المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القضاء والقدر أربع مراتب: - معارج القبول بشرح سلم الوصول - جـ ٣

[حافظ بن أحمد حكمي]

فهرس الكتاب

- ‌فَصْلٌ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ

- ‌الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِعِلْمِ اللَّهِ عز وجل الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ

- ‌الْإِيمَانُ بِكِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ خَمْسَةُ تَقَادِيرَ:

- ‌الْأَوَّلُ" التَّقْدِيرُ الْأَزَلِيُّ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

- ‌الرَّابِعُ التَّقْدِيرُ الْحَوْلِيُّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

- ‌الْخَامِسُ التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ وَهُوَ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ

- ‌الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

- ‌ الْقَدَرُ السَّابِقُ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ

- ‌ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ:

- ‌الْكَلَامُ عَلَى النَّوْءِ:

- ‌مَا وَرَدَ فِي الْعَدْوَى:

- ‌الْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ:

- ‌[[الفصل العاشر: في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين]]

- ‌1- الْإِيمَانُ يزيد وينقص:

- ‌2- تُفَاضُلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ:

- ‌3- فَاسْقُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ:

- ‌4- الْعَاصِي لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ:

- ‌[6 - التَّوْبَةُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ شُرُوطُهَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ] :

- ‌[شُرُوطُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ] :

- ‌[[الفصل الحادي عشر معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]]

- ‌مَوْلِدُهُ

- ‌[دَعْوَتُهُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ]

- ‌حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

- ‌[هَلْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ] :

- ‌حَدِيثُ الْهِجْرَةِ:

- ‌الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ:

- ‌وَفَاتُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:

- ‌تَبْلِيغُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رِسَالَةَ اللَّهِ:

- ‌[أَعْظَمُ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْقُرْآنُ] :

- ‌[[الفصل الثاني عشر: فيمن هو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصحابة بمحاسنهم، والكف عن مساوئهم وما شجر بينهم، رضي الله عنهم]]

- ‌الْكَلَامُ عَلَى التَّابِعِينَ رضي الله عنهم:

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ السُّكُوتِ عَمَّا كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم:

- ‌ تَحْرِيمِ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ

- ‌ عِظَمِ إِثْمِ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ:

- ‌كُلُّ مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ يُحْتَكَمُ فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

الفصل: ‌القضاء والقدر أربع مراتب:

الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الْأَنْعَامِ: 148] وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُخَاصِمُونَ بِهِ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَهُمُ أَعْدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَخُصُومُهُ وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْإِبْلِيسِيَةُ وَشَيْخُهُمْ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ احْتَجَّ عَلَى اللَّهِ بِالْقَدَرِ فَقَالَ:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي} وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِالذَّنْبِ وَيَبُوءُ بِهِ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ آدَمُ. فَمَنْ أَقَرَّ بِالذَّنْبِ وَبَاءَ بِهِ وَنَزَّهَ رَبَّهُ فَقَدْ أَشْبَهَ أَبَاهُ آدَمَ، وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ وَمَنْ بَرَّأَ نَفْسَهُ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَقَدْ أَشْبَهَ إِبْلِيسَ. ثُمَّ سَاقَ كَلَامًا طَوِيلًا فِي فِرَقِ الْقَدَرِيَّةِ وَضَلَالَهُمْ إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَانْظُرْ كَيْفَ انْقَسَمَتْ هَذِهِ الْمَوَارِيثُ عَلَى هَذِهِ السِّهَامِ وَوَرِثَ كُلُّ قَوْمٍ أَئِمَّتَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ إِمَّا فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِمْ وَإِمَّا فِي كَثِيرٍ مِنْهَا وَإِمَّا فِي جُزْءٍ مِنْهَا، وَهَدَى اللَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَثَةَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ لِمِيرَاثِ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُوا بِبَعْضِ بَلْ آمَنُوا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ الْعَامَّةِ النَّافِذَةِ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مُقَلِّبُ الْقُلُوبَ وَمُصَرِّفُهَا كَيْفَ أَرَادَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنًا وَالْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا وَالْمُتَّقِيَ مُتَّقِيًا، وَجَعَلَ أَئِمَّةَ الْهُدَى يَهْدُونَ بِأَمْرِهِ، وَأَئِمَّةُ الضَّلَالَةِ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَأَنَّهُ أَلْهَمَ كُلَّ نَفْسٍ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، وَأَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَفَّقَ أَهْلَ الطَّاعَةِ لِطَاعَتِهِ فَأَطَاعُوهُ وَلَوْ شَاءَ لَخَذَلَهُمْ فَعَصَوْهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى حَالَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَقُلُوبِهِمْ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فَكَفَرُوا بِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَوَفَّقَهُمْ فَآمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ، وَأَنَّهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا إِيمَانًا يُثَابُونَ عَلَيْهِ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ وَيُرْضَى بِهِ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ.

‌الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ عِنْدَهُمْ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُمْ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَ بِهَا عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى:

الْأَوَّلُ: عِلْمُهُ السَّابِقُ بِمَا هُمْ عَامِلُوهُ قَبْلَ إِيجَادِهِمْ.

الثَّانِيَةُ: كِتَابَتُهُ ذَلِكَ فِي الذَّكَرِ عِنْدَهُ قبل خلق السموات وَالْأَرْضَ.

ص: 950

الثَّالِثَةُ: مَشِيئَتُةُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ فَلَا خُرُوجَ لِكَائِنٍ عَنْ مَشِيْئَتِهِ كَمَا لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْ عِلْمِهِ.

الرَّابِعَةُ: خَلْقُهُ لَهُ وَإِيجَادُهُ وَتَكْوِينُهُ فَإِنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.

فَالْخَالِقُ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَمَا سِوَاهُ فَمَخْلُوقٌ، وَلَا وَاسِطَةَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَيُؤْمِنُونَ مَعَ ذَلِكَ بِحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ فِي كُلِّ مَا فَعَلَهُ وَخَلَقَهُ، وَأَنَّ مَصْدَرَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَنْ حِكْمَةٍ تَامَّةٍ هِيَ الَّتِي اقْتَضَتْ صُدُورَ ذَلِكَ وَخَلْقَهُ، وَأَنَّ حِكْمَتَهُ حِكْمَةُ حَقٍّ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ قَائِمَةٌ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَلَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ مُطَابَقَةِ عِلْمِهِ لِمَعْلُومِهِ وَقُدْرَتِهِ لِمَقْدُورِهِ كَمَا يَقُولُهُ نُفَاةُ الْحِكْمَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِلَفْظِهَا دُونَ حَقِيقَتِهَا، بَلْ هِيَ أَمَرٌّ وَرَاءَ ذَلِكَ، وَهِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ الْمَطْلُوبَةُ الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّقُ مَحَبَّتِهِ وَحَمْدِهِ وَلِأَجْلِهَا خَلْقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى وَأَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى وَأَضَلَّ وَهَدَى وَمَنَعَ وَأَعْطَى، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ هِيَ الْغَايَةُ وَالْفِعْلُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، فَإِثْبَاتُ الْفِعْلِ مَعَ نَفْيِهَا إِثْبَاتٌ لِلْوَسَائِلِ وَنَفْيٌ لِلْغَايَاتِ وَهُوَ مُحَالٌ، إِذْ نَفِيُ الْغَايَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْوَسِيلَةِ، فَنَفْيُ الْوَسِيلَةِ وَهِيَ الْفِعْلُ لَازِمٌ لِنَفْيِ الْغَايَةِ وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَنَفْيُ قِيَامِ الْفِعْلِ وَالْحِكْمَةُ بِهِ نَفْيٌ لَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ، إِذْ فِعْلٌ لَا يَقُومُ بِفَاعِلِهِ وَحِكْمَةٌ لَا تَقُومُ بِالْحَكِيمِ شَيْءٌ لَا يُعْقَلُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِنْكَارَ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، وَهَذَا لَازِمٌ لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ وَلَا مَحِيدَ لَهُ عَنْهُ وَإِنْ أَبَى الْتِزَامَهُ وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ حِكْمَتَهُ تَعَالَى وَأَفْعَالَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَلِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ قَوْلِهِ مَحْذُورٌ الْبَتَّةَ بَلْ قَوْلُهُ حَقٌّ وَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ كَائِنًا مَا كَانَ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ وَرَثَةَ الرُّسُلِ وَخُلَفَاءَهُمْ لِكَمَالِ مِيرَاثِهِمْ لِنَبِيِّهِمْ آمَنُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالْحُكْمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ، وَقَامُوا مَعَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَصَدَّقُوا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَآمَنُوا بِالْخَالِقِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ، وَبِالْأَمْرِ الَّذِي مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِهِ الْإِيمَانُ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَحَشْرُ الْأَجْسَادِ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَصَدَّقُوا بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَلَمْ يَنْفُوهُمَا بِنَفْيِ لَوَازِمِهِمَا كَمَا فَعَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ الْمُعَارِضَةُ لِلْأَمْرِ بِالْقَدَرِ، وَكَانُوا أَسْعَدَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَأَقْرَبَهُمْ عَصَبَةً فِي هَذَا الْمِيرَاثِ النَّبَوِيِّ،

ص: 951

وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ1. انْتَهَى مَا سُقْنَا مِنْ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ فَشَفَى وَكَفَى. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مُرْتَبِطٌ بِامْتِثَالِ الشَّرْعِ، وَامْتِثَالَ الشَّرْعِ مُرْتَبِطٌ بِالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ، وَانْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ مُحَالٌ:

فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَدَرِ مَعَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى الشَّرْعِ وَمُحَارَبَتِهِ بِهِ مُخَاصَمَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَطَعْنٌ فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَانْتِقَادٌ عَلَيْهِ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَخَلْقِ الْجَنَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا، وَخَلْقِ النَّارِ لِأَعْدَائِهِ الْمُكَذِّبِينَ، وَنِسْبَةٌ لِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْدَلِ الْعَادِلِينَ -الْحَكِيمُ فِي خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ، الْعَدْلُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَحُكْمِهِ- إِلَى الْعَبَثِ وَالظُّلْمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَكَذَلِكَ الِانْقِيَادُ فِي الشَّرْعِ مَعَ نَفْيِ الْقَدَرِ وَإِخْرَاجِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ قُدْرَةِ الْبَارِي وَجَعْلِهِمْ مُسْتَقِلِّينَ بِهَا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ طَعْنٌ فِي رُبُوبِيَّةِ الْمَعْبُودِ وَمَلَكُوتِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى الْعَجْزِ وَوَصْفِهِ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا مِمَّا لَا يُبْدِئُ وَلَا يُعِيدُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، تَعَالَى رَبُّنَا وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ وَجَلَّ وَعَلَا عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ الْجَاحِدُونَ الْمُلْحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. بَلِ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، كَمَا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى خَيْرِهِ وَتَحْجِزُ عَنْ شَرِهِ، وَاسْتِعَانَةَ اللَّهِ عَلَيْهَا هُوَ نِظَامُ الشَّرْعِ، وَلَا يَنْتَظِمُ أَمْرُ الدِّينِ وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا لِمَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ وَامْتَثَلَ الشَّرْعَ كَمَا قَرَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قَالَ لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ

"لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"2.

فَمَنْ نَفَى الْقَدَرَ رَغْمَ مُنَافَاتِهِ لِلشَّرْعِ فَقَدْ عَطَّلَ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَجَعَلَ الْعَبْدَ مُسْتَقِلًّا بِأَفْعَالِهِ خَالِقًا لَهَا، فَأَثْبَتَ خَالِقًا مَعَ اللَّهِ

1 من طريق الهجرتين وباب السعادتين "ص215" انظرها بتحقيقي ونشر دار ابن القيم.

2 تقدم تخريجه سابقا.

ص: 952

تَعَالَى، بَلْ أَثْبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ خَالِقُونَ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى الشَّرْعِ مُحَارِبًا لَهُ بِهِ نَافِيًا عَنِ الْعَبْدِ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ الَّتِي مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا وَأَمْرَهُ وَنَهَاهُ وَأَخْبَرَهُ بِحَسَبِهَا زَاعِمًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطَاقُ فَقَدْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى إِلَى الظُّلْمِ وَإِلَى الْعَبَثِ وَإِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَرَجَّحَ حُجَّةَ إِبْلِيسَ وَأَثْبَتَهَا وَأَقَامَ عُذْرَهُ وَكَانَ هُوَ إِمَامَهُ فِي ذَلِكَ إِذْ يَقُولُ:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْأَعْرَافِ: 16] وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَيُؤْمِنُونَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا خَالِقَ غَيْرَهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَيَنْقَادُونَ لِلشَّرْعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُصَدِّقُونَ خَبَرَ الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ، وَيُحَكِّمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ سِرًّا وَجَهْرًا، وَأَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ بِيَدِ اللَّهِ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النَّجْمِ: 30] وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، وَأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الشَّرْعِ فِعْلًا وَتَرْكًا لَا عَلَى الْقَدَرِ، وَيُعَزُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْقَدَرِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، وَلَا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمَعَايِبِ فَإِذَا وُفِقُوا لِحَسَنَةٍ عَرَفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا سُبُلَنَا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الْأَعْرَافِ: 43] وَلَمْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ الْفَاجِرُ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [الْقَصَصِ: 78] وَإِذَا اقْتَرَفُوا سَيِّئَةً بَاءُوا بِذَنْبِهِمْ وَأَقَرُّوا بِهِ وَقَالُوا كَمَا قَالَ الْأَبَوَانِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 23] وَلَمْ يَحْمِلُوا ذَنْبَهُمْ وَظُلْمَهُمْ عَلَى الْقَدَرِ وَيَحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الْأَعْرَافِ: 16] وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ رَضُوا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَاسْتَسْلَمُوا لِتَصَرُّفِ رَبِّهِمْ وَمَالِكِهِمْ تبارك وتعالى وَقَالُوا كَلِمَةَ الصَّابِرِينَ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [الْبَقَرَةِ: 156] وَلَمْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 156] .

ص: 953