المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجمع بين نفي العدوى وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح: - معارج القبول بشرح سلم الوصول - جـ ٣

[حافظ بن أحمد حكمي]

فهرس الكتاب

- ‌فَصْلٌ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ

- ‌الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِعِلْمِ اللَّهِ عز وجل الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ

- ‌الْإِيمَانُ بِكِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ خَمْسَةُ تَقَادِيرَ:

- ‌الْأَوَّلُ" التَّقْدِيرُ الْأَزَلِيُّ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

- ‌الرَّابِعُ التَّقْدِيرُ الْحَوْلِيُّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

- ‌الْخَامِسُ التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ وَهُوَ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ

- ‌الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

- ‌ الْقَدَرُ السَّابِقُ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ

- ‌ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ:

- ‌الْكَلَامُ عَلَى النَّوْءِ:

- ‌مَا وَرَدَ فِي الْعَدْوَى:

- ‌الْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ:

- ‌[[الفصل العاشر: في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين]]

- ‌1- الْإِيمَانُ يزيد وينقص:

- ‌2- تُفَاضُلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ:

- ‌3- فَاسْقُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ:

- ‌4- الْعَاصِي لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ:

- ‌[6 - التَّوْبَةُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ شُرُوطُهَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ] :

- ‌[شُرُوطُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ] :

- ‌[[الفصل الحادي عشر معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]]

- ‌مَوْلِدُهُ

- ‌[دَعْوَتُهُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ]

- ‌حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

- ‌[هَلْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ] :

- ‌حَدِيثُ الْهِجْرَةِ:

- ‌الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ:

- ‌وَفَاتُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:

- ‌تَبْلِيغُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رِسَالَةَ اللَّهِ:

- ‌[أَعْظَمُ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْقُرْآنُ] :

- ‌[[الفصل الثاني عشر: فيمن هو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصحابة بمحاسنهم، والكف عن مساوئهم وما شجر بينهم، رضي الله عنهم]]

- ‌الْكَلَامُ عَلَى التَّابِعِينَ رضي الله عنهم:

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ السُّكُوتِ عَمَّا كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم:

- ‌ تَحْرِيمِ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ

- ‌ عِظَمِ إِثْمِ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ:

- ‌كُلُّ مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ يُحْتَكَمُ فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

الفصل: ‌الجمع بين نفي العدوى وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح:

وَلَهُمَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ" هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ1.

وَالْأَحَادِيثُ فِي نَفْيِ الْعَدْوَى كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ حَدِيثُ "لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"، وَحَدِيثُ "وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ" وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحِ مُتَّصِلًا بِحَدِيثِ "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ" فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قال: إن الرسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا عَدْوَى. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ"2.

وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:"لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ"3.

‌الْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ:

وَالْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ وَالْأَمْرُ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ كُلُّهَا نَفْيُ الْعَدْوَى فِيهَا عَلَى إِطْلَاقِهِ.

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ لِئَلَّا يَتَّفِقُ لِلْمَخَالِطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لَا بِالْعَدْوَى الْمَنْفِيَّةِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ فَيَعْتَقِدُ ثُبُوتَ الْعَدْوَى

1 البخاري "10/ 215" في الطب، باب لا هامة، ومسلم "4/ 1747/ ح2220" في السلام، باب لا عدوى ولا طيرة. والصفر: هو داء البطن.

2 البخاري "10/ 243" في الطب، باب لا عدوى. ومسلم "4/ 1743/ ح2221" في السلام، باب لا عدوى.

3 البخاري "10/ 158" في الطب، باب الجذام.

ص: 985

الَّتِي نَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقَعُ فِي الْحَرَجِ، فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِتَجَنُّبِ ذَلِكَ شَفَقَةً مِنْهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ وَحَسْمًا لِلْمَادَّةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ لَا إِثْبَاتًا لِلْعَدْوَى كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي اسْتَشْهَدَ لِصِحَّةِ الْعَدْوَى بِكَوْنِ الْبَعِيرِ الْأَجْرَبِ يَدْخُلُ فِي الْإِبِلِ الصِّحَاحِ فَتُجْرَبُ، فَقَالَ لَهُ، صلى الله عليه وسلم:"فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ" يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْمَرَضَ فِي الْبَاقِي كَمَا ابْتَدَأَهُ فِي الْأَوَّلِ لَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سَرَيَانِ الْمَرَضِ بِطَبِيعَتِهِ مِنْ جَسَدٍ إِلَى آخَرَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَهْيَهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا لَا اسْتِقْلَالًا بِطَبْعِهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَمُسَبَّبَاتِهَا فَإِنْ شَاءَ تَعَالَى أَبْقَى السَّبَبَ وَأَثَّرَ فِي مُسَبَّبِهِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، وَإِنْ شَاءَ سَلَبَ الْأَسْبَابَ قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَمَنْ قَوِيَ إِيمَانُهُ وَكَمُلَ تَوَكُّلُهُ وَثِقَتُهُ بِاللَّهِ، وَشَاهَدَ مَصِيرَ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ وَمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ كَمَا أَنَّ مَصْدَرَهَا مِنْ عِنْدِهِ عز وجل فَنَفْسُهُ أَبِيَّةٌ وَهِمَّتُهُ عَلِيَّةٌ وَقَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِنُورِ التَّوْحِيدِ فَهُوَ وَاثِقٌ بِخَالِقِ السَّبَبِ لَيْسَ لِقَلْبِهِ إِلَى الْأَسْبَابِ أَدْنَى الْتِفَاتٍ سَوَاءٌ عَلَيْهِ فَعَلَهَا أَوْ لَمْ يَفْعَلْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ:"كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ"1. فَفِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِمُجَانَبَةِ الْمَجْذُومِ إِثْبَاتٌ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ عز وجل وَفِي أَكْلِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ تَعْلِيمٌ لَنَا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَالِكُهَا فَلَا تُؤَثِّرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يُصِيبُ الْعَبْدَ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النُّفُوسَ تَسْتَقْذِرُ ذَلِكَ وَتَنْقَبِضُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَتَشْمَئِزُّ مِنْ مُخَالَطَتِهِ وَتَكْرَهُهُ جِدًّا لَا سِيَّمَا مَعَ مُلَامَسَتِهِ وَشَمِّ رَائِحَتَهُ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَأْثِيرٌ بِإِذْنِ

1 أبو داود "4/ 20/ ح3925" في الطب، باب في الطيرة، والترمذي "4/ 266/ ح1817" في الأطعمة، باب ما جاء في الأكل مع المجذوم، وابن ماجه "2/ 1172/ ح3542" في الطب، باب الجذام، والحديث ضعيف: فيه مفضل بن فضالة وهو ضعيف.

ص: 986

اللَّهِ فِي سِقَمِهَا قَضَاءً مِنَ اللَّهِ وَقَدَرًا لَا بِانْتِقَالِ الدَّاءِ بِطَبِيعَتِهِ كَمَا يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ وَعَبَّاسُ الْعَنْبَرِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَحِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيْكٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْضٌ عِنْدَنَا يُقَالُ لَهَا أَرْضُ أَبْيَنَ هِيَ أَرْضُ رِيفِنَا وَمِيرَتِنَا وَإِنَّهَا وَبِئَةٌ -أَوْ قَالَ وَبَاؤُهَا شَدِيدٌ- فَقَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:"دَعْهَا عَنْكَ فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ" 1 وَالْقَرَفُ بِالتَّحْرِيكِ هُوَ مُقَارَبَةُ الْوَبَاءِ وَمُدَانَاةُ الْمَرَضِ، وَالتَّلَفُ بِوَزْنِهِ هُوَ الْهَلَاكُ، يَعْنِي أَنَّهُ سَبَبٌ فِيهِ قَدْ يُؤَثِّرُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا سِيَّمَا مَعَ كَرَاهَةِ النَّفْسِ لَهُ وَاشْمِئْزَازِهَا مِنْهُ {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يُوسُفَ: 64] .

فَإِذَا تَبَيَّنَ لَكَ هَذَا الْجَمْعَ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِمُجَانَبَةِ الدَّاءِ؛ تَبَيَّنَ لَكَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَ الْمُصِحَّ بِمُجَانَبَةِ الدَّاءِ فَلِأَنْ يَنْهَى الْمُمْرِضَ عَنْ إِيرَادِهِ عَلَى الْمُصِحِّ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، فَإِنَّ الْعِلَلَ الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا مِنْ سَبَبِ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْوَبَاءِ وَالْأَمْرُ بِمُجَانَبَتِهِ مَوْجُودَةٌ فِي إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ بِزِيَادَةِ كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِاخْتِيَارِ الْمُصِحِّ كَقُدُومِهِ هُوَ بَلْ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهَا وَانْقِبَاضِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُمْرِضِ وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى بُغْضِهِ إِيَّاهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نَفْيَ الْعَدْوَى مُطْلَقٌ عَلَى عُمُومِهِ، وَفِيهِ إِفْرَادُ اللَّهِ سبحانه وتعالى بِالتَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ مَالِكُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطَى لِمَا مَنَعَ، وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا مُغَالِبَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِمْدَادٌ لَهُمْ بِقُوَّةِ التَّوَكُّلِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَحُجَّةٌ لَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَسَائِرِ الْمُعَانِدِينَ، وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِمُجَانَبَةِ الْبَلَاءِ وَلَا فِي النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِهِ عَلَى الْمُعَافَى مِنْهُ مُنَافَاةً وَلَا مُنَاقَضَةً. بَلْ ذَلِكَ مَعَ الثِّقَةِ بِاللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ وَتَوَقِّي الْأَسْبَابَ الْمُؤْذِيَةَ وَدَفْعِ الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ وَالْإِلْتِجَاءِ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ،

1 أبو داود "4/ 19-20/ ح3923" في الطب، باب في الطيرة. وأحمد "3/ 451". وسنده ضعيف: فيه رجل مبهم. ويحيى بن عبد الله بن بحير لا يعرف.

ص: 987

وَلَيْسَ فِي فِعْلِ الْأَسْبَابِ مَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ مَعَ اعْتِمَادِ الْقَلْبِ عَلَى خَالِقِ السَّبَبِ، وَلَيْسَ التَّوَكُّلُ بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ، بَلِ التَّوَكُّلُ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَهُوَ أَعْظَمُهَا وَأَنْفَعُهَا وَأَنْجَحُهَا وَأَرْجَحُهَا، كَمَا أَنَّ مَنِ اضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ وَوَجِلَ قَلْبُهُ فَرَقًا وَخَوْفًا وَارْتِيَابًا وَعَدَمَ يَقِينٍ بِالْقَدَرِ، لَا يَكُونُ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ بِمُدَانَاتِهِ الْمَرْضَى وَالْمُبْتَلِينَ وَتَرْكِهِ فِعْلَ الْأَسْبَابِ، فَكَمَا لَا يَكُونُ الْمُرْتَابُ مُتَوَكِّلًا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ الْأَسْبَابَ، كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُوَحِّدُ تَارِكًا التَّوَكُّلَ أَوْ نَاقِصَهُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ وَتَوَقِّي الْمَضَرَّةِ وَحِرْصِهِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ، فَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيمَا وَقَرَ فِي الْقُلُوبِ وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي بِهَا الطَّاعُونُ وَعَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ فَإِنَّ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ تَعَرُّضًا لِلْبَلَاءِ، وَإِلْقَاءً بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ وَتَسَبُّبًا لِلْأُمُورِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِمَضَرَّتِهَا. وَفِي الفرار منه تسخط لِقَضَاءِ اللَّهِ عز وجل وارتياب فِي قَدَرِهِ وَسُوءَ ظَنٍّ بِاللَّهِ عز وجل، فَأَيْنَ الْمَهْرَبُ مِنَ اللَّهِ وَإِلَى أَيْنَ الْمَفَرُّ، لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ كَمَا رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ بن الخطاب: ادع إلى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي الأنصار فدعاهم فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي من كان ههنا مَنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مهاجرة الفتح، فدعوهم فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فأصبحوا عليه، فقال أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ

ص: 988

قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ. نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ. أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عدوتان إحداهما مخصبة وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ غَائِبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فلا تخرجوا فرار مِنْهُ" قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ. وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِهِ بِلَفْظِهِ1.

وَقَوْلُهُ، صلى الله عليه وسلم:"فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" تَقْيِيدً لِلنَّهْيِ بِخُرُوجٍ لِقَصْدِ الْفِرَارِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ اللَّازِمَةِ، كَمَا قَيَّدَ صلى الله عليه وسلم الشَّهَادَةَ بِهِ لِلْمَاكِثِ بِبَلَدِهِ، بِمَا إِذَا كَانَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا صَحِيحَ الْيَقِينِ ثَابِتَ الْعَزِيمَةِ قَوِيَ التَّوَكُّلِ مُسْتَسْلِمًا لِقَضَاءِ اللَّهِ عز وجل، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حِبَّانُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ"2. فَخَرَجَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مَنْ مَكَثَ فِي أَرْضِهِ مَعَ نُقْصَانِ تَوَكُّلِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ فَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْفِرَارُ مِنْهُ لِعُمُومِ النَّهْيِ وَلَهُ أَجْرُهُ عَلَى امْتِثَالِ الشَّرْعِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَإِنْ خَرَجَ فِرَارًا مِنْهُ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَضَافَهَا إِلَى ارْتِيَابِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: "الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ

1 مالك في الموطأ "2/ 894 -896" في الجامع، باب ما جاء في الطاعون، والبخاري "10/ 178-179" في الطب، باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم "4/ 1740/ ح2219" في السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة.

2 البخاري "10/ 192" في الطب، باب أجر الصابر على الطاعون، وفي الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل وفي القدر، باب "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

ص: 989

لِكُلِّ مُسْلِمٍ" 1 فَإِنَّ مَفْهُومَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا وَذَلِكَ لِضَعْفِ يَقِينِهِ، وَقَدْ يُقَالُ هُوَ شَهِيدٌ فِي الصُّورَةِ وَلَيْسَ مِثْلَ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، كَمَا أَنَّ شُهَدَاءَ الْمَعْرَكَةِ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ فِي مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ لَيْسُوا سَوَاءً؛ بَلْ يَتَفَاوَتُونَ بِتَفَاوُتِ نِيَّاتِهِمْ وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. وَاللَّهُ تبارك وتعالى أَعْلَمُ.

الْكَلَامُ عَلَى الطِّيَرَةِ وَالتَّطَيُّرِ وَالْغُولِ:

وَأَمَّا الطِّيَرَةُ فَهِيَ: تَرْكُ الْإِنْسَانِ حَاجَتَهُ، وَاعْتِقَادُهُ عَدَمَ نَجَاحِهَا، تَشَاؤُمًا بِسَمَاعِ بَعْضِ الْكُلَيْمَاتِ الْقَبِيحَةِ كَيَا هَالِكُ أَوْ يَا مَمْحُوقُ وَنَحْوَهَا. وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِبَعْضِ الطُّيُورِ كَالْبُومَةِ وَمَا شَاكَلَهَا إِذَا صَاحَتْ، قَالُوا إِنَّهَا نَاعِبَةٌ أَوْ مُخْبِرَةٌ بِشَرٍّ، وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِمُلَاقَاةِ الْأَعْوَرِ أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَهْزُولِ أَوِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ أَوِ الْعَجُوزِ الشَّمْطَاءِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا لَقِيَهُ وَهُوَ ذَاهِبٌ لِحَاجَةٍ صَدَّهُ ذَلِكَ عَنْهَا وَرَجِعَ مُعْتَقِدًا عَدَمَ نَجَاحِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ لَا يَبِيعُ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ إِذَا جَاءَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، حَتَّى يَبِيعَ مِنْ غَيْرِهِ تَشَاؤُمًا بِهِ وَكَرَاهَةً لَهُ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَنَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَيْرًا قَطُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَشَاءَمُ بِمَا يَعْرِضُ لَهُ نَفْسَهُ فِي حَالِ خُرُوجُهُ كَمَا إِذَا عُثِرَ أَوْ شِيكَ يَرَى أَنَّهُ لَا يَجِدُ خَيْرًا، وَمِنْ ذَلِكَ التَّشَاؤُمِ بِبَعْضِ الْأَيَّامِ أَوْ بِبَعْضِ السَّاعَاتِ كَالْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ وَآخِرِ أَرْبِعَاءَ فِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُسَافِرُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَعْقِدُ فِيهَا نِكَاحًا وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا عَمَلًا مُهِمًّا ابْتِدَاءً، يَظُنُّ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ نَحْسٌ، وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِبَعْضِ الْجِهَاتِ فِي بَعْضِ السَّاعَاتِ فَلَا يَسْتَقْبِلُهَا فِي سَفَرٍ وَلَا أَمْرٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ تِلْكَ السَّاعَةُ أَوِ السَّاعَاتُ. وَهِيَ مِنْ أَكَاذِيبِ الْمُنَجِّمِينَ الْمَلَاعِينَ؛ يَزْعُمُونَ أَنَّ هُنَاكَ فَلَكًا دَوَّارًا يَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ فَمَنِ اسْتَقْبَلَ تِلْكَ الْجِهَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهَا هَذَا الْفَلَكُ لَا يَنَالُ خَيْرًا وَلَا يَأْمَنُ شَرًّا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَاذِبُونَ مُفْتَرُونَ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ

1 البخاري "10/ 178" في الطب، باب ما يذكر في الطاعون وفي الجهاد، باب الشهادة سبع سوى القتل، ومسلم "3/ 1522/ ح1916" في الإمارة، باب بيان الشهداء.

ص: 990

وَلَعَنَهُمْ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّشَاؤُمُ بِوُقُوعِ بَعْضِ الطُّيُورِ عَلَى الْبُيُوتِ يَرَوْنَ أَنَّهَا مُعْلِمَةٌ بِشْرٍّ، وَكَذَا صَوْتُ الثَّعْلَبِ عِنْدَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقْسَامُ بِتَنْفِيرِ الطَّيْرِ وَالظِّبَاءِ فَإِنْ تَيَامَنَتْ ذَهَبُوا لِحَاجَتِهِمْ وَإِنْ تَيَاسَرَتْ تَرَكُوهَا، وَهَذَا مِنَ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِاجْتِنَابِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ كَثِيرٌ مِنْهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ فَأَعَادَهُ الشَّيْطَانُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَوَسَّعَ دَائِرَةَ ذَلِكَ وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ مِنَ الْكَهَنَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَأَضْرَابِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، أَرْدَاهُمُ اللَّهُ وَأَلْحَقَهُمْ بِهِ آمِينَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 131]، وَقَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النَّمْلِ: 45-47] وَقَالَ تَعَالَى: فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ رُسُلِ عِيسَى: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس16-18] قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} قَالُوا: الْعَافِيَةُ وَالرَّخَاءُ نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} قَالَ: بَلَاءٌ وَعُقُوبَةٌ {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى} قَالَ: يَتَشَاءَمُوا بِهِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الْأَعْرَافِ: 131] قَالَ: الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ. وَقَالَ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النَّحْلِ: 47] قَالَ: الشُّؤْمُ أَتَاكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِكُفْرِكُمْ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الطِّيَرَةِ وَنَفْيُهَا فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ

ص: 991

عُمَرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ"1. وَالشُّؤْمُ ضِدُّ الْيُمْنِ وَهُوَ عَدَمُ الْبَرَكَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ الْمَحْسُوسُ الْمُشَاهَدُ كَالْمَرْأَةِ الْعَاقِرِ الَّتِي لَا تَلِدُ أَوِ اللَّسِنَةِ الْمُؤْذِيَةِ أَوِ الْمُبَذِّرَةِ بِمَالِ زَوْجِهَا سَفَاهَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَكَذَا الدَّارُ الْجَدْبَةُ أَوِ الضَّيِّقَةُ أَوِ الْوَبِيئَةُ الْوَخِيمَةُ الْمَشْرَبِ أَوِ السَّيِّئَةُ الْجِيرَانِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَكَذَا الدَّابَّةُ الَّتِي لَا تَلِدُ وَلَا نَسْلَ لَهَا أَوِ الْكَثِيرَةُ الْعُيُوبِ الشَّيِّنَةُ الطَّبْعِ وَمَا فِي معنى ذلك، فهدا كُلُّهُ شَيْءٌ ضَرُورِيٌّ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ الْمَنْفِيَّةِ فإن ذلك أمر آخَرَ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَحْسٌّ عَلَى صَاحِبِهَا لِذَاتِهَا لَا لِعَدَمِ مَصْلَحَتِهَا وَانْتِفَائِهَا فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ غَنِيًّا افْتَقَرَ لَيْسَ بِتَبْذِيرِهَا بَلْ لِنَحَاسَتِهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ إِنْ يَأْخُذْهَا يَمُوتُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهَا عَلَيْهِ لَا بِسَبَبٍ مَحْسُوسٍ، بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ لَهَا نَجْمًا لَا يُوَافِقُ نَجْمَهُ بَلْ يَنْطَحُهُ وَيَكْسِرُهُ، وَذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ يُوحِيهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] وقال الله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الْأَعْرَافِ: 127] .

حَتَّى إِنَّ رَجُلًا فِي زَمَانِنَا هَذَا كَانَ يُشَعْوِذُ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ وَيُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَتَنَبَّهَ لَهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَيَسْمَعُ ذَمَّ الْمُنَجِّمِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَ امْرَأَةً، مَا تَرَى فِيهَا هَلْ هِيَ سَعْدٌ لِي أَوْ نَحْسٌ عَلَيَّ؟ فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدِهِ الشَّيْطَانِيَّةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: دَعْهَا فَإِنَّكَ إِنْ أَخَذْتَهَا لَا تُبْلِيَ مَعَهَا ثَوْبًا، يَعْنِي يَمُوتُ سَرِيعًا لَا تَطُولُ مَعَهَا صُحْبَتَهُ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي سَأَلَهُ عَنْهَا وَسَمَّاهَا لَهُ هِيَ زَوْجَتُهُ وَقَدْ طَالَتْ صُحْبَتَهُ مَعَهَا وَلَهُ مِنْهَا نَحْوُ خَمْسَةٍ مِنَ الْأَوْلَادِ، فَدَعَاهُمْ كُلَّهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ حَتَّى حَضَرُوا فَقَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ أَوْلَادِي مِنْهَا. وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ مِنْ خُرَافَاتِهِمْ.

1 البخاري "10/ 212" في الطب، وباب لا عدوى وفي البيوع، باب شراء الإبل الهيم، وفي الجهاد، باب ما يذكر من شؤم الفرس، وفي النكاح، باب ما يتقى من شؤم المرأة، ومسلم "4/ 1747/ ح2225" في السلام، باب الطيرة والفأل.

ص: 992

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشُّؤْمَ الْمُثْبَتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمْرٌ مَحْسُوسٌ ضَرُورِيٌّ مُشَاهَدٌ لَيْسَ مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ الْمَنْفِيَّةِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ" قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: "الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ. يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ"1.

قَالَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ"2.

قُلْتُ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: "سَهَّلَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ" 3 الْحَدِيثَ وَمَا شَاكَلَهُ.

وَمِنْ شَرْطِ الْفَأْلِ أَنْ لَا يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا بَلْ أَنْ يَتَّفِقَ لِلْإِنْسَانِ؛ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى بَالٍ. وَمِنَ الْبِدَعِ الذَّمِيمَةِ وَالْمُحْدَثَاتِ الْوَخِيمَةِ مَأْخَذُ الْفَأْلِ مِنَ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ مِنَ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَلَعِبًا وَلَهْوًا، سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ. وَمَا أَدْرِي كَيْفَ حَالُ مَنْ فَتَحَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الْمَائِدَةِ: 78] وَقَوْلِهِ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النِّسَاءِ: 93] وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ بَعْضُ الْمَرْوَانِيَّةِ وَأَنَّهُ تَفَاءَلَ يَوْمًا فَفَتَحَ الْمُصْحَفَ فَاتَّفَقَ لِاسْتِفْتَاحِهِ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 15] الْآيَاتِ. فَيُقَالُ إِنَّهُ أَحْرَقَ الْمُصْحَفَ غَضَبًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبْيَاتًا لَا نُسَوِّدُ بِهَا الْأَوْرَاقَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ، وَالْفَأْلُ إِذَا قَصَدَهُ الْمُتَفَائِلُ فَهُوَ طِيَرَةٌ كَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَعْرِيفِ الطِّيَرَةُ حَدِيثَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنهما "إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ"

1 البخاري "10/ 212" في الطب، باب الطيرة وقد تقدم قبل قليل من غير هذا الطريق.

2 البخاري "10/ 214" في الطب، باب الفأل. وقد تقدم قبل قليل. وذكر رواياته.

3 البخاري "5/ 329" في الشروط، باب الشروط في الجهاد.

4 أحمد "1/ 213" وسنده ضعيف فيه مسلمة الجهني قال الحافظ: مقبول "إذا توبع وإلا فلين". ورواه عن الفضل ولم يدركه.

ص: 993

وَرَوَى فِي كَفَّارَتِهَا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه وَقَّفَهُ "مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ" قَالُوا: فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ"1.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عِيسَى بْنِ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ" ثَلَاثًا "وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ"2 وَقَوْلُهُ: "وَمَا مِنَّا إِلَّا" الْخَ هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فَصَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ رحمه الله فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْمَرْفُوعِ حَيْثُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: "وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ" كُلُّ هَذَا عِنْدِي قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ3. وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ "قَالَ أَحْمَدُ: الْقُرَشِيُّ" قَالَ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلَا تَرُدُّ مُسْلِمًا. فَإِذَا رَأَى أَحَدَكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ" 4.

وَأَمَّا الْغُولُ فَهِيَ، وَاحِدُ الْغِيلَانِ وَهِيَ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَسَحَرَتِهِمْ5

1 أحمد "2/ 220" وابن السني "ح293" من طريق ابن لهيعة وعند ابن السني من رواية ابن وهب عنه فسنده حسن.

2 أبو داود "4/ 17/ ح3910" في الطب، باب في الطيرة.

والترمذي "4/ 160-161/ ح1614" في السير، باب ما جاء في الطيرة. وابن ماجه "2/ 1170/ ح3538" في الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة. وأحمد "1/ 389 و438 و440" والبخاري في الأدب المفرد "2/ 367/ ح909 -فضل الله الصمد" والطحاوي وابن حبان "7/ 642 -إحسان" والحاكم في المستدرك "1/ 17-18". والحديث قد تقدم.

3 الترمذي "4/ 161".

4 أبو داود "4/ 18-19/ ح3919" في الطب، باب في الطيرة، وعروة بن عامر لا صحبة له تصح. ورواية حبيب عنه منقطعة. فسنده ضعيف. وهو حديث صحيح يشهد له ما تقدم.

5 قال عمر رضي الله عنه: "إنه لا يتحول شيء عن خلقه الذي خلق له ولكن فيهم سحرة من سحرتكم". رواه عبد الرزاق في مصنفه "5/ 162" وسنده صحيح. وهذا هو القول الفصل في الغيلان وأنها سحرة الجن فكما أن في البشر سحرة كذلك في الجن من يتمتع بتلعبه في الإنس بسحره. نعوذ بالله منهم. وانظر فتح الباري "6/ 342".

ص: 994

وَالنَّفْيُ لِمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ مِنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَكَانُوا يَخَافُونَهُمْ خَوْفًا شَدِيدًا وَيَسْتَعِيذُونَ بِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الْجِنِّ: 6] زَادَ الْإِنْسُ الْجِنَّ جَرَأَةً عَلَيْهِمْ وَشَرًّا وَطُغْيَانًا، وَزَادَتْهُمُ الْجِنُّ إِخَافَةً وَخَبَلًا وَكُفْرَانًا، وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا نَزَلَ وَادِيًا قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِيَ مِنْ سُفَهَائِهِ فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ فَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ هَذَا الْمُسْتَعِيذِ أَوْ يُرَوِّعُهُ فِي نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: يَا صَاحِبَ الْوَادِي جَارُكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيَسْمَعُ مُنَادِيًا يُنَادِي ذَلِكَ الْمُعْتَدِيَ أَنِ اتْرُكْهُ أَوْ دَعْهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ1. فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ وَنَفَى أَنْ يَضُرُّوا أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عز وجل وَأَبْدَلَنَا عَنِ الِاسْتِعَاذَةِ بِالْمَخْلُوقِينَ الاستعاذة بجبار السموات وَالْأَرْضِ رَبِّ الْكَوْنِ وَخَالِقِهِ وَمَالِكِهِ وَإِلَهِهِ وَبِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ جَبَّارٌ وَلَا مُتَكَبِّرٌ، فَقَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 97] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الْأَعْرَافِ: 200] وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الْفَلَقِ: 1] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [النَّاسِ: 1] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ. وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ:"مَا سَأَلَ سَائِلٌ بِمِثْلِهَا وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهَا" 2 وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْحَلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ" 3 وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ "إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلَانُ فَبَادِرُوا بِالْأَذَانِ" 4 وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

1 انظر ابن كثير "4/ 457".

2 رواه النسائي "8/ 250-252" في الاستعاذة في فاتحته. والدارمي "2/ 462" في فضائل القرآن باب في فضل المعوذتين.

3 رواه مسلم "4/ 2080/ ح2708" في الذكر والدعاء باب في التعوذ من سوء القضاء.

4 رواه ابن أبي شيبة "11/ 156" وأحمد "3/ 305 و381-382" والنسائي في عمل اليوم والليلة "ح955" وابن السني في عمل اليوم والليلة "ح524" من حديث جابر رضي الله عنه. وفي سنده إرسال الحسن عن جابر فإنه لم يسمع منه. ورواه البزار "كشف الأستار 4/ 34" وابن عدي في الكامل "5/ 1760". من حديث سعد بن أبي وقاص. وفي سنده إرسال الحسن عن سعد فإنه لم يسمع منه. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة "المجمع 10/ 137" وفي سنده عدي بن الفضل وهو متروك. ورواه ابن عدي "5/ 1685" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وفي سنده عمر بن صبح وهو واه. فالحديث تطمئن النفس له وتميل إلى قبوله. وقد صح موقوفا من قول عمر كما تقدم.

ص: 995

"إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ أَدْبَرَ وَلَهُ ضُرَاطٌ. وَفِي لَفْظٍ حُصَاصٌ" 1 وَأَحَادِيثُ الِاسْتِعَاذَةِ وَالْأَذْكَارِ فِي طَرْدِ الشَّيْطَانِ وَغَيْرِهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ مَسْبُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ كُتُبِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنِ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ نَفِيُ وُجُودِ الْغِيلَانِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مُكَابَرَةً لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الْمَعْلُومَةِ بِالضَّرُورَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ إِتْيَانِهِمْ وَانْصِرَافِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ وَتَشَكُّلِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الهامة والصفر: فقالوا أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ -يَعْنِي ابْنَ رَاشِدٍ- قَوْلُهُ: "هَامَ" قَالَ: كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ إِلَّا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ هَامَةٌ. قُلْتُ: فَقَوْلُهُ: "صَفَرَ" قَالَ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَشْئِمُونَ بِصَفَرٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:"لَا صَفَرَ" قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ سَمِعْنَا مَنْ يَقُولُ هُوَ وَجَعٌ يَأْخُذُ فِي الْبَطْنِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ هُوَ يُعْدِي فَقَالَ:"لَا صَفَرَ" 2، وَقَالَ رحمه الله: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: يَقُولُ النَّاسُ الصَّفَرُ وَجَعٌ يَأْخُذُ فِي الْبَطْنِ. قُلْتُ: فَمَا الْهَامَةُ؟ قَالَ: يَقُولُ النَّاسُ: الْهَامَةُ الَّتِي تَصْرُخُ هَامَةَ النَّاسِ، وَلَيْسَتْ بِهَامَةِ الْإِنْسَانِ، إِنَّمَا هِيَ دَابَّةٌ3. وَقَالَ رحمه الله: قُرِئَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا شَاهِدٌ أَخْبَرَكُمْ أَشْهَبُ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِهِ: "لَا صَفَرَ" قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحِلُّونَ صَفَرَ، يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، فَقَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:"لَا صَفَرَ"4.

قُلْتُ: وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَدِ اعْتَقَدَهَا الْجُهَّالُ وَكُلُّهَا بِجَمِيعِ مَعَانِيهَا الْمَذْكُورَةِ مَنْفِيَّةٌ بِنَصِّ الْحَدِيثِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

1 البخاري "2/ 84-85" في الأذان، باب فضل التأذين، وفي العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة، وفي السهو، باب إذا لم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا سجد سجدتين وهو ساجد، وفي بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم "1/ 291/ ح389" في الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه، وفي المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له.

2 أبو داود "4/ 18/ ح3915" في الطب، باب في الطيرة.

3 أبو داود "4/ 18/ ح3918" في الطب، باب في الطيرة.

4 أبو داود "4/ 17-18/ ح3914" في الطب، باب في الطيرة.

ص: 996

مَرْتَبَةُ الْإِحْسَانِ:

وَثَالِثٌ مَرْتَبَةُ الْإِحْسَانِ

وَتِلْكَ أَعْلَاهَا لَدَى الرَّحْمَنِ

وَهِيَ رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي الْعِرْفَانِ

حَتَّى يَكُونَ الْغَيْبُ كَالْعِيَانِ

هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الدِّينِ الْمُفَصَّلَةِ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمُتَقَدِّمِ وَهِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الدِّينِ وَأَعْظَمُهَا خَطَرًا وَأَهْلُهَا هُمُ الْمُسْتَكْمِلُونَ لَهَا السَّابِقُونَ بِالْخَيِّرَاتِ الْمُقَرَّبُونَ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَاتِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَرْكَانُ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ وَاقْتِرَانِهِ بِالْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ إِذْ ذَاكَ هُوَ الْأَرْكَانُ الْبَاطِنَةُ وَالْإِحْسَانُ هُوَ تَحْسِينُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَكُلٌّ مِنْهَا يَشْمَلُ دِينَ اللَّهِ كُلَّهُ، وَقَدْ جَاءَ الْإِحْسَانُ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، تَارَةً مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ، وَتَارَةً بِالتَّقْوَى، وَتَارَةً بِهِمَا مَعًا، وَتَارَةً بِالْجِهَادِ، وَتَارَةً بِالْإِسْلَامِ، وَتَارَةً بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مُطْلَقًا. قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [الْمَائِدَةِ: 93] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النَّحْلِ: 128] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الْكَهْفِ: 30] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 69] وَقَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الْبَقَرَةِ: 112] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لُقْمَانَ: 22] .

وَتَارَةً بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ مِنَ الْجِهَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ

ص: 998

اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 195] .

وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَفْسِيرًا لَا يَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ أَحَدٌ غَيْرَهُ صلى الله عليه وسلم لِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَقَالَ، صلى الله عليه وسلم:"الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" 1 أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَرْتَبَةَ الْإِحْسَانِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ، وَأَنَّ لِلْمُحْسِنِينَ فِي الْإِحْسَانِ مَقَامَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ:

الْمَقَامُ الْأَوَّلُ -وَهُوَ أَعْلَاهُمَا- أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَهَذَا مَقَامُ الْمُشَاهِدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى مُقْتَضَى مُشَاهَدَتِهِ اللَّهَ عز وجل بِقَلْبِهِ، وَهُوَ أَنْ يَتَنَوَّرَ الْقَلْبُ بِالْإِيمَانِ وَتَنْفُذَ الْبَصِيرَةُ فِي الْعِرْفَانِ حَتَّى يَصِيرَ الْغَيْبُ كَالْعِيَانِ، فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عز وجل عَلَى اسْتِحْضَارِ قُرْبِهِ مِنْهُ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْخَشْيَةَ وَالْخَوْفَ وَالْهَيْبَةَ وَالتَّعْظِيمَ، وَفِي حَدِيثِ حَارِثَةَ الْمُرْسَلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:"يَا حَارِثَةُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ " قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا. قَالَ: "انْظُرْ مَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةٌ" قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِيَ وَأَظْمَأْتُ نَهَارِيَ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ كَيْفَ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا. قَالَ:"أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَصِيرَتَهُ"2.

الْمَقَامُ الثَّانِي: مَقَامُ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى اسْتِحْضَارِ مُشَاهَدَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ، فَإِذَا اسْتَحْضَرَ الْعَبْدُ هَذَا فِي عَمَلِهِ وَعَمِلَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اسْتِحْضَارَهُ ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ يَمْنَعُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ

1 تقدم تخريجه سابقا.

2 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان "38/ ح115" بسند معضل ضعيف وقد رواه البزار من حديث أنس مرفوعا "كشف الأستار 1/ 26/ ح32" وفي سنده يوسف بن عطية ولا يحتج به. ورواه الطبراني من حديث الحارث نفسه وسنده ضعيف جدا "المعجم الكبير 3/ 266/ ح367" والحديث لا يثبت إلا معضلا. فهو ضعيف مع نكارة متنه. إذ فيه تزكية النفس وقوله: "مؤمنا حقا" وهو أمر معلوم النهي عنه إذ الاستثناء في الإيمان هو خلق الصحابة رضي الله عنهم. مع خوفهم من النفاق كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. كما سيأتي من حديث حنظلة بعد قليل.

ص: 999

اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ بِالْعَمَلِ. وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ. وَلِهَذَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَعْلِيلًا لِلْأَوَّلِ فَقَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ "فَإِنَّكَ إِلَّا تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" فَإِذَا تَحَقَّقَ فِي عِبَادَتِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَاهُ وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ فَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ إِلَى الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ دَوَامُ التَّحْقِيقِ بِالْبَصِيرَةِ إِلَى قُرْبِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ وَمَعِيَّتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تبارك وتعالى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ. كَمَا قَالَ تبارك وتعالى: {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يُونُسَ: 61-64] وَقَالَ تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [الْبَقَرَةِ: 186] وَقَالَ تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشُّعَرَاءِ: 217-220] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقُونَ الْمُحْسِنُونَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ عز وجل وَبِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَأَفْرَدُوهُ بِالْعِبَادَةِ محبة وتذللا وانقياد وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَرَغْبَةً وَرَهْبَةً وَخَشْيَةً وَخُشُوعًا وَمَهَابَةً وَتَعْظِيمًا وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَافْتِقَارًا إِلَيْهِ وَاسْتِغْنَاءً بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَاتَّقَوْهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَمَحَبَّةِ مَرْضَاتِهِ وَتَرْكِ مَنَاهِيْهِ وَمُوجِبَاتِ سُخْطِهِ سِرًّا وَعَلَنًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا، وَاسْتَشْعَرَتْ قُلُوبُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ إِحَاطَةَ اللَّهِ عز وجل بِهِمْ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَلُطْفًا وَخِبْرَةً بِأَقْوَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ وَعَلَانِيَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ كَيْفَ عَمِلُوا وَأَيْنَ عَمِلُوا وَمَتَى عَمِلُوا فَكَانَ عَمَلُهُمْ خَالِصًا لِلَّهِ مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ مُنَاطًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ وَنَطَقَتْ بِهِ كُتُبُهُ، مُسْتَحْضِرِينَ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ نَافِذَةً فِيهِ بَصَائِرُهُمْ فَأَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعَمَلَ وَرَاقَبُوهُ مُرَاقَبَةَ

ص: 1000

مَنْ يَنْظُرُ إِلَى رَبِّهِ، لِكَمَالِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَرَى حَالَهُمْ وَيَسْمَعُ مَقَالَهُمْ، فَطَرَحُوا النُّفُوسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَقْبَلُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ عَلَيْهِ وَالْتَجَئُوا مِنْهُ إِلَيْهِ وَعَاذُوا بِهِ مِنْهُ وَأَحَبُّوهُ مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ فَامْتَلَأَتْ بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ فَلَمْ تَتَّسِعْ لِغَيْرِهِ، فَبِهِ يُبْصِرُونَ وَبِهِ يَسْمَعُونَ وَبِهِ يَبْطِشُونَ وَبِهِ يَمْشُونَ، وَبِرُؤْيَتِهِمْ يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى وَبِذِكْرِهِ يُذْكَرُونَ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:"يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"1.

وَقَالَ رَحِمَهُ الله تعالى: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسول الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلي مما افترضته عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأعطينه ولئن عاذ بي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نفس عبدي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ"2.

ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى فَذَكَرَهُمْ، وَشَكَرُوهُ فَشَكَرَهُمْ، وَتَوَلَّوْهُ وَوَالَوْا فِيهِ فَتَوَلَّاهُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ لِأَجْلِهِ فَآذَنَ بالحرب من عادهم، وَأَحْسَنُوا عِبَادَةَ رَبِّهِمْ فَأَحْسَنَ جَزَاءَهُمْ وَأَجْزَلَهُ، عَبَدُوهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ فَجَازَاهُمْ بِفَضْلِهِ وَزَادَهُمْ {لِلَّذِينَ

1 البخاري "13/ 511-512" في التوحيد، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه، ومسلم "4/ 2061/ ح2675" في الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله تعالى.

2 البخاري "11/ 340-341" في الرقاق، باب التواضع. وقد تقدم.

ص: 1001

أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يُوسُفَ: 26]{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرَّحْمَنِ: 60] وَلَمَّا ذُكِرَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَصَفَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ جَزَاءَ إِحْسَانِهِمْ فَقَالَ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 16] ثُمَّ فَسَّرَ إِحْسَانَهُمْ {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذَّارِيَاتِ: 17-19] وَقَدَّمْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْحُسْنَى الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عز وجل الْمُحْسِنِينَ هِيَ الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عز وجل، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. فَلَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ عز وجل فِي الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْحُضُورِ وَالْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ؛ كَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ تبارك وتعالى فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ، وَعَكْسُ هَذَا مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 15] لَمَّا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا التَّكْذِيبَ وَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ تَرَاكُمَ الرَّانِ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى حُجِبَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنْ حُجِبُوا عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النَّجْمِ: 31] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [الْبَقَرَةِ: 201] .

هَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مُفْرَدَاتِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ كَلَامِهِ عَلَى مَرَاتِبِ الدِّينِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: فَمَنْ تَأْمَّلَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ مِنْ فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَخْرُجُ عُلُومُهُمُ الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِبَادَاتِ.

مسلم "1/ 163/ ح181" في الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى. وقد تقدم بطرقه ورواياته.

ص: 1002

الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ خِصَالِ الْإِسْلَامِ، وَيُضِيفُونَ إِلَى ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالدِّمَاءِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ -مِنَ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ- لَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ وَهُمَا أَصْلُ الْإِسْلَامِ كُلِّهِ. وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى أُصُولِ الدِّيَانَاتِ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَعَلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَالَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى عِلْمِ الْمَعَارِفِ وَمَقَامَاتِ الْعِبَادِ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ وَعَلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ أَيْضًا كَالْخَشْيَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالرِّضَا وَالصَّبْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَانْحَصَرَتِ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِرَقُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَرَجَعَتْ كُلُّهَا إِلَيْهِ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ1. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

1 جامع العلوم والحكم "ص36-37".

ص: 1003