الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَابٌ) بِشُرْبِ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ، مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ، طَوْعًا بِلَا عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، وَظَنِّهِ غَيْرًا
ــ
[منح الجليل]
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَا تُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ. الْحَطّ إذَا سَقَطَ حَدُّ الْحِرَابَةِ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ مِنْ قَتْلٍ أَوْ جُرْحٍ أَوْ مَالٍ. الْبَاجِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَمَّنَ الْمُحَارِبُ إنْ سَأَلَ الْأَمَانَ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ فَيَجُوزُ تَأْمِينُهُ وَيُقَرُّ عَلَى حَالِهِ وَبِيَدِهِ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجُوزُ تَأْمِينُ الْمُحَارِبِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَمَانَ لَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
[بَاب فِي بَيَان حَدّ شَارِب الْمُسْكِر وَأَشْيَاء توجب الضَّمَان ودفع الصَّائِل]
(بَابٌ) فِي بَيَانِ حَدِّ شَارِبِ الْمُسْكِرِ وَأَشْيَاءُ تُوجِبُ الضَّمَانَ وَدَفْعُ الصَّائِلِ يَجِبُ (بِشُرْبِ) الشَّخْصِ (الْمُسْلِمِ) فَلَا يُحَدُّ الْكَافِرُ إنْ أَظْهَرَهُ، بَلْ يُؤَدَّبُ (الْمُكَلَّفِ) أَيْ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى الْحُرِّ بِقَرِينَةِ مَا يَأْتِي فَلَا يُحَدُّ الصَّبِيُّ وَيُؤَدَّبُ أَصْلًا حَالُهُ وَلِئَلَّا يَعْتَادَهُ فَيَشْرَبَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَلَا الْمَجْنُونُ (مَا) أَيْ شَيْئًا وَالشَّيْءُ الَّذِي (يُسْكِرُ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الْكَافِ (جِنْسُهُ) أَيْ يُغَيِّبُ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ مَعَ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ وَإِنْ لَمْ يُسْكِرْ شَخَّصَهُ لِقِلَّتِهِ أَوْ اعْتِيَادِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَصِيرَ عِنَبٍ أَوْ نَقِيعَ زَبِيبٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ رُطَبٍ أَوْ بُسْرٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ أَرُزٍّ أَوْ حِجَامَةِ نَخْلٍ أَوْ غَيْرِهَا شُرْبًا (طَوْعًا) بِلَا إكْرَاهٍ فَلَا يُحَدُّ الْمُكْرَهُ (بِلَا عُذْرٍ) كَنِسْيَانٍ أَوْ غَلَطٍ فَلَا يُحَدُّ النَّاسِي وَلَا الْغَالِطُ (وَ) بِ لَا (ضَرُورَةَ) فَلَا يُحَدُّ مَنْ شَرِبَهُ لِإِسَاغَةِ غُصَّةٍ. ابْنُ عَرَفَةَ ابْنُ رُشْدٍ الشُّرْبُ الْمُوجِبُ الْحَدَّ شُرْبُ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ مُخْتَارًا لَا لِضَرُورَةٍ وَلَا عُذْرٍ فَلَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهٍ وَلَا ذِي غُصَّةٍ وَإِنْ حَرُمَتْ وَلَا غَالِطٍ (وَ) بِ لَا (ظَنِّهِ) أَيْ الْمَشْرُوبَ (غَيْرًا) لِمَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ فَلَا يُحَدُّ مَنْ ظَنَّهُ لَبَنًا أَوْ عَسَلًا أَوْ نَبِيذًا غَيْرَ مُسْكِرٍ. وَيُصَدَّقُ إنْ كَانَ مَأْمُونًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ قَالَهُ أَبُو عُمَرَ
وإنْ قَلَّ
ــ
[منح الجليل]
ابْنُ عَرَفَةَ سُقُوطُ حَدِّ مَنْ شَرِبَ غَلَطًا وَاضِحٌ لِقَوْلِهَا مَعَ غَيْرِهَا لَا حَدَّ فِي وَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ كَذَلِكَ، وَفِي كَافِي أَبِي عُمَرَ مَنْ ظَنَّ النَّبِيذَ حَلَاوَةً وَلَمْ يَشْعُرْ بِسُكْرِهِ فَسَكِرَ مِنْهُ فَلَا يُحَدُّ إنْ كَانَ مَأْمُونًا لَا يُتَّهَمُ، وَمِثْلُهُ مَنْ شَرِبَ مُبَاحًا ظَانًّا أَنَّهُ خَمْرٌ فَلَا يُحَدُّ وَإِنْ أَثِمَ لِاجْتِرَائِهِ وَسَقَطَتْ عَدَالَتُهُ قَالَهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ.
(تَنْبِيهَاتٌ)
الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالشُّرْبِ الْوُصُولُ لِلْحَلْقِ مِنْ الْفَمِ وَإنْ رَدَّ قَبْلَ وُصُولِهِ الْجَوْفَ فَوُصُولُهُ الْجَوْفَ مِنْ أَنْفٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُوجِبُهُ، وَإِنْ وَصَلَ الْجَوْفَ كَمَا يُفِيدُهُ النَّقْلُ
الثَّانِي: الشُّرْبُ يُفِيدُ أَنَّ الْحَدَّ مُخْتَصٌّ بِالْمَائِعِ فَلَا يُحَدُّ بِالْجَامِدِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ وَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ، وَفِيهِ الْأَدَبُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ، بِخِلَافِ الْمَائِعِ الْمُسْكِرِ.
الثَّالِثُ: الْمَازِرِيُّ وَعِيَاضٌ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِي الْخَمْرِ.
الرَّابِعُ: بِلَا عُذْرٍ يُغْنِي عَنْ الْقَيْدِ قَبْلَهُ وَالْقَيْدَيْنِ بَعْدَهُ وَيُغْنِي الْمُكَلَّفُ عَنْ قَوْلِهِ طَوْعًا لِأَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
وَشُرْبُ الْمُكَلَّفِ الْمُسْلِمِ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ بِلَا عُذْرٍ يُوجِبُ الْحَدَّ إنْ كَثُرَ، بَلْ (وَإِنْ قَلَّ) فِيهَا مَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ. ابْنُ عَرَفَةَ رَوَى النَّسَائِيّ بِسَنَدِهِ عَنْ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ذَكَرَهُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي إلْمَامِهِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ. وَقَالَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مِنْهُمْ جَابِرٌ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. وَأَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُد بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْفُرَاتِ، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ لَيْسَ بِالْمَتِينِ. وَأَخْرَجَ الثَّانِيَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ، وَزَعَمَ ابْنُ الْقَطَّانِ أَنَّهُ لَا تُعْرَفُ رِجَالُهُ اهـ.
الْبُنَانِيُّ وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» . اللَّخْمِيُّ أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا نَجِدُ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إلَّا قَلِيلًا وَعَامَّةُ
أَوْ جَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ، أَوْ الْحُرْمَةِ لِقُرْبِ عَهْدٍ
وَلَوْ حَنَفِيًّا يَشْرَبُ النَّبِيذَ، وَصُحِّحَ نَفْيُهُ:
ــ
[منح الجليل]
خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ الَّتِي كَانَتْ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ الشِّدَّةُ وَمُخَامَرَةُ الْعَقْلِ وَسَوَاءٌ عَلِمَ وُجُوبَ الْحَدِّ
(أَوْ جَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ) وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْحُرْمَةَ (أَوْ) جَهِلَ (الْحُرْمَةَ لِقُرْبِ عَهْدٍ) مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ أَوْ لِكَوْنِهِ بَدَوِيًّا لَمْ يَقْرَأْ الْكِتَابَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ وَمِثْلُهُ يَجْهَلُ ذَلِكَ فَلَا يُرْفَعُ عَنْهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فَشَا فَلَا أَحَدَ يَجْهَلُ شَيْئًا مِنْ حُدُودِهِ. ابْنُ شَاسٍ مَنْ عَلِمَ الْحُرْمَةَ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ يُحَدُّ قَوْلًا وَاحِدًا. الشَّيْخ عَنْ مُحَمَّدٍ مَنْ شَرِبَهُ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ كَالْأَعْجَمِيِّ الَّذِي دَخَلَ الْإِسْلَامَ وَلَا يَعْرِفُ الْحُرْمَةَ فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ بِهَذَا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ.
وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ الَّذِي لَا عُذْرَ لَهُ بِشُرْبِ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَنَفِيًّا، بَلْ (وَلَوْ) كَانَ (حَنَفِيًّا) أَيْ مُقَلِّدًا لِلْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (يَشْرَبُ) الْحَنَفِيُّ (النَّبِيذَ) الْقَلِيلَ الَّذِي يُسْكِرُ كَثِيرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَحُدُّهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَحُدُّهُ وَأَقْبَلُهَا (وَصُحِّحَ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ مُثَقَّلًا (خِلَافُهُ) أَيْ عَدَمُ حَدِّهِ مِنْ الْبَاجِيَّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ. ابْنُ عَرَفَةَ الْبَاجِيَّ مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْمُسْكِرِ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ أَنَّهُ حَلَالٌ يُحَدُّ وَلَا يُعْذَرُ رَوَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَلَعَلَّ هَذَا فِيمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْعِلْمِ فَالصَّوَابُ عَدَمُ حَدِّهِ إلَّا أَنْ يَسْكَرَ مِنْهُ، وَقَدْ جَالَسَ مَالِكٌ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ كَانَ يُبِيحُ شُرْبَ النَّبِيذِ، فَمَا أَقَامَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَدًّا وَلَا دَعَا إلَيْهِ مَعَ تَظَاهُرِهِمْ بِشُرْبِهِ وَمُنَاظَرَتِهِمْ فِيهِ وَقَدْ قَالَ مَا وَرَدَ عَلَيْنَا مَشْرِقِيٌّ مِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. أَمَا إنَّهُ آخِرُ مَا فَارَقَنِي عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْرَبُ النَّبِيذَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فَارَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
ثَمَانُونَ بَعْدَ صَحْوِهِ وَتَشَطَّرَ بِالرِّقِّ، وَإِنْ قَلَّ، إنْ أَقَرَّ
ــ
[منح الجليل]
قُلْت وَمُقَلِّدُ مُبِيحِهِ مِثْلُهُ وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَعَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ لِأَنَّ شُهْرَةَ الْخِلَافِ شُبْهَةٌ وَقَدْ أَسْقَطَ الْإِمَامُ مَالِكٌ " رضي الله عنه " الْحَدَّ عَمَّنْ حُلِّلَتْ لَهُ أَمَةٌ، وَحَكَاهُ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا " رضي الله عنه " يَحُدُّهُ، وَيَقْبَلُ شَهَادَتَهُ، وَتُعُقِّبَ بِتَنَافِيهِ. وَأُجِيبَ بِمَنْعِهِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَدِّ الشُّرْبُ وَقَدْ وُجِدَ وَالْقُدُومُ عَلَى مُبَاحٍ عِنْدَ فَاعِلِهِ لَا يُوجِبُ فِسْقَهُ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْمُسْلِمِ بِلَا عُذْرٍ بِشُرْبِ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ (ثَمَانُونَ) جَلْدَةً يُضْرَبُهَا (بَعْدَ صَحْوِهِ) مِنْ سُكْرِهِ، فَإِنْ ضُرِبَهَا قَبْلَهُ أُعِيدَتْ بَعْدَهُ. " ق " هَذَا هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ بِشُرْبِ الْمُسْلِمِ إلَخْ. ابْنُ عَرَفَةَ قَدْرُ حَدِّهِ ثَمَانُونَ، فِي سَرِقَتِهَا لَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يَصْحُوَ، زَادَ فِي سَمَاعِ أَبِي زَيْدٍ وَلَوْ خَافَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِشَفَاعَةٍ تُبْطِلُ حَدَّهُ. اللَّخْمِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ إنْ جُلِدَ حَالَ سُكْرِهِ اُعْتُدَّ بِهِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَيْزٌ، وَإِنْ كَانَ طَافِحًا أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يُحِسَّ بِالْأَلَمِ فِي أَوَّلِهِ وَأَحَسَّ فِي أَثْنَائِهِ بِقَرِينَةٍ حُسِبَ مِنْ أَوَّلِ مَا أَحَسَّ بِهِ، وَإِنْ ادَّعَى إحْسَاسَهُ وَلَا قَرِينَةَ تُصَدِّقُهُ وَلَا تُكَذِّبُهُ فَالظَّاهِرُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ حَيْثُ كَانَ مَأْمُونًا لَا يُتَّهَمُ. وَقَوْلُهُ إنْ كَانَ طَافِحًا أُعِيدَ الْحَدُّ وَاضِحٌ فِي حَدِّ الشُّرْبِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا قَطْعُ السَّارِقِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُعَادُ وَإِنْ كَانَ طَافِحًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ النَّكَالُ وَمِثْلُهُ حَدُّ الْفِرْيَةِ إنْ رَضِيَ بِهِ مُسْتَحِقُّهُ وَمُقْتَضَى صَنِيعِ التَّوْضِيحِ أَنَّ كَلَامَ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ تَقْيِيدٌ لِلْمَذْهَبِ خِلَافُ مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الشَّارِحِ وَالشَّامِلِ وتت أَفَادَهُ شب، وَتَبِعَهُ الْعَدَوِيُّ. ابْنُ عَرَفَةَ وَالْحَدُّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ مِنْ جَوَازِ الشَّرَابِ الْفَمَ إلَى الْحَلْقِ. قُلْت فِي الْمُوَطَّإِ اسْتَشَارَ عُمَرُ " رضي الله عنه " فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - نَرَى أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ فَإِنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى.
وَفِي كِتَابِ السَّرِقَةِ مِنْهَا لَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يَصْحُوَ (وَتَشَطَّرَ) بِفَتَحَاتٍ مُثَقَّلًا أَيْ سَقَطَ شَطْرُ أَيْ نِصْفُ الثَّمَانِينَ (بِالرِّقِّ) فَيُجْلَدُ الرَّقِيقُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَرْبَعِينَ جَلْدَةً قِنًّا كَانَ أَوْ ذَا شَائِبَةِ حُرِّيَّةٍ. فِيهَا وَيَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ (إنْ أَقَرَّ) الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ غَيْرُ الْمَعْذُورِ بِشُرْبِ
أَوْ شَهِدَا بِشُرْبٍ، أَوْ شَمٍّ
ــ
[منح الجليل]
مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ
(أَوْ شَهِدَا) عَلَيْهِ أَيْ عَدْلَانِ (بِشُرْبٍ) مِنْهُ لِمَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ فَيُجْلَدُ فِيهِمَا اتِّفَاقًا، وَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ لِشُبْهَةٍ أَوْ لِغَيْرِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ. ابْنُ عَرَفَةَ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَرُجُوعُ الْمُقِرِّ تَقَدَّمَ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ. الشَّيْخُ عَنْ الْوَاضِحَةِ اعْتَرَفَ أَبُو مِحْجَنٍ فِي شِعْرِهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فَأَرَادَ عُمَرُ " رضي الله عنه " جَلْدَهُ فَقَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبْتُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] فَعَزَلَهُ عَنْ الْعَمَلِ (أَوْ) شَهِدَا عَلَى (شَمٍّ) لِرَائِحَةِ الْمُسْكِرِ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ فَيُحَدُّ، هَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحِجَازِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. ابْنُ عَرَفَةَ وَيَثْبُتُ بِثُبُوتِ رَائِحَةٍ. أَبُو عُمَرَ الْحَدُّ بِالرَّائِحَةِ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْحِجَازِ ابْنُ الْقَصَّارِ صِفَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالرَّائِحَةِ أَنْ يَكُونَا مِمَّنْ شَرِبَاهَا حَالَ كُفْرِهِمَا أَوْ شَرِبَاهَا فِي إسْلَامِهِمَا وَحُدَّا وَتَابَا حَتَّى يَكُونَا مِمَّنْ يَعْرِفُ الْخَمْرَ بِرَائِحَتِهَا. الْبَاجِيَّ هَذَا مَعْدُومٌ أَوْ قَلِيلٌ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَهَادَةِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ بِهَا فِي الْأَغْلَبِ، وَقَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَمْ يَشْرَبْهَا قَطُّ مَنْ يَعْرِفُ رَائِحَتَهَا بِأَنْ يُخْبِرَ عَنْهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ حَتَّى يَعْرِفَهَا. قُلْت فِي ثُبُوتِ الْعِلْمِ بِالرَّائِحَةِ بِالْخَبَرِ بُعْدٌ وَأُلْحِقَ مَعْرِفَةُ رَائِحَتِهَا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ شَرِبَهَا قَطُّ بِرُؤْيَتِهِ مَنْ شَرِبَهَا وَمَنْ يَسُوقُهَا مِنْ مَكَان إلَى مَكَان وَبِرُؤْيَتِهِ إيَّاهَا مُرَاقَةً عَلَى مَنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِهَا وَإِدْرَاكُ هَذَا عَادَةً ضَرُورِيٌّ. الْبَاجِيَّ وَعَدَدُ مَنْ يَشْهَدُ بِهِ إنْ كَانَ الْحَاكِمُ أَمَرَ بِالِاسْتِنْكَاهِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ يُنْدَبُ أَنْ يَأْمُرَ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا وَاحِدٌ وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ الْإِمَامُ فَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْحَاكِمِ إلَّا وَاحِدٌ رَفَعَهُ لِمَنْ فَوْقَهُ، وَقَالَ أَصْبَغُ عِنْدِي أَنَّهُ يُحَدُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، فَإِذَا أَمَرَهُ فَكَأَنَّهُ مُسْتَنَابُهُ.
وَإِذَا شَهِدَ بِالشُّرْبِ أَوْ بِالرَّائِحَةِ عَدْلَانِ عُمِلَ بِشَهَادَتِهِمَا إنْ لَمْ يُخَالَفَا بَلْ (وَإِنْ خُولِفَا) أَيْ الْعَدْلَانِ فِي شَهَادَتِهِمَا بِرَائِحَتِهَا بِأَنْ شَهِدَ عَدْلَانِ آخَرَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ رَائِحَتَهَا، أَوْ أَنَّهُ شَرِبَ نَبِيذًا لَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ لِأَنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ عَلَى النَّافِي. ابْنُ عَرَفَةَ إنْ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ
وَإِنْ خُولِفَا
وَجَازَ لِإِكْرَاهٍ، وَإِسَاغَةٍ
لَا دَوَاءٍ، وَلَوْ طِلَاءً،
ــ
[منح الجليل]
فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ رَائِحَةُ مُسْكِرٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ رَائِحَةُ غَيْرِ مُسْكِرٍ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنْ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ اثْنَانِ عَلَى أَنَّهَا رَائِحَةُ مُسْكِرٍ حُدَّ، وَإِنْ شَكَّ الشُّهُودُ فِي الرَّائِحَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّفَهِ نُكِّلَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ خَلَّى سَبِيلَهُ سَمِعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ. وَالْمَوَّازِيَّةِ. قُلْت لِلشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْتَبَرُ بِقِرَاءَةٍ الَّتِي لَا شَكَّ فِي مَعْرِفَتِهِ بِهَا مِنْ السُّوَرِ الْقِصَارِ فَذَلِكَ مُسْتَحْسِنٌ عِنْدَ الْإِشْكَالِ، فَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ وَاخْتَلَطَ فَقَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا فَيُحَدُّ، وَسَمِعَ أَصْبَغُ ابْنَ الْقَاسِمِ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا وَآخَرُ أَنَّهُ شَرِبَ مُسْكِرًا حُدَّ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَاءَ خَمْرًا حُدَّ وَقَالَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
(وَجَازَ) شُرْبُ الْمُسْكِرِ (لِإِكْرَاهٍ) عَلَيْهِ بِخَوْفِ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ أَيْ انْتَفَتْ حُرْمَتُهُ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ كَالْمَجْنُونِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ جَوَازٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ. ابْنُ عَرَفَةَ لَا يُحَدُّ الْمُكْرَهُ لِوُضُوحِ الشُّبْهَةِ أَوْ تَكْلِيفِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِعُمُومِ اعْتِبَارِهِ فِي الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ.
(وَ) جَازَ (لِإِسَاغَةِ) الْغُصَّةِ أَيْقَنَ الْمَوْتَ بِهَا صَوْنًا لِحَيَاةِ النَّفْسِ. ابْنُ عَرَفَةَ وَلَا يُحَدُّ الْمُضْطَرُّ لِلْإِسَاغَةِ لِوُضُوحِ الشُّبْهَةِ. الشَّيْخُ الْإِمَامُ مَالِكٌ " رضي الله عنه " فِي الْمُخْتَصَرِ لَا يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الْخَمْرَ. الْبَاجِيَّ فِي النَّوَادِرِ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ مَنْ غَصَّ بِطَعَامٍ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يُجَوِّزْهُ فَلَهُ أَنْ يُجَوِّزَهُ بِالْخَمْرِ، وَقَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ. وَلِأَصْبَغَ ابْنِ الْقَاسِمِ يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَسَمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَنْ اُضْطُرَّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لَا يَشْرَبُهَا لَا تَزِيدُهُ إلَّا شَرًّا. ابْنُ رُشْدٍ تَعْلِيلُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِي شُرْبِهَا مَنْفَعَةٌ جَازَ لَهُ شُرْبُهَا، وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَلَى أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ " رضي الله عنه " بِهَذَا التَّعْلِيلِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ مَنْ غَصَّ بِلُقْمَةٍ فَخَشِيَ الْمَوْتَ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُسِيغُهَا بِهِ إلَّا الْخَمْرَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَهُ وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْبَغَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
(لَا) يَجُوزُ الْمُسْكِرُ ل (دَوَاءٍ) إنْ كَانَ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، بَلْ (وَلَوْ) كَانَ (طِلَاءً) بِكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَمْدُودًا أَيْ دِهَانًا عَلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ ابْنِ شَاسٍ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ سَمِعَ أَشْهَبُ التَّدَاوِي فِي الْقُرْحَةِ بِالْبَوْلِ أَخَفُّ مِنْ التَّدَاوِي فِيهَا بِالْخَمْرِ. ابْنُ رُشْدٍ
وَالْحُدُودُ بِسَوْطٍ وَضَرْبٍ: مُعْتَدِلَيْنِ
قَاعِدًا، بِلَا رَبْطٍ، وَشَدِّ يَدٍ
ــ
[منح الجليل]
لِمَا جَاءَ فِي الْخَمْرِ أَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَأْتِ فِي الْبَوْلِ إلَّا أَنَّهُ نَجِسٌ، وَفِي زَاهِي ابْنِ شَعْبَانَ يُتَعَالَجُ بِالْمُسْكِرِ وَإِنْ غُسِلَ بِالْمَاءِ، وَلَا يُدَاوَى بِهِ دُبُرُ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الدَّوَاءُ الَّذِي فِيهِ الْخَمْرُ فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ تَرَدَّدَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهَا دَاءٌ» .
(وَالْحُدُودُ) الَّتِي بِالْجِلْدِ كُلُّهَا (بِضَرْبٍ) لَا رَمْيٍ وَلَا حَذْفٍ (وَسَوْطٍ) لَا عَصًا. الْجُزُولِيُّ إنَّمَا يُضْرَبُ بِسَوْطٍ وَصِفَتُهُ كَوْنُهُ مِنْ جِلْدٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ لَهُ رَأْسَانِ، وَكَوْنُ رَأْسِهِ لَيِّنًا وَيَقْبِضُ عَلَيْهِ بِالْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ وَالْوُسْطَى، وَلَا يَقْبِضُ عَلَيْهِ بِالسَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ وَيَعْقِدُ عَلَيْهِ عَقْدَ التِّسْعِينَ وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُؤَخِّرُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَدِرَّةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَتْ لِلتَّأْدِيبِ (مُعْتَدِلَيْنِ) أَيْ مُتَوَسِّطَيْنِ، فَاعْتِدَالُ الضَّرْبِ بِكَوْنِهِ مِنْ رَجُلٍ مُتَوَسِّطِ الْقُوَّةِ لَا شَدِيدِهَا وَلَا ضَعِيفِهَا، وَكَوْنُهُ مِنْهُ لَا فِي غَايَةِ التَّشْدِيدِ وَلَا فِي غَايَةِ التَّخْفِيفِ وَاعْتِدَالُ السَّوْطِ كَوْنُهُ لَيْسَ جَدِيدًا وَلَا بَالِيًا.
قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ صِفَةُ الضَّرْبِ فِي الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالْفِرْيَةِ وَالتَّعْزِيرِ ضَرْبٌ وَاحِدٌ ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ لَيْسَ بِالْمُبَرِّحِ وَلَا بِالْخَفِيفِ، وَلَمْ يَحُدَّ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَمَّ الضَّارِبِ يَدَهُ إلَى جَنْبِهِ، وَلَا يُجْزِي فِي الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ قَضِيبٌ وَشِرَاكٌ وَدِرَّةٌ لَكِنْ السَّوْطُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ دِرَّةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِلتَّأْدِيبِ، وَصِفَةُ عَقْدِ تِسْعِينَ أَنْ يَعْطِفَ السَّبَّابَةَ حَتَّى تَلْقَى الْكَفَّ وَيَضُمَّ الْإِبْهَامَ إلَيْهَا أَفَادَهُ الْخَرَشِيُّ. الْبَاجِيَّ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَتَوَلَّى ضَرْبَ الْحَدِّ قَوِيٌّ وَلَا ضَعِيفٌ وَلَكِنْ وَسَطٌ مِنْ الرِّجَالِ. مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كُنْت أَسْمَعُ أَنَّهُ يُخْتَارُ لَهُ الْعَدْلُ وَيَضْرِبُ عَلَى الظَّهْرِ وَالْكَتِفَيْنِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْمَحْدُودُ قَاعِدٌ لَا يُرْبَطُ، لَا يُمَدُّ وَتُخْلَى لَهُ يَدَاهُ. وَلِأَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ ضُرِبَ عَلَى ظَهْرِهِ بِالدِّرَّةِ أَجْزَأَ وَمَا هُوَ بِالْبَيِّنِ حَالَ كَوْنِ الْمَحْدُودِ (قَاعِدًا) لَا قَائِمًا وَلَا مَمْدُودًا (بِلَا رَبْطٍ) لَهُ بِشَيْءٍ (وَ) بِلَا (شَدٍّ) أَيْ رَبْطٍ أَوْ مَسْكِ (يَدٍ) مِنْ الْمَحْدُودِ إلَّا أَنْ يَضْطَرِبَ اضْطِرَابًا لَا يَصِلُ الضَّرْبُ مَعَهُ إلَى مَوْضِعِهِ
بِظَهْرِهِ، وَكَتِفَيْهِ، وَجُرِّدَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِمَّا يَقِي الضَّرْبَ
وَنُدِبَ جَعْلُهَا فِي قُفَّةٍ، وَعَزَّرَ الْإِمَامُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ حَبْسًا، وَلَوْمًا، وَبِالْإِقَامَةِ، وَنَزْعِ الْعِمَامَةِ، وَضَرْبٍ بِسَوْطٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ
ــ
[منح الجليل]
وَيُضْرَبُ (بِظَهْرِهِ وَكَتِفَيْهِ) دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ جَسَدِهِ (وَجُرِّدَ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ مُثَقَّلًا (الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) مِمَّا يَقِي (الضَّرْبَ) مِنْ الثِّيَابِ، وَظَاهِرُهُ تَسَاوِيهِمَا، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ شَيْءٌ " ق " فِي الْعُتْبِيَّةِ وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ لِلضَّرْبِ وَيُتْرَكُ لِلْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُ جَسَدَهَا وَلَا يَقِيهَا الضَّرْبَ.
(وَ) إذَا حُدَّتْ الْمَرْأَةُ (نُدِبَ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ (جَعْلُهَا) أَيْ الْمَرْأَةِ حَالَ حَدِّهَا (فِي قُفَّةٍ) بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْفَاءِ مُثَقَّلًا، وَلَمَّا بَلَغَ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ فَعَلَهُ أَعْجَبَهُ. زَادَ اللَّخْمِيُّ وَيُجْعَلُ تَحْتَهَا تُرَابٌ مَبْلُولٌ بِمَاءٍ لِلسَّتْرِ (وَعَزَّرَ) بِفَتَحَاتٍ مُثَقَّلًا، أَيْ أَدَّبَ وَعَاقَبَ (الْإِمَامُ) أَيْ الْحَاكِمُ خَلِيفَةً كَانَ أَوْ نَائِبَهُ (لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ) تَعَالَى مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا حَقَّ لِآدَمِيٍّ فِيهَا، بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ كَتَعَمُّدِ الْفِطْرِ بِرَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَالتَّفْرِيطِ فِي الطَّهَارَةِ وَتَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الصَّلَاةُ (أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ) كَشَتْمِهِ أَوْ ضَرْبِهِ وَلَا يَخْلُو عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُكَلَّفٍ تَرْكُهُ أَذَاهُ لِغَيْرِهِ وَإِيصَالُ الْحَقِّ لِمُسْتَحِقِّهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ إنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْآدَمِيِّ جُعِلَ قَسِيمًا لِلْأَوَّلِ، فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ (حَبْسًا وَلَوْمًا) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيْ تَوْبِيخًا بِالْكَلَامِ.
(وَبِالْإِقَامَةِ) مِنْ الْمَجْلِسِ، أَيْ أَمَرَهُ بِالْوُقُوفِ عَلَى قَدَمَيْهِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ (وَنَزْعِ الْعِمَامَةِ) مِنْ رَأْسِهِ (وَضَرْبٍ بِسَوْطٍ أَوْ غَيْرِهِ) كَعَصًا وَدِرَّةٍ وَإِنْ جَاءَ فَاعِلُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَائِبًا سَقَطَ تَعْزِيرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَأُدِّبَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا إلَّا أَنْ يَجِيءَ تَائِبًا، وَالتَّأْدِيبُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ مُطْلَقًا، وَلِحَقِّ الْآدَمِيِّ وَاجِبٌ إنْ قَامَ بِهِ. وَشَرْطُ التَّعْزِيرِ لِمَعْصِيَةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[منح الجليل]
اللَّهِ تَعَالَى الِاتِّفَاقُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عِنْدَ الَّذِي رُفِعَتْ إلَيْهِ وَغَيْرَ مُحَرَّمَةٍ عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَا يُعَزِّرُهُ إذَا قَوِيَ دَلِيلُ حِلِّهَا وَإلَّا فَيُعَزِّرُهُ، وَصِفَتُهُ كَالْجَلْدِ، لَكِنْ يَكُونُ بِالدِّرَّةِ وَالْعَصَا أَيْضًا. ابْنُ عَرَفَةَ وَمُوجَبُ الْمَعْصِيَةِ غَيْرِ الْمُوجِبَةِ حَدًّا عُقُوبَةُ فَاعِلِهَا إنْ رُفِعَ لِلْإِمَامِ، وَفِي قَذْفِهَا. وَأَمَّا النَّكَالُ وَالتَّعْزِيرُ فَيَجُوزُ فِيهِ الْعَفْوُ وَالشَّفَاعَةُ وَإِنْ بَلَغَ الْإِمَامَ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَالنَّكَالُ وَانْتَهَى أَمْرُهُ لِلْإِمَامِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ وَالْمُرُوءَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ طَائِرَةٌ مِنْهُ تَجَافَى مِنْهُ السُّلْطَانُ وَإِنْ عُرِفَ بِالْأَذَى ضُرِبَ النَّكَالَ. الشَّيْخُ عَنْ مُحَمَّدٍ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْفَعَ وَيَسْتُرَ مَنْ تَكُونُ مِنْهُ الزَّلَّةُ، وَأَمَّا الْمُعْلِنُ فَأَهْلٌ لَأَنْ يُوجَعَ وَيُزْجَرَ.
قِيلَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ لَهُ جَارُ سُوءٍ يُظْهِرُ مَا لَا يَنْبَغِي فِي الْإِسْلَامِ هَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ يَقْدَمُ إلَيْهِ وَيَنْهَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ، وَلَهُ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ مَشَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَيْلًا فَرَأَى نَارًا فِي بَيْتٍ فَأَتَى إلَيْهَا فَإِذَا بِقَوْمٍ يَشْرَبُونَ وَفِيهِمْ شَيْخٌ، فَاقْتَحَمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا نَحْنُ بِأَعْظَمَ مِنْك ذَنْبًا تَجَسَّسْتَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] وَاقْتَحَمْتَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] ، وَدَخَلْتَ بِلَا إذْنٍ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور: 27] وَخَاطَبْتنَا بِمَا قُلْت، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] فَاحْتَشَمَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَقَالَ ذَرُوا هَذِهِ بِهَذِهِ وَتَرَكَهُمْ. وَسَمِعَ أَشْهَبُ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا كَلْبُ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ إمَّا أَنْ يُقَالَ لِذِي الْفَضْلِ وَالْهَيْئَةِ وَالشَّرَفِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يُقَالُ لِدَنِيءٍ. ابْنُ رُشْدٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَةِ عُوقِبَ الْقَائِلُ عُقُوبَةً خَفِيفَةً يُهَانُ بِهَا وَلَا يُبْلَغُ بِهِ السِّجْنَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ عُوقِبَ الْقَائِلُ أَشَدَّ عُقُوبَةِ الْأَوَّلِ، وَيُبْلَغُ بِهِ فِيهَا السِّجْنَ وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَةِ وَالْمَقُولُ لَهُ مِنْ غَيْرِ
وَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ
ــ
[منح الجليل]
ذَوِي الْهَيْئَةِ عُوقِبَ بِالتَّوْبِيخِ، وَلَا يُبْلَغُ بِهِ الْإِهَانَةَ وَالسِّجْنَ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْهَيْئَةِ، وَالْمَقُولُ لَهُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَةِ عُوقِبَ بِالضَّرْبِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ ابْنُ شَاسٍ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَاقِبُونَ الرَّجُلَ عَلَى قَدْرِهِ وَقَدْرِ جِنَايَتِهِ مِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَامُ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَحَافِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تُنْزَعُ عِمَامَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلُّ إزَارُهُ. قُلْت وَمِمَّا جَرَى بِهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ ضَرْبُ الْقَفَا مُجَرَّدًا عَنْ سَاتِرٍ بِالْأَكُفِّ.
وَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ بِسَوْطٍ أَوْ غَيْرِهِ إنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْحَدِّ أَوْ قَدْرَهُ، بَلْ (وَإِنْ زَادَ) الضَّرْبُ (عَلَى الْحَدِّ) الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَهُوَ الْمَشْهُورُ. ابْنُ عَرَفَةَ وَفِي صِحَّةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِّ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ لِعِظَمِ جُرْمِ الْجَانِي وَمَنْعُهَا قَوْلَانِ لِلْمَشْهُورِ وَغَيْرِهِ لِنَقْلِ الشَّيْخِ رِوَايَةَ مُطَرِّفٍ مَنْ أَخَذَ سَكْرَانَ فِي الْأَسْوَاقِ وَقَدْ آذَى النَّاسَ بِرَمْيٍ أَوْ سَيْفٍ أَرَى أَنْ يُزَادَ فِي عُقُوبَتِهِ فَيُبْلَغُ بِهِ مَعَ الْحَدِّ نَحْوَ الْخَمْسِينَ وَالْمِائَةِ وَالْمِائَتَيْنِ، وَنَقَلَ غَيْرُهُ لَا يُزَادُ عَلَى الْحَدِّ، وَرَوَى مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ لَا يُجْلَدُ فَوْقَ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. الْمَازِرِيُّ هَذَا خِلَافُ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّهُ يُجِيزُ فِي الْعُقُوبَاتِ فَوْقَ الْحُدُودِ، لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَرَبَ مَنْ نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ مِائَةً، وَضَرَبَ ضُبَيْعًا أَكْثَرَ مِنْ الْحَدِّ، وَتَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا الْحَدِيثَ عَلَى قَصْرِهِ عَلَى زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِي مِنْهُمْ هَذَا الْقَدْرَ. عِيَاضٌ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ أَشْهَبُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ مَا تَقَدَّمَ، وَعَنْهُ فِي التُّهْمَةِ بِالْخَمْرِ وَالْفَاحِشَةِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا وَلَا يُبْلَغُ بِهِ الْحَدَّ، وَمَالَ إلَيْهِ أَصْبَغُ وَنَحْوُهُ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. قَالَ لَا يَبْلُغُ ضَرْبُ السُّلْطَانِ فِي الْأَدَبِ الْحَدَّ أَبَدًا. وَقَالَ أَشْهَبُ مُؤَدِّبُ الصِّبْيَانِ لَا يَضْرِبُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ، فَإِنْ زَادَ اُقْتُصَّ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ شَاسٍ الْأَبُ يُؤَدِّبُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ دُونَ الْكَبِيرِ وَمُعَلِّمُهُ بِإِذْنِهِ. قُلْت لِأَنَّ تَرْكَ تَأْدِيبِهِ
أَوْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ، وَضَمِنَ مَا سَرَى:
ــ
[منح الجليل]
يُكْسِبُهُ فَسَادًا، ثُمَّ قَالَ لِلسَّيِّدِ تَأْدِيبُ رَقِيقِهِ لِأَنَّهُ صَلَاحٌ لَهُ، ثُمَّ قَالَ وَلِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِهِ فِي مَنْعِهَا حَقَّهَا، وَلِذَا قِيلَ تَدْمِيَتُهَا عَلَيْهِ لَغْوٌ. ابْنُ شَاسٍ لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَتْرُكُ النُّشُوزَ إلَّا بِضَرْبٍ مَخُوفٍ فَلَا يَجُوزُ تَعْزِيرُهَا، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ فِي التَّعْزِيرِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَ الْحَدِّ وَلَا لَهُ الِانْتِهَاءُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ. وَفِي الْعُتْبِيَّةِ أَمَرَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِضَرْبِ شَخْصٍ أَرْبَعَمِائَةِ سَوْطٍ وُجِدَ مَعَ صَبِيٍّ مُجَرَّدًا فَانْتَفَخَ وَمَاتَ وَلَمْ يَسْتَعْظِمْ ذَلِكَ مَالِكٌ رضي الله عنه.
وَسَوَاءٌ سَلِمَ الْمُعَزَّرُ (أَوْ أَتَى) تَعْزِيرُهُ (عَلَى النَّفْسِ) بِأَنْ مَاتَ مِنْهُ إنْ ظَنَّ الْإِمَامُ سَلَامَتَهُ (وَ) إلَّا (ضَمِنَ) الْإِمَامُ (مَا سَرَى) أَيْ تَرَتَّبَ عَلَى تَعْزِيرِهِ، فَإِنْ مَاتَ ضَمِنَ دِيَتَهُ وَإِنْ تَلِفَتْ لَهُ مَنْفَعَةٌ ضَمِنَ دِيَتَهَا. ابْنُ عَرَفَةَ الشَّيْخُ فِي الْمَجْمُوعَةِ الْإِمَامُ مَالِكٌ " رضي الله عنه " مُعَلِّمُ الْكِتَابِ وَالصَّنْعَةِ إنْ ضَرَبَ صَبِيًّا مَا يَعْلَمُ الْأَمْنَ مِنْهُ لِأَدَبِهِ فَمَاتَ فَلَا يَضْمَنُ، وَإِنْ جَاوَزَ بِهِ الْأَدَبَ ضَمِنَ مَا أَصَابَهُ.
عج الْمَسَائِلُ ثَلَاثَةٌ: الْأُولَى أَنْ يَفْعَلَ مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ وَيَنْشَأُ عَنْهُ هَلَاكٌ أَوْ نَقْصٌ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ. وَاخْتُلِفَ فِي ضَمَانِهِ فَقِيلَ لَا يَضْمَنُ سَوَاءٌ قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ يَنْشَأُ عَنْ فِعْلِهِ هَلَاكٌ أَوْ عَيْبٌ أَوْ لَا، وَهَذَا يُفِيدُهُ مَا فِي النَّوَادِرِ وَالْعُتْبِيَّةِ، وَعَزَاهُ الْمُوَضِّحُ لِلْجُمْهُورِ.
الثَّانِيَةُ، أَنْ يَفْعَلَ مَعَ ظَنِّهِ عَدَمَ سَلَامَتِهِ وَيَنْشَأُ عَنْهُ هَلَاكٌ أَوْ عَيْبٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْفِعْلِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ سَوَاءٌ قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ يَنْشَأُ هَلَاكٌ أَوْ عَيْبٌ أَوْ لَا كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ ابْنِ مَرْزُوقٍ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَفْعَلَ مَعَ شَكِّهِ فِي سَلَامَتِهِ وَعَدَمِهَا، وَيَنْشَأُ عَنْهُ هَلَاكٌ أَوْ عَيْبٌ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
طفي قَوْلُهُ أَوْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ. تت مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ، ثُمَّ قَالَ وَإِلَّا ضَمِنَ زَادَ فِي كَبِيرِهِ وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ لَا مُنَاقَضَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ أَوْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي هَذَا صُعُوبَةٌ إذْ الْوُلَاةُ مَأْمُورُونَ بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّعْزِيرِ فَتَضْمِينُهُمْ مَا سَرَى إلَيْهِ التَّعْزِيرُ مَعَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[منح الجليل]
أَمْرِهِمْ بِهِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَأَشَدُّ مِنْهُ الْإِقَادَةُ مِنْهُمْ وَعَلَى إشْكَالِهِ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
أَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ
…
إيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ
وَتَقْرِيرُهُ الَّذِي زَعَمَ دَفْعَ الْمُنَاقَضَةِ بِهِ وَالْإِشْكَالَ أَصْلُهُ لِشَيْخِهِ دَاوُد، وَهُوَ خِلَافُ إطْلَاقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَخِلَافُ كَلَامِهِ فِي تَوْضِيحِهِ، قَالَ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَلَا يَنْتَهِي لِلْقَتْلِ، أَيْ لَا يُؤَدِّبُهُ بِقَتْلِهِ وَيُحْتَمَلُ لَا يَنْتَهِي فِي تَأْدِيبِهِ بِالضَّرْبِ إلَى مَا يُخْشَى مِنْهُ قَتْلُهُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ يَضْرِبُهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ، وَرُوِيَ مِنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ " رضي الله عنه " فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِضَرْبِ شَخْصٍ وُجِدَ مَعَ صَبِيٍّ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ قَدْ جَرَّدَهُ وَضَمَّهُ إلَى صَدْرِهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَوْطٍ فَانْتَفَخَ وَمَاتَ وَلَمْ يَسْتَعْظِمْ ذَلِكَ الْإِمَامُ مَالِكٌ " رضي الله عنه ". اهـ. فَقَدْ اسْتَظْهَرَ جَوَازَ التَّأْدِيبِ مَعَ عَدَمِ ظَنِّ السَّلَامَةِ.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ مُطَرِّفٍ وَإِنْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَوْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ وتت مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ قَوْلُ مُطَرِّفٍ، فَكَيْفَ يُقَيِّدُهُ بِظَنِّ سَلَامَتِهِ
وَقَالَ فِي تَوْضِيحِهِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالتَّعْزِيرُ جَائِزٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فَإِنْ سَرَى فَعَلَى الْعَاقِلَةِ مَا نَصُّهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ غَالِبًا فِي الذِّهْنِ، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ وَلِظَاهِرِ الْحِكَايَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ " رضي الله عنه " وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ وَغَيْرَهُ إذَا جَازَتْ لَهُ الْعُقُوبَةُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ وَتَضْمِينُهُمْ مَعَ أَمْرِهِمْ بِهِ كَتَكْلِيفٍ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَفِي الْإِكْمَالِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ مَاتَ مِنْ التَّعْزِيرِ فَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَقْلُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَقِيلَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ اهـ كَلَامُ التَّوْضِيحِ. فَأَنْتَ تَرَاهُ اعْتَرَضَ تَقْيِيدَ ابْنِ الْحَاجِبِ الْمَذْكُورَ تَبَعًا لِابْنِ شَاسٍ، وَلِذَا حَادَ عَنْهُ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَتَقْرِيرُهُ قَوْلُهُ وَإِلَّا ضَمِنَ مَا سَرَى خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ شَاسٍ فِي تَرْتِيبِهِمْ الضَّمَانَ عَلَى فِعْلِهِ مَا يَجُوزُ لَهُ، وَتَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَهُوَ نَفْسُ كَلَامِ ابْنِ شَاسٍ وَالْمُصَنِّفِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ عِنْدَهُ الْجَوَازَ مُطْلَقًا وَإِنْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[منح الجليل]
الضَّمَانَ، وَلِكَوْنِهِ مُرَتَّبًا عَلَى فِعْلِ الْجَائِزِ أَتَى اسْتِشْكَالُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَقَدْ سَلَّمَهُ الشَّارِحُ وَابْنُ غَازِيٍّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَلَا سَلَفَ لتت فِيمَا قَالَهُ مِنْ كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ سِوَى اخْتِيَارَاتٍ لِبَعْضِ الشَّارِحِينَ لَا مُسَاعِدَ لَهَا مِنْ النَّقْلِ فَالصَّوَابُ إبْقَاءُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَتَرْتِيبُ الضَّمَانِ عَلَى ذَلِكَ الظَّاهِرِ وَسَلَفُ الْمُصَنِّفِ فِي ذَلِكَ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ
وَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ فِي تَنْبِيهَاتِهِ اخْتَلَفَ مُتَأَخِّرُو شُيُوخِنَا الْأَنْدَلُسِيُّونَ فِيمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ أَوْ فَعَلَ مَا يُبَاحُ لَهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُبِيحَ كَالْحَاكِمِ وَضَارِبِ الْحَدِّ وَالْمُؤَدِّبِ وَالزَّوْجِ وَالْخَاتِنِ وَالطَّبِيبِ، فَقِيلَ ذَلِكَ كَالْخَطَأِ وَيَدْخُلُهَا الِاخْتِلَافُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْبَاجِيَّ. وَقِيلَ إذَا كَانَ إنَّمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَجُوزُ وَحَيْثُ يَجُوزُ وَلَا يُعَدُّ غَلَطًا وَلَا قَصْدًا فَهِيَ كَمَسْأَلَةِ اللَّعِبِ، وَيَدْخُلُهَا الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَةِ مُطَرِّفٍ، وَمَذْهَبُ ابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ حَبِيبٍ هَلْ هُوَ خَطَأٌ أَوْ عَمْدٌ أَوْ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادُ ابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ شَاسٍ بِقَوْلِهِ التَّعْزِيرُ جَائِزٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَابْنُ شَاسٍ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، أَيْ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمَا بَقَاءُ التَّفْرِيعِ، فَإِنْ سَرَى فَعَلَى الْعَاقِلَةِ اهـ. كَلَامُ طفي وَسَلَّمَهُ الْبُنَانِيُّ وَاخْتَصَرَهُ.
قُلْت هَذِهِ هَفْوَةٌ مِنْ طفي عَظِيمَةٌ وَغَلْطَةٌ جَسِيمَةٌ صَيَّرَ فِيهَا الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْظُرُ بِقَطْعِ السَّارِقِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ اعْتِدَالَ الْهَوَاءِ وَلَا يُفْعَلُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُخَافُ مِنْ فِعْلِهِ فِيهِ مَوْتُهُ وَأَنَّ الْمَرِيضَ إذَا وَجَبَ حَدُّهُ وَخِيفَ مَوْتُهُ مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى بُرْئِهِ وَأَنَّ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ مِنْ مُوَالَاةِ الْحَدِّ يُفَرَّقُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُطِقْهُ بِالْكُلِّيَّةِ يَسْقُطُ عَنْهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ الْحَدِّ فَكَيْفَ فِي التَّعْزِيرِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ أَيُفْعَلُ مَعَ خَوْفِ الْمَوْتِ مِنْهُ.
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالُوا لَيْسَ لِلْإِمَامِ التَّعْزِيرُ بِالْقَتْلِ فَكَيْفَ يُقَالُ يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَسِيلَةَ تُعْطَى حُكْمَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُ مِنْ امْتِنَاعِ التَّعْزِيرِ بِالْقَتْلِ امْتِنَاعُ
كَطَبِيبٍ جَهِلَ، أَوْ قَصَّرَ، أَوْ بِلَا إذْنٍ مُعْتَبَرٍ، وَلَوْ إذْنَ عَبْدٍ بِفَصْدٍ أَوْ حِجَامَةٍ، أَوْ خِتَانٍ؛
ــ
[منح الجليل]
التَّعْزِيرِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ عَلَى أَنَّ الضَّرْبَ الْمُنْتَهِي لِلْمَوْتِ قَتْلٌ، وَقَدْ قَالُوا لَا يَنْتَهِي الْإِمَامُ فِي التَّأْدِيبِ لِلْقَتْلِ، وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ ابْنِ عَرَفَةَ عَنْ الشَّيْخِ عَنْ الْمَجْمُوعَةِ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رضي الله عنه مُعَلِّمُ الْكِتَابِ وَالصَّنْعَةِ إنْ ضَرَبَ صَبِيًّا مَا يَعْلَمُ الْأَمْنَ فِيهِ لِأَدَبِهِ فَمَاتَ فَلَا يَضْمَنُ، وَإِنْ جَاوَزَ بِهِ الْأَدَبَ ضَمِنَ مَا أَصَابَهُ، وَهَذَا نَصٌّ فِي اشْتِرَاطِ عِلْمِ السَّلَامَةِ فِي جَوَازِ الْقُدُومِ عَلَى التَّأْدِيبِ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا، وَهَذَا سَلَفُ دَاوُد وتت وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَجَوَابُهُمْ عَنْ اسْتِشْكَالِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ مُتَعَيِّنٌ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ، وَمَا حُكِيَ عَنْ الْإِمَامِ مَحْمُولٌ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مَا يَعْلَمُ الْأَمْنَ فِيهِ، وَقَوْلُ مُطَرِّفٍ وَإِنْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ أَيْ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَتَخَلَّفَ الظَّنُّ. وَأَمَّا الْقُدُومُ فَشَرْطُهُ ظَنُّ السَّلَامَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ التَّعْزِيرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَأَنَّ فَاعِلَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْحَدَّ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ فَضْلًا عَنْ الْقَتْلِ عَلَى أَنَّ اسْتِيجَابَ الْحَدِّ لَا يَسْتَلْزِمُ اسْتِيجَابَ الْقَتْلِ، بَلْ مِنْهُ مَا يَسْقُطُ بِخَوْفِ الْقَتْلِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالْفِرْيَةِ وَزِنَا الْبِكْرِ فَاسْتِشْكَالُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَتَنْظِيرُ الْمُوَضِّحِ فِي شَرْطِ عِلْمِ السَّلَامَةِ وَتَعَقُّبُ طفي كُلُّ ذَلِكَ قُصُورٌ وَغَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ عَمَّا تَقَدَّمَ وَعَمَّا هُنَا، وَالْكَمَالُ لِلَّهِ سبحانه وتعالى.
وَشَبَّهَ فِي ضَمَانِ مَا سَرَى فَقَالَ (كَطَبِيبٍ جَهِلَ) قَوَاعِدَ الطِّبِّ فَدَاوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَتْلَفَ الْمَرِيضَ بِمُدَاوَاتِهِ أَوْ أَحْدَثَ بِهِ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ (أَوْ) عَلِمَ قَوَاعِدَ التَّطْبِيبِ وَ (قَصَّرَ) بِفَتَحَاتٍ مُثَقَّلًا فِي تَطْبِيبِهِ فَسَرَى لِلتَّلَفِ أَوْ التَّعْيِيبِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ (أَوْ) عَلِمَ وَلَمْ يُقَصِّرْ وَطَبَّبَ مَرِيضًا (بِلَا إذْنٍ) مِنْهُ فَأَتْلَفَهُ أَوْ عَيَّبَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ (أَوْ) طَبَّبَ بِإِذْنٍ (غَيْرِ مُعْتَبَرٍ) لِكَوْنِهِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ رَقِيقٍ إذَا كَانَ الْإِذْنُ فِي قَطْعِ يَدٍ مَثَلًا، بَلْ (وَلَوْ إذْنَ) مَنْ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ (بِفَصْدٍ أَوْ حِجَامَةٍ أَوْ خِتَانٍ) فَأَدَّى إلَى تَلَفٍ أَوْ عَيْبٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ. ابْنُ رُشْدٍ تَحْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا عَالَجَ الْمَرِيضَ فَسَقَاهُ فَمَاتَ مِنْ سَقْيِهِ، أَوْ
وَكَتَأْجِيجِ نَارٍ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ؛
ــ
[منح الجليل]
كَوَاهُ فَمَاتَ مِنْ كيه، أَوْ قَطَعَ مِنْهُ شَيْئًا فَمَاتَ مِنْ قَطْعِهِ، أَوْ خَتَنَ الْحَجَّامُ الصَّبِيَّ فَمَاتَ مِنْ خَتْنِهِ، أَوْ قَلَعَ ضِرْسَ الرَّجُلِ فَمَاتَ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَالِهِ وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ لَمْ يُخْطِئَا فِي فِعْلِهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ السُّلْطَانِ إلَى الْأَطِبَّاءِ وَالْحَجَّامِينَ أَنْ لَا يَقْدَمُوا عَلَى مَا فِيهِ غَرَرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَفَعَلُوهُ بِلَا إذْنِهِ فَنَشَأَ مِنْهُ مَوْتٌ أَوْ تَلَفُ حَاسَّةٍ أَوْ عُضْوٍ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَقَالَ ابْنُ دَحُونٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ إلَّا مَا دُونَ الثُّلُثِ، وَهَذَا خِلَافُ الرِّوَايَةِ.
وَإِنْ أَخْطَأَ كَأَنْ سَقَى الْمَرِيضَ مَا لَا يُوَافِقُ مَرَضَهُ فَمَاتَ أَوْ زَلَّتْ يَدُ الْخَاتِنِ أَوْ الْقَاطِعِ فَتَجَاوَزَ فِي الْقَطْعِ أَوْ الْكَاوِي فَتَجَاوَزَ فِي الْكَيِّ فَمَاتَ مِنْهُ، أَوْ قَلَعَ الْحَجَّامُ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِقَلْعِهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يَغِرَّ مِنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَطَأٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ فَفِي مَالِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ " رضي الله عنه " فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ خَطَأٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ وَهُوَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَظَاهِرُ رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَفِي الْمَجْمُوعَةِ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ " رضي الله عنه " إنْ أَمَرَهُ عَبْدٌ أَنْ يَخْتِنَهُ أَوْ يَحْجِمَه أَوْ يَقْطَعَ عِرْقَهُ فَفَعَلَ فَهُوَ ضَامِنٌ مَا أَصَابَ الْعَبْدَ بِذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. ابْنُ الْحَاجِبِ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَجُوزُ لَهُ مِنْ طَبِيبٍ وَشِبْهِهِ فَتَوَلَّدَ مِنْهُ الْهَلَاكُ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ أَوْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ فِي مُجَاوِرِهِ أَوْ قَصَّرَ فَالضَّمَانُ كَالْخَطَأِ.
وَعَطَفَ عَلَى الْمُشَبَّهِ فِي الضَّمَانِ مُشَبَّهًا آخَرَ فِيهِ فَقَالَ (وَكَتَأْجِيجِ) أَيْ إيقَادِ (نَارٍ فِي يَوْمٍ) أَيْ وَقْتِ رِيحٍ (عَاصِفٍ) أَيْ شَدِيدٍ فَأَحْرَقَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ مَنْ أَجَّجَهَا. ابْنُ عَرَفَةَ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ مِنْهَا مَنْ أَرْسَلَ فِي أَرْضٍ نَارًا أَوْ مَاءً فَوَصَلَ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَأَفْسَدَ زَرْعَهُ فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ جَارِهِ بَعِيدَةً يُؤْمَنُ أَنْ يَصِلَ ذَلِكَ إلَيْهَا فَتَحَامَلَتْ النَّارُ بِرِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَأَحْرَقَتْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ وُصُولُ ذَلِكَ إلَيْهَا لِقُرْبِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ وَمَا قَتَلَتْ النَّارُ مِنْ نَفْسٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ مُرْسِلِهَا.
وَشَبَّهَ ابْنُ رُشْدٍ بِهَذَا مَا فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي سَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْقَاسِمِ فِي رَجُلٍ طَبَخَ سُكَّرًا
وَكَسُقُوطِ جِدَارٍ مَالٍ، وَأُنْذِرَ صَاحِبُهُ،
ــ
[منح الجليل]
فِي قِدْرٍ سَتَرَهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ بِقَصَبٍ وَكَانَ صَبِيٌّ نَائِمًا خَلْفَ الْقَصَبِ لَا عِلْمَ لِلطَّابِخِ بِهِ فَفَارَتْ الْقَدْرُ بِمَا فِيهَا فَأَصَابَ الصَّبِيَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. الصِّقِلِّيُّ عَنْ سَحْنُونٍ مَا قَتَلَتْهُ النَّارُ يُنْظَرُ فِيهِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ إيقَادُهَا وَمَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ. قُلْت يُرِيدُ سُقُوطَ الدِّيَةِ عَنْ عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ وَثُبُوتِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي. أَشْهَبُ إنْ تَخَاوَفُوا عَلَى زُرُوعِهِمْ فَقَامُوا لِرَدِّهَا فَأَحْرَقَتْهُمْ فَهَدَرٌ لَا دِيَةَ لَهُمْ عَلَى عَاقِلَةٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهَا. ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ سُئِلَ ابْنُ كِنَانَةَ عَمَّنْ أَشْعَلَ نَارًا فِي حَائِطٍ فَعَدَتْ عَلَى غَيْرِهِ فَأَحْرَقَتْهُ مِنْ زَرْعٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ مَسْكَنٍ أَوْ غَيْرِهَا فَقَالَ عَلَيْهِ غُرْمُ مَا أَشْعَلَ فِيهِ لَا مَا عَدَتْ عَلَيْهِ. ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يُقَوَّمُ مِنْهُ خِلَافُ مَا فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ عَدَمَ ضَمَانِهِ فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ كِنَانَةَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُتَعَدِّي، وَالضَّمَانُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا قَصَدَهُ حَيْثُ أَوْقَدَ النَّارَ حِينَ هُبُوبِ الرِّيحِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ فِيمَا لَمْ يَقْصِدْهُ عَدَمُهُ فِيمَا قَصَدَهُ، وَجَوَابُ ابْنِ كِنَانَةَ هُوَ مُقْتَضَى نَقْلِ اللَّخْمِيِّ الْمَذْهَبَ خِلَافَ مُقْتَضَى نَقْلِ أَبِي حَفْصٍ عَنْهُ، فَفِي كِتَابِ الدُّورِ مِنْهَا أَنَّ شَرْطَ رَبِّ الدَّارِ عَلَى مُكْتَرِيهَا أَنْ لَا يُوقِدَ فِيهَا نَارًا فَأَوْقَدَ الْمُكْتَرِي فِيهَا نَارًا لِخُبْزِهِ فَأَحْرَقَتْ الدَّارَ ضَمِنَ.
اللَّخْمِيُّ إنْ أَحْرَقَتْ الدَّارَ وَغَيْرَهَا ضَمِنَ الدَّارَ الْمُكْتَرَاةَ فَقَطْ إنْ كَانَ الْإِيقَادُ بِصِفَةِ لَوْ أَذِنَ رَبُّ الدَّارِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَلِيهِ فِيهِ مَقَالٌ. وَإِنْ كَانَ بِصِفَةٍ يَكُونُ لِجَارِهِ مَنْعُهُ ضَمِنَ جَمِيعَ مَا احْتَرَقَ. بَعْضُ شُيُوخِ عَبْدِ الْحَقِّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهَا إنْ أَحْرَقَتْ فُرْنُهُ دُورَ جِيرَانِهِ فَهُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ أَنَّ هَذَا فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ لَوْلَا الشَّرْطُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِهِ لِسَارِقٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا يَسْقُطُ فِيهَا مِنْ سَارِقٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ، وَمِثْلُهُ نَقْلُ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْعَطَّارِ.
وَعَطَفَ عَلَى الْمُشَبَّهِ فِي الضَّمَانِ مُشَبَّهًا آخَرَ فِيهِ أَيْضًا فَقَالَ (وَكَسُقُوطِ جِدَارٍ) أَيْ حَائِطٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَأَتْلَفَهُ (مَالَ) أَيْ حَدَثَ مَيَلَانُهُ مَيَلَانًا غَيْرَ ظَاهِرٍ بَعْدَ بِنَائِهِ مُسْتَقِيمًا فَإِنْ كَانَ بَنَاهُ مَائِلًا فَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ مُطْلَقًا (وَأُنْذِرَ) بِضَمِّ الْهَمْزِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ أُعْلِمَ بِمَيَلَانِهِ وَطُلِبَ بِإِصْلَاحِهِ (صَاحِبُهُ) وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ عِنْدَ
وَأَمْكَنَ تَدَارُكُهُ
ــ
[منح الجليل]
قَاضٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ وَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مَيَلَانُهُ وَتَرَاخَى فِي إصْلَاحِهِ حَتَّى سَقَطَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَلَوْ لَمْ يُنْذَرْ (وَأَمْكَنَ تَدَارُكُهُ) بِمُضِيِّ زَمَنٍ يُمْكِنُ تَرْمِيمُهُ أَوْ هَدْمُهُ أَوْ إسْنَادُهُ فِيهِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى سَقَطَ، فَإِنْ لَمْ يَمِلْ أَوْ لَمْ يُنْذَرْ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِأَنْ سَقَطَ عَقِبَهُ بِلَا تَأَخُّرٍ يُمْكِنُ فِيهِ تَدَارُكُهُ فَلَا يَضْمَنُ. ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُعْتَبَرُ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ مَنْ لَهُ النَّظَرُ. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ صَاحِبُهُ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ مَثَلًا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَهُ إذْ لَيْسَ لَهُ هَدْمُهُ بِدُونِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَالضَّمَانُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ عَلَى عَاقِلَتِهِ مَا بَلَغَ الثُّلُثَ هَذَا مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَضْمَنُ حَتَّى يَقْضِيَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِهَدْمِهِ وَلَا يَفْعَلُهُ، وَقَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ حَتَّى يَبْلُغَ حَدًّا يَجِبُ عَلَيْهِ هَدْمُهُ فِيهِ لِشِدَّةِ مَيَلَانِهِ وَيَتْرُكُهُ فَيَضْمَنُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إشْهَادٌ وَحُكْمٌ. ابْنُ عَرَفَةَ ابْنُ شَاسٍ مَنْ سَقَطَ مِيزَابُهُ عَلَى رَأْسِ إنْسَانٍ فَلَا يَضْمَنُهُ، وَكَذَا الظُّلَّةُ وَالْعَسْكَرُ. قُلْت هُوَ قَوْلُهَا مَعَ غَيْرِهَا وَمَا شَرَعَ الرَّجُلُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مِيزَابٍ أَوْ ظُلَّةٍ أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ أَوْ سَرْبٍ لِلْمَاءِ أَوْ لِلرِّيحِ فِي دَارِهِ أَوْ أَرْضِهِ، أَوْ حَفَرَ شَيْئًا يَجُوزُ لَهُ فِي دَارِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِئْرًا لِمَطَرٍ أَوْ مِرْحَاضٍ إلَى جَانِبِ حَائِطِهِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِمَا عَطِبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَفِيهَا وَالْحَائِطُ الْمَخُوفُ إذَا أُشْهِدَ عَلَى رَبِّهِ بِهِ ثُمَّ عَطِبَ بِهِ أَحَدٌ فَرَبُّهُ ضَامِنٌ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدُوا عَلَيْهِ فَلَا يَضْمَنُ.
قُلْت فَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الْمَائِلِ لِعَدَمِ الْإِشْهَادِ فَأَحْرَى فِي غَيْرِ الْمَائِلِ. الصِّقِلِّيُّ لِمُحَمَّدٍ عَنْ أَشْهَبَ إنْ بَلَغَ مَا لَا يَجُوزُ لِرَبِّهِ تَرْكُهُ لِشِدَّةِ مَيْلِهِ وَالتَّغْرِيرِ فِيهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ ضَامِنٌ لِمَا أُصِيبَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ السُّلْطَانُ فِي هَدْمِ حَائِطٍ عَلَى حُسْنِ نَظَرٍ لِلرَّعِيَّةِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَأَمَّا نَهْيُ النَّاسِ وَإِشْهَادُهُمْ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ. وَحُكِيَ عَنْ فُقَهَائِنَا الْقَرَوِيِّينَ أَنَّ رَبَّ الْحَائِطِ إنْ أَنْكَرَ مَا قِيلَ مِنْ غَرِّ الْحَائِطِ اُحْتِيجَ إلَى التَّقَدُّمِ إلَيْهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِأَنَّ حَائِطَهُ مُخِيفٌ نَفَعَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ دُونَ حُكْمٍ. ابْنُ شَاسٍ إنْ مَالَ وَلَمْ يُتَدَارَكْ مَعَ الْإِمْكَانِ وَالْإِنْذَارِ
أَوْ عَضَّهُ فَسَلَّ يَدَهُ فَقَلَعَ أَسْنَانَهُ
ــ
[منح الجليل]
وَالْإِشْهَادِ وَجَبَ الضَّمَانُ فَجَعَلَ الْإِمْكَانَ شَرْطًا وَهُوَ صَوَابٌ جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ بَنَاهُ مَائِلًا ضَمِنَ مُطْلَقًا وَاضِحٌ، وَمَا صَنَعَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لَهُ مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ أَوْ رَبْطِ دَابَّةٍ وَنَحْوِهِ ضَمِنَ مَا أُصِيبَ بِذَلِكَ.
(أَوْ عَضَّهُ) أَيْ الْمُكَلَّفُ غَيْرُ الْحَرْبِيِّ مَعْصُومًا (فَسَلَّ) الْمَعْضُوضُ (يَدَهُ فَقَلَعَ) الْمَعْضُوضُ (أَسْنَانَهُ) أَيْ الْعَاضِّ. الْحَطّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِيهِ الضَّمَانُ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَا الَّذِي يَضْمَنُهُ هَلْ دِيَةُ أَسْنَانِهِ أَوْ الْقَوَدُ. وَفِي التَّوْضِيحِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَلَوْ عَضَّهُ فَسَلَّ يَدَهُ ضَمِنَ أَسْنَانَهُ عَلَى الْأَصَحِّ يَعْنِي دِيَةَ أَسْنَانِهِ وَالْأَصَحُّ عَبَّرَ عَنْهُ الْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْمَشْهُورِ، وَنُقِلَ مُقَابِلُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَهُوَ أَظْهَرُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ لَا دِيَةَ لَك» . زَادَ أَبُو دَاوُد وَإِنْ شِئْت أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ يَدِك فَيَعَضَّهَا ثُمَّ تَنْزِعَهَا مِنْ فِيهِ. ابْنُ الْمَوَّازِ الْحَدِيثُ لَمْ يَرْوِهِ مَالِكٌ وَلَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَازِرِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَعْضُوضَ لَمْ يُمْكِنْهُ النَّزْعُ إلَّا بِذَلِكَ، وَحُمِلَ تَضْمِينُ الْأَصْحَابِ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ النَّزْعُ بِرِفْقٍ بِحَيْثُ لَا تَنْقَلِعُ أَسْنَانُ الْعَاضِّ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الزِّيَادَةِ فَلِذَلِكَ ضَمَّنُوهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا دِيَةَ لَك» ، وَفِي رِوَايَةٍ فَأَبْطَلَهُ قَوْلُهُ هَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي إسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِالْقِصَاصِ فِيمَا عَلِمْت، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الضَّمَانِ فَأَسْقَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَضَمَّنَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَنَزَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْقَوْلَ بِالضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ نَزْعُ يَدِهِ بِرِفْقٍ فَانْتَزَعَهَا بِعُنْفٍ.
وَحَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَحَرِّكَ الثَّنَايَا وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْدَلَ عَنْ صَرِيحِ الْحَدِيثِ اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ " رضي الله عنه " خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ مِنْ مُوَافَقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ " رضي الله عنه " وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ. وَفِي مُسْلِمٍ «مَا دَفَعَ
أَوْ نَظَرَ لَهُ مِنْ كَوَّةٍ فَقَصَدَ عَيْنَهُ فَالْقَوَدُ، وَإِلَّا فَلَا:
ــ
[منح الجليل]
يَدَك حَتَّى يَقْضَمَهَا ثُمَّ انْتَزَعَهَا» . الْقُرْطُبِيُّ هُوَ أَمْرٌ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «بِمَ تَأْمُرُنِي تَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَهُ أَنْ يَدَعَ يَدَهُ فِي فِيك تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ» ، فَمَعْنَاهُ أَنَّك لَا تَدَعُ يَدَك فِي فِيهِ يَقْضَمُهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ. اهـ. زَادَ النَّوَوِيُّ فَكَيْفَ تُنْكِرُ عَلَيْهِ نَزْعَ يَدِهِ مِنْ فِيك وَتَطْلُبُ بِمَا جَنَى فِي جَبْذَتِهِ.
وَيَقْضَمُهَا بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مُضَارِعُ قَضِمَ بِكَسْرِهَا، يُقَالُ قَضِمَتْ الدَّابَّةُ شَعِيرَهَا إذَا أَكَلَتْهُ بِأَطْرَافِ أَسْنَانِهَا. وَخَضَمَتْهُ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ إذَا أَكَلَتْهُ بِفِيهَا كُلِّهِ، وَقِيلَ الْخَضْمُ أَكْلُ الرُّطَبِ، وَالْقَضْمُ أَكْلُ الْيَابِسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ يَخْضِمُونَ وَيَقْضِمُونَ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيَامَةُ، وَالْفَحْلُ ذَكَرُ الْإِبِلِ.
(أَوْ نَظَرَ) شَخْصٌ (لَهُ) أَيْ الشَّخْصِ الَّذِي فِي بَيْتِهِ الْمَغْلُوقِ عَلَيْهِ بَابُهُ (مِنْ كَوَّةٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْوَاوِ مُثَقَّلًا أَيْ طَاقَةٍ (فَقَصَدَ) الْمَنْظُورُ إلَيْهِ (عَيْنَهُ) أَيْ النَّاظِرِ بِرَمْيِهَا بِنَحْوِ حَصَاةٍ أَوْ نَخَسَهَا بِنَحْوِ عُودٍ فَفَقَأَهَا (فَالْقَوَدُ) أَيْ الْقِصَاصُ مِنْ عَيْنِ الْمَنْظُورِ لَهُ حَقٌّ لِلنَّاظِرِ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الْمَنْظُورُ عَيْنَ النَّاظِرِ بِأَنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ زَجْرِهِ فَصَادَفَ عَيْنَهُ (فَلَا) قَوَدَ عَلَى الْمَنْظُورِ وَفِي عَيْنِ النَّاظِرِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَنْظُورِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَبِهِ قَرَّرَ ابْنُ غَازِيٍّ تَبَعًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْحَطّ وَابْنِ مَرْزُوقٍ، وَنَصُّ الْحَطّ هَذَا أَيْضًا مَعْطُوفٌ عَلَى مَا فِيهِ الضَّمَانُ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمَضْمُونَ أَيْضًا هَلْ هُوَ الْقَوَدُ أَوْ الدِّيَةُ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْمَازِرِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ هَذِهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا.
الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى لَوْ رَمَى إنْسَانٌ أَحَدًا يَنْظُرُ إلَيْهِ فِي بَيْتِهِ فَأَصَابَ عَيْنَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَيْضًا فِي ذَلِكَ فَالْأَكْثَرُ مِنْهُمْ عَلَى إثْبَاتِ الضَّمَانِ وَأَقَلُّهُمْ نَفْيَهُ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالثَّانِي الشَّافِعِيُّ، فَأَمَّا نَفْيُهُ فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ امْرُؤٌ اطَّلَعَ عَلَيْك بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْك جُنَاحٌ» ، وَأَمَّا إثْبَاتُهُ فَلِأَنَّهُ لَوْ نَظَرَ إنْسَانٌ لِعَوْرَةِ آخَرَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَسْتَبِيحُ فَقْءَ عَيْنِهِ، فَالنَّظَرُ إلَيْهِ فِي بَيْتِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَبَاحَ بِهِ. وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنَّهُ رَمَاهُ لِيُنَبِّهَهُ عَلَى أَنَّهُ فَطِنَ بِهِ أَوْ لِيَدْفَعَهُ عَنْ
كَسُقُوطِ مِيزَابٍ أَوْ بَغْتِ رِيحٍ لِنَارٍ: كَحَرْقِهَا قَائِمًا لِطَفْئِهَا
وَجَازَ دَفْعُ صَائِلٍ
ــ
[منح الجليل]
ذَلِكَ غَيْرَ قَاصِدٍ فَقْءَ عَيْنِهِ فَانْفَقَأَتْ عَيْنُهُ خَطَأً فَالْجُنَاحُ مُنْتَفٍ، وَهُوَ الَّذِي نُفِيَ فِي الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَا ذِكْرَ لَهَا فِيهِ. اهـ. وَنَحْوُهُ لِلْقُرْطُبِيِّ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالضَّمَانِ يَقُولُونَ سَوَاءً قَصَدَ فَقْءَ عَيْنِهِ أَوْ لَا إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْصِدْ فَقْءَ عَيْنِهِ فَفِعْلُهُ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ.
وَإِنْ قَصَدَ فَقْءَ عَيْنِهِ فَلَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْقَوَدَ وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ شَاسٍ وَالْقَرَافِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، فَفِي الْجَوَاهِرِ وَلَوْ نَظَرَ إلَى حَرِيمِ إنْسَانٍ مِنْ كَوَّةٍ أَوْ صِيرِ بَابٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْدُ عَيْنِهِ بِمِدْرَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَفِيهِ الْقَوَدُ إنْ فَعَلَ، وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْإِنْذَارِ فِي كُلِّ دَفْعٍ، وَإِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا فَأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ قَصْدُ عَيْنِهِ. اهـ. وَنَحْوُهُ فِي الذَّخِيرَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالضَّمَانُ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ أَوْ نَظَرَ مِنْ كَوَّةٍ فَقَصَدَ عَيْنَهُ هُوَ الْقَوَدُ، وَاَلَّذِي نُفِيَ بِقَوْلِهِ وَإِلَّا فَلَا هُوَ الْقَوَدُ أَيْضًا دُونَ الدِّيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَالصِّيرُ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ شَقُّ الْبَابِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.
وَشَبَّهَ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ ضَمَانُ الْقَوَدِ فَقَطْ، وَأَمَّا ضَمَانُ الدِّيَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا عَلِمْت، وَالنَّفْيُ فِي الْمُشَبَّهِ ضَمَانُ الْقَوَدِ وَالدِّيَةِ مَعًا فَقَالَ (كَسُقُوطِ مِيزَابٍ) مِنْ بَيْتٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَأَتْلَفَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُصَنِّفِ يَنْبَغِي إجْرَاءُ هَذَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْجِدَارِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ شَاسٍ مَنْ سَقَطَ مِيزَابُهُ إلَخْ (أَوْ بَغْتِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ فَجْءِ (رِيحٍ لِنَارٍ) مُوقَدَةٍ وَقْتَ سُكُونِهَا فَأَشْعَلَتْهَا وَنَقَلَتْهَا حَتَّى أَحْرَقَتْ نَفْسًا أَوْ مَالًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى مُوقِدِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّهَا بِهَذَا. وَفِي نَفْيِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا فَقَالَ (كَحَرْقِهَا) أَيْ النَّارِ شَخْصًا (قَائِمًا لِطَفْئِهَا) خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَيْتِهِ أَوْ زَرْعِهِ أَوْ مَالِهِ فَلَا يَضْمَنُهُ مُوقِدُهَا وَتَقَدَّمَ قَوْلُ أَشْهَبَ لَوْ كَانُوا لَمَّا خَافُوا عَلَى زَرْعِهِمْ مِنْ النَّارِ قَامُوا لِرَدِّهَا فَأَحْرَقَتْهُمْ فَدِمَاؤُهُمْ هَدَرٌ إلَخْ، ظَاهِرُهُ وَلَوْ أُوقِدَتْ فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ.
(وَجَازَ) أَيْ لَا يُمْنَعُ (دَفْعُ) آدَمِيٍّ مُكَلَّفٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ غَيْرِهِ (صَائِلٌ) أَيْ
بَعْدَ الْإِنْذَارِ لِلْفَاهِمِ، وَإِنْ عَنْ مَالٍ وَقَصْدُ قَتْلِهِ، إنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِهِ.
لَا جُرْحٌ، إنْ قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ مِنْهُ،
ــ
[منح الجليل]
مُقْبِلٍ عَلَى شَخْصٍ لِقَتْلِهِ أَوْ أَخْذِ حَرِيمِهِ أَوْ مَالَهُ (بَعْدَ الْإِنْذَارِ) أَيْ الْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْدَفِعْ عَنْهُ يُقَاتِلُهُ (لِلْفَاهِمِ) لِلْخِطَابِ لَا لِمَجْنُونٍ وَبَهِيمٍ إنْ كَانَ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسٍ أَوْ حَرِيمٍ، بَلْ (وَإِنْ عَنْ مَالٍ) وَيَدْفَعُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ وَلَا يَقْصِدُ قَتْلَهُ، فَإِنْ أَدَّى دَفْعَهُ إلَى قَتْلِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّافِعِ (وَ) جَازَ لِلدَّافِعِ (قَصْدُ قَتْلِهِ) أَيْ الصَّائِلِ أَوَّلًا (إنْ عَلِمَ) الدَّافِعُ (أَنَّهُ) أَيْ الصَّائِلَ (لَا يَنْدَفِعُ) عَنْهُ (إلَّا بِهِ) أَيْ قَتْلِهِ، قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَنَصُّهُ لَا يَقْصِدُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ الْقَتْلَ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ الدَّفْعَ، فَإِنْ أَدَّى إلَى الْقَتْلِ فَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَجَائِزٌ قَصْدَ قَتْلِهِ ابْتِدَاءً. ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ فِي الْجَمَلِ إذَا صَالَ عَلَى الرَّجُلِ فَخَافَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ صَالَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ ضَمِنَ. وَلِعِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ قَتَلَ رَجُلٌ الْجَمَلَ الصَّئُولَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ لِرَبِّهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَرَادَهُ وَصَالَ عَلَيْهِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ يُرِيدُ يَمِينَهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ إذَا كَانَ بِوَضْعٍ لَيْسَ يَحْضُرُهُ النَّاسُ اهـ.
(تَنْبِيهٌ)
فَسَّرْت الْجَوَازَ بِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ لِيَشْمَلَ الْوُجُوبَ لِأَنَّ دَفْعَ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَالْبُضْعِ وَاجِبٌ فِي التَّوْضِيحِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ هُنَا وَاجِبًا لِأَنَّ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ نَفْسِهِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الصَّائِلُ غَيْرَ آدَمِيٍّ. اهـ. وَذَكَرَ ابْنُ الْفَرَسِ وَالْقُرْطُبِيُّ قَوْلَيْنِ فِي الْوُجُوبِ قَالَا وَالْأَصَحُّ الْوُجُوبُ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ كُلُّ مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ وَبُضْعٍ وَمَالٍ وَأَعْظَمُهَا حُرْمَةُ النَّفْسِ وَأَمْرُهُ بِيَدِهِ إنْ شَاءَ أَسْلَمَ نَفْسَهُ أَوْ دَفَعَ عَنْهَا، لَكِنْ إنْ كَانَ زَمَنَ فِتْنَةٍ فَالصَّبْرُ أَوْلَى، وَإِنْ قَصَدَهُ وَحْدَهُ فَالْأَمْرَانِ سَوَاءٌ، وَنَقَلَهُ ابْنُ شَاسٍ وَالْقَرَافِيُّ. قَالَ وَالسَّاكِتُ عَنْ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى يُقْتَلَ لَا يُعَدُّ آثِمًا وَلَا قَاتِلًا لِنَفْسِهِ.
(لَا) يَجُوزُ (جُرْحٌ) مِنْ الْمَصُولِ عَلَيْهِ لِلصَّائِلِ (إنْ قَدَرَ) الْمَصُولُ عَلَيْهِ (عَلَى الْهَرَبِ)
بِلَا مَشَقَّةٍ.
وَمَا أَتْلَفَتْهُ الْبَهَائِمُ لَيْلًا، فَعَلَى رَبِّهَا، وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا بِقِيمَتِهِ عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ،
ــ
[منح الجليل]
بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالرَّاءِ مِنْ الصَّائِلِ (بِلَا مَضَرَّةٍ) تَلْحَقُهُ فَيَجِبُ هَرَبُهُ مِنْهُ ارْتِكَابًا لِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ لَوْ قَدَرَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ الصَّائِلِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ دَفْعُهُ بِجَرْحِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَلَهُ دَفْعُهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. ابْنُ عَرَفَةَ كَقَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ إذَا تَعَارَضَ ضَرَرٌ ارْتَكَبَ أَخَفَّهُمَا.
(تَنْبِيهٌ)
عِيَاضٌ كَانَ ابْنُ نَجِيبٍ صُلْبًا فِي الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ التَّقَدُّمِ فِي الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا أَفْتَى فِي رَجُلٍ يُصِيبُ بِعَيْنِهِ بِإِلْزَامِهِ دَارِهِ قِيَاسًا عَلَى الْإِبِلِ الصَّائِلَةِ وَالْمَاشِيَةِ الْعَادِيَةِ إنَّهَا تُبْعَدُ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى النَّاسُ مِنْهَا. الْقُرْطُبِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ يُقْتَلُ الْجَرَادُ إذَا حَلَّ بِأَرْضٍ فَأَفْسَدَ زَرْعَهَا وَثَمَرَهَا، وَقَدْ رُخِّصَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الصَّائِلِ إذَا أَرَادَ أَخْذَ الْمَالِ فَالْجَرَادُ أَوْلَى نَقَلَهُ " ق ".
(وَمَا) أَيْ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ الَّذِي (أَتْلَفَتْهُ الْبَهَائِمُ) الْمَأْكُولَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَزَارِعِ وَالْحَوَائِطِ (لَيْلًا) لَا نَهَارًا (فَعَلَى رَبِّهَا) أَيْ الْبَهَائِمِ ضَمَانُهُ لِتَفْرِيطِهِ فِي مَنْعِهَا إنْ كَانَ مَا أَتْلَفَتْهُ قَدْرَ قِيمَتِهَا أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا، بَلْ (وَإِنْ زَادَ) مَا أَتْلَفَتْهُ (عَلَى قِيمَتِهَا) عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. الْبَاجِيَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا أَصَابَتْهُ الْمَاشِيَةُ بِالنَّهَارِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّهَا، وَمَا أَصَابَتْهُ بِاللَّيْلِ ضَمِنَهُ، وَسَمِعَ أَشْهَبُ سَوَاءٌ كَانَ مُحْظَرًا عَلَيْهِ أَمْ غَيْرَ مُحْظَرٍ. ابْنُ الْقَاسِمِ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. الْبَاجِيَّ وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ تَتَدَاخَلُ فِيهِ الزِّرَاعُ وَالْمَرَاعِي. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ضَمَانِهِ قِيمَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَاشِيَةِ ابْنُ رُشْدٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَاشِيَةَ فِي قِيمَةِ مَا أَفْسَدَتْ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْجَانِي لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَالْمَاشِيَةُ رَبُّهَا هُوَ الْجَانِي.
وَيُقَوَّمُ مَا أَفْسَدَتْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ (عَلَى الرَّجَاءِ) لِسَلَامَتِهِ مِنْ الْجَائِحَةِ حَتَّى يَتِمَّ (وَالْخَوْفِ) مِنْ إصَابَتِهَا لَهُ قَبْلَهُ. ابْنُ رُشْدٍ لَوْ أَفْسَدَتْ الزَّرْعَ وَهُوَ صَغِيرٌ فَفِيهِ قِيمَتُهُ لَوْ كَانَ يَحِلُّ بَيْعُهُ عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ بِأَنْ يُقَالَ مَا قِيمَةُ هَذَا الزَّرْعِ لِمَنْ يَشْتَرِيهِ أَنْ لَوْ جَازَ بَيْعُهُ عَلَى رَجَاءِ تَمَامِهِ
لَا نَهَارًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا رَاعٍ، وَسُرِّحَتْ بُعْدَ الْمَزَارِعِ، وَإِلَّا: فَعَلَى الرَّاعِي. .
ــ
[منح الجليل]
وَخَوْفِ عَدَمِ تَمَامِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا خَطَرٌ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِسَبَبِهِ، وَهَكَذَا عِبَارَةُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي تَقَوُّمِ مَا يُرْجَى تَمَامُهُ وَيُخَافُ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهِمَا كَأُمِّ وَلَدٍ وَمُدَبَّرٍ وَنَحْوِهِمَا، فَفِي رَسْمِ حَلِفٍ لِيَرْفَعَنَّ أَمْرَهُ إلَى السُّلْطَانِ مَالِكٌ " رضي الله عنه " فِي الزَّرْعِ تَأْكُلُهُ الْمَاشِيَةُ يُقَوَّمُ عَلَى حَالِ مَا يُرْجَى مِنْ تَمَامِهِ وَيُخَافُ مِنْ هَلَاكِهِ لَوْ كَانَ يَحِلُّ بَيْعُهُ. اهـ. وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ عَرَفَةَ تَبَعًا لِابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ شَاسٍ، وَنَصُّهُ عَلَى أَرْبَابِهَا قِيمَةُ مَا أَفْسَدَتْ عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ أَنْ يَتِمَّ أَوْ لَا يَتِمَّ. ابْنُ رُشْدٍ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ تَقْوِيمِهِ إذَا أَيِسَ مِنْ عَوْدِهِ لِهَيْئَتِهِ، وَأَمَّا إنْ رَعَى صَغِيرًا وَرَجَا عَوْدَهُ لِهَيْئَتِهِ فَقَالَ مُطَرِّفٌ لَا يَسْتَأْنِي بِهِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ يُسْتَأْنَى بِهِ، وَاخْتُلِفَ إنْ حَكَمَ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ عَادَ لِهَيْئَتِهِ فَقَالَ مُطَرِّفٌ مَضَتْ الْقِيمَةُ لِصَاحِبِ الزَّرْعِ وَلَهُ زَرْعُهُ. وَقِيلَ تُرَدُّ كَالْبَصَرِ يَعُودُ، وَاخْتُلِفَ إنْ لَمْ يُقَوَّمْ حَتَّى عَادَ لِهَيْئَتِهِ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ تَسْقُطُ الْقِيمَةُ وَيُؤَدَّبُ الْمُفْسِدُ. وَقَالَ أَصْبَغُ لَا تَسْقُطُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ التَّوْضِيحِ أَنَّ الرَّاجِحَ قَوْلُ مُطَرِّفٍ فِي الْجَمِيعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَفَادَهُ الْبُنَانِيُّ.
(لَا) يَضْمَنُ رَبُّهَا مَا أَتْلَفَتْهُ (نَهَارًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا) أَيْ الْبَهَائِمِ (رَاعٍ وَ) إنْ (سُرِّحَتْ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ مُثَقَّلًا، أَيْ أُطْلِقَتْ لِتَرْعَى (بُعْدَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ فِي مَحَلٍّ بَعِيدٍ عَنْ (الْمَزَارِعِ وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا رَاعٍ (فَ) الضَّمَانُ (عَلَى الرَّاعِي) إنْ فَرَّطَ فِي مَنْعِهَا عَنْ الْمَزَارِعِ. ابْنُ رُشْدٍ عَلَى هَذَا حَمَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْحَدِيثَ، أَيْ الْوَارِدَ فِي «نَاقَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ بِحِفْظِهَا نَهَارًا وَمَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا فَعَلَى أَرْبَابِهَا» . الْبَاجِيَّ مَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ بِإِرْسَالِ مَوَاشِيهِمْ فِيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا فَأَحْدَثَ رَجُلٌ فِيهِ زَرْعًا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.