الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا - زكاة الركاز
.
الركاز: دفن الجاهلية الذي يؤخذ من غير أن يطلب بمال ولا يتكلف له كثير عمل. وتجب فيه الزكاة على الفور من غير اشتراط حول ولا نصاب، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:[وفي الركاز الخمس](1).
وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وعيد شديد للكانزين المانعين الزكاة.
أخرج البخاري في صحيحه من حديث الأحنف عن أبي ذر الغفاري - يرفعه -: [بشِّر الكانزين بِرَضْفٍ يُحْمى عليهم في نار جهنم، ثم يوضع على حَلَمَةِ ثدي أحدهم حتى يخرُجَ من نُغْضِ كتفِهِ، ويوضع على نُغْضِ كتفِهِ حتى يخرجَ من حَلَمَةِ ثَدْيه، يتزلزَلُ](2).
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من آتاهُ الله مالًا فلم يُؤَدِّ زكاتَه مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعًا أقْرَعَ له زبيبتان، يُطَوِّقُهُ يوم القيامة، ثم يأخُذُ بِلِهزِمَتَيْه، يعني بشِدْقَيْه، ثم يقول: أَنا مالُكَ، أنا كنزكَ، ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية [آل عمران: 180]] (3).
وفي صحيح مسلم من حديث سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا جُعِلَ يوم القيامة صفائح من نار يُكْوَى بها جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألفَ سنة حتى يُقضى بين الناس، ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار] الحديث (4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (1499)، ومسلم في الصحيح - حديث رقم - (1710)، وأهل السنن. وانظر تفصيل أبحاث الزكاة في كتاب:"الوجيز في فقه السنة والكتاب العزيز"، وفي "نيل الأوطار" و"فقه السنة"، وغيرها.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1407) - كتاب الزكاة -، ونحوه في صحيح مسلم (992)، ومسند أحمد (5/ 160)، وصحيح ابن حبان (3260)، من حديث الأحنف عن أبي ذر الغفاري.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1403) - كتاب الزكاة -، وانظر مسند أحمد (2/ 520)، وسنن النسائي (6/ 23)، (6/ 24)، وسنن ابن ماجه (1786)، وصحيح ابن حبان (3254).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (987)، وأبو داود (1658)، وأحمد (2/ 262، 276)، وغيرهم.
ثم يقال لهم تقريعًا وتبكيتًا وتهكُّمًا: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .
قال ابن جرير: (يقول: فيقال لهم: فاطعموا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوق الله وتكنزونها مكاثرةً ومباهاة).
وفي التنزيل نحو هذا في التهكّم بالكافرين: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 48، 49].
36 -
37. قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}.
في هذه الآيات: إثبات الله تعالى أن عدد أشهر السنة اثنا عشر شهرًا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن، منها أربعة أشهر حرم، ذلك دينُ الله المستقيم، فاحذروا - أيها الناس - الظلم فيها وانتهاك المحرمات، فالذنب فيها أعظم منه في غيرها، وقاتلوا المشركين، أيها المؤمنون، مجتمعين كما يقاتلونكم، واعلموا أن الله ولي المتقين.
إنما النسيء استهتار من المشركين، وهو تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر، ليقضوا بذلك أوطارهم من قتال أعدائهم، وقد زَيَّنَ لهم الشيطان التحايل على شرع الله، والله لا يهدي القوم الكافرين.
قال السدي: (أما {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، فذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. أما {كِتَابِ اللَّهِ}، فالذي عنده).
وقال مجاهد: ({إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} قال: يعرف بها شأن النسيء، ما نقص من السنة).
أخرج الإمام أحمد والبخاري عن أبي بَكْرَةَ: [أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجَّتهِ، فقال: ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جُمادى وشعبان. ثم قال: أَلا أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلمُ. فسكت حتى ظننا أنه سَيُسَمِّيه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحِجَّة؟ قلنا: بلى. ثم قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلمُ. فسكت حتى ظننّا أنه سَيُسَمِّيه بغير اسمه، قال: أليس البَلْدَة؟ قلنا: بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سَيُسَمِّيه بغير اسمه، قال: أليسَ يومَ النحر؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلَّالًا، يضربُ بعضكم رقاب بعض، ألا لِيُبَلِّغ الشاهد الغائبَ، فَلَعَلَّ بعضَ من يُبَلَّغُهُ أن يكونَ أوعى له من بعض من سَمِعَهُ. ثم قال: ألا هل بَلَّغْت - مرتين -](1).
وسمي (المُحَرّم) مُحَرَّمًا، لكونه شهرًا محرمًا، أو لتأكيد تحريمه.
قال السَّخاوي: (لأن العرب كانت تتلعَّبُ به، فتحله عامًا وتحرمه عامًا).
وأما (صفر): فسمي بذلك لخلو بيوتهم منهم، حين يخرجون للقتال والأسفار، يقال: صفَر المكان: إذا خلا.
وأما شهر (ربيع الأول): فسمي بذلك لارتباعهم فيه، والارتباع: الإقامة في عمارة الرَّبع.
وسمي شهر (جُمادى) لجمود الماء فيه.
وأما (رجب): فمن الترجيب، وهو التعظيم، و (شعبان): من تَشَعُّب القبائل وتَفَرُّقها للغارة. و (رمضان): من شدة الرمضاء، وهو الحر، يقال: رَمِضَت الفصالُ: إذا عَطِشت.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4406) - كتاب المغازي -، وكذلك (1741) - كتاب الحج -. وأخرجه مسلم في صحيحه (1679) - كتاب القسامة والمحاربين -. وأخرجه أبو داود في السنن (1948)، وأحمد في المسند (5/ 37 - 39).
وأما (شوّال): من شالت الإبل بأذنابها للطِّراق.
وأما (القَعدة): بفتح القاف وكسرها لقعودهم فيه عن القتال والتَّرحال، و (الحِجَّة): بكسر الحاء وفتحها، فإنه سمي بذلك لإيقاعهم الحج فيه.
وأما الأيام فأولها الأحد، ثم ثانيها الاثنين، ثم الثلاثاء ثالثها، والأربعاء رابعها، والخميس خامسها، والجمعة سادسها، وآخرها السبت، وهو القطع، لانتهاء العدد عند (1).
فقوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ، هي الثلاثة المتواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، والإضافة إلى مضر إنما هي لبيان صحة مذهبهم فيه: أنه بين جمادى وشعبان، لا كما تظن ربيعة أنه بين شعبان وشوال، وهو رمضان بلا شك.
قال الحافظ ابن كثير: (وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سَردٌ، وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرم، ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّمَ رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا).
وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} . أي: الشرع الحق المستقيم.
قال السدي: (المستقيم).
وقال ابن زيد: ({ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، قال: الأمر القيم. يقول: قال تعالى: واعلموا، أيها الناس، أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن، وأن من هذه الاثني عشر شهرًا أربعةُ أشهر حرمًا، ذلك دين الله المستقيم، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة، وتحريمه ما يحرِّمه منها).
(1) قيل: وكانت العرب تسمي الأيام: أوَّلَ، ثم أهْوَنَ، ثم جُبار، ثم دُبَار، ثم مُؤنِس، ثم العروبة، ثم شِيَار. كما قال الشاعر، من العرب العرباء العاربة المتقدِّمين:
أرجِّي أن أعيش وأن يَوْمِي
…
بِأوَّلَ أو بأَهْونَ أو جُبَار
أو التالي دُبَارَ فإن أَفُتْه
…
فَمُؤنِسَ أو عَرُوبةَ أو شِيَار
وقوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ، أي: احذروا ارتكاب المعاصي والآثام في هذه الأشهر الأربعة المحرمة بشكل خاص، فإن الإثم فيها أشد وأكبر، كما أن المعاصي في البلد الحرام أبلغ في الإثم.
كما قال تعالى في سورة الحج: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
وبنحو ذلك جاءت أقوال المفسرين:
1 -
قال ابن عباس: ({فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، في كلِّهن. ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا، وعظَّمَ حُرُماتهن، وجعل الذنْب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم).
2 -
قال قتادة: (أما قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ، فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووِزْرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء.
وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رُسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فَعَظِّموا ما عظَّم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل).
3 -
قال الحسن: ("ظلم أنفسكم"، أن لا تحرموهن كحرمتهن).
4 -
وقال محمد بن إسحاق: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ، أي: لا تجعلوا حرامها حلالًا، ولا حلالها حرامًا، كما فعل أهل الشرك، فـ {إِنَّمَا النَّسِيءُ} الذي كانوا يصنعون من ذلك، {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} لآية). وهو اختيار ابن جرير.
قال السدي: (أم {كَافَّةً}، فجميع، وأمركم مجتمع).
وعن ابن عباس: ({وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، يقول: جميعًا).
قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله، أيها المؤمنون، جميعًا غير مختلفين، مؤتلفين غير متفرقين، كما يقاتلكم المشركون جميعًا، مجتمعين غير متفرقين).
قلت: والراجح أنه يجوز قتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البراءة منهم، كما يجوز قتل القاتل في الحرم، فإن كان القاتل في الحل ثم التجأ إلى الحرم يُخرج إلى الحل ليقتل فيه.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191].
2 -
وقال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].
3 -
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].
قال ابن القيم: (والمقصود: أن الله سبحانه قد حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يُبَرِّئْ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظمُ من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحقُ بالدم والعيب والعقوبة، لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله، وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل:
وإذا الحبيبُ أتى بذنْبٍ واحدٍ
…
جاءت محاسِنُهُ بألف شفيع
فكيف يُقاس ببغيض عدوٍّ جاء بكل قبيح، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن) (1).
ومن السنة الصحيحة ما يدل على جواز قتال المشركين في الأشهر الحرم، إن كانت المصلحة تقتضي ذلك:
1 -
حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم.
(1) انظر زاد المعاد (3/ 170 - 171)، وكتابي: السيرة النبوية (1/ 525 - 527) لتفصيل البحث.
ففي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك: (أنه خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم واستفاء أموالهم، ورجع فَلّهُم فلجؤوا إلى الطائف - عَمدَ إلى الطائف فحاصرها أربعين يومًا، وانصرف ولم يفتتحها)(1).
2 -
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا في شهر رمضان.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبيد الله أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [صام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ الكَديد الماءَ الذي بين قُدَيْدٍ وعُسْفان أفطر، فلم يزل مفطرًا حتى انسلخ الشهر](2).
وفي رواية، قال ابن عباس:[سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عُسْفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارًا ليُرِيَهُ الناس فأفطر حتى قدم مكة].
3 -
أعلن صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أنه: "لا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا"، وأذن بِقَتْلِ مَنْ قتَلَ في الحرم.
فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس قال: [مَنْ سَرَقَ أو قتَلَ في الحِلِّ ثم دخل الحرم، فإنه لا يُجَالَسُ ولا يُكَلَّمُ، ولا يُؤوى، ولكنه يُناشَدُ حتى يخْرُجَ، فيؤخَذَ، فيقامَ عليه الحدُّ، وإن سَرَقَ أو قَتَل في الحرم أقيم عليه في الحرم](3).
وبنحوه روى الأثرم عن ابن عباس قال: [مَنْ أحْدَثَ حَدَثًا في الحرم، أُقيم عليه ما أحدث فيه من شيء].
تقريع وذمٌّ لتصرفِ المشركين في التعامل بأهوائهم مع حرمات الله، إذ أحدثوا قبل الإِسلام بمدّة تحليلَ المحرم وتأخيره إلى صفر، ليقضوا بذلك أوطارهم من قتال أعدائهم.
قال ابن عباس: (النسيء أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يُكنى أبا ثُمامَةَ، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يُحاب ولا يُعاب، ألا
(1) صحيح. أخرجه مسلم (1059) ح (136)، وانظر كتابي: السيرة النبوية (3/ 1390 - 1393).
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (5/ 185)، وفتح الباري (4/ 180 - 181).
(3)
إسناده صحيح. انظر تخريج أحاديث زاد المعاد (3/ 447). وكتابي: السيرة النبوية (1312).
وإن صفر العام الأول العامَ حلال. فيحله للناس، فيحرم صفرًا عامًا، ويحرم المحرم عامًا، فذلك قول الله:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {الْكَافِرِينَ} ).
وقال مجاهد: ({لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}: يعني الأربعة، {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}، لتأخير هذا الشهر الحرام).
وقال ابن إسحاق في السيرة: (كان أوَّل من نسأ الشهورَ على العرب، فأحَلَّ منها ما حرَّم الله، وحرَّم منها ما أحَلَّ الله عز وجل القَلَمَّسُ، وهو: حُذيفة بن عَبْدِ بن فُقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزيمة بن مُدْركة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعد بن عدنان، ثم قام بعده على ذلك ابنه عَبّاد، ثم من بعد عباد ابنه. قَلَعُ بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه: عوف بن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جُنَادة بن عوف، وكان آخِرَهم، وعليه قام الإِسلامُ.
فكانت العرب إذا فرغت من حَجِّها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيبًا، فحرَّم: رجبًا، وذا القعدة، وذا الحجة، ويحل المحرم عامًا، ويجعل مكانه صَفَر، ويحرمه عامًا ليواطئ عدة ما حرّم الله، فيُحلّ ما حرم الله، يعني: ويحرم ما أحل الله، والله أعلم).
وقوله: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .
قال ابن جرير: (يقول: حُسِّنَ لهم وحُبِّبَ إليهم سَيِّئ أعمالهم وقبيحها، وما خولف به أمر الله وطاعته. قال: والله لا يوفق لمحاسن الأفعال وجميلها، وما لله فيه رضىً، القوم الجاحدين توحيده، والمنكرين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخذّلهم عن الهُدى، كما خذَّل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم). 38 - 39. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}.
في هذه الآيات: يعيب الله تعالى على المؤمنين الاستئناس بالديار، والركون إلى الظلال، عند النفير إلى الجهاد، وقتال الأعداء، فهل رضيتم - أيها المؤمنون - بحظ
هذه الدنيا الفانية، من نعيم الآخرة الباقية، فما بقاء هذه الدنيا ولذاتها إلا قليل.
إنكم إن تتقاعسوا عن النفير، ينزل بكم العذاب ويأتي الله بالبديل، من قوم يحبون نصرة دينه، والموت في سبيله، وما أنتم بترككم الجهاد بضارِّيه - تعالى - شيئًا، والله على كل شيء قدير.
قال مجاهد: (أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد حنين. أمروا بالنّفير في الصيف، حين خُرِفَت النخل، وطابت الثمار، واشتَهُوا الظلال، وشقَّ عليهم المخرج).
وقوله: {اثَّاقَلْتُمْ} . من الثقل. أي تثاقلتم عن الجهاد إلى لزوم الديار والأرض والاستئناس بالجلوس فيها. {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} ، أي: هل رصْيتم بحظ هذه الدنيا الفانية من نعيم الآخرة والخلود في جنات الإقامة والسرور الذي لا ينقطع.
وقوله: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} .
أي: فما دوام لذات هذه الدنيا وزينتها وبهجتها إلا قليل زائل متغير بالنسبة لدوام نعيم الآخرة والخلود في روضاتها وملذاتها.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن إسماعيل بن أبي خالد قال: حدّثنا قيسٌ قال: سمعت مُسْتَوْرِدًا أخا بني فِهْرٍ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحدُكُمْ إصْبَعَه (1) هذه في اليَمّ، فلينظرْ أحدُكُم بِمَ تَرْجِعُ؟ ](2).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي بسند صحيح لغيره عن سهل بن سعد قال: قال
(1) وأشار يحيى بن سعيد - أحد الرواة - بالسّبابة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (2858) - كتاب الجنة ونعيمها -. وأخرجه أحمد (4/ 228 - 229).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء](1).
الحديث الثالث: أخرج الحاكم في المستدرك بسند صحيح من حديث المستورد مرفوعًا: [ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكمْ إلى اليمِّ، فأدخل إصبعه فيه، فما خرج منه فهو الدنيا](2).
وله شاهد عند الإمام أحمد والطبراني بلفظ: [ما أخذتِ الدنيا من الآخرة، إلا كما أخذ المِخْيَط غُمِسَ في البحر من مائه] وسنده صحيح.
الحديث الرابع: أخرج الترمذي والحاكم بسند صحيح عن عبد الله مرفوعًا: [مالي وللدنيا؟ ! ما أنا والدنيا؟ ! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظَلَّ تحت شجرة ثم راح وتركها](3).
وله شاهد عند ابن حبان وأحمد عن ابن عباس: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال: مالي وللدنيا؟ ! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها](4).
قال ابن عباس: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيًا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم، فذلك قوله: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}).
(1) صحيح لغيره. أخرجه الترمذي (2/ 52)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 3/ 253)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 319)، وانظر للشاهد مسند أحمد (4/ 229)، وصحيح مسلم (8/ 156)، وصحيح الجامع الصغير، حديث رقم (5398)، (5423).
(3)
حسن صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 60)، والحاكم (4/ 310)، وأحمد (1/ 391). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (439).
(4)
صحيح لغيره. أخرجه ابن حبان (2526)، والحاكم (4/ 309 - 310)، وأحمد (1/ 301)، والحديث رواه البيهقي أيضًا كما في "الترغيب"(4/ 114)، وانظر السلسلة الصحيحة (440).
وقال قتادة: (استنفر الله المؤمنين في لَهَبَان الحرِّ في غزوة تبوك قِبَلَ الشام، على ما يعلم الله من الجَهْد).
فالمعنى: إن رضيتم - معشر المؤمنين - بالحياة الدنيا ودَعتها، ونكلتم عن الخروج إلى الجهاد في سبيل الله فقد توعدكم ربكم بعذاب موجع، وما أنتم بترككم الجهاد بضارِّيه شيئًا، بل هو القادر سبحانه أن يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
أخرج أبو داود في السنن، بسند صحيح، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا تبايَعْتُمْ بالعِينة، وأخذْتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرْع، وتَرَكْتُم الجهادَ، سلَّطَ الله عليكم ذُلَّا لا يَنْزِعُهُ حتى ترجعوا إلى دينكم](1).
40.
في هذه الآية: يقول تعالى ذكره: إنكم إنْ لا تنصروا هذا النبي - أيها الناس - فقد تكفل الله بنصره، فقد أخرجه كفار مكة هو وصاحبه، فنزلا مختفيين في الغار، وأعمى الله عنهما الأبصار، وأنزل تعالى عليه الطمأنينة والأمان، وأيّده بالجنود الكرام، وجعل كلمة الكفار السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز في انتقامه، حكيم في قضائه.
فقوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} .
قال مجاهد: (ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعث، فالله فاعلٌ به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (3462) - كتاب الإجازة - باب في النهي عن العينة، ورواه أحمد.
وقال قتادة: (فكان صاحبَه أبو بكر، وأما {الْغَارِ}، فجبل بمكة يقال له: ثور).
لقد حدد الوحي غار ثور منطلقًا للهجرة، وتم ضرب الموعد مع الدليل بذلك المكان، وكان خروج المصطفى صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه للغار ليلًا، وقد حمل الصديق رضوان الله عليه ثروته كلها لتكون تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يروي الحاكم بسند حسن من حديث أسماء: [أنها كانت خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم](1).
وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، تطمين لأبي بكر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم
وفي الصحيحين والمسند من حديث أنس أن أبا بكر حديثه قال: [قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه! فقال: يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما](2).
وقوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} .
أي: أنزل الله تعالى السكينة، وهي الطمأنينة والسكون، على رسوله، وقيل على أبي بكر، وقوّاه بجنود وهي الملائكة.
وقوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} . قال ابن عباس: (وهي الشرك بالله).
وقوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} . قال ابن عباس: (وهي: لا إله إلا الله).
قال ابن جرير: (قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله، وهي كلمته {الْعُلْيَا} على الشرك وأهله، الغالبة).
ثم قال جل ذكره: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
قال الحافظ ابن كثير: (والله {عَزِيزٌ} أي في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه، واحتمى بالتمسك بخطابه، {حَكِيمٌ} في أقواله وأفعاله).
(1) انظر مستدرك الحاكم (3/ 5) بإسناد حسن. وانظر كتابي: السيرة النبوية (1/ 440) لتفصيل البحث.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3653) - كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2381)، كتاب فضائل الصحابة. وأخرجه أحمد في المسند (1/ 4).
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: [سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله](1).
41.
في هذه الآية: دعوة الله تعالى عباده المؤمنين، إلى النفير للجهاد لحراسة الدين، وكسر شوكة الكافرين المعاندين، وذلك بالأموال والأنفس والرخيص والثمين، وهذا هو الخير العظيم لو كانوا يعلمون.
فقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} .
فيه أقوال متقاربة:
1 -
قال الحسن: (شيبًا وشبّانًا). فعنى بالخفة: الشباب، وبالثقل: الشيخوخة.
2 -
قال عكرمة: (الشاب والشيخ). وقال مجاهد: (شبابًا وشيوخًا، وأغنياء ومساكين).
3 -
قال الضحاك: (كهولًا وشبّانًا).
4 -
وقال الحكم: (مشاغيل وغير مشاغيل). وقال الحسن: (في العسر واليسر).
5 -
وقال أبو صالح: ({انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} قال: أغنياء وفقراء).
6 -
وقال قتادة: ({خِفَافًا وَثِقَالًا} قالَ: نِشاطًا وغيرَ نشاط).
7 -
وقال مجاهد: ({انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، قالوا: فإن فينا الثقيل، وذا الحاجة والضيعة والشغل، والمتيسر به أمره؟ فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا {خِفَافًا وَثِقَالًا} وعلى ما كان منهم).
والخلاصة: أمر الله تعالى المؤمنين بالنفير لقتال أعدائه {خِفَافًا وَثِقَالًا} ، ويشمل
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (123) - كتاب العلم -، وأخرجه مسلم في صحيحه (1904) - كتاب الإمارة -.
ذلك جميع أحوال عباده: في الصحة والمرض، والنشاط والكسل، والقوة والضعف، وسعة المال وضيقه، والفراغ والشغل، واليسر والعسر، والقدرة على الظهر والركاب والعجز عن ذلك، وقلة العيال وكثرتهم، وغير ذلك من تقلب الأحوال.
ترغيب ببذل الأموال والنفوس في سبيل الله، فإن سلعة الله غالية، وسلعة الله هي الجنة.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
2 -
3 -
وقال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157].
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال حَجٌّ مبرور](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن زيْدِ بن خالدٍ، رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ جَهَّزَ غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَفَ غازيًا في أهله بخير فقد غزا](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 302)، ومسلم (83)، من حديث أبي هريرة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6/ 37)، ومسلم (1895)، وأخرجه النسائي (6/ 46)، والترمذي (1628)، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه مرفوعًا.
الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يَلِجُ النَّارَ رجُلٌ بكى من خشية الله حتى يعودَ اللَّبن في الضَّرعِ، ولا يجتمع على عَبْدٍ غُبَارٌ في سبيل الله ودخان جهنم](1).
42 -
47. قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}.
في هذه الآيات: ذَمُّ الله تعالى المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك، فإنهم لو رأوا الغنيمة قريبة المنال في سفر سهل قريب لخرجوا معك - يا محمد - ولكن استصعبوا مشقة الطريق وزمان القَيْظ، ويحلفون كذبّا لِتَقْبَلَ أعذارهم الكاذبة والله يعلم إنهم لكاذبون.
لقد عفا الله عنك - يا محمد - في إذنك لهم، وكان ينبغي التريث لاختبار الصادق من الكاذب.
إنه لا يطلب الإذن لعدم الخروج للجهاد من يؤمن بالله واليوم الآخر، بل يطلبه المنافقون المبطلون.
ولو كانوا أرادوا الخروج معك بصدق لأخلصوا التأهب والاستعداد، ولكنَّ الله عَلِمَ
(1) حسن صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع - حديث رقم - (1633)، والنسائي في السنن (6/ 12)، وإسناده صحيح. وصححه الحاكم.
كَذِبَ قلوبهم فَثَبَّط هممهم وأقعدهم مع القاعدين، من المرضى والنساء والصبيان والعجزة المعذورين.
إنهم لَو خرجوا معكم ما زادوكم - معشر المؤمنين - إلا فسادًا وتخذيلًا، ولأوقعوا بينكم بالنمائم والوشايات الكاذبة، يريدون إفساد صفوفكم، والله عليم بالظالمين.
قال ابن جرير: (لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك، والمستأذنيك في ترك الخروج معك (1) إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه، {عَرَضًا قَرِيبًا} ، يقول: غنيمة حاضرة، {وَسَفَرًا قَاصِدًا} يقول: وموضعًا قريبًا سهلًا، {لَاتَّبَعُوكَ} ، ونفروا معك إليهما، ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرًا شاقًا عليهم، لأنك استنهضتهم في وقتِ الحرّ، وزمان القَيْظ، وحين الحاجة إلى الكِنِّ).
وعن قتادة: ({لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا}، قال: هي غزوة تبوك).
وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} ، أي: لو لم تكن لنا أعذار لكنا قد خرجنا معكم واشتركنا في الجهاد. {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بسخط الله نتيجة الكذب والحلف بالله زورًا وبهتانا.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . قال ابن إسحاق: (أي: إنهم يستطيعون).
وقال قتادة: (إنهم يستطيعون الخروج، ولكن كان تَبْطِئَة من عند أنفسهم والشيطان، وزهادة في الخير).
وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} .
عتاب من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينبغي أن يتريَّثَ قبل الإذن لهؤلاء المتخلفين في التخلف عن غزوة تبوك حتى يتبين له الصادق من الكاذب، وصاحب العذر الحقيقي من المدعي ذلك.
قال مورِّق: ({عَفَا اللَّهُ عَنْكَ}: عاتبه ربه).
وقال مجاهد: (ناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا).
(1) أي إلى تبوك، وهو توبيخ للمستأذنين في التخلف بأعذار واهية كاذبة.
قال ابن عباس: (فهذا تعييرٌ للمنافقين حين استأذنوا في القُعود عن الجهاد من غير عُذْر، وعذَرَ الله المؤمنين فقال: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]).
والآية في فضح بعض مسالك المنافقين في الاعتذار الكاذب لئلا يخرجوا إلى الجهاد والله عليم بمن خافه واتقاه وسارع إلى طاعته وامتثال أوامره.
أي: إنما يستأذنك - يا محمد - في القعود عن الجهاد - ممن لا عذر له - الذين لا يثقون بالله ولا يرجون ثوابه ورضوانه في الدار الآخرة، بل هم في شك وحيرة وريبة يتخبطون.
أي: ولو أرادوا الخروج معك - يا محمد - بصدق إلى الغزو لكانوا أخلصوا في التأهب والاستعداد، أمَا وقد كذبوا النية في ذلك فأبغض الله خروجهم فأخرهم وثبّط هممهم وعزائمهم وقيل اقعدوا مع المرضى والعجزة والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون ومع النساء والصبيان المعذورين، فإنه من لم يؤيّده الله بالقوة والعزيمة والثبات فلا سبيل له إلى ذلك.
وقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} .
قال النسفي: (ما زادوكم بخروجهم معكم {إِلَّا خَبَالًا} إلا فسادًا وشرًا، والاستثناء متصل، لأن المعنى ما زادوكم شيئًا إلا خبالًا، والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: "ما زادوكم خيرًا إلا خبالًا" والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلًا لأن الخبال بعضه. {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين).
وقال ابن جرير: ("ولأوضعوا بينكم"، يقول: ولأسرعوا بركائبهم السَّير بينكم).
والمقصود: الإسراع ببث النمائم والفساد للإيقاع بينكم ونشر الدعايات الكاذبة لتخذيلكم وتثبيطكم.
قال الشهاب: (الإيضاع: إسراع سير الإبل). فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها.
قال القاسمي: (وأعلم أن قوله {وَلَأَوْضَعُوا} مرسوم في الإمام (1) بألفين، لأن الفتحة كانت تكتب ألفًا قبل الخط العربي. والخط العربي اخترع قريبًا من نزول القرآن، وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفًا وفتحها ألفًا أخرى ونحوه {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21]).
وقوله: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} ، قال مجاهد:(يبطئونكم).
وقال ابن زيد: (يخذلونكم)، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} ، الكفر). والمقصود يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم، وبإفساد نياتكم وعزائمكم.
وقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} . قال مجاهد: (أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم).
وقال قتادة: (وفيكم من يسمع لهم) - وهو الأرجح من القول السابق.
قال ابن كثير: ({وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير).
قال محمد بن إسحاق: (كان - فيما بلغني - من استأذن من ذوي الشرف منهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول والجدُّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فَثَبَّطهم الله، لعلمه بهم، أن يخرجوا معه، فيفسدوا عليه جنده. وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم، فقال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}).
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . إخبار من الله تعالى عن علمه بسرائر المنافقين وما يبيتون، وبأعمال المجرمين والظالمين، وبما كان ويكون وسوف يكون، وبما لن يكون لكن إن قُدِّرَ وكان كيف سوف يكون.
وهذه الآية من قبيل هذا المعنى، فإنه سبحانه وتعالى قال في أولها: {لَوْ خَرَجُوا
(1) أي في المصحف الأصلي "ولا أوضعوا" وبنحوه في آية النمل {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} .
فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، فأخبر كيف يكون من أمرهم لو خرجوا، ومع هذا ما خرجوا، وهذا كما في التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28].
2 -
وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
3 -
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [قَدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألفَ سنة](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام الترمذي بسند صحيح من حديث عبادة بن الصامت قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إنَّ أوَّلَ ما خلق الله القلمَ، فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القَدَرَ ما كان وما هو كائن إلى الأبد](2).
وله شاهد عند أبي يعلى والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعًا: [إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون].
الحديث الثالث: أخرج الطبراني بسند جيد عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس: من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقي أو سعيد](3). وفي رواية: (من عمله وأجله ورزقه وأثره ومضجعه).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 51)، وأخرجه الترمذي في الجامع - حديث رقم - (2259). وانظر صحيح سنن الترمذي (1750).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2258) في أبواب القدر، انظر صحيح سنن الترمذي (1749)، وانظر للشاهد كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي ص (271)، ومسند أبي يعلى (1/ 126)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (133).
(3)
حديث جيد. أخرجه الطبراني كما في "المجمع"(7/ 195)، وأحمد (5/ 197). انظر صحيح الجامع الصغير (4077)، (4078)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (813) لتفصيل البحث.
48 -
51. قوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}.
في هذه الآيات: يخاطب الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم محذّرًا سلوك هؤلاء المنافقين: إنهم منذ مقدمك المدينة لم يُفَوِّتوا فرصة لِلنَّيل منك ومن دينك ومن أصحابك، حتى أظهر الله الدين الحق وَقَوَّى شوكة المؤمنين.
ومنهم من يعتذر عن الخروج بادِّعَاءِ ساقط: وهو خشيته الوقوع بفتنة النساء، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة عن نفسه أعظم، ونار جهنم تحرق المكذبين المنافقين.
إنك إن تسعد - يا محمد - بنصر أو غنيمة تسؤهم، وإن تنزل بك نازلة يفرح هؤلاء بحذرهم.
فقل لهم - يا محمد -: إنه لن يصيبنا إلا ما قدّره الله لنا وهو سبحانه سيدنا وناصرنا وعليه يتوكل المؤمنون.
فقوله: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} .
قال ابن إسحاق: (ليخذِّلوا عنك أصحابك، ويردّوا عليك أمرك {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ}).
والمقصود: أن هؤلاء أهل النفاق لم يفوِّتوا فرصة منذ مقدمك المدينة - يا محمد - إلا أفادوا منها في محاولة لكيدك وكيد أصحابك وخِذلان دينك، حتى أظهر الله الإسلام وأبطل الجاهلية، وكشف سبل المنافقين، وأعز أولياءه وخذل أعداءه {وَهُمْ كَارِهُونَ} .
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} . أي: ائذن لي في القعود والتخلف ولا تفتني بالخروج معك لعدم احتمال رؤية الجواري من نساء الروم، فأجابهم الله تعالى:{أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} ، أي بهذا القول قد سقطوا، فإن التكاليف والأوامر الشرعية متحملة ولو ظهر فيها مشقة، فغض البصر أمر شرعي، وقتال الكفار أمر شرعي، وكل التكاليف والأوامر الشرعية مستطاعة.
ذكر الشاطبي: في "الموافقات": (أن المشقة الشرعية لا يجوز دفعها لأنها دفع للتكليف، وبيّن أن المشقة قد تبلغ من الأعمال العادية ما يظن أنه غير معتاد، ولكنه في الحقيقة معتاد، وبين أن العمل الواحد له طرفان وواسطة، فحيث يقول تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا}، ثم قال: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، كان هذا موضع شدة لأنه يقتضي ألا رخصة في التخلف أصلًا ولكنه محمول على أقصى الثقل الذي يمكن إتيانه).
أخرج الطبري في التفسير، وابن إسحاق في السيرة، من طريق عبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمرَ بن قتادة وغيرهم قالوا: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم، وهو في جهازِه، للجَدِّ بن قيس أخي بني سَلِمَةَ:"هل لك يا جَدُّ في جِلاد بني الأصفر"؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذنُ لي ولا تَفْتنِّي، فوالله لقد عَرَفَ قومي ما رجلٌ أشدّ عجبًا بالنساءِ مِنّي، وإني أخشى إن رأيت نساءَ بني الأصفر ألّا أصْبِرَ عنهنَّ. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"قد أَذِنْتُ لك".
ففي الجَدِّ بن قيس نزلت هذه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي. . .} الآية، أي: إنما كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بِتَخلّفهِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم) (1).
وقد كان الجدّ بن قيس من أشرافِ بني سلمة، ويبدو أن الآية السابقة نزلت فيه، ولا شك أنها تنسحب على أمثاله.
أخرج الطبراني في "الكبير" من حديث كعب بن مالك: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: من سيدكم يا بني سَلِمة؟ قالوا: الجَدُّ بن قيس، على أنا نُبَخِّلُهُ.
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (16803)، وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (4/ 516)، عن غير واحد من التابعين، وله شواهد مرسلة كثيرة يتأيد بها، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأيُّ داءٍ أَدْوَأُ من البخل؟ ! ولكن سَيّدكم الفتى الأبيض الجَعْدُ، بشرُ بن البراء بن مَعْرور] (1).
وقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
قال ابن كثير: (أي: لا محيدَ لهم عنها، ولا محيص ولا مَهْرب).
وقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} .
قال ابن عباس: (يقول: إن تصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك، {حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}، قال: الجدُّ وأصحابه).
وقال قتادة: (إن كان فتح للمسلمين، كبر ذلك عليهم وساءَهم).
قال ابن جرير: (وإن تصبك مصيبة بفلول جيشك فيها، يقول الجدَّ ونظراؤه: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ}، أي: قد أخذنا حذَرنا بتخلّفنا عن محمد، وترك أتباعه إلى عدوه، {مِنْ قَبْلُ}، يقول: من قبل أن تصيبه هذه المصيبة، {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}، يقول: ويرتدُّوا عن محمد وهم فرحون بما أصاب محمدًا وأصحابه من المصيبة، بفلول أصحابه وانهزامهم عنه، وقتل من قُتِلَ منهم).
وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
إرشادٌ من الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم كيف يجيبُ خصومه في عداوتهم التامة وشكهم في نصر الله وفرجه: قل لهم - أيها المرتابون في دينهم - نحن تحت مشيئة الله وحكمه وأمره، لن يصيبنا إلا ما كتبه علينا في اللوح المحفوظ وقضاه لنا، {هُوَ مَوْلَانَا} أي ناصرنا وسيدنا وملجؤنا، ونحن متوكلون عليه واثقون بنصره وفرجه إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(19/ 163 - 164). وقال الهيثمي في "المجمع"(9/ 315): رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير شيخي الطبراني ولم أر من ضعفهما.
والحديث له شواهد وطرق. راجع "الإصابة"(1/ 150/ 654)، وتفسير ابن كثير (3543) - سورة التوبة، آية (49) - تحقيق المهدي. فهو حديث حسن إن شاء الله.
قال الإمام أحمد: (التوكل عمل القلب).
وقال سهل: (التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله والرضا بعده).
وقيل: (التوكل إسقاط التدبير) - يعني الإستسلام لتدبير الرب لك، وهذا في باب التجربة الابتلائية وليس في باب الأمر والنهي.
وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:[اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أَنَبْتُ، وبك خاصَمْت. اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تُضِلَّني، أنت الحيّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون](1).
52 -
55. قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}.
في هذه الآيات: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل - يا محمد - لهؤلاء المنافقين: هل ترقبون بنا إلا النصر أو الشهادة؟ ! فنحن ننتظر بكم نزول نقمة الله بكم بعذاب من عنده أو بأيدينا فانتظروا إنا منتظرون.
إنكم لن ينفعكم الإنفاق في أي حال ما دمتم كفرتم بالوحي وأنكرتم النبوة، ثم سخرتم بالصلاة وأتيتموها كسالى ولا تنفقون إلا وأنتم كارهون.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (8/ 80) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (1866) - كتاب الدعاء - ورواه البخاري.
فلا تعجبك - يا محمد - أموالهم وأولادهم، فهي عقوبة الله لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهذا جزاء الكافرين.
فقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} . أي: الظفر أو الشهادة. وعليه أقوال المفسرين:
1 -
قال ابن عباس: (يقول فتح أو شهادة. وقال مرة أخرى: يقول: القتل، فهي الشهادة والحياة والرزق، وإمّا يخزيكم بأيدينا). وقال مرة أخرى: (يقول: قتل فيه الحياة والرزق، وإما أن يغلب فيؤتيه الله أجرًا عظيمًا. وهو مثل قوله {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]).
2 -
وقال مجاهد: (القتل في سبيل الله، والظهور على أعدائه).
3 -
وقال قتادة: ({إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}، إلا فتحًا أو قتلًا في سبيل الله).
وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} .
قال قتادة: (أي قتل).
وقال ابن جرير: (يقول: ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده عاجلة، تهلككم، {أَوْ بِأَيْدِينَا}، فنقتلكم، {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}، يقول: فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بنا، وما إليه صائر أمر كلِّ فريق منّا ومنكم).
وقوله تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
أي: لن ينفعكم الإنفاق على أي حال وأنتم في شك من دينكم، وإنكارٍ لِنُبوة نبيكم، وجهل بالله تعالى وثوابه وعقابه، فإنكم كنتم قومًا خارجين عن الإيمان واليقين بربكم ولقائه ومعاده.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة، يُعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فَيُطْعَمُ بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكنْ له حسنةٌ يُجزى بها](1).
وفي رواية: [إن الكافر إذا عمل حسنة أُطْعِمَ بها طُعمَةً من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يَدَّخِرُ له حسناته في الآخرة ويُعْقِبُهُ رِزْقًا في الدنيا على طاعته].
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2808) - كتاب صفات المنافقين -. وانظر الحديث بعده في الباب للرواية الثانية.
أي: إنما حَجَبَ نفقاتهم على القبول عند الله إبطان الكفر والاستهزاء بالدين والرسول والوحي، ويظهر ذلك بمجاملتهم في الصلاة فيأتونها متثاقلين، وكذلك لا ينفقون نفقة إلا وهم كارهون.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أيها الناس! إنَّ الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. ثم ذكر الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا رب يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك](1).
قال قتادة: (هذه من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة).
وقال الحسن: ({إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: بزكاتها، والنفقة منها في سبيل الله) - وهو اختيار شيخ المفسرين - الإمام ابن جرير رحمه الله.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56].
2 -
وقال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
وقوله: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .
قال ابن كثير: (أي: ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر، ليكون ذلك أنكى
(1) حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم - (540).
لهم وأشد لعذابهم، عياذًا بالله من ذلك، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه).
وفي المسند للإمام أحمد، بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا رأيت الله تعالى يُعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج](1).
56 -
59. قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}.
في هذه الآيات: فَضْحُ الله تعالى المنافقين لعباده المؤمنين، أنهم يحلفون بالله كذبًا أنهم معكم في الدين والإيمان، وإنما هم يتسترون بذلك خوف القتل والخذلان.
إنهم لو يجدون محرزًا لفروا إليه منكم مسرعين.
ومنهم - يا محمد - من يعيب عليك في قَسْمك الصدقات فإن حظوا منها بحظ وافر أظهروا الرضى، وإن لم يحظوا بما يرضيهم أظهروا السخط والغضب.
ولو رضي هؤلاء المنافقون قسمة الله ورسوله لهم واستعانوا بالله على مزيد من الرضا والعطاء لكان خيرًا لهم ولكنهم قوم مذبذبون منافقون مخذولون.
فقوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} .
أي: يحلف هؤلاء المنافقون كذبًا خوفًا منكم بأنهم منكم في الدين والملة وليسوا كذلك، بل إنهم قوم يبطنون التكذيب والنفاق، إنما حملهم على الحلف الخوف من القتل.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 145)، وابن جرير في التفسير (7/ 115)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (414).
قال القرطبي: (والفَرَق الخوف، أي يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا).
وقوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} .
قال ابن عباس: (الملجأ: الحِرْز في الجبال، والمغارات: الغِيران في الجبال، والمدّخل: السَّرَب).
وقال أيضًا: ({أَوْ مُدَّخَلًا}، يقول: ذهابًا في الأرض، وهو النفق في الأرض، وهو السَّرَب).
وقال مجاهد: ({لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا}، قال: محرزًا لهم، لفرّوا إليه منكم).
قلت: والغيران جمع مَغَارة، من غار الرجل في الشيء إذا دخل فيه، والملجأ: الحصن، والمُدَّخل: المَسْلك نختفي بالدخول فيه كالنفق والسرب وغيره.
والمعنى: يود المنافقون أن لا يخالطوا المؤمنين كراهية رؤية نصرهم وعزهم، حتى لو سلكوا في حصن أو مغارات أو أنفاق تحجبهم عن رؤية عز الإسلام ورفعة جنده، لولجوا {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون في مَشيْهم.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} .
أي: ومن المنافقين من يعيب عليك - يا محمد - في قسمك الصدقات، فإن حظوا منها بحظ وافر أظهروا الرضى وإن كان غير ذلك أظهروا السخط والغضب.
قال قتادة: ({وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ}، يقول: ومنهم من يَطْعَنُ عليك في الصدقات). أي يعيب عليك فيها.
وقال ابن زيد: (هؤلاء المنافقون قالوا: والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرُ بها إلا هواه).
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: [بينما نحنُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقْسِمُ قَسْمًا إذ أتاه ذُو الخُوَيْصِرَة وهو رجُلٌ من بني تميم، فقال: يا رسول الله! اعدِلْ، فقال: وَيْلَكَ، ومن يَعْدِلُ إذا لم أَعْدِلْ؟ قد خِبْتُ وخَسِرْتُ إنْ لم أكُنْ أعْدِلُ، فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرِبَ عُنُقَهُ، فقال: دَعْهُ فإن له أَصْحابًا يَحْقِرُ أحدُكُم صلاتَهُ مع صلاتِهم، وصيامَهُ مع صيامهِم،
يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقِيَهمْ، يمرقون من الدين كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيّة، يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ فلا يوجدُ فيه شيءٌ، ثم يُنْظر إلى رِصَافِهِ فما يوجد فيه شيءٌ، ثم يُنْظَرُ إلى نَضِيِّهِ - وهو قِدْحُهُ - فلا يوجد فيه شيءٌ، ثم يُنْظَرُ إلى قُذَذِهِ فلا يوجَدُ فيه شيءٌ، قد سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ، آيتُهُم رجلٌ أسود إحدى عَضُدَيه مِثْلُ ثَدْي المرأة أو مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، ويخرجونَ على حين فُرْقَةٍ من الناس. قال أبو سعيد: فأشْهَدُ أنّي سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أنَّ عليَّ بن أبي طالب قاتَلَهم، وأنا معه، فأمر بذلك الرَّجلِ فالتُمِسَ فَأُتِيَ به، حتى نظرت إليه، على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نَعَتَهُ. قال: فنزلت فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} ] (1).
أي: لو رضي هؤلاء الذين نافقوا ما قسم الله لهم ورسوله من عطاء، وقالوا: كافينا الله، سيعطينا الله من فضل خزائنه، وكذلك رسوله من الصدقة وغيرها، فإننا نرغب إلى الله في التوسعة علينا وفي بسط رزقه لنا حيث نستغني عن الصدقة والناس.
قال النسفي: (جواب "لو" محذوف تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيرًا لهم، والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا، سيرزقنا غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون).
60.
في هذه الآية: بيان من الله تعالى لمصارف الزكاة بعد فضح المنافقين في سلوكهم ولمزهم.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (3610)، (6163)، (6933)، وأخرجه مسلم في الصحيح (1064) ح (148)، وأخرجه أحمد نحوه (3/ 56، 65)، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - سورة التوبة، آية (58).
قال ابن كثير: (لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات بيَّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولَّى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين).
هل يجب استيعاب هذه الأصناف؟
قال ابن كثير: (وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية، هل يجب استيعاب الدفع إليها أو إلى من أمكن منها؟ على قولين:
أحدهما: أنه يجب ذلك، وهو قول الشافعي وجماعة.
والثاني: أنه لا يجب استيعابها، بل يجوز الدفع إلى واحد منها ويعطى جميع الصدقة مع وجود الباقين، وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف، منهم عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران).
قال ابن جرير: (وهو قول عامة أهل العلم، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف ها هنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء).
فإلى تفصيل مصارف الزكاة كما بيّنَها الله تبارك وتعالى:
1 -
قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} .
الفقير: هو المحتاج الذي لا يجد ما يكفيه.
أخرج ابن ماجه بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تَحِلُّ الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة سَوِيّ](1). المِرّة: القوة والشدة، والمقصود صحيح البدن يحتمل التعب، و"سوي" أي سليم الأعضاء.
وفي صحيح سنن أبي داود عن عُبيد الله بن عدي: [أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فَقَلّب فيهما بصره، فرآهما جَلْدَين، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب](2).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 164، 192)، وابن ماجه (1839)، وأبو داود (1634)، والترمذي (652) وقال: حديث حسن. وأخرجه الحاكم (1/ 407)، والدارمي (1/ 386)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (1633) - كتاب الزكاة -. وانظر صحيح سنن أبي داود (1438). وأخرجه النسائي (5/ 99 - 100)، والشافعي (1/ 242)، والدارقطني (3/ 119)، ورواه أحمد في المسند (4/ 224).
2 -
قوله: {وَالْمَسَاكِينِ} .
المسكين: أسوأ حالًا من الفقير.
كما ذهب أبو حنيفة رحمه الله، وهذا قريب.
فالمسكين يتعفف عن السؤال بعكس الفقير، وقد دلت النصوص على ذلك:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ليس المسكينُ بهذا الطوَّافِ الذي يطوف على الناس، فتَردّه اللقمةُ واللقمتان، والتمرةُ والتمرتان. قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجدُ غِنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ له فيتصدَّقُ عليه، ولا يسأل الناس شيئًا](1).
وأخرج الطبراني والحاكم بسند حسن عن أبي سعيد: أحبوا المساكين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:[اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين](2).
قال البيهقي - كما ذكر الحافظ في "التلخيص" ص 275 - : (ووجهه عندي أنه لم يسأل حال المسكنة التي يرجع معناها إلى القلة، وإنما سأل المسكنة التي يرجع معناها إلى الإخبات والتواضع).
3 -
قوله: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} .
العاملون عليها: هم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطًا على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة.
ففي صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث، أنه انطلق هو والفضل بن عباس يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة فقال:[إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1476)، (4539)، ومسلم (1039) ح (102)، وأخرجه أبو داود (1631)، والنسائي (5/ 84 - 85)، وأخرجه أحمد (2/ 395)، (2/ 493) - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
حديث حسن. أخرجه الطبراني في الدعاء (1425)، والحاكم (4/ 322)، وأخرجه عبد بن حميد في "المنتخب من المسند"(110/ 2)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (308).
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1072)، (1073)، وأبو داود (2985)، والنسائي (5/ 105)، وأحمد (4/ 166)، والبيهقي (7/ 31)، والطحاوي (1/ 299)، وغيرهم.
قلت: وهذا الحكم خاص في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأمرين اثنين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف آله وأهله.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يكفي بني هاشم في حياته مقابل منع قبول الصدقة عنهم.
وأما اليوم فلا حجة بكلام بعضهم أنه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل له الصدقة لأمرين اثنين:
الأول: ربما لا يكون في التحقيق من آل بيته صلى الله عليه وسلم.
والثاني: لقد غاب النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يكفيهم.
4 -
قوله: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} .
المؤلفة قلوبهم أصناف:
أ - منهم من يعطى من الزكاة ليسلم.
ب - ومنهم من يعطى منها ليحسن إسلامه ويثبت قلبه.
ج - ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه.
د - ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد.
ففي صحيح مسلم عن ابن شهاب قال: [غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح فتح مكة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بِحُنَيْن، فنصر الله دينه والمسلمين. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مئة من النّعَم، ثم مئة، ثم مئة. قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح - وفي لفظ: فما زال - يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ](1).
وأعطى يوم حنين جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم: مئة من الإبل، ليحسن إسلامهم وتثبت قلوبهم.
وقال - كما يروي البخاري عن سعد بن أبي وقاص -: [إني لأُعطي الرجل وغيرهُ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2313)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 401)، (6/ 465)، وأخرجه الترمذي في السنن (666).
أحبُّ إليّ منه، خشية أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم] (1).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد: [أن عليًا بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ في تربتها من اليمن، فقسمها بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعُيينة بن بدر، وعلقمة بن عُلاثة، وزَيد الخير، وقال: أتألفهم](2).
5 -
قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} .
ذكر الحسن البصري وسعيد بن جبير: (أنهم المكاتَبون). وهو مذهب الشافعي والليث.
وقال ابن عباس: (لا بأس أن تُعتَقَ الرقبة من الزكاة) - أي إنَّ الرقاب أعم من أن يعطي المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالًا -، وهو مذهب مالك وأحمد.
وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة، منها:
الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله منه بكل عضو منه عضوًا من النار، حتى يعتق فرجَهُ بفرجِه](3).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثة حق على الله عونهم: الغازي في سبيل الله، والمكاتَبُ الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف](4).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد ورجاله ثقات عن البراء قال: [جاء رجل فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عَمَلٍ يُقَرِّبُني من الجنة ويباعدني عن النار. فقال:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (27)، (1478)، ومسلم (150)، وأحمد (1/ 176)، وأخرجه أبو داود (4683)، (4684)، والنسائي (8/ 103)، (8/ 104)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. هو بعض حديث أخرجه البخاري (3344)، ومسلم (164) ح (144)، وأحمد (3/ 73)، وأخرجه أبو داود (4764)، والنسائي (7/ 118)(5/ 87)، وأبو يعلى (1163).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (1581/ 49/ 3)، وانظر صحيح الجامع الصغير (6051).
(4)
حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 251، 347)، والترمذي (1655)، والنسائي (6/ 61)، وأخرجه ابن ماجه (2518)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2/ 160، 217)، على شرط مسلم.
أعتق النَسمة وفُكَّ الرقبة. فقال: يا رسول الله، أوليسا واحدًا؟ قال: لا، عِتْقُ النَّسَمة أن تُفْرَدَ بعتقها، وفك الرقبة أن تُعين في ثمنها] (1).
6 -
قوله: {وَالْغَارِمِينَ} .
الغارمون أنواع:
أ - منهم من تحمل حمالة.
ب - أو ضمن دينًا فلزمه فأجحف بماله.
ج - أو غرم في أداء دينه.
د - أو غرم في معصية ثم تاب.
والأصل في هذا حديث قَبيصةَ بن مُخارِق الهِلالِيِّ - رواه مسلم في صحيحه - قال: [تحمَّلْتُ حَمَالَةً، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسألُهُ فيها، فقال: أقمْ حتى تأتِيَنا الصدقةُ، فنأمُرَ لك بها. قال: ثم قال: يا قبيصةُ، إن المسألة لا تَحِلُّ إلا لأحدِ ثلاثةٍ، رجلٌ تحمّلَ حَمَالَةً فَحَلَّت له المسألة حتى يصيبها ثم يُمْسِك، ورجل أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله، فحلّت له المسألة حتى يُصيبَ قِوامًا من عيش - أو قال: سدادًا من عيش - ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه، فيقولون: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ فحلَّتْ له المسألة، حتى يصيب قِوامًا من عيش - أو قال: سَدادًا من عيش - فما سواهُنَّ من المسألة يا قبيصة! سُحْتًا يأكلها صاحِبُها سُحْتًا](2).
"حمالة": المال الذي يتحمله الإنسان أي يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين.
وقوله: "سُحْتًا" أي اعتقده سحتًا أو يُؤكلُ سحتًا، والسحت: الحرام.
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تحل المسألة إلا لثلاث: لذي فقر مُدْقِع، أو لذي غُرْمٍ مُفْظِع، أو لذي دم موجع](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان في صحيحه (374)، وأحمد في مسنده (4/ 299)، ورجاله ثقات، وأخرجها الطيالسي (739)، والبيهقي (10/ 272 - 273)، وذكره الهيثمي في "المجمع" (4/ 240) وقال: ورجال أحمد ثقات.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1044)، والطيالسي (1327)، وابن أبي شيبة (3/ 210 - 211)، وأبو داود (1640)، وأخرجه النسائي (5/ 88 - 89)، وأخرجه الدارمي (1/ 396).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي بسند صحيح من حديث أنس رضي الله عنه. انظر صحيح الترغيب (1/ 827) - كتاب الصدقات -.
- وقوله: "مدقع": أي شديد - أي ملصق صاحبه بالدقعاء - وهي الأرض لا نبات فيها.
- وقوله: "مفظع": أي شديد شنيع مجاوز للحد.
- وقوله: "لذي دم موجع": أي يتحمل دية عن قريبه القاتل أو صديقه ليدفعها لأولياء المقتول، والتي إن لم يدفعها قتل صاحبه القاتل الذي يتوجع لقتله وإراقة دمه.
7 -
قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
هذا السهم يشتمل على نوعين اثنين:
أ - الغزاة - أي في الجهاد - الذين لا حق لهم في الديوان.
ب - الحج هو من سبيل الله - وهو قول أحمد -.
وتفصيل ذلك من السنة الصحيحة:
الحديث الأول: أخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: العامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تُصُدِّقَ عليه منها فأهدى لغني](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود والحاكم من حديث ابن عباس - وابن أبي شيبة واللفظ له، والطبراني عن طلق بن حبيب البصري أن أبا طُليق حدثهم: [أن امرأته أم طُليق أتته فقالت له: حضر الحج يا أبا طُليق! وكان له جمل وناقة، يحج على الناقة، ويغزو على الجمل، فسألته أن يعطيها الجمل تحج عليه؟ فقال: ألم تعلمي أني حبسته في سبيل الله؟ - وفي رواية: ذاك حبيس في سبيل الله عز وجل. قالت: إن الحج من سبيل الله، فأعطنيه يرحمك الله! قال: ما أريد أن أعطيَك. قالت: فأعطني ناقتك وحجَّ أنت على الجمل. قال: لا أوثِرك بها على نفسي. قالت: فأعطني من نفقتك. قال: ما عندي فضل عني وعن عيالي ما أخرج به وما أترك لكم. قالت: إنك لو أعطيتني أخلفكها الله. قال: فلما أَبَيْتُ عليها قالت: فإذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأقْرِئْهُ مني السلام، وأخبره بالذي قلت لك. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرأته منها السلام وأخبَرْتُهُ بالذي قالت أمُّ طليق. قال: صَدَقَتْ أمُّ طُلَيْقٍ، لو أعْطَيْتَها الجمل كان في سبيل الله. (وفي رواية: أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله). ولو أعطيتها
(1) حديث صحيح. رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث أبي سعيد. انظر سنن أبي داود (1619)، وسنن ابن ماجه (1841)، وصحيح الجامع الصغير (7250).
ناقتك كانت وكنت في سبيل الله، ولو أعطيتَها من نَفَقَتِكَ أخْلَفَكَها الله] (1).
8 -
قوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ} .
وهو المسافر انقطع ببلد السفر وإن كان غنيًا في بلده، فيعطى ما يكفيه إلى بلده.
قال الحافظ ابن كثير: (وكذلك ابن السبيل: وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعينُ به على سفره، فَيُعْطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال. هذا الحكمُ فيمن أراد إنشاءَ سفر من بلده وليس معه شيءٌ، فيُعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه).
وقوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} .
قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤُه: قَسْمٌ قَسَمَهُ الله لهم، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم).
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
أي عليم بمصالح عباده ودقائق أمور حياتهم وظروفهم وبظواهر الأمور وبواطنها، حكيم في تشريعه لهم وقسمته زكاة أموالهم ومصارفها وفي قوله وفعله وقَدَره.
61 -
64. قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى عن بعض المنافقين الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (1990) - كتاب المناسك -. وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (1753)، وأخرجه الحاكم (1/ 183)، والبيهقي (6/ 164)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (3069).
ويعيبونه ويزعمون أنه أذن سامعة يسمع من كل أحد ويصدقه ويقبل منه، فكذبهم الله وأخبر أن نبيّه صلى الله عليه وسلم أذن خير لا أذن شر، فهو يسمع ولا يقبل إلا من المؤمنين، فيؤمن بالله ويصدق المؤمنين، وقد جعله الله رحمة لمن صدقه واتبعه، وقد توعد الله المنافقين على إيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم العذاب الأليم.
إنهم - معشر المؤمنين - يتكلمون بالمطاعن ويتخلفون عن الجهاد - أي المنافقون- ثم يعتذرون إليكم لترضوا عنهم والله ورسوله أحق بذلك لو كانوا مؤمنين.
ألم يعلموا سوء عاقبة مخالفة الله ورسوله أنه العذاب الموجع في نار جهنم وذلك الخزي العظيم.
يحذر المنافقون نزول سورة أو آية من القرآن تفضح ما في قلوبهم وتكشف سرائرهم أمام المؤمنين، فقال الله لهم:{قُلِ اسْتَهْزِئُوا} فإن الله سيفضح أمركم ويكشف بواطنكم ويطلع المؤمنين على ما في قلوبكم، فإن هذه السورة هي "الفاضحة".
فقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} .
قال مجاهد: (نقول ما شئنا، ثم نحلف له فيصدقنا).
قال ابن كثير: (يقول تعالى: ومن المنافقين قومٌ يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلام فيه ويقولون: {هُوَ أُذُنٌ}، أي: من قال له شيئًا صَدَّقه، ومن حدّثه فينا صدقه، فإذا جئنا وحلفنا له صدقنا. روي معناه عن ابن عباس، ومجاهد وقتادة).
وقوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} .
قال ابن جرير: (يعني: قل هو أذن خير لكم، لا أذن شرّ).
وقوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} . قال ابن عباس: (يعني: يؤمن بالله، ويصدق المؤمنين).
وقوله: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} .
أي جعله الله رحمة لمن آمن به وتابعه وصدقه.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، توعد لهؤلاء المنافقين سوء العذاب مقابل إيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطهم القول فيه بالعيب والتنقص.
وقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} .
قال الزمخشري: (الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن، أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم، ويؤكدون مَعاذِيرهُم بالحلف ليعذروهم، ويرضوا عنهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق).
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} .
أي: ألم يعلم هؤلاء المنافقون مغبة مخالفة أمر الله ورسوله أنه الخزي في نار جهنم خالدين فيها.
قال أبو السعود: (والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة، مع علمهم بسوء عاقبتها).
والمحاددة من الحدّ، قال الليث:(حاددته أي خالفته، والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة، واشتقاقه من "الحدّ"، بمعنى الجهة والجانب، كما أن المشاقّة كان "الشق" بمعناه أيضًا، فإن كل واحد من المتخالفين والمتعاديَيْن في حدّ وشق، غير ما عليه صاحبه).
وقال القاسمي: (فمعنى {يُحَادِدِ اللَّهَ} يصير في حدٍّ غير حدِّ أولياء الله، بالمخالفة).
قال مجاهد: (يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا علينا).
والمقصود: يخشى المنافقون أن تَنْزِلَ فيهم سورة تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم وتفضحهم، فأخزاهم الله بقوله:{إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} ، فأظهر سبحانه أمرهم وكشف ما في قلوبهم وفضحهم.
قال قتادة: (كانت تسمّى هذه السورة: "الفاضِحة"، فاضحة المنافقين).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ
لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29، 30].
2 -
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8].
65 -
68. قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى عن المنافقين في سخريتهم من بعض المؤمنين، فإن سألتهم عن سبب هذا السلوك الساخر منهم لقالوا إنما كنا نخوض ونلعب، فانتصر الله لأوليائه منهم مخبرًا أن السخرية من المؤمنين هي استهزاء بالله وآياته ورسوله، وأن الاستهزاء بشيء من الدين كفر، وأنه إن يُعْفَ عن التائبين فإنّه لا يُعفى عن المصرين المستكبرين.
إن المنافقين والمنافقات بعضهم أولياء بعض، قد تواصوا بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل والشح، وقد نسوا حق الله عليهم فخذلهم ربهم وأكثرهم فاسقون.
ثم يوم القيامة يحشرهم مع الكفار في نار جهنم خالدين فيها مطرودين من رحمة الله في عذاب مقيم.
أخرج ابن أبي حاتم ورجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: [قال رجل
في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء لا أرغبَ بطونًا ولا أكذبَ ألسنة ولا أجبنَ عند اللقاء. فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقًا بِحَقَبِ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبُهُ الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ] (1).
زاد ابن جرير في رواية: ({لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية).
وقوله: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
أي بما صدر منكم من قول واستهزاء.
وقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} ، قال ابن كثير:(أي: لا يُعْفَى عن جميعكم، ولا بد من عذاب بعضكم).
وقال النسفي: ({إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} مصرين على النفاق غير تائبين منه).
أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، وأحمد في المسند، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:[ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم، وويل لأقماع القول، وويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون](2).
قال الزمخشري: ("ويل لأقماع القول": وهم الذين يستمعون ولا يعون) - فهو مَجَاز -. والأقماع: جمع قِمْع، وهو الإناء يجعل في رأس الظرف ليملأ بالمائع.
قال الألباني: (شبه استماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئًا مما يفرغ فيها، فكأنه يمر عليها مجتازًا كما يمر الشراب في القمع).
وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" بسند حسن لشواهده، من حديث جرير
(1) أخرجه ابن أبي حاتم ورجاله رجال الصحيح، إلا هشام بن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في الميزان، وأخرج الطبري - في التفسير - نحوه (16928)، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - سورة التوبة، آية (65) -.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(380)، وأحمد في المسند (2/ 165)، (2/ 219)، وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند"(42/ 1) وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (482).
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يَغْفِر لا يُغفر له، ومن لا يتب لا يتب عليه](1).
وقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} .
قال ابن جرير: (يقول: هم صنف واحد، وأمرهم واحد، في إعلانهم الإيمان، واستبطانهم الكفر).
وقال القرطبي: (أي هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدّين).
وقوله: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} ، أي يأمرون بالكفر والعصيان، وينهون عن الطاعة والإيمان.
وقوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} .
قال مجاهد: (لا يبسطونها بنفقة في حق).
وقال قتادة: (لا يبسطونها بخير). أو قال: (يقبضون أيديهم عن كل خير).
والمقصود: قبض أيديهم عن الإنفاق في الجهاد وفي سبيل الله وفي أبواب الخير والبر.
وقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} .
قال قتادة: (نُسوا من الخير، ولم ينسوا من الشرّ).
والمقصود: تركوا طاعة الله واتباع رسوله، فخذلهم الله عن توفيقه وهدايته وعنايته.
وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، أي الخارجون عن سبيل الهدى والحق، الغارقون في طريق المعصية والضلال.
وعيد شديد ينتظر المنافقين مع الكفار في دركات جهنم خالدين فيها.
(1) حسن في الشواهد. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 180/ 1)، وانظر مسند أحمد (4/ 365)، وكذلك سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (483).
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].
أي: النار موعد المنافقين والمنافقات والكفار مقابل تمردهم في الكفر وانسلاخهم عن كل خير، وهي كفايتهم في العذاب إضافة إلى الطرد واللعن في عذاب مستمر.
قال النسفي: ({حَسْبُهُمْ} فيه دلالة على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه. {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} وأهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} دائم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والظاهر المخالف للباطن خوفًا من المسلمين وما يحذرونه أبدًا من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم).
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا](1).
وفي جامع الترمذي ومسند الإمام أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثالَ الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يُساقون إلى سِجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسْقون من عصارة أهل النار، طينةِ الخبال](2).
69 -
70. قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4919) - كتاب التفسير - باب {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42].
(2)
حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2025). ورواه أحمد. انظر تخريج مشكاة المصابيح (5112)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7896).
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}.
في هذه الآيات: تشبيه الله تعالى حال هؤلاء المنافقين بحال من مضى على منهاجهم في الأمم قبلهم، أصابهم عذاب الله لما تمادوا رغم ما كانوا عليه من البأس والقوة ووفرة الأموال والأولاد، فكُلٌّ أَخَذَ نصيبه من متاع هذه الدنيا والخوض بالكذب والباطل ومحاربة منهاج النبوة، حتى بطلت الأعمال وحَقّت كلمة العذاب والخسارة.
ألم يكن لهؤلاء المنافقين الذين اختاروا إسرار الكفر والمكر برسول الله والمؤمنين عبرة في خبر الأمم الماضية من قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وقوم لوط حين كذبوا رسلهم وتمادوا بالباطل والمنكر، فدكهم الله بالهلاك والعذاب، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
فقوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، أي من الأمم الماضية، {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} ، أي أصابهم عذاب الله لما طغوا واستهزؤوا رغم القوة والعدد والعتاد، وكثرة الأموال والأولاد.
قال عكرمة: قال ابن عباس: (ما أشبه الليلة بالبارحة! {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، هؤلاء بنو إسرائيل، شَبَّهَنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده، لتَتَّبِعُنَّهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه).
وقوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} . قال الحسن البصري: (بدينهم).
وقال ابن جرير: (يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم، ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضًا من نصيبهم في الآخرة. {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ}. قال: وقد سلكتم، أيها المنافقون، سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم. يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم، كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، الذين أهلكتهم بخلاف أمري، {بِخَلَاقِهِمْ}، يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم، {وَخُضْتُمْ}، في الكذب والباطل على الله، {كَالَّذِي خَاضُوا}، يقول: وخضتم أنتم أيضًا، أيها المنافقون، كخوض تلك الأمم قبلكم).
وقوله: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} .
قال ابن كثير: (أي: بطلت مَساعيهم، فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة).
وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . أي: صفقة الآخرة لفساد التجارة والبضاعة.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قبلكم شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحْر ضَبٍّ لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ؟ ](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وزاد: قال أبو هريرة: [اقرؤوا إن شئتم القرآن: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} - قال أبو هريرة: الخَلاقُ: الدين - {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تقوم الساعة حتى تأخذَ أمتي بأخْذِ القرون قبلها شِبرًا بشَبْر، وذِراعًا بِذراعٍ. فقيل: يا رسول الله، كفارسَ والروم؟ فقال: ومن الناسُ إلا أولئك](3).
الحديث الرابع: أخرج الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس مرفوعًا: [لتركبن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب دخلتم، وحتى لو أنّ أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم](4).
يَعِظُ الله تعالى المنافقين الذين اختاروا إسرار الكفر بالله ورسوله ومعاداة المؤمنين:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (3456) - كتاب أحاديث الأنبياء -، وأخرجه مسلم في الصحيح (2669)، والطبري في "التفسير"(16947).
(2)
حسن صحيح. أخرجه أحمد رقم (8322) - ترقيم أحمد شاكر - وابن ماجه في السنن - حديث رقم - (3994)، وابن أبي عاصم في "السنة"(72).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (7319) - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة -. وانظر أيضًا (3456) - كتاب أحاديث الأنبياء -.
(4)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 455) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وله شاهد في "المجمع"(7/ 261)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1348).
ألم يكن لهم في خبر الأمم الماضية عبرة إذ اختاروا البغي والطغيان وتكذيب الرسل فدكّهم عذاب الله وأليم عقابه.
فقوم نوح أصابهم الغرق، وقوم عاد أهلكوا بالريح حين كذبوا نبيهم هودًا صلى الله عليه وسلم، وثمود أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحًا عليه الصلاة والسلام وعقروا الناقة، وقوم إبراهيم حين نصره الله عليهم وأهلك ملكهم النمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني، وأصحاب مدين: وهم قوم شعيب صلى الله عليه وسلم أصابتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة. {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} . قال قتادة: (قوم لوط، انقلبت بهم أرضهم فجعل عاليها سافلها).
قال ابن كثير: (قوم لوط، وقد كانوا يسكنون في مدائن، وقال في الآية الأخرى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم: 53]، أي الأمم المؤتفكة، وقيل: أم قراهم، وهي "سدوم". والغرض: أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطًا عليه السلام، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين).
وقال النسفي: ({وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} مدائن قوم لوط، وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر).
أي: كل هذه الأقوام التي مضت جَاءتها حجج الله البالغة، ودلالات الوحي القاطعة، فأقام الله عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، فما ظلمهم سبحانه، ولكن كانوا هم الظالمين بعنادهم وكبرهم واستهزائهم حتى صبحهم الهلاك والدّمار.
71 -
72. قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}.
في هذه الآيات: تَزْكِيَةٌ من الله تعالى لصفات المؤمنين في مُغايرتها لِنُعوت
المنافقين: فالمؤمنون والمؤمنات كالأُسْرَةِ الواحدة في التناصر والتعاضد يتواصون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحرصون على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة ربهم ورسوله، أولئك تنالهم رحمته تعالى إنه عزيز حكيم.
لقد وعد الله المؤمنين والمؤمنات الخلود في الجنات، لهم فيها مساكن طيبة وتجري من تحتها الأنهار، ويحظون فيها بأكبر وأجَلّ النعم: رضوان الله عليهم، وذلك هو الفوز العظيم.
فقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .
بيان لصفات المؤمنين المحمودة، بعد ذكر نعوت أولئك المنافقين المقيتة، فهم يتناصرون ويتعاضدون لإقامة الدين، فالولاء بينهم والبراء من أعدائهم.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[المُسْلم أخو المُسْلِم، لا يَظْلِمُهُ وِلا يُسْلِمُه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فَرَّج عن مسلم كُرْبَةً فَرَّج الله عنه كُربَةً من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُهُ بعضًا، وشبك بين أصابعه](2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عُضْوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى](3).
الحديث الرابع: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المُسْلِمُ أخو المُسْلِم لا يخونه ولا يكذِبُهُ ولا يخذُلُهُ، كل المسلم على
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (2442) - كتاب المظالم - باب: لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يُسْلِمُهُ.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (481)، (2446)، ومسلم (2585)، والترمذي (1928)، والنسائي (5/ 79)، وأخرجه ابن أبي شيبة (11/ 22)، وأحمد (4/ 404 - 405).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (10/ 367) من حديث النعمان بن بشير، وأخرجه مسلم (2568)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 270).
المسلم حرامٌ عِرْضُهُ ومالُهُ ودَمُهُ، التقوى ها هنا، بِحَسْبِ امرئٍ من الشرِّ أن يَحْقِرَ أخاه المسلم] (1).
قال أبو العالية: (كل ما ذكره الله في القرآن من "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فالأمر بالمعروف، دعاء من الشرك إلى الإسلام، والنهي عن المنكر، النهي عن عبادة الأوثان والشياطين).
وفي التنزيل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
وفي سنن الترمذي بسند حسن عن حذيفة بن اليمان: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [والذي نفسي بيده، لتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أوْ ليوشِكَنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعُنَّهُ فلا يستجيب لكم](2).
وعن ابن عباس: (قوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، قال: الصلوات الخمس).
قال القرطبي: (وبحسب هذا تكون الزكاة هنا المفروضة).
وقال ابن عطية: (والمدح عندي بالنوافل أبلغ، إذ من يقيم النوافل أحرى بإقامة الفرائض).
وقال ابن جرير: ({وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فيأتمرون لأمر الله ورسوله، وينتهون عما نهياهم عنه).
وقوله: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} . قال النسفي: (السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد).
وقال القرطبي: (والسين في قوله: {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} مُدْخِلَةٌ في الوعد مُهْلَةً لتكون
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (1928)، وقال: حديث حسن. وانظر صحيح مسلم (2580)، وصحيح البخاري (5/ 70).
(2)
حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن - حديث رقم - (2273) - باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -، من حديث حذيفة بن اليمان. وانظر صحيح سنن الترمذي (1762)، ورواه أحمد وغيره، انظر صحيح الجامع الصغير، حديث رقم، (6947).
النفوس تنعم برجائه، وفضلهُ تعالى زعيمٌ بالإنجاز).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . قال ابن كثير: (أي {عَزِيزٌ} من أطاعه أعزّه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، {حَكِيمٌ} في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله، تبارك وتعالى.
أي: وعد الله الذين صدقوا الإيمان بالله ورسوله بساتين إقامة تجري تحت أشجارها الأنهار، لا يزولون عنها، وفيها مساكن طيبة هي منازل المؤمنين يسكنونها، حسنة البناء، طيبة القرار، قصور وغرف، في جنات عدن.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [جنّتان من فِضة آنيتُهما وما فيهما، وجنّتان من ذَهَبٍ آنيتُهما وما فيهما، وما بين القومِ وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكِبْرِ على وجهه في جنة عدن](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي عِمْران الجَوْنيّ عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن في الجنة خَيْمَةً مِنْ لُؤلؤةٍ مُجَوَّفة، عرضُها سِتُّون مِيلًا، في كل زاويةٍ منها أهل ما يَرَوْنَ الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون](2).
الحديث الثالث: أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصامَ رمضان، فإن حقًا على الله أن يدخِلَهُ الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جَلَسَ في أرضه التي ولد فيها. قالوا: يا رسول الله، أفلا نُخْبِرُ الناس؟ قال: إن في الجنة مئة درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله، بين
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4878) - كتاب التفسير -، وأخرجه مسلم في صحيحه (180)، ورواه أحمد في المسند (4/ 411).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4879) - كتاب التفسير - من حديث عبد الله بن قيس، وأخرجه مسلم أيضًا - حديث رقم - (180).
كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفِرْدوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تُفَجَّرُ أنهار الجنة، وفوقه عرشُ الرحمن] (1).
الحديث الرابع: أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ أهلَ الجنة يَتَراءَوْنَ أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءَوْن الكوكَبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرُهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين](2).
الحديث الخامس: أخرج الطبراني بسند حسن عن أبي مالك الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدّها الله لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام](3).
وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
أي: إن رضا الرحمن عز وجل هو أكبر نعمة ينعم بها المؤمنون يوم القيامة، وهي فوق كل نعمة ولذة رأوها أو عاشوها في الدنيا والآخرة.
أخرج الحاكم بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ يقول الله عز وجل: هل تشتهون شيئًا فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا وما فوقَ ما أعطيتنا؟ فيول: رضواني أكبر](4).
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيّكَ ربَّنا وسَعْدَيكَ، فيقول: هل رضيتُم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقكَ؟
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (2790)، (7423)، وأخرجه أحمد في المسند (2/ 335، 339) من حديث أبي هريرة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3256) - كتاب بدء الخلق -، وأخرجه مسلم (2830)، وأحمد في المسند (5/ 340) - من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الطبراني بإسناد حسن من حديث أبي مالك الأشعري. انظر تخريج مشكاة المصابيح (1235)، وتخريج الترغيب (2/ 46)، وصحيح الجامع (2119).
(4)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 82) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأقره الألباني - انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم (538).
فيقول: أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك، قالوا: يا ربِّ وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخطُ عليكم بعده أبدًا] (1).
73 -
74. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}.
في هذه الآيات: أمْرُ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بإعلان الحرب الشديدة على الكفار والمنافقين فهم أهل النار. إنهم يحلفون بالله كذبًا ما نطقوا كلمة كفر وهم في حقيقة الأمر منغمسون في الكفر والمكر بدين الله ورسوله، وما للرسول عندهم من ذنب إلا أن الله سبحانه أغناهم بسببه، فإن يتداركوا أنفسهم بالتوبة فهو خير لهم، وإن يصروا على الكبر والإعراض ينزل بهم عذاب الله في الدنيا ثم في الآخرة، وليس لهم في الأرض من يُنْقِذهم من بأس الله أو يدفع عنهم ما كتب عليهم من الخزي والهلاك.
فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
دعوة من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فإنهم أهل النار.
قال ابن عباس: (فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهبَ الرفق عنهم). وقال الضحاك: (يقول: جاهد الكفار بالسيف، واغلظ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم). وعن الحسن: (قال: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحدود، أقم عليهم حدود الله).
والحقُّ أنه لا فرق بين الفريقين في مفهوم الآية، وكل ذلك يرجع إلى الإمام، كما
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (6549) - كتاب الرقاق -. وأخرجه مسلم في الصحيح (2829)، وأحمد في المسند (3/ 88).
قال ابن مسعود: من أنّ الله أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين، وهو اختيار شيخ المفسرين - ابن جرير رحمه الله. فإذا أظهر المنافقون نفاقهم أو طعنهم في الدين فإنهم يجاهدون بالسيوف.
قال القرطبي: (قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الغِلظ: نقيض الرأفة، وهي شدة القلب على إحلال الأمر بصاحبه. وقال: ومعنى الغِلظُ خشونة الجانب، فهي ضدّ قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215]. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]. وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح).
وقال ابن جرير: (وقوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، يقول: ومساكنهم جهنم، وهي مثواهم ومأواهم، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، يقول: وبئس المكان الذي يُصار إليه جهنم).
إخبار من الله تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون بالله كذبًا عن كلمةِ كُفْرٍ تلفظوا بها وتشدقوا بذكرها أنهم ما قالوها.
قال النسفي: ({وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}: وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام، وفيه دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد، لأنه قال: وكفروا بعد إسلامهم).
وأما تأويل قوله: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} ، أي: من إطفاء نور الله بشكل من الأشكال، ومحاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم أو التخلص منه بأي طريقة فأخزاهم الله.
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن أبي الطُّفيل قال: [لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أمر مناديًا فنادى: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخُذها أحد. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عَمّار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارًا وهو يسوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة:"قَدْ، قَدْ". حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط نزل ورجع عمار، فقال: يا عمار، هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون. قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم.
قال: أرادوا أن يُنَفّرُوا برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فيطرحوه] (1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي الطفيل قال: [كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم أخبره إذ سألك، فقال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم، فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة. قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا علمنا بما أراد القوم، وقد كان في حرَّة فمشى فقال: إن الماء قليل، فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قومًا قد سبقوه، فلعنهم يومئذ](2).
وقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} . قال ابن كثير: (أي: وما للرسول عندهم ذنبٌ إلا أن الله أغناهم ببركته ويُمْن سِفارته، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به).
أي: هذا باب التوبة قد فتحه الله لهم ودعاهم إليه فإن يستعتبوا كان خيرًا لهم، وإن يصروا ويستمروا على طريقهم نالهم عذاب في الدنيا بالقتل والهم والغم، وعذاب في الآخرة بالجحيم والهوان والصَّغار. {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} ، أي: وليس لهم في الأرض من يُنْجِدُهم أو يَدْفَعُ عنهم ما كتبَ الله عليهم من الخزي والهلاك.
75 -
78. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 453 - 454) من حديث أبي الطفيل، وقال الهيثمي في "المجمع" (6/ 195): رجاله ثقات.
(2)
حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (279/ 11) - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم -. وانظر تفصيل البحث في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (3/ 1534 - 1536).
كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)}.
في هذه الآيات: فَضْحُ الله طائفة من المنافقين كانوا عاهدوا الله على البذل إن أغناهم وأن يكونوا من الصالحين.
فلما آتاهم سبحانه من فضله نكلوا وخانوا العهد ومضوا وهم معرضون.
فعاقبهم الله تعالى بختم قلوبهم بالنفاق إلى يوم يلقونه ليكونوا من الخاسرين.
ألم يعلموا أن سرائرهم وعلانيتهم مكشوفة لِعَلّام الغيوب رب العالمين! .
فقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
إخبار من الله تعالى عن طائفة من المنافقين كانوا قد أعطوا الله عهدهم وميثاقهم لئن أغناهم الله ليبذلن المال في الصدقات والقربات. {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، قال النسفي:(بإخراج الصدقة).
وقال القاسمي: (أي بإعطاء كل ذي حق حقه).
قلت: والصلاح يشمل أكثر من ذلك، فينسحب إلى كل أعمال البر والتقوى.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} .
أي: فلما أغناهم الله من فضله كذبوا العهد وخانوا ميثاقهم وأظهروا الشح والبخل {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، أي: مصرون على الإعراض والإنكار.
وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .
أي: فأعقبهم الله ببخلهم وشحهم وصنيعهم هذا في الخيانة ونقض العهد إطفاءً لنور قلوبهم، ونفاقًا سكن في أعماقها إلى يوم يلقونه عز وجل.
قال ابن جرير: ({بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}، من الصدقة والنفقة في سبيله، {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، في قيلهم، وحَرَمهم التوبة منه، لأنه جل ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى يوم يلقونه، وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا).
وقد حفلت السنة الصحيحة بذكر صفات المنافقين في أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[آية المنافق ثلاث (1): إذا حَدَّثَ كَذَب، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا اؤْتُمِنَ خان](2).
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أربع مَنْ كُنَّ فيه كان مُنافقًا خالصًا، وَمَنْ كانت فيه خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانت فيه خَصْلَةٌ من النفاق حتى يَدَعَها: إذا اؤْتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّث كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصم فَجَر](3).
وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} .
قال القاسمي: (أي ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين).
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} : أي ما غاب عن العباد وما ظهر وما بطن وكل سرٍّ ونجوى.
79.
في هذه الآية: إخبار من الله تعالى عن صفة أخرى في نعت هؤلاء المنافقين، فإنه لا يَسْلَمُ أحد من عيبهم ولمزهم، فإنْ بذل المتصدق وسعه وجاء بمال قليل قالوا: إن الله غني عن صدقة هذا، وإن أعانه الله على بذل الجزيل والوفير اتهموه بالرياء وسخروا
(1) زاد مسلم في رواية: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم). صحيح مسلم (59) ح (110).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (33) - كتاب الإيمان -، وأخرجه مسلم (59) ح (109)، (110)، وأخرجه أحمد رقم (8670)، والترمذي (2633)، والنسائي (8/ 117) من حديث أبي هريرة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (34) - كتاب الإيمان - باب علامات النفاق، وكذلك أخرجه برقم (2459)، (3178). وكذلك أخرجه مسلم (58) - كتاب الإيمان - باب خصال النفاق.
منه كما سخروا ممن قبله، والله تعالى في حقيقة الأمر هو يسخر من سلوكهم وأفعالهم وقد توعدهم على هذا الاستهتار العذاب الأليم.
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي وائل، عن أبي مسعود رضي الله عنه قال:[لما نزلت آية الصدقة كنا نُحَامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير، فقالوا: مُرَائي. وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا - أو قال: عن صاع هذا - فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية](1).
80.
في هذه الآية: إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء المنافقين لن ينفعهم الاستغفار، إذ ليسوا له أهلًا، وأنه لو استغفر لهم عليه الصلاة والسلام ولو سبعين مرة ما كان الله ليغفر لهم بما ركبوا من الكفر بالله ورسوله، وأصروا على التمرد والخروج عن طاعة الله سبحانه.
قال ابن جرير: (وهذا كلام خرج مخرج الأمر، وتأويله الخبر، ومعناه: إن استغفرت لهم، يا محمد، أو لم تستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم).
81 -
85. قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (4668)، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - سورة التوبة، آية (79)، ورواه مسلم.
وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)}.
في هذه الآيات: ذمٌ من الله تعالى للمنافقين في تخلفهم عن ركب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ومسيرهم إلى تبوك، وفرحهم بمقعدهم في الظلال والثمار بعد خروجه، وخبره عنهم باعتذارهم عن الخروج بسبب شدة الحر، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم - يا محمد - نار جهنم أشد حرًا لو كانوا يفقهون ويعقلون.
فليضحكوا في هذه الدنيا قليلًا فإنهم سيبكون في الآخرة كثيرًا مقابل ما كانوا يكسبون.
فإن ردّك الله - يا محمد - من غزوتك هذه واستأذنك هؤلاء المنافقون مرة أخرى للخروج معك فلا تقبل منهم، فإنهم قد رضوا التخلف عنك أول مرة فليقعدوا مع المتخلفين.
وحذار أن تصلي على ميت منهم أو تقوم على قبره، فإنهم عاشوا على الكفر والمكر والنفاق وماتوا فاسقين.
ولا تبهرك أموالهم وأولادهم، فهي عذاب الله عليهم في الدنيا بما فتنتهم عن إقامة الدين، وحسرة عليهم في الآخرة توردهم الجحيم.
فعن ابن عباس: (قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ} إلى قوله: {يَفْقَهُونَ}، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله، الحرُّ الشديد، ولا نستطيع الخروجَ، فلا تنفر في الحرّ! فقال الله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}، فأمره الله بالخروج).
وعن قتادة: (في قوله: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ}، قال: هي غزوة تبوك).
وعن ابن إسحاق قال: (ثم ذكر قول بعضهم لبعض، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وأجمع السير إلى تبوك، علي شدة الحرّ وجدب البلاد. يقول الله جل ثناؤه: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}).
وقد حفلت السنة الصحيحة بآفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ناركم جزء من سبعين جُزءًا من نار جهنم. قيل يا رسول الله! إن كانت لكافية. قال:
فُصِّلَت عليهن بتسعة وستين جُزءًا كُلُّهُنَّ مثلُ حرِّها] (1).
وفي لفظ: [ناركم هذه التي توقد بنو آدم، جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم. قال: فإنها فَضَلَتْ عليها بتسعة وستين جزءًا، كُلُّهن مثل حرِّها].
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مَعَ كل زمام سبعون ألف ملك يجرُّونها](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أهونُ أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو مُنْتَعل بنعلين يغلي منهما دماغه].
وفي لفظ في الصحيحين من طريق النعمان بن بشير: [إن أهونَ أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يَرى أن أحدًا أشَدُّ منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا](3).
الحديث الرابع: أخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اشْتَكَتْ النَّار إلى ربِّها، فقالت: يا ربِّ! أَكَلَ بَعْضي بَعْضًا. فجعل لها نَفَسَيْن: نَفَس في الشتاء ونفَس في الصيف. فَشِدَّةُ ما تجدون مِن البَرْدِ، من زَمْهَريرها. وشِدَّةُ ما تجدون من الحرِّ، مِنْ سَمُومها](4).
وقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
قال ابن عباس: (هم المنافقون والكفار، الذين اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا. يقول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}، في الدنيا، {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا}، في النار).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3265)، ومسلم (2843)، وابن حبان (7462)، وأخرجه مالك في الموطأ (2/ 994)، وأخرجه البغوي (4398)، وانظر مختصر صحيح مسلم - حديث (1976) -.
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم (1975) -، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 762) لتفصيل البحث.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (717)، ومسلم (994)، وأخرجه أحمد (4/ 271)، وغيرهم.
(4)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3/ 346)، وابن ماجه (2/ 586) - واللفظ له -، وانظر صحيح سنن ابن ماجه (3487)، وإسناده على شرط الشيخين، وقد أخرجاه وكذا أحمد (2/ 238 - 277 - 462 - 503) من طرق عن أبي هريرة نحوه.
وقال أبو رزين: ({فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا}، قال: في الدنيا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع. فذلك الكثير).
أخرج الحاكم بسند حسن عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن أهل النار ليَبْكُون، حتى لو أُجْريت السفن في دموعهم جَرَت، وإنهم ليبكون الدم](1).
ورواه في شرح السنة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يا أيها الناس! ابكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم، كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء، فتقرّح العيون، فلو أن سُفُنًا أُزْجِيَتْ فيها لجرت]. "أزجيت" أي: أرسلت.
وله شاهد عند ابن ماجه من حديث أنس مرفوعًا: [يُرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو أرسلت فيه السفن لجرت](2).
قال ابن عباس: (والخالفون الرجال).
قال قتادة: (قوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ}، إلى قوله: {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}، أي: مع النساء. ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلًا من المنافقين، قيل فيهم ما قيل).
وقوله ابن عباس في المخالفين أرجح، أنهم الرجال الذين نافقوا، ولا معنى لذكر النساء، وهو اختيار ابن جرير.
والمعنى: فإن ردّك الله - يا محمد - من غزوتك هذه واستأذنك هؤلاء المنافقون في الخروج معك إلى غزوة أخرى فلا تقبل منهم أبدًا، بأنهم رضوا في التخلف أول مرة نفاقًا وإيثارًا للدعة وزينة الحياة الدنيا وليقعدوا مع المنافقين المتخلفين.
(1) حديث حسن. أخرجه الحاكم (4/ 605) - على شرط الشيخين -. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم - (1679).
(2)
أخرجه ابن ماجه (4324)، وابن أبي الدنيا في "صفة النار"(ق 12/ 1)، وانظر المرجع السابق، وأخرجه أبو يعلى (4134)، وانظر مستدرك الحاكم (4/ 606)، والحديث حسن لشواهده.
براءة من المنافقين، ومنع للنبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليهم أو القيام على قبورهم للدعاء أو الاستغفار لهم، لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا على ذلك.
وفي أسباب نزول الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن نافع، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:[لما تُوُفِّي عبد الله بن أبيٍّ جاء ابنُهُ عبدُ الله بنُ عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يُعْطِيَهُ قميصَهُ يكفِّنُ فيه أباه، فأعْطاهُ، ثم سأله أن يُصَلِّيَ عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلِّي عليه، فقام عمرُ، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتُصَلِّي عليه وقد نهاكَ ربُّكَ أن تُصَلِّيَ عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيّرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السَّبْعين. قال: إنه منافقٌ، قال: فَصَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: [لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دُعِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إليه فقلت: يا رسول الله، أَتُصَلّي على ابن أُبيٍّ وقد قال يوم كذا، كذا وكذا؟ . قال: أُعَدِّدُ عليه قَولَه، فَتَبَسَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أُخِّرْ عنِّي يا عُمَر.
فلما أَكْثَرتُ عليه قال: إني خُيِّرْتُ فاخْتَرْتُ، لو أعلمُ أني إن زِدْتُ على السَّبْعين يُغْفَرُ له، لَزِدْتُ عليها. قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف، فلم يَمْكُثْ إلا يسيرًا حتى نزلت الآيتان مِنْ براءة {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قوله:{وَهُمْ فَاسِقُونَ} . قال: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسولُهُ أعلم] (2).
الحديث الثالث: أخرج البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: [أتى النبي صلى الله عليه وسلم عَبدَ الله بن أبي بعدما دُفِنَ فأخرجه فنفث فيه من ريقِهِ، وألبسه قميصه](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4670)، ومسلم (2774)، والبيهقي في "الدلائل"(5/ 287).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4671) - كتاب التفسير -، سورة التوبة، آية (84).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1270) - كتاب الجنائز - باب الكفن في القميص الذي يُكَفُّ أو لا يُكَفّ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وله شاهد في مسند أحمد من حديث جابر - أيضًا - قال: [لما مات عبد الله بن أبيّ، أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك إن لم تأته لم نَزَلْ نُعَيَّر بهذا. فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته، فقال: أفلا قبل أن تدخلوه! فأخرجَ من حُفرته، وتَفَل عليه من ريقه من قَرَنِهِ إلى قدَمِهِ، وألبسه قميصه](1).
قلت: والحكم استنادًا إلى هذه الآية عامٌ في كُلِّ من عُرِفَ نفاقه فيعتزل أهل العلم الصلاة عليه تعزيرًا لأمثاله وتحذيرًا من مسلك الفسق والنفاق.
فقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي قتادة قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دُعِيَ لجنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيرٌ قام فصلّى عليها، وإن أثني عليها غير ذلك قال لأهلها: شأنكم بها، ولم يُصَلّ عليها](2).
وقال أبو عُبيد في كتاب الغريب في حديث عمرَ أنه أراد أن يصلي على جنازة رَجُلٍ، فَمَرزَه حُذيفة، كأنه أراد أن يَصُدَّه عن الصلاة عليها.
ثم حكى عن بعضهم أن المَرْزَ بلغة أهل اليمامة هو: القَرْص بأطراف الأصابع. ذكره الحافظ ابن كثير في التفسير.
أي: لا تعجبك يا محمد أموال المنافقين وأولادهم فتصلي على أحدهم عند موته لأجل كثرة ماله وولده، فإن الله تعالى إنما بسط لهؤلاء في المال والولد فتنة وعذابًا لهم في الدنيا بالهموم والغموم، ثم بما يلزمه من ذلك من المؤن والنفقات والزكوات، وبما ينوبه فيها من الرزايا والمصيبات، فإذا مات أحدهم وفارق المال والولد كان ذلك حسرة عليه عند موته مع ما ينتظره من وبال ذلك عليه في الآخرة، فإن الله تعالى لا يقبل عملًا مع الشرك به والكفر بدينه وجحد نبوة رسله.
قال السدي: ({وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ}، في الحياة الدنيا).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 371) من حديث جابر بن عبد الله، ورجاله ثقات. وأخرجه النسائي (4/ 37) بنحوه. وانظر صحيح مسلم (2773)، وصحيح البخاري (1350)، (5795).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 299 - 300) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3057)، والحاكم (1/ 364)، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 3 - 4): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنته، يعطى بها (وفي رواية: يثاب عليها الرزق في الدنيا) ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها](1).
وأخرج النسائي بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، فأعادها ثلاث مرات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له. ثم قال: إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه](2).
86 -
87. قوله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)}.
في هذه الآيات: يخبر تعالى عن سلوك المنافقين عند نزول سورة تدعوهم إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسوله، فإذا الأغنياء منهم يطلبون البقاء مع المرضى والضعفاء المعذورين.
لقد رضوا البقاء مع النساء اللواتي ليس عليهن فرض الجهاد، وإنما قد ختم الله على قلوبهم فهم لا يفهمون موعظة ولا يتدبرون مصلحتهم وما فيه نجاتهم وفوزهم.
قال ابن عباس: (يعني أهل الغنى). أو قال: (يعني الأغنياء).
والمقصود: نكولُ المنافقين عن الجهاد في سبيل الله مع وجود السَّعة والطَّول، وغياب العذر، إنما هو حب الدنيا وزينتها الفانية على حساب الآخرة ونعمتها الباقية.
وقوله: {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} . قال ابن جرير: (يقول: وقالوا لك: دعنا،
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 135)، وأحمد (3/ 125)، وانظر السلسلة الصحيحة (53).
(2)
حديث حسن. أخرجه النسائي في "الجهاد"(2/ 59) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه العراقي في "تخريج الإحياء"(4/ 328).
نكن ممن يقعد في منزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم، ومن لا يقدر على الخروج معك في السفر).
وقوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} .
قال ابن كثير: (رضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف (1)، بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلامًا، كما قال تعالى عنهم في الآية الأخرى:{فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]، أي: علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن، وفي الحرب أجبنُ شيء).
وقوله: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} .
قال النسفي: (ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} ما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الهلاك والشقاوة).
88 -
89. قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}.
في هذه الآيات: ثناء من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين الذين ناصروه وأيدوه وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم - وهو في موضع ذم، بالإشارة، إلى المنافقين، أو ثناء للمؤمنين بعد ذمٍّ للمنافقين - ثم بيان من الله تعالى لحسن عاقبة المؤمنين والمجاهدين - فإنهم أهل الفلاح والفوز العظيم.
لقد أعد الله لهم جنات تجري الأنهار تحت أشجارها وعبر بساتينها مع الطمأنينة لهم بالخلود وذلك الفوز العظيم.
(1) الخوالف: جمع خالفة، والمراد النساء.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن في الجنة مئة درجة، أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسطُ الجنة، ومنه تفجَّرُ أنهارُ الجنة، وفوقه عرش الرحمن](1).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يا أبا سعيد مَنْ رضيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وجبت له الجنة. فعجب لها أبو سعيد. فقال: أعِدْها عَليَّ، يا رسول الله! ففعل. ثم قال: وأخرى يُرْفَعُ بها العَبْدُ مئةَ درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. قال: وما هي؟ يا رسول الله! قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله](2).
وفيه من حديث سهل بن سعد الساعدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[والغدوة يغدوها العَبْدُ في سبيل الله، خيرٌ من الدنيا وما فيها](3).
90 -
93. قوله تعالى: {جَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}.
في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن محاولة نفر من أحياء العرب حول المدينة
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم - (2790)، (7423)، وأحمد في مسنده (2/ 335 - 339) في أثناء حديث أطول.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1884) - كتاب الإمارة - باب بيان ما أعدّه الله تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1881) - كتاب الإمارة - باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله.
الاعتذار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بترك الجهاد لضعف أو عجز، وقعود المنافقين فلم يجيئوا ولم يعتذروا ليظهر كذبهم، وقد توعدهم الله بالقتل والخزي في الدنيا وبالعذاب الأليم في الآخرة.
إنه لا حرج على الضعفاء والمرضى وكذلك من عجز بالمال عن الخروج للجهاد إذا قعدوا ونصحوا حال قُعودِهم فلم يُثَبِّطوا أحدًا بل أحسنوا النصيحة والله غفور رحيم.
وكذلك لا سبيل - يا محمد - على النفر الذين جاؤوك صادقين يريدون الخروج وليس لديك ما تحملهم عليه، فتولوا وهم يبكون أن لا سبيل للحملان والخروج.
إنما العتاب والعقاب على الأغنياء المتخلفين، الذين ختم الله على قلوبهم في المنافقين، فهم لا يعلمون سوء عاقبتهم.
فقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} .
هم أهل الأعذار بترك الجهاد لعجز أو ضعف.
قال الضحاك: (كان ابن عباس يقرأ: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ}، مخففة، ويقول: هم أهل العذر).
وقال مجاهد: (نفر من بني غفار، جاؤوا فاعتذروا، فلم يُعْذِرْهم الله).
والمقصود: محاولة نفر من أحياء العرب حول المدينة الاعتذار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك الجهاد لضعف أو عدم قدرة على الخروج. ولفظ {الْمُعَذِّرُونَ} من عذّر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى، فهو يوهم أن له عذرًا، أو من لفظ:(المعتذرون) بإدغام التاء في الذال.
وقوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَه} .
قال النسفي: (هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان).
وقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} . توعُّدٌ لهم بعذاب أليم إما بالقتل والخزي في الدنيا أو بالنار في الآخرة.
هذه الآية نص في إعذار الضعفاء والمرضى، كأرباب الزمانة والهرم والعمى
والعرج، وكذلك من عجز عن الخروج للجهاد من جهة المال.
قال القرطبي: (قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الآية. أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيض حَرَجٌ} [النور: 61].
2 -
وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وفي السنة العطرة من آفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري وأبو داود وابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم -كان في غَزاةٍ، فقال: إن أقوامًا بالمدينة خَلْفَنا ما سَلكْنا شِعْبًا ولا وادِيًا إلا وهُمْ معنا فيه، حَبَسَهُم العُذْر](1).
الحديث الثاني: أخرج ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق بسند رجاله ثقات قال: حدثني أبي إسحاق بن يَسار، عن أشياخ من بني سلمة:[أن عمرو بن الجموح كان رجلًا أعْرَج شديد العَرَج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حَبْسَه، وقالوا له: إن الله عز وجل: قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخُروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بِعَرْجتي هذه في الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنتَ فقد عَذَرك الله فلا جهادَ عليكَ، وقال لبنيه: ما عليكم أن لا تمنعوه، لعلّ الله أن يرزقه الشهادة، فخرج معه فَقُتِلَ يوم أحد](2).
وله شاهد في مسند الإمام أحمد بسند حسن من حديث أبي قتادة، رضي الله عنه، وكان شاهد عيان، قال: [أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2839) - كتاب الجهاد والسير -. وأخرجه أبو داود (2508)، وابن ماجه (2764)، وأخرجه أحمد (3/ 103)، وابن حبان (4731)، وغيرهم من حديث أنس.
(2)
انظر سيرة ابن هشام (2/ 90 - 91) وسنده حسن إن كان أشياخ بني سلمة من الصحابة، وإلا فهو مرسل ورجاله ثقات. وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (2/ 696 - 697).
الجنة؟ وكانت رجله عرجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقتلوا يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما وبمولاهما، فجعلوا في قبر واحد] (1).
قال النسفي: ({إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} بأن آمنوا في السر والعلن وأطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه).
وقال ابن كثير: (فليس على هؤلاء حَرَجٌ إذا قَعَدُوا ونَصَحُوا في حال قعودهم، ولم يُرْجفوا بالناس، ولم يُثَبِّطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا، ولهذا قال: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}).
والنصح هو إخلاص العمل من الغش. قال الرازي: (والناصح: الخالص من كل شيء. قال: ورجل ناصح الجَيْب أي نقيّ الثوب. ومنه التوبة النصوح وهي الصادقة).
وفي صحيح مسلم عن تميم الداري: [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة". قلنا: لِمَنْ؟ قال: للهِ وَلِكتابِه ولِرَسُوله ولأئمة المسلمين وعامَّتِهم](2).
قال العلماء: (النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفُه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في مَحابّه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوّته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقّه فيها والذبّ عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلّق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم.
وكذا النصح لكتاب الله: قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم. والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادُهم وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (5/ 299)، وحسّن إسناده الحافظ في الفتح. وانظر صحيح السيرة - إبراهيم العلي - ص (217)، والمرجع السابق (2/ 697).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (55) - كتاب الإيمان - باب بيان أن الدين النصيحة. وأخرجه أبو داود (4944)، والنسائي (7/ 156 - 157)، وابن حبان (4575)، وأحمد (4/ 102).
وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: [مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى](1).
وقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قال القرطبي: (وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن).
وقال النسفي: ({مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} المعذورين الناصحين {مِنْ سَبِيلٍ} أي لا جناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم {وَاللَّهُ غَفُورٌ} يغفر تخلفهم {رَحِيمٌ} بهم).
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ولا سبيل أيضًا على النفر الذين إذا ما جاؤوك، لتحملهم، يسألونك الحُمْلان، ليبلغوا إلى مغزاهم لجهاد أعداءِ الله معك، يا محمد، قلت لهم: لا أجد حَمُولة أحملكم عليها، {تَوَلَّوْا}، يقول: أدبروا عنك، {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا}، وهم يبكون من حزن على أنهم لا يجدون ما ينفقون، ويتحمّلون به للجهاد في سبيل الله).
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: [أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في رَهْطٍ من الأشعريِّين نَسْتَحْمِلُهُ، فقال: والله! لا أحْمِلُكُمِ، وما عندي ما أحملكُم عليه. قال: فَلَبِثْنَا ما شاء الله، ثم أُتِيَ بإبلٍ، فأمَرَ لنا بثلاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرا، فلما انطلقنا قلنا - أو قال بعضنا لبعض -: لا يُبارِكُ اللهُ لنا، أتَيْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ فحلفَ أنْ لا يَحْمِلَنا، ثمَّ حَمَلَنا، فأَتَوْه فأخبروه، فقال: ما أَنا حَمَلْتُكم، ولكن الله حَمَلَكُم، وإني، والله! إن شاءَ الله، لا أَحْلِفُ على يمينٍ ثم أرى خيرًا منها، إلا كفَّرْتُ عن يميني وأتَيْتُ الذي هو خَيْرٌ](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586)، والبيهقي (3/ 353)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 270)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1649) - كتاب الأيمان - وأخرجه النسائي (917)، وأخرجه ابن حبان (4354) من حديث أبي موسى، وورد من حديث عمران بن حصين - أخرجه البخاري (3133)، و (4385)، ومسلم (1649)، وأحمد (4/ 401).
وعن ابن إسحاق: ({وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} إلى قوله: {حَزَنًا} قال: وهم البكاؤون، كانوا سبعة).
قال القاسمي: ({إِنَّمَا السَّبِيلُ} أي بالعتاب والعقاب {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} أي قادرون على تحصيل الأهبة {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} أي من النساء والصبيان وسائر أصناف العاجزين. أي رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف).
وقال ابن جرير: ({وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم}، يقول: وختم الله على قلوبهم بما كسبوا من الذنوب، {فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، سوء عاقبتهم، بتخلفهم عنك، وتركهم الجهاد معك، وما عليهم من قبيح الثناء في الدنيا، وعظيم البلاء في الآخرة).
94 -
96. قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}.
في هذه الآيات: إخبارٌ من الله تعالى عن المنافقين في حرصهم على الاعتذار إليكم عند وصولكم المدينة، فقولوا لهم: لن نصدقكم في محاولتكم وقد أخبرنا الله عن صفاتكم وأحوالكم ومحاولاتكم وسيُظهر الله أعمالكم للناس في الدنيا ثم يوم القيامة يخبركم سبحانه بما صدر منكم، وما اجترحتم من آثام ويجزيكم بها. إنهم سيحلفون بالله لكم معتذرين بكل وسيلة فأعرضوا عنهم تصغيرًا لشأنهم واحتقارًا لسلوكهم فإنهم "رجس" أي: خبثاء نجسة بواطنهم واعتقاداتهم ومآلهم في الآخرة إلى جهنم مقابل آثامهم ونفاقهم. إنهم سيحلفون لكم محاولين إرضاءكم خشية عاقبة الأمور وتغير
أحوال الدنيا عليهم، فإن ترضوا أنتم عنهم فاعلموا أن الله لا يرضى عن القوم الخارجين عن طاعته المكذبين برسوله.
قال القرطبي: ({يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} يعني المنافقين. {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي من تبوك. والمحلوف عليه محذوف، أي يحلفون أنهم ما قدروا على الخروج. {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} أي لتصفحوا عن لومهم).
وقال ابن عباس: (أي لا تكلموهم).
وقال النسفي: ({إِنَّهُمْ رِجْسٌ} تعليل لترك معاتبتهم، أي أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم لأنهم أرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم).
قلت: والمقصود عملهم رجس ومنهجهم قبيح.
وقال القاسمي: ({وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} من تمام التعليل، فالعلة نجاسة جبلتهم التي لا يمكن تطهيرها).
أخرج ابن جرير ورجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول: [لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وصَدَقْتُهُ حديثي. فقال كعب: والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إنَّ الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحد: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}](1).
97 -
99. قوله تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ
(1) أخرجه ابن جرير ورجاله رجال الصحيح - ونحوه في صحيح البخاري من حديث كعب (4418)، وصحيح مسلم (2769) - وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول - الوادعي - التوبة (95 - 96).
الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}.
في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن الأعراب الجفاة أنهم أشد كفرًا ونفاقًا وجهلًا في الدين. ومنهم طائفة يعيشون على المكر في المؤمنين ويترقبون الدائرة لتكون عليهم، والله سيوقعهم في سوء أعمالهم وهو السميع العليم. ومن الأعراب مؤمنون صادقون متصدقون، سيدخلهم الله في رحمته، والله غفور رحيم.
فقوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا}
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: الأعراب أشد جحودًا لتوحيد الله، وأشدّ نفاقًا من أهل الحضر في القرى والأمصار. وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك، لجفائهم، وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبًا، وأقلُّ علمًا بحقوق الله).
وفي مسند أحمد وسنن النسائي بسند صحيح عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[من سَكَنَ البادية جفا، ومن اتبع الصيد غَفَل، ومن أتى السلطان افتُتِن](1).
وله شاهد في المسند بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: [مَنْ بدا جفا، ومن اتبع الصيد غَفَل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد أحدٌ من السلطان قُربًا إلا ازداد من الله بُعْدًا](2).
وفي لفظ من حديث البراء رضي الله عنه مرفوعًا: [من بدا جفا].
وقوله: {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} .
قال قتادة: (هم أقل علمًا بالسنن).
يروي ابن جرير بسنده عن الأعمش، عن إبراهيم قال: (جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَنْد، فقال: والله إنّ حديثك ليعجبني، وإن يدك لَتُريبُني! فقال زيد: وما يريبُك من يدي؟ إنها الشمال!
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3362)، وأبو داود (2859)، والنسائي (7/ 195 - 196).
(2)
حديث حسن. أخرجه أحمد (2/ 371)، (2/ 400)، (4/ 297)، وانظر الصحيحة (1272).
فقال الأعرابي: والله ما أدري، اليمينَ يقطعون أم الشمال؟ قال زيد بن صوحان: صدق الله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه} ).
قال الحافظ ابن كثير: (ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله تعالى منهم رسولًا، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109].
ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهديَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه أضعافها حتى رضي، قال:"لقد هَمَمْتُ ألا أقبل هدية إلا من قُرشِيّ، أو ثَقَفي أو أنصاري، أو دَوْسي"(1)، لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن: مكة، والطائف، والمدينة، واليمن، فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب، لما في طباع الأعراب من الجفاء).
قلت: وقد حفلت السنة الصحيحة بأمثلة عن قسوة الأعراب وجفاء معاملتهم وسلوكهم في أحاديث.
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن شهاب: أخبرني عُبيد الله بنُ عبد الله بن عُتْبةَ: أن أبا هريرة أخبره أن أعرابيًا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم[دَعُوه وأهْريقوا على بَوْلِهِ ذَنُوبًا من ماء، أو سَجْلًا مِنْ ماء، فإنما بُعثتم مُيَسِّرين، ولم تُبعثوا مُعَسِّرين](2).
الحديث الثاني: أخرج مسلم في صحيحه من حديث طلحة بن عبيد الله يقول: [جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أهلِ نَجْدٍ، ثائِرُ الرأس، نسمع دويَّ صَوْتِه ولا نفقهُ ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام. .] الحديث (3).
الحديث الثالث: أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: [جاء أعرابي إلى
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد رقم (2687)، والبزار (1938 - كشف الأستار)، وابن حبان (6384)، والطبراني (10897) من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في "المجمع" (4/ 148): ورجال أحمد رجال الصحيح، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (6128) - كتاب الأدب - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا" ورواه مسلم وأهل السنن.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (11) - كتاب الإيمان - باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تُقَبِّلون الصِّبيان؟ فما نُقَبِّلُهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أمْلِكُ لك أن نزعَ الله من قلبك الرحمة] (1).
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، أي عليم بالمؤمن من عباده من المنافق، وبمن يستحق العلم والإيمان ممن لا يستحق، وبكل أحوال عباده وخلقه، حكيم في قسمته الإيمان والعمل والعلم والجهل والنفاق، وفي كل قدره وشرعه.
قال ابن زيد: (هؤلاء المنافقون من الأعراب، الذين إنما ينفقون رياءً، اتقاءَ أن يُغْزَوْا أو يحاربوا أو يقاتلوا، ويرون نفقتهم مغرمًا. ألا تراه يقول: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}؟ ).
قال ابن جرير: ({مَغْرَمًا}، يعني: غرمًا لزمه، لا يرجو له ثوابًا، ولا يدفع به عن نفسه عقابًا، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ}، يقول: وينتظرون بكم الدوائر، أن تدور بها الأيام والليالي إلى مكروهٍ، . . .، وغلبة عدو لكم. يقول الله تعالى ذكره: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}، يقول: جعل الله دائرة السوء عليهم، ونزول المكروه بهم).
وقال ابن كثير: ({وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع لدعاء عباده، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان).
هذا الصنف من الأعراب هو الأقرب إلى الله تعالى، وهم موضع المدح من بين ما قبلهم، فهم إنما صَدَقُوا الله الإيمان وصَدّقوا بالدار الآخرة وعملوا ما استطاعوا من القربات لرضاء ربهم ونيل استغفار نبيهم لهم، وقد وعدهم سبحانه أن يدخلهم في رحمته ويتجاوز عن سيئاتهم.
قال ابن عباس: ({وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} ، يعني: استغفار النبي عليه السلام.
وقال قتادة: (دعاء الرسول، هذه ثَنِيَّةُ الله من الأعراب).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5998) - كتاب الأدب - باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.
وقال النسفي: ({سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} أي جنته، وما في السين من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله عن المتصدقين وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يستر عيب المخل {رَحِيمٌ} يقبل جهد المقل).
وفي كنوز السنة الصحيحة من آفاق هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَصَدَّق بِعَدْل تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولا يقبل الله إلا الطَّيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يُرَبِّيها لصاحبها كما يُرَبّي أحدُكم فَلُوَّهُ حتى تكونَ مثلَ الجبل](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عَبْدًا بِعَفْوٍ إلا عِزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله عز وجل](2).
الحديث الثالث: أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مَثَلُ البخيل والمُنْفِق، كَمَثَلِ رَجُليْنِ عَليْهما جُنَّتان من حديدٍ من ثُدِيِّهِما إلى تَراقِيهما، فأما المنْفِقُ، فلا يُنْفِقُ إلا سَبَغَت، أو وَفَرَتْ على جلدِهِ حتى تُخْفيَ بنانَهُ، وتَعْفُوَ أثرَهُ، وأما البخيل، فلا يريد أن ينُفِقَ شيئًا إلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكانَها، فهو يُوَسِّعُها فلا تَتَّسِعُ](3).
قال الخطابي فيما نقله الحافظ في "الفتح"(3/ 242): (وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدق، فشبههما برجلين، أراد كل واحد منهما لبس درع يستتر به من سلاح عدوه، فصبها على رأسه ليلبسها، والدرع أول ما يقع على الرأس إلى الثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميها، فجعل المنفق كمن لبس درعًا سابغة، فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه، وجعل البخيل كمثل رجل غُلَّت يداه إلى عنقه، فكلما أراد لبسها اجتمعت إلى عنقه، فلزمت ترقوته، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره، وطابت نفسه، فتوسعت في الإنفاق، والبخيل إذا حدث نفسه بالصدقة شحت نفسه، فضاق صدره، وانقبضت يداه).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 220)، (3/ 222)، وأخرجه مسلم في الصحيح (1014).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (2588).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 241 - 242)، وأخرجه مسلم - حديث رقم - (1021).
100.
في هذه الآية: ثناء الله تعالى على السابقين للإسلام، من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، فقد رضي الله عن منهاجهم، ورضوا عن شرعه وقدره وما أعدّه لهم، في روضات الجنات تجري من تحتها الأنهار، مع الخلود في لذات النعيم، وذلك هو الفوز العظيم.
فقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصار}
قال الشعبي: (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية).
وقال قتادة: (هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قلت: ولا شك أن السبق إلى الإسلام والمسارعة إلى الحق أوائل الدعوة يندرج تحت مسمى السابقين الأولين، وقد كان في المهاجرين والأنصار أبطال ذلك وفرسانه.
وقد جعل الله للسبق في الإيمان منزلة عالية بين الناس، فذم من يحاول إيذاء الأوائل من السابقين، ممن أسلموا من بعدهم، فإن للسبق حرمة ومكانة.
وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: [كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه](1).
والحديث يشير إلى عبد الرحمن من السابقين الأولين وممن أسلم قبل الفتح وشهد بيعة الرضوان، فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان ومنهم خالد،
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2541) - كتاب فضائل الصحابة -. باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم.
فنهى أن يسب من له صحبة آخرًا من له صحبة أولًا، لامتيازهم عنهم في الصحبة.
وفي هذا يروي ابن بطة بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: [لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام مسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة](2).
وفي لفظ: قال جابر: أخبرتني أم مُبَشِّرٍ أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حَفْصة: [لا يدخل النار، إن شاء الله، مِن أصحاب الشجرة، أحدٌ من الذين بايعوا تحتها].
الحديث الثالث: يروي الترمذي بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبَّعَ عورة أخيه المسلم يتتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله](3).
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الأوائل السابقين سيكون لهم حضور في كل زمان حتى قيام الساعة، وأن الأمة لا تزال تفرز الأبطال والقادة والعلماء، وأن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته.
يروي أبو نعيم في "الحلية" بسند صحيح عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[لكل قرن من أمتي سابقون](4).
ثم أخبر صلوات الله وسلامه عليه أن هؤلاء الأوائل سيفوقهم واحد منهم ليكون السابق في ذلك الزمان.
ففي رواية أخرى عند أبي نعيم عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لكل قرن سابق].
(1) حديث صحيح. انظر تخريج الطحاوية (93)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (2/ 912).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم - (2496) - كتاب فضائل الصحابة -. وانظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7557).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2032). انظر صحيح سنن الترمذي (1655). وانظر تخريج المشكاة (5044)، وصحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (7862).
(4)
حديث صحيح. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 8)، والديلمي (2/ 333)، وسنده جيد. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2001)، وصحيح الجامع (5047)، (5048).
وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} . قال ابن جرير: (يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، طلبَ رضى الله).
وقولُه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . قال النسفي: ({رضي الله عنهم} بأعمالهم الحسنة، {وَرَضُوا عَنْهُ} بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية).
تتويج الرضا من الله سبحانه بالخلود يوم القيامة في بساتين النعيم العظيم، والأمن المقيم، والفوز الكريم.
101 -
102. قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}.
في هذه الآيات: تَنْبيهُ الله تعالى عباده المؤمنين، لوجود أعراب حولهم متسللين، من أهل النفاق ومن عاونهم ممن على طريقتهم في المدينة، دربوا على النفاق ومرنوا عليه، وقد تَوَعَّدَهُم الله بعذاب في الدنيا مرتين، ثم بالرد إلى عذاب في الآخرة عظيم.
وآخرون مؤمنون مقصرون، أهل كسل وتشاغل وتقاعس، جمعوا بين العمل الصالح ونقيضه، ربما يتوب الله عليهم، إن الله غفور رحيم.
إخبار من الله تعالى لعباده المؤمنين عن قوم منافقين يتخللون الصفوف في المدينة ومن حولها من أعراب البادية.
قال ابن زيد: ({وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}، قال: أقاموا عليه، لم يتوبوا كما تاب الآخرون).
وقال ابن إسحاق: (أي: لجُّوا فيه، وأبوا غيرَه).
وقال ابن جرير: ({مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ}، يقول: مرَنُوا عليه ودَرِبوا به).
وفي لغة العرب: تمرّد فلان إذا عتا ومرنَ على معصيته واعتادها.
قال الرازي: (المرود على الشيء المُرون عليه. قال: والماردُ العاتي).
وقوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} ، كقوله في سورة الأنفال:{لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} .
قال ابن كثير: (وقوله: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}، لا ينافي قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. . الآية. لأن هذا من باب التوسّم فيهم بصفات يُعْرَفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين. وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقًا، وإن كان يراه صباحًا ومساء).
وقوله: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} - فيه أقوال متكاملة:
1 -
قال السدي عن أبي مالك: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فيذكر المنافقين، فيعذبهم بلسانه. قال: وعذاب القبر).
2 -
وقال مجاهد: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} ، قال: القتل والسِّبَاء). أو قال: (بالجوع وعذاب القبر). أو قال: (الجوع والقتل). وقال يحيى: (الخوف والقتل).
3 -
قال قتادة: ({سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}، قال: عذابًا في الدنيا، وعذابًا في القبر).
4 -
وقال ابن زيد: (أما عذابٌ في الدنيا، فالأموال والأولاد. وقرأ قول الله: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55]، بالمصائب فيهم، هي لهم عذاب، وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الآخرة، في النار، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}، قال: النار).
هو في حال المذنبين المتأخرين عن الجهاد كسلًا وميلًا إلى الراحة، مع إثبات الإيمان لهم، فالأولون هم المنافقون المتخلفون عن الغزو شكًا وتكذيبًا، وهؤلاء هم المؤمنون المتخلفون كسلًا وتشاغلًا؛ فقد اعترفوا بالذنوب وأقروا بها، ولهم من الأعمال الصالحة ما يجعلهم تحت عفو الله ورحمته. والآية عامة في جميع المذنبين المخلطين، وإن كانت نزلت في أناس معينين، وكل "عسى" في القرآن حق.
وفي صحيح البخاري - عند تفسير هذه الآية - عن سَمُرَة بن جُندب رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: [أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبَنِ فِضّة، فتلقّانا رجالٌ، شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهم كأحْسَنِ ما أنت راءِ، وشَطْرٌ كأقْبَحِ ما أنت راءٍ، قالا لهم: اذهبوا فَقَعُوا في ذلك النَّهْر، فَوَقَعوا فيه ثم رجعوا إلينا قَدْ ذَهَبَ ذلك السوء عنهم فصاروا في أَحْسَنِ صورة، قالا لي: هذه جَنَّةُ عَدْنٍ وهذاك مَنْزِلُك، قالا: أما القومُ الذينَ كانوا شَطْرٌ منهم حَسَنٌ وشَطْرٌ منهم قبيحٌ فإنهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، تجاوز الله عنهم](1).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أي: ذو صفح عن ذنوب عباده وعفو لها إذا تابوا منها، وهو رحيم بهم يتجاوز تعذيبهم إذا أنابوا إليه.
103 -
106. قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}.
في هذه الآيات: الأمْرُ من الله لنبيِّه أخذ صدقات أموال المسلمين والدعاء لهم، فالله تعالى هو الذي يقبل توبة عباده ويأخذ بالصدقات فينمِّيها لهم.
والتوعد من الله للمتخلفين المتقاعسين بفضح أعمالهم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ثم يُرَدّون إلى ربهم فيرون عرض تفاصيل أعمالهم في صحائفهم.
وهناك آخرون أمرهم إلى الله قد يتوب الله عليهم أو يعذبهم، فهو العليم بأعمالهم وحرصهم على التوبة، الحكيم في تقديره مصيرهم.
فقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} .
أمْرٌ من الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من أموال المؤمنين صدقة معينة كالزكاة المفروضة أو غير معينة وهي التطوع، تطهرهم بها من دنس البخل والطمع والقسوة على الفقراء، وتزكي أنفسهم وتنميها بالبركات الخلقية والخيرات.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4674) - كتاب التفسير - باب قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} .
والآية عامة، وإن كان بعض المفسرين أعادوا الضمير في {أَمْوَالِهِمْ} إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا. ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون، إنما كان خاصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم، محتجين بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ، فتصدى لهم صديق الأمة وأول خلفائها، فردّ عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد وقاتلهم حتى دفعوها.
فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى. فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَنَاقًا (1) كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق](2).
والمراد بنو يربوع وكانوا جمعوا الزكاة ليخرجوها فمنعهم مالك بن نويرة وفرقها فيهم، وكان قتالهم في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
وقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} . أي: ادع لهم واستغفر لهم.
كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: [كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم. وفي رواية: (قال: اللهم صل عليهم). فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى](3).
وقوله: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} ، قال ابن عباس:(رحمة لهم). وقال قتادة: (وقار).
(1) أنثى المعز التي لم تبلغ سنة. وفي رواية: "عِقَالًا": وهو الحبل الذي يعقل به البعير.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح - حديث رقم - (1399)، (1400) - كتاب الزكاة - باب وجوب الزكاة، ورواه مسلم وأهل السنن.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1078)، وأخرجه البخاري (1497)، (4166)، (6332)، وأخرجه أبو داود (1590)، والنسائي (5/ 31)، وأحمد (4/ 353 - 355 - 381)، والطيالسي (819) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . أي: {سَمِيعٌ} لدعائك يا محمد ولكل شيء، {عَلِيمٌ} بمن هو أهل لدعوتك، وبالسر وأخفى.
أخرج الإمام أحمد في المسند، بسند صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله عز وجل يقبل الصدقات ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يُرَبِّي أحدكم مُهْرَه (1) أو فَلُوَّه أو فصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثلَ جبل أحد. قال وكيع: وتصديق ذلك في كتاب الله قوله: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}. {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}](2).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ تَصَدَّق بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كسْبٍ طيّب، ولا يقبلُ اللهُ إلا الطيِّبَ، وإنّ الله يتقبّلها بيمينه، ثم يُرَبِّيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكونَ مِثل الجبل](3).
وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .
قال مجاهد: (هذا وعيد). أي: إن الله تعالى يتوعد المخالفين أوامره والمتخلفين عن الجهاد بعرض أعمالهم، فهو يراها سبحانه ويُريها رسوله والمؤمنين في الدنيا، ثم العرض الأكبر يوم القيامة، وهو قوله:{وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].
2 -
وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9، 10].
(1) هو ولد الفرس.
(2)
حسن صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 404)، والترمذي في الجامع (662)، وأصله في صحيح البخاري (1410)، وفي صحيح مسلم (1014).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (1410)، ومسلم (1014)، والترمذي (661)، والنسائي (5/ 57)، وابن ماجه (1842)، وابن حبان (270)، وأحمد (2/ 331) من حديث أبي هريرة.
3 -
وقال تعالى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 9 - 11].
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق هذا المفهوم لعرض الأعمال في الدنيا والآخرة أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ليس أحدٌ يحاسَبُ يومَ القيامة إلا هلك. قلت: أوليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش في الحساب يهلك](1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينَه وبينه ترجمانٌ، ولا حجابٌ يَحْجُبُه، فينظرُ أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظرُ أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة](2).
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[لا عليكم أن تَعْجَبُوا بأحدٍ حتى تنظروا: بم يُختمُ له؟ فإن العاملَ يعملُ زمانًا من عمره - أو: بُرْهة من دهره - بعمل صالح لو مات عليه لدخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملًا سيئًا، وإن العبد ليعمل البرهة من دَهْره بعمل سَيَّئ لو مات عليه دخلَ النار، ثم يتحولُ فيعمل عملًا صالحًا، وإذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله قبل موته. قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: يوفِّقهُ لعمل صالحٍ ثم يقبضه عليه](3).
وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
قال مجاهد: (هلال بن أمية، ومرارة بن ربعي، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج).
وقال الضحاك: (هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة).
قال النسفي: ({إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} إن أصروا ولم يتوبوا، {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن تابوا).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4939)، وأخرجه مسلم (2876).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3/ 225)، وأخرجه مسلم (1016)(68).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 120) ، وكذلك أخرجه (3/ 223)، وله شواهد.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} ، أي برجائهم، وبكل ما يخفى وما يظهر، {حَكِيمٌ} في إرجائهم، وفي كل أمره وقدره.
وأصل الإرجاء التأخير. من أرجأته أي أخّرته. ومنه سمي "المرجئة" - لأنهم أخّروا العمل.
قال القرطبي: ({إِمَّا} في العربية لأحد أمرين، والله عز وجل عالم بمصير الأشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون، أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا).
والمقصود: أنّ "إما" في قوله تعالى: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أنها للشك بالنسبة للعباد، أي خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة، وأما الله تعالى فهو عالم بمصير كل شيء وإليه يرجع الأمر كله.
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء](1).
107 -
110. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}.
في هذه الآيات: كَشْفُ الله تعالى قصة مسجد الضرار الذي أسّسه المنافقون على
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 51) - في القدر - باب: كتب المقادير قبل الخلق. وانظر مختصر صحيح مسلم (1841)، بلفظ:"كتب الله مقادير الخلائق. .".
الكفر والنفاق وإيواء المجرمين، وتظاهرهم بالحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون.
ونَهْيُ الله نبيّه عن الصلاة فيه، فإن المسجد الأول الذي أُسِّسَ على التقوى هو الأحق للصلاة فيه، وفيه رجال مؤمنون متطهرون.
هل يستوي البنيان الذي أُسِّسَ على طاعة الله كالبنيان المؤسس على معصيته، والله لا يصلح عمل المفسدين.
لا يزال هذا البنيان القبيح نكتة سوداء في قلوب هؤلاء المنافقين حتى زوالهم عن الدنيا والله عليم حكيم.
قصّته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك في رجب (9 هـ)، هي آخر غزوة غزاها صلى الله عليه وسلم، فقد وصلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان، وأن جيشًا ضخمًا يوشك أن يكون على جاهزية لمرحلة فاصلة دامية مع المسلمين، ففرح المنافقون بهذه الأخبار، وأبْرَقَ لهم الشّيطان آمالًا من الخزي والعار، وكان أبو عامر الراهب - الذي سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاسق - قد فرَّ إلى قيصر بالشام، وكان هو الذي حزّب الأحزاب من قبل لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خذله الله لحق بالروم، وكتب إلى المنافقين في المدينة يأمرهم ببناء مسجد يتحَزّبوا به ضد رسول الله والمسلمين، وليكون بمثابة وكر للدس والتآمر يأمنون فيه، وليستعدوا لاستقباله فيه مع جيش الروم الزاحف.
قال ابن عباس: (قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا}. قال: وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأُخرج محمدًا وأصحابه! فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة)(1).
ويروي ابن إسحاق بسند حسن من حديث عاصم بن عمر بن قتادة قال: (وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا
(1) ذكره بسنده ابن جرير - تفسير الطبري -، سورة التوبة، آية (107).
فتصلي لنا فيه! فقال: إني على جناح سفر وحال شُغْلٍ - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو قد قَدِمْنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه) (1).
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وأذلّ الله أعداءه الروم وكسر شوكتهم وأهان دولتهم، وركب المسلمون هودج النصر وداسوا مُلك قيصر بأقدامهم، وقفلوا عائدين إلى المدينة، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه بذوي أوان، وهي على ساعة من المدينة، أصدر أمره هناك إلى بعض أصحابه بحرق مسجد الضرار وهدمه على أهله.
قال ابن إسحاق: (فلما نزل بذي أوان، أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالكَ بن الدُّخشم، أخا بني سالم بن عوف، ومَعْنَ بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، أخا بني العَجْلان، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه، فاهدماه وحرِّقاه. فخرجا سريعَيْن حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدُّخْشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي. فدخل إلى أهله، فأخذ سَعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرّقاه وهدّماه، وتفرّقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} إلى آخر القصة)(2).
قال مجاهد: ({وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا}، قال: المنافقون، {لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، لأبي عامر الراهب). أي "إرصادًا" له، وإعدادًا لأجل ذاك الفاسق.
وقوله: {ضِرَارًا} مفعول لأجله، أي مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء. {وَكُفْرًا} أي تقوية للنفاق وأهله، {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قال ابن زيد:(لئلا يصلي في مسجد قباء جميع المؤمنين). فأرادوا تفريقهم واختلاف كلمتهم ففضحهم الله.
وقوله: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
أي: يحلف بانوه أنهم إنما أرادوا ببنائه الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل
(1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 529 - 530)، وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1501 - 1502).
(2)
انظر سيرة ابن هشام - في أعقاب تبوك - (2/ 530)، والمرجع السابق (3/ 1536).
الضعف والعلة ومن شَقَّ عليه الوصول إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والله يشهد أنهم بحلفهم هذا يكذبون، وما أرادوا الحق ولا نصرة هذا الدين.
وقوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} - نهي من الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عن القيام أو الصلاة في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} .
قَسَمٌ من الله تعالى أن مسجد قباء الذي أسس على التقوى من أول يوم ابتدئ في بنائه هو أولى أن تقوم فيه - يا محمد - مُصَليًا.
لقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما نزل المدينة في قباء، في بني عمرو بن عوف، على كلثوم بن الهدم، أربع عشرة ليلة، وأسَّس فيها مسجد قباء، وهو أول مسجد أسس بعد النبوة وفي الإسلام.
قال ابن إسحاق: (فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده).
وقد ذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول من وضع حجرًا في قبلة المسجد، ثم جاء أبو بكر بِحَجَر فوضعه إلى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ الناس في البنيان.
أخرج البخاري في صحيحه عن عروة قال: [فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بِضْعَ عشْرَةَ ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته، فسارَ يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يُصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مِرْبَدًا للتمر، لسُهَيْل وسَهْل غلامين يتيمين في حَجْر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنزِلُ. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساوَمَهُما بالمِربَد ليتخذه مسجدًا، فقالا: لا، بل نَهَبَهُ لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلَهُ منهما هبةً حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللَّبِنَ في بنيانه ويقول، وهو ينقل اللَّبِن: هذا الحمال لا حمال (1) خيبر، هذا أبَرُّ ربَّنا وأطْهَر. ويقول: اللهم إن الأجر أجرُ الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة](2).
(1) والمراد بقوله: "لا حمال خيبر"، أي: لا ما يحمل من خيبر من التمر ونحوه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه - حديث رقم (3906) - كتاب مناقب الأنصار -.
وقد اختلف المفسرون في المقصود في قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} على وجهين:
الوجه الأول: المقصود مسجد المدينة.
فقد روى ابن جرير بإسناده إلى عثمان بن عبيد الله قال: (أرسلني محمد بن أبي هريرة إلى ابن عمر، أسأله عن المسجد الذي أسس على التقوى، أيّ مسجد هو؟ مسجد المدينة أو مسجد قباء؟ قال: لا، مسجد المدينة).
وقال زيد بن ثابت: (المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول).
الوجه الثاني: بل المقصود مسجد قُباء.
فعن ابن عباس: (قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}، يعني مسجد قُباء).
وكذلك قال ابن بريدة: (مسجد قباء، الذي أسس على التقوى، بناه نبي الله صلى الله عليه وسلم)
وقد جمع الحافظ ابن كثير بين القولين جمعًا لطيفًا حيث قال: (وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى، وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية وبين هذا، لأنه كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى).
ثم ذكر أحاديث بعضها رواه الإمام أحمد وبعضها جاء في بعض السنن وله رواية عند الإمام مسلم:
فقد أخرج الإمام أحمد في المسند عن أبي سعيد أنه قال: [تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو مسجدي](1).
ورواه مسلم عن حميد الخراط المدني قال: [سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 89)، ح (11785)، وانظر المسند (3/ 8).
أبي سعيد فقلت: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال: إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيتٍ لبعض نسائه فقلت: يا رسول الله: أين المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفًا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: [هو مسجدكم هذا](1).
واختاره ابن جرير رحمه الله، على أنه أولى القولين بالصواب.
قلت: والذي أميل إليه أن اللفظ قد أطلق في السنة الصحيحة على المسجدين معًا، فكلاهما أسس على التقوى، فإلى أيهما كان الحديث عنه سلك المعنى، فقد سبق في رواية البخاري عن عروة قوله:"فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأَسَّسَّ المسجد الذي أسس على التقوى". ثم قوله عليه الصلاة والسلام: "هو مسجدكم هذا" الذي رواه الإمام مسلم.
وقد مدح الله في القرآن المسجد الأول في الإسلام بقوله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} .
وكذلك جاء المدح من السنة المطهرة في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: [فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة](2).
الحديث الثاني: روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجدَ قباء راكبًا أو ماشيًا، فيصلي فيه ركعتين](3).
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد مسجد قباء فيزوره راكبًا وماشيًا ويصلي فيه، فَإنَّ ذِكْرَاهُ من أعطر الذكرى، فقد أسسه المسلمون على التقوى فكان بيت الحق والإيمان.
الحديث الثالث: أخرج الإمام أحمد وابن ماجه بسند صحيح من حديث سهل بن
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم (1398) - كتاب الحج.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح - حديث رقم (1396) - كتاب الحج.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (1399) - كتاب الحج -، أخرجه البخاري (1911)، (1193) نحوه، وأخرجه النسائي (2/ 47)، وأحمد رقم (4846).
حنيف مرفوعًا: [من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة](1).
وله شاهد عند الترمذي والحاكم من حديث أُسَيد بن ظُهَير الأنصاري بلفظ: [صلاة في مسجد قباء كعمرة](2).
وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} .
أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[نزلت هذه الآية في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}. قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية](3).
وأخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك:[أن هذه الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! إن الله قد أثنى عليكم في الطُّهور. فما طُهورُكم؟ قالوا: نتوضأ للصلاةِ، ونَغْتَسِلُ من الجنابة، ونستنجي بالماء. قال: فهو ذاك. فَعَلَيكُمُوه](4).
قال ابن كثير: (يقول تعالى: لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، ومن بنى مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما بنى هؤلاء بنيانهم {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}، أي: طرف حَفِيرة مُنْثَالة {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أي: لا يصلح عمل المفسدين).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 487)، (2/ 37)، وابن ماجه في السنن (1412). وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (1159).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع (324) وحسنه، وابن ماجه في السنن (1411)، والحاكم (1/ 487)، وغيرهم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (44) - كتاب الطهارة - باب في الاستنجاء بالماء. انظر صحيح أبي داود (34). وأخرجه الترمذي (3099)، وابن ماجه (357)، وله شواهد كثيرة.
(4)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجه (355) - كتاب الطهارة وسننها - باب الاستنجاء بالماء. وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (285).
وقال القرطبي: (بيّن أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. والشّفا: الشفير. وأشفى على كذا أي دنا منه). وقال أيضًا: (الشفا: الحرف والحد. و {جُرُفٍ} قُرئ برفع الراء، وأبو بكر وحمزة بإسكانها، قال: والجُرُف: ما يُتجرّف بالسيول من الأودية، وهو جوانبه التي تَنْحَفِرِ بالماء، وأصله من الجَرْف والاجتراف، وهو اقتلاع الشيء من أصله. {هَارٍ} ساقط، يقال: تهور البناء إذا سقط، وأصله هائر، فهو من المقلوب يقلب ويؤخر ياؤها).
وقوله تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
أي: لا يزال بنيان هؤلاء المنافقين في مسجد الضرار شكًا في قلوبهم ونفاقًا في نفوسهم إذ يحسبون أنهم ببنائه محسنون، إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا والله عليم بما بنوا وبما بَيَّتوا، حكيم في فضحهم بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، ثم بمجازاتهم يوم يلقونه.
قاد ابن عباس: ({لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}، يعني: شكًا، {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، يعني الموت).
وقال قتادة: (حتى يموتوا).
وقال الحسن: ({رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}: شكًا في قلوبهم).
وقال مجاهد: ({إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، قال: إلا أن يموتوا).
قال النسفي: (أي إلا أن تقطع قلوبهم قطعًا وتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه، وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، ثم يجوز أن يكون ذكر التقطع تصويرًا لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار، أو معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم).
وقرأ بعض قراء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة: (إلا أن تُقَطَّعَ قلوبهم) بضم التاء. في حين قرأ بعض قرأة المدينة والكوفة: {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} بفتح التاء، بمعنى إلا أن تتقطَعَ قلوبهم، ثم حذفت إحدى التاءين، وكلاهما قراءتان مشهورتان.
فوائد من الآيات:
الفائدة الأولى: هدم الحاكم المسلم لأماكن المعصية وتجمعات النفاق، أو تغيير هيئاتها عما وضعت له، ولا حرمة لوقف إن بُني على معصية أو نفاق.
ومنه حرق النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد الضرار وهدمه، والنهي عن استخدام مرافق ديار ثمود.
قال ابن القيم: (ومنها: تحريق أمكنة المعصية التي يُعصى الله ورسولهُ فيها وهدمُها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار، وأمر بهدمه، وهو مَسْجدٌ يُصَلّى فيه ويذكر اسم الله فيه، لما كان بناؤه ضِرارًا وتفريقًا بين المؤمنين، ومأوى للمنافقين، وكلُّ مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته، وإخراجه عما وُضِعَ له. وإذا كان هذا شأن مسجد الضرار، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أندادًا من دون الله أحق بالهدم وأوجب، وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات، وبيوت الخمارين، وأرباب المنكرات).
ثم قال: (ومنها: أن الوقف لا يصح على غير برٍّ ولا قُربة، كما لم يصحَّ وقفُ هذا المسجد، وعلى هذا: فيُهدم المسجد إذا بني على قبر، كما يُنْبَشُ الميتُ إذا دُفِنَ في المسجد، نصّ على ذلك الإمام أحمد وغيرُه، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجدٌ وقبر، بل أيّهما طرأ على الآخر، منع منه، وكان الحكم للسابق).
الفائدة الثانية: كراهة الصلاة خلف إمام الحاكم الظالم.
وقد استفاده أهل العلم من قصة مسجد الضرار وإمامه.
قال القرطبي في التفسير: (قال العلماء: إنَّ مَنْ كان إمامًا لظالم لا يُصَلّى وراءه، إلا أن يظهر عذره أو يتوب، فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمِّع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم، فقال: لا ولا نعْمَة عين! أليس بإمام مسجد الضرار! فقال له مُجَمِّع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت بهم فيه، كنت غلامًا قارئًا للقرآن، وكانوا شيوخًا قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئًا، فَصَلّيْتُ ولا أحسب ما صنعتُ إثمًا، ولا أعلم بما في أنفسهم، فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء).
الفائدة الثالثة: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، ولا يبنى مسجدان إلى جانب بعضهما دون حاجة.
قال القرطبي: (قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبْنَى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرًا، إلا أن تكون المحَلّة كبيرة فلا يكفي أهلَها مسجدٌ واحد فيبنى حينئذ.
ثم قال: تَفَطَّنَ مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافًا لسائر العلماء.
وقد رُوي عن الشافعي المنع، حيث كان تشتيتًا للكلمة وإبطالًا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم) (1).
111 -
112. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}.
في هذه الآيات: إخبار الله تعالى عن صفقة رابحة عقدها سبحانه مع المؤمنين، فقد بايعهم فأغلى لهم الثمن بمعاوضته إياهم عن أنفسهم وأموالهم الجنة، فهم يقاتلون في سبيله فيَقْتُلون ويُقتلون، وهذا وعد مكتوب في التوراة والإنجيل والقرآن، فمن أحسن وفاء وأصدق عهدًا من الله، فاستبشروا يا أهل الصدق والجهاد بهذا الربح العظيم.
ثم في الآيات وَصْفٌ من الله لهؤلاء المؤمنين أصحاب تلك الصفقة بنعت بعض مزاياهم ومحاسنهم مع تأكيد البشرى لهم.
(1) انظر تفصيل هذه الأحكام، في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (3/ 1544 - 1546).
فقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} .
قال قتادة: (ثامَنَهم الله، فأغلى لهم الثمن).
وقال الحسن: (بايعهم فأغلى لهم الثمن).
وقال شِمر بنُ عَطِيَّة: (ما من مسلم إلا ولله عز وجل في عنقه بيعةٌ، وَفى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية).
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه عاوضَ عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذا بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تَفَضَّل به على عباده المطيعين له).
وفي كنوز السنة الصحيحة آفاق هذا المعنى في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[انتدب الله لمن خَرَجَ في سبيله لا يُخْرِجُهُ إلا إيمانٌ بي وتصديقٌ بِرسلي أَنْ أرْجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمة أو أُدخله الجنة](1).
وفي لفظ: [وتَوَكّلَ الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يُدْخله الجنة أو يرْجِعَهُ سالمًا مع أجر أو غنيمة].
وفي لفظ آخر: [تكفّلَ الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلماته، بأن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة].
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: [قيل: يا رسول الله! أيُّ الناسِ أفضلُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُؤْمِنٌ يجاهِدُ في سبيل الله بنفسه وماله. قالوا: ثم مَنْ؟ قال: مؤمنٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعابِ يتقي الله ويدعُ الناس من شَرّه](2).
الحديث الثالث: أخرج الحميدي في "مسنده" بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (36) - كتاب الإيمان - باب الجهاد من الإيمان. وانظر (2787) للفظ الآخر - كتاب الجهاد والسير -. وصحيح الجامع الصغير - حديث (2982) - للفظ بعده.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2786) - كتاب الجهاد والسير - باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. وأخرجه في كتاب الرقاق (6494) بنحوه.
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازيًا في سبيل الله، ورجل خرج حاجًا](1).
وقوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} . أي: هو ضمان لهم بالجنة سواء قَتلوا أو قُتلوا. فإنه بمجرد خروج المجاهد في سبيل الله يدخل في عقد هذا الضمان.
ففي سنن أبي داود ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن أبي أمامة الباهلي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ثلاثة كلهم ضامن على الله: رجل خرج غازيًا في سبيل الله فهو ضامنٌ على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يردَّه بما نال من أجر أو غنيمة، ورجلٌ راحَ إلى المسجد فهو ضامنٌ على الله حتى يتوفاه فيدخلَه الجنة أو يردّه بما نال من أجر، ورجلٌ دخلَ بيتَهُ بسلام، فهو ضامنٌ على الله](2).
وقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} .
قال القرطبي: (إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب، وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام.
وقال النسفي: (وهو دليل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه).
وقوله: {وَعْدًا} مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلًا.
وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} . أي: ومن أحسن وفاء وأصدق عهدًا وأوفى ضمانًا من الله تعالى، وهو كقوله في سورة النساء:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} . وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} .
وقوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
قال الحسن: (والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة).
ومعنى الآية: أظهروا السرور - معشر المؤمنين - بهذه البشارة، وليستبشر من حفظ هذا العهد وقام بالتزاماته بالفوز العظيم، في جنة الخلود والنعيم.
(1) أخرجه الحميدي في "مسنده"(1190)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 251)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - (598) - وقال الألباني: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن - حديث رقم - (2494) - كتاب الجهاد - انظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم - (2178)، ورواه الحاكم.
وأصل البشارة إظهار السرور في البشرة. قال الرازي: ("أبشر إبشارًا" أي سُرَّ. قال: والبشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير، وإنما تكون بالشر إذا كانت مقيدة به كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}).
هو وصف للمؤمنين أصحاب تلك الصفقة ببعض مزاياهم ومحاسنهم.
{التَّائِبُونَ} ، رُفِعَ على المدح أي هم التائبون، أو مبتدأ وخبر. وهم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله، إلى الحالة المحمودة، وهي موضع طاعته ورضاه سبحانه.
قال الحسن: (تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق).
وقال: (تابوا إلى الله من الذنوب كلها).
وأما قوله: {الْعَابِدُونَ} ، قال ابن جرير:(فهم الذين ذلُّوا خشيةً لله وتواضعًا له، فجدُّوا في خدمته).
قال الحسن: (العابدون لربهم. عبدوا الله على أحايينهم كلها، في السراء والضراء).
وقال قتادة: ({الْعَابِدُونَ}، قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم).
والخلاصة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} - إنهم قوم اعترفوا بذنوبهم وتخلصوا منها بالتوبة وارتقوا بالعبادة فمدحهم الله تعالى بذلك.
وفي معجم الطبراني بسند حسن عن أبي سعيد الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له](1).
وأما قوله: {الْحَامِدُونَ} ، فهم أهل الحمد على كل تقلبات أحوالهم في السراء والضراء.
قال قتادة: ({الْحَامِدُونَ}، قوم حمدوا الله على كل حال).
(1) إسناده حسن. رواه الطبراني بإسناد حسن. انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (6679)، وكتابي: أصل الدين والإيمان (1/ 275) لتفصيل البحث.
وعن الحسن: (الحامدون على الإسلام). وقال: (الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها، في السراء والضراء).
أخرج ابن ماجه بسند حسن عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله تعالى على عبدٍ نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ](1).
وله شاهد عند الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[ما أنعم الله على عبد نعمة فحمدَ الله عليها إلا كان ذلك الحمد أفضلَ من تلك النعمة].
وعن كعب يحكي عن التوراة - في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمته - قال: (وأمته الحمادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل شرف)(2).
وفي صحيح الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان إذا أتاه الأمر يَسُرُّه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال](3).
وأما قوله: {السَّائِحُونَ} ، ففيه أقوال:
القول الأول: المقصود أهل الصيام.
قال قتادة: (قوم أخذوا من أبدانهم، صومًا لله).
وقال مجاهد: ({السَّائِحُونَ}، هم الصائمون).
القول الثاني: المقصود طلبة العلم.
قال عكرمة: (هم طلبة العلم).
القول الثالث: المقصود أهل الجهاد.
قال عطاء: (السائحون: المجاهدون).
القول الرابع: هم المهاجرون.
(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجه في السنن (3805) - كتاب اللباس - باب فضل الحامدين. انظر صحيح سنن ابن ماجه (3067)، وانظر للشاهد صحيح الجامع الصغير (5438).
(2)
انظر تخريج المشكاة (5771)، كتاب الفضائل والشمائل. ورواه الدارمي مع تغيير يسير.
(3)
أخرجه الحاكم (1/ 499)، وأخرج نحوه ابن ماجه (2/ 422). وانظر السلسلة الصحيحة (265).
قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ورواه ابن أبي حاتم.
قلت: والراجح القول الثالث، لورود الخبر الصحيح في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي أمامة: أن رجلًا قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:[إنَّ سِيَاحةَ أمتي الجهادُ في سبيل الله تعالى](1).
وأما قوله: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} ، يعني المصلين، أهل الركوع والسجود بالمحافظة على صلواتهم.
قال الحسن: ({الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ}، قال: الصلاة المفروضة).
وأما قوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، صفة لازمة لأتباع هذا النبي الكريم، عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم.
قال الحسن: ({الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}: أما إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها، {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال: أمَا إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه).
أخرج ابن ماجه في السنن بسند حسن عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [مُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تَدْعُوا فلا يُسْتَجاب لكم](2).
وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا. فكان فيما قال:[ألا، لا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا، هَيْبَةُ الناس، أن يقولَ بِحَقٍّ، إذا عَلِمَه]. قال: فبكى أبو سعيد، وقال: قد والله! رأينا أشياء، فهبنا.
وفي لفظ: [لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه](3).
وأما قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} ، قال ابن عباس: (يعني القائمين على طاعة
(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود (2486) - كتاب الجهاد - باب النهي عن السياحة، وانظر صحيح سنن أبي داود - حديث رقم (2172)، وأخرجه الحاكم (2/ 73)، والديلمي (777).
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن ماجه في السنن (4004) - كتاب الفتن - باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وانظر صحيح سنن ابن ماجه - حديث رقم - (3235).
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2/ 30)، وابن ماجه (4007)، والحاكم (4/ 506)، وأحمد (3/ 19، 50، 61)، وأبو يعلى (ق 72/ 1)، وانظر:"الصحيحة"(168).
الله، وهو شرطٌ اشترطه على أهل الجهاد، إذا وَفَوا لله بشرطه، وفى لهم بشرطهم).
وقال الحسن: ({وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}: القائمون على أمر الله).
وعنه في رواية: ({وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} قال: لفرائض الله).
وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . قال ابن جرير: (يعني: وبشر المصدِّقين بما وعدهم الله إذا هم وفَّوا الله بعهده، أنه مُوَفٍّ لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة).
113 -
116. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)}.
في هذه الآيات: نَهْيُ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أهل رحم وقرابة بعدما تبين لهم مصير المشركين.
وتبرير استغفار إبراهيم لأبيه أول الأمر، فلما تبين له عداوته لله أعلن البراءة منه، إن إبراهيم لأواه حليم.
إنه لا يضل الله قومًا إلا بعد توضيح السبيل لهم، فإن أصروا على الفسق والغي خذلهم، إنه سبحانه بكل شي عليم.
إن سلطان السماوات والأرض وملكهما - أيها الناس - بيد ربكم، وقلوب الثقلين بين أصبعين من أصابع بارئكم، فهو يحيي ويهدي من يشاء، ويميت ويضل من يشاء، وما لكم من دون الله من نصير ولا مجير ولا معين.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنسائي عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن
المسيب عن أبيه أنه أخبره: [أنه لما حَضَرَتْ أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدَ الله بنَ أبي أمية بن المغيرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى فيه الآية].
وفي رواية: (فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. ونزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ})(1).
فنهى الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد هذه الآية أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا قرابة ورحمًا فضلًا عن أن يحضروا أو يشهدوا جنائزهم، في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [استأذنت ربي أن أَسْتَغْفِرَ لأمي فلم يأذَنْ لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذِنَ لي](2).
وفي رواية: [قال أبو هريرة: زار النبي صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أمه، فبكى وأبْكَى من حَوْلَه فقال صلى الله عليه وسلم: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلمْ يؤذنْ لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذِنَ لي، فزوروا القبور، فإنها تُذَكِّرُكُم الموت].
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن ابن بُرَيدة، عن أبيه، قال: [كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نحن في سفر فنزل بنا ونحن معه قريبٌ من ألف راكب، فصَلّى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذْرِفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفَداه بالأب والأم، وقال: يا رسول الله، مالك؟ قال: إني سألت ربي عز وجل في الاستغفار لأمّي، فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، وإني كنت نهيتكم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1360)، (4772)، ومسلم (24)، والنسائي في "التفسير"(250)، وأخرجه أحمد في المسند (5/ 533).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (976) - كتاب الجنائز - باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه. وانظر للرواية الأخرى الحديث بعده في الباب.
عن ثلاث: نَهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فتذكركم زيارتُها خيرًا. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم. ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرًا] (1).
وله شاهد أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن سليمان بن بُريدة، عن أبيه:[أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قَدِمَ مكّة أتى رَسْمَ قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا. فقلنا: يا رسول الله، إنا رأينا ما صنعت! قال: "إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي". فما رُئي باكيًا أكثر من يومئذ](2).
الحديث الثالث: أخرج أبو داود بسند صحيح عن علي قال: [قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عمَّك الشيخ الضال قد مات، قال: "اذهبْ فوَارِ أباكَ، ثمَّ لا تُحْدِثَنَّ شيئًا حتى تأتيني". فذهبت فواريته، وجئته، فأمرني فاغتسلت، ودعا لي](3).
قلت: بل من السنة عدم حضور الإمام جنازة أهل الكبائر ولا الصلاة عليهم، وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم عن جابر بن سَمْرَة قال: [أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ (4)، فلم يُصَلِّ عليه](5).
الحديث الثاني: أخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن أبي قتادة قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي لجنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيرٌ قام فصلى عليها، وإن أثني عليها غير ذلك قال لأهلها: شأنكم بها، ولم يصل عليها](6).
الحديث الثالث: أخرج أصحاب السنن بسند صحيح من حديث زيد بن خالد - في
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 350 - 355)، وابن حبان (5390)، وانظر نحوه في صحيح مسلم - حديث (977)، و (3/ 1584)، وانظر الحديث السابق برواياته.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطبري (17344)، وإسناده على شرط مسلم، وذكره الحافظ ابن كثير في التفسير - سورة التوبة - آية (113) بإسناده.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (3214) - كتاب الجنائز - باب الرجل يموت له قرابة مشرك. وانظر صحيح سنن أبي داود (2753)، وسنن النسائي (4/ 79).
(4)
سهام عظام، جمع مشقص.
(5)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (978) - كتاب الجنائز - باب ترك الصلاة على القاتل نفسه.
(6)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 399)، (5/ 300 - 301)، والحاكم (1/ 364)، وقال "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وقال الألباني:(هو كما قالا) - أحكام الجنائز (84).
امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال - وقال لأصحابه: [صلوا على صاحبكم. . إن صاحبكم غل في سبيل الله](1).
قال ابن عباس: (استغفر له ما كان حيًّا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له).
وقال الضحاك: (كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيًّا، فلما مات على شركه تبرأ منه).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد. فيقول الله تعالى: إني حرّمت الجنة على الكافرين. ثم يقال لإبراهيم: ما تحتَ رجليك؟ فينظر فإذا هو بِذيخ متلطِّخ فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار](2).
وفي معنى "الأواه" - أقوال متقاربة:
1 -
قال عبد الله بن مسعود: (الأواه: الدعّاء)، ذكره ابن جرير بسنده ورجَّحه.
2 -
وسئل عبد الله - في رواية - عن "الأواه"، فقال (الرحيم).
وقال الحسن: (الرحيم بعباد الله).
وقال عمرو بن شرحبيل: (الأواه: الرحيم، بلحن الحبشة).
3 -
وقال مجاهد، عن ابن عباس:(الأواه: الموقن، بلسان الحبشة)، وقال سفيان نحوه.
وقال مجاهد: (أوّاه: مؤتمن موقن). وقيل: (الفقيه الموقن).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1/ 425)، والنسائي (1/ 278)، وابن ماجه (2/ 197)، وأحمد (4/ 114) من حديث زيد بن خالد، وإسناده صحيح.
(2)
حديث صحيح. انظر مختصر صحيح البخاري - حديث رقم - (1344). والقترة: السواد من الكآبة والحزن. والذيخ: هو ذكر الضبع الكثير الشعر.
4 -
وعن ابن عباس: (الأواه: المؤمن). وقيل هو المسبّح، الكثير الذكر لله. وقيل الخاشع المتضرع.
قال مجاهد: (بيانُ الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعتُهُ ومعصيتُهُ عامة، فافعلوا أو ذروا).
وفي الآية: إقامة الحجة من الله تعالى على عباده قبل تغييره أحوالهم، فإن آمنوا وصدقوا وشكروا زادهم نعيمًا ورزقًا كريمًا، وإن فسقوا وآثروا الشهوات والشبهات والغي أضلهم وأزاغ قلوبهم، إنه بكل أحوال خلقه وبكل شيء عليم.
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
2 -
وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17].
3 -
وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
ومن كنوز السنة الصحيحة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ أحَدٌ أحبَّ إليه المَدْحُ من الله عز وجل، من أجل ذلك مَدَحَ نَفْسَه، وليس أحدٌ أغْيَرَ من الله، من أجل ذلك حَرمَ الفواحشَ، وليس أحَدٌ أحبَّ إليه العُذْرُ من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل](1).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند، ومسلم في الصحيح عن حذيفة مرفوعًا: [تعرضُ الفِتنُ على القلوب عرضَ الحصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قلب أُشربَها نُكِتَت فيه نكتةٌ سوداءُ، وأيُّ قلب أنكرَها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تضُرُّه فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودَ مُرْبَدًا
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2760) ح (35) - كتاب التوبة - باب غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، من حديث عبد الله بن مسعود.
كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر مُنكرًا، إلا ما أشرب من هواه] (1).
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} .
يقرر تعالى في آخر تلك الآيات أن سلطان السماوات والأرض وملكهما بيده، وقلوب عباده بيده، وحياتهم وموتهم ومعاشهم وأرزاقهم بيده، يحيي من شاء منهم ويميت من شاء، ويهدي من شاء منهم ويضل من شاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا نصير ولا مُجير من عذاب الله إلا أمره تعالى ورضاه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قال الله عز وجل: يَسُبُّ ابْنُ آدمَ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بيدي الليلُ والنهار](2).
وفي رواية: [يؤذيني ابن آدم، يسُبُّ الدهر، وأنا الدَّهْر، أقلب الليل والنّهار].
وفي رواية: [قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابنُ آدم، يقول: يا خيبةَ الدَّهر! فلا يقولَنَّ أحدُكم: يا خيبة الدَّهر! فإني أنا الدَّهْر، أُقَلِّبُ ليله ونهارَهُ، فإذا شئتُ قبضتُهما].
117.
في هذه الآية: يخبر تعالى أنه أعان نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم والمهاجرين ديارَهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله عليه الصلاة والسلام، على طاعته وامتثال أمره في الغزو ساعة العسرة منهم من النفقة والظَّهر والزاد والماء، من بعد ما كاد يضعف بعضهم وتميل قلوبهم عن الصدق والحق، ثم رزقهم سبحانه الإنابة والرجوع إلى الثبات واليقين في الإيمان والدين، إنه تعالى رؤوف بضعفهم رحيم بهم أن يهلكهم.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 89 - 90). وانظر مختصر صحيح مسلم (1990)، ورواه أحمد وغيره، انظر صحيح الجامع الصغير - حديث رقم - (2957).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2246) - كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها - باب النهي عن سب الدهر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال مجاهد: ({سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}: غزوة تبوك. قال: {الْعُسْرَةِ}، أصابهم جَهْدٌ شديد، حتى إن الرَّجُلين ليشقَّان التمرة بينهما، وإنهم ليمصُّون التمرة الواحدة، ويشربون عليها الماء).
وعن قتادة قال: (قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية، الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قِبَلَ الشام في لهبان الحرّ، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديد، حتى لقد ذُكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم، يَمصُّها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصّها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم).
يروي ابن جرير بسند حسن عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة فقال عمر: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلًا، فأصابنا فيه عطشٌ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمسِ الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد عوَّدك في الدعاء خيرًا، فادع لنا. قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر)(1).
118 -
119. قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ الله خبر المخلفيق الثلاثة، الذين تخلفوا عن تبوك، وكيف ضاقت عليهم أنفسهم، وحاصرهم الوحي حتى رضي الله عنهم توبتهم، فأنزل فرجه عليهم، وهو التواب الرحيم.
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير، (17443)، سورة التوبة آية (117)، وإسناده حسن، رجاله ثقات.
ودعوة الله تعالى عباده المؤمنين ليخلصوا له التقوى وليكونوا مع الصادقين.
أخرج الإمام البخاري في كتاب المغازي من صحيحه، والإمام مسلم في كتاب التوبة، واللفظ للبخاري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب رضي الله عنه من بنيه حين عَمِيَ، قال: سمعت كعب بن مالك رضي الله عنه يحدث بحديثه حين تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك:
قال كعب: [لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها إلا في غزوة تبوك، غيرَ أني كنتُ تَخَلَّفْتُ في غزوة بدْرٍ ولم يُعَاتِب أحدًا تخلَّف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ العقبة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أحِبُّ أنَّ لي بها مَشْهدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكرَ في الناس منها، وكان من خبري حين تخلَّفْتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكُنْ قط أقوى ولا أيسرَ حين تخلّفتُ عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جَمَعْتُهُما في تلك الغزوة، ولم يَكُنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُريد غزوة إلا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا، ومفازًا وعدوًّا كثيرًا، فجلّى للمسلمين أمْرَهم ليتأهبوا أُهْبَةَ غَزْوِهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتابٌ حافظ، يريد الدِّيوان. قال كعب: فما رجل يريد أن يتَغَيَّبَ إلا ظنَّ أن سيخفى له، ما لم ينزِل فيه وحيُ الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفِقْتُ أغْدو لكي أتجهَّزَ معهم، فارجِعُ ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجِدُّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقضِ مِنْ جَهازي شيئًا، فقلت أتجهزُ بعده بيوم أو يومين ثم ألْحَقُهُم، فَغَدَوْتُ بعد أن فَصَلُوا لأَتَجهَّز، فرجَعْتُ، ولم أقْضِ شيئًا، ثم غَدَوْتُ، ثم رجعت ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزلْ بي حتى أسْرعوا وتفارطَ الغزو، وهَمَمْتُ أن أرتَحِلَ فأدركَهم، وليْتني فعلتُ، فلم يُقَدَّر لي ذلك، فكنتُ إذا خرجتُ في الناسِ بَعْدَ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطُفْتُ فيهم، أحزنَني أني لا أرى إلا رجلًا مَغْمُوصًا عليه النفاقُ، أو رجلًا ممن عَذَرَ الله من الضعفاء، ولم يذكُرْني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك:"ما فعل كعب؟ ".
فقال رجل من بني سَلمَة: يا رسول الله، حَبَسَهُ بُرْدَاه، ونَظَرُهُ في عِطْفَيْه.
فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلتَ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجَّهَ قافلًا حضرني هَمِّي، وطفِقْتُ أتذكَّرُ الكذِبَ وأقول: بماذا أخرجُ من سَخَطِه غدًا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأيٍ من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا زاحَ عني الباطِلُ، وعرفت أني لنْ أخرجَ منه أبدًا بشيء فيه كَذِبٌ، فأجمعت صِدْقَه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قدِمَ من سَفَرٍ بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون، فطفِقُوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بِضْعَةً وثمانين رجلًا، فقبِلَ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانِيَتَهُم، وبايعهم واستغفَرَ لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فَجئتُهُ، فلما سَلَّمْتُ عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَب، ثم قال: تعالَ. فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: ما خَلَّفَكَ، ألم تَكُنْ قد ابْتَعْتَ ظهركَ؟ فقلت: بلى، إني والله - يا رسول الله - لو جَلَسْتُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أنْ سأخْرُجُ من سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، ولقد أعطيتُ جدلًا، ولكني والله، لقد علمتُ لئن حَدَّثْتُكَ اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني، ليوشِكَنَّ الله أن يُسْخِطَكَ عليَّ ولئن حَدَّثْتُكَ حَديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عَفْوَ الله، لا والله، ما كان لي من عُذْرٍ، والله ما كنْتُ قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تَخَلَّفْتُ عنك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا هذا فقد صَدَقَ، فَقُمْ حتى يقضي الله فيكَ.
فَقُمْتُ، وثارَ رجالٌ من بني سَلِمَةَ فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما عَلِمْنَاكَ كنتَ أذْنَبْتَ ذنبًا قبل هذا، ولقد عَجَزْتَ أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذَنْبَكَ استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.
فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجعَ فأكذِّبَ نَفْسي، ثم قلت لهم: هل لَقِيَ هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مِثْلَ ما قُلْتَ، فقيل لهما مِثْلُ ما قيل لك، فقلت: مَنْ هُما؟ قالوا: مُرَارَةُ بنُ الرَّبيع العَمْرِيُّ، وهلالُ بن أميَّةَ الواقِفيُّ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بَدْرًا، فيهما أسوةٌ، فَمَضَيْتُ حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثةُ من بين من تخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكَّرَتْ في نفسي الأرضُ فما هي التي أعْرِفُ، فلبثنا على ذلك
خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنْتُ أشَبَّ القومِ وأجلدَهم، فكنت أخرجُ فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمُّ عليه وهو في مجلسِهِ بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هَلْ حرّك شفَتيْه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فَأُسَارِقُهُ النَّظر (1)، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليّ، وإذا التفَتُّ نَحوَهُ أعْرَض عني، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جَفْوَةِ الناس، مشيتُ حتى تَسَوَّرْتُ جدار حائطِ أبي قتادة، وهو ابنُ عمّي وأحَبُّ الناس إليَّ، فَسَلّمْتُ عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلامَ، فقلت: يا أبا قتادةَ، أَنْشُدُكَ بالله هل تَعْلَمُني أحِبُّ الله ورسوله؟ فسكت، فَعُدْتُ له فنَشَدْتُه فسكت، فعدْتُ له فنشدتُهُ، فقال: الله ورسوله أعْلَمُ، ففاضت عَيْنايَ وتَوَلَّيْتُ حتى تَسَوَّرْتُ الجدار.
قال: فبَيْنَا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نَبَطيٌّ من أنباط أهل الشَّأمِ، ممن قَدِمَ بالطعام يبيعُهُ بالمدينة، يقول: مَنْ يَدُلُّ على كعب بن مالك، فَطَفِقَ الناسُ يُشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتابًا مِنْ مَلِكِ غسَّان، فإذا فيه: أمّا بعد، فإنه قد بلغني أن صاحِبَكَ قدْ جفاكَ، ولم يَجْعَلْكَ الله بدار هوانٍ ولا مَضْيَعَةٍ، فالحقْ بنا نواسِكَ. فقلت لما قرأتُها: وهذا أيضًا من البلاء. فتيمَّمْتُ بها التَّنُور فَسَجَرْتُهُ بها، حتى إذا مَضَتْ أربعون ليلةً من الخمسين، إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُكَ أن تعتزلَ امرأتَكَ، فقلتُ: اُطَلِّقُها أمْ ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتَزِلْها ولا تَقْربْها. وأَرسلَ إلى صاحِبَيَّ مِثْلَ ذلكَ، فقلتُ لامرأتي: الحقي بأهلك، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلالِ بن أميّةَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلالَ بن أمية شيخٌ ضائِعٌ ليسَ له خادِمٌ، فهل تَكْرَهُ أن أخْدِمَهُ؟ قال: لا، ولكنْ لا يَقْرَبْكِ. قالتْ: إنه والله ما بِهِ حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي مُنْذُ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتِكَ، كما أذِنَ لامرأة هلال بن أمية أن تَخْدُمَهُ؟ فقلت: والله لا أستأذِنُ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يُدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُهُ فيها، وأنا رجل شابٌّ؟ فلبثْتُ بعد ذلك عَشْرَ ليال،
(1) قال الحافظ في الفتح: (وفيها أن مسارقة النظر في الصلاة لا تقدح في صحتها).
حتى كَمُلَتْ لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صَلَّيْتُ صلاةَ الفجر صُبْحَ خمسين ليلة، وأنا على ظَهْرِ بَيْتٍ من بيوتنا، فَبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكرَ اللهُ، قد ضاقتْ عليَّ نَفْسي، وضاقتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صارخٍ، أوفى على جبل سَلْعٍ، بأعلى صَوْتِهِ: يا كعبُ بنَ مالك أبْشِر، قال: فخررْتُ ساجدًا، وعرفتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ، وآذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبةِ الله علينا حين صلّى صلاة الفجر فذهب الناس يبشِّرونَنا، وذَهَبَ قِبَلَ صاحِبَيَّ مُبَشِّرون، وركضَ إليَّ رجُلٌ فَرسًا، وسعى ساعٍ من أسْلَمَ، فأوفى على الجبل، وكان الصَّوتُ أسرعَ من الفرس، فلما جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَهُ يُبَشِّرُني نزعتُ له ثَوْبَيَّ، فكَسَوْتُهُ إياهما بِبُشْراه، والله ما أمْلِكُ غَيْرَهُما يَوْمَئِذٍ، واستَعَرْتُ ثوبين فلبِسْتُهُما، وانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلقاني الناس فَوْجًا فَوْجًا، يهنُّونَني بالتوبة يقولون: لتهنِكَ توبةُ الله عليك.
قال كعب: حتى دخلتُ المسجدَ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ حوْلَهُ الناسُ، فقام إليَّ طلحةُ بنُ عُبَيد الله يُهرولُ حتى صافحني وهَنَّاني، والله ما قام إليَّ رجُلٌ من المهاجرين غَيْرُهُ، ولا أَنْسَاها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يَبْرُقُ وَجْهُهُ من السرور: أبْشِرْ بخيرِ يوم مرَّ عليك مُنْذُ وَلدَتْكَ أمُّكَ.
قال: قلت: أمِنْ عِندك يا رسولَ الله، أم من عندِ الله؟ .
قال: لا بل من عند الله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حتى كأنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وكنا نَعْرِفُ ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلتُ: يا رسولَ الله، إن من تَوْبتي أن أنْخَلِعَ مِنْ مالي صدقةً إلى الله وإلى رسول الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمْسِك عليك بَعْضَ مالِكَ فهو خَيْرٌ لك.
قلتُ: فإني أُمْسِكُ سَهْمي الذي بخيبرَ، فقلتُ: يا رسول الله، إن الله إنّما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحَدِّثَ إلا صِدْقًا ما بقيتُ.
فوالله ما أعلمُ أحدًا من المسلمين أبْلاه الله في صدْق الحديث مُنْذُ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسَنَ مما أبلاني، ما تَعَمّدْتُ منذُ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ
تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} - إلى قوله -: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} .
فوالله ما أنعمَ الله عليَّ مِنْ نعمةٍ قطُّ، بعد أنْ هداني للإسلام، أعظم في نفسي مِنْ صِدْقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته فاهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا - حين أنزل الوحيَ - شرَّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} - إلى قوله -: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
قال كعب: وكنا تُخِلِّفْنَا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} ، وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفْنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا، عَمَّن حلف له واعتذر إليه فقبل منه] (1).
قال عكرمة: ({وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قال: خلفوا عن التوبة).
وقال مجاهد: (الذين أرجئوا).
وقال نافع: (قيل للثلاثة الذين خلِّفُوا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، محمد وأصحابه).
وقال الضحاك: ({وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رحمةُ الله عليهم).
وقال ابن جُريج: (مع المهاجرين الصادقين).
قال ابن القيم: (وتأمل تكرِيرَه سبحانه توبتَهُ عليهم مرتين في أول الآية وآخرِها، فإنه تاب عليهم أولًا بتوفيقهم للتوبة، فلما تابوا، تاب عليهم ثانية بقبولها منهم، وهو الذي وفقهم لفعلها، وتفضل عليهم بقبولها، فالخير كله منه وبه، وله وفي يديه، يعطيه من يشاءُ إحسانًا وفضلًا، ويحرمه من يشاء حكمة وعدلًا)(2).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4418) - كتاب المغازي -، وأخرجه مسلم في صحيحه، حديث رقم (2769) - كتاب التوبة -، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 456 - 459).
(2)
انظر: "زاد المعاد"(3/ 592)، وكتابي: السيرة النبوية (3/ 1550 - 1553) لتفصيل البحث.