المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3- فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان: - معارج القبول بشرح سلم الوصول - جـ ٣

[حافظ بن أحمد حكمي]

فهرس الكتاب

- ‌فَصْلٌ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ

- ‌الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِعِلْمِ اللَّهِ عز وجل الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ

- ‌الْإِيمَانُ بِكِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ خَمْسَةُ تَقَادِيرَ:

- ‌الْأَوَّلُ" التَّقْدِيرُ الْأَزَلِيُّ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

- ‌الرَّابِعُ التَّقْدِيرُ الْحَوْلِيُّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

- ‌الْخَامِسُ التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ وَهُوَ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ

- ‌الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

- ‌ الْقَدَرُ السَّابِقُ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبُ الِاتِّكَالَ

- ‌ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ:

- ‌الْكَلَامُ عَلَى النَّوْءِ:

- ‌مَا وَرَدَ فِي الْعَدْوَى:

- ‌الْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ:

- ‌[[الفصل العاشر: في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين]]

- ‌1- الْإِيمَانُ يزيد وينقص:

- ‌2- تُفَاضُلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ:

- ‌3- فَاسْقُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ:

- ‌4- الْعَاصِي لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ:

- ‌[6 - التَّوْبَةُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ شُرُوطُهَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ] :

- ‌[شُرُوطُ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ] :

- ‌[[الفصل الحادي عشر معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم]]

- ‌مَوْلِدُهُ

- ‌[دَعْوَتُهُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ]

- ‌حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

- ‌[هَلْ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ] :

- ‌حَدِيثُ الْهِجْرَةِ:

- ‌الْإِذْنُ بِالْقِتَالِ:

- ‌وَفَاتُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:

- ‌تَبْلِيغُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رِسَالَةَ اللَّهِ:

- ‌[أَعْظَمُ مُعْجِزَاتِهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْقُرْآنُ] :

- ‌[[الفصل الثاني عشر: فيمن هو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الصحابة بمحاسنهم، والكف عن مساوئهم وما شجر بينهم، رضي الله عنهم]]

- ‌الْكَلَامُ عَلَى التَّابِعِينَ رضي الله عنهم:

- ‌إِجْمَاعُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ السُّكُوتِ عَمَّا كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم:

- ‌ تَحْرِيمِ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ

- ‌ عِظَمِ إِثْمِ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ:

- ‌كُلُّ مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ يُحْتَكَمُ فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

الفصل: ‌3- فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان:

‌3- فَاسْقُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ:

وَالْفَاسِقُ الْمَلِّيُّ ذُو الْعِصْيَانِ

لَمْ يُنْفَ عَنْهُ مُطَلَقُ الْإِيمَانِ

لَكِنْ بِقَدْرِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي

إِيمَانُهُ مَا زَالَ فِي انْتِقَاصِ

هَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أَنَّ فَاسِقَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يُنْفَى عَنْهُ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ بِفُسُوقِهِ، وَلَا يُوصَفُ بِالْإِيمَانِ التَّامِّ. وَلَكِنْ هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ. أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ، فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ. فَلَا يُعْطَى الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ. وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا هُوَ الْأَصْغَرُ. وَهُوَ عَمَلُ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِسْقًا وَكُفْرًا وَظُلْمًا مَعَ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَامِلِهَا. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْكَاذِبَ فَاسِقًا فَقَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ: 6] وَمَعَ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُ الْإِيمَانَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:"سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"1. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 2 الْحَدِيثَ وَغَيْرَهُ.

وَقَدِ اسْتَبَّ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ وَمِنْ حُضُورِهِ. فَوَعَظَهُمْ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ بَلْ بَقُوا أَنْصَارَهُ وَوُزَرَاءَهُ فِي الدِّينِ. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الْحُجُرَاتِ: 9] فَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ

1 البخاري "13/ 26" في الفتن، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وفي الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وفي الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن. ومسلم "1/ 81/ ح64" في الإيمان، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".

2 البخاري "13/ 26" في الفتن، باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وفي الحدود، باب ظهر المؤمن حمى، وفي الديات، باب قول الله تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا} ، وفي الحج باب الخطبة أيام منى، وفي المغازي، باب حجة الوداع، وفي الأدب. ومسلم "1/ 65-66/ ح66" في الإيمان، باب بيان قول النبي، صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".

ص: 1017

الْمُقْتَتِلَتَيْنِ مُؤْمِنَةً وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الْحُجُرَاتِ: 9] ثُمَّ لَمْ يَنْفِ عَنْهُمُ الْأُخُوَّةَ أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ لَا فِيمَا بَيْنَ الْمُقْتَتِلِينَ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ بَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ أُثْبِتَتْ أُخُوَّةُ الْإِيمَانِ لَهُمْ مُطْلَقًا فَقَالَ عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الْحُجُرَاتِ: 10] .

وَكَذَلِكَ فِي آيَةِ الْقِصَاصِ أَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ أُخُوَّةُ الْإِيمَانِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [الْبَقَرَةِ: 178] وَكَذَلِكَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:"لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 1 سَمَّاهُمْ أَيْضًا مُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا كَذَلِكَ، فَقَالَ فِي صِفَةِ الْخَوَارِجِ "وَتَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فِرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ"2.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَهْلَ الشَّامِ هُمَا الْفِرْقَتَانِ اللَّتَانِ مَرَقَتِ الْخَوَارِجُ مِنْ بَيْنِهِمَا وَقَدِ اقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا، فَسُمِّيَ الْجَمِيعُ مُسْلِمِينَ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي سِبْطِهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ:"إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ فِرْقَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ" 3، فَأَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ رضي الله عنهما فِي عَامِ الْجَمَاعَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْعَمَلِ فِسْقًا أَوْ عَامِلِهِ فَاسِقًا، وَبَيْنَ تَسْمِيَتِهِ مُسْلِمًا وَجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ فِسْقٍ يَكُونُ كُفْرًا، وَلَا كُلُّ مَا سُمِّيَ كُفْرًا وَظُلْمًا يَكُونُ مُخْرِجًا مِنَ الْمِلَّةِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى لَوَازِمِهِ وَمَلْزُومَاتِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالنِّفَاقِ جَاءَتْ فِي النُّصُوصِ عَلَى قِسْمَيْنِ:

1 تقدم ذكره.

2 مسلم "2/ 745/ ح1065" في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم.

3 البخاري "7/ 94" في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، وفي الصلح وفي الأنبياء وفي العتق.

ص: 1018

أَكْبَرُ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ لِمُنَافَاتِهِ أَصْلُ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ.

وَأَصْغَرُ يُنْقِصُ الْإِيمَانَ وَيُنَافِي الْمِلَّةَ وَلَا يَخْرُجُ صَاحِبُهُ مِنْهُ.

فَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفُسُوقٌ دُونَ فُسُوقٍ. وَنِفَاقٌ دُونَ نِفَاقٍ.

قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ الْكُفْرِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 34] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النِّسَاءِ: 167] .

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيَانِ الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"1.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الظُّلْمِ الْأَكْبَرِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] وَقَالَ فِي الظُّلْمِ الْأَصْغَرِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطَّلَاقِ: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النِّسَاءِ: 10] .

وَقَالَ فِي الْفُسُوقِ الْأَكْبَرِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الْكَهْفِ: 50] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي النِّفَاقِ الْأَكْبَرِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 8] وَقَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النِّسَاءِ: 145] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي النِّفَاقِ الْأَصْغَرِ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنْ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،

1 تقدم ذكره.

ص: 1019

وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" 1.

فَهَذِهِ الْخِصَالُ كُلُّهَا نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ لَا يُخْرِجُ مِنَ الدِّينِ إِلَّا إِذَا صَحِبَهُ النِّفَاقُ الِاعْتِقَادِيُّ الْمُتَقَدِّمُ.

وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَأَضْرَابُهُمْ مِنَ التَّشَبُّثِ بِنُصُوصِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ الْأَصْغَرِ وَاسْتِدْلَالِهِمْ بِهِ عَلَى الْأَكْبَرِ فَذَلِكَ مِمَّا جَنَتْهُ أَفْهَامُهُمُ الْفَاسِدَةُ وَأَذْهَانُهُمُ الْبَعِيدَةُ وَقُلُوبُهُمُ الْغُلْفُ، فَضَرَبُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.

فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: الْمُصِرُّ عَلَى كَبِيرَةٍ مِنْ زِنًا أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ رِبًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ خَارِجٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ أَقَرَّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَلِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَلَاغِ، وَصَلَّى وَصَامَ وَزَكَّى وَحَجَّ وَجَاهَدَ وَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا مَعَ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ وَمَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ.

وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْعُصَاةُ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَلَا كَافِرِينَ وَلَكِنْ نُسَمِّيهِمْ فَاسِقِينَ، فَجَعَلُوا الْفِسْقَ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِمَنْزِلَةٍ فِي الْآخِرَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. بَلْ قَضَوْا بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ أَبَدًا كَالَّذِينِ قَبْلَهُمْ، فَوَافَقُوا الْخَوَارِجَ مَآلًا وَخَالَفُوهُمْ مَقَالًا، وَكَانَ الْكُلُّ مُخْطِئِينَ ضُلَّالًا.

وَقَابَلَ ذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ فَقَالُوا: لَا تَضُرُّ الْمَعَاصِي مَعَ الْإِيمَانِ لَا بِنَقْصٍ ولا مُنَافَاةٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بِذَنْبٍ دُونَ الْكُفْرِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَا تَفَاضُلَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ إِيمَانِ الْفَاسِقِ الْمُوَحِّدِ وَبَيْنَ إِيمَانِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، حَتَّى وَلَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، لَا وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ المؤمنين والمنافقين، إذ الْكُلُّ مُسْتَوْفِي النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا اعْتِقَادَهُمْ فِي بَحْثِ الْإِيمَانِ. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ.

1 البخاري "1/ 89" في الإيمان، باب علامة المنافق، وفي المظالم، باب إذا خاصم فجر، وفي الجهاد، باب إثم من عاهد ثم غدر، ومسلم "1/ 78/ ح58" في الإيمان، باب بيان خصال المنافق.

ص: 1020