فقال لهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.

فقوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} .

قال السدي: (وهو السور، وهو الأعراف).

وقوله: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} .

قال مجاهد: (الأعراف: حجاب بين الجنة والنار).

وفي التنزيل: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [لحديد: 13].

ص: 163

والأعراف لغة: جمع عُرْف. وهو كل مرتفع من الأرض، وإنما قيل لعُرْفِ الديك "عرف" لارتفاعه على ما سواه من جسده. وبنحوه قال أهل التفسير:

1 -

فعن ابن عباس: (يقول: "الأعراف"، هو الشيء المشرف). وقال: (سور كعرف الديك).

2 -

وعن مجاهد: (الأعراف: حجاب بين الجنة والنار، سور له باب).

3 -

وعن عبيد الله بن أبي يزيد: أنه سمع ابن عباس يقول: (إن الأعراف تَلٌّ بين الجنة والنار، حُبِسَ عليه ناسٌ من أهل الذنوب بين الجنة والنار).

وكان السدي يقول: (إنما سمي "الأعراف" أعرافًا، لأن أصحابه يعرفون الناس). والتأويل الأول أشهر عند المفسرين، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.

وفي تحديد أهل الأعراف أقوال عند المفسرين:

1 -

القول الأول: هم قوم من بني آدم، استوت حسناتهم وسيئاتهم، فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم.

فعن الشعبي، عن حذيفة: أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال: (هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلّفت بهم حسناتهم عن النار. قال: فوُقِفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم) - ذكره بسنده ابن جرير.

وفي رواية: (أصحاب الأعراف، قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار، وهم آخر من يدخل الجنة، قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار).

وفي رواية أخرى: قال حذيفة: (أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم على سور بين الجنة والنار: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}).

2 -

القول الثاني: هم قوم كانوا قتلوا في سبيل الله عصاة لآبائهم في الدنيا. فعن شرحبيل بن سعد قال: (هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم).

3 -

القول الثالث: قيل: بل هم قوم صالحون فقهاء علماء.

فعن مجاهد قال: (أصحاب الأعراف، قوم صالحون فقهاء علماء).

4 -

القول الرابع: قيل: بل هم ملائكة، وليسوا ببني آدم.

ص: 164

فعن أبي مجلز قال: (أصحاب الأعراف، الملائكة).

قلت: أما القول الرابع فمرفوض، لقوله تعالى {عَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} . ولو كان المراد الملائكة لصُرّح بذلك. والقول الثالث والثاني تخالفه السنة الصحيحة، ويبقى القول الأول هو المشهور عند المفسرين.

وقوله: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} .

قال ابن عباس: (يعرفون أهل النار بسواد الوجوه، وأهل الجنة ببياض الوجوه). وقال مجاهد: (الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون، وسيما أهل الجنة مبيَضَّة وجوههم).

وقوله: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} .

قال ابن عباس: (وإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم: {أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} ، قال الله:{لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} .

وقال الحسن: (والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم).

وقوله تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

قال ابن عباس: (إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم، قالوا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}).

وقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)} .

قال ابن جرير: ({وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا}، من أهل الأرض، {يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، سيما أهل النار، {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ}، ما كنتم تجمعون من الأموال والعَدَد في الدنيا، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}، يقول: وتكبُّركم الذي كنتم تتكبرون فيها).

وقوله: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} .

قال القرطبي: ({أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ} إشارة إلى قوم من المؤمنين الفقراء، كبِلال

ص: 165

وسَلْمان وخبّاب وغيرهم. {أَقْسَمْتُمْ} في الدنيا. {لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ} في الآخرة. {بِرَحْمَةٍ} يوبخونهم بذلك).

وقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} .

قال ابن عباس: (إن الله أدخل أصحاب الأعراف الجنة لقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}).

وقيل غير ذلك، والراجح ما ذكرت، وهو متناسب مع السياق، والله تعالى أعلم.

50 -

51. قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)}.

في هذه الآيات: يخبر الله جلت عظمته عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة عند اشتداد الألم والعطش والجوع بهم من هول ما نزل بهم مقابل شركهم بالله وكفرهم بدينه وتحكيم شهواتهم وأهوائهم، {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا} شيئًا من الطعام والشراب مما رزقكم الله، فأجابهم المؤمنون: إن الله قد حرّم ذلك على الكافرين. الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا واستهزؤوا وسخروا بالإيمان وأهل الإيمان، وعاشوا في غرور تلك الحياة الدنيا الفانية، يقول الله: فاليوم نتركهم في العذاب كما تركوا الدين الحق وأنكروا يومهم هذا وكانوا بآياتنا كافرين.

قال ابن زيد: ({أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}، قال: يستطعمونهم ويستسقونهم).

وقال السدي: ({أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}: من الطعام).

قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير، في ابن عباس:{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ، قال: ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول: قد احترقت، أفض

ص: 166

علي من الماء. فيقال: أجيبوهم! فيقولون: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} ). قال ابن زيد: (طعام أهل الجنة وشرابُها).

وقوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .

أي: كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا واستهزؤوا، وخدعهم عاجل ما هم فيه من العيش والرخاء وتداعي الحياة الدنيا عليهم بزينتها.

قال ابن عباس: ({الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا}، الآية، قال: وذلك أنهم كانوا إذا دُعوا إلى الإيمان سخِروا ممن دعاهم إليه وهزئوا به، اغترارًا بالله).

وقوله: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} .

قال مجاهد: (نسوا في العذاب). وقال: (نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا). وقال أيضًا: (نتركهم في النار).

وقوله: {كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} .

قال ابن عباس: (نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا). وقال: (نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشر). وقال مجاهد: (نؤخرهم في النار).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: [قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تُضَارُّون في رؤية الشمس في الظهيرة، لَيْسَتْ في سَحَابة؟ قالوا: لا، قال: فهل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلةَ البَدْر، ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده! لا تضارُّون في رؤية ربكم إلا كما تُضارُّون في رؤية أحدهما. قال: فَيَلْقَى العَبْدَ فيقول: أي فُلْ (1)! أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لكَ الخَيْلَ والإبلَ، وأَذَرْكَ تَرْأسُ وتَرْبَعُ؟ فيقول: بلى، قال: فيقول: أَفَظَنَنْتَ أنك مُلَاقِيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنْسَاك كما نسيتني (2)، ثم يَلْقَى الثاني فيقول: أيْ فُلْ! أَلَمْ أُكْرِمْكَ، وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لك الخَيْلَ والإِبِلَ، وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ؟ فيقول: بلى، يا رب! فيقول: أَفَظَنَنْتَ أنك ملاقِيَّ؟ قال: فيقول: لا، فيقول: إني أنْسَاكَ كما نسيتني، ثم يلقى الثالثَ فيقول له مِثْلَ ذلكَ، فيقولُ: يا رب! آمَنْتُ بِكَ

(1) معناه يا فلان، وهو ترخيم على خلاف القياس. وقيل: هي لغة بمعنى فلان حكاها القاضي.

(2)

وفي رواية أخرى. "فاليوم أنساك كما نسيتني".

ص: 167

وبكتابِكَ وبِرُسُلِكَ وصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ، ويُثْني بِخَيْر ما استطاع، فيقول: ها هنا إذن. قال: ثُم يقال له: الآن نَبْعَثُ شاهِدَنا عليكَ، وَيَتَفَكَّرُ في نفسه: مَنْ ذا الذي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ على فيه، وَيُقال لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وعِظامه: انطِقي، فتنطِقُ فَخِذُهُ ولَحْمُهُ وعِظَامُهُ بعَمَلِهِ، وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه. وذلك المنافق، وذلك الذي يَسْخَطُ الله عليه] (1).

وقوله: {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} .

أي: يكذبون وينكرون ولا يصدقون.

52 -

53. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}.

في هذه الآيات: يقول جل ثناؤه: ولقد جئنا هؤلاء الكفار - يا محمد - بالقرآن أنزلناه إليك مفصلًا على علم منا بحقٍّ فصلناه فيه لنميز به الباطل، ليكون هداية ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينتظر هؤلاء المشركون ما يؤول إليه أمرهم من ورودهم العذاب، فإنه يوم يجيء ما يؤول إليه أمرهم من عقاب الله يقول الذين فرطوا وضيعوا من قبل ذلك في الدنيا، لقد أتتنا رسل الله بالرسالة والنذارة، فهل لنا من أصدقاء وأولياء ليشفعوا لنا اليوم للنجاة من أهوال ما نرى من العذاب، أو نرد إلى الدنيا لنصلح العمل والمنهج ونعبد الله لا نشرك به شيئًا، لقد أفلسوا اليوم وخسروا الصفقة، وَأُهينت أنفسهم بالعذاب، وحاد عنهم أولياؤهم الذين كانوا يزعمون افتراء أنهم أربابهم من دون الله.

فقوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} .

يعني القرآن بيناه ليعرفه من تدبره، فهو كتاب مفصَّل مبين. فيه بيان لكل ما يتعلق بالإنسان والكون والحياة، وفيه خبر قصة الخلود في الآخرة - فريق في الجنة وفريق في

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2968) - كتاب الزهد. وأحمد (2/ 492)، وابن حبان (7446).

ص: 168

السعير. ليكون بمنهاجه المتكامل إعذارًا من الله تعالى إلى الناس بالكتاب والرسل. وقيل: {فَصَّلْنَاه} أنزلناه متفرقًا. والأول أرجح ويشمل الثاني.

كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].

وقوله: {على علم} .

أي: على علم منا بما فصلناه به. كما قال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ. . .} [النساء: 166]. فهو كتاب محكم التفصيل لم يقع فيه سهو ولا لغط.

وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

قال الزجاج: (أي: هاديًا وذا رحمة). قال القرطبي: (فجعله حالًا من الهاء التي في {فصلناه}). ثم قال: ({لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، خُصَّ المؤمنون لأنهم المنتفعون به).

وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} .

أي: هل ينتظرون إلا تحقق وعده ووعيده، ونزول العقاب وفتح الحساب. {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} - أي: يوم يجيء ما يؤول إليه حالهم من حلول النقمة والعذاب. ومن أقوال المفسرين:

1 -

قال مجاهد: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} ، قال: جزاءه، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} ، قال: جزاؤه).

2 -

وقال قتادة: ({هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}، أي: ثوابه، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}، أي: ثوابه). أو قال: (عاقبته).

3 -

وقال السدي: (أما {تَأْوِيلُهُ}، فعواقبه، مثل وقعة بدر، والقيامة، وما وعد فيها من موعد).

4 -

وقال الربيع بن أنس: (فلا يزال يقع من تأويله أمرٌ بعد أمر، حتى يتم تأويله يوم القيامة).

وقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} .

فعن مجاهد: ({يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ}، قال: أعرضوا عنه). وقال السدي: (أما

ص: 169

{الَّذِينَ نَسُوهُ} ، فتركوه، فلما رأوا ما وعدهم أنبياؤهم، استيقنوا فقالوا:{قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} ).

وقوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} .

استفهام فيه معنى التمني. {فَيَشْفَعُوا} نصب لأنه جواب الاستفهام - ذكره القرطبي.

قال ابن جرير: (قال هذا القول المساكين هنالك، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم، فيذكروا ذلك في وقت لا خُلة فيه لهم ولا شفاعة).

وأما تمنيهم الرجعة إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح وما يرضي الله فقد كذبهم الله في نياتهم في موضع من القرآن، وأكد قضاءه بعدم الرجوع بعدما حصل الإعذار في موضع آخر:

1 -

قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .

2 -

وقال تعالى في سورة فاطر: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُم النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} .

وقوله: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .

قال القاسمي رحمه الله: ({قد خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}، بصرف أعمالهم في الكفر {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين).

54 -

58. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا

ص: 170

وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}.

في هذه الآيات: يقول جلت عظمته: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن في ستة أيام ثم علا على العرش، يتابع على عباده ويعاقب بين الليل والنهار، يطلب كل واحد منهما الآخر على إثره سريعًا، والشمس والقمر والنجوم تحت تسخيره وتصريفه، وهي مقهورة بأمره، ألا له الخلق والتصرف، فتعالى الله رب العالمين. ادعوا ربكم أيها الناس تذللًا واستكانة لطاعته سرًا لا جهارًا إنه - تعالى - لا يحب الاعتداء في الدعاء بصياح أو نداء. واحذروا الفساد في الأرض وإلحاق الضرر بعد إصلاحها، وتوجهوا بكل أموركم إلى ربكم خوفًا منه وطمعًا في رحمته وجنته، وَرَحمتُهُ سبحانه مرصدة للمحسنين. والله سبحانه هو الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي المطر، حتى إذا حملت الرياح سحابًا - ثقيلةً قريبة من الأرض لكثرة ما فيها من الماء - ساقه الله لأرض مجدبة فأحيا بها النبات وأخرجه، وكذلك يخرج سبحانه الأجساد من قبورها يوم القيامة - لعلكم تتفكرون. إن الأرض السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدًا - قليلًا لا ينفع - وأما الأرض الطيبة فتعطي ألوان الثمار والنبات والأزهار المختلفة، وكذلك القلوب: فالقلب المؤمن انتفع بالقرآن فأصدر أشعة الإيمان والإحسان، والقلب الكافر لم ينتفع بالقرآن فخبث وأصدر أشعة المكر والسوء والإجرام. وهذه المواعظ لا ينتفع بها إلا القوم الشاكرون.

فقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} .

أخرج الإمام مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، عن أبي هريرة قال: [أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبَثَّ فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخرِ

ص: 171

الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل] (1).

قال الحافظ ابن كثير في صفة هذه الأيام: (فالجمهور على أنها كأيامنا هذه).

وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}

أي: علا واستعلى فله العلو والفوقية.

والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار. والعرش: أعظم مخلوقات الله عز وجل. قال ابن جرير: ({ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ. .} [فصلت: 11]: ثم ارتفع إلى السماء). أي: بلا تكييف ولا تمثيل. وأدلة العلو في القرآن كثيرة، منها:

1 -

قال سبحانه في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} . قال مجاهد: (استوى: علا).

2 -

قال تعالى في سورة طه: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .

3 -

قال جل ذكره في سورة فصلت: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} .

4 -

وقال تعالى في سورة النساء: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه. .} .

5 -

وقال في سورة النحل: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} .

6 -

وقال في سورة السجدة: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .

7 -

وقال في سورة فاطر: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} .

8 -

وقال في سورة الملك: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (2789) - كتاب صفات المنافقين، باب ابتداء الخلق، وخلق آدم عليه السلام. والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 275 - 276)، ورواه أبو يعلى في مسنده (1/ 288)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 327)، وانظر السلسلة الصحيحة (1833) لرد شبه من تكلم فيه وحاول إعلاله. وأنه يكفي في صحته أن ابن معين رواه ولم يُعله بشيء.

ص: 172

أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}.

9 -

وقال في سورة المعارج: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}

10 -

وقال في سورة غافر: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا. . .} .

قلت: ومن ثمَّ فمن شك أن الله في السماء اليوم، فقد تشبه بطريقة فرعون.

قال ابن جرير- شيخ المفسرين رحمه الله: (قوله تعالى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} أي: وإني لأظن موسى كاذبًا فيما يقول ويدعي من أن له في السماء ربًا أرسله إلينا).

وقال الإمام الجويني - أبو محمد والد إمام الحرمين -: (وهذا يدل على أن موسى أخبره بأن ربه تعالى فوق السماء، ولهذا قال: وإني لأظنه كاذبًا)(1).

وقال الإمام مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم - يعني في اللغة، والكَيْفُ مجهول، والسؤال عن هذا بدعة).

قال ابن كثير: (وإنما يُسلك في هذا المقام مذهبُ السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نُعيم بن حَمَّاد الخزاعي شيخُ البخاري -: من شَبَّهَ الله بخلقه فقد كفر، ومن جَحَدَ ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسولُه تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وَرَدَتْ به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونَفَى عن الله تعالى النقائص، فقد سَلَك سبيل الهدى).

قلت: وفي السنة الصحيحة إثبات علو الله على عرشه في أحاديث كثيرة، منها:

الحديث الأول: أخرج البخاري عن أنس: أن زينب بنت جحش كانت تفخر على

(1) انظر مختصر العلو ص (80). وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 173 - 205) لتفصيل البحث.

ص: 173

أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: [زَوَّجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات].

وفي لفظ: [إن الله أنكحني في السماء].

وفي لفظ: [زوجنيك الرحمن من فوق عرشه](1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد بسند جيد من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة -: [فنأتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب فأقرع الباب، فيقال: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيفتح لي فآتي ربي عز وجل على كرسيه أو سريره فأخر له ساجدًا، فأحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي](2).

وبنحوه في الصحيح للبخاري من حديث أنس، وفي غير الصحيح بلفظ:[فأدخل على ربي وهو على عرشه تبارك وتعالى].

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما خلق الله الخلق كتب في كتاب كتبه على نفسه فهو مرفوع فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي](3). ولأصله شواهد في الصحيحين.

وفي رواية: (فهو عنده فوق العرش).

قلت: لقد أثبت الله سبحانه لنفسه الاستواء على العرش، وهو استواء يليق بجلاله وكماله، وهو سبحانه غير محتاج إلى العرش ولا إلى الكرسي، وإنما ذكر العرش في القرآن وهو أعظم مخلوقاته، وكذلك جاء في السنة الصحيحة.

أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة](4).

شبه ورد:

1 -

بطلان تأويل "استوى" بـ (استولى):

(1) حديث صحيح. ذكره البخاري في "التوحيد"، والترمذي (2/ 210)، وأحمد (3/ 226)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. انظر مسند الإمام أحمد (1/ 281 - 282)، ومختصر "العلو" للذهبي - ص (88).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 271)، وأخرجه أحمد (2/ 433)، وابن ماجه (4295).

(4)

حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(1/ 114)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (290). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (109).

ص: 174

قال الإمام عبد العزيز بن يحيى الكنانيّ، صاحب الشافعي رحمهما الله تعالى، في كتاب "الرد على الجهمية":(زعمت الجهمية أن معنى استوى "استولى" من قول العرب: استوى فلان على مصر، يريدون استولى عليها. قال: فيقال له: هل يكون خلقٌ من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه؟ فإذا قال لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، فيقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر أنه سبحانه خلق العرش قبل السماوات والأرض، ثم استولى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستولٍ عليه فيها).

2 -

بطلان دعوى الجهمية - الله في كل مكان -:

قال الإمام أحمد - في كتابه الرد على الجهمية -: (وقلنا للجهمية: زعمتم أن الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فقلنا لهم: أخبرونا عن قولِ الله جل ثناؤه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا. . .} [الأعراف: 143]. لِمَ تَجَلّى، إذا كان فيه بزعمكم؟ ولو كان فيه، كما تزعمون، لم يكن يتجلى لشيء. لكن الله تعالى على العرش، وتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى الجبل شيئًا لم يكن يراه قط قبل ذلك.

وقلنا للجهمية: الله نور؟ فقالوا: نور كله. فقلنا: قال الله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا. . .} [الزمر: 69]. فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورًا، قلنا: أخبرونا، حين زعمتم أن الله في كل مكان، وهو نور، فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان؟ وما بال السراج إذا أدخل البيت المظلم يضيء؟ فعند ذلك تبين كذبهم على الله. فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن القول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول العلماء، وهو قول المهاجرين والأنصار، وتَرَك دين الشيطان، ودين جهم وشيعته).

3 -

مفهوم قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ. . .} [الأنعام: 3]. أي: إله من في السماوات، وإله من في الأرض.

قال الإمام أحمد - في الرد على الجهمية -: (ومما أنكرت الجهمية الضُّلال أن يكون الله سبحانه على العرش، فقلنا: لِمَ أنكرتم ذلك؟ إن الله سبحانه على العرش، وقد قال سبحانه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]. قالوا: هو تحت الأرضين السابعة كما هو على

ص: 175

العرش، فهو على العرش، وفي السماوات، وفي الأرض، وفي كل مكان، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. وتلوا آيات من القرآن {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ}. فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، وليس فيها من عظمة الله شيء، فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أحشاؤكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة الرب سبحانه شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء، فقال سبحانه:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ. . (16)} الآية - وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، وقال:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} ، وقال:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} ، وقال:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، وقال:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، وقال:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} - فهذا أخبر الله أنه في السماء، ووجدنا كل شيء أسفل مذمومًا. قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} . وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانَهم؟ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس، ولكن إنما معنى قوله تبارك وتعالى:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} يقول: هو إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو على العرش! وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، لا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك قوله:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} .

قال: ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلًا كان في يده قدح من قوارير صافي، وفيه شيء، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه. وخصلة أخرى: لو أن رجلًا بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتًا في داره، وكم سعة كل بيت، من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار. فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع خلقه، وقد علم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق).

وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} .

قال ابن عباس: ({يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}، يقول: سريعًا). وقال السدي: ({يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}، قال: يغشي الليل النهار فيذهب بضوئه، ويطلبه سريعًا حتى يدركه). قال ابن كثير: (أي: يَذْهب ظلامُ هذا بضياء هذا، وضياءُ هذا بظلام هذا،

ص: 176

وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، أي: سريعًا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا).

وفي التنزيل: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37 - 40].

وقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} .

أي: كل هذه المخلوقات العظيمة تحت تصرفه وتسخيره وهي مقهورة بأمره.

وقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} .

أي: له الملك والتصرف سبحانه وتعالى.

قال القرطبي: (وفي تفرقته بين الخلق والأمر دليل بين على فساد قول من قال بخلق القرآن، إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقًا لكان قد قال: ألا له الخلق والخلق. وذلك عِيٌّ من الكلام ومستهجن ومُسْتَغَثٌّ. والله يتعالى عن التكلم بما لا فائدة فيه). وقال: (فالخلق المخلوق، والأمر كلامه الذي هو غير مخلوق وهو قوله: {كُنْ}. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]).

وقوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

قال الأزهري: ({تَبَارَكَ} تعالى وتعاظم وارتفع).

وقيل: إن باسمه يُتَبَرَّكُ ويُتَيَمَّن.

أخرج الطبراني والحاكم بسند صحيح عن عامر بن ربيعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع لهُ بالبركة، فإن العين حق](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 447)، وأبو يعلى (7195)، والحاكم. انظر صحيح الجامع (570)، وكتابي: منهج الوحيين في معالجة زلل النفس وتسلط الجن (336) - لتفصيل روايات هذا الحديث. وفي بعض الروايات: (علام يقتل أحدكم أخاه، هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت).

ص: 177

وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} .

قال ابن عباس: (السر).

قال ابن جرير: ({تَضَرُّعًا}، يقول: تذلُلًا واستكانة لطاعته. {وَخُفْيَةً}، يقول: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فعل أهل النفاق والخداع لله ولرسوله).

وفي التنزيل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].

قال عبد الله بن المبارك: عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال:(إن كان الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر جارُه. وإن كان الرجل لقد فَقه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّورُ، وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضي فعله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]).

وقوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} .

قال ابن عباس: (في الدعاء ولا في غيره).

وقال ابن جريج: (إن من الدعاء اعتداء، يكره رفع الصوتِ والنداءُ والصياحُ بالدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة).

وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى - في أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج أبو داود في السنن - بسند صحيح - عن أبي سعيد، قال: [اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف السِّتْرَ

ص: 178

وقال: "ألا إنَّ كُلّكُم مُنَاجٍ رَبَّهُ فلا يُؤذِيَنَّ بعضُكم بَعْضًا، ولا يَرْفَع بعضكم على بَعْضٍ في القراءة". أو قال: "في الصلاة"] (1).

الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي موسى قال:[كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يَجْهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! ارْبَعُوا على أنفسكم، إنكم ليس تَدْعون أَصَمَّ ولا غائبًا، إنكم تَدْعونَه سميعًا قريبًا وهو معكم](2).

الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[الجاهِرُ بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمُسِرُّ بالقرآن كالمُسِرِّ بالصدقة](3).

وفي الباب عن ابن عباس قال: (كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، على قَدْر ما يَسْمَعهُ مَنْ في الحجرة، وهو في البيت).

قال الشافعي في الأم: (وأختار للإمام والمأموم أن يذكر الله بعد الانصراف من الصلاة ويخفيان الذكر، إلا أن يكون إمامًا يجب أن يُتَعلَّم منه فيجهر حتى يرى أنه قد تُعلّم منه، ثم يُسر، فإن الله تعالى يقول: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} يعني: والله تعالى أعلم، بالدعاء، ولا تجهر: ولا ترفع، ولا تخافت حتى لا تسمع نفسك. وأحسب ما روى ابن الزبير رضي الله عنهما من تهليل النبي صلى الله عليه وسلم وما روى ابن عباس رضي الله عنهما من تكبيره، كما رويناه. قال الشافعي: وأحسبه إنما جهر قليلًا ليتعلم الناس منه، وذلك أن عامة الرواية التي كتبناها مع هذا وغيرها ليس يذكر فيها بعد التسليم تهليل ولا تكبيرٌ، وقد يذكر أنه ذكر بعد الصلاة بما وصفت، ويذكر انصرافه بلا ذكر)(4).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (1332) باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل. انظر صحيح سنن أبي داود (1183). وانظر "شعب الإيمان" للبيهقي (2/ 543)، رقم (2658)، وموطأ مالك (1/ 80)(29).

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (2704) - كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب خفض الصوت بالذكر إلا في المواضع التي ورد الشرع برفعه فيها كالتلبية وغيرها. وقوله:"اربعوا": أي ارفقوا بها.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1333) الباب السابق. وانظر صحيح سنن أبي داود (1184).

(4)

انظر كتاب "الأم" للشافعي (1/ 127)، وكتاب "إنارة الفكر بما هو الحق في كيفية الذكر" - للبقاعي (47 - 50). ومسند الشافعي (1/ 99)، والمدخل لابن الحاج (1/ 105 - 107).

ص: 179

الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن - بسند حسن - عن أبي نَعامة عن ابن لسعد: أنه قال: [سمعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبَهْجَتَها، وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، وكذا وكذا، فقال: يا بُنَيّ: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون قوم يَعْتَدون في الدعاء". فإياك أن تكون منهم، إنْ أُعطيت الجنة، أعطيتها وما فيها، وإن أُعِذْتَ من النار، أُعِذْت منها وما فيها من الشر](1).

وله شاهد في سنن أبي داود عن أبي نعامة: [عن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون في هذه الأمة قَوْمٌ يَعْتَدون في الطّهور والدُّعاء](2).

وقوله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} .

نهي عن الفساد في الأرض وإلحاق الضرر بعد الإصلاح. قال ابن كثير: (فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد. فنهى تعالى عن ذلك).

وقوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} .

أمرٌ بعبادته سبحانه على الوجه الأمثل والأعدل، وهو التقلب بين الخوف والرجاء - كما في التنزيل:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]. {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. فإن كان العبد في آخر ساعة من حياته كذلك كان له الأمن من الله في الآخرة.

أخرج الترمذي بسند حسن عن أنس: [أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو بالموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال

(1) حسن صحيح. أخرجه أحمد (1/ 172)، وأبو داود (1480) - باب الدعاء.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (96) - باب الإسراف في الماء. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (87).

ص: 180

رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف] (1).

وقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .

أي: إن رحمته تعالى مرصدة للمحسنين، الذين يخافونه بصدق فيمتثلون أوامره، ويتركون زواجره، ويدعونه خوفًا وطمعًا. قال مطر الوَّراق:(تَنَجَّزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين) - رواه ابن أبي حاتم.

وذكر القرطبي سبعة أوجه لقوله "قريب" وليس "قريبة"، وذكر ابن كثير أشهرها: وهو تضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله - والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .

قال السدي: (إن الله يرسل الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين، طرف السماء والأرض من حيث يلتقيان، فيخرجه من ثمَّ، ثم ينشره فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء، فيسيل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وأما {رَحْمَتِهِ} فهو المطر. قال: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، وكذلك تخرجون، وكذلك النشور، كما نخرج الزرع بالماء). قلت: وقرأ عامة قراء الكوفة {نُشُرًا} . قال البخاري: (نُشُرًا: متفرقة). والأولى {بُشْرًا} هي الأشهر.

فالله سبحانه يرسل الرياح مبشرات بين يدي المطر، حتى إذا حملت الرياح سحابًا ثقالًا أي: ثقيلة قريبة من الأرض لكثرة ما فيها من الماء، ساقه الله لأرض ميتة مجدبة فأحيا بها النبات وأخرجه، وكذلك يخرج الله الأجساد من قبورها يوم القيامة، أفلا تتذكرون - أيها الناس - وتتفكرون.

وقوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} .

قال ابن عباس: (فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. يقول: هو طيب، وعمله طيب،

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وعبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" ص (24 - 25)، وأخرجه ابن أبي الدنيا كما في "الترغيب"(4/ 141). وانظر أحكام الجنائز ص (3).

ص: 181

كما البلد الطيب ثمره طيب. ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السَّبِخة المالحة التي يخرج منها النز، فالكافر هو الخبيث، وعمله خبيث).

وقال مجاهد: (الطيب ينفعه المطر فينبت، {وَالَّذِي خَبُثَ} السباخُ، لا ينفعه المطر، لا يخرج نباته إلا نكدًا. قال: هذا مثل ضربه الله لآدم وذريته كلهم، إنما خلقوا من نفس واحدة، فمنهم من آمن بالله وكتابه، فطاب. ومنهم من كفر بالله وكتابه، فخبث).

وقال السدي: ({وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ}، هي السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدًا، و"النكد" الشيء القليل الذي لا ينفع، فكذلك القلوب لما نزل القرآن، فالمؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه، والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه، ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلا ما لا ينفع، كما لم يخرج هذا البلد إلا ما لا ينفع من النبات).

وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ ما بعثني الله به من الهُدَى والعلم، كَمَثَلِ الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أجادبُ أمْسَكَت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسَقَوا وزَرَعوا. وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلأً، فذلك مثَلُ مَنْ فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِمَ وعَلَّم، ومثل مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أُرْسِلتُ به](1).

وقوله: {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} .

تخصيص للشاكرين فإنهم هم المنتفعون بهذه الآيات والمواعظ والذكرى، فقليل من عباد الله الشكور.

59 -

64. قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (79)، وأخرجه مسلم (2282)، وأخرجه أبو يعلى (7311).

ص: 182

لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)}.

في هذه الآيات: شرع الله تعالى - بعد ذكر قصة آدم عليه السلام أول السورة - في ذكر قصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الأول فالأول. فلقد أرسل نوحًا إلى قومه، منذرهم بأسه ومخوِّفهم سخطه، على عبادتهم غيره: يا قوم، أفردوا الله تعالى بالعبادة والتعظيم، فإنه لا إله لكم غيره يستوجب عليكم عبادته، إني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك عذاب يوم عظيم الأهوال والشدائد والعقاب. فأجابه الملأ المستكبرون من قومه: إنا نراك يا نوح في ضلال مبين. قال نوح: يا قوم ليس بي ضلالة أو جهالة عن الحق وإنما أنا رسول رب العالمين. أبلغكم ما أرسلني به ربي إليكم وأنصح لكم بتحذيري إياكم مغبة الاستهزاء في الدين الحق ما لا يحمد عقباه لديكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون عن بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. هل تعجبون أن يأتيكم إنذار ربكم على لسان رجل منكم لينذركم بأسه تعالى ولتتقوا سخطه وعقابه بإفراده بالتعظيم ولتنالوا رحمته بذلك. ولكن ما كان من الملأ الكافر إلا أن أظهر التكذيب والعناد، فأنجى الله تعالى نوحًا والمؤمنين معه في الفلك وأغرق الباقين الذين كانوا قومًا عمين عن الحق بالطوفان الهائل فكانوا كأمس الذاهب.

قال محمد بن إسحاق: (ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبيٌّ قُتل).

وقال يزيد الرَّقاشي: (إنما سُمِّيَ نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه). وقد كان بين آدم إلى زمان نوح عليهما السلام عشرة قرون، كلهم على الإسلام - ذكره ابن كثير.

يروي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} [نوح]. قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم

ص: 183

التي كانوا يجلسون فيها أنصَابًا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد. حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدَت) (1).

قال ابن القيم: (قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صَوَّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم)(2).

وقال القرطبي: (وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم. ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها).

والخلاصة: لقد بعث الله نوحًا صلى الله عليه وسلم لانتشال قومه من مستنقع الشرك والجاهلية، ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ويحذرهم عذابه يوم القيامة. فتدخل الملأ منهم أي: الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم متهمين نبيّهم بالضلالة. فقال نوح صلى الله عليه وسلم لهم: يا قوم ما أنا بضال، وإنما أنا رسول من رب العالمين - رب كل شيء وبارئه ومصوره - وقد أرسلني الله مبلغًا رسالته لكم، ناصحًا بالله لا إرب لي بدعوتي لكم إلا الإخلاص لله وحده في إنقاذكم مما أنتم عليه من مخالفة أمره واتباع ما يسخطه في عباداتكم ومعاملاتكم.

قال القرطبي: (النُّصح: إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة، بخلاف الغشِّ).

وقال القاسمي: ({وَأَنْصَحُ لَكُمْ} وأقصد صلاحكم بإخلاص {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من طريق الوحي، أشياء لا علم لكم بها، أو أعلم من قدرته الباهرة، وشدة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يُرَدُّ عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه).

قال ابن كثير: (وهذا شأن الرسول أن يكون بليغًا فصيحًا ناصحًا بالله، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات. كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عَرفة، وهم أوفرُ ما كانوا وأكثر جمعًا: "أيها الناس، إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع

(1) صحيح. انظر صحيح الإمام البخاري (8/ 511)، (8/ 512)، كتاب التفسير - تفسير سورة نوح.

(2)

انظر كتاب "فتح المجيد"(245)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 468) لتفصيل البحث.

ص: 184

أصبعه إلى السماء وينكُتُها عليهم ويقول: اللهم اشْهد، اللهم اشْهد").

وقوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .

قال النسفي: ({أَوَعَجِبْتُمْ} الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم {أَنْ جَاءَكُمْ} مِنْ أنْ جاءكم {ذِكْرٌ} موعظة {مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} على لسان رجل منكم أي: من جنسكم، وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، يعنون إرسال البشر، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة {لِيُنْذِرَكُمْ} ليحذركم عاقبة الكفر {وَلِتَتَّقُوا} ولتوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم).

وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} .

الفلك: السفينة، وكان نوح صلى الله عليه وسلم قد حمل معه في الفلك من كل زوجين اثنين، وقد نجاهم الله وأهلك القوم الذين كذبوا الحق وتكبروا على اتباع رسوله، بالغرق أثناء الطوفان الذي أرسله الله عليهم.

وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)} .

قال مجاهد: (عن الحق). وقال ابن زيد: (العَمَى، العامي عن الحق).

65 -

72. قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ

ص: 185

اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}.

في هذه الآيات: يقول جل ثناؤه: ولقد أرسلنا هودًا إلى قومه - عاد - كما أرسلنا نوحًا صلى الله عليه وسلم إلى قومه من قبل، أن اعبدوا الله تعالى وحده وأفردوه بالتعظيم، فما لكم من إله غيره، أفلا تخافون بطشه وعذابه لمن تمرد على أمره. فأجابه الذين جحدوا: إنا نَرَاكَ في ضلالة عن الحق بتركك عبادة آلهتنا. قال يا قوم ما بي سفاهة وإنما أنا رسول الله تعالى إليكم، أبلغكم رسالته وأنصح لكم، أوعجبتم أن أنزل الله وحيه على بشر منكم لينذركم، فاتقوا الله في أنفسكم، واذكروا قوم نوح قبلكم إذ أهلكهم الله بتكذيبهم، وأنتم اليوم تخلفونهم في الأرض وقد زادكم من نعمه سبحانه بطول في الأجسام وقوة في الأجساد والأعضاء، أفلا تشكرون. فأجابوه: أجئتنا يا هود لنعبد الله وحده ونترك ما كان عليه الآباء، وتَتَوَعَّدنا على ذلك بالعذاب إن لم نهجر هذه الأصنام والآلهة التي مضى على عبادتها وتعظيمها أجدادنا! ! فائتنا بما تعدنا إن كنت صادقًا. قال هود لقومه: قد حَلَّ بكم عذاب وغضب من الله، أتخاصمونني في أسماء لا تضر ولا تنفع من أصنامكم أنتم سميتموها وآباؤكم من قبل، ولا حجة لكم من الله في عبادتها ولا عذر، فارتقبوا وعيد الله وحكمه فيكم. يقول تعالى ذكره: فأنجينا هودًا ومن آمن معه، وأنزلنا العذاب بمن كذّب فكانوا كأمس الذاهب.

فقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} .

أي: أرسلنا إلى عادٍ أخاهم هودًا. قال ابن عباس: (أي: ابن أبيهم). وقيل: (أخاهم في القبيلة)(1).

قال محمد بن إسحاق: (هم - أي عاد - ولد عاد بن إرَم بن عَوْص بن سام بن نوح).

(1) وقيل: أي بشرًا من بني أبيهم آدم. وفي مصنف أبي داود أن أخاهم هودًا أي صاحبهم.

ص: 186

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6 - 8].

2 -

وقال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15].

3 -

وقال تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النجم: 50].

وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، وهي جبال الرمل، وكانوا قد شُدِّدَ خلقهم فهم أصحاب أجسام عظيمة وقوة، وكان بداخلها - للأسف - قلوب فيها قسوة. وكانت بلادهم أخصب البلاد، فيها بساتين وزروع وعمارة، فأسخطوا الله بشركهم وتكذيب رسولهم فجعلها مفاوز.

وقد ردّ الملأ منهم - وهم السادة والقادة فيهم - على هود صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، حين دعاهم لإفراد الله تعالى بالعبادة فقالوا:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} . قال القرطبي: (أي في حمق وخفة عقل). {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} - أي: في ادعائك الرسالة والنبوة.

فأجابهم: {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ} - في دعوتي لكم، وبلاغي حرصًا عليكم {أَمِينٌ} على ما أقول لكم.

قال النسفي: (وإنما قال هنا وأنا لكم ناصح أمين لقولهم وإنا لنظنك من الكاذبين، أي: ليقال الاسم الاسم، وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من ينسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم أدب حسن وخلق عظيم، وإخبار الله تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم).

وقوله: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} .

قال ابن كثير: (أي: لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولًا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم).

ص: 187

وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}

أي: كنتم سُكّانَ الأرض بعد قوم نوح، وقد أهلك الله - كما تعلمون - أهل الأرض حين خالفوه وكذبوه.

قال السدي: (يقول: ذهب بقوم نوح، واستخلفكم من بعدهم).

وقوله: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} .

قال القرطبي: (ويجوز {بصطة} بالصاد لأن بعدها طاء، أي: طولًا في الخلق وعظم الجسم).

وقوله: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

أي: اذكروا نعمه سبحانه ومننه عليكم كي تنالوا الفلاح وسعادة الدارين.

قال ابن زيد: (آلاؤه، نعمه). وقال قتادة: (أي: نعم الله).

أخرج الطبراني "في الأوسط" بسند حسن في الشواهد عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعًا: [تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله](1).

فأجابوه: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)} .

تمَرَّدَ القوم وطغوا واستكبروا وأصروا على تقاليد الآباء الجاهلية، واستعجلوا العذاب والوعيد، شأن قوم نوح من قبلهم، واجهوا الإنذار بالكبر والاستهزاء حتى نزل بهم ما أهلكهم.

وقوله: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} .

المعنى: قد وجب عليكم بتكذيبكم ربكم {رِجْسٌ وَغَضَبٌ} . وفي معنى "الرجس" أقوال:

1 -

قال ابن عباس: ({رِجْسٌ}، يقول: سخط) - ذكره ابن جرير.

2 -

قيل: عني بالرجس الرَّيْن على القلب بزيادة الكفر - ذكره القرطبي.

3 -

وقيل: الرِّجسُ: العذاب. وقيل هو مقلوب من رجز - ذكره ابن كثير.

(1) حسن لغيره. رواه الطبراني في "الأوسط"(6456)، والبيهقي في "الشُعَب"(1/ 75)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1788) -الأمر بالتفكر في خلق الله.

ص: 188

قلت: الرجس في لغة العرب: القذَر. وقال الفراء في قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] إنه العقاب والغضب، وهو مضارع لقوله الرِّجز). ومن ثَمَّ فالمعاني السابقة كلها واردة ويحتملها البيان الإلهي الكريم.

وقوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .

يعني بذلك الأصنام التي كانوا يعبدونها ولها أسماء مختلفة، سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، فالاسم هنا بمعنى المسمّى. ومن هذه الأسماء العُزّى - من العِزّ والأعز - واللات، وفي حقيقتها لا تملك من العز والإلهية شيء ولا حجة لكم من الله بعبادتها.

وقوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} .

قال ابن جرير: (يقول: فانتظروا حكم الله فينا وفيكم، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}، حكمَه وفصل قضائه فينا وفيكم).

وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} .

أي: كانت النجاة لهود عليه الصلاة والسلام ومن آمن معه، وكان الهلاك والعذاب على من كذب وتولى وأعرض عن الإيمان بالله ورسوله. قال ابن زيد:({وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، قال: استأصلناهم).

أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[نُصِرْتُ بالصَّبا، وَأُهْلِكَت عادٌ بالدَّبور](1).

73 -

79. قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3205) - كتاب بدء الخلق. ورواه مسلم وأحمد وغيرهما.

ص: 189

سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}.

في هذه الآيات: يخبر تعالى ذكره أنه أرسل إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحًا - كما أرسل إخوته الرسل من قبل إلى أقوامهم - يحثهم على إفراد الله تعالى بالعبادة والتعظيم والدعاء، فما من إله إلا الله، وقد اختبرهم سبحانه بناقة لها شرب ولهم شرب يوم معلوم، أن يذروها تأكل من أرض الله دون أن يمسوها بسوء فينالهم عذاب الله الأليم. وذكرهم سبحانه كيف أهلك قوم عاد قبلهم لما طغوا وتكبروا على رسولهم واستخلفهم بعدهم في الأرض يتخذون البيوت العالية في سهولها كالقصور ينعمون بها صيفًا، والبيوت المنحوتة في الجبال يسكنونها شتاء، وكذلك بنعم وآلاء كثيرة وَجَبَ أن تحجبهم عن الفساد في الأرض أو اتباع ما يسخط الله تعالى. فما كان من الملأ الكافر - إذ أَعْلن المستضعفون المؤمنون إيمانهم برسول الله صالح عليه الصلاة والسلام إلا أن أظهروا الكفر به وتجرؤوا فانبعث أشقاهم برضاهم فعقروا الناقة وتمردوا على أمر الله لهم واستعجلوا العذاب استهزاء وكبرًا. فعاجلهم ربهم عز وجل بعقوبته الكبرى في هذه الحياة الدنيا فأخذهم بصيحة زلزلتهم وحركتهم للهلاك فأصبحوا ميتين. فتولى عنهم صالح - حين أمره الله باعتزالهم وقد آن حلول نقمته تعالى بهم - وصرّح لهم: لقد أديت إليكم رسالة ربي وبذلت النصح الخالص لنجاتكم من عذابه وسخطه، فركبتم أهواءكم وتنكرتم للنصيحة حتى أصبحتم هالكين.

فقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} .

أي: وكذلك فقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحًا. وثمود - كما ذكر أهل التفسير والعلم بالأنساب -: هو ثمودُ بن عاثِرِ بن إرم بن سام بن نوح، وقد جاءت ثمود

ص: 190

بعد عاد، ومساكنهم مشهورة معلومة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. وقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بديار ثمود مرجعه من تبوك، وهو قافل إلى المدينة، على القول الراجح - كما حققت في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة.

فلما وصل جيش المسلمين القافل من تبوك ديار ثمود، تسارع بعض الأصحاب لدخول تلك المساكن الخاوية، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم.

أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن أبي كبشة الأنماري قال: [لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنادى في الناس: الصلاة جامعة، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول: ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم، فناداه رجل منهم: نعجب منهم يا رسول الله! قال: أفلا أنذركم بأعجب من ذلك؟ ! رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئًا وسيأتي قوم لا يَدْفعون عن أنفسهم بشيء](1).

ثم أمرهم بعدم عبور تلك المساكن إلا باكين، مسرعين في السير غير مبطئين، فهي ديار قوم دمَّر الله عليهم بيوتهم بذنوبهم واستهتارهم.

ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه - يعني لما وصلوا الحِجْر: وهي ديار ثمود فيما بين المدينة والشام -: [لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يُصيبكم ما أصابهم]. وفي رواية لمسلم: (حَذَرًا أن يصيبكم مِثلُ ما أصابهم).

وفي رواية لهما بلفظ: [لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أَنْ يُصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين، ثم قَنَّعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم -رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي].

وفي لفظ للبخاري مِنْ حديث سالم بن عبد الله عن أبيه: (ثم تَقَنَّعَ بردائه وهو على الرحل). وفي لفظ لمسلم: (ثم زَجَرَ فأسرع حتى خلّفها)(2).

(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (4/ 231)، وانظر كتابي: السيرة النبوية (3/ 1532).

(2)

حديث صحيح. انظر الروايات السابقة في صحيح البخاري (3381) - كتاب الأنبياء، وكذلك في صحيح مسلم (2980) - كتاب الزهد والرقائق، وكذلك في مسند الإمام أحمد (2/ 9)، (2/ 58).

ص: 191

فإن ذلك من أماكن العذاب التي تركها الله في الأرض ليعتبر البشر، فلا ينبغي المشي فيها والسياحة خلال آثارها، بل الأليق بها أن يمر المسلم فيها مسرعًا خائفًا من الله أن يُنْزِلَ بأمته ما أنزل بتلك الأمم، من المصائب والدمار والنقم.

وكان بعضهم قد تسارعوا إلى آبار ثمود ليشربوا منها أو ليتوضؤوا بمائها، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أشد النهي، وأمرهم أن يهريقوا ما استقوا منها، وأن يعلفوا إبلهم العجين الذي عجنوه بمائها، وأن يستقوا بدلًا عن ذلك من البئر التي كانت تردها ناقة صالح عليه الصلاة والسلام.

أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه، عن نافع أن عبدَ الله بن عمر أخبره:[أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجْر أرضِ ثمود فاستقوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُهريقوا ما استقوا، وَيَعْلِفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة](1).

ورواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر بلفظ: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحِجْرَ في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بِئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عَجَنّا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرَحوا ذلك العجين، ويُهريقوا ذلك الماء. قال: ويُروى عن سَبْرة بن مَعْبَدٍ وأبي الشّموس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام](2).

وفي رواية ابن إسحاق: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: لا تشربوا من مائها شيئًا، ولا تتوضؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه، فاعلِفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئًا)(3).

وقوله: {قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .

هو قول الرسل جميعًا لأقوامهم، وهي رسالة التوحيد التي بعث بها جميعهم، وهي تتلخص بشهادة أنّ "لا إله إلا الله". كما قال تعالى في سورة الأنبياء:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} .

(1) حديث صحيح. أخرجه الإمام مسلم (2980) - كتاب الزهد والرقائق.

(2)

حديث صحيح. أخرجه الإمام البخاري (3381) - كتاب الأنبياء. وانظر تفصيل هذا البحث في كتابي: السيرة النبوية - على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة - (3/ 1532 - 1534).

(3)

رواه ابن إسحاق في السيرة. وانظر البداية والنهاية - لابن كثير - (5/ 11) بسند حسن مرسل.

ص: 192

وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} .

أي: قد جاءتكم آية وحجة من ربكم تثبت لكم صدق نبوتي لكم، وكانوا قد سألوه بينة من قبل. فقال لَهُم نَبيُّهم صالح عليه الصلاة والسلام:{وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]. وكانت الناقة قد أقامت - وفصيلها بعدما وضعته - بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يومًا، وتدعه لهم يومًا. وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال تعالى:{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28].

وكذلك قوله جل ثناؤه: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155].

قال الحافظ ابن كثير: (وكانت تسرَحُ في بعض تلك الأودية ترد من فَجّ وتصدرُ من غيره ليسعها، لأنها كانت تتضلَّع من الماء، وكانت - على ما ذكر - خَلْقًا هائلًا ومنظرًا رائعًا، إذا مَرَّت بأنعامهم نفرت منها. فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال: إنهم اتفقوا كلّهم على قتلها. قال قتادة: بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كُلُّهم، أنهم راضون بقتلها، حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان أيضًا. قلت: وهذا هو الظاهر لأن الله تعالى يقول: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، وقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا. . .} [الإسراء: 59]، وقال: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ}. فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة، فدَلَّ على رِضا جميعهم بذلك، والله أعلم).

وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .

قال الشهاب: ({وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} - لم يقل: خلفاء عاد، إشارة إلى أن بينهما زمانًا طويلًا. {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: أنزلكم في أرض الحجر. والمباءة المنزل. {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} أي: تبنون في سهولها قصورًا

ص: 193

لتسكنوها أيام الصيف. قال: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} أي: لتسكنوها أيام الشتاء).

وقال القرطبي: ({فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} أي: نعمه. وهذا يدلّ على أن الكفار منعم عليهم).

وقال قتادة: ({وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين).

قلت: وفي الآية دلالة على جواز البناء الرفيع والاعتناء بالمسكن المتسع المليء بالمرافق، فإن المسكن الواسع الكثير المرافق من سعادة المسلم في هذه الحياة الدنيا. وفي ذلك أحاديث من السنة المطهرة:

الحديث الأول: أخرج الحاكم بسند حسن عن سعد مرفوعًا: [ثلاث من السعادة، وثلاث من الشقاوة، فمن السعادة: المرأة تراها تعجبك، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعةً كثيرة المرافق. ومن الشقاوة المرأة تراها فتسوؤك، وتحمل لسانها عليك، وإن غِبْتَ عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوفًا، فإن ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تُلْحِقْكَ بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق](1).

الحديث الثاني: أخرج ابن حبان في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء. وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق](2).

الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: [إذا أنعم الله على عبدٍ أحبَّ أن يُرى أثر النعمة عليه](3).

وفي التنزيل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .

(1) حديث حسن. أخرجه الحاكم (2/ 162)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1047).

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1232)، والخطيب في "التاريخ"(12/ 99)، وأخرجه أحمد (1/ 168) - قال المنذري: رواه أحمد بإسناد صحيح - وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1/ 19/ 1)، و"الأوسط" (1/ 163/ 1). وانظر الصحيحة (282). ورواه الحاكم والبيهقي وفيه:[وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكنُ الضيق].

(3)

حديث حسن. أخرجه الترمذي (2819)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحَسَّنَه.

ص: 194

قال القرطبي: (ذُكر أن ابنًا لمحمد بن سيرين بنى دارًا وأنفق فيها مالًا كثيرًا، فَذُكِرَ ذلك لمحمد بن سيرين فقال: ما أرى بأسًا أن يبني الرجل بناء ينفعه. ثم ذكر القرطبي الحديث السابق، وقال: ومن آثار النعمة البناء الحسن، والثياب الحسنة. ألا ترى لو أنه اشترى جارية جميلة بمال عظيم فإنه يجوز وقد يكفيه دون ذلك، فكذلك البناء).

قلت: وأما حديث: [أما إن كلَّ بناءٍ وبالٌ على صاحبه، إلا ما لا، إلا ما لا، يعني: ما لا بد منه](1).

وحديث: [إنّ الرجل يؤجرُ في نفقته كلِّها إلا في هذا التراب](2). فالمراد منهما صرف المسلم عن الاهتمام بالبناء والتشييد إلا ما له به حاجة. قال الألباني رحمه الله: (وإن مما لا شك فيه أن الحاجة تختلف باختلاف عائلة الباني قلة وكثرة، ومن يكون مضيافًا، ومن ليس كذلك، فهو من هذه الحيثية يلتقي تمامًا مع الحديث الصحيح: "فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان" رواه مسلم (6/ 146) وغيره).

وقال الحافظ - في الحديث السابق -: (وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه، مما لا بد منه للتوطن وما يقي البرد والحر).

وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)} .

أي: استكبر الملأ الكافر واستهزؤوا بنبوة صالح صلى الله عليه وسلم، فأثبت المؤمنون النبوة وإيمانهم بها، واتباعهم نبي الله صالحًا عليه الصلاة والسلام. وأظهر المتكبرون كفرهم. قال القاسمي:(وإنما لم يقولوا: إنا بما أرسل به كافرون، إظهارًا لمخالفتهم إياها، وردًّا لمقالتهم). فالمقصود بقولهم: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} - أنهم أربَوْا تقليد المؤمنين بقولهم: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} حذرًا مما يكون في ظاهره إثبات رسالة صالح صلى الله عليه وسلم، وهم يجحدونها. {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ

(1) حديث إسناده جيد. أخرجه أبو داود (2/ 347)، وأبو يعلى (7/ 308/ 1952) عن أنس مرفوعًا.

(2)

سنده صحيح. أخرجه ابن حبان (5/ 99 - 100)، وأحمد (5/ 110) من حديث خبّاب. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2830) - (2831)، وتفصيل الروايات المختلفة.

ص: 195

رَبِّهِمْ}. قال مجاهد: (عتوا في الباطل، وتركوا الحق). وقال: (علوا عن الحق، لا يبصرون). وقال: (علوا في الباطل). ثم قالوا: {يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)} .

وقوله: تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} .

هو جواب طلبهم وتنطعهم.

قال مجاهد: (الرجفة: الصيحة). وقال ابن زيد: ({فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: ميتين). فأهلكوا بالصيحة التي زلزلتهم وزعزعتهم وحركتهم للهلاك فكانوا كأمس الذاهب.

وقوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} .

قال لهم صالح صلى الله عليه وسلم بعدما أمره الله تعالى باعتزالهم وقد أوشك حلول نقمته بهم -: لقد أديت إليكم ما أمرت به من تحذيركم بطش ربكم وعذابه إن اخترتم البقاء على شرككم وكفركم ولكنكم لا تحبون الناصحين لكم بترك شهواتكم وأهوائكم وعاداتكم وتقاليدكم الفاسدة الجاهلية.

80 -

84. قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}.

في هذه الآيات: يقول جل ذكره: واذكر يا محمد لوطًا حين واجه انحراف قومه في إشباع غرائزهم وشهواتهم بطريقة قبيحة فاسدة، إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة بطريقة خبيثة ما سبقكم بها أحد من قبلكم. إنكم لتأتون الرجال بدل النساء، وتسرفون فيما حرّم الله عليكم فكذبوه وردّوه، فأنجاه الله وأهله المؤمنين إلا امرأته، فإنها كانت للوط خائنة، وبالله كافرة. فأمطر الله تعالى قوم لوط حجارة من سجيل فأهلكهم بكفرهم

ص: 196

وبغيهم وإفسادهم فانظروا إلى أي شيء صار مصير هؤلاء المجرمين.

فقوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} .

لوط: هو لوط بن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل - عليهما الصلاة والسلام - وكان قد آمن مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله إلى أهل سَدُوم وما حولها من القرى، يدعوهم إلى الله عز وجل، ويحذرهم مغبة تلك الفواحش التي اخترعوها ولم يسبقهم إليها أحد من بني آدم أو غيرهم، وهي إتيان الرجال الرجال. قال عمرو بن دينار:({مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، قال: ما نزا ذَكَرٌ على ذكر، حتى كان قوم لوط).

وفي لفظ: (ما رُئِيَ ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط).

وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} .

قال ابن جرير: (إنكم، أيها القوم، لتأتون الرجال في أدبارهم، شهوة منكم لذلك، من دون الذي أباحه الله لكم وأحلّه من النساء، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}، يقول: إنكم لقوم تأتون ما حرَّم الله عليكم، وتعصونه بفعلكم هذا. وذلك هو "الإسراف" في هذا الموضع). قلت: فالإسراف وضع الشيء في غير محله، وفعلهم هذا في غاية الإسراف والجهل. قال الوليد بن عبد الملك - الخليفة الأموي باني جامع دمشق:(لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط، ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا).

وفي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165، 166].

2 -

وقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54، 55].

فأجابوه: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 167 - 169].

ص: 197

3 -

وقال تعالى يصف حوار لوط معهم: {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 71].

فأرشدهم إلى نسائهم، فاعتذروا بأنهم لا يشتهونهن:{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79].

قال ابن كثير: (أي: لقد علمت أنه لا أرب لنا في النساء ولا إرادة، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك. وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض، وكذلك نساؤهم كن قد استغنى بعضهن ببعض أيضًا).

فقد حذرهم لوط عليه الصلاة والسلام من مغبة التهاون بأمر الفواحش وهذا الانحراف الذي ما سبقهم إليه أحد من العالمين. وقد جمع لهم من حجة الوحي وقوة الحق، ما يبين لهم نتيجة هذا الاسترسال بالشهوة وإتيان الرجال دون النساء، حتى إذا أعجزوه بإصرارهم على منكرهم لجأ إلى الله العظيم، ليريح الواقع منهم ومن رجسهم، فاستجاب الله له فقال:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 73، 74]

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} .

قال قتادة: (عابوهم بغير عَيْب، وذمُّوهم بغير ذمّ).

والمعنى: أنهم أجابوا لوطًا صلى الله عليه وسلم حينما وبَّخهم على قبيح ما هم عليه من الفعل، والإصرار على العمل الخبيث، {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}. أي: إن لوطًا ومن معه يتنزهون عما نفعله من إتيان الرجال في الأدبار. قال مجاهد: ({إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قال: من أدبار الرجال وأدبار النساء). وقال السدي: (يتحرَّجون).

وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} .

أي: الباقين.

فإنه لم يؤمن بلوط صلى الله عليه وسلم سوى أهل بيته كما قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36]. إلا امرأته بقيت على دين قومها تمالئهم عليه وتُعْلِمُهُم بمن يَقْدُم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم - كما

ص: 198