الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولجعلنا- أيضا- لبيوتهم أبوابا جميلة، وسررا ثمينة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ أى: على السرر يتكئون وهم جالسون فوقها.
وَزُخْرُفاً أى: ولجعلنا لهم زخرفا، ليستعملوه في أسقف منازلهم، وفي أبواب بيوتهم، وفي غير ذلك من شئون حياتهم.
والزخرف: يطلق على الشيء الذي يتزين به. فيشمل الذهب والفضة، وغيرهما مما يستعمله الناس في تزيين بيوتهم.
وقوله: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ أى:
وما كل ما ذكرناه من البيوت الموصوفة بما ذكرناه من الصفات السابقة، إلا شيء يتمتع به المتمتعون في الحياة، التي أمرها إلى زوال واضمحلال..
أما الآخرة التي زينتها باقية لا تنتهي ولا تنقطع، فهي عند ربك خاصة بالمؤمنين الصادقين، الذين آثروا النعيم الباقي على النعيم الفاني، فقدموا في دنياهم العمل الصالح، الذي ينفعهم في أخراهم.
وبعد هذا الحديث الجامع عن هوان شأن الدنيا عند الله- تعالى-، أتبع- سبحانه- ذلك ببيان حال الذين يعرضون عن ذكر الله- تعالى-، وأنهم يوم القيامة لن ينفعهم ندمهم أو تحسرهم، وسلى النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم. فقال- تعالى-:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
وقوله- سبحانه-: يَعْشُ أى: يعرض. يقال عشا فلان يعشو، كدعا يدعو، وعشى يعشى، كرضى يرضى، إذا ضعف بصره، ومنه قولهم: ناقة عشواء، إذا كانت لا تبصر إلا شيئا قليلا، والمراد هنا: عمى البصيرة وضعف إدراكها للخير. ومنه قولهم: ركب فلان العشواء، إذا خبط أمره على غير هدى أو بصيرة.
والمعنى: ومن يتعام عن ذكر الرحمن، ويعرض عن قرآنه، ويتجاهل هدى الرسول صلى الله عليه وسلم نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أى، نهيئ ونسبب له شيطانا رجيما يستولى عليه، ويستحوذ على قلبه وعقله.
فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أى: فذلك الشيطان يكون ملازما ومصاحبا لهذا الإنسان الذي أعرض عن القرآن، ملازمة القرين لقرينه، والشيء لظله.
ومن الآيات التي تشبه هذه الآية قوله- تعالى-: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ «1» .
ثم بين- سبحانه- الآثار التي تترتب على مقارنة الشيطان للإنسان فقال: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
والضمير في وَإِنَّهُمْ يعود إلى الشيطان باعتبار جنسه، وفي قوله- تعالى- لَيَصُدُّونَهُمْ يعود إلى وَمَنْ في قوله وَمَنْ يَعْشُ
…
باعتبار معناها.
أى: ومن يعرض عن طاعة الله، نهيئ له شيطانا، فيكون ملازما له ملازمة تامة، وإن هؤلاء الشياطين وظيفتهم أنهم يصدون هؤلاء الفاسقين عن ذكر الله- تعالى-، وعن سبيله الحق وصراطه المستقيم.
(1) سورة فصلت الآية 25.
وَيَحْسَبُونَ أى: هؤلاء الكافرون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ إلى السبيل الحق. فالضمائر في قوله وَيَحْسَبُونَ وما بعده يعود إلى الكافرين.
ويصح أن يكون الضمير في قوله وَيَحْسَبُونَ يعود إلى الكفار، وفي قوله أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يعود إلى الشيطان، فيكون المعنى:
ويظن هؤلاء الكافرون أن الشياطين مهتدون إلى الحق، ولذلك اتبعوهم وأطاعوهم.
ثم بين- سبحانه- ما يكون بين هذا الإنسان الكافر وبين قرينه من الشياطين يوم القيامة، فقال- تعالى-: حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ.
أى: لقد استمر هذا المعرض عن ذكر الله في غيه. ومات على ذلك حتى إذا جاءنا يوم القيامة للحساب والجزاء، قالَ لقرينه الذي صده عن طريق الحق..
يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أى: أتمنى أن تكون المسافة التي بيني وبينك من البعد والمفارقة، كالمسافة التي بين المشرق والمغرب.
فالمراد بالمشرقين المشرق والمغرب فعبر- سبحانه- بالمشرقين على سبيل التغليب لأحدهما على الآخر.
فَبِئْسَ الْقَرِينُ أى: فبئس القرين أنت- أيها الشيطان- فالمخصوص بالذم محذوف.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما سيقال لهذا العاشى عن ذكر الله ولقرينه على سبيل التأنيب والتوبيخ فقال: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ....
والضمير في قوله: يَنْفَعَكُمُ يعود إلى التمني المذكور في قوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
…
وإِذْ ظرف لما مضى من الزمان، بدل من الْيَوْمَ.
أى: ولن ينفعكم ندمكم وتمنيكم اليوم شيئا، بعد أن تبين لكم أنكم كنتم ظالمين في الدنيا، ومصرين على الكفر والضلال.
وقوله: أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ تعليل لما قبله. أى: ولن ينفعكم اليوم تمنيكم وندمكم لأنكم في هذا اليوم أنتم وقرناءكم مشتركون في العذاب، كما كنتم في الدنيا مشتركين في سببه، وهو الكفر والضلال.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: قوله: أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ في محل الرفع على الفاعليه. يعنى: ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر
الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه. لأن كل واحد منكم، به من العذاب ما هو فوق طاقته..
ولك أن تجعل الفاعل التمني في قوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
…
على معنى: ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين، وقوله: أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ تعليل، أى: ولن ينفعكم تمنيكم، لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب
…
وتقويه قراءة من قرأ أَنَّكُمْ بالكسر «1» .
وبعد هذا التوبيخ الشديد للمعرض عن ذكر الله ولشيطانه، يوجه الله- تعالى- خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم ليزيده تسلية وتثبيتا فيقول: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
والاستفهام للنفي أى: أفأنت- أيها الرسول الكريم- تستطيع أن تسمع الصم صوتك، أو أن تهدى الذين انطمست بصائرهم إلى الطريق الحق. أو أن تخرج من كان في الضلال الواضح إلى الهدى والرشاد؟
كلا إنك لن تستطيع ذلك، لأن الهداية والإضلال، من الله- تعالى- وحده. وأنت- أيها الرسول الكريم- عليك البلاغ ونحن علينا الحساب.
فالمقصود من الآية الكريمة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه من أن يضيق صدره بسبب إعراضهم المستمر عن دعوة الحق، وبيان أن الهداية والإضلال بيد الله- تعالى- وحده.
وسماهم- سبحانه- صما وعميا، مع أنهم يسمعون ويبصرون، لأنهم بمنزلة الصم والعمى في عدم انتفاعهم بالهدى والرشاد الذي جاءهم به صلى الله عليه وسلم.
وقوله- تعالى-: وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ معطوف على العمى والصم باعتبار تغاير الصفات.
أى: أنت- أيها الرسول الكريم- لن تستطيع هداية من كان أصم وأعمى، ومن كان مصرا على الضلال المبين وما دام الأمر كذلك فسر في طريقك، دون أن تذهب نفسك عليهم حسرات..
وقوله- سبحانه-: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ زيادة في تسليته وتثبيته صلى الله عليه وسلم.
أى: أن أمرك- أيها الرسول الكريم- مع هؤلاء الظالمين لا يخلو عن حالين: إما أن
(1) تفسير الكشاف ج 4 ص 252.
نتوفينك قبل أن ترى نقمتنا منهم.. وفي هذه الحالة فسنتولى نحن عذابهم والانتقام منهم، حسب إرادتنا ومشيئتنا، وإما أن نبقى حياتك حتى ترى بعينيك العذاب الذي توعدناهم به، فإنا عليهم وعلى غيرهم مقتدرون على تنفيذ ما نتوعد به من دون أن يستطيع أحد الإفلات من قبضتنا وقدرتنا.
قال ابن كثير: أى: نحن قادرون على هذا وعلى هذا. ولم يقبض الله- تعالى- رسوله، حتى أقر عينه من أعدائه، وحكمه في نواصيهم، وملكه ما تضمنته صياصيهم «1» .
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ «2» .
والفاء في قوله- تعالى-: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ
…
واقعة جوابا لشرط مقدر.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك من أن أمرك مع هؤلاء المشركين لا يخلو عن حالين:
فاستمسك- أيها الرسول الكريم- بما أوحينا إليك من هدايات وإرشادات إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وطريق قويم لا عوج فيه ولا اضطراب.
وَإِنَّهُ أى: هذا القرآن لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أى: لشرف عظيم لك ولشرف عظيم لأهل مكة الذين بعثت فيهم بصفة خاصة، ولغيرهم ممن آمن بك بصفة عامة كما قال- تعالى-: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ
…
أى: عزكم وشرفكم.
وقوله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ تحذير من مخالفة ما اشتمل عليه هذا القرآن من أحكام وآداب وتشريعات.
أى: وسوف تسألون يوم القيامة عنه، وعن القيام بحقه، وعن مقدار تمسككم بأوامره ونواهيه وعن شكركم لله- تعالى- على منحكم لهذه النعمة.
ثم أضاف- سبحانه- إلى هذا التثبيت لنبيه صلى الله عليه وسلم تثبيتا آخر فقال: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ.
والمقصود من الآية الكريمة بيان أن الرسل جميعا، قد دعوا أقوامهم إلى عبادة الله- تعالى- وحده، كما قال- سبحانه-: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ «3» .
(1) تفسير ابن كثير ج 7 ص 215.
(2)
سورة الرعد الآية 40.
(3)
سورة النحل الآية 36.