الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"فَصْلٌ" وَ
الرَّابِعُ التَّقْدِيرُ الْحَوْلِيُّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
، يُقَدَّرُ فِيهَا كُلُّ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم? وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدُّخَانِ: 1-5] الْآيَاتِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْحُكْمِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُؤَذَّنُ لِلْحُجَّاجِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَيُكْتَبُونَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ فَلَا يُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدً وَلَا يُزَادُ فِيهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ وَإِنَّهَا لَلَيْلَةُ الْقَدْرِ، يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، فِيهَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ أَجَلٍ وَعَمَلٍ وَرِزْقٍ إِلَى مِثْلِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ مَوْتٍ وَحَيَاةٍ وَرِزْقٍ وَمَطَرٍ حَتَّى الْحُجَّاجِ يُقَالُ يَحُجُّ فُلَانٌ وَيَحُجُّ فُلَانٌ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُقَدِّرُ اللَّهُ تَعَالَى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَمْرَ السَّنَةِ فِي بِلَادِهِ وَعِبَادِهِ إِلَى السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ: يُقَدِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ كُلِّهَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَذُكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّكَ لَتَرَى الرَّجُلَ غَشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَقَدْ وَقَعَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ وَالضَّحَّاكِ: فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يُفَصَّلُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ أَمْرُ السَّنَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْآجَالِ وَالْأَرْزَاقِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا إِلَى آخِرِهَا، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مِنْ تَابِعَيْهِمْ بِإِحْسَانٍ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ.
"فَصْلٌ" وَ
الْخَامِسُ التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ وَهُوَ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ
الَّتِي قُدِّرَتْ لَهَا فِيمَا سَبَقَ، قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَنِ: 29] وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُنِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيبٍ الْأَزْدِيِّ عَنِ أَبِيْهِ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ الشَّأْنُ؟ قَالَ: "أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا
وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ قَوْمًا وَيَضَعَ آخَرِينَ" 1.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عز وجل: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَنِ: 29] قَالَ: "مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ مَقَامًا وَيَضَعَ آخَرِينَ" 2، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْقُوفًا.
وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرَّحْمَنِ: 29] قَالَ: "يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا"3.
وَلَهُ هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ قَلَمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَنْظُرُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً يَخْلُقُ فِي كُلِّ نَظْرَةٍ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ4. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ جَبَلَةَ الْفَزَارِيِّ قَالَ: إِنَّ رَبَّكُمْ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَيَعْتِقُ رِقَابًا، وَيُعْطِي رِغَابًا وَيُقْحِمُ عِقَابًا5. وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}
1 ابن جرير "27/ 135" والبزار "كشف الأستار 3/ 73/ ح2266" فيه منيب بن عبد الله. قال الحافظ: مقبول إذا توبع وإلا فلين. والحارث بن عبده بن رباح لم أجد له ترجمة ووالده ذكره البخاري وابن أبي حاتم وسكتا عنه. وقال الهيثمي، رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه من لم أعرفهم "المجمع 7/ 120" وهو حسن لشاهديه.
2 ابن أبي حاتم "ابن كثير 4/ 293" وأخرجه البزار في مسنده "كشف الأستار 3/ 73/ ح2267" وابن ماجه "ح202" والطبراني "المجمع 7/ 120" وابن حبان "الإحسان 2/ 38/ ح688" وأبو الشيخ في العظمة والحسن بن سفيان في مسنده وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر كما في الدر المنثور "7/ 699" وهو مختلف في إسناده. وفي إسناده الوزير بن صبيح قال عنه الحافظ: مقبول "إذا توبع وإلا فلين". والحديث حسن لشاهديه السابق والآتي. وجزم البخاري بوقفه "8/ 620" في التفسير.
3 أخرجه البزار "3/ 74/ ح2267" وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف. والحديث حسن لشاهديه السابقين.
4 ابن جرير "27/ 35" والحاكم "2/ 519" وأخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه كما في الدر المنثور "7/ 699".
وفي سنده أبو حمزة الثمالي وهو ضعيف.
والحديث لم يروه البزار. وقد أخذه الشيخ من ابن كثير. وابن كثير لم يعزه له.
ابن أبي حاتم "ابن كثير 4/ 293" وأخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور "7/ 700".
[الرَّحْمَنِ: 29] قَالَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُجِيبَ دَاعِيًا. أَوْ يُعْطِيَ سَائِلًا أَوْ يَفُكَّ عَانَيًا أَوْ يُشْفِيَ سَقِيمًا1، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ يُجِيبُ دَاعِيًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا، وَيُجِيبُ مُضْطَرًّا وَيَغْفِرُ ذَنْبًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْتَغْنِي عنه أهل السموات وَالْأَرْضِ يُحْيِي حَيًّا وَيُمِيتُ مَيِّتًا، وَيُرَبِّي صَغِيرًا وَيَفُكُّ أَسِيرًا، وَهُوَ مُنْتَهَى حَاجَاتِ الصَّالِحِينَ وَصَرِيخِهِمْ، وَمُنْتَهَى شَكْوَاهُمْ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ فَضْلٍ: هُوَ سَوقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كُلَّ يَوْمٍ لَهُ إِلَى الْعَبِيدِ بَرًّ جَدِيدً2.
وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْيِيَ وَيُمِيتَ وَيَخْلُقَ وَيَرْزُقَ وَيُعِزَّ قَوْمًا وَيُذِلَّ قَوْمًا وَيَشْفِيَ مَرِيضًا وَيَفُكَّ عَانَيًا وَيُفَرِّجَ مَكْرُوبًا وَيُجِيبَ دَاعِيًا وَيُعْطِيَ سَائِلًا وَيَغْفِرَ ذَنْبًا إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَإِحْدَاثِهِ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيرَ الْيَوْمِيَّ هُوَ تَأْوِيلُ الْمَقْدُورِ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْفَاذُهُ فِيهِ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ يَنَالُهُ فِيهِ، لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَرُهُ، كَمَا أَنَّ فِي الْآخِرَةِ يَأْتِي تَأْوِيلُ الْجَزَاءِ الْمَوْعُودِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ولكل نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الدَّهْرُ كُلُّهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَانِ: أَحَدُهُمَا مُدَّةَ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَالْآَخَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَالشَّأْنُ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمَ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ الدُّنْيَا الِاخْتِبَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ يَعْنِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَشَأْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ والثواب والعقاب3 ا. هـ.
ثُمَّ هَذَا التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ تَفْصِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ الْحَوْلِيِّ وَالْحَوْلِيُّ تَفْصِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ الْعُمْرِيِّ عِنْدَ تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ، وَالْعُمْرِيُّ تَفْصِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ الْعُمْرِيِّ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، وَهُوَ تَفْضِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ الَّذِي خَطَّهُ الْقَلَمُ فِي الْإِمَامِ الْمُبِينِ؛ وَالْإِمَامُ الْمُبِينُ هُوَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عز وجل، وَكَذَلِكَ مُنْتَهَى الْمَقَادِيرِ فِي آخِرِيَّتِهَا إِلَى
1 أخرجه ابن جرير "27/ 135" وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي كما في الدر المنثور "7/ 699-700".
2 انظر "ابن كثير 4/ 293".
3 البغوي "5/ 274- 275/ معالم التنزيل".
عِلْمِ اللَّهِ عز وجل، فَانْتَهَتِ الْأَوَائِلُ إِلَى أَوَّلِيَّتِهِ وَانْتَهَتِ الْأَوَاخِرُ إِلَى آخِرِيَّتَهُ {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 42] .
"فَصْلٌ" وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ: الْإِيمَانُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ النَّافِذَةِ وَقُدْرَتِهِ الشَّامِلَةِ وَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِيمَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي مَا لَمْ يَكُنْ وَلَا هُوَ كَائِنٌ. فَمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَوْنَهُ فَهُوَ كَائِنٌ بِقُدْرَتِهِ لَا مَحَالَةَ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وَمَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لَيْسَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} ، {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} ، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ وُجُودِ الشَّيْءِ هُوَ عَدَمُ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَادَهُ، لَا أَنَّهُ عَجَزَ عَنْهُ، تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فَاطِرٍ: 44] .
"فَصْلٌ" وَالْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: مَرْتَبَةُ الْخَلْقِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ خَالِقُ كُلِّ عَامِلٍ وَعَمَلِهِ، وَكُلِّ مُتَحَرِّكٍ وَحَرَكَتِهِ، وَكُلِّ سَاكِنٍ وَسُكُونِهِ، وَمَا مِنْ ذرة في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَاللَّهُ سبحانه وتعالى خَالِقُهَا وَخَالِقُ حَرَكَتِهَا وَسُكُونِهَا، سُبْحَانَهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وَهَاتَانِ الْمَرْتَبَتَانِ قَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا فِي تَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
فَصْلٌ:
وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَهُمْ مَشِيئَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا وَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا قَائِمَةً بِهِمْ مُضَافَةً إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَبِحَسَبِهَا كُلِّفُوا عَلَيْهَا يُثَابُونَ وَيُعَاقَبُونَ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا وُسْعَهُمْ وَلَمْ يُحَمِّلْهُمْ إِلَّا طَاقَتَهُمْ،
وَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، وَوَصَفَهُمْ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَلَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ عز وجل، وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا بِجَعْلِهِ إِيَّاهُمْ فَاعِلِينَ، كَمَا جَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كتابه كقوله عزوجل:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 179] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الْمُزَّمِّلِ: 19] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التَّكْوِيرِ: 27-29] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [الْبَقَرَةِ: 286] الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطَّلَاقِ: 7] وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزُّخْرُفِ: 72] أَيْ: بِسَبَبِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 14] وَقَالَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم:"الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَهْدِيُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ"1.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الْأَعْرَافِ: 43]{لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزُّمَرِ: 57] حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَهُوَ يَقُولُ: "وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنَّ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا، وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا، إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا"2.
1 رواه أبو داود "ح2118" والترمذي "ح1105" والنسائي "3/ 105" من حديث ابن مسعود وأصله في مسلم من حديث ابن عباس.
2 البخاري "11/ 515 -516" في القدر، باب في قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُمُرِ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ الْفَاذَّةِ"{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 1 [الزَّلْزَلَةِ: 7-8] وَغَيْرُ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهَا جُمْلَةٌ وَافِيَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ، فَكَمَا لَمْ يُوجِدِ الْعِبَادُ أَنْفُسَهُمْ لَمْ يُوجِدُوا أَفْعَالَهُمْ، فَقُدْرَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَمَشِيئَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ تَبَعٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَفْعَالِهِ، إِذْ هُوَ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَلَيْسَ مَشِيئَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَقُدْرَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ هِيَ عَيْنُ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِعْلِهِ، كَمَا لَيْسُوا هُمْ إِيَّاهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ أَفْعَالُهُمُ الْمَخْلُوقَةُ لِلَّهِ قَائِمَةٌ بِهِمْ لَائِقَةٌ بِهِمْ مُضَافَةٌ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَهِيَ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمَةِ بِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، فَاللَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَالْعَبْدُ مُنْفَعِلٌ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى هَادٍ حَقِيقَةً، وَالْعَبْدُ مُهْتَدٍ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا أَضَافَ تَعَالَى كُلًّا مِنَ الْفِعْلَيْنِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ فَقَالَ عز وجل:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الْإِسْرَاءِ: 97] فَإِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، وَإِضَافَةُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَكَمَا أَنَّ الْهَادِيَ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْمُهْتَدِي، فَكَذَلِكَ لَيْسَتِ الْهِدَايَةُ هِيَ عَيْنُ الِاهْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَشَاءُ حَقِيقَةً وَذَلِكَ الْعَبْدُ يَكُونُ ضَالًّا حَقِيقَةً، وَهُوَ سبحانه وتعالى خَالِقُ الْمُؤْمِنِ وَإِيمَانِهِ وَالْكَافِرِ وَكُفْرِهِ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَلَا:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التَّغَابُنِ: 2] أَيْ: هُوَ الْخَالِقُ لَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَأَرَادَ مِنْكُمْ ذَلِكَ كَوْنًا لَا شَرْعًا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَهُوَ الْبَصِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَ، وَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى أَعْمَالِ عِبَادِهِ وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَتَمَّ الْجَزَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فَأَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَلْقَ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَأَضَافَ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ الَّذِي هُوَ عَمَلُهُمُ الْقَائِمُ بِهِمْ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ تبارك وتعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ، وَهُمْ فَعَلُوهُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمُ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَخَلَقَهَا فِيهِمْ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ بِحَسَبِهَا.
1 البخاري "13/ 329-330" في الاعتصام، باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، وفي الأشربة والمناقب والتفسير، ومسلم "12/ 680-682/ ح987" في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ فِي عِبَادِهِ فَاعِلٌ حَقِيقَةً، وَالْعَبْدُ مُنْفَعِلٌ حَقِيقَةً.
فَمَنْ أَضَافَ الْفِعْلَ وَالِانْفِعَالَ كِلَاهُمَا إِلَى الْمَخْلُوقِ كَفَرَ1.
وَمَنْ أَضَافَهُمَا كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَفَرَ2، وَمَنْ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً وَالِانْفِعَالَ إِلَى الْمَخْلُوقِ حقيقة كما أضافهما اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمُؤْمِنُ حَقِيقَةً.
فَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ فِي سِيَاقِ حَدِيثِ جِبْرِيلَ السَّابِقِ فِي سُؤَالِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدِّينِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَتَبَرَّءُوا مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ وَكَفَّرُوا مُنْتَحِلِيهِ وَنَفَوْا عَنْهُ الْإِيمَانَ، وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمُجَانَبَتِهِ وَالْفِرَارِ مِنْ مُجَالَسَتِهِ. ثُمَّ تَقَلَّدَ عَنْهُ ذَلِكَ الْمَذْهَبَ الْفَاسِدَ وَالسُّنَّةَ السَّيِّئَةَ الَّتِي انْتَحَلَهَا هُوَ رءوس الْمُعْتَزِلَةِ وَأَئِمَّتُهُمُ الْمُضِلُّونَ كَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ الْغَزَّالِ، وَعَمْرِو بْنِ عَبِيدٍ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَأَنْكَرَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْكَرَ كِتَابَةَ الْمَقَادِيرِ السَّابِقَةِ وَجَعَلَ الْعِبَادَ هُمُ الْخَالِقِينَ لِأَفْعَالِهِمْ، وَلِهَذَا كَانُوا هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَمَّا وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ فَقَالَ فِيهِ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: رَجُلُ سُوءٍ كَافِرٌ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ مِنْ أَجْلَادِ الْمُعْتَزِلَةِ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ:
وَيَجْعَلُ الْبُرَّ قَمْحًا فِي تَصَرُّفِهِ
…
وَخَالَفَ الرَّاءَ حَتَّى احْتَالَ لِلشِّعْرِ
وَلَمْ يُطِقْ مَطَرًا فِي الْقَوْلِ يَجْعَلُهُ
…
فَعَاذَ بِالْغَيْثِ إِشْفَاقًا مِنَ الْمَطَرِ
وَكَانَ يَتَوَقَّفُ فِي عَدَالَةِ أَهْلِ الْجَمَلِ وَيَقُولُ: إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَسَقَتْ لَا بِعَيْنِهَا، فَلَوْ شَهِدَتْ عِنْدِي عَائِشَةُ وَعَلِيٌّ وَطِلْحَةُ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ لَمْ أَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمْ. هَلَكَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ3. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ عَبِيدٍ فَهُوَ ابْنُ ثَوْبَانَ -
1 وهم القدرية القائلين بأن العبد يخلق أفعاله.
2 وهم الجبرية وإخوانهم القائلين بالكسب من الأشاعرة.
3 ميزان الاعتدال "4/ 329" وكان يلثغ بالراء يقلبها غينا والشعر في وصفه، ووصف هذه الخصلة.
وَيُقَالُ ابْنُ كَيْسَانَ- الْتَيْمِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسٍ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هُوَ شَيْخُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي قِلَابَةَ، وَعَنْهُ الْحَمَّادَانِ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالْأَعْمَشُ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَزَادَ ابْنُ مَعِينٍ: وَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ وَكَانَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّمَا النَّاسُ مِثْلَ الزَّرْعِ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: مَتْرُوكٌ صَاحِبُ بِدْعَةٍ كَانَ يَحْيَى الْقَطَّانُ يُحَدِّثُنَا عَنْهُ ثُمَّ تَرَكَهُ. وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدَّثُ عَنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: قَالَ لِي حُمَيْدٌ: لَا تَأْخُذْ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَكَذَا قَالَ أَيُّوبُ وَعَوْفُ بْنُ عَوْنٍ، وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا كُنْتُ أَعُدُّ لَهُ عَقْلًا، وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُهُ فِي شَيْءٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّمَا تَرَكُوا حَدِيثَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى الْقَدَرِ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ آخَرُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَتَقَشُّفِهِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا سَيِّدُ شَبَابِ الْقُرَّاءِ مَا لَمْ يُحْدِثْ. قَالُوا: فَأَحْدَثَ وَاللَّهِ أَشَدَّ الْحَدَثِ. وقال ابن جبان: كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ، وَاعْتَزَلَ مَجْلِسَ الْحَسَنِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ فَسُمُّوَا الْمُعْتَزِلَةِ. وَكَانَ يَشْتِمُّ الصَّحَابَةَ وَيَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ وَهْمًا لَا تَعَمُّدًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [الْمَسَدِ: 1] فِي اللَّوْحِ فَمَا تُعَدُّ مِنْهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حُجَّةً. وَرُوِيَ لَهُ حَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا -حَتَّى قَالَ- فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ" 1 إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ: لَوْ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَرْوِيهِ لَكَذَّبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ لَمَا أَحْبَبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَا قَبِلْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ
1 تقدم ذكره.
هَذَا لَقُلْتُ: مَا عَلَى هَذَا أَخَذْتَ عَلَيْنَا الْمِيثَاقَ. وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْكُفْرِ، لَعَنَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَ قَالَ هَذَا، وَإِذَا كَانَ مَكْذُوبًا عَلَيْهِ فَعَلَى مَنْ كَذَبَهُ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمًا
…
ائْتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدِ
فَخُذِ الْعِلْمَ بِحِلْمٍ
…
ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدِ
وَذَرِ الْبِدْعَةَ مِنْ
…
آثَارِ عَمْرِو بْنِ عَبِيدِ
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ عَمْرُو يُغْرِ النَّاسَ بِتَقَشُّفِهِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا مُعْلِنٌ بِالْبِدَعِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: جَالَسَ الْحَسَنَ وَاشْتُهِرَ بِصُحْبَتِهِ، ثُمَّ أَزَالَهُ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَ بِالْقَدَرِ وَدَعَا إِلَيْهِ وَاعْتَزَلَ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى1.
ثُمَّ تَوَارَثَ الْقَدَرِيَّةُ هَذَا الْمَذْهَبَ الْفَاسِدَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ وَتَوَاصَوْا بِهِ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى عَلِمَ اللَّهِ تَعَالَى كَأَوَّلِيهِمْ، فَفِيهِمْ مَنْ نَفَى عِلْمَهُ بِالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ الْعِلْمَ بِالْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا فِي أَفْعَالِ اللَّهِ كَمَا افْتَرَقُوا فِي عِلْمِهِ:
فَفِرْقَةٌ قَالَتْ: كُلُّ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مَقْدُورَةً لِلَّهِ وَلَا مَخْلُوقَةً لَهُ، لَا خَيْرُهَا وَلَا شَرُهَا. وَالْأُخْرَى قَالَتْ: الْخَيْرُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ مَخْلُوقٌ لَهُ تَعَالَى وَمَقْدُورٌ لَهُ، وَأَمَّا الشَّرُّ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَلَا مَقْدُورًا لَهُ، فَأَثْبَتُوا نِصْفَ الْقَدَرِ وَنَفَوْا نِصْفَهُ، وَأَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ. فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مَجُوسٌ ثَنَوِيَّةٌ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الثَّنَوِيَّةَ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ لِلْكَوْنِ كُلِّهِ، وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ وَلِكُلِّ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ بَلْ جَعَلُوا الْمَخْلُوقِينَ كُلَّهُمْ خَالِقِينَ، وَلَوْلَا تَنَاقُضُهُمْ لَكَانُوا أَكْفَرَ مِنَ الْمَجُوسِ، فَإِنَّ اطِّرَادَ قَوْلِهِمْ وَلَازَمَهُ وَحَاصِلَهُ هُوَ إِخْرَاجُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنْ خَلْقِ اللَّهِ عز وجل وَمُلْكِهِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي رُبُوبِيَّتِهِ عز وجل، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا
1 البداية والنهاية "10/ 78 -79".
لَا يُرِيدُ وَيُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ، وَأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ عَنِ اللَّهِ عز وجل فَلَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى طَاعَتِهِ وَلَا تَرْكِ مَعْصِيَتِهِ وَلَا يَعُوذُونَ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَسْتَهْدُونَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فَقَوْلُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَقَوْلُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لَا مَعْنَى لَهُ عِنْدَهُمْ وَرُبَّمَا اسْتَنْكَرُوهُ كَمَا جَحَدُوا قَوْلَهُ تَعَالَى:{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الْأَنْعَامِ: 39] هَذَا مَعَ إِنْكَارِهِمْ عِلْمَ اللَّهِ عز وجل وَقُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَإِرَادَتَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ تبارك وتعالى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
"فَصْلٌ" وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ إِضَافَةُ الْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ كِلَاهُمَا إِلَى اللَّهِ عز وجل هُوَ قَوْلُ الْجَبْرِيَّةِ الْغُلَاةِ الْجُفَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ مَقْسُورٌ عَلَيْهَا كَالسَّعَفَةِ يُحَرِّكُهَا الرِّيحُ الْعَاصِفُ وَكَالْهَاوِي مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ. وَأَنَّ تَكْلِيفَ اللَّهِ سبحانه وتعالى عِبَادَهُ -مِنْ أَمْرِهِمْ بِالطَّاعَاتِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي- كَتَكْلِيفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ بِالطَّيَرَانِ وَتَكْلِيفِ الْمُقْعَدِ بِالْمَشْيِ وَتَكْلِيفِ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ تَعْذِيبَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ هُوَ تَعْذِيبٌ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَتَعْذِيبِ الطَّوِيلِ لِمَ لَمْ يَكُنْ قَصِيرًا وَالْقَصِيرِ لِمَ لَمْ يَكُنْ طَوِيلًا وَالْأَسْوَدِ لِمَ لَمْ يَكُنْ أَبْيَضَ وَالْأَبْيَضِ لِمَ لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ، فَسَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَأَخْرَجُوا عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا، وَنَفَوْا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ، وَجَحَدُوا حُجَّتَهُ الدَّامِغَةَ، وَأَثْبَتُوا عَلَيْهِ تَعَالَى الْحُجَّةَ لِعِبَادِهِ، وَنَسَبُوهُ تَعَالَى إِلَى الظُّلْمِ وَطَعَنُوا فِي عَدْلِهِ وَشَرْعِهِ. فَلَا قِيَامَ عِنْدِهِمْ لِسَوْقِ الْجِهَادِ، وَلَا مَعْنَى لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَلَا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، بَلْ وَلَا لِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ إِلَّا التَّكْلِيفُ فِي غَيْرِ وسع وتحميل ما لا يُطَاقُ، وَالظُّلْمُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا فَأَقَامُوا عُذْرَ إِبْلِيسَ اللَّعِينِ وَعُذْرَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَسَائِرَ الْأُمَمِ الْعُصَاةِ الْمَمْقُوتِينَ الْمَقْبُوحِينَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمُ الْمَخْسُوفِ بِهِمُ الْمُعَدَّةِ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، وَأَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَعْنَهُ وَعِقَابَهُ إِيَّاهُمْ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ، بَلْ قَالُوا: إِنَّهُ عَاقَبَهُمْ وَمَقَتَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا خَالَفُوا شَرْعَهُ فَقَدْ أَطَاعُوا إِرَادَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ. هَذَا مَعْنَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ عِنْدَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ الْإِبْلِيْسِيَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقِيَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا
مِنْ عِبَارَاتِهِمُ1 الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْمُؤْمِنُ حِكَايَتَهَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى فِي كِتَابِهِ أَقْوَالَ الْكُفَّارِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ
…
إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ
وَقَوْلُ آخَرَ قَبَّحَهُ اللَّهُ:
دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى
…
دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي
وَقَوْلُ كَافِرٍ آخَرَ فَضَّ اللَّهُ فَاهُ:
وضعوا اللحم للبزاة
…
عَلَى ذِرْوَتَيْ عَدَنِ
ثُمَّ لَامُوا الْبُزَاةَ إِذْ
…
خَلَعُوا عَنْهُمُ الرَّسَنِ
لَوْ أَرَادُوا صِيَانَتِي
…
سَتَرُوا وَجْهَكَ الْحَسَنِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ من يخاف له ومن يَخَافُ إِفْسَادَهُ فَقَالَ: لِي خَمْسُ بَنَاتٍ لَا أَخَافُ عَلَى إِفْسَادِهِنَّ غَيْرَهُ. وَصَعَدَ رَجُلٌ يَوْمًا عَلَى سَطْحِ دَارٍ لَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى غُلَامٍ لَهُ يَفْجُرُ بِجَارِيَتِهِ فَنَزَلَ وَأَخَذَهُمَا لِيُعَاقِبَهُمَا، فَقَالَ الْغُلَامُ: إِنِ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ لَمْ يَدَعَانَا حَتَّى فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: لَعِلْمُكَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَرَأَى آخَرَ يَفْجُرُ بِامْرَأَتِهِ فَبَادَرَ لِيَأْخُذَهُ فَهَرَبَ فَأَقْبَلَ يَضْرِبُ الْمَرْأَةَ وَهِيَ تَقُولُ: الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ. فَقَالَ: يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ أَتَزْنِينَ وَتَعْتَذِرِينَ بِمِثْلِ هذا؟ فقالت: أوه تَرَكْتَ السُّنَّةَ وَأَخَذْتَ بِمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَتَنَبَّهَ وَرَمَى بِالسَّوْطِ مِنْ يَدِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ: لَوْلَاكِ لَضَلَلْتُ. وَرَأَى آخَرُ رَجُلًا يَفْجُرُ بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: هَذَا قَضَاءُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ. فَقَالَ: الْخِيَرَةُ فِيمَا قَضَى اللَّهُ. فَلُقِّبَ بِالْخِيَرَةِ فِيمَا قَضَى اللَّهُ. وَكَانَ إِذَا دُعِيَ بِهِ غَضِبَ، وَقِيلَ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ: أَلَيْسَ هُوَ يَقُولُ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؟ فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا، رَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ وَأَرَادَهُ، وَمَا أَفْسَدْنَا غَيْرَهُ. وَلَقَدْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: الْقَدَرُ عُذْرٌ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ، وَإِنَّمَا مَثَلُنَا فِي ذَلِكَ كَمَا قِيلَ:
1 ذكرها في كتابه القيم طريق الهجرتين تحت قسم "القدرية الإبليسية" وقد طبع الكتاب بتحقيقي. نشر دار ابن القيم فانتظره ففيه ما ينفعك.
إِذَا مَرِضْنَا أَتَيْنَاكُمْ نَعُودَكُمْ
…
وَتُذْنِبُونَ فَنَأْتِيكُمْ فَنَعْتَذِرُ
وَبَلَغَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ أَنَّ عَلِيًّا مَرَّ بِقَتْلَى الْنَهْرَوَانِ فَقَالَ: بُؤْسًا لَكُمْ، لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ. فَقِيلَ: مَنْ غَرَّهُمْ؟ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَالْأَمَانِي. فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: كَانَ عَلَيٌّ قَدَرِيًّا، وَإِلَّا فَاللَّهُ غَرَّهُمْ وَفَعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَ وَأَوْرَدَهُمْ تِلْكَ الْمَوَارِدَ. وَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَوْمًا فَتَذَاكَرُوا الْقَدَرَ، فَجَرَى ذِكْرُ الْهُدْهُدِ وَقَوْلُهُ:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النَّمْلِ: 24] فَقَالَ: كَانَ الْهُدْهُدُ قَدَرِيًّا؛ أَضَافَ الْعَمَلَ إِلَيْهِمْ وَالتَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ وَجَمِيعُ ذَلِكَ فِعْلُ اللَّهِ. وَسُئِلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] أَيَمْنَعُهُ ثُمَّ يَسْأَلُهُ مَا مَنَعَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ قَضَى عَلَيْهِ فِي السِّرِّ مَا مَنَعَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَلَعَنَهُ عَلَيْهِ. قَالَ لَهُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ عز وجل: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ} [النِّسَاءِ: 39] إِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي مَنَعَهُمْ؟ قَالَ: اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ. قَالَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النِّسَاءِ: 147] ؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ جَنَوْهُ، بَلِ ابْتَدَأَهُمْ بِالْكُفْرِ ثُمَّ عَذَّبَهُمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْآيَةِ مَعْنًى. وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ عُوتِبَ عَلَى ارْتِكَابِهِ مَعَاصِي اللَّهِ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ عَاصِيًا لِأَمْرِهِ فَأَنَا مُطِيعٌ لِإِرَادَتِهِ. وَجَرَى عِنْدَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ ذِكْرُ إِبْلِيسَ وَإِبَائِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، فَأَخَذَ الْجَمَاعَةُ يَلْعَنُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ فَقَالَ: إِلَى مَتَى هَذَا اللَّوْمُ؟ وَلَوْ خُلِّيَ لَسَجَدَ، وَلَكِنْ مُنِعَ، وَأَخَذَ يُقِيمُ عُذْرَهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَتَذُبُّ عَنِ الشَّيْطَانِ وَتَلُومُ الرَّحْمَنَ؟ وَجَاءَ جَمَاعَةٌ إِلَى مَنْزِلِ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: كُنْتُ أُصْلِحُ بَيْنَ قَوْمٍ فَقِيلَ لَهُ: وَأَصْلَحْتَ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: أَصْلَحْتُ إِنْ لَمْ يُفْسِدِ اللَّهُ، فَقِيلَ لَهُ: بُؤْسًا لَكَ أَتُحْسِنُ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِكَ وَتُسِيءُ الثَّنَاءَ عَلَى رَبِّكَ. وَمُرَّ بِلِصٍّ مَقْطُوعِ الْيَدِ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ: مِسْكِينٌ مَظْلُومٌ أَجْبَرَهُ عَلَى السَّرِقَةِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: أَتَرَى اللَّهَ كَلَّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: وَاللَّهِ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا نَجْسَرْ أَنْ نَتَكَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ هؤلاء: ذنبة أنذبها أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ قِيلَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِعِلْمِي بِأَنَّ اللَّهَ قَضَاهَا عَلَيَّ وَقَدَّرَهَا، وَلَمْ يَقْضِهَا إِلَّا وَالْخِيَرَةُ لِي فِيهَا، وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا لِاسْتِبْصَارِهِ
بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ. قَالَ: وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رحمه الله يَقُولُ: عَاتَبْتُ بَعْضَ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ فَقَالَ لِي: الْمَحَبَّةُ نَارٌ تَحْرِقُ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ، وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَبْغَضُ مِنْهُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَبْغَضَ بَعْضَ مَنْ فِي الْكَوْنِ وَعَادَاهُمْ وَلَعَنَهُمْ فَأَحْبَبْتَهُمْ أَنْتَ وَوَالَيْتَهُمْ أَكُنْتَ وَلِيًّا لِلْمَحْبُوبِ أَوْ عَدُوًّا لَهُ؟ قَالَ: فَكَأَنَّمَا أُلْقِمَ حَجَرًا. وَقَرَأَ قَارِئٌ بِحَضْرَةِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فَقَالَ: هُوَ اللَّهُ مَنَعَهُ، وَلَوْ قَالَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ لَكَانَ صَادِقًا، وَقَدْ أَخْطَأَ إِبْلِيسُ الْحُجَّةَ، وَلَوْ كُنْتُ حَاضِرًا لَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ مَنَعْتَهُ. وَسَمِعَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ قَارِئًا يَقْرَأُ {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فُصِّلَتْ: 17] فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، بَلْ أضلهم وأعماهم ا. هـ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَيُقَالُ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ حَقًّا، الَّذِينَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيْمِهِ وَلَا نَزَّهُوهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَبَغَّضُوهُ إِلَى عِبَادِهِ وَبَغَّضُوهُمْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَأَسَاءُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ جُهْدَهُمْ وَطَاقَتَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ خُصَمَاءُ اللَّهِ حَقًّا الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمُ الْحَدِيثُ "يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ؟ فَيُؤْمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ" قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رحمه الله فِي تَائِيَّتِهِ2:
وَيُدْعَى خُصُومُ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ
…
إِلَى النَّارِ طُرًّا فِرْقَةُ الْقَدَرِيَّةِ
سَوَاءٌ نَفَوْهُ أَوْ سَعَوْا لِيُخَاصِمُوا
…
بِهِ اللَّهَ أَوْ مَارَوْا بِهِ لِلشَّرِيعَةِ
وَقَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: الْقَدَرِيَّةُ الْمَذْمُومُونَ فِي السُّنَّةِ وَعَلَى لِسَانِ السَّلَفِ هُمْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ: نُفَاتُهُ وَهُمُ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ. وَالْمُعَارِضُونَ بِهِ لِلشَّرِيعَةِ
1 أخرجه السهمي في تاريخ جرحان "ص356" واللالكائي في أصول الاعتقاد "ح/ 1132 و1158 و1159" والطبراني في الأوسط "المجمع 7/ 208- 209" من حديث ابن عمر وفي سنده ضعف شديد. فيه محمد بن الفضل: كذبوه. وكرز بن وبرة: مجهول. ورواه ابن أبي عاصم في السنة "ح336" من طريق عمر رضي الله عنه. وسنده ضعيف. فيه حبيب بن عمر وهو ضعيف مجهول.
وهذا من أحاديث القدرية التي هي على أفرادها لا تخلو من مقال. وبمجموعها يطمئن القلب لها وسيأتي بعضها بعد قليل.
2 انظرها في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية "8/ 246".