المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4- العاصي لا يخلد في النار وأمره إلى الله: - معارج القبول بشرح سلم الوصول - جـ ٣

[حافظ بن أحمد حكمي]

فهرس الكتاب

- ‌فَصْلٌ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ

- ‌الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِعِلْمِ اللَّهِ عز وجل الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ

- ‌الْإِيمَانُ بِكِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ خَمْسَةُ تَقَادِيرَ:

- ‌الْأَوَّلُ" التَّقْدِيرُ الْأَزَلِيُّ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

- ‌الرَّابِعُ التَّقْدِيرُ الْحَوْلِيُّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

- ‌الْخَامِسُ التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ وَهُوَ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ

- ‌الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

- ‌ الْقَدَرُ السَّابِقُ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ

- ‌ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ:

- ‌الْكَلَامُ عَلَى النَّوْءِ:

- ‌مَا وَرَدَ فِي الْعَدْوَى:

- ‌الْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ:

- ‌[[الفصل العاشر: في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين]]

- ‌1- الْإِيمَانُ يزيد وينقص:

- ‌2- تُفَاضُلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ:

- ‌3- فَاسْقُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ:

- ‌4- الْعَاصِي لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ:

- ‌[6 - التَّوْبَةُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ شُرُوطُهَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ] :

- ‌[شُرُوطُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ] :

- ‌[[الفصل الحادي عشر معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]]

- ‌مَوْلِدُهُ

- ‌[دَعْوَتُهُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ]

- ‌حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

- ‌[هَلْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ] :

- ‌حَدِيثُ الْهِجْرَةِ:

- ‌الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ:

- ‌وَفَاتُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:

- ‌تَبْلِيغُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رِسَالَةَ اللَّهِ:

- ‌[أَعْظَمُ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْقُرْآنُ] :

- ‌[[الفصل الثاني عشر: فيمن هو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصحابة بمحاسنهم، والكف عن مساوئهم وما شجر بينهم، رضي الله عنهم]]

- ‌الْكَلَامُ عَلَى التَّابِعِينَ رضي الله عنهم:

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ السُّكُوتِ عَمَّا كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم:

- ‌ تَحْرِيمِ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ

- ‌ عِظَمِ إِثْمِ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ:

- ‌كُلُّ مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ يُحْتَكَمُ فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

الفصل: ‌4- العاصي لا يخلد في النار وأمره إلى الله:

‌4- الْعَاصِي لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ:

وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ فِي النَّارِ

مُخَلَّدٌ بَلْ أَمْرُهُ لِلْبَارِي

تَحْتَ مَشِيئَةِ الْإِلَهِ النَّافِذَهْ

إِنْ شَا عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَا آخَذَهْ

بِقَدْرِ ذَنْبِهِ إِلَى الْجِنَانِ

يَخْرُجُ إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ

"وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ" أَيِ: الْفَاسِقِ بِالْمَعَاصِي الَّتِي لَا تُوجِبُ كُفْرًا "فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ" هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْفَصْلِ "بَلْ نَقُولُ أَمْرُهُ" مَرْدُودٌ حُكْمَهُ "لِلْبَارِي" فِي الْجَزَاءِ وَالْعَفْوِ "تَحْتَ مَشِيئَةِ الْإِلَهِ النَّافِذَهْ" فِي خَلْقِهِ "إِنْ شَاءَ" اللَّهُ عز وجل "عَفَا عَنْهُ" وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ "وَإِنْ شَاءَ آخَذَهْ" أَيْ: جَازَاهُ وَعَاقَبَهُ "بِقَدْرِ ذَنْبِهِ" الَّذِي مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةً مِنْ أَصْحَابِهِ:"بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ. فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجُرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ" فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ1، "وَإِلَى الْجِنَانِ يَخْرُجُ" مِنَ النَّارِ "إِنْ" كَانَ "مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ" كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ وَإِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا بِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّحِمِينَ ثُمَّ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ.

وَالْعَرْضُ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ فِي النَّبَا

من يُنَاقَشِ الْحِسَابَ عُذِّبَا

فِي هَذَا الْبَيْتِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] الْآيَاتِ. كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ

1 البخاري "1/ 64" في الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار، وفي تفسير سورة الممتحنة، ومسلم "3/ 1333/ ح1709" في الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها.

ص: 1021

رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ" قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الِانْشِقَاقِ: 8] قَالَ: "ذَلِكَ الْعَرْضُ، يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ"1. وَفِي رِوَايَةٍ "عُذِّبَ" وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ نُصُوصِ الْحَشْرِ وَأَحْوَالِ الْمَوْقِفِ وَالْمِيزَانِ وَنَشْرِ الصُّحُفِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْشَفَاعَاتِ وَغَيْرِهَا مَا يُعْلَمُ بِهِ تَفَاوُتُ مَرَاتِبِ النَّاسِ وَتَبَايُنُ أَحْوَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَضِدِّهَا مِنْ سَابِقٍ وَمُقْتَصِدٍ وَظَالِمٍ لِنَفْسِهِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَتْهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالسُّنَنُ النَّبَوِيَّةُ وَدَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَالصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعين لهم لإحسان مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْعُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ:

الطَّبَقَةُ الْأُولَى: قَوْمٌ رُجِّحَتْ حَسَنَاتُهُمْ بِسَيِّئَاتِهِمْ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ أَبَدًا.

الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَتَكَافَأَتْ فَقَصَّرَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتِهِمْ عَنِ الْجَنَّةِ وَتَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمْ عَنِ النَّارِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ؛ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُوقَفُونَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوقَفُوا، ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا قَالَ تبارك وتعالى بَعْدَ أَنْ دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ

1 البخاري "1/ 196-197" في العلم، باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه، وفي التفسير وفي الرقاق، ومسلم "4/ 2204/ ح2876" في الجنة باب إثبات الحساب.

ص: 1022

رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ، أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الْأَعْرَافِ: 44-49] .

الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْمٌ لَقَوُا اللَّهَ تَعَالَى مُصِرِّينَ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَمَعَهُمْ أَصْلُ التَّوْحِيدِ، فَرُجِّحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ بِحَسَنَاتِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحَرَّمْ مِنْهُ عَلَى النَّارِ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ؛ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَأْذَنُ اللَّهُ تَعَالَى بِالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُكْرِمَهُ، فَيَحِدُّ لَهُمْ حَدًّا فَيُخْرِجُونَهُمْ، ثُمَّ يَحِدُّ لَهُمْ حَدًّا فَيُخْرِجُونَهُمْ، ثُمَّ هَكَذَا فَيُخْرِجُونَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ وَزْنُ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ مِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ نِصْفُ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ بُرَّةٌ، ثُمَّ خَرْدَلَةٌ، ثُمَّ ذَرَّةٌ، ثُمَّ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَقُولَ الشُّفَعَاءُ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرَ فِيهَا خَيْرًا. وَيُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا هُوَ بِدُونِ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، وَلَمْ يُخَلَّدْ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ؛ وَلَوْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ: وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَعْظَمَ إِيمَانًا وَأَخَفَّ ذَنْبًا كَانَ أَخَفَّ عَذَابًا فِي النَّارِ وَأَقَلَّ مُكْثًا فِيهَا وَأَسْرَعَ خُرُوجًا مِنْهَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ أَضْعَفَ إِيمَانًا وَأَعْظَمَ ذَنْبًا كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:"مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفَعَتْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ يُصِيبُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ"1. وَهَذَا مَقَامٌ ضَلَّتْ فِيهِ الْأَفْهَامُ، وَزَلَّتْ فِيهِ الْأَقْدَامُ، وَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

1 رواه البزار "كشف الأستار 1/ 10/ 3" والطبراني في الأوسط والصغير "1/ 140" والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق "2/ 48 و379" وأبو نعيم في الحلية "5/ 46" من طرق عدة من حديث أبي هريرة. وبعض هذه الطرق بأسانيد صحيحة. قال المنذري: رواته رواة الصحيح. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح "رجال البزار والطبراني الصغير".

ص: 1023

قَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ بَعْدَ سَرْدِهِ أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ بِأَسَانِيدِهَا قَالَ1: قَدْ رَوَيْنَا أَخْبَارًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ أَنَّهَا خِلَافَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ كَثْرَتِهَا وَعَدَالَةِ نَاقِلِيهَا فِي الشَّفَاعَةِ وَفِي إِخْرَاجِ بَعْضِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ مَا دَخَلُوهَا بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَلَيْسَتْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ عِنْدَنَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ، وَأَهْلُ الْجَهْلِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِي هَذَا الْفَصْلِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مِنْهُمْ مَنِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنْكَرَتْ إِخْرَاجَ أَحَدٍ مِنَ النَّارِ مِمَّنْ يَدْخُلُ النَّارَ، وَأَنْكَرَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الشَّفَاعَةِ. الصِّنْفُ الثَّانِي: الْغَالِيَةُ مِنَ الْمُرْجِئَةِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ النَّارَ حُرِّمَتْ عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، تتأول هذا الْأَخْبَارَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِهَا.

فَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِذِكْرِ الْأَخْبَارِ بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِ مُتُونِهَا ثُمَّ نُبَيِّنُ مَعَانِيهَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَنَشْرَحُ وَنُوَضِّحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُخَالِفَةٍ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الشَّفَاعَةِ وَفِي إِخْرَاجِ مَنْ قَضَى اللَّهُ إِخْرَاجَهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ. ثُمَّ سَاقَ مِنْهَا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ"2.

وَحَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقًّا مِنْ قَلْبِهِ فَيَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا حُرِّمَ عَلَى النَّارِ؛ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"3.

1 التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل "ص327".

2 رواه مسلم "1/ 93/ ح91" في الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، وأبو داود "ح4091" والترمذي "ح1998" وابن خزيمة في التوحيد "ص328".

3 ابن خزيمة في التوحيد "ص328" من رواية عبد الوهاب الخفاف قال: أخبرنا سعيد "يعني ابن أبي عروبة" عن قتادة "وقع في المطبوع سعيد بن قتادة وهو خطأ" عن مسلم بن يسار عن حمران بن أبان عن عثمان بن عفان عن عمر

الحديث. وإسناده حسن. وعبد الوهاب قديم السماع من سعيد. وسعيد أثبت الناس في قتادة. إلا أن مسلما رواه من حديث عثمان رضي الله عنه "1/ 55/ ح26" في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة. وسيأتي.

ص: 1024

وَحَدِيثَ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"لَنْ يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا حُرِّمَ عَلَى النَّارِ" -وَفِي رِوَايَةٍ: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ- أَنْ تَأْكُلَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"1.

وَحَدِيثَ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ"2.

وَحَدِيثَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ"3.

وَحَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ لَقِيَ اللَّهَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ" ، وَفِي رِوَايَةٍ "حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ"4.

وَحَدِيثَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ فَقَالَ: "اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُوقِنًا -أَوْ مُخْلِصًا- دَخَلَ الْجَنَّةَ"5.

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص329" ورواه مسلم "1/ 61-62/ ح33" في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة وذكر فيه قصة. وأصلها في البخاري. ورواه أحمد "د/ 449".

2 رواه مسلم "1/ 55/ ح26" في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، وأحمد "1/ 65 و69" وابن خزيمة "ص335".

3 رواه أحمد "5/ 229" وابن خزيمة في التوحيد "ص336". وابن منده في الإيمان "ح94 و95" وإسناده صحيح.

4 ابن خزيمة في التوحيد "ص341" وقد رواه البخاري "6/ 474" في الأنبياء، باب قول الله تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ، ومسلم "1/ 58/ ح29" في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.

5 ابن خزيمة في التوحيد "ص341-342" والبزار "كشف الأستار 1/ 13" من طريق بدل بن المحبر. وقد اختلف في هذه الحديث فرواه عن ابن عمر من طريق بن عقيل وهو ضعيف لسوء حفظه "كشف الأستار ح9" ورواه مرة من طرق عن جابر "انظر ابن خزيمة ص341-342 والتهذيب 1/ 371" والحديث دون القصة من رواية جابر في مسلم "1/ 94/ ح93" في الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. والقصة في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "1/ 59-60/ ح31" في الإيمان.

ص: 1025

وَحَدِيثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ حَاجَةٍ وَلَا دَاجَةٍ إِلَّا أَتَيْتُ عليها، قال:"أوتشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَإِنَّ هَذَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ"1.

وَحَدِيثَ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ النَّاسَ أَنَّ مَنْ يَشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مُخْلِصًا فَلَهُ الْجَنَّةُ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا يَتَّكِلُوا. قَالَ: "فَدَعْهُمْ"2.

وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"3.

وَحَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"قَالَ لِي جِبْرِيلُ: مَنْ مَاتَ من أمتك لايشرك بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَدْخُلِ النَّارَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ. قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ"4.

وَحَدِيثَ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرَّحْمَنِ: 46]

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص342" وإسناده حسن.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص342" وقد تقدم وفيه عبد الله بن عقيل وهو ضعيف ورواه البزار "كشف الأستار "ح9" وهو صحيح لشواهده.

3 ابن خزيمة في التوحيد "ص344" وسنده حسن.

4 ابن خزيمة في التوحيد "ص344"، والبخاري "3/ 110"، في الجنائز، باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله، وفي التوحيد، باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة، ومسلم "1/ 94/ ح94" في الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.

ص: 1026

وَإِنْ زَنَى وَسَرَقَ، وَرَغْمَ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ" فَلَا أَزَالُ أَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ حَتَّى أَلْقَاهُ1.

حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةٌ وَأَنَا أَقُولُ أُخْرَى قَالَ:"مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ". قَالَ وَأَقُولُ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ لَا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّةَ2.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ3: قَدْ كُنْتُ أَمْلَيْتُ أَكْثَرَ هَذَا الْبَابِ مِنْ كِتَابِ الْإِيمَانِ وَبَيَّنْتُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَنَّ مَعْنَاهَا لَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُرْجِئَةُ، وَبِيَقِينٍ يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ زَادَ مَعَهَا شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا آمَنَ بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَلَا بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا بَعْثٍ وَلَا حِسَابٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُعَذَّبُ بِالنَّارِ. وَلَئِنْ جَازَ لِلْمُرْجِئَةِ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ ظَاهِرُهَا خِلَافُ أَصْلِهِمْ وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَخِلَافُ سُنَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَجَازَ لِلْجَهْمِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تُؤُوِّلَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا اسْتَحَقَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيُّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ لِسَانُهُ وَلَا يَزَالُ يُسْمَعُ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ يَحْتَجُّونَ بِأَخْبَارٍ مُخْتَصَرَةٍ غَيْرِ مُتَقَصَّاةٍ وَبِأَخْبَارٍ مُجْمَلَةٍ غَيْرِ مُفَصَّلَةٍ لَا يَفْهَمُونَ أُصُولَ الْعِلْمِ فَيَسْتَدِلُّونَ بِالْمُتَقَصِّي مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى مُخْتَصَرِهَا وَبِالْمُفَسَّرِ مِنْهَا عَلَى مُجْمَلِهَا، قَدْ ثَبَتَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَفْظِهِ لَوْ حُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا كَمَا حَمَلَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأَخْبَارَ

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص344-345" ورواه ابن أبي شيبة وأحمد "6/ 447" والنسائي في الكبرى كما في التحفة "8/ 232" وفي عمل اليوم والليلة "ح1124 و1125 و1126" والبزار "1/ 11/ 5" وأبو يعلى وابن جرير "27/ 146" مختصرا وأخرجه ابن منيع والحكيم في نوادر الأصول وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه كما في الدر المنثور "7/ 707".

وهو حديث صحيح يشهد له ما تقدم وهو غير حديث أبي ذر المعروف في الصحيحين: قال الدارقطني في العلل: يشبه أن يكون القولان صحيحين.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص346"، والبخاري "3/ 109" في الجنائز في فاتحته وفي تفسير سورة البقرة، باب "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا"، وفي الإيمان والنذور، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصل أو قرأ أو سبح أو هلل فهو على نيته، ومسلم "1/ 94/ ح92" في الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.

3 أي: ابن خزيمة.

ص: 1027

الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِهَا لَكَانَ الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَحِقًّا لِلْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَلَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَلَا آمَنَ بِقَلْبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ شَيْئًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا انْزَجَرَ عَنْ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَاسْتِحْلَالِ حَرَمِهِمْ، فَاسْمَعِ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْتَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا حَمَلَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا1.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ"2. وَحَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَأَنِّي نَبِيُّهُ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ -وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى فِلْذَةِ صَدْرِهِ- حَرَّمَ اللَّهُ لَحْمَهُ عَلَى النَّارِ" 3، وَحَدِيثُ مُعَاذٍ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يُوقِنُ بِقَلْبِهِ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ" قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: "إِمَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" وَإِمَّا قَالَ: "نَجَا مِنَ النَّارِ"4، كَيْفَ جَازَ لِلْجَهْمِيِّ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْمَرْءَ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بِتَصْدِيقِ الْقَلْبِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَبِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَيَتْرُكُ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ، لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْتَجَّ جَاهِلٌ لَمْ يَعْرِفْ دِينَ اللَّهِ وَلَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بِخَبَرِ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم "مَنْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 5.

1 التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل "ص346-347".

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص347" وقد تقدم تخريجه.

3 ابن خزيمة في التوحيد "ص348" والطبراني في الكبير "18/ 124/ ح253".

قال الهيثمي: وفي إسناده عمر بن محمد بن عمر بن معدان واهي الحديث المجمع "1/ 24" والحديث صحيح.

4 ابن خزيمة في التوحيد "ص349" وسنده صحيح.

5 ابن خزيمة في التوحيد "ص350" وأحمد "1/ 60" والبزار "1/ 169/ 335". وفيه عبد الملك بن عبيد السدوسي وهو مجهول قال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد في زياداته: قلت: بل هو من رواية أبيه.

ص: 1028

فَيَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَلَا صَدَّقَ بِقَلْبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَلَا أَطَاعَ فِي شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا انْزَجَرَ عَنْ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ، إِذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُثْمَانَ بِسَنَدِهِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ جَازَ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ الْمُخْتَصَرِ فِي الْإِيمَانِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَرْءِ بِهِ الْجَنَّةَ وَتُرِكَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَخْبَارِ الْمُفَسَّرَةِ الْمُتَقَصَّاةِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْتَجَّ جَاهِلٌ مُعَانِدٌ فَيَقُولُ: بَلِ الْإِيمَانُ إِقَامُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَأَنَّ مُصَلِّيَهَا يَسْتَوْجِبُ الْجَنَّةَ وَيُعَاذُ مِنَ النَّارِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالتَّصْدِيقِ وَلَا بِالْإِقْرَارِ بِمَا أُمِرَ أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ وَيُقَرَّ بِهِ، وَلَا يَعْمَلُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَا الزَّجْرِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ، ويحتج بخبر عمار بْنِ رُؤَيْبَةَ فَذَكَرَهُ بإسناده إلى عمار بْنِ رُؤَيْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَمْلَيْتُ طُرُقَ هَذَا الْخَبَرِ فِي كِتَابِ الْمُخْتَصَرِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ مَعَ أَخْبَارِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ" 2 وَكُلُّ عَالِمٍ يَعْلَمُ دِينَ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ يَعْلَمُ أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لَا تُوجِبَانِ الْجَنَّةَ مَعَ ارْتِكَابِ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، إِنَّمَا رُوِيَتْ فِي فَضَائِلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا رُوِيَتْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 3 فَضِيلَةً لِهَذَا الْقَوْلِ، لَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُلُّ الْإِيمَانِ.

قُلْتُ4: لِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَوَازِمُ وَمُقْتَضَيَاتٌ وَشُرُوطٌ مُقَيِّدٌ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْتِزَامِ

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص350-351" وفي صحيحه "1/ 164/ ح318" ومسلم "1/ 440/ ح634" في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص351" ومسلم "1/ 454/ ح657" في المساجد، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.

3 تقدم ذكره.

4 أي: المصنف حافظ رحمه الله.

ص: 1029

قَائِلِهَا لِجَمِيعِهَا وَاسْتِكْمَالِهِ إِيَّاهَا كَمَا قَدَّمْنَا بَسْطَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ جَازَ لِجَاهِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ جَمِيعُ الْإِيمَانِ، إِذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أَنَّ قَائِلَهَا يَسْتَوْجِبُ الْجَنَّةَ وَيُعَاذُ مِنَ النَّارِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَدَّعِيَ جَاهِلٌ مُعَانِدٌ أَيْضًا أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ فَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ" 1 كَاحْتِجَاجِ الْمُرْجِئَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" وَيَقُولُ مُعَانِدٌ آخَرُ جَاهِلٌ: إِنَّ الْإِيمَانَ بِكَمَالِهِ الْمَشْيُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى تُغَبَّرَ قَدَمَا الْمَاشِي، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم:"مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" 2 وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يجتمع غبار فب سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخَرَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ"3.

وَيَدَّعِي جَاهِلٌ آخَرُ أَنَّ الْإِيمَانَ كُلَّهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بكل عضوا مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ" 4، وَيَدَّعِي جَاهِلٌ آخَرُ أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم:"لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى" 5، وَيَدَّعِي جَاهِلٌ آخَرُ أَنَّ جَمِيعَ

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص351"، وابن حبان "7/ 67 -إحسان". وأبو داود "ح2541" في الجهاد باب من سأل الله تعالى الشهادة. والترمذي "ح/ 1657" في فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يكلم في سبيل الله. والنسائي "6/ 25-26" في الجهاد، باب ثواب من قاتل في سبيل الله. قال الترمذي: حديث صحيح وصححه الحاكم من حديث معاذ رضي الله عنه.

وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص351" والبخاري "2/ 390" في الجمعة، باب المشي إلى الجمعة، وفي الجهاد، باب من اغبرت قدماه في سبيل الله.

3 ابن خزيمة في التوحيد "ص351"، وأحمد "2/ 256 و342 و441" والترمذي "4/ 171/ ح1633" في فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي "6/ 12" في الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه. وابن ماجه "2/ 927/ ح2774" فيه، باب الخروج في النفير، وابن حبان في صحيحه "5/ 103 -إحسان".

4 ابن خزيمة في التوحيد "ص351-352" والبخاري "11/ 599" في كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة} ومسلم "2/ 1147/ ح1509" في العتق، باب فضل العتق.

5 ابن خزيمة في التوحيد "ص352" وأحمد "2/ 505" والترمذي "4/ 171/ ح1633" في فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله. والنسائي "6/ 12" في الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه. والحاكم في المستدرك "4/ 260" وصححه.

ص: 1030

الْإِيمَانِ صَوْمُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" 1، وَيَدَّعِي جَاهِلٌ آخَرُ أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ قَتْلُ كَافِرٍ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم:"لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا" 2 ثُمَّ ذَكَرَهُ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْجِنْسُ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ يَطُولُ بِتَقَصِّيهِ الْكِتَابُ، وَفِي قَدْرِ مَا ذَكَرْنَا غُنْيَةٌ وَكِفَايَةٌ لِمَا لَهُ قَصَدْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَخْبَرَ بِفَضَائِلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَمَا هُوَ مِثْلُهَا لَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ ذَكَرَهُ أَعْلَمَ أَنَّ عَامِلَهُ يَسْتَوْجِبُ بِفِعْلِهِ الْجَنَّةَ أَوْ يُعَاذُ مِنَ النَّارِ أَنَّهُ جَمِيعُ الْإِيمَانِ، وَكَذَاكَ إِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:"مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ" أَوْ "حُرِّمَ عَلَى النَّارِ" فَضِيلَةً لِهَذَا الْقَوْلِ لَا أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ كَمَا ادَّعَى مَنْ لَا يَفْهَمُ الْعِلْمَ وَيُعَانِدُ فَلَا يَتَعَلَّمُ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ مِنْ أَهْلِهَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِ، صلى الله عليه وسلم:"لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا" هَذَا لَفْظٌ مُخْتَصَرُهُ الْخَبَرُ الْمُقْتَضِي لِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَرَةِ مَا حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَجْلَانَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّارِ اجْتِمَاعًا يَعْنِي أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ الْمُسْلِمُ وَقَارَبَ"3.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِذَاكَ نَقُولُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا: مَنْ عَمِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ سَدَّدَ وَقَارَبَ وَمَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَدْخُلِ النَّارَ مَوْضِعَ الْكُفْرِ مِنْهَا وَإِنِ ارْتَكَبَ بَعْضَ الْمَعَاصِي، لِذَاكَ لَا يَجْتَمِعُ قَاتِلُ الْكَافِرِ إِذَا مَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ مَعَ الْكَافِرِ الْمَقْتُولِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّارِ، لَا إِنَّهُ

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص352" والبخاري "6/ 47" في الجهاد، باب فضل الصوم في سبيل الله، ومسلم "2/ 808/ ح1153" في الصوم، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص352"، ومسلم "3/ 1505/ ح1891" في الإمارة، باب من قتل كافرا ثم سدد.

3 ابن خزيمة في التوحيد "ص352-353"، ومسلم "3/ 1505/ ح1891" في الإمارة، باب من قتل كافرا ثم سدد.

ص: 1031

لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَلَا مَوْضِعًا مِنْهَا وَإِنِ ارْتَكَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ عز وجل إِذَا لَمْ يَشَأْ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا دُونَ الشِّرْكِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل أَنَّ لِلنَّارِ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ فَقَالَ لِإِبْلِيسَ:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الْحِجْرِ: 44-42] فَأَعْلَمْنَا رَبُّنَا عز وجل أَنَّهُ قَسَّمَ تَابِعِي إِبْلِيسَ مِنَ الْغَاوِينَ سَبْعَةَ أَجْزَاءَ عَلَى عَدَدِ أَبْوَابِ النَّارِ، فَجَعَلَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءًا مَعْلُومًا، وَاسْتَثْنَى عِبَادَهُ الْمُخْلِصِينَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ، فَكُلُّ مُرْتَكِبٍ مَعْصِيَةً زَجَرَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ أَغْوَاهُ إِبْلِيسُ، وَاللَّهُ عز وجل قَدْ يَشَاءُ غُفْرَانَ كُلِّ مَعْصِيَةٍ يَرْتَكِبُهَا الْمُسْلِمُ دُونَ الشِّرْكِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، لِذَاكَ أَعْلَمَنَا فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ قَوْلَهُ:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاءِ: 116] وَأَعْلَمَنَا خَالِقُنَا عز وجل أَنَّ آدَمَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ وَأَمْرَ مَلَائِكَتِهِ بِالسُّجُودِ لَهُ عَصَاهُ فَغَوَى، وَأَنَّهُ عز وجل بِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ اجْتَبَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى، وَلَمْ يَحْرِمْهُ اللَّهُ بِارْتِكَابِ هَذَا الْحُوبَ بَعْدَ ارْتِكَابِهِ إِيَّاهُ، فَمَنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ حَوْبَتَهُ الَّتِي ارْتَكَبَهَا وَأَوْقَعَ عَلَيْهِ اسْمَ غَاوٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْأَجْزَاءِ جُزْءًا وَقِسْمًا لِأَبْوَابِ النَّارِ السَّبْعَةِ. وَفِي ذِكْرِهِ آدَمَ صلى الله عليه وسلم وَقَوْلِهِ عز وجل:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] مَا يُبَيِّنُ وَيُوَضِّحُ أَنَّ اسْمَ الْغَاوِي قَدْ يَقَعُ عَلَى مُرْتَكِبِ خَطِيئَةٍ قَدْ زَجَرَ اللَّهُ عَنِ إِتْيَانِهَا وَأَنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةُ كُفْرًا وَلَا شِرْكًا وَلَا مَا يُقَارِبُهُمَا وَيُشْبِهُهُمَا، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ لِلَّهِ عز وجل قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ الْمُطِيعُ لِخَالِقِهِ فِي أَكْثَرِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَنَدَبَهُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ غَيْرَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ وَالْمُنْتَهِي عَنْ أَكْثَرِ الْمَعَاصِي وَإِنِ ارْتَكَبَ بَعْضَ الْمَعَاصِي وَالْحَوْبَاتِ فِي قِسْمِ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَدَعَا مَعَهُ آلِهَةً لَهُ أَوْ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا- وَلَمْ يُؤْمِنْ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَلَا أَطَاعَ اللَّهَ فِي شَيْءٍ أَمَرَ بِهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ وَلَا انْزَجَرَ عَنْ مَعْصِيَةٍ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا مُحَالٌ أَنْ يَجْتَمِعَ هَذَانِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ النَّارِ، وَالْعَقْلُ مُرَكَّبٌ عَلَى أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ خَطِيئَةً وَأَكْثَرَ ذُنُوبًا لَمْ يَتَجَاوَزِ اللَّهُ عَنْ ذُنُوبِهِ كَانَ أَشَدَّ عَذَابًا فِي النَّارِ، كَمَا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ طَاعَةً لِلَّهِ عز وجل وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ بِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاجْتِنَابِ السَّيِّئَاتِ كَانَ أَرْفَعَ دَرَجَةً فِي الْجِنَانِ وَأَعْظَمَ ثَوَابًا وَأَجْزَلَ نِعْمَةً، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ

ص: 1032

يَتَوَهَّمَ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ أَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَجْتَمِعُونَ فِي النَّارِ فِي الدَّرَجَةِ مَعَ مَنْ كَانَ يَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ عز وجل فَيَدْعُو لَهُ شَرِيكًا أَوْ شُرَكَاءَ فَيَدْعُونَ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا وَيَكْفُرُ بِهِ وَيُشْرِكُ وَيَكْفُرُ بِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَيُكَذِّبُ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَيَتْرُكُ جَمِيعَ الْفَرَائِضِ وَيَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ فَيَعْبُدُ النِّيرَانَ وَيَسْجُدُ لِلْأَصْنَامِ وَالصُّلْبَانِ، فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا الْبَابَ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ تَكْذِيبِ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ مِنَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إِخْرَاجِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنَ النَّارِ، إِذْ مُحَالٌ أَنْ يُقَالَ أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ لَيْسَ فِيهَا، وَأَكْثَرُ اسْتِحَالَةً مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ لَيْسَ فِيهَا. وَفِي إِبْطَالِ أَخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اضْمِحْلَالُ الدِّينِ وَإِبْطَالُ الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ عز وجل لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ جَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّارِ، وَلَا سَوَّى بَيْنِ عَذَابِ جَمِيعِهِمْ، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النِّسَاءِ: 145] وَقَالَ: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غَافِرٍ: 46] .

ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَكَفَرَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَرَدُّوهُ بِبَاطِلٍ آخَرَ، شَرَعَ رحمه الله فِي بَيَانِ مَا تَشَبَّثَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَاحْتَجُّوا بِهِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَمَا كَفَرَ بِهِ الْمُرْجِئَةُ وَرَدُّوهُ بِبَاطِلٍ آخَرَ. فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

بَابُ ذِكْرِ أَخْبَارٍ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَابِتَةً مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، جَهِلَ مَعْنَاهَا فِرْقَتَانِ: فِرْقَةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ احْتَجُّوا بِهَا وَادَّعُوا أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ مِنْهَا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ الْجِنَانُ. وَالْفِرْقَةُ الْأُخْرَى الْمُرْجِئَةُ كَفَرَتْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَنْكَرَتْهَا وَدَفَعَتْهَا جَهْلًا مِنْهَا بِمَعَانِيهَا. وَأَنَا ذَاكِرُهَا بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِ مُتُونِهَا وَمُبِينٌ مَعَانِيهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ بِأَسَانِيدِهِ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي بَكْرَةَ وَسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهم، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ"1.

1 روى حديث أسامة بن زيد: ابن خزيمة في التوحيد "ص356" من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد عن هشام بن حسان عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن أسامة وسعد بن أبي =

ص: 1033

وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ انْتَسَبَ لِغَيْرِ أَبِيهِ فَلَنْ يَرِحَ بِرِيحِ الْجَنَّةِ، وَرِيحُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا"1.

وَحَدِيثَ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ" 2 وَفِي رِوَايَةٍ "نَمَّامٌ"3.

وَحَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" فَقَالَ رَجُلٌ: إن كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ"4.

وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم:"لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ"5.

= وقاص ورجل آخر من أصحاب رسول الله. وإسناده على شرطيهما وأما حديث أبي بكرة وسعد بن أبي وقاص: فقد رواه البخاري "8/ 45" في المغازي، باب غزوة الطائف. ومسلم "1/ 80/ ح63" في الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم وابن خزيمة "ص356". وقد روى عن غيرهم.

وقد وهم المصنف رحمه الله حين جعل سعد بن مالك غير سعد بن أبي وقاص وهو هو. فهو سعد بن مالك أبي وقاص الزهري. وقد وقع في المطبوع "سعد بن أبي مالك" وهو خطأ. وكثيرا ما وقع مثله ولم ننبه عليه سابقا لعدم ضرورته.

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص357"، وأحمد "2/ 171 و194" وابن ماجه "2/ 870/ ح2611" في الحدود، باب من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه. والخطيب في تاريخ بغداد "2/ 347" قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات "زوائد 2/ 79/ ح925" وهو كما قال.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص358"، والبخاري "10/ 472" في الأدب، باب ما يكره من النميمة، ومسلم "1/ 101/ ح105" في الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة.

3 ابن خزيمة في التوحيد "ص358"، ومسلم "1/ 101/ ح105" في الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة.

4 ابن خزيمة في التوحيد "ص358-359"، ومسلم "1/ 122/ ح137" في الإيمان، باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فأجره بالنار.

ابن خزيمة في التوحيد ""ص363"، وأحمد "2/ 201 و203" والنسائي "8/ 318" في الأشربة، باب الرواية في المدمنين الخمر، والدارمي "2/ 112" والبخاري في التاريخ الصغير "124" وعبد الرزاق في المصنف "2/ 205" وابن حبان في صحيحه "5/ 163 -إحسان" والطبراني كما في المجمع "6/ 260".

ص: 1034

وَحَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ"1.

وَحَدِيثَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ وَرَجْلَةُ النِّسَاءِ"2.

وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى" 3 وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَا مُعَاهِدَةً بِغَيْرِ حَقِّهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَنْ يَشُمَّ رِيحَهَا"4.

ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَيْ: بَعْضَ الْجِنَانِ؛ إِذِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْلَمَ أَنَّهَا جِنَانٌ مِنْ جَنَّةٍ، وَاسْمُ الْجَنَّةِ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ جَنَّةٍ مِنْهَا، فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ فِعْلِ كَذَا لِبَعْضِ الْمَعَاصِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَوْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ بَعْضَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَنْبَلُ وَأَكْثَرُ نَعِيمًا وَسُرُورًا وَبَهْجَةً وَأَوْسَعُ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ لَا يَدْخُلُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ بَيَّنَ خَبَرَهُ الَّذِي رَوَى عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم

"لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ وَلَا مَنَّانٌ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ" 5، إِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى مَا تُأُوِّلَتْ عَلَى أَحَدِ

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص363"، والبخاري "10/ 414" في الأدب، باب إثم القاطع، ومسلم "4/ 1981/ ح2556" في البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص363-364". ولم يروه من حديث عمر إلا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس. وقد تكلم فيه جماعة من جهة حفظه. والحديث صحيح من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو الآتي.

قال الحاكم: والقلب أميل إلى التي لم يذكر في إسنادها عمر.

3 ابن خزيمة في التوحيد "ص364" وأحمد في المسند "2/ 134" والنسائي "5/ 80" في الزكاة، باب المنان بما أعطى، وابن حبان في صحيحه "9/ 218 -إحسان" والحاكم في المستدرك "4/ 147" و"1/ 72".

4 ابن خزيمة في التوحيد "ص365". ورواه أبو داود "ح2760" في الجهاد، باب في الوفاء للمعاهد. والنسائي "8/ 24-25" القسامة، باب تعظيم قتل المعاهد. ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الجهاد، باب إثم من قتل معاهدا بغير جرم.

5 سبق ذكره.

ص: 1035

الْمَعْنَيَيْنِ. ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ حَظِيرَةَ الْقُدُسِ سِكِّيرٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مَنَّانٌ"1.

قَالَ: وَالْمَعْنَى الثَّانِي مَا قَدْ أَعْلَمْتُ أَصْحَابِي مَا لَا أُحْصِي مِنْ مَرَّةٍ أَنَّ كُلَّ وَعِيدٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى شَرِيطَةٍ، أَيْ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ وَيَصْفَحَ وَيَتَكَرَّمَ وَيَتَفَضَّلَ فَلَا يُعَذِّبُ عَلَى ارْتِكَابِ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ، إِذِ اللَّهُ عز وجل قَدْ خَبَّرَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ أَنَّهُ قَدْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاءِ: 116] قَدْ أَمْلَيْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَاسْتَدْلَلْتُ أَيْضًا بِخَبَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَعْنَى: وَسَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى قَيْسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ أَنَّ الْأَشْعَثَ وَهَبَ لَهُ غُلَامًا، فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا وَهَبْتُ لَكَ شَيْئًا. فَلَمَّا أَصْبَحَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرًا لِيَقْتَطِعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مُجْتَمِعٌ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ"2.

قُلْتُ3: وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي قِصَّةِ الْبَيْعَةِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَاسْمَعُوا الْخَبَرَ الْمُصَرِّحَ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُ أَنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ وَاسْمُ الْجَنَّةِ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ جَنَّةٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَسْتَدِلُّوا بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِنَا الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لِبَعْضِ الْمَعَاصِي لَمْ

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص367" بسند حسن. وأخرجه أحمد. "3/ 226" عن أنس بن مالك ولفظه "لا يلج حائط القدس: مدمن خمر، ولا العاق لوالديه، ولا المنان عطاءه" والبزار "كشف الأستار 3/ 355" إلا أنه قال: لا يلج جنان الفردوس، والطبراني في الأوسط وقال حضرة القدوس كما في المجمع "5/ 77" قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد وفيه ضعف لسوء حفظه.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص368"، والبخاري "11/ 558" في الإيمان، باب قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} ، ومسلم "1/ 122/ ح138" فيه، باب وعيد من اقتطع حق المسلم بيمين فأجره بالنار.

3 يعني المصنف حافظ رحمه الله.

ص: 1036

يَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِنَّمَا أَرَادَ بَعْضَ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَفْضَلُ وَأَنْبَلُ وَأَكْثَرُ نَعِيمًا وَأَوْسَعُ، إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يُرِيدُ لَا يَدْخُلُ شَيْئًا مِنَ الْجِنَانِ، وَيُخْبِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَتَكُونُ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ دَافِعَةً الْأُخْرَى وَأَحَدُ الْخَبْرَيْنِ دَافِعًا الْآخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ التَّنَاسُخُ، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ. ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ الرُّبَيِّعَ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْبِئْنِي عَنْ حَارِثَةَ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ فِي الْبُكَاءِ. فَقَالَ:"يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ، وَإِنَّهُ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى"1.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَمْلَيْتُ أَكْثَرَ طُرُقِ هَذَا الْخَبَرِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، وَقَدْ أَمْلَيْتُ فِي كِتَابِ ذِكْرِ نَعِيْمِ الْجَنَّةِ ذِكْرَ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَبُعْدَ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ. مِنْهَا أَنَّ إِخْبَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ:"بَلَى رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" 2، وَأَمْلَيْتُ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِنْ دَرَجِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ3. فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ بعض الذنوب الذي يَرْتَكِبُهُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ مُرْتَكِبَهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، مَعْنَاهَا لَا يَدْخُلُ الْعَالِي مِنَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَكِبُوا تِلْكَ الذُّنُوبَ وَالْحَوْبَاتِ وَالْخَطَايَا.

ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ صلى الله عليه وسلم مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يُرِيدُ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ الَّتِي يَدْخُلُهَا فِيهِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الْحَوْبَةَ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِمَّا لِلْمُحَاسَبَةِ عَلَى الذَّنْبِ أَوْ لِإِدْخَالِهِ النَّارَ لِيُعَذَّبَ بِقَدْرِ ذَلِكَ الذَّنْبِ، إِنْ

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص369-370"، والبخاري "6/ 25-26" في الجهاد، باب من أتاه سهم غرب فقتله، وفي المغازي، باب فضل من شهد بدرا، وفي الرقاق، باب صفة الجنة والنار.

2 ابن خزيمة في التوحيد "ص370"، والبخاري "6/ 320" في بدء الخلق، باب صفة الجنة، ومسلم "4/ 2177/ ح2831" في صفة الجنة، باب ترائي أهل الجنة الغرف.

3 رواه البخاري "6/ 11" في الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله.

ص: 1037

كَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْمُرْتَكِبُ النَّارَ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ وَيَصْفَحْ وَيَتَكَرَّمْ فَيَغْفِرْ ذَلِكَ الذَّنْبَ فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي؛ لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تُحْمَلْ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَتْ عَلَى وَجْهِ التَّهَاتُرَ وَالتَّكَاذُبَ وَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: إِذَا حَدَّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَظَنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْنَاهُ وَأَهْدَاهُ وَأَتْقَاهُ. ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَذَكَرَهُ1. انْتَهَى كَلَامُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِاخْتِصَارِ بَعْضِ مُكَرَّرَهُ فَلَا تَسْتَطِلْهُ فَإِنَّهُ كَلَامٌ مَتِينٌ مِنْ إِمَامٍ مُتَضَلِّعٍ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ذِي خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ لِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا.

وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا أَخْبَارَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعِنْ رحمه الله التَّأْوِيلَ الَّذِي اصْطَلَحَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ لِصَرْفِ النُّصُوصِ عَنْ مَعَانِيهَا إِلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي هَضَمُوا بِهَا مَعَانِيَ النُّصُوصِ بِمَا اقتضته عقولهم إلى السَّخِيفَةُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقَتِهِ وَلَا مِنْ شَأْنِهِ رحمه الله وَإِنَّمَا عَنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ مِنْ حَمْلِ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُفَسَّرِ، وَالْمُخْتَصَرِ عَلَى الْمُتَقَصِّي، وَالْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَالْعُمُومِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْلِيفِ بَيْنَ النُّصُوصِ وَمَدْلُولَاتِهَا لِئَلَّا تَكُونُ مُتَنَاقِضَةً يَرُدُّ بَعْضُهَا مَعْنَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ، صلى الله عليه وسلم. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُمْ.

مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ قِيلَ وَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِيمَنِ ارْتَكَبَ حَدًّا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ قَالَ: فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَبَيْنَ مَا صَرَّحَتْ بِهِ النُّصُوصُ الَّتِي فِي الْمِيزَانِ وَالْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ مِنْ أَنَّ مَنْ رُجِّحَتْ خَطَايَاهُ وَسَيِّئَاتُهُ بِحَسَنَاتِهِ تَمَسُّهُ النَّارُ وَلَا بُدَّ؟

قُلْنَا: لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ وَلَا مُنَافَاةَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ حَصَلَ الْجَمْعُ الْفَاصِلُ لِلنِّزَاعِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها الَّذِي ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الْبَيْتِ الْأَدْنَى بِأَنَّ مَنْ

1 ابن خزيمة في التوحيد "ص373". وسنده حسن.

ص: 1038

يَشَأْ عز وجل أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ يُحَاسِبْهُ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ الَّذِي فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعَرْضِ وَقَالَ فِي مَعْنَى الْعَرْضَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي صِفَتِهِ: "يَدْنُوَا أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ عز وجل حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. وَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ"1.

وَأَمَّا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِذُنُوبِهِمْ فَهُمْ مِمَّنْ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:"مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ"2. نَسْأَلُ اللَّهَ عز وجل أَنْ يُيَسِّرَ حِسَابَنَا وَيَتَجَاوَزَ عَنَّا وَيَغْفِرَ لَنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.

5-

عَامِلُ الْكَبِيرَةِ يُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِهِ إِيَّاهَا:

وَلَا نُكَفِّرُ بِالْمَعَاصِي مُؤْمِنًا

إِلَّا مَعَ اسْتِحْلَالِهِ لِمَا جَنَى

"وَلَا نُكَفِّرُ بِالْمَعَاصِي" الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا وَأَنَّهَا لَا تُوجِبُ كُفْرًا، وَالْمُرَادُ بِهَا الْكَبَائِرُ الَّتِي لَيْسَتْ بِشِرْكٍ، وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ وَلَا تُنَافِي اعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَلَا عَمَلَهُ "مُؤْمِنًا" مُقِرًّا بِتَحْرِيمِهَا مُعْتَقَدًا لَهُ، مُؤْمِنًا بِالْحُدُودِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ نَقُولُ يَفْسُقُ بِفِعْلِهَا، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِارْتِكَابِهَا، وَيَنْقُصُ إِيمَانُهُ بِقَدْرِ مَا تَجَارَأَ عَلَيْهِ مِنْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى فِسْقِهِ وَنُقْصَانِ إِيمَانِهِ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النُّورِ: 4-5] .

وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ آيَاتِ الْحُدُودِ وَالْكَبَائِرِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي

1 البخاري "5/ 96" في المظالم، باب قول الله تعالى:{أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، وفي تفسير سورة هود، باب قوله تعالى:{وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} ، وفي الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، وفي التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء، ومسلم "4/ 2120/ ح2768" في التوبة، باب توبة القاتل وإن كثر قتله.

2 البخاري "1/ 196" في العلم، باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه، وفي تفسير سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، وفي الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، ومسلم "4/ 2204/ ح2876" في الجنة، باب إثبات الحساب.

ص: 1039